قضايا

ثامر عباس: الحاجز الحضاري بين المثقف والمتعلم

بداية ينبغي الإشارة إلى أن كل مثقف هو شخص متعلم بالضرورة، ولكن ليس كل متعلم هو مثقف بالتبعية. ذلك لأن الثقافة التي يشتق اسم المثقف من خصائصها الحضارية والمعرفية، ويستمد اعتباره الذاتي وسلطانه الاجتماعي من خلالها، عبر التحلي بمثلها الإنسانية والتصرف وفقا "لقيمها الأخلاقية، تقوم على جملة من الشروط المعيارية والضوابط النوعية التي لا يستطيع كل من هبّ ودبّ حيازتها والإيفاء بالتزاماتها. إذ إن الأمر منوط – بالمحصلة النهائية – بجملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يقع في المقدمة منها طبيعة التربية التي يتلقاها الفرد وأنماط التوجيه التي يخضع لها خلال مراحل تكوينه وصيرورته عضوا"في المجتمع.

ولعل من أسباب شيوع ظاهرة (التخالط) و(التمازج) ما بين مفهوم (المثقف) ومفهوم (المتعلم)، ناجم بالدرجة الأولى عن أواليات خضوع الذهنية الاجتماعية العامة إلى أنظمة سلطوية استبدادية / شمولية، امتازت منظوماتها التربوية والتعليمية والعلمية والثقافية والإيديولوجية بتسطيح الوعي وإعاقة التفكير لدى الغالبية العظمى من أعضاء المجتمع، بحيث تبقى ضمن أطر ضيقة من الوعي المعلب لا تسمح لها إدراك واقعها الفعلي، كما ويحرمها من القدرة على التمييز بين الحقوق والواجبات. الأمر الذي أفضى ليس فقط إلى تكريس مظاهر الجهل الثقافي وتوطين الأمية المعرفية وإشاعة التخلف الاجتماعي بين العامة والخاصة فحسب، وإنما أسهم على نحو مستمر في إنتاج بنى من التصورات وتكوين أنماط من العلاقات، غالبا"ما تنطوي على شرعنة سياسية لوجود تلك الأنظمة من جهة، وإسباغ المعقولية على مؤسساتها الإيديولوجية من جهة أخرى. وفقا"لما اعتبره عالم الاجتماع الفرنسي (بيار بورديو) ديناميات عنف مبطن ضمنها في مفهومه المبتكر عن (الرأسمال الرمزي).

ومن منطلق سوسيولوجيا المعيش اليومي، وعبر سلسلة من التواضعات القيمية والعلاقات الاجتماعية والتمثلات الرمزية القارة في الذهنية الجماعية، فان المفاهيم والمصطلحات لا تلبث أن تشهد حراك سلس وانتقال مرن ما بين الحقول السوسيولوجية والمعرفية المتنوعة، بحيث لم يعد هناك ما يمنع انزلاق معانيها المتباينة وانزياح دلالاتها المختلفة من هذا الحقل / المجال إلى ذاك، للحد الذي تبلغ معه – في بعض الحالات - حدود التماهي والتوحد فيما بيتها كما لو أنها من أرومة لغوية واحدة وجذور دلالية مشتركة. لاسيما وان معظم المجتمعات الموصوفة بالتخلف الاجتماعي والتأخر الحضاري، لم تبرح تعاني من شيوع ظاهرة تداخل البنى التقليدية (البطريركية والإقطاعية وشبه الإقطاعية) مع نظيرها الحداثية (الرأسمالية وشيه الرأسمالية)، وهو الأمر الذي ساعد وساهم على تفشي تلك الظواهر من الوعي المشوش والتفكير الملتبس.

وعلى هذا الأساس فان دلالة (المثقف) لم تكن تحمل – في الذهنية الاجتماعية – أية رمزية خاصة، سوى كونه يتمتع بفضيلة القراءة والكتابة وإجادة التحدث بلغة (الأفندية) كحد أدنى، أو الحصول على شهادة ثانوية أو جامعية تتيح له فرصة تبوأ مركز وظيفي في إحدى المؤسسات الحكومية كحد أعلى. هذا وقد كان منظر الماركسية البارز وزعيم الحزب الشيوعي الايطالي (غرامشي) قد أفتى بأن كل الناس (مثقفين)، بدليل حيازتهم على قدرة استخدام طاقاتهم الذهنية بهذا القدر أو ذاك وتمكينهم من تشكيل أنماط مختلفة من الوعي بالواقع، بحيث (يمكن إدراج الناس جميعا"في عداد المثقفين وذلك بقدر ما يستخدم كل واحد منهم بدرجة عالية إن كثيرا"وان قليلا"طاقاته الذهنية). وهو الأمر الذي حفزني في وقت سابق على محاولة استخلاص فكرة إن صفة (العضوية)، التي أسبغها (غرامشي) على مثقفي الطبقات المعارضة (اليسارية) عموما" وعلى نظرائهم من الأحزاب (الشيوعية) خصوصا"، لا تنقّي وعيهم ولا تطهّر نفسياتهم بالضرورة من صفة (التقليدية) التي ألصقها بمثقفي الطبقات الحاكمة والعكس بالعكس. أي بمعنى إن المثقف (العضوي) سيبقى يحمل بين ثنايا وعيه مخلفات الخصائص المثقف (التقليدي)، مثلما إن هذا الأخير ربما يتوفر في بطانة سيكولوجيته على بقايا من خصائص المثقف (العضوي)، وهناك في الواقع نماذج كثيرة لمثل هذه الحالات يمكن دراستها وتحليها لإثبات صحة هذا الاستنتاج.

ومما زاد الطين بلّة، إن دور الأحزاب السياسية ذات الإيديولوجيات الراديكالية – بصرف النظر عن عناوينها ومسمياتها - ساهم بقدر لا يستهان به في إزالة الحدود وهدم الحواجز ما بين خصوصية (المثقف) وعمومية (المتعلم)، لجهة إن هذا الأخير أصبح – بفضل التربية الحزبية الإلزامية - من الدعاة الذين يجيدون تسويق أنفسهم وترويجها عبر الخطابات السياسية والتنظيرات الإيديولوجية، التي غالبا"ما عزفت على أوتار المصالح الملحة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعامة من الناس المغيبين عن الحقوق والمهمشين عن المشاركة، وذلك انسجاما"مع الطروحات الشعبية والشعارات الاشتراكية لتلك الأحزاب. أي بمعنى إن إجادة التحدث بالأمور السياسية والتمكن من المفردات الإيديولوجية، التي عادة ما تكون مشحونة بالمفاهيم الغامضة ومعبأة بالمصطلحات الملتبسة، أضفى على هؤلاء الدعاة هالة من الاعتبار الذاتي والسلطان الاجتماعي.

ولما كانت (الثقافة) توحي بالكثير من مظاهر التمدن الحضاري والتعقلن الفكري والتانسن الاجتماعي، فقد اعتبرت من قبل بعض الكتاب والباحثين مرادفة لمفهوم (الحضارة)، على اعتبار أنها العملية التي تبلور وتجسد جهود الإنسان في خضم انسلاخه النوعي وتحوله التطوري من الحتمية الغريزية إلى النسبية العقلانية، والارتقاء بذاته من عالم الضرورة الطبيعي إلى عالم الحرية الإنساني، على خلفية تنامي وعيه واتساع بصيرته حيال أواليات الواقع الموضوعي وسيرورات الدافع الذاتي. بحيث أضحى مفهوم (المثقف) يشي بمعاني (التحضر) و(التمدن) على المستويين الشخصي والاجتماعي، وذلك عبر تهذيب أخلاقياته الأنانية وتشذيب سلوكياته العدوانية، ومن ثم الشروع بتطوير ملكاته الإدراكية وشحذ قدراته المعرفية وتفجير طاقاته الإبداعية، بما يجعله مواطنا"نشاطا"على الصعيد الوطني، وعضوا"متفاعلا"علي الصعيد الاجتماعي، وكائنا" تواصليا"على المستوى الإنساني.

وهنا نصل إلى مفترق طرق حيال الماهية التي نتمكن من خلالها التمييز ما بين شخص يحمل صفة (المثقف) وبين آخر يحمل صفة (المتعلم)، وبالتالي فانه من الخطأ تصور إن (الأول) يحيل إلى (الثاني) وبالعكس، لمجرد إن هناك بعض الخصائص (الشكلية) لا (المعيارية) تجمع بينهما. وعليه ينبغي – إذا ما توخينا الموضوعية في التمييز - مراعاة حقيقة سوسيولوجية ومعرفية وأخلاقية مؤدها ؛ إن هناك بين الاثنين (حاجز حضاري) شاهق – الذي قاربنا مثاباته ومتضمناته بشكل موجز ومبتسر فيما تقدم - لا يمكن تخطيه أو القفز من فوقه بناء على رغبة هذا المتعلم أو ذاك، ما لم يخضع منظومة تفكيره وأطر علاقاته وأنماط سلوكياته إلى سلسلة من الاختبارات المشروطة، فضلا"عن امتلاكه القدرة الذاتية على تجاوز عيوبها وسلبياتها بنجاح، والتمسك من ثم بكل ما من شأنه الارتقاء بوعيه / تفكيره والسمو بعلاقاته / سلوكياته، وإلاّ فان مساعيه ومحاولاته ستبقى مجرد تنطعات صبيانية وادعاءات عبثية لا تلبث أن تتلاشى كما الصرخة في الواد القفر !.

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم