قضايا

آدابنا وآدابهم

كثيرا ما راودتني فكرة ابن خلدون (المغلوب مولع أبدا بالغالب..)، وعلاقتها بنشأة ظاهرة الصراع في أدبنا بين القديم والجديد، أو ما يُطلق عليه أيضا الصراع بين الأصالة والمعاصرة أو بين شيوخ الأدب وشبابه، أو بين التراث والحداثة. وهو لعمري ظاهرة، ما كانت لتظهر معالمها وبوادرها لولا السقوط المهول للبلاد العربيّة، والذي أعقب خراب بغداد على أيدي التتار والمغول.

لقد أوعز ابن خلدون - وهو الذي كان شاهد عيان على عصر الضعف والانحطاط – أسباب الخضوع والاتّباع والاستسلام لورثة أثينا وروما وإخوانهم من العجم، إلى الشعور بالهزيمة والمغلوبيّة والدونيّة والعجز أمامهم، والولع بما يقولون ويفعلون ويخترعون من الصنائع.

و لو عدنا إلى قاموسنا اللغوي، لوجدنا لفظة (الولع، ولوعا وولعا والولوع..) ذات دلالة أشدّ وقعا على النفس وأدق تعبير وأعمق عن الشعور، من كلمة (عجب وأعجب وإعجابا وعجبا...). فالولع معناه الإعجاب الشديد بالشيء والتعلّق به دون غيره إلى درجة الهوس به وطرح كل ما يناقضه أو يخالفه أو ينقص من قيمته.

جاء في لسان العرب لابن منظور في معنى لفظة (ولع): ولع به ولعا وولوعا. والمصدر جميعا بالفتح فهو ولع وولوعا ولاعة، وأولع به ولوعا وإيلاعا، إذا لجّ. وأولعه به، إذا أغراه. وفي الحديث الشريف: أولعت قريشا بعمّار. أي صيّرتهم يولعون به. قال جرير:

فأَوْلٍعْ بالعِفاسٍ بني نمير.. كما أَوْلَعْتَ بالدَّبَرِ الغُرابا.*

و هذا الذي حدث لنا مع الآخر النصراني واليهودي أو ما يُعرف بالغرب في التصنيف الإيديولوجي والسلّم السياسي،، نحن العرب، في القرون الثمانيّة الأخيرة، أيّ الفترة التي أعقبت سقوط الخلافة في بغداد في المشرق الإسلامي في القرن السابع الهجري، ثم سقوط غرناطة في غربه.

لماذا نشأ الصراع يا ترى بين القديم والجديد في الأدب؟ لماذا تطوّر الصدام بين القصيدة العموديّة الخليليّة والقصيدة (الحرة) إلى مستوى الإلغاء؟ لماذا صار كل عنصر أو غرض أدبيّ وافد من الغرب مقياسا وميزانا للتطوّر؟

و الأدهى والأمرّ، أنّ هذا(الولع) لم يتوقّف عند حدود الأدب ؛ شعرا ونثرا. بل أصاب الحضارة الإسلاميّة في مقتل ؛ أصاب العمران البشري العربي بشكل فاضح وشموليّ. لم تنج منه عناصر الهويّة والهندسة العمرانيّة ولا العادات والسلوكات اليوميّة في الملابس والمآكل والمشارب.

لقد خلّف لنا الأسلاف كنوزا عظيمة من النثر والشعر والنقد. وكان من واجب الأخلاف أن يبنوا عليها أهرامات التجديد، لا هياكل التحييد. لم يكن ينقص القصة العربيّة – على سبيل المثال – سوى تكييف مضامينها ومواضعها مع روح العصر.

و قد كانت الدرر النثريّة - التي أغنى بها كل من عمر بن بحر (الجاحظ) في كتبه القيّمة (البيان والتبيين، الحيوان، البخلاء) وابن المقفّع في مصنّفه الرائع (كليلة ودمنة) والهمذاني في مقاماته البليغة وعبد الحميد وابن العميد ولسان الدين بن الخطيب في رسائلهم الرصينة والمعرّي في كتابه الأدبي الفلسفي (رسالة الغفران) وابن طفيل في قصته الفلسفيّة المثيرة للجدل (حي بن يقظان) والتوحيدي في رائعته (الإمتاع والمؤانسة)، بالإضافة إلى الكنوز الشعريّة لفطاحل شعراء العصر الجاهلي، وأعقبه من عصور ذهبيّة، في المشرق والمغرب وفي الأندلس، إلى أن أفلت أنوارها بعد السقطة البغداديّة الرهيبة عام 656ه / 1258 م. وغيرهم – كانت – ومازالت – نماذج فريدة وكنوزا خالدة، لم تمسسها أرضة الإهمال والنسيان.

لقد أهمل دعاة التجديد، من (المولعين) بالأدب الغربي، هذه الكنوز السالفة الذكر، وراحوا يهرولون نحو الغرب. ونسوا أ أو تناسوا، أو جهلوا أو تجاهلوا، القصة الغربيّة ليست مقياسا للإبداع القصصي في جوانبها الفنيّة. بينما القرآن الكريم مليء بأروع القصص الرائعة والمعجزة في بناءاتها التقنية وأساليبها. والأمر أيضا، ينطبق على كتابات الجاحظ والهمذاني وغيرهما. هل كان (الولع) هو السبب الوحيد ل(ولغ) دعاة التجديد – كما ابتدعوه - في مستنقع الإلغاء؟ لماذا اتّهمت هذه الكنوز الإبداعيّة بأنّها ترّهات رُضعت من ثدي الماضي الغابر؟ ألم يكن – الأجدر بهم - التمسّك بهذه الكنوز وإثراؤها، والبناء عليها؟

أعتقد، وأكاد أجزم، دون إلزام أحد باعتناق رأيي، أنّ أدبنا العربي، شعره ونثره، وبتراثه وجديده، دفع ثمن الانحطاط الفكري والثقافي والحضاري الذي لحق بالعرب في القرون العشرة الأخيرة. وقد أثّر ذلك على اللغة العربيّة في عقر دارها. وقد أصيبت لغة الضاد بجوائح عدّة، كولع أهلها، وخاصة الفئات والنخب المجتمعيّة ؛ الأرستقراطيّة والبورجوازيّة، باللغات الأجنبيّة، واتّخاذها لغة للدواوين الحكوميّة والمراسلات والوصفات والتعليم العالي والتكوين، وأيضا، لغة اليافطات والشعارات والرياضات، وغيرها من القطاعات الاجتماعيّة والسياسيّة.

ولم يقتصر دعاة التجديد على (الولع) بالنثر الغربي، بل امتدّت أيديهم وألسنتهم إلى الشعر. وكأنّي بهم أرادوا أن يشفوا غليلهم في ضرب كلّ مقوّم أدبيّ أصيل. لقد زجّوا بالقصيدة العموديّة في معركة لا طائل منها سوى التهديم تحت راية (الولع) بالقصيدة الغربيّة. وجهلوا أن الاختلاف بين الناس والمجتمعات سنّة كونيّة مستدامة، وأن الاختلاف يعني التنوّع وهذا الأخير يفضي إلى الغنى والثراء الأدبي والثقافي. وأنّ لكل مجتمع أدبه؛ شعره ونثره. وأنّ المحليّة لا تتعارض والعالميّة، لأنّ الأولى بوابة الثانيّة بلا ريب.

نسيّ أو تغافل الكثير من دعاة الغلوّ في التجديد وإنكار التقليد، وإقصاء التراث وإحالته على رفوف المتاحف، وإقعاده مقعد القديم البالي، أنّهم هو أشدّ الناس تقليدا ومحاكاة لأدب غيرهم من الغربيين، بسبب (ولعهم الشديد به).، فكانوا عونا للمستشرقين والمتطرّفين على هدم مقوّمات أدبهم. أنكروا على أسلافهم امتلاك ناصية القصص، واتهموهم بالضعف الجمود والانحطاط قياسا على الحقبة التي تلت سقوط بغداد وخراب مكتباتها وسيطرة العجم على مقاليد الخلافة. وأغفلوا في ذلك، عمدا أو سهوا أو جهلا أو عمالة، العصر الذهبيّ في العصر العباسي في المشرق والمغرب. وما حمله للإنسانيّة من كنوز حضاريّة، مازالت معالمها شاهدة على العبقريّة العربيّة في جميع صنوف الأدب والفلسفة والعلوم.

إنّ التجديد الحقيقي والإيجابيّ هو ما حدث في العصر العباسي، وهو بحق عصر ذهبيّ. وهو تجديد إضافة وبناء إلى الحقل الأدبي. تجديد بُنيّ على معطيات عقليّة ودوافع نفسيّة وضرورات ثقافيّة. فقد اطّلع العرب آنذاك – دون ولع - على أدب الأمم المحيطة بهم جغرافيّا، وعلى علومهم وفلسفتهم وأمثالهم وحكمهم وقصصهم وأساطيرهم بوساطة الترجمة، وعوامل الهجرة والترحال وتمازج الأجناس واتّساع الفتوح شرقا وغربا. أخذوا ما فيه نفع لدينهم ودنياهم – وقد أدركوا أنّ الحضارة أخذ وعطاء – لكنّهم لم يهدموا أدبهم، ولم يستبدلوه بأدب غيرهم، ولم يدخلوا إلى منظومتهم الأدبيّة ما يناقض ويهدّد قيّمهم ويسيء إلى أخلاقهم. بل قاموا بعمليّة غربلة، فأخذوا اللب والجوهر – دون ولع -، وترفّعوا عن الغثاء. ولعلّ عزوفهم عن فنّ المسرح اليوناني والروماني – الذي تتناول مواضعه وتدور أحداثه حول تعدّد الآلهة والصراع بينها - خير دليل ذلك.

لقد دفعت ظاهرة (الولع) الشديد بالأدب الغربي، غثّه وسمينه، برهط من الأدباء والنقّاد العرب إلى تبنّي المدارس أو المذاهب الأدبيّة الغربيّة ونقل النظريّات النقديّة دون تحفّظّ، وفي صورة غنائم ثمينة وفتوح جديدة نحو الحداثة ومسايرة كل جديد. وأغفلوا أّنّ الأدب، بكل فنونه، هو مرآة مجتمعه، وصورة معبّرة عن بيئته. وهو يختلف من مجتمع إلى آخر. فإذا كانت المذاهب الأدبيّة ومدارسها النقديّة صالحة في المجتمعات الغربيّة، بما تحمله من أفكار وبما تدعو إليه من مباديء، فهي ليست – بالضرورة – صالحة في المجتمع العربي المختلف عن الغرب لغة وملّة وأخلاقا وأهدافا. فلماذا هذا (الولع) والتهافت على كل ما غربيّ، من شعر وقصة ورواية ومسرحيّة؟ أكان أدبنا فقيرا إلى درجة الدونيّة القصوى؟

لم يخل أدبنا القديم، منذ عصر ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا، من عنصر الرمز، سواء الطبيعيّ منه أو الديني أو الفلسفي أو الحيواني. لقد بلغ ابن خفاجة الأندلسي في وصف الجبل قمّة الدلالة الرمزيّة، حين أنطق الجماد وأعقله وأضفى عليه روحا إنسانيّة مرهفة. والأمر أيضا عند ابن المقفّع في كليلة ودمنة وابن طفيل في حيّ بن يقظان. كما برع الشعراء الفطاحل في الامتزاج بالصحراء في جزيرة العرب، وبالطبيعة الخلاّبة في بلاد الشام والعراق والأندلس، كما برعوا في وصف الطبيعة المرئيّة ؛ من فيافي وجبال وغدران رقراقة وأنهار وما حوته من حيوانات وطيور، أليفة وغير أليفة، أهليّة ووحشيّة، ولم يكتفوا بظاهر الطبيعة فقط، بل غاصوا في أعماقها، وأضفوا عليها حركيّة جسمانيّة ونفسيّة ودلاليّة. وها هو رهين المحبسين، أبو العلاء المعري يخرج لنا تحفة من تحف الأدب الفلسفي، أو لنقل أنّه فلسف الأدب، ورفعه إلى مرتبة العقلانيّة، وعبر به حدود الواقع إلى موطن المثاليّة والجماليّة في رائعته الموسومة برسالة الغفران. والحق، كل الحقّ، أنّ الأدب الغربي مدين – رغم الإنكار والاستكبار – للأدب العربي في كل ما وصل إليه من إنتاج أدبي أو نقدي. وما كان الأدب العربي في حاجة إلى مدارسهم ومذاهبهم ونظريّاتهم النقديّة، لولا (ولع) دعاة التجديد والمعاصرة، وأعداء الأدب الأصيل والتراث الفضيل. ألم يكن من الأحرى – وقد كان الذي كان – لو رفعنا مبدأ (لنا أدبنا ولهم أدبهم). لأنّ الأدب لا يحتمل التشارك الحيادي والتنافع العام، كالعلوم الدقيقة ؛ من رياضات وفيزياء وكيمياء. أما القيّم الأخلاقيّة والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والمشاعر، فهي التي تميّز بين المجتمعات، كثر أفرادها أم قلّوا، ومنها ينبع أدبها المحليّ الخاص.

ما كان الأدب العربي في حاجة إلى كلاسيكيّة الغرب ورومانسيّته ورمزيّته وسرياليته وبرناسيّته، ونظرياته النقديّة، من تفكيكيّة وحداثيّة وبنيويّة وسيميائيّة ما بعدهما - وهو الأدب الزاخر بكنوز إبداعيّة، شعريّة ونثريّة ونقديّة، لا نظير لها في الأدب الغربي - لولا (الولع) الأعمى بالأدب الغربي الذي أصاب بصائر دعاة المعاصرة والتجديد، وأيضا، لولا الفراغ النقدي وقابليّة الاتّباع، والشعور بالدونيّة المطلقة لكسر عظام الهويّة ومحوها.

لقد كان سقوط الخلافة العباسيّة وضياع الأندلس وما تلاهما من هزائم وانكسارات أمام المدّ الصليبي وخضوع للغرب دون مقاومة فكريّة رشيدة، القشّة التي قصمت ظهر الأمة العربيّة. فقد زرع الغرب (الناهض ماديّا) بفضل الثورة العلميّة والنهضة الصناعيّة في غرب أوربا، فكرة (الولع) ورسّخها في النفسيّة العربيّة المستسلمة للاتّباع الأعمى، وفي العقل العربي العاجز عن مسايرة النهضة. وهذا ما أفضى إلى ظهور فكرة التخلّي عن التراث العربيّ الأصيل، وارتفاع صيحات التجديد ودعواته، ونماء مشاعر (الولع) بالأدب الغربي ومدارسه المتعدّدة ونظريّاته النقديّة لدى طائفة من الأدباء المهجريين وأدباء البعثات الدراسيّة إلى القسم الغربيّ من أوربا، والتي لا بصلة إلى النفسيّة العربيّة، ولا إلى العقل العربي الأصيل.

أجل، لقد أدركت الأجيال اللاحقة، حين استيقظت واسترجعت الوعي بالذات الأصيلة، واستنطقت قيّم الأجداد، أنّ (الولع) بالغرب قد وصل خنجره إلى العظم. ولم يقتصر هذا الشعور الدونيّ نحو الإنسان الغربي على الأدب فقط. بل امتدّت أذرعه الأخطبوطيّة إلى القيّم الأخلاقيّة والعادات اليوميّة، واستولى على عقول الشباب بعنوان العصرنة والتجديد ومسايرة الحضارة والعولمة.

و مازالت ظاهرة (الولع الشديد) بالغرب مستمرّة وساريّة المفعول في كبائر الأمور وصغائرها، وسفائسها، بل إنّها اتّسعت دوائرها الحمراء، واستشرى خطرها في الأنفس والقلوب والعقول. وباتت تهدّد بتمزيق عناصر الهويّة العربيّة، وتفكيك ما ائتلف منها، وتشتيت ما اجتمع حولها.

و لعلّ سبيل الخلاص من هذه الظاهرة المرضيّة الخطيرة والمميتة، هو إعادة بعث الوعي، والعودة إلى الذّات وتخليصها من أوهام (الولع) بالأدب الغربي، والسعي إلى إعادة قراءة التراث الأدبي الأصيل قراءة متأنيّة وعميقة وموضوعيّة.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي –الجزائر

في المثقف اليوم