قضايا

سجاد علي جواد: عندما تعجز اللغة

سجاد علي جواد"تكلم حتى أراك" بهذه العبارة بين الفيلسوف اليوناني سقراط أهمية الكلام ومدى قدرة اللغة في الولوج في أعماق الإنسان ولعلنا لا نبالغ أن قلنا إن لغة الإنسان المتطورة وقدرته على التواصل مع أقرانه هي من أهم العوامل التي مكنته من التقدم وإنشاء الحضارات وذلك نتيجة قدرته على توريث التجارب والأفكار من جيل إلى آخر.

ولكن هل للغة القدرة على نقل كل ما يدور في خلجاتنا؟

يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي "قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة إياك أن تعتقد أنك تفهمني لمجرد أنني أتحدث إليك"

لا شك في أن هناك عمقا في النفس تعجز اللغة عن نقله إلى الآخر أو على الأقل تعجز عن نقله بشكل تام فلو كانت اللغة قادرة على التعبير عن كل ما في النفس لما كان هناك معنى لكلمة سوء الفهم فسوء الفهم هذا إنما هو ناتج عن اختلاف الصورة الذهنية المشار لها من قبل المتحدث عن تلك التي فهمها المتلقي.

وقد أشار الشاعر السوري المعاصر نزار قباني في إحدى قصائده إلى العجز الذي يكتنف التعبيرات اللغوية عندما تحاكي مشاعره تجاه حبيبته فقال:

عبثاً ما أكتب سيدتي

إحساسي أكبر من لغتي

وشعوري نحوك يتخطى

صوتي... يتخطى حنجرتي

عبثاً ما أكتب... ما دامت

كلماتي... أوسع من شفتي

بالنظر إلى الشكل البدائي الذي كانت عليه اللغات القديمة والذي نستطيع التنبؤ به عن طريق ملاحظة لغات البدائيين في عصرنا الحالي نكتشف البون الشاسع بين شكل لغاتنا الحالية وما كانت عليه في السابق فندرك من هذا الفرق أن اللغات تسير بمسار تطوري ولم تبلغ في كل أحوالها الكمال في نقل الأفكار.

هنا يطرح سؤال نفسه وهو هل يمكن تجاوز مشكلة قصور اللغة في التعبير؟

لقد أستخدم الناس عدة سبل للتعبير عما في داخلهم سواء بطرق لغوية تجاوزت حدود اللغة العادية أو غيرها.

إذ أستعمل الأدباء والشعراء المجاز لصرف الكلمة عن معناها الظاهري إلى معنى آخر إذ إن الذي يتكلم بهذا الأسلوب يشبه الشيء الموصوف بشيء آخر ليقرب المعنى إلى ذهن المتلقي مثل ما جاء في القرآن:

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

فهنا قد شُبِهَ القمر بالفرع المائل الذي تخرج منه الثمار من النخلة إذ إنه يتشابه معه في صفة الميلان وهذه المسألة ضرورية في أي تشبيه أو مثل فلا بد من أن يكون هنالك وجه شبه بينهما ولكن كما يقال الأمثال تقرب من جهة وتبعد من جهة فقد يأخذ المتلقي من الشبه صفة أخرى غير التي أشار إليها المتحدث وخصوصاً إذا كان المتحدث من بيئة المتلقي من بيئة أخرى ولا يعرف عن ما يشبه به المتحدث، وقد حصل ذلك مع علي بن الجهم في قصته المشهورة مع المتوكل العباسي حين مدحه بشعر فشبهه بالتشبيهات المتداولة في بيئته البدوية فقال له:

أنت كالكلب في وحفاظك للود

وكالتيس في قراع الخطوب

وقد أثار هذا الشعر استغراب كل الحاضرين إذ إن الحاضرين كانوا يرون هذه التشبيهات بمثابة الشتم في حين كان يراها علي بن الجهم مدحاً وذلك كان لاختلاف البيئة التي يعيشون فيها واختلاف الثقافة بينهم ولأنهم ظنوا أنه يشير إلى الصفة السلبية في الكلب غير أنه كان يقصد تشبيهه بالناحية الإيجابية منه ، ولكن المتوكل كان يعرف أن مقصده كان المدح وأنه قد أتى بهذه الصور من بيئته فقام بإرساله إلى أحد قصوره على نهر دجلة فيكون قريبا من أهل بغداد وبقي في ذلك المكان مدة من الزمن ثم لما عاد إلى المتوكل أسمعه قصيدة مختلفة الصور والتشبيهات يقول فيها:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن بي الهوى من حيث أدري ولا أدري.

‏وأمثلة هذا الاختلاف كثيرة ونلاحظها أكثر في الأعمال الأدبية المترجمة بشكل حرفي.

وبعيداً عن الأدب صاغ العلماء في مختلف المجالات العلمية مصطلحات خاصة بهم لتسهيل نقل المعنى بينهم ولكي لا يكونوا مضطرين إلى شرح الفكرة مراراً بل يكتفون بالإشارة إليها بذلك المصطلح، غير أن هذا النوع من الكلمات يجعل منها قصراً على من عرف تلك اللغة الاصطلاحية وفهمها مسبقاً.

وكذلك عانى كتاب الصوفية من مسألة الاصطلاحات وقصور اللغة العادية إذ إنهم كانوا ينقلون تجربتهم الشخصية بلغة خاصة والتي كانت تحاكم باللغة الاعتيادية التي كانوا يرونها عاجزة عن سبل أغوارهم ومجاراة بيانهم.

غير أن كل هذه المحاولات بقيت ضمن نطاق اللغة الصوتية ولم تخرج عنها ولكن وبالتوازي مع اللغة وجد الإنسان سبلاً أخرى لكي يعبر عن ما في داخله للآخرين وهي السبل الفنية مثل الرسم والنحت والموسيقى، أن هذه الطرق وغيرها الكثر حاولت أن تعبر عن مقصد الفرد الذي كان يريد إيصاله إلى الآخرين غير أنها بقيت عالقة في إطار هو الآخر الذي يسلط عليها أفكاره ويفهمها وفق للقوالب الموجودة في ذهنه دون أن يضع نفسه مكان صاحب الفكرة الأول.

ربما تكون الطريقة الوحيدة التي يتسنى لنا من خلالها فهم مراد المتحدث بشكل تام هي بالولوج إلى صدره فكما يقال المعنى في قلب الشاعر، وحين كان هذا مستحيلاً على الأقل في عصرنا الحاضر فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله وبهذا عمل علم التأويل (الهرمنيوطيقا) على وضع أسس ليفهم من خلالها نفسية المتحدث من خلال لغة جسده أو من خلال طبيعة الحياة التي كان يعيشها صاحب النص وطبيعة ثقافته ومن خلال أفكار مجتمعه.

إننا حين ندرك مدى قصور اللغة وعدم تمكنها من نقل الأفكار بشكل دقيق فإن علينا التريث في الحكم على ظاهر النص خصوصاً إذا كان القائل قد بين أنه لا يريد الظاهر من كلامه.

 

سجاد علي جواد - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم