قضايا

زيادة بالأعداد..نقصان بالخدمات

لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد في العراق، بسبب عدم وجود البيانات وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية. يؤكد ذلك تحقيقان صحفيان اجرتهما مؤخرا السيدتان (عواطف مدلول و بدور العامري) فيهما تصريحات لمسؤولين في مؤسسات صحية. يعزز ذلك تقرير طبي نشره موقع (ذي ناشونال) تحدث فيه مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية الدكتور حسين الكعبي "أن أعداد الأطفال المصابين في تزايد ويتوقع وجود أكثر من 200 ألف طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد، وسط تراجع الخدمات لهذه الفئة من المرضى، إذ يعاني المركز الحكومي الوحيد في بغداد من نقص الملاكات الطبية والمستلزمات الضرورية لتشخيص وتأهيل الأطفال المصابين بالتوحد، ما حدا بذوي المرضى للتوجه إلى مراكز العلاج  والتأهيل الأهلية، بالرغم من ارتفاع التكاليف المالية مقارنة بالنتائج المتواضعة التي يمكن أن يقدمها عدد قليل من تلك المراكز".

ما هو التوحّد؟. تحديد مفهوم

سنبدأ بما تقوله المؤسسات العلمية المتخصصة بالتوحد، ثم نبسّطه لحضراتكم.

تعريف المعهد الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة:

اضطراب دماغي (Brain Disorder) يؤثر في قدرة الشخص على الاتصال بالآخرين، واقامة علاقات معهم، والاستجابة للبيئة على نحو ملائم .

تعريف الجمعية الوطنية للأطفال التوحديين (National Society For Autistic Children)

هو مظاهر مرضية أساسية تظهر قبل أن يصل عمر الطفل ثلاثين شهراً،يتضمن الآتي:

1. اضطراب في سرعة أو تتابع النمو.

2. اضطراب في الاستجابات الحسية للتنبيهات.

3. اضطراب في الكلام واللغة والمعرفة.

4. اضطراب في التعلق او الانتماء للناس والأحداث والموضوعات.

تعريف الدليل الاحصائي الرابع DSM –IV

حالة من القصور المزمن في النمو الارتقائي للطفل يتصف بانحراف وتأخر في نمو الوظائف الأساسية المرتبطة بنمو المهارات الاجتماعية واللغوية، وتشمل الانتباه، الادراك الحسي، والنمو الحركي.

تعريف الجمعية الأمريكية للتوحد:

هو إعاقة في النمو،تتصف بكونها مزمنة وشديدة،تظهر في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، وهو محصلة لاضطراب عصبي يؤثر سلباً في وظائف الدماغ.

تنويه:

ينبغي التعامل بحذر مع هذه التعريفات، فالتوحّد لا ينطبق على الطفل الذي يكون سلوكه الشاذ ناجماً عن تلف في الدماغ،ولا يمكن وصف جميع الحالات التي يرفض فيها الطفل التعاون لاسباب تعود إلى خوفه  من بيئة أو مصدر غير مألوف بأنها " توحّد " . فضلاً عن أن التوحّد يصيب الأطفال بغض النظر عن مستوى ذكائهم..فقد يكونون طبيعيين أو أذكياء جداً أو متخلفين عقلياً.

وننبه الى انه لا يمكن حصر اضطراب التوحد بعدد محدد من الأعراض والأسباب،ولهذا سمي (طيف التوحد) لأن الأعراض فيه تتداخل وتتنوع. وللوالدين نقول:

ان اعراض ظهور التوحد على الطفل تكون في ثلاثة: تبدأ في ضعف التواصل البصري وعدم قدرته على فهم مشاعر الآخرين ورغبته في اللعب معهم،و صعوبة في فهم الايماءات والتوجيهات باليدين، وصولاً إلى عدم تطور النطق.

ونزيدكم ليسهل عليكم التشخيص ان من اعراضه: انزعاج الطفل من صوت معين بطريقة مبالغ فيها، او: تمسكه بلعبة  أو قميص،أو تعلقه بطعام معين،أ تكرار حركات او كلمات.. بشكل مبالغ فيها.

ما العمل،واطفال التوحد في ازدياد  والخدمات في نقصان؟

الأجابة الممكنة والمفيدة تكون بالتوعية في ثلاثة مجالات..اعلامية و أسرية و مجتمعية،بأن تكون هنالك برامج تلفزيونية واذاعية يقدمها او يشرف عليها متخصصون باضطراب التوحد.وتوعية الأسرة العراقية الكريمه بتبسيط اعراض التوحد(كما فعلنا الآن) وكيفية التعامل مع الطفل المصاب به،وان تمتد التوعية الى المجتمع بتنظيف افكاره من المعتقدات الخاطئة بخصوص المرض ومنها الوصم الاجتماعي،وتسمية من يعانون من طيف التوحد (بالمتخلفين عقلياً).

عباقرة ..مصابون بالتوحد!

ستندهش  ان عرفت ان احدهم هو المخرج السينمائي الشهير (سبيلبيرغ)  الذي اخرج اربعة من بين اعظم عشرة افلام حققت اعلى الايرادات ومنها (اي تي ) او كائن من الفضاء الخارجي.

وستعجب اكثر ان قلت لك ان مؤسس شركة مايكروسوفت وامبراطور الكومبيوتر (بيل جيتس)، ما يزال حتى الآن يعاني من عارض اسبيرجر وهو احد اعراض مرض التوحد!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)

الشريعة والمنهاج مصطلحان متمايزان في دلالاتهما وطريقة عملهما، فـ (الشريعة) في سياقها القيمي ذات نزعة أخلاقيّة شاملة تعمل على ضبط مجمل ما يطالب به الدين ذاك المتبع لعقيد هذا الدين أو ذاك، من سلوكيات تتعلق بحياة الإنسان. أما (المنهاج ) فهو طريقة أو أسلوب في التفكير والممارسة بشكل عام، أو في تطبيق الشريعة بشكل خاص، وفقاً لمعطيات الواقع وتغير الظروف في الزمان والمكان. أي هو تاريخي قابل للتطور والتبدل.

إن متابعة أوليّة لما تناوله مؤسسو الخطاب الفقهي الإسلامي على سبيل المثال في القرون الهجريّة الأولى عند السنة والشيعة، سنجد مبالغة واضحة في مسألة اعتبار الشريعة الإسلاميّة القائمة على النص المقدس القرآن والحديث الشريف، مسألة شموليّة صالحة لكل زمان ومكان، ضُبطت ويجب أن تُضبط دائماً وفقاً لمواقف منهجيّة حددها أصحاب تلك المذاهب، إن كان باعتماد القرآن والحديث والاجماع والقياس عند السنة، أو اعتماد القرآن والعقل والحديث الذي يتعلق منه بآل البيت، أي ما قاله أو حدث به آل البيت من الأئمة المعصومين عند الشيع، وخاصة ما يتعلق بالأحكام (القانونيّة). أي ما أمر به الله من تطبيق للجزاءات على المعاملات والأحوال الشخصية، على من التزم بحقوق الله أو أساء إليها. وهذه المسألة إذا ما قرأنا النص المقدس قراءة متبصرة، نجدها تتناقض أو لا تتفق وروح الشريعة الإسلاميّة في جوهرها العام، الداعي إلى المحبة والعدالة والمساواة والعدل بين الناس ومراعاة ظروف حياتهم، انطلاقاً من  أن هذه الشريعة في سماحتها تدعوا إلى ضرورة مراعاة روح العصر الذي نزل فيه النص المقدس من جهة، والروح العامة لهذا النص القابل لفتح دلالاته تفسيراً وتأويلاً بما يتفق وتطور حياة الإنسان نفس. وقد كان عمر بن الخطاب رائداً في مسألة هذا التطبيق للنص المقدس بعد فتح دلالاته التاريخيّة على الواقع المعيوش بعد وفاة الرسول، وخاصة موقفه من السرقة في عام الرمادة، ثم موقفه من المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغير ذلك.

نقول: إذا أخذنا كتاب الله بآياته الـ (6000) لوجدنا أن هناك (80) آية فقط هي ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة بالنسبة للمعاملات أو الأحوال الشخصيّة بما فيها الجزاءات والإرث والزواج والطلاق والعدة.. الخ. وما تبقي من آياته كلها تصب في قضايا الإيمان والأخلاق. فالدين الإسلامي في عمومه دين إيمان وأخلاق.

أما المنهاج في هذا السياق فهو يستخدم في تطبيق هذه الشريعة. أي هو الأسلوب الذي يستخدمه الفقيه في قراءات النص الديني وتفسيره وتأويله وفتح دلالاته، بما يخدم مصالح الناس المتغيرة والمتطورة دائماً وفقاً لمقاصد الدين في خطوطها الإنسانيّة المراعية لمصالح الناس في الزمان والمكان المحددين.

إن القرآن دعوة دينيّة عقيديّة وأخلاقيّة في أساسه، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،  وليس قوانين فقهية وحقوقيّة أو علميّاً، وإذا اعتقد بعضهم أنه كتاباً علميّاً وحقوقيّاً، يشرع لمجمل الحياة الاجتماعيّة بدءاً من كيفيّة خلق الكون والإنسان وصولاً إلى تنظيم الحياة الأسريّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة  والسياسيّة... إلخ. فهذا يتنافى مع جوهر الدين الأساس.

إن الإسلام في خطوطه العامة كما أشرنا، يقدم جوهراً أخلاقيّاً لحياة الناس في كل عصر بما يلبي حاجاتهم ومصالحهم، حيث نجد أن الكثير من الجزاءات للمخطئ والمصيب، لا تطبق في الحياة الدنيا، فعقابها مؤجل إلى يوم العودة، عدا بعض حالات القصاص كالسرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من القضايا التي ورد فيها نص ديني ثابت مثلاً. فالقرآن يشدّد كثيراً على الأخلاق ويعتبرها فوق القانون، وأن المحبة والعفو عنده يجبان القانون إذا ما جاء لفرض العقوبة المستحقة. فلننظر في نص الآية القرآنيّة التالية ونرى كيف أن القيم الأخلاقيّة في الإسلام تتقدم على قانون العقوبات: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة - 45). أو قوله تعلى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى - 40).

إن حالة القصاص بموجب النص الديني المقدس تعتبر ضرورة قانونيّة/ حقوقيّة تمثل روح العدالة والمساواة بالنسبة للدين، وهي ضرورة اجتماعيّة أيضاً، ولكن العفو بموجب المحبة والبعد الإنساني المطلق لمقاصد النص المقدس، تظل في المقابل واجباً أخلاقيّاً ومعنويّاً في العلاقات الشخصيّة أو الاجتماعيّة. فالمسألة الأخلاقيّة ممثلة في العفو، تعادل الحق على المستوى القانوني وهو القصاص هنا.

أما بالنسبة للمسألة (السياسيّة) كما حددها النص المقدم في الإسلام، فهناك آيتان بينتا موقف الدين من السياسة وهما : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). (الشورى - 38). (وشاورهم في الأمر) (آل عمران – 159). دون تحديد لآليّة عمل أو تطبيق مضمون هاتين الآيتين، حيث ترك منهاج ممارستهما للإنسان نفسه ووفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة. وهذا الأمر المتعلق في ترك طرق تقدير  الإنسان لمصالحه، نجدها أيضاً في النصوص التي تناولت مسائل الزكاة والصدقات والربا، وهذه كلها تحتاج في الحقيقة لتعريف قانوني لها وهي ذات توجه أخلاقي.

انطلاقاً من هذا المنهج أو الأسلوب الذي يتعامل مع النص الديني حقوقيّاً، يأتي دور الفقه كصياغة حقوقيّة بشريّة محض، وهو وفقاً لذلك تاريخي، أي عليه أن يعمل على البحث الدائم في مقاصد النص الديني، من داخله، أو من خارجه عن حلول لمشاكل الإنسان بكل مستجداتها، أي البحث عن حلول لقضايا الواقع المتطور والمتبدل أو المتحول وفقاً لروح الشريعة أولاً، ووفقاً لمصالح الإنسان التي لا تخرج أصلا في بعدها الأخلاقي والقانوني عن مقاصد هذا النص الديني المقدس أو روحه، وفقاً للحالة التاريخيّة المعيوشة. ومن هنا جاء في أصول الفقه الإسلامي الفرعيّة ما سمي بالمصالح المرسلة، وتغير الأحكام بتغير لأحوال، والاستحسان، والعادة والعرف، وسد الذرائع، واعتبار المصلحة وتقديمها.. الخ.

إن مشكلتنا مع فهم وتطبيق النص الديني فيما يتعلق بـ (الشريعة)، تكمن في تلك العقليّة الجموديّة التي تتعامل مع النص المقدس فقهيّاً من قبل مشايخ الدين والسياسة والسلطان، فهم من ساهم كثيراً في جمود حركة المجتمع وتقديس التراث، الأمر الذي أدى إلى تقديس الفقه ذاته وما تناوله فقهاء العصر الوسيط من شروح وتأويل وتفسير لهذا النص، حيث تحولت شروحاتهم وتأويلاتهم وتفسيراتهم ذاتها إلى نصوص مقدسة أخرى يعتبر الخروج عنها كفراً وزندقةً، بل وخروج عن الدين الصحيح.

ملاك القول: أمام كل هذه الإشكاليات التي نعيشها في مسائل الخطاب الديني الإسلامي، وما تركته هذه الإشكاليات من مواقف عمليّة متطرفة لمتبني الإسلام السياسي الجهادي بشكل خاص التي أساءت للدين والإنسان معاً، لا بد لنا من التأكيد هنا على بعض المعطيات التي يمكن لها أن تساهم في إخراجنا من ذاك الفهم الجمودي الوثوقي الاستسلامي للنص المقدس وهي:

1- لا بد من إعادة النظر في مسألة شموليّة النص الديني المقدس بما تمثله هذه الشموليّة من فهم لروح الشريعة وأخلاقياتها وإمكانيّة تطبيق هذه الروح على قضايا العصر، وذلك يتأتى من خلال اعتمادنا على القرآن كمرجع أساس للنظر في مقاصده.

2- ضرورة التأكيد دائماً على تاريخيّة النص من خلال فهمنا لجوهر وأهداف مسألة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه في النص الديني نفسه. وهذا يدفعنا للنظر في قضايا الواقع عند قراءتنا للنص الديني بمنظار الحاضر وليس الماضي، وبذلك نفتح باب الاجتهاد بعد أن أغلق مئات السنين.

3- لا بد من إعادة النص الديني تفسيراً وتأويلاً إلى حوامله الاجتماعيين الحقيقين المعبرين عن مصالح (المجتمع)، انطلاقاً من النص المقدس الذي يقر بأن كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته. وبذلك نكون قد خلصنا النص الديني تفسيراً وتأويلا وتوظيفاً من قبضة المرجعيات التقليديّة من رجال الدين الذين ملأ الزيغ قلوبهم، ومن رجال السياسية المستبدين الذين يعملون على توظيف هذا النص لمصالحهم. أو بتعبير آخر تخليص الدين من العمامة والعمرة معاً.

***

د.عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

أحتمل أن بعض القراء قد سمع عبارة «فيتامين واو» التي يتداولها الناس أحياناً في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد أن «الواو» هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها للمرة الأولى في الكويت نحو عام 1997. حين تحدث زميل لي مع أحد الوجهاء، طالباً شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني، قال ضاحكاً: «فيتامين واو حلال المشكلات». وعلمت فيما بعد أن معظم الناجحين جاءوا مع ذلك الفيتامين القوي.

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا، كان يتباهى بعبارة «اشفع تُشفَّع» التي تدعو –من دون مداورة- إلى اعتماد الواسطة إذا أغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتنغتون في مقالة مثيرة للجدل أن الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجاً محتملاً إذا تخشبت القوانين، فباتت سداً يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكننا جميعاً نعلم أن الواسطة ليست بالخيار الأمثل حتى لو لجأنا إليه أحياناً. ذلك أنها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. أي تقريب جماعة وإقصاء بقية الخلق.

حسناً، دعنا من هذا الكلام الخطابي، فكل الناس يعرفونه. ولنذهب إلى مسألة مفيدة، تندرج في سؤالين، أولهما: ما جوهر «الواسطة»، ولماذا هي مفيدة أكثر من غيرها؟ والآخر: إذا كانت فعّالة ومفيدة، فهل يمكن تعميمها، أي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟

«الواسطة» هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس، في منظومة قيم أو معايير، تولد خيطاً من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم، بحيث يشعر كل منهم أن بوسعه الاعتماد على دعم الآخر وإسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك إلى قبيلة واحدة، أو قرية أو مذهب أو حزب، أو حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة أو العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد أقلية من الناس فحسب وقد يؤدي –كما أسلفت– لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي لطالما راود الباحثين في علم الاجتماع، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك إلى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟ بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم، أو تطوير المنظومة القائمة، بحيث تستوعب الناس كافة...؟ وتبعاً لهذا، هل يمكن لجميع الناس في بلد معين أن يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم وأعمالهم، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية، كما يعامل أهله وأصدقاءه؟

وجّهت هذا السؤال لأصدقاء عدة هذا الأسبوع. فوجدتهم متشككين في إمكانية توسيع «دائرة الثقة» خارج حدود التعارف الشخصي. وقال أحدهم إن قلة الشركات الكبرى في بلدنا سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالاً جيداً، هو الشركات المساهمة، التي شارك فيها آلاف الأشخاص مع أنهم لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى، فقد توافرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا أموالهم بيد أشخاص لا يعرفونهم. أليس هذا مثال جيد؟

هنا يظهر دور الثقافة. أي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس، بأن القانون يمكن أن يضمن أموالهم، وأنهم لا يعطون أموالهم لشخص بعينه، بل لنظام عمل، إذا نجح فالكل رابح وإذا فشل فالكل خسران، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الإنسان من الثقة بالأشخاص إلى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

«دائرة الثقة Radius of Trust» تتناول في المقام الأول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون بعضهم على حقوق بعضاً، ولذلك يمكن أن تأتمنهم وتطمئنّ إلى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

عندما نشرَ عالم الاجتماع العِراقي عليّ الورديّ كتابه «خوارق اللاشّعور»(1952)؛ ردّ عليه الفقيه مرتضى العسكريّ(تـ: 2007) في «أخبار المساء»(رمضان 1953)؛ وما إنّ أردفه بـ«وعاظ السَّلاطين»(1954)، حتَّى جمع العسكريّ الرّدود، وأضاف إليها نقده للكتاب الأخير، صدر ببغداد(منشورات الإمام الكاظم 1955)، بعنوان: «مع الدّكتور الورديّ في كتابه وعاظ السَّلاطين»، مع أنّ متن الكتاب ركزَ على «خوارق اللاشُّعور».

كان واضحاً، مِن الرّد، لم يكن العسكريّ رجلَ دين تقليديّ، وهو أحد أقطاب حزب الدّعوة الإسلاميَّ(تأسس 1959)، أراه قارئاً للفلسفة اليونانيَّة وهاضماً لها، وبهذا يُعد مِن المثقفين الدّينيين، في مجمل كتبه «عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى»، و«خمسون ومائة صحابيّ مختلق» وغيرها.

اتفقنا معه أو اختلفنا، فلا بد مِن الاعتراف أنه صاحب باعٍ ثقافيّ وفق عقيدته. لكن يبدو أنَّ ما كتبه كان تعبيراً عن غضب المؤسسة مِن أفكار الورديّ، لأنها نالت مِن الفكر التّقليديّ المحافظ، المنسجم مع رجال الدّين.

لم تصدر فتوى تكفير ضد الوردي، ولم يتعرض لاعتداء، على الرّغم مِن كثرة الأتباع الذي ينفذون ولا يناقشون، وما سمعته مِن المعمار محمد مكية(تـ: 2015)، وما أثبته في مذكراته «خواطر السِّنين»، أنّه زار المرجع الخوئي(تـ: 1992)، في السِّتينيات، مع الورديّ، فأخذ الخوئيّ يحاوره في أفكاره، وتمنى تكرار الزّيارة. أقول هذا للتذكير بزمن آخر، ليس التَّكفير والاغتيال عنوانه، إلا ما ندر، ولا عمائم متحكمة بالضَّمائر، وميليشيا تتوسلها الدَّولة، لإطلاق المخطوفين مِن قِبلها.

كتب العسكري: «إنّ الدّكتور الورديّ، وأساتذته، يحاولون هدم كلّ قديم مِن أخلاق وآدابٍ، ونظم اجتماعيَّة». لم يتطرف العسكريّ ويقول: «يحاولون هدم الدّين»؛ فهذا تكفير صريح. لكنّه أراد قول ذلك، فالأخلاق في عقيدته دينيّة أولاً. كذلك أتهم الوردي أنه طالبٌ للشّهرة وفق «خالف تعرف». بعدها ردّ الوردي التُّهمة، واعتبرها باطلة، ففي تصوره: ليس كلّ من خالف عُرف واشتهر، إذا لم يكن صاحب عِلم(المطبعيّ، عليّ الوردي يدافع عن نفسه).

كانت الأخلاق والآداب، التي أُتهم الوردي بهدمها، تخص الحِجاب، والتّشدد ضد الانفتاح الاجتماعيّ، الذي اعتبره -الورديّ- سبباً جوهرياً في التّخلف، وإشاعة «الاغتصاب»، ودفع المجتمع إلى ثقافة النِّفاق، فالأخلاق لا تقومها المواعظ والخُطب، إنما الحلول العمليّة، كازدهار التَّعليم، والتَحول إلى الحضارة.

أقول: وهل أكثر مِن مجتمعاتنا تستمع للمواعظ والخُطب، وها هو الطَّابع الدّينيّ سائداً، ثقافة وسُلطة، فما هي النَّتائج التي حُصدت، ألم يكن هذا دليلاً على صحة ما قاله الورديّ قبل سبعين عاماً؟ كان الورديّ يتحدث مِن بنات أفكاره، غير المقدسة، أمّا صاحب الرّد، فبين صفحة وأخرى يُذكر الوردي بحديث وآية، وهذا ما قصده الورديّ بقوله: «كسب الجدل بأن تتجنبه»(الورديّ يدافع عن نفسه).

كان أكثر ردّ العسكري دفاعاً عن المنطق الأرسطي ومثالية أفلاطون؛ والسَّببّ لأنَّ هذا المنطق بمثابة المقدس، فالمسائل الفقهية تعتمد عليه في الوصول إلى النّتائج، المنطق الذي ثار عليه «السفسطائيون»، وكان الورديّ ناصراً لهم. كتب العسكري ثالباً السَّفطائيين، ومريدهم الورديّ: أفكارهم «تجعل الحقَّ باطلاً والباطل حقَّاً»، وبالتَّالي فالوردي في ذهن المؤسسة الدّينيّة: يستبدل الباطل بالحقّ. ذهب العسكري في رده أن وجود الانحراف الخلقيّ له تاريخ، ربطه بالعباسيين والأديرة، ضمن عدم وده، كغيره مِن أبناء المؤسسة الدّينيّة الشّيعيّة، للعباسيين.

طرح الورديّ في مؤلفاته كافة أفكار التّحرر، وأسلوبه مقبول لدى طبقات القراء كافة، بشهادة المحقق كوركيس عواد(تـ: 1992): «يكتب بأسلوب ميسر جذاب، مفهوم لدى مختلف صنوف القراء. ثم وهو العالِم في الاجتماع يعرف كيف يُطعم كتبه في المطيبات والتّوابل»(نفسه). أقول: ممَن يخشى رجال الدّين إذا لم يخشوا الورديّ، الذي يصل للقراء كافة؟!

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

في عالمنا الحديث الممتلئ بالتكنولوجيا، نتعرض لوابل من الخيارات - شاهد هذا، أو اقرأ هذا، أو استمع إلى هذا. مجتمعنا مليء بوسائل الإعلام والإخبار والترفيه، وتأثيرها على معتقداتنا وأفكارنا وأفعالنا بليغ. إن الأشياء التي نسمح لها بملء أذهاننا تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل كياننا - فنحن نصبح ما نفكر فيه. إن وسائل الإعلام التي نختار استخدامها تؤثر علينا حتماً - سواء بشكل إيجابي أو سلبي. في ظل هذا التدفق الغزير للمعلومات من قبل وسائل الإعلام التي تحاصرنا بطريقة لا يمكننا تجنبها، فإن مسؤوليتنا لا تقتصر على تجنب وسائل الإعلام السلبية، بل في اختيار وسائل الإعلام المفيدة.

التكنولوجيا في حد ذاتها يمكن توظيفها في سياقات الخير والشر. في المحصلة إن الأهداف التي يتم تحقيقها باستخدام التقنيات/ ومن خلالها هي في نهاية المطاف مؤشرات على مستوى التطور والتحديث. لذلك ليس علينا رفضها، بل أن نستخدمها بطرق يمكن أن تثري حياتنا.

يمكننا استخدام قوة وسائل الإعلام لصالحنا لتحسين تفكيرنا وسلوكنا من خلال إدراك قابليتنا للتأثير الإعلامي وإدراك مدى تأثيره علينا، وعبر تحديد واختيار الفرص الإعلامية الإيجابية.

كيف يؤثر الإعلام علينا؟

لا أحد محصن ضد تأثير وسائل الإعلام. لا يمكننا أن نتوقع الاستمتاع بالوسائط المصممة للتأثير علينا عقلياً وعاطفياً دون أن تستمر في التأثير على عقلنا الباطن لفترة طويلة بعد انتهاء الفيلم، أو إغلاق الكتاب، أو بعد الاستماع للأغاني. أولئك الذين يعتقدون أنهم لا يتأثرون بوسائل الإعلام هم في الغالب الأشخاص الأكثر تأثراً، وذلك على وجه التحديد لأنهم ينكرون تأثير وسائل الإعلام وبالتالي فإنهم ليسوا على دراية بما يجري. وكما سيستمر الماء في التسرب إلى القارب المثقوب، حتى لو لم ندرك أنه متسرب، كذلك ستستمر وسائل الإعلام في التأثير على أفكارنا سواء انتبهنا لتأثيرها أم لا.

يمكن لوسائل الترفيه أن تؤثر على أفكارنا، لذلك نلجأ إليها لتجنب التوتر والضغط اليومي. غالباً ما نسعى إلى الترفيه باعتباره عزاءًا مؤقتاً من المشاكل اليومية، سواء أكان ذلك في الأفلام، أو الكتب، أو التلفزيون، أو المجلات، أو الموسيقى. على الرغم من أننا نستخدم وسائل الترفيه للاسترخاء، إلا أنه يجب ألا نسمح أبداً لمعاييرنا بالاسترخاء. في ذلك الوقت بالتحديد يجب أن نكون حذرين فيما نتركه في أذهاننا.

ومن أجل الاستمتاع الكامل بتجربة الترفيه، يقبل بعض الأشخاص غريزياً الرسالة المقدمة في وسائل الإعلام، وبالتالي يسمحون للمنظور الضمني بالتأثير على إدراكهم.

حين نشاهد بعض الأفلام فإن الحقيقة تعتمد على تأسيس مبكر ومقنع تماماً لعالم غريب، أو خيالي، أو تصور لزمن مختلف، أو لشخصيات غير عادية، بحيث تأسرنا الروح العامة والمزاج والجو الخاص بالفيلم. إذا كان المخرج ماهراً في خلق هذا المظهر من الحقيقة، فنحن على استعداد لتعليق عدم تصديقنا وترك شكوكنا وتفكيرنا العقلاني وراءنا عندما ندخل العالم الخيالي للفيلم.

إذا أوقفنا عدم تصديقنا، فإننا نميل إلى الانفتاح على القيم والتوقعات والمعتقدات التي تصورها وسائل الإعلام. وهكذا، يمكن لوسائل الإعلام أن تؤثر بشكل خفي على أفكارنا. ولكن في هذا التأثير هناك خطر قبول وجهات النظر التي لا تتفق مع معتقداتنا.

إن الكلمة اللاتينية  entertainment التي تعني ترفيه هي في الأصل كانت تعني تحويل العقل بغرض الخداع. في الأوقات التي نسعى فيها للتحويل، نحن نستخدم وسائل الإعلام لإلهاء أنفسنا عن مشاكلنا الحقيقية، ونراهن على أنها يمكن أن تجعلنا نؤمن بما تقدمه لنا الآن. كلما كانت الوسيلة أكثر مصداقية، كلما استمتعنا بها أكثر - بغض النظر عن مدى صحتها أو خطأها.

تقول عالمة النفس الاجتماعي "كارين ديل" Karen E. Dill "عندما نسمح لأنفسنا بالانجراف إلى العالم الخيالي، فإننا نغير مواقفنا ومعتقداتنا بحيث تكون أكثر اتساقاً مع الأفكار والادعاءات التي نجدها في القصة أو الرواية أو الفيلم". نحن نستبعد عدم الثقة لدينا، ومن خلال القيام بذلك، نفتح أنفسنا بشكل عشوائي ونستوعب نظام الاعتقاد الذي يتم تمثيله في العالم الخيالي ونتصرف بناءً على تلك التصورات والأفكار. في كثير من الأحيان، ما نراه على الشاشة يثير تغييراً أو رد فعل لا ندركه. هذه هي الطريقة التي يشكل بها العالم الخيالي لوسائل الإعلام تصورنا للواقع

من خلال السماح لوسائل الإعلام بتحقيق هدفها المتمثل في الترفيه عنا، يمكننا استبدال تفكيرنا العقلاني الطبيعي بالأفكار التي تعرضها وسائل الإعلام، مما يؤدي في النهاية إلى تغيير معتقداتنا وسلوكياتنا.

من أجل السيطرة على تأثير وسائل الإعلام على حياتنا، من الأهمية بمكان أن نختار وسائل الإعلام البناءة، وأن ندرك مدى قابليتنا لتأثير وسائل الإعلام. حيث تؤثر وسائل الإعلام على أفكارنا، وبالتالي يمكن أن تؤثر على أفعالنا.

كيف يمكننا اختيار الخيارات الإعلامية الإيجابية؟

من خلال فهم تأثير وسائل الإعلام على حياتنا، يمكننا أن نتعامل بوعي مع الفرص المتاحة لنا. إن اختياراتنا سوف تصنع عالماً من الاختلاف، لأنها ستحدد مدى استجابتنا لما يدور من حولنا.

إن مسؤوليتنا لا تقتصر ببساطة على تجنب/ أو رفض وسائل الإعلام السلبية، بل أن نحيط أنفسنا بنشاط بوسائل إعلام مفيدة. ولحسن الحظ، هناك مخزون إعلامي كبير جداً، وهناك الكثير مما هو جيد ومفيد، حيث يتم الحفاظ على القيم واحترامها. هناك عدد لا يحصى من الكتب والأفلام والأغاني وغيرها من الأشياء التي تحتوي على رسائل عن الأمل، والسعادة، والحب، واللطف، والفرح، والتسامح.

بسبب حجمها المذهل، فإن وسائل الإعلام في عصرنا تعبر عن مجموعة لا حصر لها من المواقف التي تتناقض بشكل صارخ مع بعضها البعض. وعلى النقيض من الجانب الضار والمتساهل للغاية، فإن بعض وسائل الإعلام تقدم الكثير مما هو إيجابي وجيد، ولذلك فإن التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو اتخاذ خيارات حكيمة بشأن ما نستمع إليه وما نشاهده.

قد يكون هناك برنامج تلفزيوني أو سلسلة كتب استمتعنا بها ذات يوم وتسببت في ترجيح كفة المقياس الأخلاقي، ولكننا نجد أنه من الصعب تركها، أو ربما يكون الفيلم الجديد يحظى بشعبية كبيرة أو مغرياً ولا نعتقد أنه يمكن أن يسبب أي ضرر لمشاهدته. ومع ذلك، إذا استسلمنا قليلاً، يصبح من الأسهل أن نستسلم أكثر لاحقاً، حتى نستسلم تماماً ونستمتع به، وهو الأمر الذي قد نجد صعوبة في العودة منه. ولكن من خلال وضع معايير لأنفسنا حيث نسمح لأنفسنا فقط باستخدام الوسائط المفيدة التي تُغني عقولنا وتُثري أفكارنا.

مع الفوائد العظيمة لتكنولوجيا الإعلام تأتي مسؤولية اختيار الطريقة التي سنستخدم بها هذه التكنولوجيا.

كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي علينا؟

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الأفراد هام جداً. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي إلى تآكل احترامنا لذاتنا عندما ننخرط في المقارنة المستمرة.

غالباً ما تظهر وسائل التواصل الاجتماعي في قائمة الأسباب حول تدني احترام الذات، وخاصة مع النساء. يصفون كيف يشعرون بعدم الارتياح بعد قضاء الوقت على Instagram أو Facebook كما لو أنهم وحياتهم ليست جيدة بما فيه الكفاية، كما لو أن كل شخص آخر لديه حياة رائعة وهم مخطئون تماماً. وهم ليسوا وحدهم الذين يشعرون بهذه الطريقة

فكيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي علينا؟

لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة جديدة نسبياً. ولذلك، بدأ الباحثون للتو في فهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. اتضح أنه هناك علاقة ارتباطية بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحدوث الاكتئاب، والقلق، وتدني احترام الذات، والشعور بالوحدة. يزداد الأمر سوءًا كلما زاد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

تم في العام الماضي سؤال 5000 طفل وشاب في المملكة المتحدة عن استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي. توصل الباحثون إلى أن أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع يعانون من انخفاض احترام الذات بعد القيام بجولة على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يبدأون في التساؤل عما إذا كان مظهرهم وحياتهم بشكل عام جيدة بما فيه الكفاية.

وأشار 63% من الأطفال والشباب الذين شملهم الاستطلاع أيضاً إلى أنهم لن يمانعوا إذا لم يتم اختراع وسائل التواصل الاجتماعي مطلقاً. ولذلك يشعر الأطفال والشباب بالتأثير السلبي لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويفضلون الابتعاد عنها.

وفي عام 2016، تم إجراء دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية حول استخدام الشباب لوسائل التواصل الاجتماعي وارتباطها بالاكتئاب. سُئل 1787 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 19 و32 عاماً عن استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي: ما هو مقدار الوقت الذي يقضونه على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً؟ كم مرة يتواجدون خلال الأسبوع؟

وتمت ملاحظة أن أكثر حالات الاكتئاب تحدث بين أولئك الذين كانوا في أغلب الأحيان يقضون وقتاً أكثر من سواهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

لاحظ أن هذه الدراسة أجريت بين البالغين. يُكتب الكثير في وسائل الإعلام عن التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال والشباب. لكن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر علينا جميعاً.

لاحظ أيضاً أنه حتى لو كان هناك ارتباط بين حدوث شيئين (الوقت الذي نقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب)، فإن ذلك لا يخبرنا ما إذا كانت هناك علاقة سببية. وهذا هو نقطة الضعف في كثير من الدراسات التي تجري حاليا حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: لماذا هو سلبي؟

تشير العديد من الأبحاث إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤثر سلباً على صحتنا العقلية. كيف يمكن للمرء أن يفهم ذلك؟

إحدى الطرق لفهم ذلك هي النظر إلى ما تدعوك وسائل التواصل الاجتماعي إلى القيام به من مقارنة نفسك بالآخرين. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي إلى تآكل احترامنا لذاتنا عندما ننخرط في المقارنة المستمرة.

فمن ناحية، كنا دائماً نقارن أنفسنا ببعضنا البعض. نحن البشر ننظر إلى بعضنا البعض ونقيم تطورنا ونجاحنا ـ وإخفاقنا أيضاً ـ بناءً على كيفية سير حياة الآخرين. لكن على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه المقارنة جنونية لسببين:

أولاً: عدد المقارنات المحتملة. لقد زاد عدد الأشخاص الذين يمكنك مقارنة نفسك بهم بشكل كبير مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. في السابق، كان بإمكانك مقارنة نفسك بجيرانك وأصدقائك وزملائك. الآن يمكنك مقارنة نفسك بعدد كبير من الأشخاص طوال الوقت. زملاء الدراسة القدامى، وزملائك الطلاب، والأشخاص في أجزاء أخرى من العالم، والأشخاص المشهورين.

أشخاص لم تكن تعرف عنهم شيئاً قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. الناس الذين قد انزلقوا إلى النسيان. الأشخاص الذين تختلف ظروف حياتهم تماماً عن ظروفك.

ثانياً: ما تقارن نفسك به. عندما تقارن نفسك بالآخرين على فيسبوك، فهي صورة معكوسة تقارن نفسك بها، لكنها ليست صورة حقيقية. معظم الأفراد يعيشون حياة طبيعية عادية مليئة بالصعود والهبوط، وقهوة الصباح، وجبة الطعام مع زميل العمل، وركوب الدراجة للمدرسة تحت المطر، والصديق الذي يتركك، نصائح الأهل والأسرة، متطلبات الزوجة والأطفال، وأي شيء آخر يمثل الحياة العادية تماماً.

لكن على فيسبوك وإنستغرام، نعرض فقط ما يسير على ما يرام – النجاحات وظروف الحياة الكبيرة والإيجابية مثل: "مرحباً، انظر إلي، لقد حصلت على هذه الوظيفة الرائعة". أو: "مهلا، انظر إلي، أنا حامل". "لقد تزوجت. انظروا إلى زوجي الوسيم". "مرحباً، شاهدني هنا مع جميع أصدقائي الرائعين". "لقد اشتريت منزلاً/ سيارة جديدة، انظروا كم هي مذهلة". "ها أنا والعائلة أثناء قضاء العطلة في هذه المدينة الساحرة".

المقارنة هنا تؤدي إلى تآكل احترام الذات. عندما نقارن أنفسنا باستمرار بالآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يسبب لنا التوتر. يصبح حال بعض الناس: "لماذا لم أتمكن من الوصول إلى هذا الحد في حياتي مثل...؟". "لماذا لم يعد لدي أصدقاء من المدرسة الابتدائية/المدرسة الثانوية/الكلية/المدرسة الثانوية/الجامعة مثل...؟". "لماذا لا أملك منزلاً جميلاً/ جسماً جميلاً/ صديقاً/ طفلاً/ الكثير من المال/ فرصة الذهاب في رحلات جميلة...؟"

"لماذا لم أفعل...؟"". لماذا لم أحصل على...؟"... الخ.

يتم الرد على جميع الأسئلة بالاستنتاج: يجب أن يكون هناك خطأ ما معي. انا لست جيد/ة بما فيه الكفاية. أنا لا أقدر مثل الآخرين. أنا إنسان/ة فاشل.

عالم بلا جدران

جعلت وسائل التواصل الاجتماعي، العالم ـ بطريقة ما ـ صغير جداً.

أتاحت للأفراد التفكير بجميع المجالات الممكنة الآداء في حياتنا - والتي ربما لم نفكر في القيام بها في غياب تلك الوسائل.

وعندما يكون ما نقارن أنفسنا به، علاوة على ذلك، صورة مشرقة، فإن الأمور تسوء تماماً بالنسبة لاحترامنا لذاتنا. عندما نرى نجاحات الحياة واللحظات الإيجابية في العمل، وأطباق الطعام، والغذاء الوفير، فإن مفهومنا عن الحياة الطبيعية يتلاشى.

على الرغم من أننا نعلم بشكل عقلاني أن حياة الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي يتم تحريرها في الاتجاه الإيجابي، إلا أن الصورة اللامعة تؤثر علينا. وصلنا إلى الاعتقاد أنه من الطبيعي أن تكون الحياة عبارة عن نجاحات الواحد تلو الآخر، فيما يشبه طبقات الكعكة. سوف نؤمن بأننا نستطيع الحصول عليه. ونحن نضغط على أنفسنا إلى أقصى الحدود عندما لا نحصل عليها - وهو ما يحدث غالباً.

لكن أليس هناك آثار إيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضاً؟

 ماذا عن الاتصال والمجتمع عبر الحدود الوطنية وتبادل المعلومات وما إلى ذلك؟

نعم، بالطبع هناك جوانب إيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي. إنه لأمر رائع أن تكون قادراً على البقاء على الاتصال/ وتحديث أخبار الأشخاص الذين يعيشون بعيداً بسهولة، أو الذين لا تتواصل معهم يومياً، والذين ترغب في البقاء على اتصال معهم. ومن الرائع أيضاً أن يتم الاتصال بأشخاص جدد تماماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي - من خلال الاهتمامات المشتركة أو ما شابه.

لكن متى يكون الأمر جيداً جداً؟ ومتى يتوقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويصبح سيئاً بالنسبة لنا؟

الجواب عند طلاب الجامعات الألمانية، حيث يعتمد التأثير على كيفية استخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي. فقبل بضع سنوات، تم التحقيق في استخدام طلاب الجامعات الألمانية لوسائل التواصل الاجتماعي. وأظهرت الدراسة - مثل الآخرين - أن ما يقرب من ثلث الطلاب شعروا بقدر أكبر من عدم الرضا عن حياتهم بعد زيارة الفيسبوك.

الأمر المثير للاهتمام هو وجود علاقة بين عدم الرضا المتصور وكيفية استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي.

كان عدم الرضا أكبر بين المستخدمين السلبيين. المستخدمون السلبيون هم أولئك الذين لا يفعلون شيئاً على فيسبوك. إنهم يقومون فقط بالمرور وتصفح الصفحات، وبالتالي يصبحون مجرد متفرجين على حياة الآخرين.

من ناحية أخرى، المستخدمون النشطون هم أولئك الذين يعجبون ويعلقون ويحصلون على محادثات حقيقية تجري على وسائل التواصل الاجتماعي. ولذلك فإنهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بما يتماشى مع الأنشطة الاجتماعية الحية - فهم يبحثون عن الآخرين ويتواصلون معهم.

في مجموعة المستخدمين النشطين، كانت حالات عدم الرضا عن حياتهم أقل بعد زيارة الفيسبوك. مثير للاهتمام، أليس كذلك؟

ما يمكنك القيام به لوقف التآكل في احترامك لذاتك

يمكننا البدء بالنظر إلى استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي والإجابة على الأسئلة التالية:

هل نحن مستخدمين سلبيين، وبالتالي مجرد متفرجين على حياة الآخرين؟

هل نحن مستخدمين نشطين؟ هل نقوم بإنشاء اتصال حقيقي مع أشخاص آخرين؟

إذا كنت في المجموعة الأولى، فهناك سبب للقلق.

توقف عن السلبية. أوقف المقارنة مع صور الآخرين اللامعة. كن أكثر وعياً باستهلاك الوسائط الخاصة بك، واكتشف ما إذا كان بإمكانك بالفعل الانتقال إلى مجموعة المستخدمين النشطين حيث تقوم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإنشاء اتصال حقيقي، فالاتصال الحقيقي مفيد لاحترامك لذاتك.

بالإضافة إلى ذلك، هناك شيئان يمكنك القيام بهما للحد من التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي عليك:

التخلص من إدمان التعلق، والتوقف عن متابعة كل أولئك الذين يقللون من احترامك لذاتك وصحتك العقلية العامة. ينطبق هذا على كل من Facebook وInstagram وTwitter.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

على هامش نكبة الزلزال:

"المدينة، ليست عقلا فحسب.. إنها عاطفة وفضيلة أيضا، لا هيمنة فيها، على أي شيء، حتى الذكاء" .

الأفكار المتينة الصامدة، هي التي تبني جمال المدن وحضارتها، قبل أن تنسجم آفاق التخطيط العمراني كله، وتتآلف أنساق العمارة والعيش المادي فيها. فهي بذلك تنطبق في مفهوميتها الجديدة مع ما ذهب إليه  لوكوربزيه، من أن المدينة "عبارة عن خلاصة تاريخ الحياة الحضرية مجتمعة"، قبل أن نصل إلى سيرورة تشميل المفهوم، ليصير محيطا بكل أدوات الحياة وإيقاعها، حيث النظر بقوة إلى كل ما يربط المدينة تلك ب " الناس والمواصلات وهي التجارة والاقتصاد، والفن والعمارة، والصلات والعواطف، والحكومة والسياسة، والثقافة والذوق".

وبعيدا عن الديماغوجية المنمطة، فإن استيعاب هذه الفلسفة راهنا، أضحى يشكل عائقا في تحديد أدوار تصورنا للعمارة والمدينة والحياة بداخلهما. حيث لم نتمكن بعد ، من ضبط "العيش في المدينة" و"ثقافتها" و"طرق تنظيمها" و"رصد أحوالها".

وعلى اعتبار أن أحد أهم ما يميز قراءة "المدينة الاجتماعية"، في مبنى هذا التصور التقليدي السطحي، هو ضعف تلقينا للمفهوم الطبيعي لهذا الكائن المعرفي المنسجم والمتناغم مع كينونة البشر وحاجياته، ومسؤولياته تجاهه، ومقصديات أعبائه تجاه التحولات والارتدادات، فإن استئثار الأنساق الحديثة، في ظل انبلاج عصر السرعة والأنترنيت والآثار التي تعكسه صروف الذكاء الاصطناعي واشتباكاته التقنية والمعلوماتية، أضحت تخيم على "مدينة برواداكر Broadacre City "، التي ينظر إليها رائد العمارة العضوية الأمريكي فرانك لويد رايت ، والذي يشكل كتابه العبقري "المدينة المختفية The Disappearing City" "، واحدا من أمثولات تغيير أفكارنا تجاه ما يستدعيه فهمنا "للمدينة المستقبلية" .

انشغل رايت بالعمارة العضوية، التي هي في العمق، "الشكل المعماري للمبنى، وبنائه تبعا للبيئة المحيطة". ما يفرض الالتزام بأوضاع المحيط الاجتماعي، وقياس ظرفية البناء، وتأطير جماليته، وتحديد خصائصه وفقا لطبيعة البيئة والناس والمستقبلات الأساسية للعيش.

وبينما تتفوق كل هذه الاعتبارات على دوافع إيجاد ما يحفزنا على تنظيم هذه القياسات المجالية والجغرافية والفنية، وفقا للقانون الذي يوظفه مجال التعمير والإسكان، لا نكاد نصل حتى، إلى فهم روح فلسفته، واستحضارها حسب الحاجة وتوافر الإمكانيات الرمزية والمادية. بل إننا نتيه قصديا في تحريف المأمول، وتوسيع المحذور، والإيغال في الحذف والتوظيف النشاز، والتقصير، في أحايين كثيرة، في الالتزام بأصول المعمار وضبط أركانه ومناحيه.

ما حدث في كارثة زلزال المغرب، بمدن مراكش وشيشاوة وأزيلال والحوز وتارودانت، من دمار شامل، وخسف عظيم، هَمَّ القرى النائية والمداشر الجبلية والأحياء العتيقة، هو ترجمة صريحة لهذه المصفوفات المترامية على أعقاب الميل الخاطئ إلى ما يشبه التكوين الإنشائي للمباني العشوائية التي تجعل من البلاطات الخرسانية المسلحة البارزة، ظهرا لا تستحمله القواعد الهشة للطين والقش. كما هو الشأن بالنسبة للأسطح المرفرفة على الواجهات لتظليلة وحماية للفرندات الخشبية من العوامل الطبيعية. وتنسحب هذه الوضعية المتهالكة، على جزء كبير مما يعرف بداهة، في الدرس الهندسي ب"التهيئة الحضرية" ، التي تعاني أزمة مدينة وحضارة ومعمار جمالي، ما يصعب حقيقة أشكال التدخلات ، وتمركز المدن بالساحل وبالمناطق الفلاحية والمنجمية، مما يسهم مباشرة تعميق التفاوتات المجالية داخل التراب الوطني، وظهور ظاهرة الاستقطاب الحضري من طرف المدن الكبرى، كمراكش والدار البيضاء والرباط وطنجة وغيرها. ويزيد من تفاقم المشكلة، ارتفاع الطلب على السكن وعلى التجهيزات الاجتماعية في المراكز الحضرية والشبه حضرية، وارتفاع نسبة البطالة، وتنامي ظاهرة الفقر الحضري، ونقص الخدمات الاجتماعية والثقافية والرياضية. وعلى ذلك، تبرز الأحياء الهامشية (مدن الصفيح) والأحياء العشوائية (بدونة المراكز)، وانتشار السكن العشوائي في الضواحي، وتزايد الضغط على المدن العتيقة مما تسبب في تدهورها. وهو ما حصل واقعا، ليتطور المنتوج العقاري والسكني، سابق الذكر، إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة.

وإذا ما توقفنا مليا، في نتائج وانعكاسات تمدين المدن وإرهاقها، فلن نتوقف عند هذا الحد، حيث يمكن الحديث عن أزمة المدينة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسوسيواقتصادي، والبيئي، والتجهيز والخدمات العمومية المختلفة، وكلها أمور متداخلة، يختص بها مجال التهيئة وإعداد التراب الوطني، الذي لازال يئن تحت نزيف اللامبالاة وشح التنظير وعدم الكفاءة وآفة التسييس والإدارة.

إذا كان كل ما ذكر ذلك يحتاج، لمساحة واسعة من التحليل والتدليل والمقاربة العلمية والجمالية، فإن العودة إلى أصل المشكل، يوفر علينا متاهات التضليل والاستغفال والتمويه الفاشل، حيث تسكن الحقيقة في الشقوق، وينظر إليها كأنها عين إبرة.

والوجه المقنع لما يسميه عباقرة المدينة والجمال، ب"المدينة المغيبة أو الخفية"، هو ذاك البعد المتقاطع وأصل "الأشياء" وطبيعة تكوينها. إذ المادة تمنح "الوجود" فيها و"الاستسلام لها"، روح التناغم والاصطفاء، ككائنات الصحراء ونباتاتها وأعشابها وأحراشها.

ولهذا كان فرانك لويد رايت، واعيا بميسم "العلاقة بين الطبيعة والحياة العضوية"، وآلتي يراها تظهر لنا بوضوح في كيفية استعمال مواد البناء بكل بساطة.

نعم، استعمال مواد بناء على طبيعتها، هي "صديق مخلص مطيع"، كما يقول. ليس هذا فحسب، بل الاعتماد الكلي عليها، وعلى كيفية صقلها ونحتها ووضعها في المكان المناسب لها. يعتقد رايت أن احترام الطبيعة وموادها الطبيعية يستلزم أن لا يعتدي المهندس أو المعماري أو الفنان على طبيعتها، بأن لا يتلف الحبيبات أو التموجات الطبيعية في الخشب ولا يطمس معالمها ولا وصفاتها وعضويتها الطبيعية، التي هي من صنع الله، بالأصباغ والدهانات الصناعية، وآلتي هي من صنع الإنسان، بل يجب عليه أن يتركها لطبيعتها ليظهر جمالها وونوعها وطريقة تفريغها وتموجاتها ."

هذه آفة مدينتنا، وغير ذلك، مزيج من غفل أو إنكار أو تعمية؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

لأجل ان يحقق اي مجتمع تقدماً على صعيد حقوق الانسان، ويطرد فيه التقدم التقني لابد أن يكون مجتمعاً متماسكاً وهذا ما يحصل في المجتمعات الواحديه الثقافة، اما المجتمع الذي تتعدد مكوناته وتتنوع فانه سيواجه صعوبات في هذين المجالين (الاندماج، والتقدم) مالم يبذل جهداً استثنائياً لتحقيق هذا الشرط من شروط بناء الانسان الذي يحترم تنوعات مجتمعه وثقافاته التي تنصهر ضمن ثقافة وطنية واحدة، ومن المعلوم أن العلماء يفرقون بين المجتمع والجماعات فالجماعة مجموعة بشرية يربطها الدم أو العقيدة الواحدة، والمجتمع مجموعات بشرية متنوعة اتفقت اراداتها الحرة على صناعة ثقافة وطنية تضم كل ثقافات التعدد وقيم التنوع واعتمدت التواصل والانصهار على قيم جامعة مشتركة من أبرزها قيم قبول الآخر والحوار معه والعيش المشترك والتعاون الجاد .

وسؤال البحث: هل تحقق في العراق على مدى قرن من الزمان فكر تبنته الحركات السياسية والجمعيات والمنظمات المجتمعية يحقق هدف الاندماج ويطرح مشروعاً للنهضة والتقدم وللإجابة على هذا التساؤل يقتضي الحال مراجعة تاريخية تبدأ من النشأة أي نشأة الدولة العراقية عام 1921 لقد عاشت (ولايات العراق ضمن الامبراطورية العثمانية) وضعاً فكرياً ناتجاً عن امه منعت على نفسها الاجتهاد في مجالي القانون والعقائد فانشغلت بالانكفاء على ذاتها وطيفها الديني، العرقي والمذهبي، تبجل ذاتها، وتلتمس مثالب الآخر، وعملياً انشغلت في اصدار الحواشي والشروح على متون كتبت قبل عدة قرون، ولم ينتج عن هذه القرون متن جديد، وكان العقل قد توقف، وهذا العامل الظرفي انتج امرين الأول غياب التفكير المنظم في مشروع دمج المكونات في منظومة وطنية وغياب التفكير المنظم في اكتشاف المشروع الذي يجعل الانسان محققاً للنهضة والتقدم وقد أنشغل الوسط والجنوب في مواجهة السياسات التهميش للولاة العثمانيين على بغداد، واستصحاب النزاعات المذهبية وهذا يعطل (نظرية الاندماج)، كما يعطل (اكتساب القوة) بالعلم والمعرفة التطبيقية، ويميز الفترة من مطلع القرن العشرين الى الربع الأخير منه، الصدامات المتعددة مع السلطة العثمانية (النجف 1916) ومع الاحتلال الانكليزي (النجف 1918) وثورة العشرين، وانتشار روح المدافعة التي تعطل التفكير بالاندماج الى حد ما ثم أن الحراك المجتمعي في العراق من مطلع القرن العشرين الى سنوات قريبة كان يقوده رجال الدين، وهؤلاء مع بالغ احترامنا، وبسبب تاريخ التدوين المذهبي وسماته وخصائصه لا يفكرون في (الاندماج) أضافة الى إنهم ربما يكونون بعيدين عن (العلوم المدنية) وفلسفات ادارة التنوع * ولقد تشكل الاجتماع السياسي في العراق من قوى دينية وقوى مدنية (علمانية /ليبرالية)، وأن القوى الدينية تشكلت في البدء على شكل جماعات وجمعيات ومؤسسات خيرية بينما القوى المدنية تشكلت على نمط الاحزاب وكلا النمطين انشغلا بموضوعات ليست على صلة بالإشكاليتين محل البحث، بل أن أصحاب الاتجاه الاسلامي عتموا على مبادرة الشيخ النائيني في قيام الدولة الدستورية البرلمانية (تنبيه الامة وتنزيه الملة) ووقفت (حوزة النجف) بالضد امام أي ممارسة سياسية يقوم بها (رجل دين) مثل الشيخ الزنجاني أو الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء بل حافظت النجف على (موقف محدد) من السلطة تحت نظرية الولاية الحسبية (أي النطاق الضيق من صلاحيات تدخل المرجع الديني بالشأن العام لا سيما السياسي منه) . فالقوى الاسلامية المؤسسية مثل المرجعية العليا، أو الجمعيات الاسلامية مثل جمعية النهضة وجمعية الاستقلال، لم تطرح فكر يحقق دمج المكونات ضمن رؤية وطنية بعد انسلاخ العراق عن الدولة العثمانية واستقلاله عن بريطانيا كما انها لم تكتشف مشروعاً النهضة .على أن نشوء الاحزاب الاسلامية (التحرير، الشباب المسلم) لم تكن مرتبطة بالمرجعية فكانت محل ريبة وعدم تعاون مع المؤسسة المرجعية بينما كانت الدعوة جزءاً من أرادة المرجعية النجف وكانت حركة العمل من (مرجعية شيعية /كربلاء) الشيرازي وهنا: أشير الى الاهتمام الرئيس لهذه الاحزاب بالشأن الحزبي الخاص أكثر منه بالشأن الوطني أو استشراق المشكلات على صعيد المستقبل.أما بالنسبة للأحزاب (المدنية) فالحال فيها أنها أكثر اغفالاً للاندماج ومشروع التقدم فالحزب الوطني الديمقراطي كما يقول مفيد الزبيدي أنه كان منشغل بالاتساق مع التيارات القومية، بما في ذلك من تداعيات مذهبية

والحزب الشيوعي أممي النزعة الا انه وقع في الموالاة العميقة للاتحاد السوفيتي ولم يكن على قدر عال من الاهتمام بالشأن الوطني، بل ان الاحزاب التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني (1965) كانت تهدف للوصول الى السلطة، وعلى مستوى وعي القادة السياسيين الكرد فأنهم انشغلوا تماماً بالمطالبة بتوحيد الكرد، والمطالبة بتقرير المصير (دولة كردية) والاحزاب الكردية وأن كان بعضها يساري الفكر الا انه اولاً واخراً دعوه قومية، على الضد تماماً من الانصهار الوطني، الى جانب أنها لم تفكر بمشروع للنهضة وعلى العموم فأن المنافسة والصراع احياناً بين قوى اليسار العراقي والقوى القومية لا سيما بعد 1958 كان صراعاً على متبنيات لا تمت بصلة الى برنامج وطني للاندماج والتقدم بل على حزبية (أيديولوجية/وقومية) .

المعوقات النظرية للاندماج الوطني عند الاسلاميين:

من يطلع على ادبيات الكتل الاسلامية بنوعيها الشيعي والسني يجد أن من اساسيات الايمان الديني تفضيل المسلم على غير المسلم في مقام الاثبات القضائي والميراث والجزاءات الجنائية وغيرها، ولا سبيل لدى الاسلاميين الى تعديل هذه الأسس، ولعله تأويلها لصالح الاندماج أمر في غاية الصعوبة وازاء المرأة فأن الفقه الاسلامي يفاضل بينها وبين الرجل مفاضلة بينه ايضاً في الاثبات القضائي والجنايات والاحوال الشخصية والميراث  .

فاذا اضفنا الى ذلك التمييز المذهبي (التاريخي) عند فقهاء المذاهب ودعوى المتعصبين منهم بأن لا يزوج أحد من مذهب ما، آخر من مذهب ثانٍ ولا تقبل شهادته ولا يوثق به، ويعامل بوسائل الاقصاء والتهميش القبح فأن تلك كلها معوقات انتقلت الى ذهنية اتباع الحركات الاسلامية، واستقرت في اللاوعي والوجدان الديني، بل الانكى والاشد الصاق (مفتريات) من كل الجهات على خصومهم المذهبيين، فما كنا نعرفه مثلاً عن الايزيديين شيء لا نظير له من القبح، وهكذا عن اليهود، وكل ذلك كان حاضراً في وعي الممارسة الاجتماعية .

أن تنامي الشعور المذهبي، وتمكنه حتى من القادة والمنظرين قد صار تراثاً تتلقاه الاجيال عن بعضها، وتمارسه الناس كانه أحدى حقائق الوجود .ومن الجدير ذكره أن عدداً من المؤسسات الدينية والاحزاب من الطرفين ينادي بالتقريب بين المذاهب علناً كشعارات، لكن السلوك يختلف عن ذلك فهو في اللاوعي وكأثر من آثار تراث الكراهية مستقر في الوجدان الديني، وادل دليل على ذلك، أن هذا التقارب والتقريب لم يحصل بل أن مجرد طرح التقارب اعتراف بالتفاصل، وطالما انتبهنا الى أشكالية بقاء المكونات العراقية في وضعها (قبل الاندماج) وضع الجماعة المنفصلة في وعيها وشعورها، وكيفية احتساب مصالحها ورسم اهدافها، وعرفنا قصور الفكر والثقافة اللتين لم تكتشف اهمية هذا الجانب سواء على مستوى الفكر المؤسسي أو في برامج الاحزاب، ثم اكتشفنا أن بقاء المكونات العراقية (منفصلة عن نظيراتها) مدعاه للتراجع في المستويات المدنية ومستوى التقدم، والتعاون بين أبناء الوطن الواحد فماذا يجب على المؤسسات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الوطني وثقافة المواطنة أدراكاً منا أن العقل النظري يحتاج الى مادة معرفية تشكل معايير قيمية ترسم مواقفه ازاء الاشياء والافكار والاشخاص، وتجلي من التراث عناصره الاحيائية والحية وتمنع عناصره الميتة أو المميتة من أن تكون هي الفاعلة وهذه المهمة ربما تحتاج الخطوات الآتية:

1- اعتماد مثلث البرهنة في الدراسات التراثية والدينية وهي (النزعة النقدية، والعرض والتحليل البرهاني ونزعة المقارنة) وبذلك تنفتح الآفاق تماماً على طلاب المعرفة، والمتطلعين لثقافة امتلاك الحقائق وتغلق الطريق على (مسلك تبجيل الذات واسقاط الآخر زوراً وافتراء).

2-  محاولة تقريب وتشويق الاطلاع على ثقافة المكونات الاخرى كمعرفة العرب تاريخ الكرد أو التركمان وتطلعاتهم وحاجاتهم واحوالهم وسبل تطوير مجتمعاتهم وكذلك اطلاعهم على حال العراق.

3- محاولة أن يمتلك العراقي عده لغات فالعربي أذا عرف اللغة الكردية والتركمانية صار التفاهم بالنسبة اليه أيسر وكذلك الكرد والتركمان .

4- الاطلاع على آداب المكونات العراقية ودراستها ونقدها، ومتابعة تطورها الفني والموضوعي.

5- الدعوة لتشجيع التزاوج بين ابناء المكونات الاخرى ودعم هذا البرنامج لما له من آثار ممتازة في تخفيف (التفاصل والانعزال) .

6- اعطاء سلف ودعم مالي على شكل الاقراض ودعم مالي على شكل الاقراض للشركات التي يتولاها (ابناء المكونات) والتي تجسد حالة الانسجام، وأن تشتغل في كافة انحاء العراق .

7- أن يتخلى النواب والوزراء عن التصريح بانهم يخدمون جمهورهم الانتخابي، ويقيّم كل واحد بما يبذله لمكونه وللمكونات الاخرى ولا بأس أن يتبرع النواب لمشروعات في غير جغرافيتهم الانتخابية.

8- حث السينما والمسرح، وكتاب القصة والروات أن يتناولوا موضوع الاندماج والتقدم كأهداف وطنية مهمة وعاجلة .

9- عقد عدة ندوات اجرائية وورش عمل وحلقات نقاشية واكتشاف السبل والوسائل لهذه الاشكالية

10- دعوة اتحاد الادباء، ونقابة الصحفيين، للمساهمة في انتاج نصوص أدبية وصحافية ممتازة تسهم في خلق ثقافة الاندماج الوطني .

11- وضع مادة الزامية في الجامعات لمعرفة تاريخ (الوطن) وتطلعاته والتعاطف معهمودوره المجتع الوطني

12- تشريع قوانين تجرم الدعوة الى (فكر قومي أو عرقي أو مذهبي متعصب أو ديني أو لغوي)، وتعاقب عليه وتمنع وسائل الاعلام من عرض ما يشجع التفاصل الوطني .

 ***

أ. متمرس. د. عبد الامير كاظم زاهد

لا يسع الإنسان ذي العقل البشري الطبيعي الفطري، الذي يتقاسمه ويشترك فيه جميع البشر؛ والدال على أن غيره من "العقول" المدعاة على فرض ثبوتها، إلا ان يجد نفسه، وهو يقرأ لطه عبد الرحمن، في مقام النقد والانتقاد حتما. لأن الرجل دخل وأقحم نفسه وقلمه في أكثر الحقول مدعاة للنقد والاعتراض والنقض أحيانا؛ وهو حقل الأيديولوجيا "التديينية"، والتي قلما يدخلها المرء وينجو من مصائدها؛ فما بالك بمن يدخلها مدعيا ومدافعا ومتحيزا، ومهاجما وحاكما كما هو شأن الأستاذ طه.

فقد دخلها طه منذ البداية من منطلق المنحاز والمدافع، الذي حسم نتائجه وخلاصاته، ولم يدخلها من موقع العالم الذي يبحث عن الحقيقة، ولا من موقع الفيلسوف المنتقد الذي يؤسس لفلسفة دين، ولا من موقع حتى العارف الذي يبني مذهبا جديدا في المعنى أو المعنويات، بما لا يتعدى بها الحدود الممكنة لها بم هي كذلك.

حسنا فعل طه عبد الرحمن عندما صرح، بما لا يقبل المزايدات، عن طبيعة عمله والخلفية المتحكمة فيه؛ فقد صرح في كتاب: "العمل الديني وتجديد العقل" أن مجال أعماله هو "الفكر الديني" (ص، 11)، وصرح في كتاب: "روح الدين" عن الخلفية التي يصدر عنها فيما يكتب وما يقرأ لغيره. يقول: "ترانا في هذا الكتاب الذي بين يديك لا نزعم ولا نفتعل الانسلاخ من معتقداتنا، ولا من مختاراتنا في تناول الصلة بين التعبد والتدبير، أو بالتعبير المألوف، العلاقة بين الدين والسياسة (...) بل لم نتردد في الكشف عن مسلماتنا الخاصة من أول سطر سطرناه". (ص، 16)

ونخصص هذه المقالة للبعد الأيديولوجي لهذه الخلفية التي اختص هذا الكتاب بالإفصاح عنها أكثر من غيره من كتبه.

اعتمد طه في مقاربة قضية "علاقة الدين والسياسة"، التي خصص لها الكتاب المذكور، مقاربة اعترف هو نفسه بأنها: "ليست تاريخية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية، ولا فقهية ولا فكرانية؛ وإنما قصدنا أن تكون مقاربة روحية، أو قل مقاربة ذكرية غير نسانية، أو عمودية غير أفقية". (ص، 17) وحاول تأسيس "نظرية" بناها على مفهوم مركزي يسميه "بالتسيد" أو "السيادة" بمعنى "السلطة" والتسلط، التي يرى أن الحداثة السياسية "اختلستها" من مجالها الأصلي؛ وهو الدين، إذ هي "صفة" خاصة بالله، فنسبتها للسياسة وللدولة وللشعب.

ولهذا حدد مهمة ما يعتقد أنه بديل لما أخذت به الحداثة، وهو "العلمانية"، أي الفصل بين السياسة والدين، ولما يقول به الإسلام السياسي وهو الوصل، في رفع "التسيد" في عالم الانسان والرجوع به إلى صاحبه. يقول يقتضي التعبد المودع في الفطرة منذ لحظة الخلق: "الكف عن نسبة السيادة إلى الذات، والاقرار بنسبتها لله وتخصيصه بها". (ص271) وحدد مهمته في الكتاب في العمل على دفع: "هذه السيادة المنتحلة" والخروج منها: "بواسطة عمل أصله غيبي ثابت يكون منشؤه الروح، بحيث يحول الإنسان من داخله وبجمعيته، وما ذاك إلا عمل التزكية". (صن 25)

يقول إن تصوره للعلاقة يقوم على وجود: "وحدة أصلية" بين التعبد والتدبير سابقة على الفصل العلماني والوصل الدياني". (ص، 19) تصور: "لا فصل فيه ولا وصل". (ص، 322) وسنرى لاحقا أن هذا التصور انتهى إلى نقيض المدعى وهو تكريس تسيد السلطة الموروثة عن السلفية.

فالأصل في "التدبير" الذي سمي "سياسة" هو ذلك "الاختلاس" للسيادة/ التسيد الذي يمثل أساس "التدبير" الأصيل الذي يسميه "بالتدبير التعبدي" أو الروحي؛ وهو تدبير يرجع إلى إقرار "الروح" في عالم الغيب لله بالألوهية والوحدانية، والعهد بالتعبد له وحده (السيادة). ومنذ "حدث" الاختلاس المدعى نتج في الحياة البشرية الحديثة نوعان من "التدبير"؛ سمى الأول "بالتدبير السياسي"، والثاني "بالتدبير التعبدي".

حدد طه لكل من التدبيرين منشأ خاصا؛ فمنشأ الأول هو "لنفس"، وبشكل محدد فيما تنسبه إلى نفسها. فيكون منشأ "التدبير السياسي" إذن هو "النسبة"، أي نسبة الأشياء وملكيتها إلى النفس. ومنشأ "التدبير التعبدي" هو "الروح" وفاء منها بالإقرار والعهد الذي تعهدت به من إفراد الله بالتسيد والسيادة؛ ولهذا فهي، عكس النفس، بعيدة عن خلق "النسبة" و"التملك" فهو ليس من طبيعتها ولا ينبغي لها. إذ تقر بمالك وصاحب نسبة واحد ووحيد وهو الله.

ومن اختلاف المنشأين، نشأ التناقض والصراع والتنازع الذي امتد ويمتد إلى الحياة العامة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد (..)، فمنشؤه هو الصراع بين "الروح" و"النفس" داخل الفرد، الذي يتعين، والحالة هذه، أن يكون هو منطلق اصلاح مشكل "التسيد" المغتصب والمختلس. وهو ما لا تستطيع جميع المشاريع الفكرية والفلسفية معالجته، كما سنرى لاحقا، إلا التصوف الطرقي، أو بعبارته: "العمل التزكوي"، الذي يركز على تخليص "الروح" من سجن النفس والجسد وأغطيتهما، لتعود كما كانت في عالم الغيب قبل أن تتلبس بالبدن والنفس. يقول: "لقد وجد الإنسان في عالم الغيب روحا مجردة قبل أن يوجد في عالم الشهادة روحا مجسدة". ويقول: "لكن لما جاء أجل ظهورها في عالم الشهادة، واخرجها البارئ تعالى إلى الوجود ملتبسة ببدنها الذي يظهرها ويميزها، كادت أن تنسى الميثاق الغيبي الذي أخذه منها، كما لو أن تلبسها بالبدن يحجب عنها ذاكرتها، وما أن شرع صاحبها يلبي لازم حاجات بدنه، مقيما بنيته، حتى استدرج إلى قضاء زائد شهواته، خاضعا لراسخ عوائد مجتمعه". فتكالبت عليه الشهوات والعادات فأنسته "الميثاق"؛ بل محت آثار فطرته: "منشئة له بديلا منها ألا وهو نفسه"، فبعد أن كانت: “تنسب كل شيء إلى بارئها، صارت تغطيها نفس ناسبة تنسب كل شيء إلى ذاتها. لذلك هم العمل التزكوي الأول أن يعيد إلى الفرد ذاكرته الأصلية". (ص، 277)

لا شك أن القارئ يدرك بفطنته موقف طه تجاه النفس والجسد من النص، والذي يفصح عنه في مواضع أخرى فشهوة الجنس هي حط لأشواق الروح (ص، 262)، والنفس تتربص بالإنسان وتمكر به: "علما أن مكرها لا ينجلي وتلوناتها لا تنتهي"، وأنها "تلوت الروح بأهوائها، فضلا عن أدواء المحيط". (ص، 278)

يقيم طه "نظريته" على رؤية ثنائية الكون والوجود، والإنسان والحياة؛ فالكون أو العالم عالمان، مرئي وغير مرئي، أو محسوس وغيبي، والإنسان روح ونفس/ جسد، والحياة دنيا وآخرة. وبنى على هذه الثنائية أو الازدواج نتائج منها: أن الإنسان عمل على اقتباس معاني العالم اللامرئي ونسبها إلى العالم المرئي وأولها "التسيد" أو السيادة، التي ترجع في أصلها الغيبي إلى معنى "الجلالة"، فآل ذلك في رأيه إلى التسلط وتأليه الإنسان: "متعبدا لنفسه فضلا عن تعبيده لغيره". (ص، 31-32)

ومنها أن الإنسان يعيش في العالمين في آن واحد؛ إذ يمكن أن يعيش بروحه في عوالم الغيب المتعددة ويسميه "تواجدا"، كما يعيش بروحه وبدنه في العالم المادي والمرئي ويسميه "انوجادا"، فالإنسان كما يقول: "بمقدوره أن يحيا كلا الحياتين في ذات الوقت (...) منوجدا في العالم المرئي، ومتواجدا في العالم غير المرئي (...) يقيم في الأول بجسمه مزدوجا بروحه" و "يعرج إلى الثاني بروحه وحدها". (ص، 63)

ومنها أن "المنوجد" الذي يأخذ ب "التدبير السياسي"، نظرا لارتباطه التكويني بالغيب، يجد نفسه، بوعي أو بغير وعي، يمارس ما يسميه "التغييب" (ص، 46)؛ إذ يقتبس معاني عالم الغيب فيضفيها على أفعاله "السياسية"، وأحيانا على شخصه وذاته نفسها، فالسياسي، يقول طه، يستمد: "حبه للتسيد من نفسه التي تكونت في عالم الشهادة" ناقلا "معاني التعبد من مجالها الروحي إلى مجاله النفسي (...) مقيما نفسه مقام الذي يتعبد له". (ص، 94)

أخذته هذه الرؤية إلى التعقيب على أغلب المشارع الفكرية الحديثة، التي علمت على معالجة مشكلة السلطة/ التسلط، وهي جميعها تؤسس على فصل الدين عن السياسة، والتعقيب أيضا على جميع تيارات الإسلام السياسي المعاصرة التي تقول بالوصل بين الدين والسياسة. فبدا طه في هذا المقام كأنه يؤسس لرأي "جديد" في الموضوع، لكنه، وكما سيتضح، سيعيد انتاج ذات "السلطة" السلفية المسماة "بالخلافة".

مهد نقده مؤكدا أن العمل السياسي يتداخل فيه البرهان بالوجدان والسلطة؛ بمعنى أنه ذو طبيعة مزدوجة (ص، 133) والوجدانية (النفسية)، والسلطوية (القوة والنزاع) أرسخ فيه من البرهانية، ليصل إلى النتيجة التي يريد وهي فشل تلك المشاريع في معالجة المشكل في الحياة البشرية. ترجع أصول النزاع السياسي إلى ثلاثة وهي: التعادي والتخاصم والتناقش.

يقول بالأول الألماني كارل سميت؛ إذ يرى أن فعل السياسة يقوم على التقابل بين الصديق والعدو، وهو تقابل لا تحله قواعد مقررة سلفا، ولا ينفع معه تحكيم طرف ثالث نزيه. ووجد طه في هذا التقابل بغيته فهو يؤكد أن: "التغييب السياسي يتأسس على المقابلة بين الرب والعبد". (ص، 142) بينما ترى المنظرة البلجيكية شانتال موف أن الصراع السياسي يتأسس على التخاصم، وليس على التعادي. فكل واحد من الناس هو خصم مشروع يتعذر التوفيق بين مطالبهما، يشارك خصمه في العمل بمبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية. وما دام أن التخاصم خلاف لا يزول، فلا مفر من التسليم بالفروق والتعايش في ظل التنازع. (ص، 144-145)

وثمن رأي موف عندما حددت أصل النزاع في الطبيعة المزدوجة للاجتماع الإنساني، وانتباهها إلى العامل الوجداني المتمثل في الأهواء التي يتعين ترويضها وتوجيهها لكي تخدم المؤسسات. وانتقد رأيها بأنها لم تنتبه إلى أن: "الازدواج يتعلق بالتكوين النفسي للفرد، وليس بالتكوين البنيوي للمجتمع".(ص، 146) وأيضا في وضع الحدود بين القيم التي تقبل التنازع والتي لا تقبله، هل توضع بصورة تقريرية (الهوى)، أو تدليلية (القعل) أو تقليدية (الخبر)؟، حيث أخذت بالأولى التي تتيح اختيار قيم على أخرى وتفضيلها، ويرى أن وراء هذا التفضيل تدليل أو خبر، الذي يحكم الحداثيون ببطلانه (ص، 149) ويرى ان الخبر فيه حق "تقارنه شهادة لا توجد في الدليل"، و فيه خبر باطل مثله مثل الدليل الفاسد، وانتهى إلى أن القيم، وهي من باب الواجب، ليست وقائع فيكون مصدرها "الخبر" وليس الوجود: "فيكون الأصل في وضع هذه الحدود هو العمل بالخبر الصحيح". (ص، 150-151) فوضع الحدود لإدارة الصراع إما أنها مقتبسة من الدين، او بالقياس على حدوده(ص،151)

وعقب على المناقشة التي يقول بها يورغن هابرماس، الذي أسس نظريته في الديمقراطية التحاورية على "أخلاقيات الخطاب" أو ما سماه "العقل التواصلي"، تجاوزا منه لقعل الذات المفكرة عند ديكارت، وعقل الذات الباطنة لدى كانط، وتجاوزا أيضا للعقل التوسلي أو الأداتي، حيث استبدلها بذوات "متواصلة بواسطة اللغة"، واستبدال النجاح لدى الأداتي "بالتفاهم الذي يدعو إليه اختلاف أشكال الحياة لدى المواطنين". (ص، 153-154)

ونبه في بداية تعقيبه على رأي هابرماس، إلى أن "التعالق" الذي هو أصل العمل السياسي تعبر عنه في العربية صيغ المفاعلة مثل: التواصل، والتعاقل، والتوافق، والتذاوت(...) ويرى أنه هو أصل كذلك في تكوين الذوات، فالفرد لا يتعرف على تفرده إلا بواسطة "التعارف" وبالتواصل تتحدد هويته. وبالتالي فالعقل "ليس محله الذات المنفردة، وإنما محله في الحقيقة، هو علاقات التواصل بين الذوات المختلفة".

عقب بأن التعالق نفسي لا روحي قائم على التنافس على النسبة، هدفه "ليس تحصيل التفاهم عن طريق الخطاب، وإنما تحصيل التقاسم عن طريق الحساب". (ص، 159) وبالتالي فالتعالق السياسي تناسب لا تعاقل، فجعل "النسبة" محل "العقل" عند هابرماس لأنهما يفيدان معا معنى "الربط" ف: "النسبة ربط الأشياء بالذات، والعقل ربط الأشياء بعضها ببعض". (ص، 159) وبنى عليه أن تواصل النسبة تواصل سلطة وتواصل وجداني، لأن السلطة والوجدان أكثر تغلغلا في الفعل السياسي من العقل كما سبق أن قرر. (ص، 160)

وما دام أن النسبة "لا تسعى (...) إلى التفاهم المؤدي إلى الاجماع، وإنما إلى التقاسم المؤدي إلى الاشباع". (ص،161) وأن النفس لا تفتر من نسبة كل شيء لها فلا مفر من العمل على مجاهدة هذه النفس، وخلص إلى أن البرهان مهما تقيد "بأمثل الشروط الخطابية، فلا يستطيع أن ينزع ميل الأنا إلى تفضيل نفسها بالمنسوب" والذي يستطيع "نزع هذا الميل هو التحويل الوجداني لبنيتها". (ص، 162)

ويخلص إلى أن الشهادة" أفضل من الاستدلال الذي يقيم عليه هابرماس التواصل؛ إذ يشهد المتكلم بما علم وأن عليه واجب الصدق فيه، وأنها أوثق صلة بالمناقشة (...): "فإذا أشرب قلب المناقش بهذه القيم: احترام الغير بل واجب تقديمه على احترام الذات (..) لا محالة اتجه إلى قطع الأسباب التي تولد الطغيان في مؤسسات النظام الديمقراطي" مدعيا أن معنى الحرية ليس احترام القانون، ولا الحرية السياسية: "وإنما هي في تحقق الإنسان بأنه محدود بالطبع". (ص، 1710-171)

ولا يبدو أن الشهادة الطهوية تختلف عن الأساس "النفسي"، فقد يشهد الإنسان ظاهرا، وهو على يقين بأن الواقع خلاف ما يشهد به، فلا يعول عليها في المجال السياسي، والدليل على مثاليتها أو لنقل فردانيتها قوله: "والحق أنه لا يرقى إلى هذه الرتبة إلا من قطع أشواطا في رياضة نفسه على التجرد من أغراضه والإخلاص في نقاشه والالتحام بدعواه، ولا يبالي بالظهور على الخصم بقدر ما يبالي بظهور الحق". (ص، 172)

وكما ظهر أنه يمهد لشرعنة التصوف الطرقي بديلا، وقف عند مفهومين تتأسس عليهما الديمقراطية التواصلية؛ أولهما "إرادة الشعب"، والثاني "قاعدة الأغلبية"، مدعيا أن الديمقراطية ترفع الأول إلى "مقام إرادة الله"، والثاني “إلى مقام الحكم الإلهي"، لماذا؟ لأن الأول يفيد أن الشعب هو من "يضع قانونه بنفسه"، ولأن الثاني يورث المشروعية، مما يجعل الإنسان في غنى عن الآخر في التشريع لنفسه واكتساب المشروعية لعمله السياسي. (ص،176-177)

يرى طه أن الفاعل السياسي مهما تفانى في خدمة الصالح العام، لا يتخلص من الباعث على التسيد على الناس، وأن "التدبير الديني" هو وحده ما يستطيع ذلك. ولا تمكن من التخلص منه أرقى أشكال القول المعروفة كالحوار الديمقراطي، والحوار الذي يسود "مجال التحليل النفسي". يذهب إلى أن النظام الديمقراطي، رغم المبادئ التي يأخذ بها للحد من التسلط (فصل السلطات، الانتخابات، تعدد الأحزاب، حق الاعتراض)، فإنه لا يرقى بالحوار إلى مستوى النقاش حول بواعث السلطة لدى الفاعل السياسي، المتجذرة في النفس البشرية. (ص، 254-255)

ويرجع ذلك في نظره إلى فصل السياسة عن الأخلاق (ميكياقيلي)، وفصل العام عن الخاص، أي فصل الاجتماع والسياسة والاقتصاد عن الفرد والأخلاق والعقائد. وخلص إلى أن الآليات الموضوعة لمراقبة السلطة لا تجدي ما لم: "تعالج الأسباب الخفية التي تضرب بجذورها في النفس البشرية". (ص،256)

ولا يختلف وضع التحليل النفسي، فرغم منجزاته في مجال اكتشاف البنية النفسية، وخاصة في مجال اللاشعور، حيث ركز: "على علاقة التسيد في صورها الأولى" فيقابل الإنسان كل طور حياتي بصورة التسيد التي يواجهها (سلطة الأم، سلطة الأب) أي أنه بحث عن أسباب التسيد عامة في خفايا النفس وليس في المظاهر الخارجية. (ص،258) فإنه يرجعها إلى "كبت الدوافع"، بينما يرى طه أنها ترجع إلى "نسبة الأشياء" إلى الذات.

ووجد في تعقيب المحلل النفسي الفرنسي، على فرويد بأن النفس "في غاية التعقيد والخفاء"، وأن مفاهيم التحليل لا تكشف عن حقيقتها، ما يؤيد رأيه فاستخلص منه أن كورنيلوس: "استشعر وجود حياة باطنية أخرى متميزة عن تلك التي اصطلح عليها باسم "الحياة النفسية"" هي "التي أطلقنا عليها اسم "الروح"، وقابلنا بينها وبين النفس، وجعلنا قوامها الفطرة" عملا بأن الإنسان "مزدوج البنية" الداخلية، وليس متوحدها كما يرى التحليل النفسي. (ص، 260) ولا يتأتى الخروج من التسيد إلا بالخروج من النفس: "إلى حقيقة وجودية تعلو عليها وتسد مسدها في تحديد ماهية الإنسان" وهي الروح، وذلك عن طريق "فعل "مشخص"، ويقصد به التصوف الطرقي، الذي هو عمل يتعدى حصر علاقة الإنسان بالعالم المرئي إلى العالم الغيبي. (ص، 264)

تسليم طه عبد الرحمن بإمكانية اتصال الإنسان بالغيب بآلة الابصار الروحية التي يسميها "الاستبصار"، أوقعه في تفضيل الروح ومعارفها الغيبية، على آليات البصر (الرؤية) والعقل (الاستدلال) ومعارفهما، ورغم اقراره أنها تتبادل التأثير: "إلا أن تأثير الأعلى عبارة عن تزكية، وتأثير الأدنى عبارة عن تدسية"، و "التدسية" تعني اصطلاحا الإفساد في مقابل التزكية التي تتعني الإصلاح. (ص،282-277 على التوالي)

ويمهد بذلك لتمرير قضايا معرفية، يصنفها الفكر العرفاني القديم ضمن "معارف خاصة الخاصة" التي قد تخالف العقول البشرية الطبيعية؛ وقرر في هذا السياق أن "الشهود الروحي" بالنسبة للنظر العقلي، مثل "النظر العقلي بالنسبة للنظر الحسي، فقد يرى المرء بعقله ما لا يراه بصره، فيحكم بما قد يخالف ما يبصره؛ ولا يدعو ذلك إلى الاستغراب من حكمه أو الشك فيه، ولا بالأولى القدح في عقله (...) فكذلك إذا رأى المرء بروحه ما لا يراه عقله وأخبر بما قد يخالف ما يعقل، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلى استهجان خبره أو الارتياب فيه ولا، بالأحرى الطعن في روحه، بل قد يدل على صدق خبره وقوة روحه". (ص، 282)

ما ينبغي الانتباه إليه هنا؛ هو أن المعرفة الصوفية في نظره تحمل "خبرا"، أي "وحيا"، لهذا صنفها العرفاء ضمن المعارف "الخاصة"، بينما يعمل طه على تعميمها، رغم اقراره بأنها محصلة بغير الطرق المشتركة وهي الحس والعقل. ثم كيف يصح وجود خلاف بين معرفة الروح ومعرفة العقل؟ أليس العقل أيضا فطري في الإنسان؟ لماذا لا يكون تفاعل قوى المعرفة الثلاث إيجابيا، أي في الاتجاهين معا، وليس في اتجاه واحد كما يدعي طه؟ وهو الذي تؤثر فيه الروح في العقل، والعقل في الحس، بينما يكون تأثير الاتجاه الآخر "إفسادا" كيف يكون "الاخبار بما قد يخالف ما يعقل" اصلاحا للعقل؟ أليس هو إلغاء للعقل؟ وفرض ما لا يعقله عليه؟ وليس هذا بغريب إذ يقر طه أن "حال الشهود": "تفارق العقل الشائع" لأن: "المتزكي أصبح يجمع بين النقيضين؛ إذ فعله غير فعله ووصفه غير وصفه، بل ذاته غير ذاته، بل صار هو غير هو". ويصل إلى أن بلوغ التناقض هو ثمرة عمل يجدد العقل، والعقل الذي يحكم به ليس: "إلا أدنى رتب العقل". (ص، 288)

ويعكس توجه طه إلى "تعميم" ما طبيعته التفريد، أيديولوجية أعماله، من شواهدها ما يسميه "المقاومة الوجدانية"، التي ليست مقاومة قوة(سلطة)، ولا مقاومة برهان(قول) لأن مسعاهما "التسيد على الخلق"، بينما هدف الأولى "التعبد"، ولهذا تختلف عن كل أشكال التغيير والاستيلاء على السلطة بالقوة (الثورة، والتمرد، والانقلاب)، فغايتها محاربة ظلم النفس المتجلي في: "تحدي حدود الله". (ص، 290-291)

تتخذ المقاومة الصوفية لدى طه صورة "الازعاج"، ويختلف عن الارباك؛ إذ "لا يثير اضطرابا مؤذيا، ولا يعكر أمنا حقا". هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 296-298) لا يستعمل العمل الازعاجي العنف المادي، ولا العنف القولي (الانتخاب)، فهو "يتبرأ من كلا العنفين"، ويستعمل طرقا مختلفة منها: الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299)

ذلك لأن الازعاج "لا يهمه الحكام ولا الدولة بقدر ما يهمه المحكومون أو المجتمع" (ص، 302) ولهذا فإن الزوايا، التي يدعو الدولة إلى أن تفسح لها المجال، لا تشكل خطرا على الدولة لأنها "لا تنشغل بأسباب التمكن والتسيد على الخلق، وإنما بأسباب التخلق والتعبد للحق (...) فلا يلحقها من هذه الفضاءات المستقلة إلا مزيد القوة". (ص، 306) والزوايا بالنسبة للدولة: "بمنزلة الرئة التي تزودها بنقي الهواء الذي يجدد دورتها التدبيرية". (ص، 311)

وأخذه التحليل الازعاجي إلى افراغ "الجهاد" المقدس من العنف المشبع به فقال إن ما يكابده المجاهد المضحي بحياته: "مرة واحدة يكابده الزاعج عدد مشهوداته؛ فإذا كان الأول لا يغيب عن العالم المرئي الا بسفك دمه، فإن الثاني يغيب عنه كل مرة يشهد فيها الحق بروحه". (ص، 313-314) ويلخص دور الزاوية في اعداد المجتمع: "حتى يستطيع أن يمد الدولة بالطاقات التي تجدد تدبيرها". (ص، 314)

فرضت الأيديولوجيا على طه عبد الرحمن نقد الإسلام السياسي، الذي صرح في بداية أعماله أنه اشتغل عليها لتكون سندا فكريا له، ويكشف نقده هذا التباسا لا يتسع المقام لابرازه، خاصة أنه يدخل في هذا النقد "تسييس الدين" الدي تمارسه الدولة نفسها، التي يوظف التصوف الطرقي لخدمتها وتقويتها.

ويبدو من الزاوية المنطقية، أن قوله بأسبقية "التدبير التعبدي"، على القول بالفصل الذي تأخذ به العلمانية، والوصل الذي يقول به الإسلام السياسي، يجعل نقده منسجما مع تلك المقدمة؛ إلا أن ما سبق (تقديم السند الفكري، خدمة الدولة وتقويتها، التسيد على المجتمع) يعترض هذا الاستنتاج، مما يبيح استخلاص أن غاية النقد، ربما هي محاولة افراغ العمل الأصولي من ايديولوجته السياسية في صورتيها: "تسييس الدين" الذي تمارسه الدولة، و"تديين السياسة" الذي تقوم به الحركات الأصولية. في اتجاه أن تفوض الدولة للزاوية "التدبير الروحي" للمجتمع، وتحويل العمل الحركي الأصولي إلى زوايا تتنافس ذلك التدبير.

صنف طه تيارات الإسلام السياسي تحت اسم "الديانيون"، لأنهم يتفقون جميعا في القول بوصل الدين بالسياسة، مع اختلافهم في التشخيص؛ فالدولة تشخص "الوصل" في "التسييس"؛ إذ تجعل الدين جزءا من سياستها للمجتمع. وتشخصه الأحزاب الأصولية في "التديين"؛ إذ تجعل السياسة جزءا من الدين، مع اختلافها حول الكيفية التي تصبح فيها السياسة جزءا من الدين. فبعضها أخذ آليات التدبير من العلمانية، لغيابها في "الدين" (اتفق معها في السبب وانتقدها في النتيجة). فرغم اعترافه بما تبرر به اقتباس الآليات؛ إذ لم يسطر الإسلام: "نظام تدبير بعينه، وجاء به أمرا جمليا غير مفصل" (ص،343) انتقدها بأنها تثير الشبهات في وجه الإسلام، باقتباسها الآليات التدبيرية العلمانية مخالفين: "إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين". (ص، 337)

وبعضها؛ وهم القائلون "بالحاكمية"، ينسبون التسيد لله بقولهم ذاك، لكنهم في الممارسة والتطبيق يقعون في "الانتحال"؛ انتحال التسيد أو التدبير الإلهي؛ إذ يمارسون بأنفسهم "التسيد" على الناس باسم الإله (ص، 373) (يتفق معهم في الشعار ويختلف معهم في الممارسة والتطبيق) يقول عن الصوفي هو: "التحكيمي الذي انتقل من رتبة الذي أخبر بالأوامر (...) إلى رتبة الذي أشهد حقائق من وراءها وأشهد عليها". (ص، 383-384)، و يقول: "لا يقول بالحاكمية لله إلا من يشاهد الحق في الخلق" مشاهدة لا تتأتى إلا "للتمزكي" ، وليس لأهل العقل المجرد ولا لأهل العقل المسدد. (ص، 396)

. وآخرهم؛ وهم القائلون "بولاية الفقيه" من الشيعة، ويسميهم "أهل التفقيه"، لأنهم أخذوا بالمعنى الاصطلاحي "للفقه"، وهو معنى متأخر ومختلف عما كانت تعنيه الكلمة قبل ذلك (اتفق معهم في شكل المفهوم واختلف معهم في المضمون والمحتوى). فبدل ذلك قال "بفقه القلب" و "فقيه القلب"، وقرر أن: "الفقيه الصناعي لا يستحق أن يكون نائبا حقيقيا عن الواحد من أئمة آل البيت الأطهار حتى ولو روى حديثهم وسننهم وعرف أحكامهم"، و: لأن "النيابة عن الإمام المهدي تقتضي النهوض بواجب التزكية" التي هي "فرض عين" وليس بالفقه الصناعي. (ص، 424-425) وينتهي إلى أن الفقيه الحي أحق بالولاية العامة من الفقيه الصناعي". (ص، 435) يبدو أن طه عمل على سحب بساط "الدين" أو التديين من الإسلام السياسي بجميع تياراته. مجاراة منه لطروحاته وهو ما يتجلى، فضلا عن كل ما سبق، في حديثه عن مقاومة خاصة بالصوفية للتسيد يسميها "بالمقاومة الوجدانية"، وهي بديل عن كل أشكال التغيير المعهودة من ثورة وتمرد وانقلاب وانتخابات، وتتخذ عنده صورة "الازعاج". وهو ازعاج: "لا يثير اضطرابا مؤذيا ولا يعكر أمنا حقا" هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 297)

يستعمل الازعاج، في مقابل العنف المادي، والعنف القولي (الانتخابات)، الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299) لا يهمه الحكام أو الدولة. وهمه المجتمع والفراد. ينتهي طه بعد طول تجواله في ايهام القارئ بأنه يقدم مشروعا في دفع التسيد والتسلط إلى إقرار "نظام الخلافة" نموذجا “للتدبير الإسلامي بامتياز". (ص، 361)، وذلك بعدما أكد أن تقسيمه التدبير إلى "تدبير تعبدي" و "تدبير سياسي" يتفق مع تعريف ابن خلدون "للخلافة" و "الملك". (ص، 323) لكنه استدرك على تعريف ابن خلدون والماوردي للخلافة بأنها: "حراسة الدين وسياسة الدنيا" فقال: "وعندنا أن هذا التقابل بين الدين والدنيا لا يصح" لأن تدبير الدنيا بقوانين منزلة هو: "عبارة عن تدبير تعبدي للدنيا". (ص، 344)

وغفل طه في استدراكه أن التعريف الموروث للخلافة مؤسس على وصف حقيقي للسلطة في الإسلام، حيث جمعت بين الوظيفة التي يسميها "التدبير التعبدي" (حراسة الدين)، وبين ما يسميه "التدبير السياسي" الذي اعتمدت فيه على نوعين من التدابير؛ أولاهما "القوانين" المقتبسة من التراث السياسي لدى الاغريق والفرس والرومان، ثانيها القرارات التي يتخذها الخليفة نفسه وبمساعدة حاشيته. ويعني هذا أنها سلطة لم تكن تعتمد "التدبير التعبدي" وحده كما يزعم. فهل استطاع المقترح "السياسي" الصوفي الطرقي لطه عبد الرحمن دفع التسيد فعلا؟ الإجابة في عهدة القارئ.

***

حسن العلوي – كاتب مغربي

لا يظنن كل من كتب مقالة في جريدة، أو شارك في حوار متلفز، أو حظي بعضوية حزب سياسي، أو تمتع بحضوة تنظيم ديني، أو تقلد منصب حكومي رفيع، أو حاز على شهادة جامعية، انه بات محسوبا"على رهط المثقفين وانه أضحى بذلك ينتمي لعالمهم الاعتباري الخاص . ذلك لأن المعايير والشروط المؤسسة التي يتحدد بموجبها استحقاق الفوز بهذا اللقب قد لا تنطبق على كل أو بعض ممن أتينا على إيراد ذكرهم، من منطلق إن الثقافة هي بالأساس جديلة أو سبيكة من المكابدات الوطنية والأخلاقية والمعرفية والحضارية والإنسانية، التي من دون حيازتها جميعا"لا يحق لأحد ادعاء تمثيلها والزعم بحمل رسالتها والتنطع للتحدث باسمها . ولعل هذا الأمر يفسّر لنا ليس فقط قلة / شحة وجود مثقفين حقيقيين يحتلون الواجهات الأمامية للساحة الثقافية العراقية ويشيعون خطاباتهم العقلانية في رحابها فحسب، وإنما يعكس تراجع مؤشرات حضورهم السياسي وتدني مستويات تأثيرهم الاجتماعي كذلك .

وبضوء ذلك قد يتساءل البعض؛ إذا كانت تلك المعايير والشروط هي ما يميّز المثقف عن سائر أقرانه من أعضاء المجتمع (الفاعلين الاجتماعيين)، فلماذا إذن يعاني – وهو المتسلح بكل تلك العدة النوعية - غياب الدور وتعطل الوظيفة وانعدام التأثير، في الوقت الذي ينخرط وينشط أشباه المثقفين ومدعي الثقافة على أكثر من صعيد وفي أكثر من جبهة؟! . في الواقع لو تمعنا جيدا"في هذا الأمر لأدركنا إن هذه الحالة / الوضعية لا يمكن أن تكون إلاّ على هذا النحو الشائه والمنحرف، طالما إن المجتمع الذي ينتمون اليه ويحملون وشم هويته يعاني لوثة الاستقطاب الأصولي بين جماعاته والاحتراب السياسي بين مكوناته على أسس من الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، لاسيما وان الخاصية الجوهرية لخطاب المثقف هي ما يجعله عابر لتلك الانتماءات ومتخطي لتلك الولاءات .

وعلى هذا الأساس يبدو إن خطاب المثقف العراقي الحقيقي عالق بين شقي رحى؛ (مؤسسات) قائمة على مظاهر الفساد والفوضى حيث النهب والسلب والتخريب من جهة، و(جماعات) لا تزال ممهور بدمغة القبيلة والطائفة والعرق والمنطقة . الأمر الذي يحول دون أن يكون له صدى في أروقة (دولة) فقدت شرعيتها الوطنية وتخلت عن سلطتها السيادية من جانب، وكيان مجتمع أضاع وحدة مشتركاته الوطنية والتاريخية والانسانية من جانب ثان . وهنا يبدو خطاب المثقف وكأنه يغرد خارج اسراب الحشود ويعوم ضد التيارات السائدة !، للحدّ الذي يجعل دوره الاجتماعي نافلا"ووظيفته التنويرية بلا معنى .

وإذا كان الحال – كما يبدو - سيبقى على ما هو عليه على المدى المنظور في الأقل ؛ فهل يبقى هناك أمل بالخروج من هذا الخانق التاريخي المعقد، والخلاص من هذا المأزق الحضاري المستعصي، خصوصا"وأن كل المعطيات والمؤشرات توحي بان لا جديد يلوح في أفق الثقافة العراقية، التي لا تفتأ مظاهر الجهل والعدمية تكبل عناصرها الحية وتعطل قدراتها الفاعلة؟ . ففي كل الأحوال، ليس هناك من خيار آخر أمام الفاعل الثقافي (المثقف) الحقيقي يمكنه التعويل عليه، سوى الرهان على مكتسبات الحفر العميق في طمى الوعي الراكدة للجماعات المستقطبة، والتنقيب بين أخاديد الذاكرة المجيشة للمكونات المتعصبة . حيث يستطيع الكشف عن خرافات أصولها المختلقة، وإماطة اللثام عن أساطير تاريخها الملفقة، على أمل حمل الكيانات والمكونات والجماعات المتكارهة والمتصارعة، لاعادة النظر في أساطير تاريخها وخرافات سردياتها التي كانت – وستكون السبب وراء كل مآسي هذا البلد المستباح ومعاناة أفراده وجماعاته المكبلين باصفاد العبودية السياسية والأمية الثقافية والايديولوجية الدينية .

***

ثامر عباس

الرسول (ص) ومبدأ الشفاعة:

أستَشفعَ: طلب الناصرَ، والشفاعة هي ألتماس العفو أو التخفيف من العقوبة عن الغير، وعندما نقول تشفع فلان بصديقه، يعني توسل به ووسطه لقضاء حاجته . يتبين من هذه المعاني، أن الشفاعة وسيلة يستعين بها الآنسان لقضاء حاجة أو دفع ضرر، أو جلب منفعة لايستطيع هو بنفسه قضاءها، الا بواسطة من غيره.

الانسان كائن يمكن أن ينتابه القصور في تحقيق ما يربو له، ويعجز أحياناً في دفع ضرر يعترضه في حياته، فيستنجد بوالديه أو أصدقائه، وأحياناً عندما يضيق به الوسع يسعى الى مناجات الغريب في قضاء حاجة ضرورية وملحة له . الشفاعة بكل مظاهرها التي ذكرناه أعلاه وارده جداً في حياتنا الدنيا، والتي تأخذ صفة المساعدة والمعاونة في الأمور ذات الطابع الأنساني، وهذا بالطبع ذو طابع أيجابي، ولكن هناك تشفع ذو طابع سلبي، والذي يُعرف بالمحسوبية والمنسوبية، والمتعارف عليه اليوم ب (الواسطة)، ولكن موضوعنا في هذه الحلقة يتناول جانب آخر لا علاقة له بالحياة الدنيا، بل جانب ما بعد الموت، وهو جانب يأخذ أهتمام الذين يؤمنون بحياة مابعد الموت، ومن هؤلاء قطعاً المسلمون، وهو جانب يلعب دوراً مهماً وحساساً في حياة الانسان، وله أنعكاسة على حياته في هذه الدنيا بأعتبار أن الدنيا مزرعة الآخرة كما يُقال، وأن طبيعة عملك بها يقرر مقدار منزلتك في الآخرة، وبما ان الأنسان خَطاء، فقد يتعثر في مسيرته الدنيوية بأخطاء متعمدة، وأخرى غير متعمدة، وبما أنه حريص على النجاح والفلاح في الآخرة، تراه يبحث عن الوسيلة التي ترفع عنه ما أقترفت يداه من خطايا وذنوب تزيد من وقوفه أمام خالقه يوم القيامة، وأن ثَقُلت كفة ميزان سيئاته يكون مصيره جهنم، والعكس ينتهي به الى جنة النعيم . بما أن الأسلام دين سماوي، فهو ممن يوعد أتباعة بالجنة مقابل مايقدمونه من خير في الحياة الدنيا، ويحذرهم من نار جهنم أن أساءوا عملاً، وهنا يكون المؤمن بهذا الدين حريص أن يكون من أصحاب النعيم، وتراه يسعى بكل الوسائل التي تحقق له مراده لهذه الغاية السعيدة، وأول هذه الوسائل لاشك هو العمل الصالح (..ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مُؤمن فُأُولئِك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حِساب)(غافر:40)، وكما قلنا فأن ولد آدم خطائون فهم لا يتوانون في البحث عن الوسيلة التي تقلل عنهم أخطائهم، التي تمنعهم من تحقيق مرادهم في جنة الخلد التي أُعدت للمؤمنين.

شفاعة الرسول:

من الأمور التي يستعين بها المسلمون للفلاح برضا الله هو شفاعة رسولهم لهم يوم الورود (القيامة)، وهذه الشفاعة لاشك لها قيود وشروط، وعندما تتوفر شروطها يشملهم عَطاءُها، والأيمان بحصول الشفاعة يعطيهم دفق جديد وقوي لأستأناف حياة جديدة قائمة على أساس تغير عميق في حياة الأنسان، يدخله في طور جديد مختلف عن الطور الأول الذي ألتمس الشفاعة من الرسول الأكرم أو من غيره من الصالحين ليكون فرداً صالحاً يبدأ حياته بمشوار جديد يرضى به الله.

في الأسلام قاعدة واضحة تقول ( كل نفس بما كسبت رهينة)(المدثر:38) أي أن عمل الأنسان هو الأساس في تقرير مصيره، ولكن رحمة الله، وكعامل مشجع له في عمل الخير، جعل له وسائل أخرى مساعدة تساهم في عملية التغير الأيجابي، والرسول (ص) كشخصية لها كرامتها عند الله، يمكنه، أو له الصلاحية المقيدة في ما يُسمى بالشفاعة، يقول الحديث النبوي (أنا أول شافع في الجنة).

هنا نأتي الى قضية شفاعة الرسول، وهل هي حره أم مُقيدة؟، هناك آيات في القرآن الكريم تتراوح فيها الشفاعة بين التقيد التام بيد الله، كما في الآية (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم)(ال عمران:128)، وحتى الله يخبر الرسول بأن ينبئ المسلمين بأنه هو نفسه لا يملك لها نفعاً ولا ضراً (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ألا ما شاء الله)(الأعراف:188)، وهناك نص يقول أن النبي صارح بنته فاطمة الزهراء (ع) وكل آقاربه من عبد مناف، بقوله لهم جميعاً (أشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف أشتروا أنفسكم من الله، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، ياعباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ياصفية عَمَة رسول الله لا أَغني عنكِ من الله شيئاً، يافاطمة بنت محمد سليني من مالي ماشئتي لا أُغني عنك من الله شيئاً(صحيح الجامع) كما أخرجه مسلم والبخاري، وبين أطلاق للشفاعة مقيد كما جاء في بعض من الآيات القرآنية (يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أَذِنَ له الرحمن ورَضي له قولاً)(طه:109) و(لايشفعون الا لمن أرتضى) (الأنبياء:28) . يتضح من خلال ذلك أن الشفاعة يتردد ذكرها بين النفي المطلق والأثبات المقيد. وفيما يلي آيات من الذكر الحكيم تؤكد ذلك:

(وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم يُبصرون)(البقرة:48)

(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)(البقرة:254)

(فما تنفعهم شفاعة الشافعين)(المدثر:48)

(وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:51)

(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع) (:الأنعام:70) (الأنعام(،4)

(..ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (:الأنعام:51)

(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)(يونس:18)

(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (المنافقون:6)

( أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)(التوبة:80)

(فما لنا من شافعين)(الشعراء:100)

(الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم أستوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون)(الزمر:44)

(وأنذرهم يوم الأزفة اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع)(غافر:18)

( لا يملك الذين يَعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون)(الزخرف:86)

كما أن هنك آيات تظهر الشفاعة بها مقيدة، ومنها الآيات التالية:

(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)(النجم:26)

(يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن أرتضى..)(الأنبياء:28)

(ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أَذن له حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا...)(سبأ:23)

(يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذِن له الرحمن ورضَي له قَولاً)(طه:109)

(من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مُّقيتاً)(النساء:85)

(... من ذا الذي يشفع عنده اِلا بأذنه ...) (البقرة:255)

(ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش يدير الأمر ما من شفيع الا من بعد اذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)(يونس:3)

(لايملكون الشفاعة الا من اذِنَ له الرحمن ورضي له قولا)(طه:109)

(لايملكون الشفاعة الا من أتخذ عند الرحمان عهدا)(مريم:87)

يتضح لنا وبشكل جلي بأن مسألة الشفاعة تكون حصراً بأرادة الله، ولكن وبفضل الله لعباده من الملائكة والأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين من عباده شملهم بهذه الخصلة أكراماً ووجاهةً لهم لما قدموه من جهاد وعمل صالح، وما تحلوا به من أيمان الى درجة الأندكاك بالذات الألهية، ولكن هذه الصلاحية تبقى مقيدة برضى الله (لايشفعون الا لمن أرتضى)، فالمحصلة النهائية في مسألة الشفاعة تنتهي الى الله (قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون (الزمر:44).

من المهم الأشارة الى بعض الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل تام ومطلق، وهي تعني بمن يتشفع بالأوثان، وهذا ما كان يدعيه العرب في زمن الجاهلية (أم اتخذوا من دون الله شُفعاء قل أَولو كانوا لايملكون شيئاً ولايعقلون)(الزمر:43).

أن الفهم الغير صحيح لمبدأ الشفاعة يفتح الباب واسعاً لمن يسعى لأقتراف الموبقات من الأفعال، وترك الفرائض بدعوى الشفاعة، فالشفاعة بهذا المفهوم تكون مخدرة، وسبب مباشر لسد باب أصلاح المجتمع والفرد لأنها تخلق حالة من الأتكالية، والتمادي في السلوك السيء. بالحقيقة ليس هناك شفاعة بالمجان في الأسلام لأن من شروط الشفاعة فيه محكومة بالعزم على التغير والتحول من المسار الخاطيء الى المسار الصالح، والتصميم على عدم العودة لما تاب عنه من سلوكيات سيئة، فالشفاعة لا تتحقق بالأعمال المزيفة، والوسائل المعوجة، والطرق المشبوهة والملتوية، لسبب بسيط وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المُقيم والناظر لهذه الأعمال، وفي الأسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، ومن يُغري الناس بأتباع طرق عقيمة للشفاعة فهو مساهم بأنحراف المجتمع، ويدفع الى تدميره، ويضع العصى في دولاب أصلاحه، بل الشفاعة هدفها الأساسي عدم اليأس وأعطاء فرصة للفرد للمراجعة، وتقيم ما يصدر منه من أفعال، وأغراءه بالرجوع الى جادة الصواب، ودخول دائرة التقوى (وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:70).

***

أياد الزهيري

قَبْلَ هُبُوبِ الْعَاصِفَةِ يُطْلِقُ الْمُثَقَّفُ صَرَخَاتٍ عَنْ قُدُومِ الْعَاصِفَةِ وَرِيَاحٍ عَاتِيَةً سَوْفَ تَعْصِفُ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، بِدُوَلٍ هَشَّةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، نَتِيجَةَ تَدَاعِيَاتِ أَزَمَاتٍ اقْتِصَادِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ، وَوَضْعٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ أَمْنِيًّا فِي الْعَالَمِ، وَهَذِهِ وَظِيفَتُهُ، وَإِذَا تَخَلِّيَ عَنْ الْمَشْهَدِ فَهَذِهِ خِيَانَةٌ ذَكَرَهَا الْكَاتِبُ الْإِنْجِلِيزِيُّ (جُولْيَانْ بِينْدَا) وَكَذَلِكَ "الدُّكْتُورُ إِدْوَارْدْ سَعِيدٍ "، فِي كِتَابَهِ خِيَانَةِ الْمُثَقَّفِيِّينَ وَشَرْحِهَا بِالنَّقْدِ الْفَيْلَسُوفِ الْفَرَنْسِيُّ "جُونْ بُولْ سَارْتَرْ "عَنْ خِيَانَةِ الْمُثَقَّفِيِّينَ، كَمَا تَعَلَّمَهَا بِالْفِطْرَةِ طَائِرُ الْبِطْرِيقِ

"الْأَوْهَامُ الْمُضِيئَةُ" \"إِطْلَاقُ صَرَخَاتٍ قَبْلَ هُبُوبِ الْعَاصِفَةِ، مُحَذِّرًا الصَّيَّادِينَ لِمُغَادَرَةِ السَّاحِلِ،

وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْمُثَقَّفِ لَيْسَ وَصْفَ خَرَابٍ قَادِمٍ بِسَبَبِ الْعَاصِفَةِ بَلْ التَّنْبِيهُ مِنْ قُدُومِهَا وَأَثَرِهَا...،

لَكِنْ لَا أَحَدَ يَسْمَعُ فِي الْقُصُورِ وَالْأَسْوَارِ الْخَلْفِيَّةِ... صُرَاخُ الْبِطْرِيقِ وَهُوَ يُحَذِّرُ مِنْ قُدُومِ الْعَاصِفَةِ،

إِذَا كَانَ الصَّيَّادُونَ سُكَارَى وَالسَّاحِلُ سَاكِنًا وَالْبَحْرُ صَامِتًا.

الْعَمَى لَيْسَ الظَّلَامَ الزَّائِلَ بَلْ الثِّقَةُ بِالْأَوْهَامِ الْمُضِيئَةِ الْمُزْمِنَةِ. الَّتِي نَعِيشُهَا نَتِيجَةَ إِرْثٍ قَدِيمٍ رَاسِخٍ فِي الْعَقْلِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ..،، لِلْأَنَّنَا مُجْتَمَعُ الْأَسَاطِيرِ وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْجَهْلِ الْمُدْقِعِ وَبَيْعُ الدَّمِ بِالْمَالِ: كَمَا يَحْدُثُ فِي "السُّودَانِ، وَالْيَمَنِ وَسُورْيَا وَلِيبِيا

وَالْعِرَاقُ وَلُبْنَانَ... إِلَخْ

تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الْفَيْلَسُوفَةِ الْكَبِيرَةِ:- "آرَنْدِيتْ": الْعَالَمُ الثَّالِثُ لَيْسَ شُعُوبًا،

بَلْ أَسَاطِيرَ وَأَيْدِيُولُوجِيَّاتٌ\".

نَحْنُ لَا نَحْتَاجُ قِرَاءَةَ الْأَسَاطِيرِ بَلْ نَعِيشُهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ الْمُحِيطِ إِلَى الْخَلِيجِ...!! نَعِيشُ مُنْعَطَفٌ تَارِيخِيٌّ خَطِيرٌ. تُرْفَعُ فِيهِ

السُّيُوفُ وَالْخُيُولُ وَالْمَعَارِكُ الْقَدِيمَةُ التَّارِيخِيَّةُ وَالْفُرْسَانِ وَالْخِطَابَاتِ وَالْقَتْلَى وَ... إِلَخْ

مَرْسُومَةٌ عَلَى جُدْرَانِ الْحِيطَانِ وَالْمَعَابِدِ كُتِبَ عَلَيْهَا \"فِي رِوَايَةِ الْعَبْقَرِيِّ الْكُولُومْبِيِّ مَارْكِيزْ\" أَعِيشُ أَنَا وَيَمُوتُ ضَحَايَايْ \"وَصَارَتْ هِيَ الْوَاقِعَ،

فِي حِينِ صَارَ الْوَاقِعُ الْحَقِيقِيُّ أُسْطُورَةً.

طَبَقَةٌ فَرَاغِيَّةٌ لَا تُنْتِجُ غَيْرَ الْعَطَبِ وَتَعِيشُ مُرَفَّهَةً عَلَى حِسَابِ الْآخَرِينَ .وَالتِّجَارَةِ بِالدَّمِ مَاذَا يَحْدُثُ فِي السُّودَانِ وَلِيبْيَا وَشَمَالِ سُورْيَا وَالْيَمَنِ أَلَيْسَتْ تِجَارَةً بِالدَّمِ الْعَرَبِيِّ...؟!

وَمَعَ كُلِّ الْأَحْدَاثِ تُطِلُّ عَلَيْنَا مِنْ شَاشَاتِ التَّلْفَزَةِ وُجُوهٌ شَاخَتْ\" مِنْ الشُّيُوخِ \ "الْمُتْرَفَةِ الْمُسْتَرْخِيَةِ الْمُتَرَهِّلَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً مِنْ صَالُونَاتِ الْكَوَافِيرِ، تَخْتَلِفُ عَنْ وُجُوهِ غَالِبِيَّةِ النَّاسِ مِنْ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ وَجُثَثٌ تَطُفُّوا عَلَى شَوَاطِئِ الْبِحَارِ هَرَبًا مِنْ الْحُرُوبِ وَمِنْ جَحِيمِ السَّاسَةِ كُلُّ هَذَا الْوَاقِعِ الْوَهْمِيِّ الْأُسْطُورِيِّ وَيَأْتِي جَاهِلٌ وَمَرِيضٌ بِمَرَضِ السَّيْكُوبَاتِيَّةِ مَا زَالَ يَعِيشُ فِي كُهُوفِ الْعُصُورِ الْوَسَطِيِّ.. لِيَقُولَ بِثِقَةٍ:\" هُوَ يَعِيشُ الْوَاقِعَ وَيَرَاهُ \" فِي حِينِ هُوَ لَا يَرَى شَيْئًا سِوَى الْوَاقِعِ الْمُزَيَّفِ، الْوَاقِعُ الْحَقِيقِيُّ فِي مَكَانٍ آخَرَ لَا يَصِلُهُ الْعَقْلُ الْبَسِيطُ ضِيقَ الْأُفُقِ وَالْمَعْرِفَةِ.

إِنَّ الْوَاقِعَ الْحَقِيقِيَّ غَاطِسٌ فِي بَحْرٍ مِنْ جِبَالٍ مِنْ الثَّلْجِ وَدَهَالِيزَ وَمَكَاتِبَ سِرِّيَّةٍ وَفِي أَجْهِزَةٍ مُخَابَرَاتِيَّةٍ وَشَرِكَاتٍ مُتَعَدِّدَةِ الْجِنْسِيَّاتِ وَدُوَلٍ وَمَصَالِحَ وَمَافِيَاتٍ وَعِصَابَاتٍ وَبُنُوكٍ وَمُنَظَّمَاتٍ وَتَقَالِيدَ وَتُرَاثٍ وَتَارِيخِ وَثَقَافَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ مُتَدَاخِلَةٌ تَدَاخُلَ أَنْيَابِ التَّمَاسِيحِ... شَبَكَةً عَنْكَبُوتِيَّةٌ...!

مِنْ أَيَّةِ زَاوِيَةٍ يُرَاقِبُ الْمُثَقَّفُ هَذَا الْوَضْعَ.؟

قَدَرْنَا أَنْ يَعِيشَ الْمُوَاطِنُ الْعَرَبِيُّ زَمَنَ الْعَهْدِ الْبَائِدِ مِنْ الْمِلْكِيَّةِ وَالِاحْتِلَالِ إِلَى التَّحَرُّرِ مِنْ الِاسْتِعْمَارِ إِلَى جُمْهُورِيَّاتِ الشَّوَارِبِ الثَّوْرِيَّةِ فِي الْخَمْسِينِيَّاتِ وَالسِّتِّينِيَّاتِ فَمَا فَوْقَ الَّتِي لَمْ تَعُدْ تَصْلُحُ إِلَّا لِمُسَابَقَاتِ الْقِطَطِ السَّمَّانِ فِي عُصُورِ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ وَالْحُرُوبِ الْأَهْلِيَّةِ الْآنَ أَذْكُرُكُمْ وَاذْكُرْ نَفْسِي بِهَذَا الشَّهْرِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَدَمٍ وَاعْتِقَالَاتٍ وَحُرُوبٍ كُلِّهِ ارْتَبَطَ بِالْمِنْطَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ شَهْرُ أَيْلُولَ الْأَسْوَدِ) الَّذِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الْمَذَابِحِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الْفَصَائِلِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ وَالْجَيْشِ الْأُرْدُنِّيِّ فِي عَمَّانَ، وَالرَّحِيلِ الْمُفَاجِئِ (لِجَمَالِ عَبْدِ النَّاصِرِ) فِي أَثْنَاءِ عَقْدِ قِمَّةٍ طَارِئَةٍ لِجَامِعَةِ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ لِوَقْفِ "نَزِيفِ الدَّمِ الْعَرَبِيِّ الْعَرَبِيِّ" وَأَحْدَاثِ الِاعْتِقَالَاتِ الْكُبْرَى فِي/ 3 مِنْ سِبْتَمْبِرَ عَامَ /1981 وَهِيَ الْقَشَّةُ الَّتِي قَسَّمَتْ ظَهْرَ الْبَعِيرِ بِاغْتِيَالِ (أَنْوَرِ السَّادَاتِ) كَذَلِكَ أَحْدَاثُ /11مِنْ سِبْتَمْبِرَ عَامَ 2001م بِاقْتِحَامِ بَرْجَيْ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ. الَّذِي أَدَّى إِلَى اجْتِيَاحِ الْعِرَاقِ وَأَفْغَانِسْتَانَ. وَظُهُورِ مُصْطَلَحِ" صِرَاعِ الْحَضَارَاتِ.:

لِتَعِيشَ الْمِنْطَقَةُ حَرَاكًا ثَوْرِيًّا مِنْ ثَوْرَاتِ الرَّبِيعِ الْعَرَبِيِّ وَيَسْقُطُ نَظُمَ حُكْمٍ وَنَدْخُلُ فِي صِرَاعِ عَلِي السُّلْطَةِ مِنْ حُرُوبٍ أَهْلِيَّةٍ مَا زَالَتْ مُشْتَعِلَةً حَتَّى كِتَابَةِ هَذِهِ السُّطُورِ...   لِيَغِيبَ عَلَيَّ كُلُّ الْفَاعِلِينَ فِي الْمَيَادِينِ أَنَّ شَابَّتَهُمْ الرُّؤْيَةُ...

لِنَعِيشَ فَتْرَةَ مَتَاهَاتِ التَّدَيُّنِ وَالْمُوضَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ الْجِلْبَابِ الْقَصِيرِ. وَاللِّحْيَةِ الْمُزَيَّفَةِ بَيْنَ التَّدَيُّنِ وَالْمُوضَةِ، وَالْبَنْطَلُونُ الْمَثْقُوبُ مِنْ الْخَلْفِ أَوْ النَّازِلِ تَحْتَ الْحِزَامِ وَتَسْرِيحَةُ عُرْفِ الدِّيكِ الَّتِي أَوْشَكَتْ عَلَى الِاخْتِفَاءِ فِي أُورُوبَّا، لِنَعِيشَ فَوْضَى عَارِمَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ ضَوْضَاءَ وَصَخَبٍ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الْمُزَيَّفَةِ... فَمَتَى يُعْلِنُونَ وَفَاةَ الْعَرَبِ .؟!

***

مُحَمَّدُ سَعْدِ عَبْدِ اللَّطِيفِ

كَاتِبٌ مِصْرِيٌّ وَبَاحِثٌ فِي الْجُغْرَافِيَا السِّيَاسِيَّةِ

يقال في علم الدلالة والمعنى أنه ثمة إشكالية كبيرة تعنى بها فلسفة اللغة، وهى إشكالية مفهوم المعنى. كيف يمكن اقتناص المعنى المراد في الخطاب؟ هذا السؤال يجر إلى أسئلة عديدة: هل المعنى المقصود من أي خطاب هو ذات المعنى الذى يروم المتكلم إيصاله إلى القارئ أو السامع؟ أم أن المعنى هو ما تشى به مفردات الخطاب من دلالة بمعزل عما يقصده المتكلم على وجه الدقة واليقين في خطابه.

ولهذا عندما وصفَ الدكتور نصر حامد أبو زيد (رحمه الله) الحضارة العربية الإسلامية بأنها "حضارة نص"، كان يدرك أهمية الخطاب الإلهي في حياة المسلمين، وكان يعرف ما الذي تعنيه الكلمة؛ كلمة الله التي دخلت مجال البشر واستقرت فيه، فأصبحت المحور الذي تدور في فلكه حركيتهم، ونزوعهم-الذي لم ينقطع-من أجل كشف الغلالات الكثيفة عن تلك الكلمة / الكلام، بغية فهمه، والوقوف على معانيه، وتأمّل بيانه الذي لا يماثله أيُّ بيان لغوي آخر.

قصدت هذا القول لأقول كما ذكر مركز رواسخ في فيديو شهير بعنوان: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. بأنه علي احدى الشاشات الإعلامية أو ضمن أسطر مقال على موقع شهير، ربما سمعت أو قرأت كلاما لم ترتاح له نفسك، ولكنه أثار في عقلك شكوك، يقول القائل من باحثينا المعاصرين:" نحن نقدس نصوص الوحي ولا نريد تركها .. لكن علينا أن نعيد قراءة النصوص وتأويلها بما لا يتوافق مع روح العصر، لا بما أقره فقهاء سابقون قبل قرون ".

والحجة الأساسية عندهم نحن نقدس النص لا الفهم، فلكل منا فهمه، وطالما أن الفقهاء اختلفوا في مذاهبهم، فلنا الحق أن تختلف عنهم، فهم رجال ونحن رجال، فهل تكون إشكالية بعض التأويليين في فهم النص بالفعل؟ .. أم إن مشكلتهم الحقيقية في عدم انقيادهم للنص؟.. وما موضوع الفهم إلا حجة للطعن في الشريعة كلها بزخرف من القول؟

تخيل أنك وريث شرعي لأحدى الشركات، وأن مجموعة من أقربائك يشاركونك هذا الإثم، وبينما أنتم تتناقشون حول تفسير أحد عقود المعاملات بالشركة، أتى أحدهم وأخبركم بأنه لا يمكن فهم هذا العقد، وأن إرثكم محكوم عليه بالضياع،  لأنكم لا يمكنكم تفسير العقل واستخراج الأحكام القانونية منه، وأنه لا سبيل لكم لمعرفة ذلك على الإطلاق، تُرى ماذا سيكون موقفك؟ .. من المؤكد أنك سترفض كلامه، وربما تسخر منه، فما العلاقة بين الاختلاف في فهم العقود وضياع معانيها والحقوق المترتبة عليها؟ .. ألا يوجد مرجعية ومختصون يمكن الرجوع إليهم؟ .. أم إن العالم ينتهي عند أفهامكم وحدكم؟ ..

الأمر نفسه ينطبق على من يقول:" نحن أمام إسلاماتِ متعددةِ، فأىّ إسلامِ نُطبق" زاعما أن الخلاف ووجود النصوص القابلة للتأويل معول يمكن هدم الشريعة وهدر نصوصها، وهذا أمر يخالف العقلي الذي يخبرنا أن الاختلاف في شيء لا يلغي وجوده ولا حجيته ولا مكانته، وما زال البشر يختلفون في كل مناحي الحياة ومذاهبها، لو صح ادعاء البعض الاختلاف ذريعة لهدم معيارية الشريعة لما يقي أي معنى في أيدينا لمفاهيم الحرية أو العدالة، أو حقوق الإنسان وغيرها، فإن حضور الخلاف لا يلغي حقيقتين قطعيتين بديهيتين وهما أن هناك قدرا مشاركا من المتفق عليه، وأن الحكم عند الخلاف يرجع إلى الحجة الدالة على الحق، وعند النظر إلى الشريعة سنجد النصوص على مرتبتين: المرتبة الأولى: مرتبة الأحكام القطعية، وهي التي دلت عليها الدلائل ظاهرة بينة لا يتطرق إليها الشك، وهي محل إجماع بين المسلمين، أي هي معلومة من الدين بالضرورة، كالاعتقاد في وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والخمر . أما المرتبة الثانية: فهي الأحكام الظنية، وهذه الأحكام قد يصل اجتهاد العلماء فيها إلى الإجماع، أي الاتفاق بينهم في تأويلها بما يلغي مشروعية للخلاف، وقد تحتمل الخلاف في تأويلها بين العلماء، لكن هذا الخلاف قد يكون معتبرا سائغا تٌقبل الأقوال المختلفة فيه، وقد يكون شاذا غير سائغ ولا معتبر .

ومن هنا نتبين أن الخلاف المزعوم يقع في حالة واحدة من مرتبة واحدة من مرتبتي النصوص الشريعة، لا كما يوهم البعض ويزعم أن كل النصوص تحتمل الخلاف والتأويل، وإعادة القراءة من جديد بحجة أن الفهم غير مقدس.

ومن النظر بما سبق ربما تتبين منهجية هذا الخطاب التأويلي الذي يهاجم النصوص من باب مهاجمة التفسير، وليس هذا القول حقا يراد به باطل، بل هو قول باطل في نفسه، لأن الفهم في حالات كثيرة يكون مقدسا، وذلك حين يكون مصدره هو مصدر التشريع نفسه الله ورسوله .

إضافة إلى ذلك فإن التراث الإسلامي مرتكزا على منهجية موضوعية في التعامل مع الخلاف، بل وأهم من ذلك كله، هو أن الخلاف في مسائل الخلاف المعتبرة يعني أن العلماء كانوا يحاولون الوصول للمراد الإلهي من النص، فلم يكونوا يتبعون الهوى بحجة العصرية والتجديد، أو يهملون النصوص بحجة تعدد التأويلات، ولهذا كان للمجتهد أجرا إذا أخطأ مكافأة على نيته  وسعيه إلى تتبع الحق، وإعلاء شأن النصوص وتقديسها.

وقد تفطن ابن تيمية إلى حجج هؤلاء التأويلية تلك من أشباههم في عصره، وأدرك كيف يستخدم هؤلاء التأويليون تلك الخدعة معولا لهدم النصوص، وذلك لأنه لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في فهم النصوص، ولأن التأويل من عدمه يرجع إلى نفس المتأول ورغبته لا أكثر، ولهذا فإنهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما .. أما الآيات التي تخالف رغباتهم فيشرعون في تأويلهم شروع من قصد ردها .

ولهذا يتعجب الإمام ابن حزم الأندلسي من أقول أسلاف هؤلاء فيقول:" إذا لم يكن الكلام مبنيا على معانيه، فبأي شيء يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم وعن نبيهم صلي الله عليه وسلم "، وهو ما يعني أن ثمة منهجية للفهم تكسب هذا الفهم قدسية ملاصقة لقدسية النصوص وتحافظ عليها من الإهدار والهدم.

وللوصول إلى معيار الفهم، نجد في القصة الكلاسيكية الشهيرة حكمت الكنيسة أوروبا بالحديد والنار، متحالفة في ذلك مع السلطة، وفرضت سلطان الخرفات والجهل والتحريف على عقول البشر، وحاربت العلم، واتهمت العلماء بالهرطقة، حتى قامت الثورة الفرنسية ضد هذا الإرث الغاشم، وتبعتها الثورة على الإرث الديني المليء بالتناقضات، المخالفة للعقل والمنطق السليم، وأمام عاصفة الثورة انحنت الكنيسة للفلاسفة والتنويرين، وسمحت بأفلامهم بإعادة النظر إلى الكتاب المقدس، والتعسف في تأويله، حسب ما تقتضيه الحداثة ويأمر به التنوير، وظهرت المدارس اللغوية التي تتعامل مع النصوص المقدسة باعتبار أن مؤلفها قد مات، وترك للبشرية مهمة التفسير والتأويل حسب ما يرون .

ومن أوروبا إلى عالمنا العربي أتي إلينا الحداثيون وزعموا ليستوردا هذه الثورة المسيحية على الكتاب المقدس، ويسقطوها على القرآن ونصوص الوحي، زاعمين أن الحق في التأويل مكفول للجميع، ومن هنا يظهر السؤال حول نصوص الوحي، وكيفية التعامل معها لنسأل: هل ثمة ضابط لفهم النصوص وتأويلها بصورة علمية وشرعية؟ .. أم إن النصوص متروكة لتأويل كل عابر، وكأن صاحبها سبحانه قد مات؟  .. لنجد أن أئمة الإسلام قد ذكروا قواعد أصولية هامة في التعامل مع النصوص الشرعية، وأول هذه القواعد، هو الجمع بين هذه النصوص، أو درء التعارض المتوهم عن الوحي، وتلك قاعدة منهجية يجب أن ينطلق منه الفقيه حين يتعامل مع النصوص .

ومن غابت عنه القاعدة يتيه في كل اتجاه فيحسب أن ثمة تعارضا بين آية وحديث نبوي، فينكر السنة أو يهدر فهم الآية القرآنية في سياقها الصحيح، ولهذا اكنت قواعد الترجيح بين الأدلة، فضلا عن علم الناس في الناسخ والمنسوخ، والمعرفة بالمطلق والمقيد، والتفرقة بين العام والخاص من النصوص، وهذه القواعد إنما هي أدوات عملية للتعامل المنهجي مع النصوص الشرعية، كما أن هناك ملمح آخر يتعلق بمنهج الفهم الصحيح للنص، والذي لابد له من مراعاة أمرين رئيسين: أولهما: هو العلم بأصول العربية ومكونات الخطاب العربي، والثاني، معرفة أقوال الصحابة وتابعيهم، إذ هم أقرب لزمن الوحي وفهم اللغة التي نزل بها، وهو ما يعني أن الإلمام التام باللغة العربية، شرط لا يمكن التخلي عنه لفهم الوحي مصداقا لقوله تعالي في سورة يوسف الآية 2:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" .

ولهذا رأينا أنه من أمارات التأويل الفاسد، تأويل النص بما لا يحتمل كل وضع لغوي، أو بتفسير اللفظ بصورة تخالف السياق التاريخي الذي نزل له، أو بمعنى غير الذي أُصطلح عليه، ومثل ذلك من يحاول تأويل نص متشابه بتفسير يخالف نصا محكما من ثوابت الشريعة، فكل تلك أمارات للتأويل الفاسد الذي يهدر النصوص بدعوى اختلاف الأفهام، ولو أننا تركنا الشريعة إلى هذه الدعوى وتلك السيولة المفاهيمية، فكأننا نقر بأن الله أرسل إلينا مجموعة من الألغاز وحاشاه .

ولقد دفعت هذه المسائل الفقهاء إلى تأويل النص رغم صراحته وقطعيته، مستعينين في ذلك بالأحاديث النبوية ومحاولة استحضار سياقه وافترقوا كثيرا في تأويله. ومن ثم يثور التساؤل: ما هو المنهج المنطقي الذى ينبغي انتهاجه في تأويل معانى الخطاب، خاصة أن الخطاب هو أشبه بكائن حي تتعدد وتتنامى دلالاته عبر التاريخ؟.

وهنا يجيب عن ذلك ابن رشد في كتابه "فصل المقال" فيقول: "نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن".

إن الشريعة المحكمة لا يأتيها الباطل، بل وأن الله قد كلف عباده بفهم هذه الألغاز بتفسيرات لم يمنحهم إشارات لفهمها، وتركها مبهمة سائلة، تلهوا بها الرغبات، كما أن هذا الفهم يحتوى مفارقة هزلية، حيث يفترض أصحابه أن صحابة النبي وتابعيهم عجزوا عن فهم هذه النصوص، وهم أهل اللغة، واًصحاب الرسول المبلغ صلي الله عليه وسلم، فإن كان معاصر التنزيل أعجز عن فهمه ونقله، فكيف يدعى من بعدهم قدرتهم على ذلك، وأكبر من هذا وأضل، فهذه المنهجية الحداثية تتعارض مع حقيقة مطلقة لا يستقيم بغيرها الإيمان، وهي أن علم الله تعالى سابق على جميع المخلوقات، وأنه سبحانه عندما أحكم بعض النصوص بمعان ثابتة، إنما فعل ذلك في الثوابت التي لا تتغير، كتحريم الزنا والخمر مثلا، بينما سكت عن المتغيرات التي يحتاج الناس فيها سعة بحسب زمانهم ومكانهم، أو أتى فيها بنصوص فيها من المرونة اللغوية ما يسع مختلف الأفهام، كبعض قضايا الطهارة وغيرها ليترك باب الاجتهاد مفتوحا،ولكنه مع ذلك قيد هذا الاجتهاد بآيات محكمات تأمرنا باستفتاء أهل الذكر وإنكال هذا الاجتهاد للعلماء فقال سبحانه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً (الآية 83 من سورة النساء)، فهل هؤلاء أحكم من الله .. وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع

1- مركز رواسخ: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. يوتيوب.

2- موسي برهومة: التأويل الديني والمواجهة المستمرة مع المعاني، مؤمنون بلا حدود، 22 يونيو 2-23.

3- د. عصام عبدالفتاح: إشكالية التأويل في الخطاب الديني، العربية، نشر في: 08 يونيو ,2023: 09:44 م GST

ونحن نتصفح  وسائل التواصل الاجتماعي، لابد أن يتبادر الى ذهن أحدنا  تساؤل مُلح حول الانتشار السريع للأخبار المتعلقة بالوفاة؟ أو تداول الأزمات الأجتماعية والأقتصادية؟ تسويق البؤس بقصد أو غير قصد؟ وغيرها من المظاهر المتداولة التي تخلق لنا على الأقل كأبة مؤقتة ، لذلك هل هذا مظهر من مظاهر التشاؤم، أم مظهر من مظاهر فراغ المعنى، أم أنه شكل من أشكال  فلسفة العدم؟ في كتاب "السقوط" لألبيركامو  يقول:

 "نادرًا ما يتبنى الناس أسبابك، أو أصالتك، أو خطورة معاناتك حتى تتجاوز عتبة الموت.. بينما أنت على قيد الحياة، يكتنف الشك قضيتك، ويتركك مع لا شيء سوى الشكوك".

وفي نفس دائرة العدم التي تختزل شكل الحياة الأنفصامية  "إن مشاهد حياتنا مثل صورٍ مصنوعة من فسيفساء خشنة، فإذا ما نظرنا إليها عن قرب لا يكون لها تأثير، ولا شيء جميل فيها، إلا إذا وقفت على بعد مسافة ما ولذلك، فإن حصولنا على أي شيء نتوق إليه ينتهي بإكتشافنا كم هو فارغ وبلا فائدة." (آرثر شوبنهاور : تهمة اليأس/ مقالة فراغ الوجود

إذن هل تسللت هذه النظرة الفلسفية العدمية إلى واقع حياتنا ،أم أنها شكلها بلأساس؟ أو إن مواقع التواصل الأجتماعي عززت مشاهد الحزن والموت التي تزهو بها حياتنا الأجتماعية؟ وباتت هذه المشاهد العدمية تتعزز بصور عدة حتى  أنعكست على أبرز أوجه الحياة الأجتماعية ومنها:

العدمية الأخلاقية: تتحدى العدمية المفاهيم التقليدية للقيم الأخلاقية والأخلاقية، فنتسائل عما إذا كانت المبادئ الأخلاقية الموضوعية موجودة وهناك من يؤمن  أن الأنظمة الأخلاقية هي بنيات بشرية ليس لها صلاحية متأصلة أو عالمية.

العدمية الوجودية: وهي مجموعة فرعية من الفكر العدمي، غالبًا ما تستكشف فكرة أن الحياة تفتقر إلى المعنى أو الهدف المتأصل ، عند تطبيق هذا المنظور على المجتمع، يمكن أن يقود الأفراد إلى التشكيك في غرض الهياكل والمؤسسات المجتمعية، وحتى حياتهم الخاصة، يمكن أن يعزز مشاعر اليأس الوجودي أو خيبة الأمل من التوقعات المجتمعية.

العدمية الثقافية: يمكن أن تكون العدمية بمثابة أداة حاسمة لتحليل وتفكيك الأعراف الثقافية والمجتمعية، بالتالي نرى التساؤلات تتكرر حول أهمية المعتقدات والقيم في المجتمع.

العدمية السياسية: العدمية قد تعزز الشك تجاه شخصيات السلطة والمؤسسات والتسلسلات الهرمية المجتمعية، ويشجع الأفراد على التشكيك في شرعية ودوافع من هم في السلطة، وهذا ساهم في تشتيت رغبتنا الحقيقية في تغيير الانظمة المتوالية.

العبثية والاغتراب: العدمية الوجودية غالبًا ما تستكشف موضوعات العبثية والاغتراب في الوجود الإنساني في سياق المجتمع، يمكن لهذا المنظور أن يعزز مشاعر الانفصال أو الاغتراب أو القطيعة التي قد يواجهها الأفراد في عالم يعتبرونه خاليًا من المعنى النهائي وهذا أيضاً يرتبط بالفردية من خلال ربط العدمية بالتركيز على الفردية والاستقلالية الشخصية، وقد يؤكد على أهمية تقرير المصير ورفض المعايير المجتمعية التي يعتبرها الأفراد تعسفية أو لا معنى لها.

وكل ماذكر يساهم في بناء شخصيات إنهزامية لا أجتماعية ،وهذا  ما تنبأ به نيتشه "ولكن بمجرَّد أن يكتشف الإنسان كيف أن هذا العالم مصنوع من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ وحسب، وكيف أن ليس له فيه أي حق، تأتي آخر صورة من العدمية إلى حيِّز الوجود متضمنةً عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي، ومحرمةً على نفسها الإيمان بعالم حقيقي، وبعد الوصول إلى هذه الحالة يسلم الإنسان بأن حقيقة الصيرورة "الوجود" هي الحقيقة الوحيدة، وينكر كل السُّبل الملتوية التي تؤدي إلى عوالم ميتافيزيقية وآلهة مزيفة، لكن لا يُمكن أن يتحمَّل هذا العالم إن لم ينكره..."

لذلك علم الأجتماع لم يترك الموضوع للفلسفة لأن هذه السياقات أنسحبت على المجتمع وبدأت تشكل شخصية الأجيال القادمة التي أختزلتها أفلام الأنميشن والمواقع الألكترونية الأخرى ، حيث تطرح أسئلة وتجيب عنها مما عزز فوضى العدم والعبثية ، لقد مضى أكثر من قرن منذ أن استكشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة، كما تنبأ انتشار تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين، وأثرها المدمر الذي يخلق مزاجاً من الكآبة، وقدراً كبيراً من القلق والغضب والرعب.

فظهرت محاولات سوسيولوجية عدة تفسر أرتباط العدم بالمعنى والسياقات الأجتماعية ومن هذه المحاولات ما قدمه عالم الاجتماع البارز أرفينج كوفمان المعروف بعمله في التفاعل الرمزي، والجوانب الوجودية للتفاعل الإنساني وعرض الذات، تتناول أبحاثه حول التفاعلات وجهًا لوجه وإدارة الانطباع الاهتمامات الوجودية المتعلقة بالهوية والأصالة وأداء الذات في السياقات الاجتماعية ، أضافة الى بيتر بيرغر: قام بيتر بيرغرو توماس لاكمان، بتأليف كتابهما المؤثر "البناء الاجتماعي للواقع حيث تعاملا مع العمليات الوجودية، وخاصة فكرة أن الأفراد يبنون المعنى في حياتهم من خلال التفاعلات والتفاعلات الاجتماعية، أضافة الى ألفريد شوتز صاحب الظاهراتية الذي ساهم في فهم كيفية فهم الأفراد لتجاربهم اليومية من خلال عمله حول "عالم الحياة" والبناء الاجتماعي للواقع مع الأفكار الوجودية المتعلقة بالتجربة الذاتية والبحث عن المعنى.

فضلاً عن هوارد س. بيكر الذي أكتشف في عمله حول نظرية التصنيف والانحراف، كيف يتنقل الأفراد مع التوقعات المجتمعية وكيف يمكن أن تؤثر التصنيفات المجتمعية على مفهوم الفرد الذاتي وإحساسه بالهوية. يتطرق عمله إلى الأبعاد الوجودية للتحكم الاجتماعي والوكالة الشخصية.

سوسيولوجيا الوجود تعزز فكرة فهم الأنسان لذاته وواقعه ، وكيف تُبنى تصوراتنا للحياة ، وفي الوقت نفسه لايمكن تجاوز دور مواقع التواصل الأجتماعي في بناء هذه الرؤية وتعزيزها في تمثل الأفراد لواقعهم سواء كانت بالسلب أو الأيجاب ، لذلك نحتاج الى فهم أوسع للمعنى والواقع الذي نعيشه أو الواقع الذي تسوقه الرقمنة.

***

فاطمة الثابت

تمثل الأخلاق نظاماً من القيم تهدي سلوك الفرد، وتسهم في رفعه إلى أعلى مستوياته الإنسانية، ولا يتمكن الفرد من تحقيق ذاته الإنسانية إلا من خلال تجسيده للقيم والمفاهيم الأخلاقية. الاخلاق مصطلح يطلق على الصفات الطبيعية للإنسان، او ان الاخلاق هي فطرة الانسان نفسها، والأخلاق هي جمع كلمة "خلق" والخُلق اسم للتكوين الباطني للإنسان، والخلق يعني أفعال الفرد التي يتم وصفها بالحسن والقبح، والأفعال الحميدة تسمى الخير والافعال السيئة تسمى الشر، والاخلاق ملكة نفسية يسهل على المتصف بها القيام بالأفعال الجميلة. وتأتي الاخلاق بعدة معاني منها بمعنى (السلوك Behavior، السيرة Manner، السلوك الأخلاقي Moral، الاخلاق حسب الدلالة الفلسفية Ethics، الاخلاق حسب المعنى الادبي Ethical).

تشير الاخلاق عموماً الى القيم والمعايير السلوكية في مجتمع ما، وتتضمن فضائل الخير والجمال والحق، وتسعى الى توجيه افراد المجتمع الى ما ينبغي عليهم القيام به، وتنهاهم عما يجب تجنبه في مختلف شؤون الحياة، وبعبارة أخرى تتجلى وظيفة الاخلاق في توجيه الفرد نحو التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، وبين المحمود والمذموم، وهي تمثل منهجاً وجدانياً ينير طريق الانسان في مجتمعه الى الحق والخير والجمال، ومن الجدير بالذكر ان الاخلاق  تختلف عن القانون من حيث أن القانون لا يهتم بقيمة الأفعال سواء كانت جيدة ام سيئة، بل يحدد القانون ما تسمح به السلطة وما تحرمه في مجتمع معين.

تشكل مسألة الخير والشر محوراً أساسياً في علم الأخلاق، ويتنوع الخير الى مادي واجتماعي ونفسي، فالخير المادي مثلاً ما تهبه الطبيعة للإنسان لكي يستمر في الحياة مثل الماء والزرع، اما الشر فيشمل الأشياء التي تضر الانسان تؤذيه مثل الجفاف وقتل النفس والكراهية والبخل والخداع والغش، عموماً الخير يشمل الفعاليات والقيم الإيجابية التي تعزز حياة الفرد وترتقي به الى مستوى الحق والجمال والمحبة والتعاون والإخلاص وغيرها من القيم الإنسانية الإيجابية.

الإشكالية ليست في فعل الخير، بل بالمعيار الذي يعتمده الافراد في التمييز بين الخير والشر، على سبيل المثال يعتقد سقراط بتوءمة الخير والمعرفة من جانب، وتوأمة الشر والجهل من جانب اخر، فالمعرفة تؤدي بالفرد الى فعل الخير، والجهل يدفع الفرد الى فعل الشر. بينما اعتقد افلاطون ان العلم وحده لا يكفي ليصبح الانسان فاضلاً وخلوقاً، ربما الفرد يعرف الخير ولكن لا يفعله ويعرف الشر ويقوم به، لذلك لابد من توفر قوة الاقناع والايمان بأهمية فعل الخير بالإضافة الى معرفة وعلم الشخص بالفعل الأخلاقي.

فضلا عن ذلك اعتقد المعتزلة بأن معيار الخير والشر يكمن فيما يستحسنه او يستهجنه العقل من الافعال، ولكن الاشاعرة اختلفوا مع ذلك المنظور واعتقدوا أن الحسن والقبيح شرعيان وليسا عقليان، بمعنى أن الخير تحدده الشرائع والأديان وليس عقل الإنسان.

يرى اخرون ان اللذة هي معيار الفعل الأخلاقي، بينما نظرية المنفعة تعتقد ان تعظيم السعادة هي اعلى مبادئ الاخلاق، وتكون الأفعال مبررة عندما ينتج منها أكبر قدر من الخير الى أكبر عدد من الافراد (مثلا يعد التعذيب وسيلة مقبولة عندما يمنع الإرهاب) ولكن الفيلسوف "إيمانويل كانط" يناقض فكرتي اللذة والمنفعة معاً، إذ يرى وجوب تنزيه مبدأ الخير عن الأغراض الذاتية واللذة، ويشير ذلك الى أن الخير يكمن فيما يجب وليس فيما يحققه من سعادة.

بالإضافة الى ما تقدم ينظر البعض للأخلاق بأنها مسألة نسبية، فهي تفضيلات اجتماعية معينة تستند الى ما يجله افراد المجتمع وما يستهجنونه من سلوك وتصرفات في فترة وظروف معينة، وان التمييز بين الصواب والخطأ يفسر تفسيراً فردياً بالاعتماد على اتجاه الفرد الذي يصدر الحكم الأخلاقي، فالشيء الذي نحبه فهو صواب والذي نكرهه يعّد خطأ.

ومن جهة نظر اقتصادية التي يمكن ارجاعها الى كتاب ثروة الأمم  الذي الفه ادم سميث  والمتضمن  ان خلق الثروة هي مسؤولية الفرد والدولة، وان هدف المنظمة الرئيس هو خلق الثروة من خلال انتاج السلع  والخدمات وتقديمها للسوق، ومن ثم تحقق حماية لرأس المال وتعظم الربح، بمعنى ان الجوانب  الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية  وفقاً لذلك المنظور لا تحظى بنفس أهمية الربح  ، ولكن مع تزايد الفضائح الأخلاقية (مثل التضليل الاحصائي والمعلومات غير الصحيحة والإهمال وسوء الممارسة لدى بعض المنظمات) واتساع الانتقادات لمنظمات الأعمال ومعاييرها المتمثلة بالربح والكفاءة  الى حد اهمالها لمسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية أصبحت القضايا الاجتماعية والبيئية موضع اهتمام للكثير من المنظمات.

تنشأ الاخلاق في منظمات الاعمال من عدة مصادر منها الدين والمجتمع الاخلاق الشخصية للعاملين والثقافة التنظيمية وأصحاب المصلحة الخارجيين ، فالأخلاق مسألة فردية وتنظيمية في ان واحد، حيث تتجسد معايير السلوك الأخلاقي او المسؤول اجتماعياً في سلوك الموظفين وممارسات المنظمة ، وان لقادة منظمات الاعمال دور كبير في تشكيل السلوك الأخلاقي في المنظمات، ويجب ان يلتزم كبار المديرين بقيم أخلاقية معينة وإظهار الدعم لها وتجديدها، ويمكن للقادة توصيل القيم الأخلاقية للعاملين بعدة طرق مثل الخطابات و إعلانات الشركة و بيانات السياسة و الإجراءات الشخصية.

ويمكن القول ان سلوك القائد يعد مؤشراً ومعياراً للعاملين للتمييز بين الأفعال الصحيحة والخاطئة في المنظمة، حيث يمكن ان يتأثر التزام العاملين في المنظمة بالقيم الأخلاقية التي يتبنها ويمارسها القائد، لكون ممارسات القائد تشكل تاريخ وثقافة المنظمة التي يمكن ان يتعلم منها العاملين في المنظمة.

أيضا كبار القادة مسؤولون عن الحفاظ على ثقافة تعزز السلوك الأخلاقي للموظفين، فعندما ينخرط القائد في ممارسات غير أخلاقية، او يفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة رداً على ممارسات غير اخلاقية للموظفين فان هذا الموقف يسهم بتراجع الاخلاق، ومن ثم تكون البرامج التدريبة الخاصة بالتوعية الأخلاقية التي تنفذها المنظمة بلا جدوى.

***

الباحث: اكرم سامي فايز

ماجستير إدارة اعمال

من منا لم يشعر يوما من الأيام بأنه عاهر أو عاهرة؟..هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بأنها عاهر وتغتصب من قبل زوجها لأن مشاعرها ماتت نحوه وهو يشتمها ويضربها في الصباح ويطلب جسدها وروحها في الليل؟..هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بأنها عاهر وتغتصب من قبل زوجها بعد أن ماتت مشاعرها نحوه ولا تستطيع الانفصال عنه بسبب الدين أو الاطفال أو الأهل أو المصالح المادية بينهم من شركات أو للحصول على الإقامة الأوروبية أو الجنسية الامريكية؟.. هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بانها عاهر وتغتصب من قبل زوجها بعد أن هددها بالقتل إذا انفصلت عنه وحين يحل المساء يطلب جسدها وروحها؟.. وهل هناك رجل لم يشعر في لحظة بانه عاهر ويُغتصب من قبل زوجته بعد أن ماتت مشاعره نحوها لأن روحه مع حبيبته البعيدة عنه؟..هل هناك رجل لم يشعر في لحظة بانه عاهر ويُغتصب من قبل زوجته لأنه يقدم لها جسدا بلا روح ولا مشاعر حيث قُتلت في الحروب والاعتقال والتعذيب؟.. هل هناك رجل لم يشعر في لحظة بأنه عاهر لأنه يخون زوجته أو حبيبته أو ينام مع نساء أُخريات؟..

جميعنا يتجاهل بأن العهر ليس فقط بالجسد بل أيضا بالفكر. من منا لم يشعر في لحظة بأنه عاهر فكرياً؟.. يقول أشياء لا يؤمن بها لأنه يريد الحصول على نفوذ ومنصب مهم في الدولة أو عند الرئيس والمدير؟ وأول العاهرون فكرياً هو ذلك المثقف الذي يدافع في كتاباته عن حرية المرأة ومساواتها مع الرجل وفي نفس الوقت يتهم أي امراة متحررة بانها عاهرة عندما لا تعجبه ملابسها أو طرحها لقضية هي تؤمن بها.. فالعاهرة كلمة خلقها العاهرون لكي يدافعوا عن عهرهم.

هل تتفقون معي أننا في زمن طغت عليه المصالح الشخصية على العلاقات الاجتماعية يعني مصلحتك عند فلان أو علان فلا مانع ان تنافق وأن تكذب وأن تتملق لهذا الشخص. مع أن رأيك كان مختلف بشكل كبير البارحة، وعلى قول المثل " إمبارح كنت تقطع فروته واليوم تقبل دعوته " في حياتنا التي نحيا العديد من الأشخاص يلبسون ثوب الصداقة المطرز بالمجاملات للاستفادة من غيرهم في قضاء أمورهم، يتفننون بلعب دور المحب المحافظ على المودة، لكن وبمجرد انتهاء المصلحة تنتهي الصداقة المزيفة التي باتت متعلقة بالمصالح الشخصية لا غير.

تقول سلام خباط في كتابها " البغاء عبر العصور" عن تعريف مهنة البغاء بإمتاع الباغي الرجل جنسيا، موضحة أن تلك مهنة قديمة ومنذ الأزل قدم الإنسان نفسه، وفي سياق آخر كُشفت كثير من الآثار والرسومات الجنسية لكل من مصر القديمة وروما وحتى اليونان في عهد الإغريق ولعل الإغريق كانوا الأشهر في إشاعة الدعارة وتنظيمها، ففي عهد سولون العظيم الشاعر الإغريقي الشهير قننت الدعارة وأُبيحت من كلا الجنسين وفق قوانين محددة.

وعليه إن العهر بإسقاطه الجنسي يعد من أقدم الممارسات الجنسية التي شاعت منذ تلك العصور.. ولكن ماذا عن اسقاطاته الأخرى؟

في الحديث عن العهر لابد لنا أن نستحدث الحوادث التي هزت التاريخ القديم، حيث أحرق إمبراطور عظيم، لقب بالمجنون مدينته بشعبها وقتل كبار ضباطه، متجاوزا قرار مجلس الشيوخ، بهدف إعادة بناء روما على طريقته الخاصة مثل باب الدوق كما تقول بعض الروايات، في حين تسود أخرى أن نيرون معروف منذ توليه سدة الحكم بالتهور والاستبداد، فقد قتل أمه بناءا على طلب عشيقته، ثم عزل مستشاره وأمره بالانتحار، ولاحقا أمر مدينته بغية بناء قصر ذهبي له ليغطي ثلث مساحة روما.

وبغض النظر عن نية نيرون سواء أكان هدفه إعادة بناء روما أم قصره.. في الحالتين، الغالب لا تبرر الوسيلة هنا، فهل يُبرر العهر كوسيلة لبلوغ تصورات نبيلة يمكن أن يكون ضحاياها آلاف الأرواح؟.. قس على ذلك الكثير من العهر المبطن، بالنبل الذي يُمارس ضدنا في منابر مسؤولينا وقاداتنا وفي شعارتهم وحياتنا على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. عهر بلبوسه القيمي، والأخلاق والأهداف السامية التي ـأتينا من كل حب وصوب، فأين المومياسات من هذا العهر.

إن وصفنا العهر على أنه بيع القيم العليا للفرد، مقابل قيمة مادية دنيا، فهذا ما يمكن اسقاطه على الأخلاق أيضا، فمن يبيع أخلاقه مقابل المال، فهو عاهر ايضا، ولكن من منظور أخلاقي، فمثلا نجد على مواقع الشوسيل ميديا هذه الأيام، هناك من يظهر أمه على الإنترنت، ويقوم بصفعها وإهانتها وذلك لجمع الليكات والمشاهدات التي يدعي أنه يجلب لها المال لإطعام أمه التي صفعها، وما من وسيلة لغير ذلك سواء بالاتفاق مع الأم أم لا؟.. الفيديو حقيقي أو تمثيل للحصول على المال المسمى " لقمة العيش ".. أليس ذلك في الحالتين يسمى عهر بامتياز سواء بالوسيلة أو بالمبدأ.

كذلك أنظر معي مع من تروج لمحتواها عبر تعريها وتمايعها بشكل مقيت وثقيل تحت مسمى " الحرية الشخصية"، وكل إنسانا حر بجسده وحياته، ضاربة عرض الحائط ، حرمة المجتمع وتكوينه النفسي والاجتماعي والأخلاقي.. هذا عهر أم لا؟... قس على ذلك من يقوم بجذب تابعيه عبر عرض أخته باللباس الفاضح ويعمل على مقارعتها بالألفاظ النابية المنحطة هو عهر أم لا؟... ومن تخرج أمام الكاميرات تروي القصص الجنسية أمام الناس مستترة بغطاء العلم أو الدين بهدف لملمة المشاهدات أليست من ذات الصنف؟

ولهذا فحريتك تبدأ عندما تبدأ حرية الآخرين، وكلنا يعرف هذه المقولة، وهذا هو حديث الأخلاق ومنطقها بعيدا عن الدين.. أليس عهرا أن تخدش حياء البشر الذين تتقاسم معهم الأرض التي تعيش بحرمتها الأخلاقية والقيمية، بخطوطها الحمر التي شكلت هويتها وثقافتها وتمييزها عبر تاريخها.. أليس في نشر تلك الفيديوهات والتسويق لها هدم لصورة المجتمع التي تحيا فيه بالحجة تصورك الشخصي للحرية، وما تسميه تمردا وتميزا واختلافا أو حتى سبيلا للعيش، أليس هذا البيع الرخيص للقيم والأخلاق نوع من أنواع العهر؟.. أين المؤميسات من ذلك؟.

من منا لم يصادف موظفا أو مسئولا حكوميا لا يمرر معاملة حكومية إلا بذلك بمبلغ من المال، هذا عهر وظيفي أم لا؟.. من يستغل منصبه الوظيفي أيا كان دوره مقابل مصلحته وبغية إشباع شهواته ورغباته هو عاهر أيضا؟.. والدكتور الجامعي الذي يمص دماء طلابه لشراء محاضراته وكتيباته وهو على يقين بعدم فائدتها أو الذي يبيع أسئلة امتحاناته ويقبص ثمن محصلات طلابه وشهاداتهم، لا يعدوا كونه عاهرا.. وكذلك الطبيب عندما يتاجر بمرضاه ويستغلهم بوصفات دوائية وتحايل مخبرية غير نافعة لإتمام الصفقات مع الصيدليات والمخابر... وأيضا المعلم الذي ينأى عن تعليم طلابه في المدارس ويضطرهم للاشتراك في دوراته ومعاهده.. حتى الإعلامي الذي يبيع قلمه ويقلب الحقائق وينطق بالباطل ويشهد بالزور ويرتهن للمال دون المبدأ، فيميل حيث الكفة تميل هو عاهر ولص.. والممرض والقاضي والمحامي والأمثلة كثيرة فأين عهر المؤميسات من ذلك.

في البحث عن أسباب العهر آيا كان شكله وماهيته، نرى أنه وليد اضطرابات نفسية حياة عند الشخص المصاب وغالبا ما تعود إلى آثارا صدمات عاطفية حادة أثناء الطفولة وهذا ما يجعل لديه نوعا من اضطراب خاص في منظومة القيم وتشوه في بنية العلاقات القائمة مع محيطه.

وغالبا ما ينشأ العهر من الانفصال العاطفي الذي يعيشه الفرد مع نفسه، والانفصال العاطفي هو حالة من الخدر النفسي والروحي التي تصيب الفرد، فتجعله غير قادر على تمييز سلوكياته وأفعاله ما بين الصحيح والخاطئ، والصواب والخطأ مفهومان نسبيان يختلفان باختلاف المجتمعات وبنائها النفسي والاجتماعي والأخلاقي، فالسائد الأخلاقي في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في غيره، وعليه فالعهر يتبعه حالة من الانفصال عن الواقع تجعله يعاني مشاعر الذنب والعار والخجل والتي عادة ما تضبط الفرد السوي عن الانجراف خلف السلوكيات الباطلة وتحده بشيء من الأدب والأخلاق.

في كثير من الأحيان قد تكون تلك الطباع الخبيثة والسلوكيات المريضة وليدة التربية أحيط بها الفدر في طفولته، فمعظم بنات الموميسات هم القريبون للمومسة، وكذلك الفساد وانعدام الأخلاق ينتقل بالتربية والتعليم، فمن كان محاطا بعائلة مريضة، وجب عليه أن يسلك سلوكهم، وهل انعدام الأخلاق تورث؟.. في كثير من الأحيان نعم، كما أن المجتمع يلعب دورا مهما في تفشى هكذا أنماط من السلوكيات، فالمجتمع بمختلف ضوابطه هو الذي يحد بشكل أو بآخر من انتشار السلوكيات والأفكار الشاذة، وعند انهيار المجتمعات وضعف سطوتها غالبا ما تنتشر هذه الأنواع وتطغى على المشاريع.

وتعود في الغالب أسباب الفساد الأخلاقي والسلوكي لدى الأفراد إلى البيئة التي ينشأ منها، كما أن هناك عوامل نفسية وشخصية أخرى، فالضعف هو السبب الأساس لهذه الطبائع الخبيثة، ضعف المرء أمام شهواته ورغباته ونزعاته الشخصية دوان مراعاة الصالح العام وتقدير حدودهم واحترامهم، كما أنها تصاحب غالبا الشخصية الانتهازية المتسلقة والتي تسعى إليه مصالحها وإن كانت في معرض مصالح الآخرين، وعلى العموم فإن ممارس هذه السلوكيات والمتطبع بطبائع الفساد لا يملك أيا مفهوم وجداني أو أخلاقي لأن يراجع أفعاله، بل هو كالدواب لا فرق بينهما.

إن العهر في نهاية الحال ليس مقتصر على دور البغاء والعربدة ولا يعد حكرا على البغايا الموميسات وبائعات الهوى وفتيات الليل، بل هو في أساس الحال لطبع أصيل من طبائع النفس الدنية وصفة من أوصاف الشخص الوضيعة، كما أن العهر وإن تباينت لمحاته واختلفت أشكاله يظل واحدا في تركيبته، وواضحا في سماته، وينضوي على بيع المبادئ العليا مقابل الغايات الدنيا، وعلى المرء أن يتفكر في أن العهر ليس منفردا في مجالا واحدا، بل هو ذو أنياب ضاربة في كل مضمار، وأنه وإن غابت مفاهيم الخلق السامية، استشرف واستوحش في كل مجالات الميادين وإن الحل يكمل في نزوع الفرد عن أرضيته البحتة وانتفاءه عن شرورها وعبثها والتوجه بقلبه وروحه نحو السماء بوصاياها السامية لينجوا من شرائر النفس وشياطينها، وغن لكل داء دواء، ودواء النفس كامنا فيها، فاعدلوا في نفوسكم يصلحكم الله، فيرزقكم من بركاته ويرسل السماء عليكم مدرارا ويمدكم بأموالا وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- العهر بأشكاله المختلفة - خبايا السقوط الإنساني / د. مأمون علواني - برنامج إينغما.

2- سامح سليمان: سؤال وإجابه حول مفهوم العهر، الحوار المتمدن-العدد: 4737 - 2015 / 3 / 3 - 14:27

3- فؤاده العراقية: دعارة الجسد هي نتاج لدعارة الفكر، مقال منشور.

4- كرار حيدر الموسوي: فمن يستحق ان يرجم بالحجارة؟ العاهرة أم السياسي بائع الوطن والدين؟.. الحوار المتمدن-العدد: 4959 - 2015 / 10 / 18 - 11:58.

5- سلام خباط في كتابها : البغاء عبر العصور، رياض الريس للكتب والنشر،1992.

تتفرع المعرفة الدينية في إطار الاسلام على الفكر والعقائد من جهة، وعلى التشريع والفقه والاحكام من جهة أخرى، وهذا التفريع يمثل –إلى حدما- ثنائية تحكم الفكر الديني المعاصر، بالأخص في البيئات العلمية الخاصة والمؤسسة لعناصر الفكر الديني، وأقصد بها –في عموم العالم الاسلامي- الحوزات العلمية والجوامع والمدارس والأكادميات المتخصصة، والمثقف الاسلامي لا تحكمه تلك الثنائية كما تحكم العالم المتخصص الذي يمكن أن نطلق عليه (عالم الدين أو طالب العلوم الدينية)، لأن الثقافة تتسم بالشمول والتداخل بنحو عابر للمناهج والتخصصات، لكنها تمتلك رؤية نقدية من شأنها أن تكشف عن بعض مواضع الخلل التي تحصل في بعض مجالات البحث العلمي.

اذن يمكن عد العلوم الدينية على أنها ذات صنفين إما علم بما هو كائن (علوم نظرية: عقائد، تاريخ، فكر، فلسفة اسلامية..)، أو علم بما يجب أو ينبغي أن يكون (علوم عملية علم الفقه والأخلاق..).

ومن بديهيات المعرفة الدينية أن أن الفقه الاسلامي علم تكون عبر مراحل ومستويات وذو خصوصيات تجعل منه علما دقيقا يستند إلى منهج معرفي دقيق في الاستدلال نجد معالمه واضحة في علم الاستنباط أو الاجتهاد الذي يستند بنحو أساس على علم أصول الفقه..

وجدير أن نلحظ أن أول مصادر بناء المعرفة الفقهية واستنباط الأحكام هو القرآن الكريم، كما يجدر أن نلحظ أن عدد آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية مع المتكرر منها، وهذا العدد الى اليوم يثير تساؤلات عدة، وثمة إجابات عدة أيضا، لامجال للخوض في تفاصيل هذا الجانب.

يكاد يتفق فقهاء الاسلام على أن الأحكام الناتجة عن الاجتهاد والاستنباط هي أحكام ظنية مع كونها حجة بالظن المعتبر، وعلم الأصول تكفل بضمان صحة ذلك الظن –بالأخص عند أصوليي فقهاء الإمامية- في حين يكاد يتفق علماء الإسلام –أو أغلبهم-  على أن العقائد لا تؤخذ بالظنون، ولا يمكن الاجتهاد في العقائد، بل لا يمكن اعتبار الظن في اثبات العقائد، رغم امكانية اعتباره في إثبات أدلة الأحكام الفقهية، ومن هنا يمكن تصور أن مساحة العقائد لا يمكن الاجتهاد فيها على اساس الظنون، ومساحة الفقه والأحكام يمكن لتوقف نظام الناس وأعمالهم ومجمل تصرفاتهم..

واليوم نحن أمام ظاهرة مفادها: يمكن لأي شخص أن يسأل في مجال العقائد، اذا ما وردت في ذهنه شبهة، أو تساؤل، ولو بنحو غالب، بحسب البيئات العلمية ومدى توفر الحرية الكافية لذلك، في حين لا يمكن لأحد أن يتساءل أو يشكك في أي من الأحكام المستنبطة، وبالأخص في حدود الفقه الامامي، لوجود عنصر (التقليد) الذي يوجب على الفرد المكلف اتباع أحد الفقهاء في تنظيم شؤونه واعماله الدينية والدنيوية مما للفقه علاقة ودخل فيها، وتبرير ذلك أن المكلف سوف يلقي مسؤولية عمله على عاتق الفقيه الذي استنبط له الحكم الشرعي، ولكون المكلف غير متخصص في الفقه فليس من شأنه ولا يجب عليه البحث والنظر في أدلة الاحكام التي ترتب شأن أعماله وعباداته..، في حين يذهب بعض العلماء إلى وجوب تحصيل العلم على كل فرد في مجال العقائد دون الفقه والأحكام، وفي هذا المنحي نحو من التخفيف على الفرد المكلف بحيث لا يتم زجه في أمور الفقه لأنها مسائل دقيقة ومعقدة تعتمد على معرفة وإحاطة بقواعد علم أصول الفقه وهو مما يعجز عليه غير المتخصص والمحيط بتلك العلوم، في حين تعد مسائل العقائد متاحة ولو بمستويات متدرجة يُسمح فيها لأي فرد أن يسأل أو يبحث، رغم ارتباطها بالعلوم العقلية..

أعود إلى سؤال المقال في العنوان.. هل في الفقه خطوط حمراء؟؟

بصراحة لا يحبذ رجال الفقه أن يتم الالحاح من الفرد غير المتخصص في السؤال أو التشكيك في حكم شرعي، لأنه غير مكلف بالاجتهاد، وأن الحكم الذي يشكك فيه جاء عن طريق نظر واجتهاد جل من العلماء الفقهاء الذين أفنوا عمرهم في تحصيل أحكام الدين، ولهم الحق في ذلك طبعا، وواقعا، لأن البحث في الأدلة الظنية أعسر وأصعب من البحث في أدلة قطعية التي يستند عليها علم العقيدة..

لكن ذلك ليس مطردا في كل زمان ومكان، ونحن نعيش في عالم تثور فيه المعلومات، وتتحرك فيه مختلف مجالات البحث، والناس تسأل في كل أمر، وفي كل تخصص، وفي كل اتجاه، فلا علماء الفلك بمنأى عن التساؤلات، ولا علماء الاقتصاد ولا علماء الجيلوجيا، ولا الأطباء.. الكل يسأل، والكل مطال بالإجابة..

الانسان المعاصر غير انسان الأمس، فهو في وسط من الأفكار المختلفة والمتعددة والمتجددة، بفضل تطور وتضخم وسائل التواصل وشبكات النت، ورغم سيادة الجهل والتفاهة في فضاءات الميديا والاعلام، تبقى هناك تساؤلات ملحة قطعت شوطا كبيرا من المعرفة بسبب تقنية المعرفة الجاهزة (الحاسوب وشبكات الانترنت)، وهذا يشكل تحديا جديدا لعلم الفقه، لأن وظيفة علم الفقه هي استخراج الحكم من الدليل بعد البحث في الأدلة، وهذه الوظيفة تقدم جوابا لسؤال (ما الحكم الشرعي للمسألة الفلانية)، لكنها لا تجيب عن سؤال (لماذا شرّع هذا الحكم؟)، إذ ليس من وظيفة الفقه أن يحدد علل الأحكام.. في حين السؤال ينقدح ويتجدد في مجال (لماذا هذا الحكم؟) لذا فعلم الفقه مطالب بتهيأة مجال معرفي ساند وظيفته تقديم الإجابات لسؤال (لماذا) بدلا من (ما)..

 وأقولها بصراحة وبدافع الحرص على تلك الجهود التي بذلها ويبذلها الفقهاء في مسارات البحث والتنقيب في أدلة الأحكام الشرعية، ومع ما يشهده الواقع المعاصر من مسائل مستحدثة، جعلت مهمة الفقهيه أصعب من ذي قبل، أقول: لابد من الاهتمام بمجال (فلسفة الفقه)، والاشتغال على الحكم والغايات التي تنتج عن تشريع الأحكام الشرعية، وبرغم الجهود التي بذلت طيلة تاريخ علم الفقه، فإن الحاجة ملحة اليوم إلى تأطير الفقه بإطار قيمي عقدي أخلاقي غير منفصل عن منظومة المعارف الدينية، فإذا كان الفقه في مساره الاستدلالي منفصلا عن علم الكلام والعقيدة فإنه متداخل من ناحية المآل والغاية والنتيجة، والأحكام الفقهية تخلق أنموذجا من المجتمع ذا خصوصيات متعددة تتبع عامل العقيدة من جهة وعامل الفقه من جهة أخرى.

ومع اجتياح العقل المعاصر لكل موانع الفكر، ومع تمرده على مختلف الايديولوجيات، وفي كل الديانات والمذاهب المشكلة ذاتها، مع كل ذلك لابد من إعادة تنظيم إنتاج المعرفة الفقهية بما يناسب حجم الوعي أو التمرد –لنحسبه ما نشاء- وذلك يتاتى عن طريق وسيط معرفي يأخذ على عاتقه ايصال الحكم الشرعي من (المجتهد) إلى (الفرد المكلف)، والإيصال لا يتم بنحو مجرد، بل بنحو يغذي الفرد بما يحيط بالحكم الشرعي من فلسفة ورؤية ونتيجة ينبغي أن تكون في صالح الفرد المكلف في دينيه ودنياه.

إن الذي طرحته ليس جديدا، بل امتداد لما تم طرحه في عقود ماضية من ضرورة مراعاة ما ينتج من معرفة فقهية ومدى مواكبتها للعصر ومتطلباته، وفي حدود تتبعي القاصر شخصت مشكلات عدة في هذا المجال وبعض المحاولات للحل والتصحيح، في كتاب مستقل أسأل الله تعالى أن أوفق في إنجازه.    

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الأميركي المعروف فرنسيس فوكوياما، وهو مساهمته في الكتاب المعنون «الثقافات وقيم التقدم» الذي حرره صمويل هنتنغتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) أن الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعاً - إلى تحولات ثقافية. أقول إنها مسلّمة شائعة؛ لأنني أقبلها من جهة، وأتحفظ على تفاصيلها من جهة أخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبداً من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

على أن هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الإشارة إلى الاتجاه المعاكس، أي تفصيح السؤال المهم: هل يمكن للثقافة أن تغير الاقتصاد، كما أن الاقتصاد يغير الثقافة؟

حسن.

لماذا نعدّ هذا السؤال مهماً؟

من البديهيات أن الأمم تبجل ثقافاتها، وتعدّها جزءاً اساسياً من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت أياً من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن، فقد تلاحظ أنه يعدّ الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعدّ العرب أنفسهم أعلى الأمم كعباً، ولغتهم أوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون إلى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم أو مثبطة، أو تكون - على العكس من ذلك - محركاً للتقدم، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث الكثير من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلاً إلى مقدمة ابن خلدون الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها أو سمع عنها. لكن أبرز من طرح هذا الموضوع للتحليل العلمي، هو - على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». قدم فيبر مقاربة تجريبية - تفسيرية، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين، حيث توصل إلى أن العقيدة البروتستانتية، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الإصلاحي جون كالفن، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي، وتمجيد العمل الذي يعيد الإنسان لحياته في العالم الآخر، بعد أن يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الإيمان بالمركزية الأوروبية. لكنها - رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

- حسن... ماذا عنا؟

- هل نستطيع الجزم بأن الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم أو العكس؟

أعتقد أن هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب أمام نقاشات غير مفيدة. ذلك أن كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع، وعناصر مضادة. وإذا قلت - مثلاً - إن الثقافة الفلانية مثبطة أو معيقة، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها، وتستثير شعوراً دفاعياً أو تبريرياً بين أتباعها، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف أطرافها.

هنا نأتي إلى أخينا فوكوياما الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب، وهو ما أطلق عليه «رأس المال الاجتماعي» وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما، أي نواظم ومحددات ما أسميناه «العقل الجمعي». هذه ثوابت يشترك فيها أهل البلد كافة، وتمثل أساساً للتفاهم والتشارك في ما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار، ومن هنا فهي تخلق نوعاً من الفعل الجمعي المنسجم، الذي يمكّن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية، أو التعاون في الأعمال، تشكل موضوعاً للنقاش، وتحديد دورها، سلبياً كان أم إيجابياً، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة، ضمن جبهة التقدم أو العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تستعمل هذه المقالة مفهوم "الاستراتيجية"، الذي يُوظف في مجموعة من الحقول المعرفية، بما يحمل من حمولة غنية بالدلالات، كالتنظيم والتخطيط، وحشد الموارد، وتحديد الغايات (...) أما الخطاب فنقصد به مجموع ما قاله ويقوله طه خطابيا، وما يكتبه من نصوص أو متون، تحمل مضونا أو رسالة تقترح على المتلقي نمطا في الحياة؛ اجتماعيا وسياسيا اقتصاديا.

تتعلق الاستراتيجية بالمعنى السالف بالمشاريع ذات الطابع المادي، كم تتعلق أيضا بالمشاريع ذات الطابع الثقافي، وإلى هذا الصنف ينتمي خطاب طه؛ لذا اختارت المقالة موضوع:"الاستراتيجية الخطابية" التي يعتمدها طه عبد الرحمن لخدمة غايات هي سقف خطابه.

يوظف طه عبد الرحمن ترتيبات، ويعتمد خططا، كما يحشد موارد تأخذ القارئ إلى الغايات التي يريدها تتقوم باعتماد أساليب انشائية محكمة، وتوليد بنية مفهومية كثيفة، وهندسة خطابية صورية محسوبة؛ فقد تحول الخطاب الانشائي عنده، بوصفه منجزا لغويا، إلى سلطة فوق العادة؛ إذ تكاد سلطته اللغوية، والصورية المنطقية، تختزل، إن لم نقل تلغي جميع المكونات التي يتوسلها الخطاب في التبليغ والارسال، مثل البرهان، والانطلاق من الواقع والتأسيس عليه، والاعتماد على التاريخ (...)

وتتعضد هذا الموارد الخطابية، التي تبني "السلطة"، والتي تتحول في النهاية إلى "حجة" لتقرير غايات الخطاب، مثل كثرة التأليف، وتوليد المفاهيم والمصطلحات بشكل مبالغ فيه، وكثرة الكلام عن الفلسفة وتقنيات التفلسف والاقدار عليه (...)؛ وفي المقابل نقد التبعية والتقليد في مجال الفلسفة. لكن القارئ إذا استطاع تجاوز هذا الخطاب الكثيف وطبقاته الانشائية والمفهومية والصورية، واخترقها باتجاه الرسالة؛ أو لنقل المحتوى والمضمون، فسيكتشف شيئا آخر؛ وهو أن الأستاذ طه يكرس عكس ونقيض مضمون الخطاب؛ فهو يستعمل الخطاب ويكرس نقيض مضمونه؛ يتحدث مثلا عن الابداع ويكرس عدم الاقتدار، ويتحدث عن التجديد ويخدم بنفس الخطاب التقليد، ويتحدث عن الحرية ويكرس التبعية والوصاية، ويتحدث عن التأهيل المعرفي للثقافة ويكرس الاخصاء الفكري (الاختلاف الفكري: 90)، يكثر الكلام عن الفلسفة والتفلسف ويكرس سلطة التصوف الطرقي بوصفه؛ ليس مجرد فلسفة، بل باعتباره متفوقا على الفلسفة إلى درجة يتخذها موضوعا لنقده وتقويمه والكشف عن أسراره، وهو الذي يسميه: "فقه الفلسفة" (فقه الفلسفة 1: 26-29- إذ "يعلو" هذا "الفقه" على الفلسفة. (نفسه: 31).

وفي مجال التراث يلجأ إلى خطاب التعظيم والتبجيل وادعاء التفوق القيمي والفكري والمعرفي (تجديد المنهج: 9)، ولكنه في المقابل يغيب المحتوى والمضمون، فلا يشتغل على قضايا أو موضوعات محددة تعكس العظمة والتفوق والكمال، يقول معترفا منهجيته في تقويم التراث: "آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعا" (: تجديد المنهج: 421). أما إذا وقع ضحية "سحر" الخطاب وكثافته، فإنه لن يتأت له ذلك، لأن سلطة الخطاب تتحول إلى حاجز مانع بينه وبين الرسالة والمضمون الذي يحمله.

وسنخصص هذه المقالة لخطاب طه عن الفلسفة؛ إذ يدعي أن ما يكتبه يتأطر ضمن حقل الفلسفة والتفلسف، وتقوم "استراتيجيته" في هذا السياق على مجموعة من الخطوات نجملها في الآتي: 1-نقد واتهام المشتغلين بالفلسفة في الثقافة الإسلامية قدماء ومحدثين. 2-القول بخصوصية الفلسفة اليونانية، وبأنها مجرد امكان واحد من إمكانات فلسفية كثيرة. 3-اتهام الفلسفة الحديثة بالاقتباس المتنكر من الدين، وبالفشل في تحقيق ما وعدت به الإنسان بسبب انفصالها عن الدين. (فقه الفلسفة 1: 184).

ويتبع في هذه الاستراتيجية طريقة "النقض و الهدم"؛ يمهد به لطرح ما يعتبره بديلا؛ والبديل الطهائي الجاهز هو "التصوف الطرقي"؛ فهو يتهم المنتسبين إلى الفلسفة في العالم العربي الإسلامي اليوم بالتقليد، وبنقص التحصيل وبعدم التمكن من الفلسفة وآلياتها المنطقية، وبالعجز عن الإنتاج والابداع، وينتهي إلى ادعاء أنه يعمل هو على ملء الفراغ بالتنظير للإبداع وتعليم هؤلاء تقنيات انتاج الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 507)، ليصل بعد ذلك إلى تمرير إمكانية تعايش الفلسفة مع التقليد، في المرحلة الأولى، وبعدها يمرر فكرة اخضاع الفلسفة للتقليد تحت عنوان "فقه الفلسفة" في المرحلة الثانية. (تجديد المنهج: 290-291). يقول في سياق الرد على الاعتراض على فعل إخضاع الفلسفة، واتخاذها موضوعا لغيرها من المعارف: "فقد وضحنا كيف يكون النظر في الفلسفة أشرف من الفلسفة، وكيف تكون المعرفة الطبيعية، أوسع من المعرفة الفلسفية"، ولهذا يمكن أن تتحول إلى موضوع لعلم "ينزل رتبة فوقها ويتسع لما لا تتسع هي له". (فقه 1: 18-19)

يقوم بذلك من موقع الأستاذية، أو لنقل "الشيخ" الذي أصبح يحمل في سياق كلامه عن الفلسفة والتفلسف، اسم "فقيه الفلسفة"، فيكون هو "شيخ الفلسفة"، والمشتغلون بالفلسفة هم مريدوه؛ "ففقيه" الفلسفة يدرك ما لا يدركه الفيلسوف من أسرار فلسفته، والأسباب التي يتوسلها في إنشائها، ويتهمه بسبب ذلك بـ"العمى الفلسفي". (فقه الفلسفة 1: 19-20)

وفرضت عليه إيديولوجيا "التقليد" التي يخدمها في العمق تحت عنوان مقولة "مجال التداول"، مواقف ملتبسة، أو لنقل غير صريحة من الفلسفة؛ ففي السياق الإسلامي يعترف تارة بأن الفلسفة منقولة إلى الثقافة العربية الإسلامية، إذ لم تعرفها هذه الثقافة، أو بعبارة أستاذه الشاطبي "ليست من معهود العرب" الفكري والمعرفي (فقه الفلسفة 1: 83- 348)، وتارة يقول بوجود "فلسفة" تحملها العلوم الإسلامية، ويحمل الترجمة مسؤولية تعثر الفلسفة في الثقافة (فقه الفلسفة 1: 84)، وفي سياقه يعمل على "التنظير" للترجمة، وفي العمل تتضح غاية من غايات خطابه وهي "اخضاع" المنجز الفلسفي للآخر لما يسميه "مقتضيات مجال التداول"؛ أي للتقليد.

وسيلاحظ القارئ اضطراب موقف طه ذاك، وتحديدا بين القول بجود فلسفة في المعارف الدينية، وبين كون الفلسفة منقولة إلى الثقافة، وأن المنقول طغت عليه التبعية والتقليد، في المفاهيم والمضامين؛ ومن هنا الحاجة إلى إعادة النظر في الترجمة، التي ينبغي أن تكون "ترجمة تأصيلية"؛ يخضع فيها المنقول الفلسفي لأيديولوجيا "مجال التداول"، فيصبح المنقول الخاضع، أو بعبارته "المأصول"، "جزءا" فاقدا لهويته الفلسفية الأصلية، فنصل في الحصيلة إلى نتيجة أن العلوم الإسلامية: "فلسفة" يمكن الاستغناء بها عن أي منقول فلسفي، وهنا لا نستغرب أن طه عبد الرحمن صرح بهذا في أكثر من كتاب؛ منها قوله، في سياق الدفاع وتبرير رفض الفقهاء للفلسفة وتحريمها، مخاطبا المتلقي العربي المسلم: "كما أن هذا المتلقي يعرف أن من أهل مجاله التداولي، سواء من تقدموه أو عاصروه، من لم يكونوا يجدون  حاجة إلى هذا المنقول ولا توقفوا في نظرهم ولا عملهم عليه، بل كان بين أيديهم من العلوم ما كان فيه غناء عن هذا المنقول الفلسفي، هذا، إذا لم يتعاطوا إلى إظهار فضل العلوم الإسلامية على ما سواها من المعارف، ويصيروا إلى القدح في علم من يلتفت إلى هذه المعارف المنقولة". (فقه 1: 224)

كما أخذته الحساسية من النقد الذي تعرضت له ترجمته "للكوجيطو"، إلى الإفصاح عن موقفه، تحت ضغط الانفعال يقول مخاطبا منتقديه: "أما نحن وأنتم فلسنا من هؤلاء المتخمين والمغرقين، ولا هذه الفلسفة المتخمة المغرقة تصلح لنا ولكم؛ فزمانهم ليس زماننا ولا دنياهم دنيانا(...) فنحن بضد فلسفتهم أولى منا بعين فلسفتهم، ألسنا إلى فلسفة الجياع أحوج منا إلى فلسفة الشباع". (فقه الفلسفة 2: 25)

ويقول في سياق هذا الموقف أيضا: "لا يمتنع من حيث المبدأ أن تقرر أمة ما الخروج من عن العقلانية المجردة المألوفة، وتصطنع مناهج وأدوات تتسم هي الأخرى بالعقلانية، ولكنها لا تتوسل بالمقولات المجردة، إذ يكفي أن تكون هذه المناهج والأدوات قادرة على تحصيل المعرفة وتبليغها". (العمل الديني: 49)، ويقصد هنا مناهج العلوم الدينية ذلك: "أن التصنيع الفلسفي ليس موقوفا على الآلات اليونانية، وإنما يشمل غيرها (...) جاز أن يوجد هذا التصنيع في أمة العرب بغير الطرق التي وضعها الإغريق وفي غير الميادين التي خاضوا فيها (...) ولا يبعد أن نجد آثار هذه الصنعة حيث وجدت مظاهر النظر العقلي عندهم، ومعلوم أن هذه المظاهر لم تستقل بها المعارف المنقولة التي اشتهرت (...) تحت اسم واحد هو: "الفلسفة"؛ وإنما شاركتها فيها المعارف المأصولة التي اختص المسلمون بوضعها من علوم فقه وعلوم عقيدة وعلوم لغة". (فقه الفلسفة :2 113-114)

ويقول مؤكدا: "والتفلسف، على الحقيقة، إنما هو القدرة على التوسل في الأمور بالأسباب الاستشكالية والاستدلالية، فإذن وجود هذه القدرة في علوم الفقه والحديث والتفسير يوجد فيها فلسفة كما أن وجودها في التصوف وعلم الكلام وأصول الفقه وعلوم النحو واللغة والبلاغة يوجد فيها هي الأخرى فلسفة". (نفسه: 114)

أسس هذا كله، بعد أن مهد له بالقول أن الفلسفة إمكانات متعددة، وليس إمكانا واحدا هو الإمكان الإغريقي قديما، والإمكان الغربي حديثا؛ وهذا الإخراج هو الوجه الآخر لما قرره بشأن الحداثة بأنها ليس واحدة، وإنما حداثات، إذ لكل ثقافة حداثتها(روح الحداثة: 16 ) يقول: "التحقيق أن باب التفلسف ليس واحدا لا يدخل فيه إلا من احتذى حذو اليونان حذو النعل بالنعل، وإنما التفلسف إمكانات متعددة ليس النموذج اليوناني إلا إمكانا واحدا منها، غير أن الإمكانات الأخرى أصاب بعضها ابتلاء الزمان، فاندرس اندراسا، وغلب على بعضها النموذج اليوناني، فقضى عليه في مهده قضاء، أما بعضها فقد وقعت نسبة نمطه في التفكير إلى غير التفلسف (...)".(فقه الفلسفة 1: 23)

لم يشتغل طه على إثبات الدعوى وتحقيقها، كما يقتضي منطق الاقناع، ففضل الهروب من الدعوى الكبرى بقوله: "لا يعنيننا هنا تقصي مداخل النظر الفلسفي في العلوم الإسلامية العربية". (فقه 2: 114) واكتفى بعرضها بصيغة الاحتمال، بعدما حكم بشكل حاسم بوجود الفلسفة في المعارف الدينية يقول: "يجوز أن تتضمن الصنعة الفلسفية في المعارف المأصولة آليات وقوانين لتصنيع الفكر الفلسفي لم يتوصل إليها اليونان". (نفسه: 115)

إن لعبة الإخضاع، التي يسميها "التأصيل" تصل بنا، بعد كثرة الإنشاء عن الفلسفة والتفلسف، إلى حيث نحن ههنا، وإلى حيث كنا في زمن مضى؛ إذ نكتشف أن ما بين أيدينا من معارف إسلامية: "فلسفة"، استغنى بها "أسلافنا" عن الفلسفة الإغريقية، ونحن كذلك، واقتداء بمن يمثلهم في زماننا وعصرنا؛ أي طه عبد الرحمن "بضد فلسفة عصرنا أولى"، كما نص عليه سابقا.

يعود بنا طه، من جديد، إلى حيث نحن، بعد مسار إنشائي آخر في سياق الكلام عن الفلسفة والتفلسف، عبر الترجمة التي حسم خياره بتقدم ما يسميه "الترجمة التأصيلية" على غيرها من الترجمات، التي تقوم على حق المترجم في إخضاع المتن المترجم لأيديولوجية "مجال التداول"، وتوظيف كل ما هو متاح له من آليات الإخضاع؛ من تغيير وحذف وتحوير، إلى الدرجة التي يمحى فيها أي أثر يدل على أصله ومصدره (تجديد المنهج: 291-298 ويصرح بفعل الخضوع في، ص: 313).

يحصر طه "الابداع" الفلسفي في فعل الإخضاع هذا، وبجعله هذا القسم من الترجمة في الرتبة الأولى التي يتعين على المترجم العربي المسلم الاشتغال عليها، يخرق المبدأ التربوي والبيداغوجي، الذي يقتضي مراعاة وضع المترجم والمترجم له في السياق العربي الاسلامي، والذي يعترف هو نفسه، أن هذا المترجم والمتلقي سوية، هم في طور تعلم الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 376)؛ فكيف يتأتي له فعل التأصيل-" الإخضاع" وهو في هذا الطور؟ لا علينا لنرى الآن المنتوج الذي ولد من رحم "الترجمة التأصيلية" لطه، وهو ترجمة "الكوجيطو" وهي "انظر تجد"، أليس هذا المنتوج عود بنا إلى حيث كنا وههنا؟ حيث كشف لنا طه أن "الكوجيطو" هو "نحن-التصوف"؛ فنكون من جديد، في غنى عن معرفة كوجيطو ديكارت فهو قاصر (روح الحداثة: 63)، حيث المطلوب منا ولنا، ليس إثبات الذات واقتدارها، وإنما هدرها وسحقها لأنها أنانية ومنازعة.

وتثرى كشوفات "العود" الطهائي، من مسار خطابي مواز للإنشاء حول الفلسفة، يتصل بنظرة طه إلى الإنسان وإلى الآلية التي بها ينتج الإنسان الفكر والفلسفة وهي" العقل"، وفي سياق هذه النظرة تفرض أسئلة نفسها منها هل الإنسان مسلوب الإرادة والحظوظ (الحقوق) (العمل الديني: 135) والفاعلية يقدر على الفعل، بله فعل الإبداع؟ إنسان طه لا إرادة له ولا فاعلية ولا حظوظ له (العمل الديني: 136-144)؛ وتبعا لذلك، فعقله قاصر وغير مستقل بالإدراك (العمل الديني: 43+ الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 23-24) لذا لابد من تجاوزه إلى "طور إدراكي يفوقه"، ويمهد، بهذا الموقف، الطريق للقول بوجود "عقل" متعالي عن العقل الطبيعي الذي يشترك فيه ويمتلكه جميع الناس، والذي يسميه ب "العقل المؤيد"، ويجعله في الرتبة الأولى في تقسيمه الثلاثي، الذي تظهر عليه علامات رد الفعل على التقسيم الثلاثي للمرحوم الجابري.

ما يهمنا في سياق هذه المقالة، هو أن طه عبد الرحمن يعود بنا من جديد إلى "نحن" حيث هي؛ أي إلى "نحن- عقل الصوفي"، الذي يجعلنا في غنى عن "العقل"؛ إلى حيث نحن مجرد "أتباع" لـ"عقل"؛ هو قطعا ليس هو عقلنا الذي لنا بوصف كل واحد منا إنسانا كامل الإنسانية.

يقوم مشروع طه إذن على العودة بنا إلى حيث كنا؛ فأخطاء ما كنا عليه أقوم وأنفع من صوابنا (تجديد: 82)، ولا نقبل من العلم إلا ما كان موافقا "للنحن" الماضية؛ أي لأصول مجال التداول (نفسه: 85) واقتضى منه ذلك تحديد مهمته في العمل على إخراجنا من العقل إلى "طور إدراكي متفوق عليه" (فقه الفلسفة 1: 180-185)، وإخراجنا من عصرنا الروحي الذي لا ينبغي لنا غيره (سؤال الأخلاق: 80-110-112)؛ كل هذا يتم تمريره أثناء إنشاء خطاب وكلام كثير حول الفلسفة وباسمها.

فرضت مهمة "إظهار ما عظم من التراث المتفرد" على طه (تجديد المنهج: 9)، والدفاع عنه (تجديد المنهج:12+العمل الديني: 18)، في المقابل مهمة أخرى تتعلق بالعقل وبالبرهان وبالمنطق وبالفلسفة، وهي مهمة العمل على نقضها والتشكيك في قدرتها، وادعاء قصورها، إذ هي شرط لتمرير المهمة الأولى التي أخرجها تحت عنوان ادعى له الصفة الفلسفية وهو "الإئتمانية"؛ وهكذا سنكتشف مع الأستاذ طه أن العقل قاصر (العمل الديني: 43، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 24)، وأن منحه الحرية في البحث والتفكير يؤدي إلى الفوضى والتسيب (فقه الفلسفة 1: 183)، وأن مقدمات البرهان غير يقينية، وبالتالي نتائجه كذلك غير يقينية (فقه الفلسفة 1: 189)، وأن أقوال الفلاسفة مجرد ظنون، وأدلتهم صروح واهية (فقه الفلسفة 1: 217)، وبعد عملية الهدم هذه؛ يسميها "استئصالا" (فقه الفلسفة 2: 12)، يبني على أنقاض المهدوم؛ فيصبح "العقل المؤيد" الذي هو: "عقل أعلى من العقل المعلوم قادر على إدراك الحقائق التي لا يدركها هذا العقل المألوف" (روح الحداثة:51)، بديلا عن العقل، والجدل الكلامي بديلا عن البرهان؛ فالأول أغنى وأوسع، والثاني فقير وغير مقنع (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 40-60)، والمنطق الطبيعي بديلا عن المنطق الصناعي لأن: "أصول الفلسفة طبيعية وليست صناعية" (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 60)، و"الإئتمانية" الصوفية الطرقية بديلا عن الفلسفة؛ فيتحقق لنا العود إلى الذات الغنية المكتفية والمستغنية فـ: "الإئتمانية تستغني بثراء رصيدها الديني عن تقليد المفاهيم العلمانية" (المفاهيم الأخلاقية 1: 184)، ففيها غناء عن العقل والبرهان والمنطق والفلسفة، التي لا يمكن أن تكون جميعها، في هذا السياق، إلا نتاج "مجال تداولي" آخر يقول في كتاب: "روح الحداثة": "نذكر القارئ بأن المدخل الثاني هو إعادة اكتشاف الذات". هامش، ص: 148.

ونود في ختام هذه المقالة الإشارة إلى أمرين؛ أولهما يتصل بحصولي، من صديق عزيز، على ملف كامل يحتوي على مقالات نقدية، وتقارير وندوات حول كتاب: "ثغور المرابطة" للأستاذ طه، تتقاطع نتائجها وخلاصاتها مع نتائج عملي النقدي الذي أشتغل عليه؛ فقد كان الكتاب بالنسبة لكثير من أنصار الرجل سببا لفك الارتباط معه ومع فكره؛ إذ كشف الكتاب، في رأيهم، حقيقة مشروحه الخطابي الذي هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى أي شيء آخر علمي أو فكري أو فلسفي.

وتعززت أيضا بصدور عمل نقدي قائم بذاته، في الأيام الأخيرة بمدينة أكادير، يحمل عنوان: "الدين والسياسة من السائلية إلى المسؤولية: نقد الأطروحة الإئتمانية لطه عبد الرحمن" لمؤلفه عبد السلام أقلمون؛ وما يهم في العملين في سياق هذه المقالة، هو تأكيد وتعضيد أطروحتها المتعلقة "بتوظيف سلطة الإنشاء والخطاب" لخدمة ما يسميه مؤلف الكتاب المشار إليه بـ "العتاقة" (ص:6).

ثانيهما ننوه فيه إلى أن قلم الأستاذ طه لم يتأت له الكثير مما رقنه، لولا شروط أربعة، هي بمثابة مبادئ لأشغاله وخطابه وهي:

1-تجاهل التاريخ وتغييبه؛ تاريخ التراث، وتاريخ الثقافات، وتاريخ الدين أو الأديان، ويكفي أن نمثل له بطريقة مقاربته لحدث تراثي كبير يتعلق بحدث "جمع القرآن". (المفاهيم الأخلاقية: 239)

2- تجاهل وتغييب الواقع العربي الإسلامي؛ فرغم ما يعرفه واقع المسلمين من تخلف وانحطاط وضعف (...) ينيط بهم مسؤولية "تخليق" العالم، بدعوى أن الزمن الاسلامي هو زمنهم الأخلاقي والروحي الذي ظهرت فيه الحداثة.

3-موقفه من العقل، كما سبقت الإشارة إليه، ويبقى ما اوردناه بخصوصه مجرد أمثلة، ونضيف هنا نصا يكشف سبب هذا الموقف ومن المنطق عامة يقول في كتاب: "تجديد المنهج": "وإذا نحن تبينا الآفات العقدية الثلاثاء التي يقع فيها المنطقي (...) ووضعنا في الاعتبار إمكان تعرضه لأكثر من آفة واحدة، بل إمكان دخول أعظم آفة عقدية عليه، وهي آفة الجحود، أدركنا كيف أنه يخشى على الأصل التداولي العقدي من الممارسة المنطقية: أليست هذه الممارسة تفقده قوة الاشتغال التي تكون جانب التسديد العملي من العقيدة. ولا بدع حينئذ أن توجه إلى المنطق انتقادات تنسبه إلى القرمطة وأن يتعرض صاحبه إلى التهمة بالزندقة". (ص: 324)

4-الإشتراط على العلم بضرورة الموافقة لأيديولوجية مجال التداول؛ وهو بهذا الموقف، يعيد نفس الشرط الذي وضعته السلفية القديمة في وجه "الرأي" و"العلم" والذي صاغه أبو اسحق الشاطبي بشكل صريح، وهو أن أي "علم لا يقبل إلا أذا كان جزءا من "معهود العرب" يقول: "فكل العلوم، نقلية كانت أم عقلية، يجب أن تكون خادمة للحقيقة الغيبية، وكل مشتغل بهذا العلم أو ذاك، لابد أن يصل إلى إدراك جانب منها، وأن يستزيد التقرب منها، وإلا كان علمه غير خادم للمقصود الأصلي منه، وكان لا يستحق أن يوصف بوصف العلم النافع، حتى إن الباحث المسلم يكون مطلوبا أن يخرج معارفه والنتائج العلمية التي يتوصل إليها على مقتضى دلالة هذه الحقيقة الإلهية". (العمل الديني: 149، سؤال الأخلاق: 189).

جعلت هذه المبادئ طه عبد الرحمن في حل من القواعد التي يقتضيها الاشتغال العلمي، فأخذ يؤسس الدعاوى، ويصدر الأحكام، واعتبار ما يريد هو "مسلمات".

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

كان يقال ان إيمانويل كانط لم يقرأ أي كتاب مرتين، باستثناء كتاب " بحث في الفهم الإنساني " لديفيد هيوم - ترجم الكتاب الى العربية باكثر من ترجمة ابرزها ترجمة موسى وهبه بعنوان بحث في الفاهمة البشرية - ، وقد قال عنه انه ايقظه من غفوته.عندما صدر كتاب هيوم عام 1748 كان كانط يبلغ من العمر اربعة وعشرين عاما.عاش حياة منظمة وشديدة الصرامة، كان يحتفظ بالكتب في مكانين اثنين، غرفة الطعام، حيث خصص بها مساحة لتخزين بعض الكتب التي يقرأها اثناء تناوله قدح الشاي في الخامسة صباحا، أما المكان الثاني فكان خزانة خشبية كبيرة، تحتل جدارا كبيرا في غرفة المكتب، في اوقات الظهيرة يتمدد على كرسي ليقرأ، وكان مهتما بقراءة الصحف كل يوم، مع قراءة كتب في الرحلات والعلوم الطبيعية والطب. الخزانة مليئة بالكتب الفلسفية والعلمية ونسخة من رواية دون كيخوته مترجمة الى الالمانية، ونسخة قديمة من كتاب " المبادئ " لاسحاق نيوتن. وفي غرفة النوم يضع كتب روسو ودبفيد هيوم قرسريره، حيث يقرأ ساعة قبل النوم، وفي الاثناء يسجل في اوراق بعض الملاحظات.

في العشرين من عمري بدأت اتلمس الطريق الى فلسفة إيمانويل كانط، عندما حصلت على نسخة من كتاب زكريا ابراهيم " كانت أو الفلسفة النقدية "، وهو الكتاب الاول من سلسة عبقريات فلسفية، وكنت اجد كتب زكريا ابراهيم مؤثرة جدا، لم تكن لي فكرة مسبقة عن كانط، سوى انني تعرفت على اسمه للمرة الاولى من خلال مقال نشرته مجلة العربي بعنوان " امانويل كانط " كتبه محمد فتحي الشنيطي، ربما ذكرت سابقا ولعي بكتب الفلسغة، إلا ان السيد كانط لم يجد له مكانا ضمن اهتمامي، رغم ان كتبه موجودة في المكتبة، التي اعمل فيها ونادرا ما يتجرأ احد الزبائن ويطلب نسخة منها. مجلدات ضخمة الحجم بعناوين غريبة " نقد العقل المجرد "، " نقد العقل العملي "، احيانا اقول لنفسي كلما انظر الى هذه المجلدات،هل ساتمكن يوما من قراءتها، وهل ساستمتع بكتابات كانط ؟، وبالطبع فانني وضعت هذا الافتراض قبل ان اقرأ كلمة لهذا الفيلسوف. ذات يوم سأمد يدي الى الرف لاتناول نسخة من كناب " نقد العقل المجرد "، جلست في زاوية من المكتبة اتلصص على الزبائن وأنا اقلب صفحات المجلد، اقرأ في المقدمة التي كتبها المترجم احمد الشيباني عسى أن اعرف سر من اسرار هذا الفيلسوف، وجدت المترجم يخبرني ان كانط استخدم كلمة مجرد لأنه:" يرى في كتابه هذا ان العقل هو، في نشاطه الرئيسي ونزوعه الجوهري، مجرد من الحس، ومتحرر من الحساسية " – نقد العقل المجرد طبعة دار اليقظة العربية 1965 – وقبل أن أتيه في دوامة الحس والحساسية انتهبت على صوت صاحب المكتبة يطلب مني أن البي طلب احد الزبائن. كنت امني النفس ان افهم ما ذا يريد السيد كانط من كتابه الضخم هذا، والآن ربما زكريا ابراهيم يأخذ بيدي، ويطمأنني أن لاشيء يدعو للخوف، من هذا الفيلسوف الذي يصفه مقال مجلة العربي بأنه رجل غريب الاطوار.

في المكتبة كنت ارى بعض الزبائن يطلقون اوصافا على بعض الكتب، منها صفة عظيمة والبعض الآخر يراها ممتعة، فيما البعض يقع في حب مؤلف إلى حد البحث عن جميع كتبه، وقارئ يحاول ان يجمع طبعات نادرة من مؤلفات كاتبه المفضل. وكنت أسال ما الذي يجعل هذا المؤلف عظيما ؟، فقد كانت كتب " كانط " برغم قلة مبيعاتها إلا انها كتب مبجلة عند الزبائن الذين يهتمون بالفلسفة والادب، ايقنت حينها ان الجميع بالتاكيد قد اطلعوا عليها، إلا ان اخبرني ذات الروائي الراحل فؤاد التكرلي وكان من زبائن المكتبة، من ان بعض الكتب تحتل مكانتها المتميزة ليس لأن الجميع قرأها وفهمها، أو انها كتب ممتعة، بل لأنها مارست تاثيرا على مسيرة الفكر البشري، فالكاتب العظيم ليس مهما أن يكون ممتعا.وسيؤكد زكريا ابراهيم ان كتب " كانط " رغم صعوبتها هي الفلسفة ذاتها لانها تحمل في صفحاتها " تساؤلات واستفهامات "، اما عن كتابه الذي تورطت به يوما " نقد العقل المجرد او المحض " فها هو زكريا ابراهيم يؤكد شكوكي حيث يقول انه جاء:" حافلا بالاصطلاحات، وشتى ضروب التكرار، حتى وقع في ظن الكثيرين انه أعسر كتاب فلسفي ظهر في العصور الحديثة " – زكريا ابراهيم كانط الفلسفة النقدية -  

كان صاحب الكتاب الشهير " قصة الفلسفة " وول ديورانت يحذر قراء إيمانويل كانط من السير اليه بشكل مباشر، فهو كما يصفه " عقل لا يمكن حلّ ألغازه، ولهذا فان الطريق اليه يجب أن يمر اولاً عبر الكتب التي كتبت عنه:"، وأن يكون آخر ما نقرأه هو ما كتبه كانط نفسه " – قصة الحضارة ترجمة احمد الشيباني –. يُذكر ان شوبنهاور كان يردد ان فلسفته " استلهمت استلهاماً ثميناً كتابات كانط "، وظل طوال حياته مغرما بكتاب " نقد العقل المجرد "، وصفه بأنه اعظم كتاب في الفكر الالماني، فيما بعد سيعتبر نفسه الوريث الشرعي لفلسفة كانط، وانه وحده الذي يملك الحق بتصحيحها وتقديمها وتكملتها – نقد الفلسفة الكانطية ترجمة عبد الحميد لشهب –

كان الابن الرابع لعائلة تتكون من تسعة اطفال، مات ثلاثة منهم وهم صغار، عاشت العائلة في جو ديني متشدد.ولد إيمانويل كانط في الساعة الخامسة صباحا من يوم الثاني والعشرين من نيسان عام 1724، في مدينة كونيغسبرغ والتي كانت جزءً من المانيا، تأسست في نفس السنة التي ولد فيها كانط من تجمع ثلاث مناطق سكنية، عاش في مدينته كونيغسبرغ حياة هادئة، ولم يكن يتوقع يوما ان هذه المدينة الصغيرة ستهب عليها ويلات الحروب التي كان يحذر منها، وانها بعد ان كانت تخضع للسيادة الألمانية، تصبح بعد نهلية الحرب العالمية الثانية تحت السيطرة الروسية، ويتغير اسمها من كونيغسبرغ الى كالينينغراد حيث قامت روسيا باخلاء المدينة من السكان الالمان، ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية وقدمت المانيا عرضا مغريا عام 2001 بشراء مسقط راس اعظم فلاسفتها، مقابل، إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، والتي تجاوزت 25 مليار يورو، جوبه العرض برفض روسي. كان والد كانط " يوهان جورج " يعمل سراجا، وطالما استخدم الاحزمة في تأديب اطفاله، مات عندما كان كانط في الثانية والعشرين من عمره، اما امه " حنا ريجينا " فقد توفيت وهو في الثالثة عشر من عمره، كانت امراة شديدة التدين تمنت ان يصبح ابنها كاهنا، ولم تكن تدري ان هذا الطفل الخجول سيوجه فيما بعد اشرس نقد للكنيسة، ويطلق عبارته الشهيرة " إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يُصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه " – كانط الدين في حدود العقل ترجمة فتحي المسكيني -.

عاش طفولة بسيطة، كان الاب والام يتبعان الطائفة التقوية، وهي جماعة بروتستانية رفضت تعاليم لوثر، ما ان بلغ الثامنة من عمره حتى قررت الام ان يتزود ابنها بثقافة دينية، فادخلته مدرسة " الفردريكية "، التي كانت تنشيء الاطفال على المبادئ " التقوية "، في المدرسة تعلم اللغة اللاتينية واتقنها، بسبب الفقر عملت اخواته في وظائف منزلية، اما شقيقه الاكبر فقد تمرد على " تقوية " العائلة واصبح قسيسا من جماعة لوثر، وصف بأنه كان طالبا هادئا، اشتكى بعض المعلمين من عدم قدرته على الحفظ، مما دفع امه ان تكلف احد اقاربها لمساعدته في التعلم، في المقابل كان مهتما بقراءة الكتب العلمية، وسعى للحصول على كتب نيوتن وغاليلو. في الجامعة التي دخلها عام 1746 قرر ان يتخصص بدراسة اللاهوت ليحقق امنية عائلته، لكنه سيترك اللاهوت ويتجه لدراسة الرياضيات والفلسفة، تعلق بفلسفة ليبنتز المتوفي عام 1716، الذي كان يرى ان العالم يتكون من عقول اولية تسمى " موندات " أي الوحدات المتناهية في الصغر، وكان كتابه " المونادولوجيا " – ترجمة عبد الغفار مكاوي - والذي صدر عام 1714 أشهر أعماله وأكثرها دلالة على مذهبه. كذلك اهتم كانط بدراسة مؤلفات نيوتن، عام ١٧٤٦ تقدمَ برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين فلسفة ديكارت وليبنتز، وهي نفس السنة التي توفى بها والده فاضطر ان يعمل مدرسا في الريف عند الاسر الغنية ليعيل شقيقاته، امضى تسع سنوات في مهنة المعلم، قال فيما بعد انه ربما كان أسوأ معلم عرفه العالم.في هذه الفترة كان منشغلا في كتابه الاول " التاريخ العام للطبية ونظرية السماء " الذي استطاع ان ينشره عام 1755 على نفقة احد الاغنياء، والمثير ان كانط رفض ان يضع اسمه على الكتاب خوفا من تعرضه لهجوم الكنيسة. يعود الى مدينته كونيغسبرغ ليكمل دراسته ينال شهادة الدكتوراة عن رسالته التي كانت بعنوان:" المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية" يحصل على وظيفة محاضر في الجامعة من دون راتب، حيث يتعين عليه ان يكسب مالاً مما يدفعه الطلبة لقاء سماعهم لمحاضراته، وبعد فترة وجدت الكلية ان قاعة المحاضرات التي يلقي فيها كانط دروسه تمتلأ بالطلبة، حتى ان البعض ينتظر واقفا في الخارج، وهو الأمر الذي حسن من وضعه المالي. استمر في مهنة المحاضر خمسة عشر عاما، عين عام 1770 استاذا للمنطق والميتافيزيقيا في جامعة كونيغسبرغ، وفي عام 1780 اصبح عضوا في مجلس الشيوخ الاكاديمي، وبعد اعوام يتم اختياره لعضوية الاكاديمية الملكية للعلوم في برلين. يتم تعينه عميدا لكلية الاداب، وفي عام 1786 يتولى منصب مدير الجامعة، يبقى في المنصب عشر سنوات وبسبب مشاغله وبحوثه يقدم في شباط من عام 1796 طلبا باعفاءه من المنصب يقول فيه:" إن ضعفي بسبب شيخوختي يضطرني الى أن اعلن عجزي عن القيام بهذه المهمة. في الثالث والعشرين من تموز عام 1796 يلقي آخر محاضرة له في الجامعة وكانت عن المنطق. يقيم الطلبة احتفالا بمناسبة تقاعده، حيث نظموا موكبا كبيرا تتقدمه فرقة موسيقبة وعدد من الاساتذة، سار الموكب من الجامعة الى بيت كانط.

عاش الفيلسوف الماني الشهير حياة بسيطة ، يستيقظ كل يوم في الخامسة صباحا، ينام لمدة سبع ساعات، بقضي ثلاث ساعات من الخامسة الى الثامنة صباحا في القراءة والكتابة. يذهب الى الجامعة في الوقت المحدد، يعود الظهر الى البيت، في الخامسة عصرا يمارس رياضته المفضلة المشي، ومن الطريف انه اثناء المشي لا يتكلم مع احد ويرد السلام باشارة من يده، فقد كان يعتقد ان الفم يجب ان يبقى مغلقا اثناء المشي وان التنفس يكون من الانف فقط.. يكتب فريدريك غرو في كتابه " فلسفة المشي" – ترجمة سيعيد بوكرامي - ان كانط لم يغير مساره اليومي إلا مرتين في حياته، مرة للحصول على نسخة مبكرة من كتاب إميل لجان جاك روسو، ومرة عندما ذهب لمتابعة اخبار الاعلان عن الثورة الفرنسية. يفلسف اهمية الرياضة في حياة الانسان، ويرى أن المشي لمسافات طويله يجب ان يتحول إلى قانون يومي يرافق الانسان، بشرط أن تسير لوحدك دون ان يجهدك صديق او تلميذ في حديث غير مجدي.

ظهرت ثلاثية كانط النقدية في وقت متاخر من حياته: نقد العقل الخالص او المجرد عام 1781، نقد العقل العملي عام 1788، نقد ملكة الحكم عام 1790. فيما صدرت كتبه الآخرى في نفس الفترة، كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الاخلاق عام 1785، الدين في حدود العقل المجرد عام 1793، وعلى الرغم من تدهور صحته في سنواته الاخيرة إلا انه لم يتوقف عن التاأيف، حيث اصدر عام 1795 كتاب مشروع للسلام الدائم وكتاب ميتافيزيقيا الاخلاق عام 1797، وكان آخر كتاب ظهر له " تأملات في التربية " عام 1803، قبل وفاته بعام حيث توفي في الثاني عشر من شباط عام 1804، واجريت له مراسيم دفن شارك فيها كبار مسؤولي المدينة مع اساتذة الجامعة والمئات من الطلبة. كان كانط قد كتب وصية سلمها لشقيقته عن اسلوب الجنازة التي يرغب فيها، فقد اراد ان تكون في الخامسة صباحا، وهو الوقت الذي كان يستيقظ فيه كل يوم، وان يحضرها عدد قليل من الاصدقاء، وان تسير في نفس الشارع الذي كان يتنزه به مساء، إلا ان المسؤولين في المدينة قرروا ان تقام له جنازة مهيبة وان تسير جنازته الى الكاتدرائية حيث تجمع الآلاف من طلبته ومن سكان مدينته ، بعد ذلك تم دفنه في رواق الجامعة التي قضاى فها فيها معظم حياته.

في معظم كتاباته كان ايمانويل كانط يعبر عن ايمانه بالاستخدام الحر للعقل لفحص كل شيء، مهما كان تقليديا أو مقدسا، كانت الفكرة التي تشغل تفكيره هي التوفيق بين الاخلاق والدين من جهة والمعرفة العلمية من جهة اخرى، وكان يسعى لرسم صورة موحدة. يكتب في مقدمة نقد العقل الخالص:" إن معرفتنا تنبع من مصدرين عقليين أساسيين: الأول هو القدرة على تقبل الانطباعات، والثاني هو القدرة على معرفة الشيء يهذه الانطباعات او التمثلات. وبالأول يُعطى لنا الشيء، وبالثاني يُفكَّر في الشيء.. لا يجوز تفضيل قدرة منهما على الأخرى، فبدون الإحساس لن يُقدم أي شيء لنا، وبدون فهم لن يُفكَّر بأي شيء. إن الأفكار التي بلا محتوى فارغة، والحدوس التي بلا مفاهيم عمياء ".

يلخص لنا كانط في كتاب " نقد العقل الخالص " جميع اهتمامات العقل التاملية والعملية من خلال ثلاثة اسئلة:

1- ما الذي يمكنني معرفته

2- ما الذي يجب عليّ القيام به

3- ما الذي قد آمله

قد يتساءل البعض بعد كل هذه السنوات هل تمكنت من حل الغاز هذا الفيلسوف الذي توصف كتاباته بالغامضة والمعقدة؟ في الحقيقة خلال تجوالي في كتب الفلسفة ايقنت ان بعض الفلاسفة ومنهم كانط جعلوني أتنصل من كثير من المفاهيم التي كنت مقتنعا بها، لأبدلها بافكار ومفاهيم اوسع. في اوائل العشرين من عمري كنت تائها بين مفاهيم كثيرة، لكن بعض الكتب استطاعت ان توسع مداركي، وان تحررني من الافكار المستهلكة.

ليس نقد العقل المجرد الذي تصفحته للمرة الاولى قبل اكثر من اربعين عاما مجرد كتاب فلسفي ضخم، انه عمل صعب بالنسبة للمختصين وغير المختصين.انه كتاب يتطلب تركيزا فكريا قويا،وقدرة على التحمل والصبر،لكن لا يمكن لأي مهتم بالفلسفة ان يعفي نفسه من الاطلاع عليه، انه يلاحقنا عندما يطرح السؤال الازلي:" ما الذي بوسع الانسان معرفته ؟ ".

توصف فلسفة كانط بانها شبيهة بثورة كوبرنيكوس في الفيزياء عندما اخبرنا ان الارض لم تعد مركز الكون، وإنما الشمس،، جاء كانط ليطلب منا ان نغير نظرتنا فيما يتعلق بالمعرفة " إذا اردنا معرفة حدود عالمنا، يجب علينا ان نتحقق من حدود قدرتنا الذاتية على المعرفة "، فهو بدلا من ان يحاول تفسير المفاهيم العقلية على اساس التجربة، قام بتفسير التجربة على اساس المفاهيم العقلية، وهكذا ووفقا للثورة " الكانطية، اصبح من واجب الاشياء والحقائق الموضوعية ان تدور حول العقل لكي تتحول الى معرفة، بدلا من أن يدور العقل حول الاشياء والحقائق الموضوعية لكي يحصل على المعرفة. وقد تصور كانط انه بهذا الكتاب انما يصحح خطأ تاريخيا في ميدان المعرفة، اشبه بالخطأ الذي قام كوبرنيكوس بتصحيحه في علم الفلك. قام كانط بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق.مؤكداً: " إن الجزم بالمفاهيم السائدة، بكلمة نعم أو لا، يعتبر مصيدة عقلية، وسعى الى انقاذ القوانين العلمية للطبيعة، وعلى الأخص علم الفيزياء من الشك، وذلك عن طريق اثبات ان الارتباطات الضرورية لقوانين الفيزياء تقوم على التصور السببي الضروري للعقل البشري. لقد اضطر كانط لإنقاذ الحقيقة والمصداقية العلمية ، الى جعل القوانين العلمية تعتمد على العقل وتصوراته، والى القول بأن النظام الذي تبرهن عليه قوانين الفيزياء ليس في الطبيعة  بل هو آتٍ من التصورات الكلية والضرورية للعقل الانساني. حيث اكتشف ان الطبيعة لا تعطي العقل البشري قوانينها، لكن العكس هو الصحيح، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة، من خلال تصوراته الضرورية التي تنظم جميع المواد الحسية، وهذه هي التصورات التي تشكل وتنظم وتنشئ جميع تجاربنا ومعرفتنا بالطبيعة، ونذكر عبارة كانط الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، وهكذا يتضح ان قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري. ومع ظهور كانط اصبح النظام العالمي تابعاً للعقل كما قال برتراند رسل.، وان المعرفة هي نتاج نشاط العقل البشري.

عند قراءتنا المتأنية والمتعبة لكتب كانط سنكون قد وضعنا ايدينا على اهم مغزى للتحول الذي احدثه صاحب ثلاثية العقل، فهو تحول عن العالم الخارجي للطبيعة المستقلة الى العالم الداخلي لنشاط وقدرات العقل كمفتاح لما نجربه ونختبره، وما نعرفه، وان أي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه والى التصورات التي يستخدمها العقل في فهم الاشياء، وهذا التحول الكانطي فتح افاقا جديدة للفلسفة والعلوم والدراسات الانسانية.

في الثانية والعشرين من عمره سيكتب هذا الرجل الذي ظل عازبا طوال حياته:" لقد رسمت لنفسي الطريق الذي ساسير عليه في حياتي، ولن يمنعني شيء من متابعة السير والمضي قدما ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية.

يتم تعريف التهميش غالباً على أنه عمليات تفاعلية تراكمية تساهم/ ويتم من خلالها  دفع الأفراد أو المجموعات إلى هامش المجموعة، أو خارج المجموعة/السياق، نحو الحواف الخارجية للمجتمع بعيداً عن المركز. وقد يكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، عندما لا يحصل المهاجرون على وظيفة دائمة، أو عندما يترك الشباب المدارس، أو عندما لا تتمكن الأمهات العازبات من السماح لأطفالهن بالمشاركة في نفس الأنشطة الترفيهية مثل الأطفال الآخرين.

فالأفراد أو الجماعات المهمشة ليسوا موجودين بالكامل خارج المجتمع ولا في داخله بشكل كامل. ويجدون أنفسهم في منطقة رمادية بين الإدماج والاستبعاد، وغالباً ما تتاح لهم فرص أقل للمشاركة في المجتمع مقارنة بغيرهم.

وخلافاً لمفهوم الإقصاء، فإن مفهوم التهميش يعني ضمناً أن الأمر لا يزال يتعلق بمشاركة جزئية، وإن كانت هامشية، في سياق/مجموعة. يمكن فهم الهامشي بالطريقة التي لا يستطيع بها المرء المشاركة بشكل كامل. يشمل التهميش حقيقة أن تأثير الفرد محدود للغاية أو معدوم على الظروف المهمة في حياته.

أشكال التهميش

التهميش ظاهرة ذات أبعاد مختلفة. يشارك المرء الطبيعي في المجتمع من خلال عدة مجالات مختلفة. على سبيل المثال: يذهب إلى المدرسة، ويشارك في الحياة العملية، ويمارس أنشطة ترفيهية واجتماعية مختلفة، ويشارك في المنظمات ومع الأصدقاء.

 يمكن أن نكون مهمشين فيما يتعلق بواحدة أو أكثر من هذه البيئات. يمكن أن يكون الأفراد أو الجماعات على الحافة الخارجية للبيئات الاجتماعية (التهميش الاجتماعي)، أو الثقافات (التهميش الثقافي)، أو الحياة العملية (تهميش العمل)، أو الحياة السياسية (التهميش السياسي).

في مختلف المجالات في المجتمع، نواجه معايير وتوقعات مختلفة. إن التهميش في مجال ما لا يعني بالضرورة التهميش في مجال آخر. وفي الوقت نفسه، قد يكون هناك في كثير من الأحيان ارتباط بين التهميش في مجالات مختلفة. يمكن للمرض، على سبيل المثال، أن يمنعك من المشاركة في الحياة العملية. وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى الفقر وقلة فرص المشاركة في الأنشطة الاجتماعية مع الأصدقاء.

وعندما يؤدي التهميش في منطقة ما إلى التهميش في منطقة أخرى، نقول إن التهميش تراكمي. سيكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، إذا ترك شخص ما المدرسة بسبب المخدرات وأصبح في النهاية مجرماً.

في الغرب، نجد فئات مهمشة بين المهاجرين، والفقراء، والآباء الوحيدين، ومتعاطي المخدرات، والمرضى على المدى الطويل. غالباً ما تكون هذه الفئات المهمشة في منطقة خطر، وهو وضع مائع بين الإدماج الاجتماعي والاستبعاد الاجتماعي. فمن ناحية، بعد فترة سيندمج المزيد من الناس بشكل أفضل في المجتمع. ومن ناحية أخرى، سيسقط البعض في نهاية المطاف تماماً خارج المجتمع واستبعادهم من واحد أو أكثر من ساحات المجتمع.

وجهات نظر مختلفة حول التهميش

هناك عدة طرق مختلفة للتهميش. أولاً، يمكن النظر إلى التهميش على أنه عملية يتم فيها دفع شخص ما أو سحبه تدريجياً نحو الحواف الخارجية للمجتمع. وسيكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للشباب الذين ينسحبون من الأسرة والمدرسة والحياة العملية، ويبحثون بدلاً من ذلك عن ثقافات فرعية منحرفة ومرهقة من أجل اكتساب الانتماء والقبول.

ثانياً، يمكن فهم التهميش من منظور بنيوي. ووفقاً لهذا المنظور، يتم تفسير التهميش على أساس السمات الهيكلية للمجتمع. يمكن للهياكل الاقتصادية، على سبيل المثال، أن تدفع الأفراد والجماعات إلى البطالة، كما أن الاختلافات الطبقية والفقر وسوء الظروف المعيشية يمكن أن تجعل من السهل إخراج بعض الأطفال والشباب من المدرسة والحياة العملية.

ثالثا، يمكن فهم التهميش من منظور فردي، نتيجة لتطور المجتمع الحديث. ووفقاً لهذا المنظور، أصبحت المجتمعات التقليدية ضعيفة على نحو متزايد في المجتمعات الغربية، ويُترك الأفراد على نحو متزايد لتدبر أمرهم بأنفسهم. وتؤدي عملية التخصيص هذه إلى زيادة الاختيار، ولكنها تؤدي أيضاً إلى زيادة عدم اليقين وخطر الاستبعاد.

رابعاً، يمكن فهم التهميش من منظور ثقافي. في عالم معولم، يمكن للعديد من الناس أن يجدوا أنفسهم بين عدة ثقافات مختلفة. يمكن أن يؤدي صراع الهوية هذا إلى انعدام الانتماء والتهميش. قد يكون هذا، على سبيل المثال، هو الحال بالنسبة لشباب الأقليات العرقية الذين يتم وضعهم بين ثقافات مختلفة، أو الشباب من البيئة التقليدية الذين يواجهون ثقافة جديدة من خلال المدرسة والتعليم.

على سبيل المثال كان المثليون جنسياً في السابق مجموعة مهمشة. في الخمسين عاماً الماضية، نظم المثليون جنسياً أنفسهم وناضلوا من أجل دمجهم في المجتمع.

ومن منظور ما بعد البنيوي، يُفهم التهميش باعتباره جانباً من جوانب الخطاب السائد، وبالتالي فهو مرتبط بالسلطة والمعرفة.  يمكن أن تساهم ما بعد البنيوية في تفكيك الخطاب السائد - وعلى سبيل المثال. المساهمة في إشكالية أن "الشباب المهاجرين متساوون في المشاكل" أو تعطيل الظروف المحيطة بنمو الأطفال، والتي تعتبر أيضاً كجزء من الخطاب السائد.

التهميش والانحرافات الاجتماعية والاستبعاد

في كثير من الأحيان يمكن أن يكون هناك ارتباط وثيق بين التهميش والانحرافات الاجتماعية والإقصاء، ولكن هذه المصطلحات تصف ظواهر مختلفة قليلاً. في حين أن التهميش يتعلق بعدم الاندماج في المجتمعات الاجتماعية، فإن الانحرافات الاجتماعية تتعلق بانتهاكات الأعراف الاجتماعية. وبما أن الأعراف تساعد على الحفاظ على تماسك المجتمع، فغالباً ما تكون هناك علاقة بين التهميش وانتهاك الأعراف الاجتماعية. الانحرافات الاجتماعية، مثل الجريمة، يمكن أن تؤدي إلى التهميش، والتهميش، مثل البطالة أو نقص التعليم، يمكن أن يؤدي إلى الانحرافات.

التهميش والإقصاء

التهميش والإقصاء مصطلحان يتم استخدامهما غالباً بالتبادل على أساس يومي، ولكن كمصطلحات فنية يتم استخدامهما بشكل مختلف قليلاً. في حين أن التهميش يصف عملية يتم فيها دفع شخص ما إلى الحافة الخارجية للمجتمع، فإن مصطلح الاستبعاد يستخدم لوصف حالة سقط فيها شخص ما تماما خارج المجتمع الاجتماعي.

وبالتالي يمكن أن يؤدي التهميش إلى استبعاد شخص ما وطرده تماماً من مجموعة أو مجتمع. وإذا أصيب الشباب أولا بمشاكل تتعلق بالصحة النفسية ثم تركوا المدارس، ومن ثم تُركوا تماماً خارج سوق العمل، فإن التهميش سيؤدي في نهاية المطاف إلى استبعادهم.

الدمج والاستيعاب والفصل والتهميش

ماذا يحدث عندما يعيش أشخاص من ثقافات مختلفة جنبًا إلى جنب؟ كيف سيتكيفون مع بعضهم البعض؟ يمكننا التمييز بين أربع استراتيجيات أو أنماط تكيف مختلفة: التكامل، والاستيعاب، والفصل، والتهميش.

في المجتمعات الغربية يوجد العديد من الأقليات ذات الخلفيات المختلفة. كيف يجب أن ترتبط هذه الأقليات بثقافة الأغلبية؟ هل ينبغي عليهم أن يحاولوا أن يصبحوا غربيين قدر الإمكان أم يحاولون حماية ثقافتهم ولغتهم؟ وكيف ينبغي للأغلبية أن تتعامل مع ثقافات الأقليات؟ هل يجب عليهم إجبارهم على تغيير ثقافتهم أم على العكس من ذلك تشجيعهم على الاهتمام بخصائصهم الثقافية؟

عندما تعيش الثقافات المختلفة بالقرب من بعضها البعض لفترة طويلة، فإنها يمكن أن تتكيف مع بعضها البعض بطرق مختلفة:

عبر الاندماج: ثقافة الأقلية مقبولة وتشارك في المجتمع الأكبر، ولكنها في الوقت نفسه تحافظ على هويتها الجماعية وتميزها الثقافي.

من خلال الاستيعاب: تختار ثقافة الأقلية ـ أو تضطر ـ إلى الالتحام مع ثقافة الأغلبية وتفقد ثقافتها الأصلية.

بواسطة الفصل: تظل ثقافة الأقلية وثقافة الأغلبية منفصلتين.

أو التهميش: تفقد المجموعات والأفراد انتمائهم ويتركون خارج ثقافة الأقلية والأغلبية.

الاندماج

في بعض الدول الغربية ـ وخاصة في دول الشمال ـ يعتبر التكامل أمرًا مثالياً. والاندماج يعني أن شيئاً ما يصبح شمولياً، وهناك اليوم اتفاق سياسي واسع النطاق على قبول الخصائص الثقافية للأقليات ضمن كل مظهر ثقافي أكبر. فمن ناحية، تُبذل محاولات لإدماج الأقليات كمشاركين متساوين في المجتمع ككل. ومن ناحية أخرى، يُسمح للأقليات الثقافية بالحفاظ على هويتها ومجتمعها الاجتماعي والثقافي.

ومن أمثلة سياسة الاندماج في دول الشمال أن يتلقى المهاجرون الجدد تدريباً باللغة المحلية حتى يتسنى لهم الاندماج في الحياة العملية، في نفس الوقت الذي يتلقى فيه أطفالهم التعليم باللغة الأم من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية.

ولكي يكون الاندماج ناجحاً، فلابد أن تكون المجالات المختلفة في المجتمع مفتوحة أمام المهاجرين في نفس الوقت الذي يتم مساعدتهم على إظهار الإرادة والقدرة على الاندماج. ويمكننا التمييز بين التكامل في ثلاثة مجالات مختلفة:

ـ يتم التكامل الاقتصادي من خلال المشاركة في الحياة العملية.

ـ يتم التكامل الاجتماعي من خلال المشاركة في الشبكات الاجتماعية التي تشمل عرق الأغلبية.

ـ يتم التكامل من حيث النشاط من خلال المشاركة في المنظمات التطوعية والمنظمات المهتمة والفرق الرياضية والسياسة والأنشطة المرتبطة بالمدرسة.

الأساس الأيديولوجي الذي يقوم عليه التكامل يسمى التعددية الثقافية. تدّعي التعددية الثقافية أن المجموعات العرقية المختلفة لها الحق في أن تكون مختلفة ثقافياً، وأن الأقليات لها نفس الحق الذي تتمتع به الأغلبية في ثقافتها الخاصة.

الاستيعاب

الاستيعاب يعني محو الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين المجموعات. الاستيعاب يعني "المساواة". يحدث أقوى أشكال الاستيعاب عندما تندمج ثقافة الأقلية مع ثقافة الأغلبية  تماماً، ولا يعود من الممكن فصلها عن بعضها البعض.

يمكن أن يكون الاستيعاب طوعياً أو غير طوعي. ومن الأمثلة على الاستيعاب الطوعي بعض الغربيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة وفقدوا في النهاية لغتهم الأم وخصائصهم الثقافية. أحد الأمثلة على الاستيعاب غير الطوعي هو سياسة الولايات المتحدة تجاه السكان الأصليين في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث تم قمع اللغة والثقافة المحلية.

في السنوات الأخيرة، نشأ جدل جديد حول الاستيعاب. وقد دعا بعض الباحثين إلى أن الاستيعاب قد يكون مرغوباً فيه في مجالات معينة من المجتمع، مثل الحياة العملية والتعليم.

الفصل

الفصل يعني "الانفصال"، والفصل يعني أن الثقافات المختلفة تعيش منفصلة جسدياً. حيث يعيش سكان الأقلية بمفردهم وليس لديهم سوى القليل من الاتصال بالمجتمع من حولهم. وأشهر مثال على الفصل العنصري هو نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا. حيث كان يعيش البيض والسود في أماكن مختلفة، وكانت هناك قوانين تمنعهم، على سبيل المثال، من الزواج من بعضهم البعض، وكانت هناك مناطق لا يُسمح للسود بالدخول إليها.

مثال آخر على نظام الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين السكان الأصليين. حيث يتم تشريع القوانين باعتبار إسرائيل دولة لليهود، وليس للعرب فيها أي حقوق.

في السنوات الأخيرة، كان هناك أيضاً جدل حول ما إذا كانت المجتمعات الموازية قد تطورت في أجزاء معينة من أوروبا، حيث تعمل المجموعات ذات الخلفية المهاجرة على تطوير معاييرها وقيمها الخاصة. ومع ذلك، فإن التحدي الذي يواجه مصطلح المجتمع الموازي هو أنه يُستخدم بطرق مختلفة للغاية، ومن الصعب الاتفاق على تعريف دقيق حوله.

التهميش

التهميش هو عملية يتم فيها دفع الأفراد أو المجموعات إلى الحواف الخارجية (الهوامش) للمجتمع. بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إلى الأقليات، يمكن أن يكون لهذه العملية بعد اجتماعي وثقافي. يمكن أن يحدث التهميش نتيجة لانعدام التواصل الاجتماعي والعلاقات مع مجتمع الأغلبية، أو نتيجة لعدم الانتماء إلى ثقافة الأقلية والأغلبية.

ومن الأمثلة على المجموعة المهمشة الشباب الذين ينتمون إلى الأقليات وطالبي اللجوء الشباب الذين يبيعون الحشيش في عدد من المدن الأوروبية، ويفتقر العديد من هؤلاء الشباب إلى السكن والتعليم والعمل، ويجدون أنفسهم على الحافة الخارجية لكل من ثقافة الأقلية التي ينتمون إليها وثقافة الأغلبية التي أتوا إليها.

هناك أشكال مختلفة للتهميش، ومن الممكن أن يتم تهميشك في منطقة واحدة دون أن يتم تهميشك في مناطق أخرى. على سبيل المثال، قد يكون أحد أفراد مجموعة عرقية مهمشاً اجتماعياً، ولكنه ليس مهمشاً ثقافياً. ويمكن أن يكون الأفراد خارج سوق العمل بينما يندمجون بشكل جيد في الثقافة العرقية التي ينتمون إليها.

أشكال مختلفة من التكيف

يمكن أيضاً وضع أنماط التكيف الأربعة المختلفة، التكامل، والاستيعاب، والفصل، والتهميش، كنموذج. إن نمط التكيف سيعتمد على كيفية إجابة ثقافة الأقلية على سؤالين مركزيين:

1ـ هل من المهم لثقافة الأقلية أن تحافظ على ثقافتها وهويتها الأصلية دون تغيير - نعم أم لا؟

2ـ هل يرغب أفراد ثقافة الأقلية في المشاركة وتطوير علاقات اجتماعية واسعة النطاق مع مجتمع الأغلبية - نعم أم لا؟

يمكن أن يُمنح السؤالان أربع مجموعات مختلفة من الإجابات وبالتالي أربعة أنماط تكيف مختلفة:

ـ إذا أرادت أقلية عرقية الحفاظ على هويتها الثقافية والمشاركة في ثقافة الأغلبية، فإنها تجيب بنعم على هذين السؤالين. ثم يصبح نمط التكيف التكامل.

ـ إذا أرادت أقلية عرقية الحفاظ على هويتها الثقافية، لكنها لا ترغب في بناء علاقات اجتماعية مع مجتمع الأغلبية، فإن نمط التكيف يصبح فصلاً.

ـ إذا أرادت الأقلية خلق علاقات اجتماعية مع مجتمع الأغلبية، لكنها لا تهتم بثقافتها الخاصة، يصبح النمط الاستيعاب.

ـ إذا كانت الأقلية لا ترغب في بناء علاقات مع مجتمع الأغلبية ولا الاهتمام بثقافتها الخاصة، وتجيب بـ لا على كلا السؤالين، يصبح النمط تهميشاً.

ومن المهم التأكيد على أن نمط التكيف سيعتمد أيضاً على ثقافة الأغلبية. لا يمكن دمج الأقلية إذا لم تكن ثقافة الأغلبية مفتوحة أمام الأقليات التي تريد الحفاظ على هويتها الثقافية.

يمكننا إعداد الخيارات الأربعة المختلفة في النموذج التالي:

التحدي الذي يواجه هذا النموذج هو أنه يحدد أربعة خيارات منفصلة بوضوح. في الواقع، غالباً ما يكون نمط التكيف عبارة عن مزيج يختار فيه الأفراد في مواقف مختلفة درجات مختلفة من التكيف. مشكلة أخرى هي أن النموذج يحدد فقط أربعة خيارات مختلفة. لكن الشباب الذين ينشؤون مع ثقافات متعددة لا يضطرون بالضرورة إلى الاختيار بين ثقافة الأغلبية وثقافة الأقلية. يمكنهم بدلاً من ذلك إنشاء ثقافة مختلطة جديدة.

يُطلق على الشباب الذين نشأوا خارج ثقافة والديهم أحياناً اسم "أطفال الثقافة الثالثة". ومن سمات العديد من هؤلاء الشباب أنهم لا يشعرون في المقام الأول بالانتماء إلى ثقافة آبائهم، ولا إلى ثقافة الأغلبية التي أصبحوا الآن جزءًا منها. إنهم يشعرون في المقام الأول بالانتماء إلى الثقافة المشتركة بينهم وبين الشباب الآخرين الذين نشأوا بين ثقافات مختلفة. فبدلاً من الاستيلاء على ثقافة الأقلية أو الأغلبية، يساهمون في خلق ثقافة جديدة ومعقدة.

عوامل محبطة

في الخطاب اليومي وفي العديد من الأنظمة التي تعمل مع "المهمشين"، يهيمن الفهم السلبي للتهميش. غالباً ما يرتبط التهميش بالبطالة، والافتقار إلى الشبكة الاجتماعية، والأمراض العقلية، وسوء المعاملة، والاختلاف الديني، والعرقي، والثقافي، والجريمة، والتشرد، وما إلى ذلك. وكلما زادت هذه العناصر التي تميز وضعية الشخص، كلما زاد تهميشه. ومع ذلك، في العمل الاجتماعي العملي، هناك أيضاً استثناءات لهذا الاتجاه.

كلما زاد عدد السياقات التي يكون فيها الشخص في وضع هامشي، كلما زاد التهميش. يُفهم التغلب على التهميش على العكس من ذلك على أنه انتقال الشخص تدريجياً من موقع هامشي إلى موقع مسؤول في سياقات العمل، والعلاقات، والفعاليات القديمة أو الجديدة. إن تجاوز موقف هامشي في سياق واحد أو أكثر له تأثير على الطريقة التي يعبر بها الشخص عن نفسه وفهمه ومجتمعه.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

يذكر المرحوم هشام جعيط: كم من مرة اشتهي أن اقرأ للكتاب العرب من المفكرين، فلا أجد زاداً كبيراً مما يمنح تفتح الذهن وإثراء المعرفة ومتعة المطالعة باستثناء القليل القليل. وأنت إذا وجدت جمال الأسلوب، فهو عادة مقرون بسقامة التفكير، وإذا وجدت عمق المعرفة ـ وهو أمر قليل فهو مقرون بثقل الأسلوب..

قد نتفق مع مقولة  الراحل المفكر التونسي هشام جعيط، بل اكيد أيضا نختلف حول هذا الطرح والمقاربة العابرة ضمن التركيز في أزمة الثقافة عندنا..

لكن ما يهمنا هو أي ثقافة نحتاج، ثقافة النخبة او الثقافة الجماهيرية؟؟ هذا تساؤل يقودنا نحو إشكال عميق يرتبط بالمفكر العربي سواء كان دينيا منفتحا او علمانيا متشددا، هل لدينا مفكرين في الأدب وآخرين في العلوم الاجتماعية من شأنهم  الوقوف على مآزق الوعي الثقافي اجتماعيا وجماهيريا؟؟ أي نقد وتحليل ثقافيين يمكننا اعتمادها في اوساطنا الفكرية؟

اسئلة متكررة ومريرة توحي بسطوة الفكر الصراطي1 الجاثم على مقومات الوعي الثقافي في راهننا العربي، وفي ظل هكذا فكر لا يمكن لمفاهيم التعدد والتعايش والحوار أن تعيش او تتطور، الفكر الصراطي انحصاري وليس انبساطي بحيث بيئته تصنيفية إلغائية مما يجعل النقد محرما والتحليل كفرا، والفكر الصراطي هو نتاج ثقافة الاستبداد التي تجسدت تاريخيا في نظام فكري منغلق تمييزي انحصاري، خلق دوائر تأثير وطبقات خوف ضمن حقل الثقافة، مع الوقت تشكلت من جهة نخبة تتخفى وراء كلمات الحداثة والعولمة والديمقراطية والتجديد، ومن جهة ثانية جمهور المدونة التراثية الذي اصطف كذلك بنقاد الثقافة من أجل فرض منطق الفكر الصراطي الذي تبلور في ظل التزوير الممنهج للنظام الثقافي عبر التاريخ..

 أنماط المفكرين:

هناك أشكال وأنماط من الفكر على بساط المجتمعات العربية نذكر منها الأكثر بروزا:

المفكرين الرومانسيين أو الأدبيين: هؤولاء يرون ان المجتمع اصبح فاسدا بسبب انفتاحه المفرط على سلع العولمة، ويرون ان الثقافة الأدبية والفنية وحدها القادرة على اعادة تنظيم الوعي داخل المجتمع، هذه فئة تصارع المجتمع ولا تحتك مع  واقعه سوى عبر الشعر والفن لكن لا تكاد تدغدغ أوتار موسيقى الوعي لدى فئات المجتمع  سوى بأبيات عابرة او روايات ترهق العقل قبل العين ولوحات تعكس الأوهام والخرافات والتيه الذي يخنق الوعي في مجتمعاتنا..

المفكرين المتصوفة: هؤولاء يرومون الكمال الروحي للمجتمع حتى لا ينزلق في مهاوي المادية الليبيرالية والمنتجات الحداثية، يتوزعون ضمن تعدد صوفي بموجب فلسفة التعدد الديني، وهذا النمط تأثيره ضئيل نوعا ما، ويكتفي بالمريدين لخلق واقع تصوري موازي للواقع الفعلي للمجتمع، لكنه يبقى له دور في حال اندمج فعليا ضمن ماهية التعدد الثقافي..

المفكرين اللاهوتيين: هؤولاء مقصدهم الأول والأخير هو فرض اللاهوت كل حسب لاهوته وهنا يكون المجتمع أمام رهانات المدونات الفقهية والكلامية التاريخية، هذا النمط صاحب سطوة على طول تاريخ المجتمع العربي، لأنه مركز صياغة الفكر في المجتمعات العربية التي تتميز بعاطفة التدين أكثر من عقلانيته وهذا النمط ينقد كل ثقافة علمية تحاول تحليل المستويات الثقافية في طبقات المجتمع من أجل تحديد مؤثرات الوعي الثقافي ويعمل بفرض هيمنة الثقافة الجماهيرية على المجتمع، ومنهم أكاديميين ويتحدثون بخطاب حداثي وكلهم تلقى تكوينا تراثيا منغلق.  

المفكرين العلميين الإجتماعيين: هؤولاء يهمنا بينهم فئة الاجتماعيين اصحاب التحليل الثقافي لفئات وطبقات المجتمع، وهي الفئة النادرة عندنا بل التي يمكن القول أنها منعدمة تماما، فئة تجعل الثقافة تحرك الأسئلة المصيرية والاستراتيجية داخل المجتمع، وهذا النمط ألد أعداء الفكر اللاهوتي لأنه أفقي التأثير والتنظيم لثقافة المجتمع على عكس الفكر اللاهوتي عمودي الوظيفية..

 الثقافة العربية وسؤال الحس:

يبقى أننا مجتمعات بلا اجتماعيين خبراء في تحليل الثقافة وتنظيمها وضبط توازناتها مجتمعيا، عندنا اكاديميين اجتماعيين لكن اغلبهم مبرمج وفق منطق الفكر الصراطي، إما دوركايميا أو فيبيريا أو بورديويا أكثر منهم جميعا بلا إبداع، وهكذا دواليك في الفلسفة وعلم النفس والتربية والاقتصاد..، للأسف استغراق في التقليد والتبني المطلق للتيارات العلمية الاجتماعية في الغرب  دون استيعاب للمفاهيم واستثمار للمناهج..

إنها أزمة الثقافة المستفحلة في ربوع وطننا العربي وتبرز في صور الفوضى  بمجتمعاتنا، هي من جراء تقاعسنا الفكري وانحصاره في خط عمودي تاريخي أنتج كل أشكال الاستبداد التي دمرت مقومات الصحة والفعالية والنزاهة لدى إنساننا العربي، هذه الاشكالية   يعبر عنها علي حرب:  إن مهنة المثقف ازدهرت عندنا على حساب صناعة الفكر، وإنه متى ما برز المثقفون ومارسوا أدوارهم الدفاعية، غاب المفكرون أو قل الإبداع الفكري.. لهذا كل تلك الانماط عدا العلميين هم مثقفون..!!

عودا لفكرة الراحل د. هشام جعيط التي تفضح واقعا برمته، والذي لا يعرف المرحوم فإنه قارئ نهم ومفكر مبدع وناقد قوي، فعلا تزدحم أسواق الثقافة بجمهور المثقفين، لآن الافكار الحية كما حدثنا عنها المفكر المرحوم مالك بن نبي لا تنبت في أرض استبد بها ملح الفكر الصراطي العقيم..

اختم بإشارة حول من هو المفكر الاجتماعي؟ وهل عرفت مجتمعاتنا مفكرين اجتماعيين؟

الشق الاول: المفكر الاجتماعي هو مبدع لأمرين واحد ذاتي والآخر موضوعي، الذاتي هو تحصيله لثمرة الحس الفكري والموضوعي هو ابداعه لمعالم الحس الاجتماعي.

الشق الثاني: نعم عرفنا مفكرين اجتماعيين على طول الزمن العربي والاسلامي، نعم عرفت  البلدان العربية والاسلامية مفكرين اجتماعيين استطاعوا ابداع الحس الاجتماعي والوطني والإنساني حتى يومنا هذا، عاشوا الهم الفكري وبلغوا الحس الفكري التحرري وابدعوا الحس الاجتماعي الوطني الحضاري، ونفس الحال نجده في كل مجتمع من مجتمعات الانسانية، لأن الابداع الفكري قبل كل شيء هو هم يتطور لفكرة، تتحول الى رؤية، فتصبح حسا يقلب الطاولة على رأس كهنة الفكر الصراطي..

***

ا. مراد غريبي

.........................

1-  اقتباس من تعبير للمفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي "اللاهوت الصراطي"  يمكن الإطلاع عليه في كتابه "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" ص٨١.

رغم تراجع مصطلح "العولمة" وخفوت تأثيره، إلا أن التحول الثقافي نحو التماثل، الذي حدث خلال الربع قرن الأخير، استعاد الجدل حول "الغزو الثقافي" بصورة أو بأخرى، إذ لم يعد العالم يستطيع الاستغناء عن وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الأفراد يتواصلون بشكل آني وكأنهم في غرفة واحدة. مثّل هذا تحدياً صارخاً لجميع الحوارات السابقة حول العودة للجذور والمحافظة على النقاء الثقافي، فهل يمكن أن نقول إن فكرة البحث عن الهوية وإمكانية تحقيقها وعكسها على الواقع أصبحت فكرة غير مجدية؟ فلم يعد هناك، كما يرى البعض، إلا ثقافة عالمية واحدة بدأت منذ أكثر من قرن وصارت تتشكل بسرعة في العقدين الأخيرين، ومن المتوقع أن تهيمن على جميع الثقافات المحلية وتلغيها في المستقبل القريب، يقول صامويل هنتنغتون ان معظم سكان الأرض يتشابهون في الملبس وفي نوعية الأطعمة وفي برامج العمل والإنتاج وفي الأنظمة المالية والاقتصادية والتصنيعية وفي أشكال المدن وعمارتها وفي مناهج التعليم وفي المنتجات الفنية وحتى الحرفية، الفروقات تتضاءل، وتتقلص معها الخصوصية الثقافية المحلية، ويضيف انه لا نستطيع أن نفصل الثقافة العالمية اليوم عن الفلسفة الرأسمالية التي ترغب في الامتداد إلى أسواق جديدة، لقد بدأت بالتصنيع وانتقلت إلى المحتوى الثقافي والفكري ساعدها في ذلك التطور التقني المتسارع، "الفرانشايز" و"العلامة التجارية" اللتان تعملان على تشكيل المحتوي الثقافي العالمي، هما ليستا مناهج تسويقية فقط، بل الأدوات التي وظفتها الثقافة المهيمنة من أجل "تسليع الثقافة" وربطتها بأنماط الحياة المعاصرة، فلم تستطع شعوب العالم التي تنتمي إلى الثقافة المهيمن عليها أن تتفلت من قبضتها. حتى تلك الشعوب التي حاولت المحافظة على خصوصيتها الثقافية لم تحقق نجاحات كبيرة، بل كل ما استطاعت أن تحافظ عليه هو جزئيات لا تشكل منظومة ثقافية متكاملة. يبدو هنا أن الطريق مسدود أمام أي محاولة للاستقلال الثقافي، فهل هذا يعني أنه لم يعد لدينا حيلة لتجاوز هذا المأزق الذي يجعل من تحقيق الهوية المحلية مجرد حلم أو هو فكرة يستحيل تحقيقها؟ يعزز الخطاب الثقافي العالمي المعاصر من "مأزق الهويات المحلية"، ويدفع بتلك الهويات إلى حافة "الذوبان" فيما بات يعرف بالثقافة العالمية التي تجعل من شعوب العالم متشابهين في أنماط الحياة وأساليب الإنتاج. منذ مطلع الألفية الثالثة وعندما بدأ خطاب العولمة يهيمن على أي حوار ثقافي آخر وجعل المفكرين يتخوفون على ثقافة "التنوع" التي ميزت البشر منذ فجر التاريخ، أصبحت الهوية المحلية تمر بمأزق شديد حتى اليوم. فهل يمثل التقارب الثقافي الذي قد يصل إلى حد التماهي بين الثقافات المختلفة، أمراً إيجابياً أم أن له مخاطر مستقبلية لم نتبينها بعد؟

هويتنا الوطنية والثقافية وفلكلورنا ليسوا مجرد كلمات وصور تذكرنا بالماضي، وليست هي للتباهي نعرضه للعالم بل هو منهج كامل للحياة ومرتبط بشدة بوسائل الإنتاج والتصنيع، بل هي تعبر عن "الجينات الثقافية" التي تنتمي لها تحمل بنية جوهرية قائمة على حاجات البشر المعاصرة ونظامهم الاقتصادي وطريقة معيشتهم وتقف وراءها مؤسسات عملاقة عابرة للثقافات وليس القارات.

***

نهاد الحديثي

في جميع الأديان السماوية الثلاث الدين لله، لكن مؤسسات بشرية سيست الدين وحولته من دين لله إلى دين للبشر، اي استبدلت الجهة العليا بالجهة الادنى، وهناك اشارة من القرآن في هذا الصدد، وذلك لم يكن جديدا بل هو متصل بعمق التاريخ، حيث اختلف البناة على أصل بناء المعبد، فمنهم من قال إن المعبد يبنى للرب، وقسم آخر قال إنما يبنى المعبد لنا نحن البشر، وتاريخ تلك الواقعة بعد موسى بقرون، وهناك إشارة ميثولوجية إلى أن – كل بشر عرفوا مشربهم –، حين كانت هناك اثنتا عشرة عينا ينبع منها الماء، وتلك الإشارة دليل على التعدد في الأنفاس الدينية واختلاف حالات الوعي، وأيضا هناك أنماط متعددة من الإيمان، وأيضا الحس النفسي للدين يختلف كثيرا، واختلف معنى الدين من حينها في النفوس، وما من دين إلا مر بمحنة أثناء وجود النبي وبعد موته الذي يؤكد بأن النبي هو فرد بشري لا يختلف عن الآخرين إلا باختيار السماء له، وسبيل التبليغ الموكل به، وصراحة تلك هي الحدود الدينية العقلانية والمنطقية، فالنبي ليس بوكيل على سلوك وحياة الناس، ودوره ينحصر في التبليغ، بل كان الأنبياء حتى العداء الملموس ضدهم يبادلونه بروح إنسانية، فهم صراحة امثلة بشرية نموذجية، ورغم أنهم في الطبائع العامة كبقية البشر ولا يختلفون عنهم، الا في السمو الإنساني، وصراحة في نظرية علم الاجتماع الجديدة للدين، يكون الانبياء قد بعثوا لمجتمع متكامل وليس بعثوا لأجل افراد او جماعة منحسرة، فذلك يتعاكس مع المنطق النظري، ولا يتفق معه، فالمجتمع هو المعادل السلبي للنبوة، والنبوة تحوله الى معادل ايجابي اذا توافق مع المضامين التي تطرحها النبوة.

بعد تطور المجتمعات الدينية وانفتاحها على الحضارة والمدنية واجهت أطر تجديد وتحديث، ومن الطبيعي أن الإطار النظري للدين يبقى كما هو، فيما شكل الدين وظاهره لا بد عليه من استيعاب الوضع الجديد وملامسته، كي يكون الدين مظهرا مدنيا، وهذا المنطق العضوي هو حالة تحديث وليس بتغيير لمنظومة الدين، ولكن الأمر انقلب فيه الحال، ففي ما بعد الحداثة نلمس هناك عودة المظهر للتراث الديني، وبالشكل السوريالي المثير، وذلك السلوك يسعى أن يفرض على الأفق المدني للحياة شكله التاريخي، وغريب جدا أن ترى سيرورة تتخلى عن نفسها وتعود إلى صيرورتها وتدور داخلها باستمرار، وهذه المعارضة النوعية لتحديث المظهر الديني وتجديده لمواكبة روح العصر، قد واجه هجمة شرسة من الطائفة الرجعية، والتي تسعى أن يبقى المظهر الإسلامي داخل صيرورته، ونحن لسنا ضد ذلك، لكن نحن أبناء الحقيقة الملموسة، ولا بد من أن  ننجذب إليها بشكل عقلاني، والتراث إحدى صور التاريخ الجامدة، وفارق كبير أن أعيش في المتحرك الديناميكي وانتمى للجامد التراثي، والمنطق العضوي لروح العصر يحتم على التعايش الموضوعي، وأن لا أكون في حالة من الشذوذ الشكلي، ونطق الحياة العامة يجب مسايرته والامتناع عن ذلك يعني مخالفة الإطار العام، ومخالفة شكل الحياة أضاف شكل الطائفة مخالفة لمضمونها وبالتالي ينجم من ذلك معارض للأعراف العامة.

هناك نفس ملتبس للطائفة يسعى للهيمنة على المحيط الإنساني للدين، وتغيرت المقاصد من استخدام الخطاب إلى استخدام السيف كسلاح تراثي والمسدس كسلاح للوضع الحاضر، والأمر فيه نوع من الغرابة، فالتزام المظهر التراثي يمتنع عن التماس مع تجديد الحياة لكن يستخدم أدواتها الجديدة، فيستخدم المسدس لقتل الخصوم والموبايل للاتصال بالآخرين، وغريب جدا أن الهوية المعنوية لفرد الطائفة تتصل بالتراث والصيرورة مباشرة وتتخلى عن روح المعاصرة، وبذلك تفقد بالتدريج روح المدنية والمسالمة، وتتحول الذات البشرية إلى وحش يسعى للفتك إلى كل معارضة للطائفة التي يمثلها، وطبعا على المستوى النفسي نجد أن فرد الطائفة حالة من الانفعال العاطفي غير المبرر، وهذا يعني أنه يصعق كلا من بتماس معه من طائفة أخرى، والتفسير السياسي للطائفة يعني التزمت الأيديولوجي ونكران صفة التعدد المشترك بطريقة تولتا ريه، والطائفة في المعنى الإنساني هي المرض والسقم الفكري، فالنفس الطائفي لا يؤمن بوجود نفس آخر يشاركه الحياة، بل على أقل تقدير في يرفض ذلك، وإذا تفاقم الحس العاطفي، تكون لديه رغبة لكتم ذلك النفس المشترك، والتفرد بالموقف الديني وعدم مشاركة من يعارض خطاب الطائفة، وحتى المظهر المعارض نفسيا يعتبر التزاما بمظهر الكفر، والكافر عند الطائفة عدم تحديد له بل إجماليا تتعامل الطائفة ضده، فكل الغرب عند النفس السياسي للطائفة المتشددة هو كفر حتى لو كان يمتلك معتقدا دينيا ويلتزم به.

لقد استطاعت الكنيسة تجاوز محنها التاريخية وتقدمت بمستوى حضاري وتتمتع بمواقف ديموقراطية، وباعتدال متميز، لكن على عكسها أصبحت الجوامع، فبعدما كانت لعامة المسلمين، ولا تحدد موقفا طائفيا، أصبحت اليوم مركزا للطائفة، واعتقد الطائفة قدم الجوانب الثانوية التي يصح بها الأخلاف على الجوانب الأساس التي لا يصح بها الأخلاف، فالتوحيد عند الطوائف هو واحد بلا أي اختلاف، لكن الاختلاف هابط بما من معنى فيه، ومن العيب أن أصحاب الرقي الديني تداوله، وهو أيضا لا يحتاج لتعريف له، فهو أصبح وحدة أساس في التدين الطائفي، ونناقش العقل الطائفي عنه سبب تقديم الميزة على التوحيد المشترك بين الطوائف، ومن الطبيعي أن تكون الإجابة عاطفية وليس بمنطق ديني، لكن لا يتحرر الفرد الطائفي من تقديم الميزة على التوحيد، والميزة سياق للدين وليس التوحيد نفسه، والأمر غريبا في تدين الطائفة المسيسة وعاطفية، فالمعنى الديني العام هو ذاته عند الطوائف، ولكن تختلف السياقات له، وتتعارض الطوائف على السياقات المتعددة، ولا تهتم للموقف الواحد للمعنى الديني، وسيتحول أفق العلاقة بالمعنى الرباني إلى الترميز (إذا كان التمثيل الرمزي للإله "يتقدم" بالخطوات التي يتقدم بها التمثيل الرمز للشر والاسمية، فأنه لا يكمل مسيرته داخل هذا الارتباط)1، ومن الطبيعي لا يمكن للبشر التفكير المشترك في أكثر من جانب بوقت واحد، وهنا نرق من لديه رقي ديني يكمل المسيرة بتمثيل الإله مباشرة دون وسائط بشرية، فيما المقدم لعاطفته الطائفية يقدم عدوانية الآثمة كل شيء ما دامت هي المعتقد المجاهر به.

التفسيرات المعرفية للطائفة تعني بكافة الجوانب أن الطائفة إثم تبرره العاطفة المسيسة، تفسير تلك العاطفة دلت عليه الوقائع بأنه صادق نسبيا ومزيف أيضا، فالصدق العاطفي لا يلمس فقط من أجل التضحية، بل من خلال ثبوت العاطفة وعدم تزعزعها، فيما الزيف يكشف من خلال التحول من عاطفة إلى أخرى من خلال المصالح أو من خلال الضغوطات النفسية، لكن هناك عاطفة زائفة رغم عدم التحول من طائفة إلى أخرى، فزيف العاطفة مثلما موجود في الأفق السياسي يوجد في الأفق الديني، فثمة من يشرب الخمر لكن هيمنت طائفة متشددة على مدينته فانتمى إليها، وحمل السلاح وأرعب ناسا مسالمين، وهنا يكمن انفعاله النفسي، فهو بدل من أن يكون ضعيفا ومسلوبا الإرادة، يكون في الجهة المعاكسة مؤمنا إرادته داخل نفسه، ومن خلال العاطفة الزائفة التي يراها الفيلسوف بستراند مرسل أنها واسعة التداول أصبحت بسب تصاعد نفس السياسة والدين اجتماعيا، ويرى مرسل يخافون الأفكار أكثر من أي شيئا أكثر من الخراب، حتى أكثر من الموت، أن من الممكن أن تكون الأفكار تكون ينفس ثوريا تخريبيا، وكما أن أكثر تدميرا وأثرا وكما أن الأفكار لا ترحم المزيات، بل تزيحها وتحل بدلا منها، والأفكار الطائفية مسمومة تؤثر بقسوة نوعية على أفق الحياة العام وتربكه.

***

محمد يونس محمد

.........................

1- في التفسير محاولة في فرويد – بول ريكور، ترجمة وجيه أسعد، أطلس للنشر والتوزيع- 455

كان في الخامسة والعشرين من عمره، يجلس في احدى زوايا حديقة عامة يجادل احد الاصدقاء لكنه وقف فجأة وهو يشير باصبعه ويقول بصوت عال:"هذه شجرة ! أعرف حقيقة أن هذه شجرة! ". سيتحول المشهد الى موقف محرج عندما أدرك الرجلان أن المارة قد توقفوا واخذوا يحدقون بهم. انتبه لودفيغ فيتغنشتاين والتفت إلى المارة قائلاً، "لا تقلقوا، لسنا مجانيين... نحن فقط نمارس الفلسفة."

حكاية فيتغنشتاين الغريبة مع الشجرة تقترب من حكايتي معه، في منتصف السبعينيات يقع بيدي كتاب بعنوان " لدفيج فتجنشتين " تاليف عزمي إسلام، وهو الكتاب رقم " 19 " في سلسلة نوابغ الفكر الغربي التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية آنذاك. كان الاسم غريبا ومثيرا في نفس الوقت، دفعني الفضول لاقتناء الكتاب، وعندما وصلت الى البيت كنت متلهفا لمعرفة اسرار المدعو " فتجنشتين"، في ذلك الوقت أدرجت لنفسي، نظاما للقراءة كانت كتب الفلسفة جزء من هذا النظام، اغوص في تاريخ اصحابها، اتمتع بما يتيسر لي فهمه، واصارع احيانا كتباً ملغزة بالمصطلحات، وكنت أجد بعض الاصدقاء لا يقرأون كتب الفلسفة، لأنها مملة حسب تعبيرهم، لا يمكن متابعة قراءتها، وتتعارض لغتها مع متعة القراءة التي يبحثون عنها، في بعض الاحيان اوافقهم الرأي، خصوصا عندما اجد نفسي مع كتب محيرة مثل هذا الكتاب الذي يخبرني مؤلفه عزمي إسلام ان صاحبنا "فتجنشتين" من جماعة الفلسفة للفلسفة، وليس للفضوليين من امثالي، فقد كان يصر على ان عمل الفيلسوف هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف. كانت هذه الجمل اشبه بالاحجية بالنسبة لي، بعدها يوصيني مؤلف الكتاب ان اكون حذرا وانا ادخل عالم فيتغنشتاين الغريب الاطوار الذي ترك مدينته بعد ان تأثر عميقا بكتابات تولستوي عن الاخلاق والدين، فقرر السكن في الريف.

كان فيتغنشتاين يطرح دائما سؤال: ما هي الجدوى من دراسة الفلسفة ؟، فهو يرى أن الفلسفة تتحول الى عبء عندما تُمكننا من الحديث:" عن بعض المسائل العويصة ".

في خريف العام 1922 يصدر فيتغنشتاين كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، وقد كان مقتنعا بان النتائج التي وصل اليها كانت صادقة، وان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها. يكتب في المقدمة:" إن الافكار التي سيقت هنا يستحيل الشك في صدقها، ولهذا فانني اعتقد ان كل ما هو اساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي إسلام – كان هذا الكتاب هو تجربتي الثانية مع فيتغنشتاين، ولمدة اسبوعين التزمت نظاما خاصا، اقرأ صفحات من " رسالة منطقية فلسفية " واذهب للبحث عن فيتغنشتاين في بطون كتب الفلسفة، كنت اقرأ بتمهل واحيانا بملل حتى اصل الى نهاية الصفحة، وعندما انتهيت منه اكتشفت انني لم افهم الكتاب جيدا، وانني فشلت تماما بالاتصال به، ويبدو ان الكتاب كان اعلى من قدرتي على الفهم آنذاك. بعد سنوات اعود الى كتاب فيتغنشتاين وسادرك انني عندما قرأته للمرة الاولى كنت غير ناضج، واكتشف في القراءة الثانية انني سوف استمتع بمغامرات فيتغنشتاين الفكرية، وان تحذير الفيلسوف زكي نجيب محمود في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية كان صائبا، حيث كتب:" من لا يجد في نفسه الرغبة الاكيدة المؤرقة المقلقة، في أن يتزود بعلم اوضح وأعمق عن العلاقة بين الفكر من ناحية والاشياء الواقعة من ناحية اخرى، فليس هذا كتب موجها اليه "، بينما كان فتغنشتاين ينبهني ان كتابه ليس:" كتابا مدرسيا يريد من خلاله ان يقدم شرحا لافكاره، انه ليحقق الغاية منه، لو امتع قارئا واحد قراءه وفهمه " كان فيتغنشتاين بالنسبة لي فيلسوفا اشكاليا، لكنه مثير للحماس، جعلني اشعر ان القراءة له وعنه ستكون مغامرة مثيرة،ولا تزال هذه المغامرة تثير حماسي حتى اليوم، كل ما عدت الى كتبه.

اعتقد فيتغنشتاين بعد ان اصدر كتابه " رسالة منطقية للفلسفة " ان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها،، لكنه بعد سنوات وبالتحديد عام 1929 سيكشف عن خطأ بعض تصوراته وان عليه ان يعيد النظر في موقفه الفلسفي وان يبدأ من جديد وهذا ما فعله، فقد عاد مرة اخرى الى كمبردج ليمارس عمله الفلسفي من جديد، وهذه المرة سيكون مزودا بسؤال جديد عن الفلسفة واللغة، معلنا ان السنوات التي قضاها في تدريس الاطفال منحته تصور جديد للفلسفة، ولهذا نجده في كتابه " تحقيقات فلسفية " يؤكد ان بعض افكاره في الرسالة المنطقية كانت افكارا خاطئة:" لقد اتيحت لي منذ اربع سنوات مضت ان اعيد قراءة كتابي الاول رسالة منطقية فلسفية لكي اشرح ما فيه من افكار الى شخص ما. وقد بدا لي فجأة انني يجب ان اطبع هذه الافكار القديمة والافكار الجديدة معا، لأن هذه الافكار الاخيرة لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا تمت المقابلة بينها وبين طريقتي القديمة في التفكير.. فمنذ ان بدأت اعود للاشتغال بالفلسفة مرة ثانية، اضطررت ان اتبين أخطاء جسيمة فيما كتبته في الكتاب الاول " – لدفيج فتجنشتين تاليف عزمي اسلام –

يعود فتغشتاين ولكن هذه المرة ليطالب الفلاسفة نسيان تاريخ الفلسفة والالتفات الى الاشكال المعقدة لحياتنا من اجل ان يدركو ما هو الانسان؟.

في تاريخ الفلسفة، ليس هناك من فيلسوف اختلف حوله الناس مثل فيتغنشتاين، الذي ظل مجهولا لسنوات طويلة، ولا يتداول اسمه إلا النخبة من المهتمين بالفلسفة واللغة، وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها، كان فيتغنشتاين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".

ولد لودفيغ فتغنشتاين في فيينا في السادس والعشرين من نيسان عام 1889، كان الاصغر بين تسعة ابناء لكارل فتغنشتاين احد كبار رجال الصناعة، يملك مصاهر للحديد، اما امه التي تنحدر من عائلة فلاحية اقطاعية فقد كانت تعشق الموسيقى، كان بيتهم يضم سبع آلات بيانو، جميع افراد العائلة يعزفون بمهارة، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو "، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده، وفي بيتهم يلتقي نخبة من الرسامين والموسيقيين والادباء.ومثل اشقاءه تلقى فتغنشتاين تعليمه الاولي في المنزل، ولم يرتد المدرسة إلا في الرابعة عشرة من عمره، لم يكن تلميذا نبيها، لكنه استطاع ان يحصل على الثانوية. كان آنذاك ماخوذا بالآلات الصناعية، التحق بجامعة برلين التقنية، بعد ذلك بسنتين يسافر الى مانشستر حيث عمل في مجال صناعة المحركات ومراوح الطائرات، في هذه الفترة يعثر على كتب شوبنهاور، بدأت الرياضيات وعلم المنطق يستهويانه، يعود الى فينا حيث يقوم بزيارة الى منزل عالم الرياضيات والمنطق غوتلوب فريغه الذي كان يحاول في عزلته عن العالم فك لغز قوانين المنطق العامة، وقد لاحظ فريغه موهبة فتغنشتاين، فنصحة بالسفر الى كامبريدج لمواصلة تحصيله الدراسي، واوصاه أن ييتلمذ على ابرز اسمين لامعين في مجال الفلسفة آنذاك وهما وايتهد وبرتراند رسل. لكن راسل اعتقد في بداية الامر ان هذا المهندس الشاب الذي ارسله فريغة مجرد ثرثار:" بعد المحاضرة جاءني الماني متهور ليتخاصم معي..في الواقع النقاش معه ليس إلا مضيعة للوقت " – برتراند راسل سيرة حياة.. آلان وود ترجمة رمسيس عوض – بعد اسابيع سيتغير موقف راسل ليعترف بان فتغنشتاين عبقري معتبرا افكار هذا التلميذ افضل من افكاره هو، بل ذهب اكثر من ذلك حيث طلب من فتغنشتاين ان يراجع كتابه " مبادئ الرياضيات " أملا في أن يتعلم الكثير من هذا النمساوي الغريب الاطوار والذي يصغره بسبعة عشر عاما. عندما علم الاب أن ابنه ترك الهندسة واتجه للفلسفة غضب غضبا شديدا، ففد كان يجد في الفلسفة مهنة غير نافعة للعائلة، الامر الذي زاد من امراض فتغنشتاين النفسية.

في الجامعة يبدأ بكتابة الصفحات الاولى " من رسالة منطقية فلسفية " في دفتر صغير، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته، نسيجا وحضورا، هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا: " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال: ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني إلا ان اقول، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر، بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي اسلام -، يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول:" ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله".

اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 اعطى فتغنشتاين أملاً لتحقيق رغبته في الموت، تطوع في الجيش على الرغم من وضعه الصحي، يكتب في دفتر يومياته : " ذهبت الى الحرب على امل أن يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار "، شارك في الحرب بكل قواه، ونراه يمجدها في قصيدة قصيرة، يكتب الى استاذه برتراند رسل، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم، يتم اسره فيتفرغ للانتهاء من كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، بعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا، محملا بافكار شوبنهاور المحبطة، أمضى ست سنوات في وظيفة معلم في احدى القرى، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا "، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون حضور فيلسوفهم المحتفى به، فقد كانت " جماعة فينا" تنادي بتأسيس فلسفة جديدة للمعرفة اسمها " الوضعية المنطقية "، التي تؤكد ان اللجوء فقط للوقائع " الوضعية "، والبرهان الصارم " المنطق"، وكان كتاب فتغنشتاين بالنسبة لهم بمثابة آلة حربية ضد كل الفلسفات التأملية والخطابات الايديولوجية، والحشو الفلسفي غير الضروري، لكن الفيلسوف سيخيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا.عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف راسل " رسالة منطقية فلسفية " بانها عمل شخص عبقري، قام بعدها بتكليف بعض طلبته بترجمتها الى الانكليزية لتصدر في كتاب، كتب المقدمة له راسل شرح فيها فلسفة فتغنشتاين مع تسليط الضوء على المصطلحات التي ضمتها الرسالة. مع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر، ظل فتغنشتاين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه الثاني " بحوث فلسفية " – ترجمه الى العربية عزمي اسلام، وهناك ترجمة اخرى بعنوان تحقيقات فلسفية ترجمة عبد الرزاق بنور - يعود مرة اخرى الى كمبردج ليخلف الفيلسوف جورج إدوارد مور على كرسي الفلسفة،ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية، استفاد من دراسته للهندسة ليطور آلات مختبرية لقياس ضغط الدم. يعود للتدريس من جديد. عام 1947 يستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه تحقيقات فلسفية.

 اكتشف عام 1949 اصابته بمرض السرطان، يعود الى اكسفورد. يُعلن عن وفاته في 29 ايار عام 1951، وكان آخر عبارة قالها لممرضته:" قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".

لماذا العودة الى فيلسوف صعب مثل فتغنشتاين ؟ ونحن نريد من الفلسفة ان تحُسن تفكيرنا في الحياة، لان الفلسفة نفسها لم تتمكن من تجاوزه برغم صعوبة كتاباته التي لا تزال تطبع وتتلقفها الجامعات، فقد ساهمت كتاباته في ظهور تخصص جديد اصطلح عليه بالفلسفة التحليلية، التي اعتبرت اهم مدرسة فلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين. فانطلاقا مما قاله فتغنشتاين، يتوجب فهم الفلسفة وتحليلها دائما كمشاكل للتعبير اللغوي، ذلك ان طريقة تَعرف الناس على العالم تتاثر دائما بلغتهم، فاللغة دائما حمالة أوجه.

ان قصة حياة فتغنشتاين وفلسفته عبارة عن شغف عقلٍ سعى الى البحث عن مكانة في هذا العالم، وإذ عدنا اليوم للحديث عنه، فبمقدورنا ان نقول الكثير عن الاهمية التاريخية لهذا الفيلسوف المميز.

" يجب عدم الافصاح عما لايمكننا قوله "، هذه هي الجملة الشهيرة التي اطلقها فتغنشتاين في كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، كانت بمثابة دعوة الى الصمت، يجب التوقف عن الثرثرة وعن الحديث عن الفراغ. لكن، ماذا يمكننا قوله ؟ التفلسف هو الاستفسار الوحيد عن اسئلة كثيرة: هل الانسان حر ؟، هل للحياة معنى ؟، ما هو الخير ؟ اسئلة قد تطول وتطول، ولاسيما وصف عدد من الخلافات والمجادلات حول هذه الاسئلة، وبالتالي فان القضية كلها تكمن في مسألة التعبير عن الرأي، فلكل فيلسوف فلسفته، لكن عندما نصل الى هذه النتيجة نكتشف اننا لم نحرز أي تقدم، بمكننا الاعتبار ان ما يجب فعله هو التفاهم حول الكلمات: ماذا يعني حر، ماذا تعني كلمة معنى؟، مالذي نعنيه بالجميل؟ هكذا نعود نضغي الى فتغنشتاين الذي يعلمنا ان من الضروري ان تتناسب الكلمات التي نستخدمها مع الاشياء.

يوصينا فتغنشتاين ان نقترب من الفلسفة ليس من اجل ايجاد اجابة للاسئلة التي تشغلنا، بل من أجل الأسئلة نفسها، لأن هذه الأسئلة توسع تصورنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري.لقد انتج فتغنشتاين صرحين فلسفيين بارزين " رسالة منطقية فلسفية " و " تحقيقيات فلسفية " كفلا له ان يدخل نادي كبار الفلاسفة، الأمر الذي جعل برتراند رسل يقول عنه انه العقلية الاعظم في القرن العشرين.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

........................

* فصل من كتاب: "لماذا نقرأ الكتب المملة ؟ " سيصدر عن دار المدى

"ومضة من أجل وعي الذات والتجدد"

ـ النقد الذاتي للعملية التعليمية التعلمية حياة:

للنقد الذاتي دور رئيس وأساسي في عملية التدريس من حيث يرتكز على التفكير بشكل نقدي في اشتغال المدرس وأدائه المهني ومعرفته وكفاياته ومهاراته وقدراته المتنوعة، التي تشكل المدخل الفعلي للعملية التعليمية التعلمية. فالعملية التدريسية التي لا ترتكز على النقد الذاتي عملية ميتة محنطة في العادة والتقليد، لا تعرف للتطور أي معنى، ولا للجديد حضورا. وهي عملية تهاب المجهول وتخاف من المخاطرة، وبذلك هي جسد بلا روح.

والنقد الذاتي بكل بساطة عملية تقويم الذات والحكم عليها، أو على تصرفاتها، أو على أفكارها، أو على سلوكياتها، أو أدائها. إنها عملية تفكر في الذات بموضوعية قصد الوقوف على الإيجابيات والسلبيات؛ لاستثمار الأولى وتوظيفها استجلابا للنجاح والإنجاز العملي الأجود. ولتجاوز الثانية بتحويلها إلى فرص قابلة للاستثمار الإيجابي، فضلا عن فهم الذات والوعي بها ودفعها إلى مناطق التقدير والاحترام والفعل، وإلى تحسينها وتطويرها وتنميتها على مختلف المستويات والمناحي النفسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والمهنية ... فالنقد الذاتي يؤدي إلى تفكير صادق وموضوعي عن أخطاء المدرس ونقاط ضعفه وأوجه قصوره وعيوبه وتحديات اشتغاله كأداء مهني. لا؛ كذات إنسانية. ومعرفة الأسباب والدوافع وغيرها. وفي المقابل يمكن النقد الذاتي المدرس من التركيز على إيجابيات ونجاحات وإنجازات فعله التعليمي والتدريسي، من أجل فهم واستيعاب مجمل العوامل والأسباب والشروط والمتطلبات، التي ساهمت في تلك النجاحات وساعدت في تحصيلها ونتائجها عند المتعلم أو الفعل ذاته، واستثمارها مستقبلا بشكل جيد ومتطور.

والنقد الذاتي عملية يمكن ورودها في سياقات مختلفة، وفي سيرورة زمنية ومكانية متنوعة وفق الهدف منها، فهي ترد في الحياة الشخصية أو المهنية أو الفنية أو الفكرية أو الأخلاقية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو التعليمية ... فهي أداة قوية بطبيعتها إن تمت بشكل موضوعي وعقلاني، وبطريقة متوازنة للتنمية الشخصية على مختلف المناحي واحترامها وتقديرها. كما هي وسيلة فعالة لتحسين الكفايات والقدرات والمهارات والمعرفة مقابل حل المشكلات، واتخاذ القرارات الواضحة والناجحة والمسؤولة. لكن النقد الذاتي غير الموضوعي والعقلاني وغير المتوازن والعاطفي السلبي يدمر المدرس، ويخفض احترام الذات وتقديرها والثقة فيها.

ـ بعضا من مصوغات النقد الذاتي في عملية التدريس:

ومن مصوغات ضرورة حضور النقد الذاتي في عملية التدريس نجد مثالا لا حصرا:

- تحسين الأداء التعليمي: يمنح النقد الذاتي للمدرس فرصة تقويم نفسه وأدائه بموضوعية بتحديد المجالات التي يمكنه تجويدها وتطويرها وتحسينها، بما فيها كيفية تقديم المواد الدراسية والمتن التعليمي، وإدارة جماعة القسم على مستوى الممارسة الصفية فعلا تدريسيا، وفعلا تواصليا، وفعلا اجتماعيا وثقافيا وفكريا، وتقويم أداء هذه الجماعة على مستوى جمعي وفردي تعلما ... وغير ذلك من المحطات المنهجية أو المعرفية أو الأدائية أو السلوكية. والوقوف على إيجابيات أدائه التعليمي وسلبياته بجانب الوقوف على نقاط الضعف والسلب لدى أفراد جماعة القسم حيث يمكنه العمل والاشتغال على هذه النواحي لينمي كفاءاتهم وكفاياتهم وتجويدها من أجل أن تصير أكثر فعالية ومردودية.

- التساوق مع حاجات واحتياجات أفراد جماعة القسم: يساعد النقد الذاتي المدرس على التساوق مع مطالب وحاجات واحتياجات أفراد جماعة القسم كل على حدة، على مستوى صيغتين منهجيتين؛ الأولى تضمين الدرس والأنشطة التعليمية التعلمية المشترك منها، وتفريد الأخرى في مرحلة قادمة أو الاشتغال من البداية بالبيداغوجيا الفارقية في الثانية. فالاشتغال على هذه التفردات والخصوصيات يمنح المتعلم/ة التعلم وفق سيرورة ذاتية تتوافق مع معطياته الذاتية المعرفية والمنهجية والأدائية والنفسية والاجتماعية ... وتمنح المدرس فحص أساليب التدريس الخاصة به والمنهجيات التي يوظفها في تدريسه، ومدى فعاليتها ونجاعتها وتلاؤمها مع المتعلم/ة، وقياس ردود أفعال هذا الأخير. ويمكنه تعديل ذلك من أجل تلبية مطالب وحاجات واحتياجات كل واحد منهم ضمانا لانخراطه في العملية التعليمية التعلمية بكل حافزية وحرية وفاعلية. وبذلك تنمو شخصية المتعلم/ة على مختلف الأصعدة والمستويات والجوانب حسب وتيرة التعلم لديه وكفاءته وكفاياته؛ فيكون من هنا النقد الذاتي مدخلا لتطوير الفعل التدريسي بجانب تطوير تجربة وممارسة المدرس والمتعلم معا.

- التطوير المهني الدائم للممارسة الصفية: حضور النقد الذاتي في الممارسة الصفية يطورها على ثلاث مستويات على الأقل؛ فهو على المستوى المعرفي يديم مجموعة علامات الاستفهام مفتوحة في وجه الحقول المعرفية المدرسة، بمعنى يسائل دائما المتن التعليمي والأنشطة التعليمية التعلمية والموارد من حيث جدتها ومسايرتها للتطورات الحاصلة في هذه الحقول المعرفية، ليناسبها مع أهداف وغايات الممارسة الصفية ومع معطيات المتعلم/ة المتنوعة ومع منتظراته، ومع المعطيات والمطالب المنهجية وغيرها ... وبذلك تجد المحتوى التعليمي ومضامينه مستجدة ومتطورة ـ وإن كان معطى المناهج الدراسية قارا ومستقرا وثابتا بحكم رسميته، ووروده في سياق السياسة التعليمية للدولة وتشريعاتها وقوانينها ـ فالمستجد يطوله من باب المدرس الباحث عن الجديد عبر النقد الذاتي لهذا المستوى. وأما على مستوى التعليمية " الديداكتيك " فالممارسة الصفية بالنقد الذاتي تقف على معرفة المنهجيات المناسبة لتدريس مختلف الموارد التعليمية بجانب معرفة العديد من التقنيات والاستراتيجيات التي تناسب المتعلمات والمتعلمين، وتحقق الأهداف التعليمية. بل، تطور بعضها وتبتكر البعض الآخر من خلال معرفة التجربة التي تكتسبها داخل حجرة الدرس والممارسة العملية مع المتعلم/ة. كما أن تتعرف على العديد من الاستراتيجيات الماوراء معرفية التي يسلكها المتعلمون والمتعلمات في تعلمهم، واشتغالهم المعرفي فضلا عن تجريب جديدها معهم. ما يمكنهم من معرفة مسالك تفكيرية عديدة تطور استراتيجياتهم الذهنية، وتفتح أمام آفاق التفكير بمختلف انواعه. كما يضبطون الخطوات المنهجية في أدائهم المدرسي، وتتكون لديهم عادة النظام والتنظيم في اشتغالهم العام وسلوكهم ... فهم يكتسبون التفكير المنهجي في حياتهم الخاصة والعامة. وأما على مستوى الأدوات والمعينات البيداغوجية وتكنولوجيا التعليم؛ فالنقد الذاتي يمكن المدرس من معرفة العديد منها التي تناسب متعلماته ومتعلميه، بجانب معرفة كيفية تشغيلها واشتغالها، مما يكون لديه معرفة تقنية وفنية بهذه الأدوات والمعينات والوسائل والتكنولوجيات؛ خاصة في هذا العصر الذي يعتمد عليها أساسا في كل شيء، حيث غزت التكنولوجيا ومنتوجاتها كل مجالات الحياة. فالمدرس الذي لا يمتلك ثقافة تكنولوجية ورقمية، هو نصف مدرس لم يكتمل بعد نصفه الآخر مهنيا، وعليه أن يلتمس التكوين الذاتي أو غيره في تكوين هذا النصف المفقود. فهذا المستوى الثالث له دور مهم في الحافزية واستقطاب المتعلم/ة للدراسة والتعلم ... ومنه يعد النقد الذاتي عنصرا أساسيا في التطوير المهني المستمر والدائم للمدرس عبر وقوفه على ماهية ممارسته الصفية في منحيها الإيجابي والسلبي، من خلال تحسين وتطوير الأداء الصفي ومداخله النظرية، وإبقائه على اطلاع مستمر على مستجدات التدريس، وتحبير تقدمه في مجالات تخصصه المعرفي، وفي مجاله المهني، وتشكيل أفضل الممارسات الصفية.

- تملك التعلم المستقل والمسؤول: يمكن النقد الذاتي المدرس من مساءلة ممارسته الصفية من أجل التعلم المستقل والمسؤول، الذي يتأسس على التكوين الذاتي حين يتعرف المدرس نقاط إيجابياته ونقاط سلبياتها ويعمل على استثمارها ومعالجتها، فيصير مستقلا في تكوين ذاته حسب متطلباته وخصوصياته ومعطياته الواقعية التي اكتشفها بنفسه. فيكتسب المدرس المعرفة والكفايات والمهارات والكفاءة من دون الحاجة إلى أستاذ يدرس مباشرة. ففيه يكون المدرس الناقد لذاته مستقلا، آخذا بمداخل تعلمه وتكوينه، وبمحطاته ومراحل تنظيمه وإدارته؛ فيكون بهذا التكوين قدوة وأسوة حسنة في التعلم الذاتي المستقل والمسؤول، يمكن نقل تجربته إلى متعلماته ومتعلميه ليتعلموا منها ويجربونها في ممارستهم التعلمية بتوظيف النقد الذاتي في تقويم أدائهم التعلمي، واشتغالهم المعرفي قصد تحسينه وتطويره وتجديده، فهو يمنح المدرس والمتعلم معا:

* الاستقلالية: من حيث مسؤولية المدرس والمتعلم/ة عن تعيين أهدافهما التعليمية التعلمية، واختيار مضمون ومحتوى ومصادر العملية التعليمية التعلمية واستراتيجياته وتعليميته ومعيناته البيداغوجية وأدواته، وهندسة وتخطيط هذه العملية نظريا وعمليا وإجرائيا مع تحديد زمنها ومكانها ...

* التحفيز الذاتي: في التعليم المستقل والمسؤول يكون المدرس والمتعلم/ة لديهما حوافز ودوافع جوهرية ورئيسة في التعلم والتكوين، وفي تطوير مهاراتهما وكفاياتهما وقدراتهما ومعارفهما.

* المرونة: يمكن التعلم المستقل والمسؤول المدرس والمتعلم/ة معا من التكوين والتعلم وفق المعطيات الذاتية، وفي أي مكان وزمان يريدانها. وفي أية بيئة تكوينية وتعليمية يحددانها سواء رسمية كانت أو غير ذلك. فالتعلم المستقل والمسؤول يمنح المدرس والمتعلم/ة على السواء مرونة في هندسة التكوين والتعلم وتنفيذه وتحصيل أهدافه.

* استخدام الموارد المتنوعة: يمنح التعلم المستقل والمسؤول المدرس والمتعلم/ة مساحة واسعة لاستخدام مجموعة متنوعة من الموارد الداخلية والخارجية في التكوين والتعلم، من قبيل التجربة والخبرات والأحداث، والكتب والدورات التدريبية عبر الإنترنت، ومقاطع الفيديو، والبرامج التعليمية والتكوينية، ومنتديات المناقشة، والذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك من الموارد، لاكتساب المعرفة والمعرفة المهنية وكيفيات الاشتغال وطرق الأداء.

* التكيف: يتيح التعلم المستقل والمسؤول للمدرس والمتعلم/ة فرصة تكييف وتيرة التكوين والتعلم مع حاجاتهما واحتياجاتهما الشخصية ومتطلباتهما. مما يؤدي إلى التكوين والتعلم وفق وتيرة الشخص وقدراته ومهاراته وكفاياته، وفي المجالات التي تشكل حاجة له، ومطلب رئيس لاستكمل سحنته الشخصية. وفي هذا التكيف تتحقق البيداغوجيا الفارقية؛ ما يحدث تكوين وتعلم أسرع عند البعض دون البعض الآخر في مجال معرفي أو مهني معين، وبدرجات متنوعة في ذلك.

* التقويم الذاتي: في التعليم المستقل والمسؤول يمكن للمدرس والمتعلم/ة تقويم أنفسهم واشتغالهم ذاتيا بطرق موضوعية وعلمية؛ تعلن عن درجة ونوع فهمهم واستيعابهم واكتسابهم للموارد المرصودة والمستهدفة، ومدى تقدمهم في بناء كفاياتهم الشخصية، من أجل تحقيق أهداف التكوين والتعلم الخاصة بهم.

ومنه؛ فالنقد الذاتي يمنح المدرس ومتعلماته ومتعلميه هذه الخصائص والمميزات مقابل تمكينهم من الحكم على اشتغالهم المدرسي على مستويات متنوعة بدء من المعرفة وانتهاء بالأداء التعلمي، استجلابا لجودة الأداء التعليمي التعلمي.

ـ الوقاية من الركود: مع النقد الذاتي توجد الحياة ويتدفق التجديد والتطور في الممارسة الصفية تعليما وتعلما، ذلك أنه يمنع المدرس من الركون إلى العادة والروتين والتقليد والركود في مداخل العملية التعليمية التعلمية المتنوعة هندسة وتخطيطا وتنفيذا، فهو دائم التساؤل عن ممارسته الصفية؛ ما يمنحها فرص التجدد والتطور، وبذلك تنأى عن الركون والسكون. فالسكون والركون للعادة والمعتاد والروتين يقتل الفعل التعليمي التعلمي لأنه يمنع عنه الجديد من معرفة واستراتيجيات تعليمية وأساليب وطرق ومنهجيات ونظريات مستجدة في الحقول والمجالات المعرفية المدرسة. ويقتل الطموح عند المدرس والمتعلم/ة معا ... فالنقد الذاتي يدفع المدرس والمتعلم/ة معا إلى التشكيك في ممارساتهما، وإلى تجريب استراتيجيات وطرق ومنهجيات وأساليب جديدة في التكوين والتعلم، ما يبقي على شغف التكوين والتعلم عندهما مهنيا وتربويا وبيداغوجيا.

ـ التقويم الموضوعي والأداتي: يتيح النقد الذاتي للمدرس والمتعلم/ة معا تقويم أدائهما أداتيا وذاتيا، مبنيا على معايير ومؤشرات موضوعية وعلمية قابلة للقياس وإعادة الإجراء؛ مما يحصلان على نتائج وأحكام أكثر موضوعية لمنتوجهما المتنوع. فالتقويم الموضوعي والأداتي يجنبهما الذاتية والاستغراق في العواطف والتحيزات الشخصية والقرارات الخاطئة المبنية على البيانات والحقائق المغلوطة عن الذات وأدائها. ويتيح لهما فرصة التحقق من معطياتهما عمليا وبأدوات قياسية مؤشرة، وموضوعية لا تنحاز ولا تميل إلى مجاملة الفرد. وإنما تعري عليه كذات وفعل وسلوك. لذا فالتقويم الذاتي غالبا لا يغالط الشخص مهما كانت منزلته أو دوره.

ـ نحو الختم:

يعتبر النقد الذاتي جزءا أساسيا من التطوير المهني للمدرس، ولجودة التعليم والتعلم. فهو يساعد كل من المدرس والمتعلم/ة على التحسن والتطور والتجدد الدائم والمستمر، ويعمل على تكييفهما مع حاجاتهما واحتياجاتهما، وإبقائهما متحفزين ومنخرطين في التدريس التعلم بتعزيز بيئة التدريس والتعلم بتوفير المتطلبات والشروط والظروف المناسبة لفعلي التدريس والتعلم، وتشجيعهما على التفكير في مهامتيهما، والسعي باستمرار وعلى الدوام إلى تطويرها وتحسينها وتجديدها بالمستجد العلمي والمهني والتكنولوجي والتقني فضلا عن المستجد في العلاقات البينية والبعد الإنساني والأخلاقي. فذلك يعزز تطوير التوجيه الذاتي، وحل المشكلات، ومهارات التعلم مدى الحياة التي أصبحت مهمة جدا في عالم دائم التغير والتبدل والتجدد بوتيرة متسارعة؛ عالم التعلم الإلكتروني والدراسة الذاتية والذكاء الاصطناعي.

***

عبد العزيز قريش

يعرف قاموس (اللغات أكسفورد) الضمير: تتكون كلمة ضمير في الانجليزية من جزأين con وscience وهي بادئة وتعني معا وعلم وتلفظ / känSHəns /ويعرفه

’’شعور داخلي أو صوت ينظر إليه على أنه يعمل كدليل على صواب أو خطأ سلوك المرء ". مثال في جملة "كان لديه ضمير مذنب بشأن رغباته" .ومن مترادفاته: الشعور بالصواب والخطأ، الشعور بالصواب، الحس الأخلاقي، الصوت الصغير، الصوت الداخلي، الصوت النابع ,الأخلاق، المعايير، القيم، المبادئ، العقيدة، المعتقدات، الضمير، وازع، هواجس.

ومن تعاريف الضمير إنه شعور داخلي بالصواب والخطأ، الدافع المستمد منطقيا من المبادئ الأخلاقية أو الأخلاقية التي تحكم أفكار الشخص وأفعاله. كما أن لكلمة ضمير مرادفات مثل : الحس الأخلاقي، الوازع، الشعور بالصواب والخطأ. وفي التحليل النفسي هو الأنا العليا. ذلك الجزء من العقل اللاواعي الذي يعمل كضمير.(1) 

الفرق بين الوعي والضمير: كلتا الكلمتين لهما علاقة بالعقل، ولكن إذا كنت واعيا، فأنت مستيقظ ، وإذا كان لديك ضمير، فأنت تدرك الصواب والخطأ. ابق واعيا أثناء الاستماع إلى المعضلة الأخلاقية لصديقك حتى تتمكن من استخدام ضميرك لتقديم نصيحة جيدة.(2) يتم الخلط بين الضمير والوعي في بعض الأحيان بسبب اللفظ المتقارب للكلمتين في الانجليزية.

الضمير يعني (مع المعرفة): كلمة "الضمير" مشتقة حرفيا من الكلمة اللاتينية ضمير، والتي تعني "خصوصية المعرفة" أو "مع المعرفة". تشير الكلمة الإنجليزية إلى الوعي الداخلي بمعيار أخلاقي في العقل فيما يتعلق بجودة دوافع الفرد، وكذلك الوعي بأفعالنا.(3)

الكلمة الأساسية الضمير والوعي مشتقان من نفس الجذور اللاتينية - البادئة com- ("مع"، "معا"، "بشكل مشترك") والفعل scire ("أن تعرف")، وجمعهما ضمير ويعني "أن تكون على دراية بالذنب" - وكلاهما يتعلق بحالة من الوعي، الأول من الوعي الأخلاقي والثاني من اليقظة الجسدية أو العقلية.(4)

ضميرك هو جزء من شخصيتك يساعدك على التحديد بين الصواب والخطأ ويمنعك من التصرف بناء على رغباتك وتطلعاتك الأساسية. (5)

هناك 51 مرادفا للوعي منها متضادات وكلمات تتعلق بالوعي، مثل: اليقظة، والتخوف، والوعي، والاعتراف، والإحساس، والرعاية.(قاموس المرادفات) (6)

ماذا يعني أن تمتلك ضميرا؟ الشعور بأنك تعرف ويجب أن تفعل ما هو صواب ويجب أن تتجنب فعل الخطأ، وهذا يجعلك تشعر بالذنب عندما تفعل شيئا تعرف أنه خطأ: [كما في] لدي ضمير مذنب لقضاء القليل من الوقت مع أطفالي.(7)

تتعدد المقالات والأراء في أنواع الضمير: وفي تصنيف هي 3

 - ضمير متأكد: ضمان شخصي لشرعية أو عدم شرعية بعض الإجراءات التي يتعين القيام بها أو الاعتراف بها.

 - ضمير متشكك: يعلق الحكم على مشروعية الفعل وبالتالي يوجب حذف الإجراء.

 -الضمير الوازع: خائف باستمرار من ارتكاب الشر. (8)

وقال آخرون أن هناك 7 أنواع من الضمير وهذه هي الضمير الصحيح، الضمير الخاطئ، الضمير المؤكد، الضمير المشكوك فيه، الضمير المتراخي، الضمير الرقيق، الضمير الحساس. (9)

وقسمه أخرون كما يلي "الضمير المتشكك" يحد من قدرتنا على الاختيار بين الخير أو الشر. "الضمير الرقيق" رقيق للغاية ودقيق بشأن قراراتنا. يصور "الضمير المتساهل" الخطيئة حيث لا توجد، بينما يصور "الضمير الرقيق" العكس تماما. (10)

أين يقع الضمير: يقول العلماء إنه في دماغك. في الواقع، كشفت فحوصات الدماغ عما يسميه الخبراء "شبكة أخلاقية" في الدماغ البشري. وتتكون هذه من ثلاث شبكات أصغر، كل منها يؤدي وظيفة مهمة.(11) وعلى الرغم من أن الضمير قد يبدو نوعا من الشعور، إلا أن المطالب الأخلاقية التي يفرضها علينا تكشف أن مقعده في العقل. التصرف وفقا للضمير هو اتباع قيادة العقل. صحيح أن المشاعر تصاحب الضمير دائما (خاصة المشاعر السيئة مع ضمير مذنب).( 12) تؤثر الإشارات الكهربائية القادمة من قلبك والأعضاء الأخرى على كيفية إدراكك للعالم، والقرارات التي تتخذها، وإحساسك بهويتك والوعي نفسه. (13)

الضمير الحقيقي هو العقل الذي يصدر حكما أخلاقيا صحيحا على بعض الإجراءات التي يتعين القيام بها أو القيام بها بالفعل. عندما يكون الضمير صحيحا، فإن الحكم الشخصي للشخص يتوافق مع الحقيقة الموضوعية المتمثلة في أن فعلا بشريا معينا جيد أخلاقيا أو خاطئ أخلاقيا.(41)

يتطور الضمير من خلال الذات الأخلاقية المبكرة والتي تظهر في سن 3، حيث يبدأ الطفل في إدراك الصواب والخطأ وتصبح هذه المشاعر جزءا من الوعي الذاتي. (15)

إن الضمير الذي يتشكل بشكل جيد (يتشكل من خلال التعليم والخبرة) والمستنير جيدا (مدركا للحقائق والأدلة وما إلى ذلك) يمكننا من معرفة أنفسنا وعالمنا والتصرف وفقا لذلك. رؤية الضمير بهذه الطريقة مهمة لأنها تعلمنا الأخلاق ليست فطرية.(16)

من أين يأتي ضمير الشخص: كل تفاعل لدينا مع الآخرين يساعد في تشكيل ضميرنا. عندما يتفاعل الأخرون مع أفعالنا نتعلم السلوكيات المقبولة وغير المقبولة. تتشكل ضمائرنا أيضا من خلال مراقبة الآخرين وفهم الخيارات التي يتخذونها.(17)

 كيف تعرف الصواب من الخطأ، ضميرك هو ما يساعدك على تحديد ما إذا كانت أفعالك أو دوافعك جيدة أو سيئة، صحيحة أم خاطئة. (18)

قلة الضمير - غالبا ما ينشغل الأفراد الذين يعانون من اضطرابات الشخصية بأجنداتهم الخاصة، وأحيانا لاستبعاد احتياجات واهتمامات الآخرين. يفسر الآخرون هذا أحيانا على أنه نقص في الضمير الأخلاقي.(19)

كما يتم تعريف الضمير من خلال نظرته الداخلية وطابعه الذاتي، بالمعنى التالي: الضمير هو دائما معرفة أنفسنا، أو الوعي بالمبادئ الأخلاقية التي التزمنا بها، أو تقييم أنفسنا، أو الدافع للعمل الذي يأتي من داخلنا. (20)

والسؤال الذي يطرح هل لكل شخص ضمير: مفهوم "الضمير"، كما هو شائع الاستخدام بمعناه الأخلاقي ، هو القدرة المتأصلة لكل إنسان سليم على إدراك ما هو صواب وما هو خطأ، وبناء على قوة هذا التصور، للتحكم في أفعالهم ومراقبتها وتقييمها وتنفيذها.(21)

الانسان يحتاج إلى ضميره أكثر من مجرد "غريزة حدسية"، ضميرنا هو "عضلة أخلاقية". من خلال إعلامنا بقيمنا ومبادئنا، يصبح المعيار الذي نستخدمه للحكم على ما إذا كانت أفعالنا أخلاقية أم لا. يمكننا أن نطلق على هذين الدورين الوعي الأخلاقي واتخاذ القرارات الأخلاقية. (22)

وقد يسأل سائل هل الضمير سلوك مكتسب ام فطري: الرأي الذي يعتبر الضمير استدلالا تراكميا وذاتيا من التجارب السابقة للأنسان يعطي التوجيه للسلوك المستقبلي يسمى التجريبية. من ناحية أخرى، قد ينظر عالم السلوك إلى الضمير على أنه مجموعة من الاستجابات المكتسبة لمحفزات اجتماعية معينة.(23)

المصطلح النفسي للضمير: إحساس الفرد بالصواب والخطأ أو التعدي على القيم الأخلاقية. في التحليل النفسي، الضمير هو الأنا العليا، أو المكون الأخلاقي للشخصية، والذي يعمل كحكم وناقد لأفعال الفرد ومواقفه.(24)

الضمير هو ملكة أبدية فريدة تمكننا باستخدام العقل من الشعور بالفرق بين الصواب والخطأ. ثلاث وظائف للضمير هي (أ) مشاعر ما يجب أن نفعله، (ب) مشاعر الموافقة على الذات عندما نفعل ذلك، و(ج) مشاعر الندم عندما لا نفعل ذلك.(25)

الضمير لا يقرر الصواب أو الخطأ، الضمير الأخلاقي لا يحدد ما هو الصواب أو الخطأ. يمكن للضمير فقط أن يخبر الناس ما إذا كانوا يعتزمون فعل ما يعتقدون أنه صواب أو خطأ.(26)

المكونات الأساسية الثلاثة للأخلاق، للتصرف أخلاقيا يحتاج المحترف إلى الحساسية الأخلاقية والحكم الأخلاقي والدافع الأخلاقي. من الواضح أن هذه المكونات الثلاثة للأخلاق مترابطة.(27)

أن قدرتك الداخلية على الحكم على ما يسمى الصواب أو الخطأ أخلاقيا تشير الى مصطلح (البوصلة الأخلاقية) وهو المعنى الداخلي للصواب والخطأ لأنه ينطبق على قرار معين أو مجموعة من الخيارات.(28)

هل لكل إنسان ضمير: إن مفهوم "الضمير"، كما هو شائع الاستخدام بمعناه الأخلاقي، هو القدرة المتأصلة لكل إنسان سليم على إدراك ما هو صواب وما هو خطأ، وبناء على قوة هذا التصور،على التحكم في أفعالهم ومراقبتها وتقييمها وتنفيذها. (29)

هل يمكن أن يكون هناك شخص بلا ضمير، هناك حالات من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، ويسمى أحيانا الاعتلال الاجتماعي او السوشيوباثي، هو حالة صحية عقلية لا يظهر فيها الشخص باستمرار أي اعتبار للصواب والخطأ ويتجاهل حقوق ومشاعر الآخرين.(30)

السوشيوباث ليس لديه ضمير. السلوكية تدل على أن الشخص المعتل اجتماعيا مندفع وغير موثوق به. نتيجة لهذه السمات، يفتقر المعتل اجتماعيا أيضا إلى القدرة على تحديد أهداف طويلة الأجل. علاوة على ذلك، لا يمكنه، أو لن يقبل، المسؤولية عن أفعاله.(31) كما في الشخصيات الدكتاتورية المتغطرسة التي ابتليت بها البشرية وسببت موت وعذاب ملايين البشر على مدى التاريخ. المعتلون اجتماعيا ، قد لا يوجد لديهم ضمير، ولكن هناك خوف من الاعتقال عند ارتكاب الجرم، ولا يوجد تعاطف مع الشخص الآخر. لديهم انخفاض في التحكم في الانفعالات - بسبب انخفاض التحكم في الانفعالات، قد يكون السوشيوباثي سريعا في إظهار العدوان أو حتى العنف.(32)

النرجسيون والضمير: في عالم علم النفس، بعض الشخصيات تأسر الانتباه وتشعل الفضول مثل النرجسي. يتميز النرجسيون بالحاجة النهمة للظهور والإعجاب وغياب التعاطف، ويعملون دون ضمير أو اعتبار للآخرين.(33)

من هو الشخص غير الأخلاقي؟ هي صفة لا تنطوي على أسئلة الصواب أو الخطأ ؛ بدون جودة أخلاقية , كما تعني عدم وجود معايير أو قيود أو مبادئ أخلاقية ؛ غير مدرك أو غير مبال بمسائل الصواب أو الخطأ: شخص غير أخلاقي تماما.(34)

الضمير السيئ: شعور سيء ناتج عن معرفة أو التفكير في أن المرء قد فعل شيئا سيئا أو خاطئا : الشعور بالذنب. (35)

لماذا لدي ضمير سيء؟ يمكن أن يحدث إذا كنت مريضا أو بعيدا عن العمل أو نقلت العدوى الى الآخرين. قد يكون لدى المرء ضمير سيئ لقول لا، أو لعدم قول لا. يمكن أن يحدث أيضا من خلال الأفكار والمشاعر التي يشعر بها المرء. وفي المعاشرة، يمكن أن يحدث بعد الخيانة الزوجية، أو بسبب نقص او زيادة الدافع الجنسي. (36)

يتضمن التخلص من الشعور بالذنب والعار 7 نصائح هي

1. تذكر الجانب الآخر من الشعور بالذنب.

2. صحح أي أخطاء بارزة.

3. تحدى تحيز الإدراك المتأخر.

4. تحدى افتراضاتك بعدم وجود مبرر.

5. تحدى الشعور بالمسؤولية المفرطة.

6. تحدى خطأ التفكير في ارتكاب المخالفات.

7. تصرف ككبير في تفكيرك. (37)

يتم تطهير الضمير من خلال مسامحة الذات وتتضمن أربع خطوات رئيسية:

1. تحمل المسؤولية عن أفعالك.

2. التعبير عن الندم والندم دون السماح له بالتحول إلى خجل.

3. التزم بالتعويض عن أي ضرر تسببت فيه.

4. مارس قبول الذات وثق بنفسك للقيام بعمل أفضل في المستقبل.(38)

***

د. احمد المغير

................

 المصادر

1- Conscience - Definition, Meaning & Synonyms ,Vocabulary.com

https://www.vocabulary.com › dictionary › conscience

2- conscious vs. conscience : Choose Your Words - Vocabulary.com,vocabulary.com

https://www.vocabulary.com › articles › conscious-conscience

3- Conscience – Wikipedia,wikipedia.org

https://en.wikipedia.org › wiki › Conscience

4- 'Conscience' vs. 'Conscious': Let Us Be Your Guide - Merriam-Webster ,merriam-webster.com

https://www.merriam-webster.com › grammar › usage-of...

5- Conscience vs. Conscious: What's the Difference? - Verywell Mind, verywellmind.com

https://www.verywellmind.com › conscience-vs-conscious...

6-  24 Synonyms & Antonyms for CONSCIOUSNESS - Thesaurus.com thesaurus.com

https://www.thesaurus.com › browse › consciousness

7- Cambridge Dictionary    https://dictionary.cambridge.org › dictionary › conscience .

8-Different Kinds Of Conscience – Studocu ,studocu.com

https://www.studocu.com › general-psychology › different kinds of conscience

9-  7 types of conscience – LinkedIn, linkedin.com  

https://www.linkedin.com › pulse › 7-types-conscience

10- What are the types of conscience? - Homework.Study.com, study.com

https://homework.study.com › explanation › what-are-th...

11- What Is Your Conscience? | Wonderopolis ,wonderopolis.org

https://wonderopolis.org › wonder › What-Is-Your-Conscience...

12- Conscience/Feelings - Catholic Education Resource Center,catholiceducation.org

https://www.catholiceducation.org › philosophy › conscience

13- Consciousness isn't just the brain: The body shapes your sense of self, newscientist.com

https://www.newscientist.com › article › mg24632881-3...

14-Dictionary : TRUE CONSCIENCE ,Catholic Culture, catholicculture.org.

https://www.catholicculture.org › culture › library › dictionary

15- Children's Conscience During Toddler and Preschool Years, Moral Self,nih.gov

https://www.ncbi.nlm.nih.gov › articles › PMC3495080

16- How do you define Conscience? - Ethics Explainer by The Ethics Centre, ethics.org.au

https://ethics.org.au › ethics-explainer-conscience

17- What Is Your Conscience? | Wonderopolis ,wonderopolis.org

https://wonderopolis.org › wonder › What-Is-Your-Conscience

18- What part of us knows right from wrong? - Science News Explores, snexplores.org

https://www.snexplores.org › article › what-part-us-know...

19 -Lack of Conscience - Out of the FOG

https://outofthefog.website › top-100-trait-blog › 2015/11

20- Conscience - Stanford Encyclopedia of Philosophy ,stanford.edu

https://plato.stanford.edu › entries › conscience

21- Conscience and Consciousness: a definition - PMC – NCBI,nih.gov

https://www.ncbi.nlm.nih.gov › articles › PMC3956087

22- How do you define Conscience? - Ethics Explainer by The Ethics Centre, ethics.org.au

https://ethics.org.au › ethics-explainer-conscience

23- Conscience | Moral Development, Self-Awareness & Decision-Making,britannica.com

https://www.britannica.com › topic › conscience

24- conscience - APA Dictionary of Psychology,apa.org

https://dictionary.apa.org › conscience

25- Hubbard Winslow, "Conscience Determines What's Right", lander.edu

https://philosophy.lander.edu › ethics › notes-winslow

26- Conscience - LibGuides at Ursula Frayne Catholic College, libguides.com

https://ursulafrayne.libguides.com › conscience › chapter3

27- Components of Morality - unicontent.fi ,unicontent.fi

https://www.unicontent.fi › product › components-of-morality

28- Moral Compass Overview & Examples - Video & Lesson Transcript,study.com

https://study.com › learn › moral-compass-overview-examples

29- Conscience and Consciousness: a definition - PMC – NCBI, nih.gov

https://www.ncbi.nlm.nih.gov › articles › PMC3956087

30- Sociopath Definition: Extremely Antisocial, No Conscience,healthyplace.com

https://www.healthyplace.com › personality-disorders › sociopath

31- Sociopath Definition: Extremely Antisocial, No Conscience,healthyplace.com

https://www.healthyplace.com › personality-disorders › sociopath

32- 20 Ways to Spot the Psychopath in Your Life - Ayo and Iken, myfloridalaw.com

https://www.myfloridalaw.com › twenty-ways-to-spot-th...

33- How Narcissists Operate Without Conscience - Kim Saeed,kimsaeed.com

https://kimsaeed.com › 2023/05/04 › how-narcissists-operate with conscience

34- Amoral Definition & Meaning | Dictionary.com,dictionary.com

https://www.dictionary.com › browse › amoral

35- Guilty/troubled conscience Definition & Meaning - Merriam-Webster, merriam-webster.com

https://www.merriam-webster.com › dictionary › guilty

36- Bad conscience and guilt Therapy | Psychological work – Psykologvirke, psykologvirke.no

https://psykologvirke.no › therapy-oslo › bad-conscience...

37- 7 Ways to Let Go of Guilt - Scientific American, scientificamerican.com

https://www.scientificamerican.com › article › 7-ways-to...

38- Guilt Makes a Heavy Burden. Don't Let It Drag You Down – Healthline, healthline.com

https://www.healthline.com › how-to-stop-feeling-guilty

  

ترجمة د. هاشم نعمة

تناقش المؤسسات المالية الدولية المهيمنة التي تتبنى الليبرالية الجديدة، وصانعو السياسات والأكاديميون زيادة الهجرة، في إطار تحرير السوق لتغذية النموذج الإمبريالي المتمركز حول تراكم رأس المال. وبالرغم من ذلك، فإن رغبة النخب الحاكمة في زيادة الهجرة هي عامل حاضر دائما في تاريخ الرأسمالية. وكما لاحظ إيمانويل نيس (2007) بأن الزيادة في تجارة العمل على المستوى الدولي هي موضوع متكرر في الرأسمالية، والتي كانت واضحة خلال العصر الفيكتوري، عندما كانت التجارة العالمية في العمل تأتي في المرتبة الثانية بعد التجارة في التمويل. لكن في الفترة الحالية من الرأسمالية النيوليبرالية تكمن المشكلة في أن المنظرين والممارسين النيوليبراليين ليسوا صادقين مع عقيدتهم لأنهم لا يفضلون بصدق الحركة غير المقيدة للأشخاص على مستوى العالم.

تتميز الرأسمالية النيوليبرالية بنزعتين متناقضتين تجاه الهجرة الوافدة – هما زيادة الهجرة وفي الوقت نفسه تقييدها. الأمثلة التي تُبرز هذا التناقض هي أعمال إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي في تقييد الهجرة الوافدة مستهدفة على نحو محدد بلدان فقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. والدعوة في الوقت نفسه إلى زيادة الهجرة المنظمة، وهناك مجموعة معقدة من المؤسسات الدولية والأكاديميين والبرامج البحثية والتقارير والوصفات السياسية وصانعي السياسات. هذه المجموعة  مكرسة أيضا لتسهيل تدفقات رأس المال دون عوائق على الصعيد العالمي في خدمة الرأسمالية النيوليبرالية. وهناك بُعد آخر للتناقض وهو أن الرأسمالية النيوليبرالية تعزز الهجرة المنظمة بحيث يجري تفضيل فقط المهاجرين الذين يتوفرون على المال والمهارات العالية للقبول في البلدان الغنية.

يعكس هذا التناقض انفصالا بين السياسة والاقتصاد في ظل العولمة النيوليبرالية. إذ يبدو أن هناك فارق زمني بين القاعدة الاقتصادية والنظام السياسي بشأن مسألة الهجرة الوافدة. بينما تتطلب المنفعة الاقتصادية النيوليبرالية توظيف العمالة المهاجرة الرخيصة لتخفيض تكاليف الإنتاج وتحفيز الربح ، نجد النظام السياسي الذي أقيم لتسهيل سير عمل القاعدة الاقتصادية بسلاسة  يقوم بإقامة الحواجز أمام دخول المهاجرين.

تفرق الحجج لصالح العمالة المهاجرة بين المهاجرين: العمال في البلدان المرسلة، والعمال في البلدان المستقبلة كمجموعات مختلفة من الناس بطبيعتها. هذا الاختلاف مصطنع نظرا لأن الدور الوحيد للعمال في الاقتصاد الرأسمالي سواء كانوا مهاجرين أو بقوا في البلدان المرسلة أو الوافدين الجدد في البلدان المستقبلة، هو بيع قوة عملهم إلى الرأسمالي الذي يدفع أجورا أعلى.

يتوزع العمال في العالم على نحو هذه الطريقة التي لاحظها فليب ماتن حيث في عام 2006 "نحو 40 في المئة منهم كانوا يعملون في الزراعة، و20 في المئة في الصناعة، و40 في المئة في الخدمات." في ذلك الوقت، "نحو 60 في المئة من حوالي 100 مليون من العمال المهاجرين في العالم" كانوا "في البلدان المتطورة أو الصناعية، وكان توزيعهم يختلف بشكل واضح عن العمال المولودين في البلد." في الواقع، كان نحو 10 في المئة من المهاجرين في البلدان الصناعية يعمل في الزراعة، و40 في المئة في الصناعة، و50 في المئة في الخدمات، في حين كان فقط 3 في المئة من العمال المولودين في البلد في الزراعة، و25 في المئة في الصناعة و72 في المئة في الخدمات.

بالنظر إلى توزيع القوى العاملة على مستوى العالم، لماذا تعمل الرأسمالية النيوليبرالية على تعزيز التأثير الإنمائي للهجرة في حين يقيم بالتزامن مع ذلك بعض البلدان والمناطق جدران الفصل وإجراءات أخرى لمنع دخول المهاجرين؟ ما هو الدافع وراء زيادة الهجرة المنظمة والحد من الهجرة في الوقت نفسه؟ من دون شك، هذه العملية مدفوعة بدافع الربح من قبل كل من الشركات التي توظف العمالة المهاجرة وتلك التي لا تعمل ذلك. فالشركات التي توظف العمالة المهاجرة تعمل ذلك لتخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة الربح، في حين أن الشركات التي لا توظف العمالة المهاجرة تريد لحد منها حتى تصبح أكثر قدرة على المنافسة مقابل الشركات التي توظف العمالة المهاجرة.

أجبرت سياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالية البلدان النامية على الانخراط في ما يسمى بـ "ترشيد" مؤسسات الدولة لتقليل تكاليف تشغيلها. وباتت سياسة الهجرة الآن شكل من أشكال "الترشيد" ولكن تشمل البلد بأكمله بدلا من أن تشمل مؤسسة معينة مملوكة للدولة. وقد جرى تنفيذ إجراءات كثيرة في المؤسسات العامة في السبعينيات والثمانينيات والتي أدت إلى تسريح ملايين العمال من وظائفهم، بهدف خفض التكاليف وزيادة الأرباح.

بالطريقة نفسها كان من المفترض أن تصبح فيها المؤسسات العامة "ضعيفة وخالية من العوائق" من خلال سياسات "الترشيد"، المقصود أن البلد ككل، يعني المجتمع والاقتصاد، يجب أن يصبح ""ضعيف وخالي من العوائق" من خلال سياسات الهجرة. وهذا يعني أنه لا ينبغي أن يكون هناك مهاجرون في الاقتصاد يدعمهم دافعو الضرائب من خلال البرامج الاجتماعية. لقد ولّد جدل "ترشيد" ركوب المهاجرين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حركات مناهضة للهجرة تتبنى كراهية الأجانب ورهاب الإسلام، وعلى العكس من تأييد الهجرة الكبيرة.

لا يأخذ هذا الشكل من "ترشيد" الاقتصاد والمجتمع في الاعتبار مساهمات المهاجرين الذين يتقاضون أجورا زهيدة في تخفيض تكاليف الشركات التي تقوم بتوظيفهم، الحقيقة بأن مشغليهم قادرون على بيع منتجات المهاجرين بأسعار منخفضة لأنهم يدفعون لهم أجورا قليلة. وهي لا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن العمال المهاجرين هم من يدعمون أسعار المواد الغذائية المنخفضة في البلدان الغنية والتي تدعم أيضا المستهلكين على نحو مباشر في هذه الدول.

أيضا، هناك مسألة المنافسة الرأسمالية بمعنى أن بعض الشركات تميل أكثر إلى تشغيل أصناف معينة من العمالة المهاجرة خصوصا المهاجرين غير الشرعيين، مما يمنحها ميزة قلة التكاليف مقارنة بتلك الشركات التي لا تكون في وضع لتعمل الشيء نفسه. الشركات الأخيرة هي الأكثر تشددا في معارضة العمالة الوافدة. هكذا أذن هناك أقسام وقطاعات من رأس المال توظف العمالة المهاجرة وأخرى تمقت ذلك.

تمثّل خط الصدع الرئيسي في قضية الهجرة بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009، وفي النقاش حول الاتجاهات الجديدة والتفكير بشأن التأثير التنموي للهجرة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية، ويتمثل ذلك في الإجراءات المتناقضة التي تقوم بها النخب الحاكمة في إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقييد الهجرة الوافدة. لقد اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات منحطة لبناء جدران عازلة لمنع دخول العمالة المهاجرة الفلسطينية والأفريقية والمكسيكية، على التوالي، في حين استثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروات في ليبيا كي يراقب هذا البلد البحر المتوسط لإبعاد العمالة المهاجرة الأفريقية عن الاتحاد الأوروبي.

***

.....................

* الترجمة من كتاب: Dennis C. Canterbury, Capital Accumulation and Migration (Leiden/ Boston: Brill, 2012).

(وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) الطارق1 -4

 إن من أعظم الدلائل على القدرة الالهيّة هو قسم الله نفسه بمخلوقاته لعظمتها، ولما وردت الآية القرآنية بصيغة القسم فهذا يعني إن الأمر عظيم جدا ينبهنا الى آيات بغاية الأهمية، وعندما نذكر الآية يعني إن هناك إعجازا رائعا، ففي سورة الطارق يقسم الله جلّ وعلا بالسماء والعلم لم يستطع أن يضع حدودا للسماء، لان الانسان قدراته محدودة .

ومجموعتنا الشمسيّة عبارة عن جزء صغيرجدا من حشد هائل من النجوم تدور حول مركز واحد، ففخامة السماء واتساعها وتعدد أجرامها إلى حد لايستطيع العقل البشري أن يتخيله هو أحد مبررات هذا القسم القرآني العظيم الذي جاء في مطلع سورة الطارق، وأما الطارق فقد توقف عنده العلماء والمفسرون، فبعضهم قال هو نجم لأن العرب كانت تسمي كل قادم بالليل طارقًا، وكان المصطفى يستعيذ بالله من طارق الليل، وبعضهم قال إنه من الشهب لان القرآن يخبرنا إن الشهب ثاقبة لظلمة السماء وثاقبة للغلاف الجوي (إلاّ من خطفَ الخطفةَ فاتبعه شهابٌ ثاقب) الصافات 10

إلا إن الآيات الكريمة تؤكد إنه نجم (النجم الثاقب) والنجم غير الشهاب، ففي عام 1963 ظن الامريكان إن الروس يختبرون أسلحة نووية جديدة عندما كانوا يرصدون انفجارات هائلة في السماء، ذات أصوات منتظمة تشبه الطرق، ممادعاهم إلى دراسة تلك الاشعاعات التي كانت على هيئة مطارق، وقد وجدوا إنها ظاهرة جديدة وانفجارات قوية جدا غنية بالطاقة تدعى (غاما ري) وكانت نجوم خارقة متفجرّة، وهذا الانفجار يسحب الجاذبية الى قلب النجم العملاق، وخلال الانفجار يكون النجم أكبر بكثير من حجمه لدرجة تحطم القلب أو وقوعه في المركز مخلفا ثقبا أسودا ويبدأ الثقب بالتهام النجم المحتضر من حوله وأثناء ذلك يظهر النجم المستعر وتتطاير أجزاء من النجم المنفجر في الفضاء، ولايمكن لباقي النجم دخول الثقب الصغير في الوسط بل يدور من حوله، ويحدث هذا الانهيار نتيجة لفقدان النجم لوقوده، الامر الذي يجعله غير قادر على دعم طبقاته الخارجية من الغاز، وعندما يكون النجم كبيرا بما يكفي أي إنه أكبر من كتلة الشمس بخمس وعشرين مرة، تقوم الجاذبية بسحب الغازات نحوها مما يسبب صغر قطر النجم تدريجيًا حتى تصل كثافته إلى اللانهاية في نقطة واحدة وهذا مايسمى بالتفرد.

وبعدما يتشكل الثقب الاسود يقوم بامتصاص الكتل المحيطة به وتصل كتلته الى أضعاف كتلة الشمس ، عندها يصبح ثقبا أسودا هائلا ويسمى، ولايمكن رؤية الثقب الاسود لان (Supermassive black hole)

جاذبيته كبيرة جدا مما يجعلها تسحب أي ضوءقريب، ومن الجدير بالذكر ان وجود ثقبا اسودا ونجم قريبين من بعضهما يسبب اطلاق ضوء عالي الطاقة لايمكن للعين البشرية رؤيته، تستطيع التلسكوبات تمييزه، ولقد ذكر القرآن الكريم ذلك بوصف دقيق جدا (النجم الثاقب) لانه يخترق ويثقب نوره أي شئ يصادفه فيخرق السموات وينفذ حتى يرى في الارض، وقد أكد العلماء ان هذا النجم يقوم ببث اشعاعات تعتبر الالمع من نوعها حيث تقوم باصدار اشعة تبهر الانظار-سبحان الله-

ان هذا النجم النيوتروني يطلق موجات راديوية تشبه تماما نبضات القلب وقد اسماها العلماء (النوابض) أو (المطارق) ووصفوها بتكدس المادة على ذاتها تكدسا شديدا فتلتحم الالكترونات السالبة الشحنة الموجودة في مدار الذرة مع البروتونات الموجبة الشحنة الموجودة في نواة الذرة فتتحول المادة الى حالة متعادلة تسمى نيوترونات أو جسيمات متعادلة وسميت نجوما نيوترونية، وقد أكد العلماء انها تدور حول نفسها بسرعات فائقة تقدر بجزء ضئيل من الثانية تكمل دورة كاملة حول محورها وانها تطلق في كل ثانية تدور اكثر من ثلاثين دورة في الثانية الواحدة وتطلق موجات راديوية تصل الى الغلاف الغازي للارض وتشبه تماما الطرقات على الباب، هذه الطرقات  ناتجة عن الموجات الراديوية، جعلت العلماء يطلقون عليها اسم (النجوم النيترونية النابضة) والتي تطلق نبضات أو طرقات منتظمة سجلها التلسكوب الراديوي تشبه الطرق على الباب تماما وقد سجلته وكالة ناسا ووثقته كوثيقة علمية، لكن المبهر إن القرآن قد جاء بهذه الآية العظيمة قبل 1400 سنة وقد سماها (الطارق)، فهل هناك إعجاز أروع من هذا ..الاعجاز.

واذا ماعدنا الى كلمة سماء-وكل ماسوى الارض سماء، فكلمة سماء تتكون من (س) و (ماء،) ولتكن س كل الاجرام السماوية من نجوم وشهب وكواكب ونيازك ومجرات، والماء هو ماحوته السحب ليكون أساس الحياة وهو بالتجريد يعني اساس الحياة (وجعلنا من الماء كل شئ حي) الانبياء30

لقد ابتدأ الله جلّ وعلا بالقسم بالسماء ذلك لان السماء بماحوت من اكبر دلائل عظمة الله وابداعه ثم اقسم بالطارق وهو النجم المضئ الذي تجلّت فيه قدرته جل وعلا، أما جواب القسم فهو إن الله جعل لكل نفس حافظ ورقيب (إن كلُّ نفسٍ لمّا عليها حافظٌ) والحافظ لها معنيان منها الحفظ من المحافظة ومنها الحفظ اي التدوين، فكلما يقوم به الانسان من أعمال خيرا كانت أم شرا صغيرة أم كبيرة كله مدون في كتاب مرقوم (وجاءت كل نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ) ق 21

هذا اللون من الاعجاز المبهر الذي يسير بحساب دقيق تعجز عنه أقوى الحاسبات واعتى برمجيات العالم يجسده لنا القرآن الكريم بهذه الصور الاعجازية المبهرة، فتأمل معي اخي القارئ إن كل نفس سخر لها الله إثنين من ملائكته يتوليان أمر تدوين أعمالها، كي لا تضيع حقوق العباد، فلم يخلق الله الانسان ليفسد في الارض ويتجاوز على حقوق العباد، يقتل ويسرق ويسبي ويتعدى ويحرق الحرث والنسل، بل خلقه لهدف أسمى وهو الاعمار والامتنان للخالق، أفبعد ذلك حديث أو مناورة في قضية الخلق (فبأي آلاء ربكما تكذبان) .

إن القرآن ليس مجرد كتاب يحوي قصصا، بل يشتمل على إعجازا علميًا رقميا دقيقا حير العلماء، مما دعا الكثير منهم الى إشهار اسلامهم بعد إدراكهم للحقائق العلمية الدقيقة التي جاء بها، هذه الحقائق لايمكن أن يدركها سوى الراسخون في العلم والذين هم أعلم الناس علما وإيمانا ، فكلما زاد العلم تفتحت البصيرة (إنّما يخشى الله مِن عبادهِ العُلماء) فاطر28

نحمد الله على نعمة الايمان بعدد حبات المطر وعدد أوراق الشجر.

***

مريم لطفي الالوسي

كما هو معروف فإن الأطفال بحاجة إلى عناية واهتمام للوصول بهم إلى بر الأمان ومع التطور الكبير الحاصل في وسائل الاتصال جعل الأمور تأخذ أبعادا كثيرة،  يجب الانتباه لها وعدم التهاون معها، خاصة فيما يتعلق بالأطفال وعلاقتهم بهذا التطور، ومن المعروف أن لكل عصر خصائص معينة ولعل عصرنا هذا هو عصر الإنترنت والتواصل السريع لهذا خصصت هذه السطور من أجل الالتفاتة إلى شريحة مهمة في المجتمع ألا وهي شريحة الأطفال وعلاقتهم بالأنترنت، كان للأطفال في السابق اهتمامات مختلفة كثيراً عن ما هو موجود في وقتنا الحاضر فكانوا يقضون اوقاتهم في اللعب مع بعضهم البعض فيلعبون الألعاب الشعبية ويمارسون الرياضات المختلفة والهوايات النافعة ويستمتعون بمشاهدة الرسوم المتحركة فهي فترة مهمة وبالرغم من قلة الوقت الذي كان مخصص لعرض الرسوم المتحركة لكن كان يتم اختيارها بعناية وعليها رقابة خاصة لتجنب نشر الرذيلة أو نشر اي أمور مرفوضة من قبل المجتمع. وكان الأطفال أكثر تفاعلا فيما مضى في النشاطات الاجتماعية وتواصلهم سهلاً مع الآخرين ويستطيعون بسهولة التعرف على أصدقاء على أرض الواقع...، ومن المعروف أن لكل أمر سلبيات وإيجابيات فالإنترنت مشمول بذلك أيضاً له إيجابيات كثيرة لكن سلبياته موجودة وتأثيره على الأطفال واضح وخاصة ما يحصل في الوقت الحاضر من قلة وعي وادراك من قبل بعض الاهالي في إهمال تربية أطفالهم وجعلهم يفقدون روح الطفولة والاهتمام بالحياة بصورة عامة وهذا الأمر ليس مبالغ فيه وانما جاء بعد دراسات وبحوث أُجريت من قبل المهتمين بالجانب الإنساني للأطفال ومنظمات المجتمع المدني وكذلك منظمة الأمم المتحدة (اليونيسيف) التي تهتم بهذا الجانب وهي مستمرة في حث الشركات التقنية العالمية من أجل إتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية مستخدمي الإنترنت من الأطفال، ويمكن توضيح الأضرار التي تواجه الأطفال في ظل استخدامهم للإنترنيت بما يالي:

أولاً: التحرش الإلكتروني وذلك عن طريق استغلال براءة الأطفال واستدراجهم وقد يتطور الأمر الى لقاءات على أرض الواقع وما يترتب عليه من أمور قد تخرج عن السيطرة .

ثانيا: التنمر الإلكتروني وهذا ما يحدث في أكثر الأحيان عند مشاركة الأطفال في الالعاب الإلكترونية التفاعلية وما يسببه هذا التنمر اللفظي من اذية لنفسية الأطفال وتدمير للروح المعنوية.

 ثالثا: النصب والإحتيال وذلك عن طريق إستغلال الأطفال في ترغيبهم لشراء سلعة ما قد تكون رديئة أو غير موجودة أو المشاركة في الألعاب الإلكترونية باشتراكات مالية ضخمة !.

رابعا: الإدمان وهذا الأمر من المسائل الخطيرة خاصة إذا كان الطفل بعمر الثلاث سنوات فيصبح مدمن من الصعب التعامل معه فيصعب على الأبوين بعدها دمج الطفل مع المجتمع ويتصرف الطفل بعدوانية في حال لم يستجب الأبوين لإشباع رغبته في تصفح الإنترنت .

 خامسا: مشاهدة المشاهد غير اللائقة والعدوانية والعنيفة وقد تحتوي أحيانا على المشاهد الاباحية ! .

سادسا: الأمراض النفسية والشعور بالوحدة أو الإصابة بالتوحد الإلكتروني والذي له علاقة بطيف التوحد حيث أظهرت الدراسات الأمريكية أن طيف التوحد ليس هو السبب الرئيسي لهذا المرض ولكن قد يكون عاملاً مساعداً في حال وجود الأعراض!.

بعد أن اطلعنا على كل تلك السلبيات هل من الممكن تلافيها أو معالجتها؟ من الممكن ذلك في بادئ الأمر على الأهل مراقبة أبناءهم والانتباه لكل ما يدور حولهم ويكونون على دراية في البرامج والمواقع التي يتصفحها أبناءهم، وكذلك وضع توقيتات معينة لاستخدام الهواتف الذكية وعدم ترك الهواتف طوال النهار بأيدي الأطفال وبذلك ينظم الطفل وقته بين لعب وبين ممارسة هواية وبين مقابلة أصدقاءه على أرض الواقع، محاورة الأطفال بصورة مستمرة والإطلاع على أفكارهم ومشاركتهم في الأنشطة المختلفة، تفعيل نظام الحماية للأطفال حتى لا يتم عرض الأمور غير اللائقة والمحتويات الهابطة.. بعد ذكر كل ما سبق من إيجابيات وسلبيات ومعالجات؛ فأن الأطفال هم بوابة المستقبل وصنّاع التطور وهم مخزون الأمم لصنع الحضارات والتقدم لمستقبل آمن ويجب الحفاظ عليهم وتطوير عقولهم بشكل يخدم الإنسانية جمعاء.

***

الكاتبة سراب سعدي

يمكن القول أن الحديث عن الاستاذ الجامعي في الوقت الراهن لا يخلو من حساسية ولو بنحو نسبي، لأن الموضوع متداخل ومعقد إلى حد ما، ولا نشك في مدى صعوبة المشهد التعليمي في العراق على مختلف مستوياته سواء التعليم الثانوية أم التعليم الجامعي، وعند الحديث عن مشكلة ما لا ينبغي أن نغفل جميع عناصر المشكلة منذ مراحل التأسيس وإلى بقية مراحل التكوين.

إن العناصر الرئيسة للتعليم تتمثل في الطالب والمنهج والاستاذ، واي اختلال في أي عنصر يشكل عامل خطر على منظومة التعليم..

لماذا التركيز على الاستاذ في هذا المقال؟ والحال ان بقية العناصر بحاجة الى تسليط الضوء والاهتمام بها، نعم هذا تساؤل ضروري، والسبب هو اننا من منطلق وظيفتنا في هذا الجانب، ومن ناحية أخرى أن العنصر الاهم في العملية التعليمية هو الاستاذ لأن التوجيه والقيادة للعملية التعليمية في يده، فالمنهج بيده والطالب تحت رعايته وتوجيهه، وهو ما يحتم علينا بدء الحديث من (الاستاذ).

وثمة مشكلات تواجه (الاستاذ) كعنوان وقيمة وليس كمجموعة أفراد.. بمعنى أن القيمة المعنوية للأستاذ تواجه مشكلات أبرزها مشكلتان:

1- الاستاذ الجامعي -كعنوان أو مفهوم أو قيمة- يواجه تحدٍ من شخص الاستاذ نفسه أولا، بمعنى أن من يصل إلى مرحلة كونه استاذا جامعيا قد يعاني من مشكلات في أساس تكوينه العلمي والمعرفي، وهو ما يهدد قيمة (الاستاذ) كعنوان ذي قيمة عليا في الوسط الاكاديمي والاجتماعي من خلال تدني المستوى العلمي من جهة، وتدني في اكتمال الشخصية التي ينبغي أن يكون عليها الاساتاذ الجامعي وما يتحلى به من صفات ومزايا سلوكية تميزه عن الآخرين سواء طلبة كانوا أم أفراد عاديين من المجتمع.

2- البيئة الضاغطة، والظروف المرحلية التي تعصف بالتعليم، تهدد كيان الاستاذ، وتضعف شعوره بالثقة بسبب أزمات متعاقبة في التعليم مثلما تنعكس على الطالب والمؤسسة التعليمية تنعكس أيضا على الاستاذ الجامعي..

وما حصل في العراق بالضبط هو الظروف الاستثنائية..، التي جعلت المؤسسات التعليمية – سواء على مستوى وزارة التربية أم على مستوى وزارة التعليم العالي..- أمام ضغط كبير بين متطلبات التعليم، ومتطلبات الواقع الضاغط باتجاه التيسير على الطالب ومنحه فرصة التعليم مع مراعاة لظروفه التي أثرت عليه بنحو كبير جدا..

إن التفكير وفق هذه الثنائيات ليس سهلا بالمرة، ذلك أن المؤسسة التعليمية يتعسر عليها الموائمة بين متطلبات التعليم والحفاظ على قيمته وقيمه، ومراعاة الظروف الاستثنائية التي تحيط بالمجتمع وتنعكس على أداء الطالب، مع أعتبار أن الاستاذ ليس بمنأى عن تلك الظروف التي تعصف بالواقع العراقي.

والاستاذ الجامعي اليوم يعيش وسط عاملين ضاغطين: أولهما عامل الرصانة والحفاظ على المستوى العلمي، وثانيهما: شبح الضغط باتجاه حماية الطالب من بعض ظواهر المظلومية، مما يؤدي إلى تقييد في حركته باتجاه الترصين وبناء الطالب علميا، وفي ظل ضعف مخرجات التعليم الاساسي والثانوي، أصبح الاستاذ أمام مهمة عسيرة في تحقيق مستويات من النجاح الحقيقي في بناء طالب جامعي متمكن من تخصصه، وسط ضغوط اجتماعية تعود الى مشكلة تنظيمية أكبر من حجم الجامعات، ولا نغفل ضعف الدولة في مختلف المجالات بسبب المحسوبية والمنسوبية وتدخل أطراف من خارج الدولة في عمل الدولة، واضطراب المعيار المهني، ذلك كله يؤثر سلبا في انجاز الخطط، فضلا عن تنفيذها.

ولا نبالغ في القول في وجود شعور لدى الاستاذ الجامعي يعمل على اضعافه معنويا تجاه بعض التحديات التي تفرض عليه كما تفرض على المؤسسة التعليمة أيضا، وهذا الشعور يكون حقيقيا في بعض الأحيان ومزيفا في بعض منها، فالاستاذ الجاد علميا قد يواجه ضغوطا تعمل على خلق حالة من التهديد لكيانه عندما يجد قرارات تمنح لصالح الطالب قد يشعر الاستاذ أنها جاءت على حساب الاستاذ، وإن كان شعورا مبالغا فيه في بعض الأحيان، لكن ذلك لا يمنع من إعادة النظر في بعض القرارات التي من شأنها أن تشعر الاستاذ بنوع من الضعف أمام تادية واجبه العلمي والأكاديمي.

مثلما الطالب بحاجة الى ظروف مؤمّنة له في حياته الدراسية وإزالة مخاوف التشدد والتعسف من قبل بعض الاساتذة، يحتاج الأستاذ أيضا إلى ظروف تطمئن وتحمي وجوده وقيمته المعنوية في مقابل الطالب، وعلى اصحاب القرار في المؤسسة التعليمية أن يعوا هذه المشكلة التي جعلت الاستاذ أمام عاملين مختلفين على الاقل، عامل الرصانة والجد من جهة، ومراعاى الظروف الاستثنائية للطالب من جهة أخرى.

لا أبالغ القول في أن الاستاذ الجاد علميا يواجه غربة في وسطه الجامعي الذي يسير غالبا باتجاه حماية الطالب من نواح عدة تتمثل بأداء الامتحانات ونسب النجاح، وواقع الدراسات العليا وما يتضمنه من مشكلات معقدة تضغط باتجاهات متعددة، منها كثرة الطلبة المقبولين في الدراسات العليا، وما تصحبها من تدني في المستويات العلمية، فالكثرة والوفرة في اعداد المقبولين في الدراسات العليا تصاحبها –بنحو طبيعي- تسرب كثير من المستويات المتدنية إلى مراحل الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، مما يؤدي الى اضطراب العملية التعليمية أمام الاستاذ، ولا يسعنا الخوض في تفاصيل معقدة سوى التلميح إلى بعض ملامحها وتحدياتها.

وعلى النحو التذكير والتنبيه أسعى إلى القول بأن وظيفة الاستاذ الجامعي لابد أن تحفظ متطلبات القيمة الجامعية والأكاديمية من خلال سياسات متوازنة بين متطلبات التعليم الرصين، ومتطلبات الواقع الضاغط الذي يكاد يفرغ العملية التعليمية من محتواها الرصين.

***

ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي

جامعة الكوفة/كلية الفقه

كيف أضاع العرب الأنْدَلُس؟

لا شك في أن الحضارة الأندلسية هي من أكبر وأعظم الحضارات التي كانت في تاريخ الإسلام والدولة الإسلامية حيث امتدت على مدى طويل بلغ الثمانية قرون كامله كانت فيها الأندلس مشعلاً من مشاعل النور والعلم والحضارة والثقافة والفنون حتى وصل بها الفكر والحضارة إلى أن أصبحت المقصد الأساسي لطالبي العلم حتى من الأوربيين أنفسهم في وقت كانت أوروبا تحيا فيا عصرها المظلم حتى التدني والتخلف والمرض والجهل هو المسيطر على كل مناحي الحياة بينما كانت الأندلس تقدم العلم والتقدم في كل المناحي الإنسانية حيث كان التقدم في الفنون بأنواعها مثل الموسيقى والعلوم الإنسانية كعلوم الفيزياء وعلوم الأحياء والفلك والطب وعلوم الهندسة المعمارية والتشييد ولعل ما بقى من أثار الحضارة الإسلامية حتى الآن في أسبانيا لخير دليل على ذلك حيث القصور والمباني والمساجد الإسلامية من أيام الحضارة الأندلسية.

ولكن مرت الأندلس كغيرها من الحضارات بمراحل من القوة والازدهار إلى الضعف والتفكك ثم الدمار ثم الاندثار ففي تاريخ الأمة الإسلامية العديد من هذه اللحظات والحوادث إلا أن أكثرها ألماً ظل سقوط الأندلس حتى أن بعض المؤرخين يعتبرون سقوط الأندلس كان أول مراحل الضعف والتمكن من الأمة الإسلامية وكبداية لإعلان الحرب عليها من جانب أعدائها حيث كان ينظر الأوربيين إلى الأندلس وحضارتها الإسلامية بكثير من الحقد والألم حتى انهم ظلوا طوال ثمانية قرون كاملة ينتظرون الفرصة للنيل من الأندلس ومن المسلمين بها والقضاء عليهم إلى أن تمكنوه من ذلك في النهاية بالفعل بعد أن بدأت الخلافات تشق صفوف المسلمين في الأندلس وتفرق كلمتهم.

وللأنْدَلُس تاريخ طويل مملوء بأخبار الانتصارات والهزائم.. فيه البطولات وفيه الأمجاد وفيه أيضا بعض الخيانات.. تاريخ تحيه الفرحة والبسمة وترويه الحسرة والدمعة.. إن العرب – المسلمين حولوا شبه الجزيرة الإيبرية إلى جنة نضرة، وبدل الجهل حضارة، ورفعوا الظلم ونشروا العدل.. من فتح الأنْدَلُس حتى سقطوها.. سؤال محير : لماذا سقطت الأنْدَلُس ؟.. هل كانت الأندلس جزيرة وسط بحر لم يكن يحتمل دينا غير المسيحية؟.. هل انفصال الأنْدَلُس عن بقية الوطن العربي حمل إليها بذور الفناء؟.. أم أن الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبريا كانت تجربة نمت وتقوت واستمرت وأُنجزت ثم هبطت وخارت قواها عندما تخلت عن الأسس التي قامت عليها؟.

منذ الفتح الذي أطلقه بني أمية من دمشق في اتجاه الشمال الأفريقي، وعند الحدود البحرية الشمالية، كان لابد من الوصول إلى الضفة الأخرى.. بدأت الجيوش الإسلامية في النزوح نحو الممالك الشمالية وتحقيق الانتصارات الواحد تلو والآخر، إلى أن اصطدمت بهزيمة بلاط الشهداء، وانحصر المد الإسلامي في  الأنْدَلُس، فأقام المسلمون هناك ثمانية قرون، بنو خلالها مجدا وحضارة لا نزال نكتشف جوانبهما إلى اليوم.

ولسقوط " غرناطة" آخر معقل للمسلمين عام 1492م -897 ه، سقطت الأنْدَلُس بعد حوالي أربعة قرون من حروب شنتها ممالك الشمال المسيحية على الثغور الأندلسية فيما سمى بـ " حروب الاسترداد".

إن سقوط الأنْدَلُس عبر حركة الاسترداد التي وضعت حدا لوجود العرب لشبه الجزيرة الأيبرية يخلق لنا حالة حزن، خصوصا حين نقف على صفحاتها المغرقة بالقسوة والدموية وما آل إليه مصير الأنْدَلُسيين.

إن حركة الاسترداد تدفع إلى التأمل بوعي في الجوانب المشرقة والكئيبة من تاريخ أسلافنا، لنتعرف بصدق إلى أسرار كبواتهم وعثراتهم، ونستفيد من ذلك في حاضرنا ورسم معالم مستقبلنا.

وقد جاء في مخطوطة تاريخ الأنْدَلُس أن الأنْدَلُس ظلت نحو ثلاثة قرون دولة واحدة تخضع لحكومة مركزية قوية منذ أن دخلها الإسلام،وخاصة في عهد الخلاقة الأموية، ومكثت طوال هذه المدة متحدة الأجزاء، كأنها كتلة واحدة لا تعرف عدوا لها سوى أسبانيا المسيحة في الشمال.

وتعد حروب الاسترداد عنصرا مهما في تكوين إسبانيا الحديثة،ويعتبرها الشعب الإسباني من أهم الأحداث الوطنية الخالدة في تاريخه القومي.. لقد لعب الشعور الوطني والديني للمالك الشمالية المسيحية دورا كبيرا في نشأة  " حروب الاسترداد".

جاء في وثيقة فتح الأنْدَلُس أنه في سبعمائة وثمانية عشر للميلاد سنة ثماني وتسعين للهجرة حاول شخص يدعى " بلاي" مقاومة الفتوحات الإسلامية.. التجأ بلاي إلى صخرة عاتية تعرف صخرة " كوفادونجا" وأخذ يشن غاراته على المناطق المجاورة مستغلا انصراف الفاتحين إلى محاولة فتح بلاد جالا أو الأرض الكبيرة.

جاء في وثيقة من خزانة سيمانكس في بلد الوليد أن الكنيسة أضفت على حركة الاسترداد صبغة الحرب الصليبية ولقد أبان البابا انوسانت الثالث لحركة الاسترداد، فإذا كان العامل الديني ثانويا في تحريك عملية الاسترداد في بداياتها، فإنه أصبح العنصر المهيكل لمجموع تحركات القوى المسيحية.

ومن الأرشيف الوطني لسيمانكس وجدنا وثيقة بتاريخ الثالث عشر من فبراير – شباط من عام 1495م وهي مرسوم بابوي يقر فيه البابا " ألكسندر الرابع" منح العائلين الكاثوليكيين " فرينادوا وإيزابيلا حق امتلاك وحكم أي أراضي جديدة يستحوذان عليها، وكان البابا " ألكسندر الرابع" من أصل إسباني من " أراجون" بممكلة فريناندوا.

لقد أصاب الوهن الخلاقة الإموية ودبت في أوصالها أعراض الضعف والانحلال، وساد  الأنْدَلُس بعد سقوط الخلاقة الأموية حال من الفوضى والارتباك وتمزقت أشلاء متفرقة، وفي عام 995م -385ه تمزقت الأنْدَلُس وقامت كل طائفة أو عائلة بارزة بإعلان الاستقلال في مدينة من المدن وما يحيط بها، فتمزقت الأنْدَلُس إلى 21 دول وبدأت فترة حالكة في تاريخها.

وبوفاة " المنصور" عام 1002م -392 ه بدأ التطاحن بين ملوك الطوائف لتوسيع رقعة الحكم لكل واحد منهم، بل لقد وصل الحد إلى التواطئ مع ممالك الشمال (قرمونة – أشبيلية) ضد بعضهم، وبعد ظهور ضعف وتخاذل ملوك الطوائف بدأ ملوك الشمال يفكرون جديا في أخذ الأنْدَلُس، وبدا واضحا أن ملوك الطوائف أصبحوا مستعدين للتنازل عن بعض الحصون ودفع الجزية التي كانت تقوي جيوش الممالك الشمالية.

وقد جاء في أحد مخطوطات الموجودة في أرشيف مكتبة ميدينا أن حرب الاسترداد بدات بسقوط " بنبلونة" بشمال البلاد عام 748م، وفي 985م سقطت برشلونة، ولم يمضي 12 عاما حتى كانت مدينة ستنياجو قد سقطت عام 997م وتلتها مدينة " ليون" بعد خمسة أعوام.

هدأت حروب الاسترداد ما يقرب من نصف قرن وباستثناءها سقطت مدينة " سلامنقة عام 1055م وبعد تسعة أعوام تبعتها مدينة " قلمربة" عام 1064م، وبعد توقف دام 19 عاما تجددت حروب الاسترداد فسقطت مدريد عام 1084م، وفي العام التالي نجح الملك " ألفونسو السادس في انتزاع طليطلة عام 1085م من أيدي المسلمين.

كذلك ورد في أرشيف مكتبة ميدينا أن ألفونسوا نشأ وقضى جزءا من شبابه فيكنف ملك طليطلة وهو المأمون بن ذي النون، وذلك في أعقاب وفاة والده" فريناندوا – ملك قشتالة، ونشوب صراع بينه وبين شقيقيه سامشوا ملك قشتالة وجارسيا ملك جليقيا، واشتعال حرب أهلية بينهم استمرت أعواما وانتهت بانتصار سانشوا عام 1071م واغتصاب ملك أخويه، فلجأ ألفونسوا السادس إلى طليطلة طالبا حماية ملكها، وظل في كنفه إلى أن قتل شقيقه الملك سانشوا الثاني فطالب بحقه وتولى عرش مملكة قشتالة.

بعد الأحداث المريرة التي جرت أهوالها في الاندلس وبعد سقوط طليطلة، فقد العلماء المسلمين في أن تأتي حماية المسلمين من الحكام والأمراء في دويلات الطوائف، وخشوا أن تضيع الأنْدَلُس برمتها، فشكلوا وفدا وذلك للتوجه نحو المغرب الأقصى حيث المرابطون، وقد كان " يوسف بن تاشفين" قد أسس دولة المرابطين عام 1056م على أسس إسلامية ـ وق\د وافق بن ناشفين على طلب الوفد الأنْدَلُسي والتقت الجيوش الإسلامية مع جيش ألفونسوا في " الزلاقة" عام 1086م-479ه.

بيد أن حروب الاسترداد المستمرة من الممالك الشمالية على الثغور الأنْدَلُسية وتدميرها للمحاصيل الزراعية المحيطة بهذه المدن يؤدي إلى سوء أحوال للناس والمدن، مما يسهل تطويقها إلى أن تسقط بيد الممالك المسيحية.

أما الخيانات المتكررة والفتن بين المسلمين فقد أدت إلى تفكك الطوائف الأنْدَلُسية، وهنا يضيف لوكاس دي توي في مخطوطه فيقول : فكر ألفونسوا أن القوم سالفي الذكر وهم المرابطون سيقتتلون مع مسلمي الأنْدَلُس ليدمروا بعضهم بأيديهم، إلا أن المسلمين سواء القادمين من المغرب شاهرين السلام أو المقيمين بالأنْدَلُس الذين قدموا النصحية لألفونسوا وتواطئوا معه، تمكنوا من توحيد صفوفهم تحت لواء ملكهم، ولقبوا يوسف بن تاشفين بأمير المؤمنين، فقد جلب الأمير القادم من وراء البحر إلى أرض الأنْدَلُس عددا غفيرا من قومه من هؤلاء المرابطين.

وفي فترة انشغال المرابطين بالجهاد في الأنْدَلُس ظهرت، ظهرت في المغرب دولة أخرى وهي دولة" الموحدين"، وفي هذه الفترة الانتقالية التي عرفت ضعف الشمال الأفريقي، كانت الممالك الشمالية تسقط المدن الأنْدَلُسية الواحدة تلو والأخرى.

وهنا بادر " فرينادوا الثالث" بقواته التي تضخمت بمن ينضم إليها من متطوعي " قشتالة" وأراجون"، فأطبق الحصار على قرطبة، وعزم أهل قرطبة الدفاع عنها، فلم يكن بينهم قائد ذو كفاءة لإدارة القتال.

لم يبادر محمد بن يوسف بن هود- أمير أشبيلية – في تلك الفترة لنجدتهم، وهنا شدد " فرينادوا الثالث الحصار على قرطبة وقطع كل سلة لها عن جهة البر وعن جهة الوادي الكبير، فلم يستطع أحد أن يدخلها ويخرج منها، إلى أن سقطت واستسلمت عام 1236ه.

وفي مخطوطة تطوان وفيها يرصد صاحبها سقوط مدينة " بلنسية" فيقول كان خايمي ملك أراجون قد حاصر بلنسية ومنع المؤن عنها، وكان أهلها قد عزموا الدفاع عنها حتى آخر رمق بالرغم من قلة عددهم وضعف مؤنتهم، وفي عام 2130م وبعد خمس سنوات من المقاومة استسلمت المدينة ودخلها خايمي بجيوشه، وكان بمباركة البابا " جريجوري التاسع"،وبسقوط بلنسية لم يعد من قواعد الشرق شيء بيد المسلمين.

تابع فرينادوا الثالث غزواته في منطقة الأنْدَلُس الوسطى وتوالى سقوط قواعد الأنْدَلُس الكبرى في فترة قصيرة لا تتجاوز عقدا من الزمن، ولم يبقى من قواعد الأنْدَلُس الشرقية والوسطي سوي " إشبيلية" و" غرناطة".

وقد جاء في وثيقة من المكتبة الوطنية لسيمانكاس أن أشبيلية كانت ترتبط بمعاهدة أبرمها " أبو عمر بن الجد مع فريناندوا الثالث، وتتلخص بنودها بأن يعترف ابن الجد بطاعة ملك قشتالة وأن يؤدى له الجزية وأن يشهد اجتماعات الكوتيس أي البلاط باعتباره واحدا من أتباع الملك القشتالي، وأن يقدم له العوم متى طلب له ذلك.

كانت هذه المعاهدة فرصة للملك القتشتالي كي يرتبط أوضاعه، وكان غزو إشبيلية يحتاج إلى إعداد خاص وتجهيزات كثيرة، فلم تكن مدينة صغيرة يسهل فتحها، بل كانت من أقوى مدن الأنْدَلُس مناعة وحصانة.

غادر فرينادوا الثالث مدينة القلعة مع قواته جنوبا إلى أشبيلية في الثاني عشر من ربيع الأول عام 645ه – الموافق 15 أغسطس 1247م وبدأ في محاصرتها وتطويقها من كل جانب،واحتل الأسطول المسيحي مياه مصب الوادي الكبير ليمنع ورود الإمداد والمؤن إلى إشبيلية عن طريق البحر.

جاء في وثيقة إسبانية من أرشبف متكبة سيمانكاس أنه في اليوم الثاني من العشرين من ديسمبر 1248م دخل فريناندوا الثالث مدينة إشبيلية ويحيط به موكل ضخم واتجه إلى مسجد المدينة الأعظم الذي تحول فيما بعد إلى كنيسة، وقد وُضع فيه هيكل مؤقت وأقيم في المسجد قداس الشكر، ثم اتجه إلى قصر أشبيلية حيث أدار شئون دولته، وقام بتقسيم دور المسلمين وأراضيهم بين جنوده، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت أشبيلية عاصمة مملكة قشتالة بدلا من طليطلة.

وفي مخطوطة تطوان يروي القائد العسكري الغرناطي وقائع ما جرى فيقول : فلما استخلص العدو مدينة بلش، صار نحو مدينة ملقه فنزل عليها وقاتلها قتالا شديدا وحاصرها حصارا عظيما لم يرى مثله، وأحاط بها من كل جانب ومكان برا وبحرا، فتحصن أهل ملقه ببلدهم وأظهروا ما كان عندهم ومعهم من السلاح والعدوة، وكان فيهم جملة من نجدة الفرسان، فقاتلوا الروم قتالا شديدا، ومع ذلك بقي العدو يفتح عليهم أبوابا من الحرب والمسلمون قائمون بحراسة بلدهم ويغلبون عدوهم ويقتلون من قرب إليهم منهم وهم صاغرون محتسبون مدة طويلة حتى ضيق عليهم العدو ونفذ ما عندهم من الأطعمة والزاد، وكانت بلاد العدو على مدينة ملقه في أواخر شعبان عام 892ه – الموفق 1478م.

ومن الأرشيف العام لسيمانكاس تأتي هذه الوثيقة التي تروي كيف أخذا النصارى على استسلام ملجه العديد من أهلها عبيدا، ويصف العاهلان " فريناندوا وإيزابيلا" الإجراءات اللازمة لشراء العبيد من طرف وسطاء آخرين من ملقه بعد الاستيلاء على ملقه، وفي آواخر عام 1489م تمت الإستيلاء على وادي " آش" و" المكنب" و" ألمرية" ولم يبقى من معاقل الإسلام التي لم تسقط سوى مدينة غرناطة.

بينما كان الاختلاف والتشرذم سمات ملوك الطوائف في الأنْدَلُس، كانت إسبانيا المسيحية تتوحد بإنصهار مملكتي " قشتالة " و" أراجون"، حيث نجد في الأرشيف العام لسيمانكاس اتفاق الزواج بين العائلتين الكاثوليكيتين" فريناندوا" – ملك أراجون، وإيزابيلا – ملكة قشتالة الذي تم بقصر العائلة في بلد الوليد يوم الثامن من أكتوبر 1469م، حينها كان " أنريك الرابع " لا يزال ملك قشتالة، وتم الاحتفال بزواج أخته بالمصاهرة " إيزابيلا" بدون موافقته.

كذلك تحمل هذه الوثيقة تاريخ الخامس عشر من يناير 1475م للبلاد وتتضمن هذه الوثيقة الشروط أو اتفاقيات الزواج بين" إيزابيلا" – القشتالية، وفريناندوا - الأراجوني، ووقعت الوثيقة بعد عام من وفاة " أنريك الرابع " ملك قشتالة"، وتنصيب " إيزابيلا" ملكة عليها.

وفي الاتفاقيات يتم دمع الرموز الخاصة لقشتالة وأراجون وتُفرض ضرائب المملكتين كلا على حدا، غير أن الوثيقة تسمح لفريناندوا الأرجواني بالتدخل في إدارة قشتالة، وتفسر قيام فريناندوا فيما بعد بقيادة جيوش قشتالة ضد مملكة غرناطة.

وقد شكل زواج فرينامدوا وإيزابيلا المؤشر الحقيقي لسقوط باقي الثغور الأنْدَلُسية، وخصوصا غرناطة – مملكة بني الأحمر إلى حدود عام 1490م -595هـ حيث سقطت جميع معاقل الخلاقة الإسلامية في شبة الجزيرة الإيبرية، ولم يبق منها سوى مدينة غرناطة.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط المصرية

..................

المراجع

1- لماذا سقطت "الأندلس"؟ لنتعرف على الاسباب معاً.. يوتيوب.

2- وثائقي سقوط الأندلس.. الأسباب الحقيقية لضياع فردوس المسلمين من ولادة حتى عائشة.. وزفرة العربي الأخيرة.. يوتيوب.

3- وثائقي سقوط الأندلس..الأسباب الحقيقية لضياع فردوس المسلمين من ولادة حتى عائشة.. وزفرة العربي الأخيرة.. يوتيوب.

4-ما هي اسباب سقوط الاندلس؟، مقال منشور علي جريدة المرسال بتاريخ 01 أكتوبر 2022 , 04:06

توطئة لا بد منها: ليس هناك عصاً سحرية لمعالجة مشكلة الأقتصاد العراقي المريض سريرياً أصلاً لكون مجمل المشكلة الأقتصادية تبدو  كشبكة عنكبوتية متشابكة المتاهات، خاضعة لضغوطات المحتل الأمريكي وتنمر دول الجوارأيران وتركيا وخيبات أصحاب القرار السياسي، وضياع الهوية العراقية مع غياب ثقافة المواطنة وتعدد الأنتماءات الفئوية والشعبوية، إن أوجاعنا وخيباتنا المأزومة ربما بقدم وعراقة هذا الوطن المستباح

منذُ تأسيسه المنحوس 1921 حتى المحتال (بريمر) إن الفساد الأداري والمالي داء مرعب أصبح شائعا  في مؤسسات الدولة العميقة، وهو من أكبر التحديات التي تواجه حكومات العراق المتعاقبة، فهو بالتأكيد يقوض الحكم الصالح ويشوه السياسة العامة ويهدم مرتكزات القطاع العام والخاص ويلحق الضرر بالطبقات الفقيرة، وخلال هذه الفوضى اليومية ونحن في شهر آب القيظ 2023 نرى فوضى تذبذب سعر الدولار في السوق الموازية ويحلق إلى 155 ألف دينار عراقي مقابل المئة دولار وهذا بالطبع تدهور ثقة المواطن بالحكومة الأتحادية ومعاناة الطبقة المتوسطة بالذات والطبقة الفقيرة من الغلاء الفاحش في القوت اليومي، لذا صرنا نتشبث الخروج من الوحل الأستعماري، أو ربما البحث عن تلك القشة المنقذة بالأستعانة في أستنساخ بعض نماذج النهوض الأقتصادي وتجارب دول الأقليمية والدولية الناجحة في تغيير الأحوال، وهذا البصيص من آمال واعدة بمستقبل وردي بأعتقادي صعب المنال على المدى القريب لأننا نعايش حرمانات كوميدية ونكابدها ونحن مرغمين، وما زلنا نفتش في المعاجم القديمة عن كذبة كبرى تدعى (الوطن) المصلوب على حائط الكراهية أو ككرة ثلج وهي تتدحرج بسرعة فائقة رهيبة نحو سحيق الهاوية بأنتظار الثقب الأسود، والغريب الجديد أكتظاظ المنافي بهذا الوطن المنسي، والرحيل الأبدي لرموزنا العلمية والثقافية وجنائزهم المسجاة في عواصم الأغتراب، والأغرب في عالم غيتس الأبله إنهُ لم يكتشف جغرافيتنا ولا تأريخنا في تصريحهِ اللئيم: [لقد ألقي القبض على وطنكم المقتول وأطلق سراح القاتل]، فهو الوطن الوحيد الذي تشتت بين خرائط العالم ذات النفق الواحد بنهاية مغلوقة معتمدة وهي نهاية مأساتنا التراتيجية، وتبدو وكأنها تفتقد مسك الختام.

المقومات الأقتصادية للعراق Financial Sastainability

- السعودية وروسيا المصدران الرئيسيان في العالم، فتتحول إلى كوابيس تقلق موازنات الحكومة الأتحادية التي تندفع نحو الصندوق النقد الدولي للأستدانة، اضيف من أبرز المخرجات السيئة لأحادية الأقتصاد يدفع إلى الأرتهان للأستيراد والذي يدفع بالبلاد إلى التلاعب بمصير الأحتياطي النقدي الموجود لدى البنك المركزي العراقي.

- وتشير التقديرات على أمتلاك العراق ثاني أكبر أحتياطات النفط الخام في العالم، حيث تشير رقم التقديرات 143 مليار برميل وفقاً لمسوح جيولوجية حديثة.

- ومن المقومات المهمة أمتلاك العراق منافذ حدودية ومطارات مع دول الجوارلكنها تفتقد سيطرة الحكومة عليها مع غياب الضوابط الكمركية على البضائع  المستوردة.

- الصندوق السيادي والأستدامة المالية والتنمية المستدامة وهذه المصطلحات الأقتصادية تستخدمها أغلب الدول كالنروج وبعض دول الخليج كالسعودية والأمارات والكويت والبحرين تستخدمها في السياسات المالية فهي مقومات  أساسية لكونها تمثل الحالة التي تكون فيها الدولة قادرة على الأستمرار في سياسات الأنفاق والأيرادات المتاحة الحالية على المدى البعيد دون خفض برامجها وخططها الموضوعة على الطاولة الحكومية، وهناك فارق بين الأستدامة المالية والتنمية المستدامة حيث تشير الأخيرة إلي تحقيق نمو أقتصادي مع مراعاة بيئية تضمن الحفاظ على الموارد الطبيعية وعدم أهدارها، وبهذا المقوم يتمكن تحصين الأقتصاد العراقي من التداعيات الكارثية للأزمات الأقتصادية الدورية العالمية للعالم الرأسمالي.

- التوازن بين الموجودات المالية في الأنفاق والأيرادات.

- الحالة الصحية لمقوم مهم أمتلاك ميزانيتها (خمسة) روافد كحد أدنى لتغذية موجودات البنك المركزي العراقي بنسبة 60%.

- المعرفة التسويقية Marketing Know هي علم وفن وخبرة وجوب حضور معرفة المنافس والمنتج والمستهلك لوضع خطط مستقبلية أستراتيجية وشرط أن تخضع المشاريع الأنتاجية للعولمة الحداثوية الرقمية في التسويق الألكتروني والتقليدي.

أسباب النكوص الأقتصادي للعراق

-الأزمات الأقتصادية العالمية Economic Crisis وهي أحدى السمات للنظام الرأسمالي وكانت لهذه الهزات الأقتصادية العالمية تداعيات خطيرة على النشاط الأقتصادي في جميع بلدان العالم بما فيه العراق حيث ظهور بطالة مستشرية وعجز تجاري وعجز متزايد في الموازنة العامة.

- مديونيات النظام السابق في حرق مليارات من العملة الصعبة وكذا في زج العامل البشري في أتون حروب عبثية خاسرة ومستنزفة وتعرض العامل البشري إلى الطرد المركزي إلى الخارج ملوثة بأمراض نفسية جراء الحروب والحصار الأقتصادي والتهجير والتسفير الغير مبرر.

- الفساد الأداري والمالي واللصوصية والعشوائية ونهب المال العام ولجميع الحكومات الأتحادية ا لتي بيدها القرار السياسي  بعد 2003.

- التذبذب في سعر الصرف للدولار مقابل الدينار العراقي.

- فقدان أستقلالية البنك المركزي العراقي.

- البطالة بنسبة 39% والفقر بنسبة 40%.

- تنامي ظاهرة غسيل الأموال.

- أنتشار المخدرات بشكل غير مسبوق ليس كممر بل يعتبر العراق اليوم من أكبر الدول المستهلكة والمصنعة لهذا الوباء.

- تداعيات الأحتلال الأمريكي للعراق في 2003 حيث تفكك الدولة المؤسساتية والسير نحو اللادولة، إضافة لندخلات بعض دول الجوار كأيران وتركيا التي  آلت إلى ثلم حرمة السيادة العراقية.

- جميع الحكومات التي تعاقبت الحكم بعد 2003 تشكلت على أساس المحاصصة الطائفية والأثنية والمناطقية.

 العلاج أوعوامل النجاح

-دراسة موسعة لموضوع الأستدامة المالية.

- معالجة الأيرادات الغير نفطية بأخضاعها للأستثماروأعادة الحياة بالمتوقف منها.

- مكافحة الفساد الأداري والمالي وتطبيق القانون على الجميع وهو مطلب جماهيري وأرادة مرجعية دينية.

- تخفيف الأنفاق الكلي وتفعيل القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية.

- الأتجاه إلى الأستثمار الأجنبي كدولة الأمارات والسعودية نموذجاً والتي تكون ثمار مخرجاتها توفير فرص عمل لتقليل البطالة وتحفيز الأستثمار الخاص المحلي.

- معالجة مشكلة غسيل الأموال التي تعد من أخطر الظواهر السلبية ذات التحديات الخطيرة والتي توجه الأقتصاد العالمي.

- أنعاش مصادر الطاقة البديلة والتعجيل بأستثمار الغاز المصاحب في أستخراج النفط الخام، وأستغلال ظروف البيئية الصحراوية الحارة والمشمسة  في العراق دوما في أيجاد الطاقة البديلة.

- تفعيل دور القطاع الخاص وأشراكه في عملية التنمية نموذج الصين وهي دولة أشتراكية.

- تطبيق النظام الرئا سي في الأنتخابات بدل النظام البرلماني نموذج تركيا وأغلب دول الخلبج.

***

عبد الجبار نوري

في أيلول سبتمبر2023

صحيح أن أي حديث عن أي إصلاح أو ثورة دينية ينم عن وجود موروث فكري غارق في التراثي القديم، ومنغمس في الخرافة المهيمنة على العقول والأساطير المكرسة لنزعات التواكلية واللامبالاة وإهمال العلم والمعرفة والابتكار، وكل ما يحول دون انطلاق الإنسان نحو آفاق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والعدل وحقوق الإنسان، وغيرها من القيم الإنسانية التي جاء بها الدين الإسلامي،والتي لا ولن تتحقق إلا ببلورة قراءة جديدة لمضامين الخطاب الديني وأهدافه الكبرى في السمو بالعقل، وغربلة التراث، ونقد الفقه القديم، قراءة وغير معارضة أو متصادمة مع تواثب الدين وقيمه السامية ومتوافقة مع العصر وقيمه الإنسانية، كنموذج مثالي لتيار تنويري حقيقي، يتسم دعاته بالواقعية واحترام ثوابت الدين المدعم للعلم والمعرفة والمحفز على التطور والتقدم، ويؤمنون بأهميتها في الحياة الإنسانية، والذي يصعب الوقوف على حضور مثيل له ضمن نوعية الخطاب التنويري الذي عاد من جديد للمغرب – على ظهر التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفها المغرب والتي جعلت  الحاجة للإصلاح أكثر إلحاحا - بهذا الحجم المهول من دعاة الإصلاح بمختلف بواعث وخطط وأهداف تياراتهم المتنافرة، وفرقهم المتصارعة، وجماعاتهم المتناحرة، وأيديولوجياتهم الشعبوية وتوجهاتهم العروبية منها والقومجية والعياشية من رجال الدين الذين هيمنوا - في العقود الأخيرة - على الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت لهم بها منابر كثيرة متنوعة البواعث، تخطت  حدود وظيفتهم المنحصرة فقط في شرح فروع الدين، ليمروا بها إلى ما يخدم مصالهم الشخصية، ويكسبهم الشهرة، ويقربهم من السلطة، بعيدا عما له علاقة بهموم  الناس ومصالهم الدينية والدنيوية، الأمر الذي أثر في الساحة الدينية المغربية وعلى معالم تدين المغاربة، من خلال مضامين منشورات وتدوينات وتعليقات "الفيسبوكيين" التي فضحت حقيقة ماهية هذا النوع من الإصلاح الديني وكشفت كثرة دعاوى التنوير والتجديد المزيفة التي يتبع فيها المتنورون -رجال الدين والليبراليين- أساليب التنوير الاستعلائي الذي يعتمدون فيه أقصى أساليب الاستعلاء والصدمة والتحقير، التي لا تزيد الناس إلا اقتناعا بأنه ليس الدين هو ما تخاف عليه غالبية التنويريين  ويتنازعون من أجل حمايته، ويدفعهم للنفور والتشدد في رفض تبني أجندتهم أو أفكارهم جميعهم بما فيهم دعاة الحداثة،من صنف اللبراليين واليساريين الجدد، الذين يعتقدون أن الإصلاح الديني ليس في استلهام واقتباس كل نظم الحداثة وضرورة الغرف من مدارسها فقط، وأنه في إطلاق العنان لرغبات الطعن والتشكيك في الثوابت الدينية والسخرية منها وتقويضها، وإيمانهم بأنه من الصعب أن يكون المرء تنويريا دون أن يطعن في كل ما يمت بصلة للدين، ويهاجمه ويلصق به كل نقائص الحياة أو تناقضاتها، وبما فيهم رجال الدين، من فئة فقهاء الجنابة وفتاوى نكاح الجهاد، الذين كانوا طوال تاريخهم مصدرا للتخلف والدجل والقمع ومعاداة الانفتاح ورفض استلهام أي من أشكال الحداثة، بدعوى محاربتهم البدع في الدين والسلوك، ولاعتقادهم أنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها،  بينما حقيقة ذلك صادر من خوفهم على تجارتهم التي يخشون ضياع اقتصادياتها المعفاة من الضرائب، ويحاربون لبقائها، المهدد بالزوال بانتشار وعي الناس بضرورة التحرر من وصاية الشيوخ والدعاة، وثقتهم في قدراتهم على فهم الدين من دون وسيط  أو توجيه من غير العقل السالم السليم، والذي يعرض استعماله مراكز رجال الدين الاجتماعية ومصالحهم الأيديولوجية، وشهواتهم الدنيوية للاهتزاز، الذي فيه نهاية مزايا العظمة والتفخيم وباقي صفات التمييز والقداسة التي لا يستحقها إلا من يشتغل في حقول العلوم العقلية التجريبية، من قبيل الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة والبايلوجيا والجيولوجيا وتكنولوجيا الكومبيوتر وغيرها من العلوم، المناقضة كليا للفكر الديني،  الذي أوجده شيوخ الدين ودعاته لشرح فروع الدين،  الذي بمقدور أي إنسان الإطلاع عليها في بطون كتب الفقه والأصول وتفسير القرآن والعقائد، وغيرها كثير من المؤلفات البسيطة لكونها ليست في حاجة إلى تخصص، لعدم اعتمادها على مناهج الملاحظة والتأمل العقلي والتجربة الحسية .

أعتقد جازما أنه أمام كل هذا الطابع التسلطي المقدس، الذي يتقمصه رجال الدين - في المجتمعات التي تنتشر فيها الأمية والجهل - للتحكم من خلاله باسم الله تعالى في أرواح البشر وحريتهم وكرامتهم وعقولهم وأموالهم، قد آن الأوان للتأسيس لسبل جديدة في التنوير تستفيد من جميع مناهج التنويريين القدامى والجدد البعيدة كل البعد عن أساليب القلة والبلطجة التي يستخدمها، بعض من رجال الدين المتحجرين واللبراليين  ضيقي الأفق الذين لا يخدمون القضية التنويرية، بقدر ما يعوقون  انطلاقها في مساحات أكبر وأوسع..

***

حميد طولست

يعد الانحراف الأخلاقي من أخطر الآفات التي تنهك المجتمع وتبرز خطورته في أنه الطريق المعبد الذي سيستنزف روح المجتمع ويُمزق نسيجه وينتهك الأعراف والقيم الاخلاقية، ومن خلال الأبحاث الاجتماعية التي تصدر بين الحين والآخر حول الانحراف والذي ينحدر بمستويات مختلفة فتؤكد هذه الأبحاث أن أساس المشكلات التي تواجه الشباب وتقودهم نحو الجريمة والسلوكيات الخاطئة ماهو إلا أسباب عديدة تلبدت في سماء الشباب وطموعاتهم فيمكن تعريف الانحراف بأنه الخروج عن المألوف وعن المعايبر والأعراف والتقاليد المعروفة لدى المجتمع بصورة عامة. وقد وضعت الكثير من التعاريف للوصول إلى المعنى الحقيقي للانحراف ولعل ما ذكره عالم الاجتماع كوهين في تعريف الانحراف الاخلاقي هو الاكثر وضوحا حيث عرفه بأنه " السلوك الذي يكون خارجاً عن التنبؤات المشتركة والممكنة في محيط النسق الاجتماعي".

ومن أمثلة الانحراف الاخلاقي (استخدام الألفاظ البذيئة، التحرش الجنسي، الاغتصاب، الكذب، الرشوة، السرقة التزوير، مظاهر التعري والابتذال، تعاطي المخدرات....الخ)، ولكن ما هي الأسباب التي تؤدي إلى سلوك هذا المنحدر ألا اخلاقي؟! بالتأكيد هناك اسباب كثيرة ومن اهمها التفكك الأسري والذي له اثر كبير على تنشئة الأطفال فاذا كانت الاسرة مفككة لا تهتم بتربية ابنائها بصورة صحيحة من خلال غرس القيم والاخلاق والمبادئ الطيبة وتعليم ابناءها الفضيلة وحب الخير بكل تأكيد سيكون مصيرهم الجهل والتخلف والانحراف. والسبب الثاني هو الصحبة السيئة التي لها الحصة الأكبر في التأثير على الافراد لسلوك الانحراف وكما يقول الشاعر لا تسأل عن المرء وأسأل عن قرينه....، ومن الاسباب أيضا النظرة الدونية للفرد تجاه نفسه ولذلك يحاول أن يرفع من نفسه بفعل امور منحرفة عن الطبيعة ملفتة للنظر بغية الوصول للكمال من وجهة نظره بكل تأكيد!!، والسبب الآخر هو وسائل الاتصال فكما نعلم أن وسائل الاعلام والاتصال هي سلاح ذو حدين ومن المهم توجيهها بشكل صحيح حتى لا تكون سببا في الانحراف والتدني الاخلاقي، (وسأستعرض لكم اسبابا أخرى دون الدخول في التفاصيل) ومنها الفقر، الفراغ، افتقار الوازع الديني، تدني المستوى الثقافي، غياب دور المدارس والجامعات في نشر الفضيلة، البطالة، الحرية الكاذبة، الضغوط النفسية...الخ.

 اما عن تأثير الانحراف على الفرد والمجتمع فقد يتأثر الفرد من خلال شعوره بالضياع وتأنيب الضمير وازدياد الأمراض النفسية فيفقد ثقته بنفسه وكذلك يصبح غير مقبول من مجتمعه...، أما عن تأثير الانحراف الاخلاقي على المجتمع فيتأثر المجتمع بشكل كبير بتلك السلوكيات الخاطئة تصل إلى دمار وانهيار المجتمع وتدني المستوى الاخلاقي فيه وضياع الحقوق وفقدان الثقة وعدم الشعور بالأمان في بيئة همجية لا تعرف للأخلاق أي معنى فيشكل خطرا على استقرار المنطقة قد تصل الى هجرة العقول من هذه البلدان للوصول الى بر الامان والاستقرار الاخلاقي. نصل الأن إلى ايجاد العلاج المناسب لمثل هذه الظواهر المؤذية اهمها توفير الحلول للأسباب التي ذكرت سابقا، واضيف لها تفعيل القانون ليكون رادعا لكل من تسوغ له نفسه عمل أمور لا اخلاقية مرفوضة من قبل المجتمع وكذلك توفير الامان لكل افراد المجتمع فالفوضى وعدم الاستقرار يولد الجريمة والنزاعات والشغب وكلما كان هناك امان واستقرار أدى ذلك الى وجود النظام الذي له دور كبير في التقليل من هذه السلوكيات، وأيضاً من أهم الحلول وآخرها هو تأهيل المنحرفين من خلال إقامة مراكز وجمعيات فيها خبراء نفسيين لمعالجة الازمات وحلها.

***

سراب سعدي

يعد هشام غصيب واحدا من أساتذة الفلسفة المحترمين الذين أجلهم وأقدرهم، فهو واحد من المفكرين اليساريين الذين دخلوا مضمار التفلسف من خلال العلم، قال عنه الدكتور محمد خالد الشياب بأنه من القلائل جدا في الأردن، الذين ينطبق عليهم وصف المثقف – هذا الوصف الذي اختلط على كثير من الناس في زمن السقوط والغزغزة ومزدول التكرار وبهرجة الإعلام. ميزة هشام غصيب، العالم والمفكر اليساري، المنحاز للفقراء أنه لم يخرج من رحم الأحزاب السياسية، وإنما من المعاناة الفكرية والثقافية، حين أهتز وعيه أمام صدمتين: الأولي: وطنية عامة، وهي هزيمة العرب عام 1967م، والثانية: شخصية ثقافية، حين اهتز عالمه الديني والقومي والشخصي، فشعر بفراغ فملأه بالفلسفة والفكر السياسي، إلى أن وجد ضالته في منظمة فكرية عنوانها هيجل وماركس، ففتح هذا التراث أفاقا جديدة لديه، ليس فكريا وحسب، وإنما وجدانيا وحياتيا أيضا. ومن هنا كانت انطلاق هشام غصيب كمفكر ماركسي غير تقليدي ".

ولهشام غصيب مؤلفات متعددة مذكر منها: مسرحية غسق الآلهة (1976م)، والنظرية الذرية (1983م)، ومدخل مبسط إلى منطق نظرية النسبية الخاصة (1983م)، وأصول الميكانيكا الموجية (1984م)، وجولات في الفكر العلمي (1985م)، والمغزى الحضاري التاريخي للعلم (1986م)، ودراسات في تاريخية العلم (1992م)، وجدل الوعي العلمي (1992م)، وفلسفة التحرر القومي (1992م)، وثقافتنا في ضوء تبعيتنا (1993م)، وهل هناك عقل عربي (1993م)، وتجديد العقل النهضوي (2003م)، وتجديد العقل الجدلي (2003م)، وفلسفة كارل ماركس (2007م)، والعقل أولًا.. العقل لا نهائيًّا (2016م)، والعقل والمنهج في الثورة العلمية الكبرى (2018م).

والسؤال الآن: كيف فهم هشام غصيب الماركسية في ضوء التراث الماركسي وفي ضوء تجاربه وفي ضوء التزامه بثلاثة عناصر: العلم، والاشتراكية، والتحرر الوطني؟

وهنا يعلن هشام غصيب أن كثير من الدارسين لماركس والماركسية ينطلقون من جهل ومريع، وذلك لأنهم لا يعرفون شيئا لا عن تاريخ التراث الماركسي، ولا عن كتابات ومقالات ماركس المنشورة وغير المنشورة، فكيف يصدرون أحكاما على ماركس، مع العلم أن تلك الأحكام هي أحكام جاهزة صنعتها المخابرات الأمريكية وأذنابها وبثبتها في العالم بأبواقها، ولهذا فإن هؤلاء الدارسين لا يعرفون عن الماركسية وماركس مجرد جزء صغير.

ولهذا يري هشام غصيب أن كل من لامس التراث الماركسي حقا أدرك جيدا أنه لا غني عنه، ولهذا إذا أردنا أن نعرف فهم هشام غصيب للماركسية، فهذا الفهم جاء من خلال التفكير في التراث النظري الماركسي، ومن خلال المعاناة سواء معاناتنا القومية والوطنية والطبقية، ندرك أن الماركسية تنطوي على تفلسف، ولكنها تختزل إلى تفلسف، ونفس الشيء فإن الماركسية عند هشام غصيب ليست مجرد علم ولكنها تختزل على علم، كذلك الماركسية لا تمثل فقط أيديولوجيا ولكنها تنطوي على أيديولوجيا، كذلك الماركسية ليست ممارسة حزبية ولكنها تختزل إلى ممارسة حزبية.

ثم يحدد ولكنها تختزل تعريفه للماركسية بأنها مشروع تاريخي ثوري يهدف إلى قلب العالم رأسا على عقب وذلك مت تخطي المجتمعات الطبقية كلها إلى المجتمع اللاطبقي والذي تسود فيه المساواة والرفاهية والعدالة، وهذا المشروع ليس مجرد فكرة طوباوية نبتت هنا وهناك، ولكنه في الواقع مشروع تحمله قوة اجتماعية، وهذه القوة الاجتماعية هي الطبقة العاملة الصناعية أو الطبقة العاملة الحديثة والتي خرجت من رحم الحداثة والثورة الصناعية.

وهنا يميز ولكنها تختزل بين الطبقة العاملة القديمة والحديثة، حيث يري أن الطبقة العاملة القديمة كانت عبئا على المجتمع، أما الطبقة العاملة الحديثة فالمجتمع عبئا عليها، ومن ثم فالماركسية تفهم كما يري تمثل الطبقة العاملة الحديثة، فهي التي تحمل هذا المشروع الماركسي الذي يراه غصيب، وهذا المشروع ليس معلقا في الهواء وإنما جوهر هذا المشروع يتجسد في العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة، وهذه العلاقة علاقة ضرورية وتحولية وتناقضية، بمعنى أن النظرية تتحول باستمرار، والممارسة تتحول باستمرار إلى نظرية، وهناك دائما توتر بين النظرية والممارسة، ولهذا فالماركسية تنتفي من دون الجمع بين النظرية والممارسة، ومن ثم فالعلاقة بينهما ضرورية جدا.

وعندما يقول هشام غصيب بأن بالنظرية فو يقصد بالنظرية ثلاثة أبعاد لتلك النظرية وهي: الفلسفة حيث للماركسية فلسفتها ويسميها " المادية الجدلية"، ثم العلم حيث يوجد هناك نظرية علمية للماركسية في التاريخ، وهي نظرية تختلف عن النظريات الأخرى في التاريخ والتي تسمى" المادية التاريخية"، ثم الأيديولوجيا، حيث ندرس من خلالها الماركسية التي تتطور حسب الصراعات الاجتماعية وحسب الصراعات الطبقية.

ولكن لدي هشام غصيب من جهة أخرى الممارسة الماركسية كما تتمظهر في الأحزاب الماركسية، والنقابات، والتجمعات العمالية والتقدمية، وفي نظر غصيب أنه لا يمكن أن توجد أي منظومة فكرية ترتبط بالممارسة بهذه الكيفية،فإذا استعرضنا كل المنظمات الفكرية علي حسب قول غصيب نجد أن الماركسية تتميز في هذا التلازم الضروري بين النظرية والممارسة، ولا يجدها في أي منظومة فكرية أخرى.

وكل ما تحدث عنه غصيب يفترض نظرية ماركس للتاريخ، ويفترض كذلك تصورا معينا للإنسان، حيث يؤمن غصيب بأن الماركسية تقترض تصورا معينا للإنسان وهي أنها تنظر للإنسان ليس على أنه مجرد كومة من الذرات النفسية التي تدخل في تفاعلات غرضية مع بعضها، وهذا ما ينظر إليه الفكر البرجوازي علي حسب تعبير غصيب للإنسان وهو لا يعترف للإنسان بوصفه يمثل المجتمع.

أما الماركسية فترى كما يري غصيب فنجد أن الإنسان هو مجتمع أي هو مجمل العلائق الاجتماعية، ومن ثم الإنسان في نظر غصيب يمثل بنية وعلائق أو تشكيلة اجتماعية موضوعية موروثة في الواقع، ومن ثم تأتي نتيجة تطورات تاريخية وذلك لكونها تنظر للإنسان بوصفه كائن طبيعي ينتمي إلى الطبيعة وهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة، ولكن ليس فقط الإنسان يمثل قوة طبيعية، ولكنه كائن متميز بميزة القدرة على تغيير بيئته، ولهذا يقول غضيب إن الإنسان يعيش بتغيير الطبيعة وذلك بفضل قواه الانتاجية.

ونختم حديثنا بما قاله غصيب: تجربتي الفلسفية عبر السنوات دلتني على أن الماركسية هي موقف من الحياة مطابق للحياة في تاريخيتها. إنها مخطط للفعل التاريخي لا غنى عنه في حقبة الحداثة وما بعد الحداثة. وهذا المخطط هو فضاء من المسارات والاحتمالات، وليس مسارًا أحاديًّا تحدد أبديًّا عام 1917م (عام الثورة الشيوعية في روسيا). وبالطبع، فإنها مسألة فلسفية في غاية الأهمية والتعقيد، وتحتاج إلى كثير من الجدل والتوضيح.. لقد وصلت إلى الماركسية بوصفها فلسفة ملائمة وكانت لي مخرجًا من الحلقة المفرغة للعدمية المطلقة، وليس من خلال الأدبيات السوفييتية أو الأحزاب الشيوعية التقليدية، ولذلك فإن الأحداث التي رافقت التجارب والتطبيقات الاشتراكية أو التي أدت إلى إلغاء المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي لم تغير في اتجاهاتي الفكرية، كما حدث لعدد كبير من المفكرين والمثقفين الماركسيين؛ ذلك أني لم أصل إلى الماركسية عبر الاشتراكية القائمة بالفعل (الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية) لكني اكتشفتُها اكتشافًا، ولم أعتنقها تلبيةً لحاجات ومصالح وعلاقات غير عقلية، ولأن اكتشافها جاء إنقاذًا لي وحلًّا لمأزق فكريّ روحيّ. وفي ذلك فإنني أميز بين الماركسية بصفتها منهجًا جدليًّا إنسانويًّا، وأيديولوجيا السلطة السوفييتيـة.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع

1- د. محمد خالد الشياب: هشام غصيب.. المثقف الماركسي القومي، الرأي، مقال منشور بتاريخ الثاني من نوفمبر لعام 2007.

2- لماذا الماركسية د. هشام غصيب.. يوتيوب.

دليل أزمة أم مؤشر وعي؟!

لوحظ في الآونة الأخيرة زيادة غير مسبوقة في مضمار (الكتابة التاريخية) والسعي خلف مصادرها، لاسيما تلك التي تستحضر الماضي ولكن استيحاء وتستعيد التاريخ ولكن على وجل. وبرغم تنوع تلك الكتابات وتعدد مشاربها من حيث طبيعة الأفكار التي تستلهمها وماهية المنطلقات التي تحفزها، إلاّ أن ما يؤخذ على أغلبها انعدام الجرأة النقدية وتحاشي الخوض في غمار المحظور السوسيولوجي، والحفر في المطمور الانثروبولوجي، والنبش في المستور السيكولوجي لذلك الماضي، وذلك من منطلق عدم إثارة النعرات والحساسيات العصبية بين الجماعات المجيشة نفسيا"والمستنفرة سياسيا"على الدوام. بل والأنكى من ذلك، ان النادر من تلك المحاولات والمبادرات الاستثنائية من تناولت المواضيع المتعلقة بتلك الحقب المندرسة من منظور (النقد) العقلاني و(التحليل) الموضوعي، بدلا"من أن تنخرط في (التمجيد) الإيديولوجي و(التطبيل) السياسي، كما بات شائعا"في مثل هذه البحوث والدراسات.

وفي الحقيقة ان دوافع هذا التوجه الاستثنائي نحو المبحث التاريخي الشائك، لا يعدم التعبير عن ظاهرة مألوفة باتت لصيقة ببنية الفكر العربي الحديث والمعاصر وهي ابتلائه بلوثة (التقليد) التي تجسدها خطابات النخب العراقية والعربية المأخوذة ب (الحداثة) والمبهورة ب (التنوير)، والمتمثلة في (إتباع) كل ما يصدر عن مراكز الفكر الغربي من موجات فلسفية وموديلات منهجية لا يفتأ بعضها ينقض البعض الآخر وفقا"لديناميات الجدل الهيجلي المتصاعد، والتي كان من نتائجها تمخض مجموعة من المنظورات الفكرية والمداخل المنهجية ذات الطابع الجذري في مضامير التحليل والتأويل من مثل: (الاركيولوجية) و(الجينالوجية) و(التفكيكية) الخ. حيث دأب أصحابها على تناول حقبة (الحداثة) وما صدر عنها وارتبط بها وتأسس عليها، على أسس تاريخية ومعرفية ذات طبيعة (نسبية) متغيرة ومتنوعة ابتداء من (نيتشه) و(ماركس) و(فرويد)، وليس آخرهم (فوكو) و(دريدا) و(بودريار) وسواهم من الفلاسفة والمفكرين، ممن استطاعوا اجتراح فكريات ومنهجيات قلبت المسلمات والتواضعات السابقة رأسا"على عقب، حيث أخضعت براديغماتيات وسساتيم العلوم الاجتماعية والإنسانية لنقد جذري واسع المدى وعميق الأبعاد لم تزل آثاره على مختلف الصعد فاعلة لحد الآن.

ولعل في إطار هذا المنعطف يعتبر علم (التاريخ) من أبرز العلوم الاجتماعية والإنسانية التي حضيت باهتمام متزايد من لدن رهط لا تني قاعدته العلمية والأكاديمية من الاتساع جغرافيا"والتنوع ثقافيا"، ليس فقط لجهة التوسيع في مجالاته والتنويع في مباحثه والتطوير في مناهجه فحسب، وإنما لجهة شرعنة التداخل في الاختصاصات والتفاعل في المجالات والتواصل في الاهتمامات أيضا". ولهذا فقد نحت الدراسات التاريخية المعاصرة منحا"مغايرا"عما كان سائدا"في الماضي، حين كان التركيز ينصب على الأمور المتعلقة بالسياسة (طبيعة الدول ومؤسساتها)، والقضايا المرتبطة بالسلطة (أنماط الحكومات والحكام)، دون يصار الى مراعاة الجوانب الأخرى والمجالات المختلفة التي لا يمكن للباحث الفطن – دون استحضارها واستنطاقها - فهم واستيعاب صيرورات الظواهر الاجتماعية وتبلور خصائصها النوعية، ناهيك عن تحليل سيرورتها وتأويل معطياتها سواء في حالات الظروف الطبيعية أو الأوضاع الاستثنائية. وهذا بالضبط ما فعله رواد مدرسة الحوليات الفرنسية – وفي مقدمتهم (فرنان برودويل) - الذين وضعوا مبحث التاريخ على مسارات جديدة ومنطلقات مبتكرة، أفضت لاحقا"الى حدوث (ثورات) معرفية و(انقلابات) منهجية غيّرت المعنى التقليدي التاريخ، واجترحت له من ثم حقول معرفية مثمرة في مجالات الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية والسيكولوجيا والآداب والفنون، الخ.

والجدير بالذكر أن الوقوف على ظاهرة ما اعتبرناه (انتعاش) السرد التاريخي في مثل هذه الأجواء الاجتماعية والظروف الاقتصادية والأوضاع الثقافية والسياقات التاريخية، المفعمة بتطوير المعارف وتنوير الذهنيات وتثوير الإرادات وتغيير العلاقات، لا يمكن للشك أن يداخلنا إزاء حقيقة أن المجتمع الذي يمر بمثل هكذا تحولات وانزياحات، لابد وأن يكون قد قطع أشوطا"واسعة في مضامير تشذيب الماضي من خرافاته، وتقويم التاريخ من انحرافاته، وتحرير الوعي من عصبياته. وهو الأمر الذي يسوقنا الى تبني الانطباع الذي مؤداه؛ ان زيادة اهتمام المجتمع المعني باللجوء الى (السرد التاريخي) في مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يدلل على أن هناك ما يوحي بوجود أزمة بنيوية تفضح هشاشة المجتمع وتهدد كيانه، بقدر ما يؤشر على أن هناك مخاضات نهضوية متفاعلة العلاقات ومتواصلة التأثيرات، مقدر لها أن تشي بمتانة المدماك الحضاري ورصانة الوعي الاجتماعي.

وإذا ما نظرنا الى ذات الظاهرة (انتعاش السرد التاريخي) من زاوية المجتمعات التي تعاني الاحتباس في مواريث الماضي، والالتباس في أحداث التاريخ، والارتكاس في أضغاث الوعي. فان الأمور ستبدو لمن يعاني القصر في النظر كثيرة الغموض وشديدة الإبهام، ان لم تكن محيرة وعصية على الإدراك والتفسير، بحيث لن يكون من السهل على من يحاول موضعة تلك الظاهرة ضمن سياقها المناسب، والذي على أساسه ومن خلاله يمكن تقدير فيما إذا اعتبرت دليل أزمة بنيوية مزمنة أم مؤشر وعي نهضوي مبشّر !. ومن هذا المنطلق، نحاول تقييم الحالة التي شهدتها - وتشهدها - الساحة العراقية المضطربة على امتداد العقود الأربعة الماضية، خصوصا"وان معدلات السرد التاريخي بلغت مستويات عالية مقارنة بإنتاج نظيرها في الفترات السابقة، ليس فقط لجهة تزايد عدد الأطروحات الجامعية والدراسات الأكاديمية من قبل المؤرخين والباحثين فحسب، وإنما لجهة ارتفاع نسب طلاب الجامعات المنخرطين في أقسام التاريخ بفروعه الثلاث (القديم والحديث والمعاصر)، بحيث يبدو الأمر كما لو أن هناك نقلة نوعية طرأت في مجال (الوعي التاريخي) أحدثت هذا التحول المفاجئ في التوجهات الفكرية والاهتمامات الثقافية للعراقيين، بعد فترة الخمول الفكري والسبات الثقافي والانقطاع المعرفي.

وكما هو الحال مع أية ظاهرة جديدة تظهر على سطح الواقع العراقي الطافح بالمفارقات والتناقضات، فان الانقسام في المواقف والاختلاف في الآراء سرعان ما يأخذ طريقه داخل الأوساط الثقافية بمختلف أنماطها وتنوع فاعلياتها وتعدد مستوياتها. لجهة دعم هذا التوجه أو ذاك، أو تغليب هذا المنحى على ذاك. وهكذا، ففريق يرى  - وهو الغالب في المشهد – ان ظاهرة تزايد الاهتمام بالتاريخ والإقبال على دراسته، ما هي إلاّ (مؤشر ايجابي) يعبر عن قدرة الجماعات العراقية المتشظية على تخطي عوائق خلافاتها السياسية وتجاوز اختلافاتها الاجتماعية وتذليل احتقاناتها النفسية، بعد أن عركتها تجارب الصراعات العصبية العقيمة والصدامات الأصولية العبثية، للحدّ الذي أوردتها – بالمحصلة النهائية - مورد الاحتفاء بتاريخها المشترك والارتقاء بحضارتها الموحدة. بعدما كان الأول (التاريخ) في حالة من التفكك والتشظي، مثلما كانت الثانية (الحضارة) في حالة من التشرذم والتفتت، وهو ما يعطي الانطباع الوهمي بأن هناك (صحوة) في الضمير الجمعي، و(نضوج) في الوعي التاريخي، و(نهضة) في الإرادة الوطنية.

أما وجهة نظر الفريق الثاني – وهم الأقلية – فترى أن حدوث هذا (الانتعاش) السطحي والاختزالي، لا يعد – وفقا" لجميع المعطيات والمؤشرات - دليلا"على (تعافي) عقلية الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية التي يتشكل منها المجتمع العراقي المتصدع من لوثة النعرات القبلية التي تتقاذفه، والعصبيات الطائفية التي تتآكله، والأصوليات الدينية التي تتقاسمه. بقدر ما يعتبر مؤشرا" (سقم)، بلّه، مرض عضال رابض في تلك العقلية لم يبرح ينخر أسس الكيان الاجتماعي المتضعضع والمتهالك تحت وطأة انقساماته المزمنة وصراعاته المتوطنة، ليس فقط على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين فحسب، بل وكذلك – وهنا الطامة الكبرى – على صعيد الجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية.

ومن باب الإنصاف القول؛ ان المجتمع العراقي لا يشكل – في هذا الإطار – نمط فريد أو حالة خاصة يستحق أن يوضع موضع الاتهام والإدانة، وإنما هو شريك (متفوق) ضمن شركاء آخرين داخل منظومة مجتمعات بلدان العالم الثالث عامة ونظيرها المجتمعات العربية خاصة، يشاطرونه هذا الابتلاء وينسجون على منواله في هذه المحنة، لاسيما في (احتضان) هذه الظاهرة وتهيئة البيئات الاجتماعية والثقافية المناسبة، ليس فقط في أنشارها واستشرائها في المؤسسات الإيديولوجية والبيداغوجية فحسب، وإنما في توطينها وتكريسها في الذهنيات العلمية والأكاديمية أيضا". وهو ما نعتقد ان هذا الأمر هو الذي حدا بالمؤرخ والمفكر المغاربي (عبد الله العروي) أن ينعى هذا النمط من المجتمعات المتصدعة بنيويا"والمتشظية قيميا"فقدانها (للرأس التاريخي)، أي بمعنى حيازتها للعقلية الملتاثة بمعاطب ومثالب المغالطات التاريخية التي تنعدم لديها قدرة التمييز بين سيرورات التاريخ وجدليات حقبه، فضلا"عن رذائل الخلط بين سياقاته المتبدلة ودينامياته المتحولة على الدوام.

وفي إطار هذه الرؤية السوريالية (اللاتاريخية) يمكن اعتبار ان عقلية المجتمع العراقي – عامته وخاصته – هي من أكثر عقليات المجموعة البشرية فقدانا"(للرأس التاريخي) رغم شدة ادعائها الافتتان بالتاريخ وحرصها على مواريثه، وذلك جراء تعاملها (البراغماتي) مع الواقع الاجتماعي المزدحم بالتناقضات والفائض بالتعارضات والغارق بالمفارقات، كما لو أنه مستنقع راكد لا أثر للحياة فيه. بحيث لا ضير عند كل من يبحث في مضان هذا التاريخ الملتبس، من استحضار أحداث الماضي وزجها في أتون الحاضر، أو بالعكس إسقاط تداعيات الحاضر على وقائع الماضي، مع التأكيد على أن توقعات المستقبل هي الغائب الأكبر عن أفق كل من دعاة الماضي والحاضر معا". لذلك فليس من الغريب أو العجيب أن يختلط في هذه البنية العقلية الحابل بالنابل، ويتم – بأريحية استعراضية - تحيين أرشيفات الذاكرة واستدعاء مخزونات المتخيل ليس من باب العبرة والاعتبار، وإنما من منطلق التباهي القبلي بها والاحتكام إليها وسط ضجيج تصادم السرديات المختلقة والمرويات الملفقة، أو – وهذا أسوأ - للاتكاء عليها في تسوية أزماتنا السياسية المتراكمة وحل مشاكلنا الاجتماعية المتفاقمة.

وبالمقارنة مع بقية المجتمعات التي تماثل في ظروفها القلقة وأوضاعها الهشة ظروف وأوضاع المجتمع العراقي، فان ما يميّز هذا الأخير عن أقرانه ويبزهم فيها هو ليس فقط (الإفراط) بإنتاج وتداول (السرد التاريخي) على المستويين الشعبي والرسمي فحسب، وإنما لجهة والتداعيات الناجمة عن مثل هذا التعاطي (البراغماتي) المعلن تارة والمبطن تارة أخرى، والذي أفضى – وسيفضي دائما"- الى ؛ إثارة الحساسيات الجغرافية / التاريخية، وتأجيج الصراعات الاجتماعية  / الاقتصادية، وتصعيد الاحتقانات الدينية / النفسية، وتسعير التوترات النفسية / الثقافية، وتفجير التوترات السياسية / الأمنية. ولعل من أبرز الأسباب التي جعلت من هذه الظاهرة تأخذ هذا المنحى المتطرف في التعبير والتأثير هي:

أولا"- غياب دور الدولة (الوطنية) المزمن في إدارة الأزمات المتواترة التي لم يبرح المجتمع العراقي يتعرض لها كما لو أنها لعنة أبدية، والعمل من ثم على إيجاد الحلول والتسويات المناسبة بما يفضي الى جعل مبدأ (المواطنة) الحضارية هو المعيار في الحصول على الثروة والاشتراك في السلطة، بدلا"من الركون الى الرعويات الأقوامية والطوائفية والقبائلية. فالمواطنة الحضارية – كما يرى بصواب الباحث العراقي (علي ثويني) – (وبال على كل دعاة التشرذم والتحاصص، بعدما يلجأ الإنسان للدولة بدل أن يلجأ لشيخ العشيرة أو رجل الدين).

ثانيا"- غياب الروابط الاجتماعية الموحدة، وانعدام الرموز الوطنية المشتركة، وفقدان السردية التاريخية الواحدة، التي من شأنها شدّ وسمتنة لحمة المكونات السوسيولوجية المقسّمة الى أقوام وأجناس، والجماعات الانثروبولوجية المتفرقة الى طوائف وقبائل، ومن ثم لملمت شعثها وجمعنت تبعثرها تحت خيمة (هوية) عراقية متسامية فوق النعرات القومية والعصبيات الاجتماعية والأصوليات الدينية.

وهكذا يتبين لنا أن ظاهرة انتعاش (السرد التاريخي) في المجتمع العراقي، لا تعبر – كما يرى البعض – عن وجود (صحوة) لاسترداد الوعي بالتاريخ الوطني المشترك، بقدر ما تشي عن (انكفاء) و(تشظي) الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية صوب أصول تاريخية مختلقة  ومرجعيات رمزية ملفقة، تضفي على وجودها الاجتماعي والثقافي والحضاري مشروعية (وطنية) مفتقدة، بعد أن تحول المجتمع المتصدع الى أقوام متكارهة وقبائل متباغضة وطوائف متنازعة.

***

ثامر عباس

لم يتوقف تيار التنوير في العالم الإسلامي عن تصحيح الظلاميات رغم الموجة السلفية التي تعصف بهذا الجزء من العالم، لأن في تراث المسلمين حزمة كبيرة من النزعة العقلانية لاسيما في الفكر الإسلامي الشيعي الذي ينطوي على خلفية تاريخية للاجتهاد الذي ينبني كمفهوم على العقلانية، والنزعة النقدية، ويعتبر البديل الاسلامي لفلسفة الحداثة في الفكر الغربي.

في أوربا مر أكثر من قرنين على انطلاق عصر التنوير، وسقطت قضبان العقل والخرافيات الظلامية  واعتبر التنوير في أوربا ضرورة لأن الثقافة والمعرفة الكنسية كانت معرفة طبقية غارقة في دوغماتية الاسطورة، ومسكونة في الطبقية، يكن التنوير أكثر ضرورة في عالمنا الاسلامي لأن مشروع النهضة في العالم الاسلامي لا يزال يعاني من مأزق الولادة منذ قرن أو يزيد ولأن التراث الاسلامي يحتضن تجارب تنويرية كبيرة، فلقد اطلق المسلمون العقلانية حتى القرن الرابع الهجري ليكتشفوا ويبدعوا ويخترعوا ويصنعوا المعجزات العلمية التي غيّرت حياة الناس، بيد ان المؤسف ان تلك التجارب لم تتحول الى اطروحات دينية وسياسية ولم تتأسس على شكل موجات للتحديث تكتسب شرعيتها من النص والضرورة وصيرورة التاريخ فظلت كأنها استثناء من الوضع الطبيعي (وأعني بها كمثال تيار المعتزلة) وفلسفة الشيعة الامامية في مجال العلوم والمعارف والكلام.

لقد قدم القرآن الكريم لقضية الأنسنة (آية تكريم الانسان) فقال: (وكرمنا بني آدم) وقدم آية عدم جواز الاكراه على المعتقد، وقدم ضرورة التعلم لكل انسان وقدم ضرورة تمتع الانسان بالحريات العامة، والحقوق الاساسية، كأصل من اصول الدين، وقدم الحديث النبوي والرواية عن آل البيت (ع) اروع النصوص في بناء الانسان وفي القيم الاساسية التي يجب أن يتحلى بها، واعطت انموذجاً رائعاً في التكافل والتضامن فلم يكن موضوع الانسنة مفهوماً اركونيا انما هو مفهوم اسلامي انطلق مع انطلاق النصوص التأسيسية للاسلام، وتزامن مع الشروح والتفسيرات..

ولعل اتفاقاً حاصلاً بين العلماء على ان ما ساد في عصور المسلمين حتى القرن الرابع من استبداد سياسي وديني، ليس من معطيات الاسلام الحقيقية، وليس من منابعه الصافية، انما كان تأويلاً ذرائعياً للنصوص بمايحقق مصالح الحاكمين والمستغلين.

وبالنتيجة: لم يكن الاستخدام العلمي للعقل في التجربة الاسلامية بعيداً عن متطلبات النص الاسلامي ولم يكن الخروج من هيمنة الارادات الاكليركية الى اشراقات الذات شيئاً غريباً على التصور الاسلامي وهذا لا يشابه حاضرنا.. أما ما ننطلق منه حالياً فهو من مصالح الطائفة او المذهب او الحزب او المرجعيات فانه الاستثناء الذي يماثل استثناء استبداد السلطة السياسي والديني في تجربة ربانية مثل تجربة الاسلام العظيمة.

لقد طرح الشيعة الامامية: العقل بوصفه المنتج للمعرفة العقائدية والحقوقية، ومنحوا العقل الانساني جميع الحمايات والضمانات التي تمكنه من مواصلة الانتاج المعرفي واعطوه مهمة نقد العقلانية ذاتها كأرفع مهمة وأصعب مهمة لعملية تصحيح دائمية للمسلمات والبديهيات، وجعلوا ذلك جزءاً من الايمان الديني الا ان التوقف الذي حصل في – مسارات التنوير الاسلامي – واختفاء مظاهر العقلانية التي أسس لها الشيعة قد حصل بسبب التدخل السياسي في العصرين الأموي والعباسي فيما هو فكري ومنهجي ومعرفي وقد تمثل في تحريم التعامل مع المنطق، وتحريم الاشتغال بالفلسفة، والغاء ممارسات الاجتهاد الفقهي، لاسيما في العصر السلجوقي الذي بدأ (447هـ) والذي امتد لقرون فرضت السياسة هيمنتها على المعرفة.

لقد أثر العامل السياسي على الفعل الحضاري في العالم الاسلامي بصورة عامة، وتردى الفعل الاجتماعي تردياً كبيراً وانحسر الفكر التنويري وانتشرت الظاهراتية والموجات النصية انتشاراً كبيراً، لكن ذلك كله بقي وسيبقى في نطاق الاستثناء.

في الخلاصة النهائية: نجد انه لا يمكن لأمة أن تصل إلى حضارة عظيمة بلا دين سماوي يحترم الفعل والممارسة العقلانية والنزعة النقدية وان اشكالية العلاقة بين النهضة والدين، والتراث والحداثة – هي مأزق الاجتهاد المعاصر -، ولابد من اكتشاف الرؤية التي تحقق لنا معطياته من خلال الدين نفسه.. ولاسيما الرؤية الشمولية للاسلام العظيم خاتم الاديان السماوية.

***

الاستاذ الدكتور

عبد الأمير كاظم زاهد

الرسول والشورى في القرآن:

الرسول (ص) نقل وبكل حرص ما حَمله الوحي له من أمانة الرسالة، المتمثلة  بالقرآن، هذه المهمة لا تحتاج الى مشاورة أحد، لأن العملية  فقط بين المرسل والرسول، تتلخص بتلقي كلام الله الموحى، من عالم الملكوت الى عالم الأنس، ولكن بعد أن دُون كلام الله بنص عربي، وأنطلق الرسول بمهمة التبليغ في مجتمعه، وبدأ بتطبيق ما أوحي له في عالم الواقع، هنا جاء دور المشاركة مع رفاقه من المؤمنين، في مشاورة بينية، بل وبتوجية من صاحب الرسالة (الله) أن يتشاور الرسول مع أخوانه وأصحابه من المؤمنين (...وشاورهم في الأمر فأذا عزمت فَتوكل على الله)(ال عمران:159) . فالمشورة جاءت بتوجيه من الله الى نبيه، لأن الرسول أذا كان محيطاً وعالماً بالرسالة، فقد لا يكون عالماً ومطلعاً بشكل كبير بشؤون حياتية أخرى، لذا يتوجب فيه أن يشارك الآخرين فيها، وخاصة الذين لهم باع وخبرة في أمر معين كأن يكون أجتماعي أو أقتصادي أو حربي. فالشورى هي تعني مناقشة أمر ما بشكل جماعي، وأستمزاج  رأي كل واحد من المجتمعين، والخروج أخيراً بقرار واحد يقرره الرئيس بعد أستمزاج وتلقي آراء المجتمع بهم  أو الأكثرية، ولكن في الحقيقة هو طريقة يشرك بها الشخص الآخرين في مناقشة قضية من القضايا، منعاً لحصول الخطاً سواء في فهم الشيء أوفي  تطبيقه، وقد قال الأمام علي (ع) (من شاور الناس شاركهم عقولهم) وهو القائل أيضاً (ما خاب من أستشار)، أذن الذي يستشير يعكس الرغبة في مشاركة غيره في التفكير معاً، وأنه بعيد عن رغبة أحتكار التفكير وأتخاذ القرار، وهو مبدأ يفتح آفاق واسعة للتداول في وجهات النظر . فالقرآن مؤسس لمبدأ الشورى، وأول ما دعى في تنفيذه الى حامل القران والمبشر به، محمد (ص)، وهو فتح جديد في أدارة الحكم وأدارة شؤون الدولة والمجتمع (وأمرهم شُورى بَينَهم)(الشورى:38)، حتى نرى أن من صفات المؤمن عدم التفرد بل التعامل على أساس التشاور، وجعلها الله في القرأن علامة له كالصلاة وأنفاقه للمال في سبيل الله (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (الشورى(36-38). فالرسول أستجاب لما أملاه عليه القرآن، والتاريخ يذكر لنا مواقف كثيرة دعى فيها الرسول (ص) أصحابه الى المشاورة، وهو القائل في بدر (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وعلى أساس هذا المبدأ الذي دعاهم الرسول على العمل به، ما دفع بأحد أصحابه في معركة بدر في توجيهه سؤال الى النبي،( قائلاً له يارسول الله مستفسراً عن الموقع الذي نزل به جيش المسلمين، وقد أختاره الرسول (ص)، فقال له أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فأنهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ماوراءه من القَلبُ (الآبار) ثم نبني عليه حوضاً فنملأ ماء، ثم نقاتل القوم و فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله (ص) لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى اذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه)(أبن هشام ج2 ص204-205).

 وحدث الأمر نفسه في معركة خيبر عندما عسكر الرسول (ص) تحت صخرة كبيرة قريبه من الحصن، ولكن أحد أصحابه وأسمه الحباب ابن المنذر سأل الرسول فقال له يارسول الله انك نزلت منزلك هذا فأن كان عن أمر أُمرت به فلا نتكلم فيه وأن كان الرأي تكلمنا، فقال له الرسول بل هو الرأي فأشار اليه بتغير المكان، وفعلاً دعا الرسول الى أحد قادته وهو (محمد بن مسلمة الأشهل) ودعاه الى أختيار موقع آخربعيد عن حصون اليهود فأختار مكان أسمه الرجيع فأنتقلوا أليه (المغازي ج2 ص645-646).

ويمكننا أن نذكر حادثة أخرى تؤكد أتخاذ الرسول مبدأ الشورى قاعدة له، وذلك عند حادثة الأحزاب، والتي في حينها تَهيئة بعض القبائل بالهجوم على المدينة المنورة، وكانت واحدة من هذه القبائل قبيلة غطفان، فراودة النبي فكرة يُحَيد بها غطفان من المعركة مقابل أن يمنحهم ثلث ثمار المدينة  أذا أنصرفوا من المعركة، ولكن قبل أن يوقع معهم معاهدة أستشار كل من سعد بن عبادة زعيم الخزرج وسعد بن معاذ زعيم الأوس فكان ردهم (أن كان هذا أمراً من السماء فأمض له، وأن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فأمض لما كان لك فيه هوى، فسمعاً وطاعة، وأن كان الرأي فما لهم عندنا الا السيف (كتاب المغازي ج2ص478 )، وهناك أحداث مشابه حدثت للمسلمين كما حدث معهم مع يهود بني قريظة وأستشار فيها النبي محمد أصحابه، حيث يذكر الواقدي في كتاب المغازي ج2 ص445 أن النبي كان يكثر من مشاورة أصحابه، وذكر أبي هريرة (لم أرى أحداً كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله)(المغازي ص580)، وهناك كذلك قول لعائشة زوجة الرسول (ص) تقول فيه (مارأيت رجلاً أكثر أستشارة للرجال من الرسول) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص63).

من الملاحظ أن الرسول يشاور في أمور خارج دائرة الوحي، وهي أمور تتعلق في الأدارة العامة وشؤون الحرب وغيرها من أمور الحياة العامة، ويشاورهم  بصفته العادية كقائد لا من موقع النبوة، كما يمكننا الأنتقال الى حادثة الأفك، وهي حادثة غاية بالأهمية لأنها تحمل  بُعدين مهمين، الأول هو عدم معرفة النبي للغيب الا ما يعلمه الله، فنراه يعتريه الشك في البداية بعائشة قبل أن تنزل الآية  التي أثبتت براءتها (ان الذين جاءوا بالافك عُصبةمّنكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرِيء منهم ما اكتسب من الأثم ...)(النور:11)، بل وأستشار أسامة بن زيد وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في تطليقها، وهنا تبرز حالتين، الأولى الشك الذي قاده بالغضب عليها، ولو كان يعلم الغيب لما غضب عليها لأن الله برأها، كما أن النبي أستشار في تطليقها، وهذا دليل على أن النبي لا يستشير فقط بالحرب كما يدعي البعض لأن حادثة الأفك لا علاقة لها بالحرب، وهي قضية ذات بعد مدني خالص. وقد أكد هذا المعنى كذلك أبو علي الجبائي المعتزلي، حيث يقول في آية (وشاورهم في الأمر) بأنها أجازت للرسول أن يستعين برأيهم، في أمور الدنيا بدون حصرها بالحرب وحدها (الطوسي في البيان في تفسير القرآن) ج3ص32 . كما هناك حوادث كثيرة شارك الرسول (ص) أصحابه في الأستشارة، ومنها عندما جيءَ بالأسرى في معركة بدر، حيث وقع بين يدي المسلمين عدد من الأسرى، وكام منهم عمه العباس وزوج بنته زينب أبو العاص بن الربيع، وقال الرسول لأصحابه، ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟ يتضح لنا أن الرسول يتعامل كباقي البشر خارج أمور الوحي، أي بدون غطاء النبوة المرتبطة بوحي السماء، وقد ذكر الزمخشري في كتابه الكشاف بأن النبي يردد بلسان حالة (أنما أنا بشر) و(عبد ضعيف) ولو لم أكن كذلك لما كنت (غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب، رابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً ومخطاً في التدابير)(الكشاف ج2 ص89 ). فالرسول كان قبل البعثة وأستمر بعدها بأنه من نصاب البشر (قل انما أنا بشر مثلكم يُوحى اليَّ) (الكهف:110) وأنه لا يُحيط بكل شيء خارج نطاق الوحي، وأنه بشر ناطق بنيابة الله بطريق الوحي، وناطق بلسان نفسة أحيان أخرى، وأنه يحتاج غيره، كما غيره يحتاجه، وهنا علينا التميز بين الرسول الموحى له، وبين الرسول البشر الذي رأيه من نفسه، وهنا وددت أن أشير الى حادثة تبين أن المسلمين الأوائل يعرفون ذلك سلفاً من خلال معايشتهم للرسول، حيث يفرقون بين ما هو موحى من الله، وبين ما هو أجتهاد شخصي من الرسول، وقد جاء ذلك في قول منهم بعد الأنتهاء من معركة حنين في ثمان للهجرة، وقد أصاب المسلمون الكثير من الغنائم، وحين قسم الرسول الغنائم أستشعر البعض بأن الرسول قد أفاض على المؤلفة قلوبهم من قريش شيء من الزيادة، ما أثار تسائل بعض الأنصار بأن قالوا، أما حين القتال فنحن أنصاره، وأما حين القسم فقومه وعشيرته . ووددنا أن نعلم ممن كان هذا، ان كان من الله صبرنا، وان كان هذا من رأي رسول الله استعتبناه) (المغازي ج3 ص956 ) . فالرسول عندما تحدث شبهه بين أصحابه، في أمر ما، وهي حالة طبيعية لا يستفز الرسول الأمر، ولا يتضايق منه، وهو معروف بالسماحة، بل وأن الله وَجَهَه بالتشاور معهم، عند حدوث مايُثير الريبه والخلاف، فالقرآن يحث الرسول بتسوية الأمر بالمشاورة (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)(ال عمران:159 ). فالشورى مبدأ متحرك في آلياته، فيكون للزمن وتطور تقنيات المعارف، وتراكم الخبرة الأثر الكبير في أختيار الصيغة الفنية له، مع الأحتفاظ بالمبدأ، بأعتباره مبدأ كلي، فالرسول عمل به بأعتباره أمر رباني مُقر بالنص القرآني، وهو مبدأ بالحقيقة يجنب العاملين به الوقوع بالخطأ، كما يشكل حزاماً قوياً لوحدتهم ولكن من المهم معرفة نقطة غاية بالأهمية، وهي أن الشورى مبدأ يشمل الأمور المتعلة بشؤون المسلمين دون الأحكام الشرعية التي ورد فيها نص ....يتبع.

***

أياد الزهيري

لا شك في أن صراع القيم يعد من الموضوعات الشائكة التي شغَلت بال المفكرين، والباحثين منذ زمن بعيد وإلى اليوم، نظراً لأن القيم تشكل عنصراً أساسياً ومكوناً رئيسياً لثقافات الشعوب، ومن ثم فهي تشكل سلوك الأفراد داخل المجتمع على كافة المستويات والمجالات. ولأن القيم نفسها ذات أدوار هامة في نحت التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وفي التطور السياسي، والجمالي للمجتمع، فهي كما يقول ماكس فيبر: التعبير عن مبادئ عامة وتوجهات أساسية، بل اعتقادات جماعية ذات أبعاد دينية وسياسية واقتصادية.

وإذا كانت أزمة القيم الضاربة في عمق الحياة العامة بجميع مجالاتها، مما يكاد يجمع عليه كل المتتبعين من الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، وأنها أصبحت ظاهرة طالت انعكاساتها كل الناس ومن مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب؛ فإننا لا نستغرب أن يفشو في أوساطهم الإدبار عن قيمهم الأصيلة التي تعمل على تثبيت شخصيتهم وترسيخ مقومات هويتهم، والإقبال المنقطع النظير على تمثل القيم الساقطة في السلوك، سواء كانت محلية أو وافدة.

ومن تلك القيم الساقطة مذهب العري أو التعري Naturism‏  وهو حسب  موسوعة ويكبيديا يمثل حركة ثقافية وفلسفية تدافع عن ممارسة الحياة بدون ملابس، حيث تبرر ذلك بضرورة حصول الجسم على منافع بدنية كوصول أشعة الشمس والهواء النقي، كما تدعي الحركة أنها تصحح الوضع الطبيعي للإنسان وتبرز وتعزز ثقتهم وإعجابهم بأنفسهم، ولكن منتقدي الحركة هاجموها واتّهموها بنشر الفحش، وقد انطلقت الفكرة من ألمانيا حيث كان الألماني ريشارد أونوجويتر أول من نادى بمذهب التعري حيث ألّف كتاب أسماه التعري عام 1906 ولكن الفكرة لاقت معارضة ومنعت من قبل النازية، ثم انتشرت إلى المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة. - الفلسفة - ينبع مذهب التعري عن مصادر فلسفية عدة ويعني أمورًا مختلفة وفقًا للاعتقادات والآراء الشخصية لكل فرد، حيث لا يوجد تعريف موحد للمذهب، ولكن عرفه الاتحاد الدولي الطبيعاني (INF) عام 1974 على أنه: "نمط حياة في انسجام مع الطبيعة يتميز بممارسة التعري الاجتماعي بنية التشجيع على احترام الذات واحترام الآخرين ومن أجل البيئة".

ولكن للأسف عندما تُقتل الحشمة في بلادنا، وتضيع بين  أزقة شوارعنا العتيقة، فتتلاشى آخر معالم حضارتنا التي اتسمت عبر العصور بالنزاهة والشرف، والحياء، يصبح الُعريِ  تطورا، وخلع الملابس دليلا على التحضر، فكما كان الفرنسيون يباهون بعضهم بعد زيارة الأندلس وبغداد بلباسهم العربي، ونطقهم لكلمة " حبيبي" دلالة على التقدم الحضاري، أصبح فتياتنا يتبارزن على منصات التوك توك والشوسيال ميديا، بعرض ما لذا وطاب من الأجسام كقطع اللحم النيئ عند الجزار، ويتنافسن: من منهن ذات أرداف أكبر وخلفية ثقافية أنضج، وإذا اعترض أحدهم، رموه باستعلاء وعجرفة، بعبارة كادت أن تتناثر بذائتها.

فحين تضيق سمات الحياة بين بعضها، فيصبح الحي كالميت، ويُحول الأموات أحياء، ويدخل الجمل في سمّ الخياط، وتتماهى المفاهيم، وتختلط الأوراق، ويصبح الأبيض أسود، والمر مالحا، ويطغى على المرء العجب ؛ هنا أقول لا يجب أن نظل في الظلام مختبئين، فلابد أن نرفع لبوس التردي الذي خنق مجتمعاتنا، ونستقصي بأسباب تفشي أوبئة الفكر في عصرنا الحديث.

ولعل قائلا يقول: إن التعري لم يكن حكرا على الحضارة الغربية المعاصرة، فهو وريث كل الحضارات السابقة، شرقية أم غربية، ألم نرى المنحوتات في أثينا وفي روما؟، وماذا عن لوحات عصر النهضة وأوساط أوروبا.

ففي منتصف الستينيات ازدادت أعداد ممارسي تلك الثقافة بشكل كبير جداً، خاصة بعد أن ساعد الإعلام بنشر مواضيع دعائية لشاطئ العراة في جزيرة زولت. ومما ساعد أيضاً على زيادة العدد كانت حركات تحرر المجتمع التي رافقت عام 1968، فباتت ثقافة التعري رمزاً لهذا التحرر. ويقدر عدد الألمان ممارسي هذه الثقافة في الإجازات بنحو 800 ألف مصطاف. وفي العقود الأخيرة بدأ مفهوم التعري في ألمانيا يأخذ بعداً سياسياً، فقد ظهرت مجموعات اتخذت من تعري الجسد رمزاً للاعتراض على حدث أو قانون ما، كما يحدث في بعض المظاهرات أحياناً.

إننا نعيش ثقافة مكشوفة لدرجة جعلتنا مكتوفي الأيدي أمام كل منظر في كل مرة، فنحن في الدرب لنصبح، أو بالأحرى أصبحنا، منيعين تجاه ما كان يعتبر في السابق صادماً أو مقرفاً أو مهولاً، فمن المذهل كيف تنقلت "ليدي غاغا" من الشذوذ إلى العري، أليس كذلك؟ مثلما فعل صوت مادونا متوسط العمر في الماضي عندما أثارت الضجة حول الصدريات البارز، والتي يمكن أن نرى في لباسها تزمتاً مقارنة بنجوم اليوم، فنلقي نظرة على تصرفات هؤلاء النجوم: الظهور دون لباس داخلي، عمليات الولادة على شاشات التلفزيون، التموضع دون ملابس لالتقاط صور تنشر على المجلات الشهيرة.

وهنا نقول مع د. مأمون علواني إن التعري بالفعل ليس حالة طارئة على أوساطنا المجتمعية وليس حالة ثورية مفاجئة قد عهدته البشرية منذ أزلها، ولكن ما يختلف في عصرنا هذا عن سابقاته من العصور هو التحضر المرفق قسرا به، فإذا ألقيت نظرة على الحضارات القديمة سترى أن أنظمة تلك البلاد كانت لا تمانع من شيوع أنماط هكذا من اللباس، بل كانت على العكس تحمي أفرادها وتضمن لهم الحقوق، وتُشرع لهم الواجبات، ولكن كانت تجر فتيات الطبقة العليا في المجتمع: الطبقة الحاكمة أو البرجوازية أو الدينية من ارتداء لباس الجواري والإماء والنساء البغايا، وعلي العكس أيضا كانت القوانين حينها تنزل أشد العقوبات إن قامت احدي نساء العبيد أو العائلات في سلك الدعارة أن يرتدين لباس المرأة الحرة، فإن ذلك يعد إخلالا بتوازن المجتمع وتمردا على قوانينه ؛ وبمعني آخر لقد العري منتشر في الدول ولكن كان مقتصرا على من هم دون القيمة الاجتماعية المتعارف عليها، وكان يعد سمة من سمات الصعلكة والوضاعة، ويرمز على قيمة أصحابها المتدنية، والذين عادة لا يملكون حرية أنفسهم، ويمكننا الاستشهاد على ذلك بحضارات عدة كالإغريق والرومان ومصر القديمة وسومر، وصولا إلى شبه الجزيرة العربية.

وهذا ما كان شائعا في الجاهلية من أصحاب الرايات الحمر عند العرب من البغايا، وكان يفاخر العرب أنفسهم بالأنساب تبعا لصفاء سلالتهم القبلية وشرفها وخلوها من المعابة والدنس، كالأشراف والسادة  الأحرار وتلك السمات الاجتماعية التي تقرن أصحابها بالعلو والمكانة العظيمة بينهم والذي كان مدعاة للفخر بينهم، ويمكننا رؤية هذا في أشعارهم القديمة أثناء الجاهلية أو بعدها.

ولهذا أقول مع د. مأمون علواني "بدلا من أن تنهك في السيطرة على كل القطعان في حظيرتك، اجعلهم جمعيا قطيعا"، وهذه تختصر جل أزماتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية، فإن اطلاق مفهوم ثقافي واحد هو تسليط على المجتمعات البشرية بإكراه وفظاظة، يعد الطابع الأجلى لسياسة الغرب تجاه شعوب الأرض، مما حمل معهم منظورا اجتماعيا واحدا، أصبح من الواضح أداة لوحشية الغرب الدكتاتورية في فرضه على المجتمعات كافة وقولبتها بشكل قسري واعتباطي بما يوائم عبر تغذيته بشتى أشكال الإعلام وأنواع الدراما والمسلسلات، وصولا إلى عالم السينما الذي أنتج مزيجا غير متجانس من التيارات الاجتماعية المتضاربة في بلاد العالم الثالث، ليضفي صراعا من نوع خفيف، ضمن أزقة المجتمع الواحد.

فبين مؤيد أعمى للغرب لكل توجهاته، ومحافظ متعنت للتراث، فيظهر لنا نوع جديد من القطبية الثقافية والاجتماعية، التي تزداد تطرفا، يوما بعد يوم في أوساط مجتمعاتنا، وهذا ما سيؤول في نهاية المطاف إلى تهتك البنى الواصل بيننا، وضياع مفهوم الاعتدال الرابط بين أواصر ثقافتنا لينهار مجتمعنا من تلقاء نفسه، وتتلاشى هويتنا الثقافية، ليتكون تحدي كبير يعد من أخطر التحديات التي نواجهها في عصرنا اليوم.

ولهذا من الصعب أن تسيطر على شخص يحمل تاريخه على كتفيه، لأنك ستضطر لمحاربة هذا التاريخ  بأكمله من خلاله.. جرده من أصالته.. وفكك روابطه الاجتماعية.. وحاربه منفردا.. لأن الروابط الاجتماعية تعد في حقيقتها أساس تكون القطيع وهيكلته، ومن بقايا حاجته الغرائزية من أجل البقاء التي ورثها عن أسلافنا البشر عندما كانوا  منعزلين في الغابات، مفتقرين لأدنى سبل النجاة، حينها تجمعوا حول بعضهم في حيز جغرافي صغير واتفقوا على عدة صيغ صوتية ترمز إلى أشياء محددة، فأبدعوا في تلك اللغة، وصاغوا الحكايات والقصص التي تحاكي تجربتهم المتميزة، وأسقطوها على منظورهم الروحي، والسلوكيات الضابطة لهم، والمتعارف عليها عندهم، فشكلوا مع انصهار تلك العوامل في قارب واحد ما يسمى بالهوية الثقافية، ليعبر الزمان بهم، فتظهر بزوغ تلك المرحلة، وتفرع لنا أبهى أشكال الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ، وبعد مئات السنين، تطورت المجتمعات الإنسانية وأخذت تتمايز فيما بينها على أسس الثقافة والإبداع والدين والذي كان لكل منها طابع خاص في التعبير عنه. ولذلك نرى هذا الزخم الإبداعي الهائل من آثار الحضارات الماضية عبر التاريخ، وكان لاجتماع هذه العناصر مسمى واحد، يسمى بـ" الهوية"،.

والهوية هي سجل الفرد أصالته، وهي مخطوطة التاريخ التي تخبرنا بتاريخ أجدادنا وعاداتهم، وقصصهم، وحتى مفهومهم ونظرتهم إلى الحياة، ولكن كيف صارت هويتنا الآن في ظل هذا الواقع المازوم؟

يقول د. مأمون: لطالما ارتبط مفهوم الانحلال الأخلاقي بعلامات أفول شمس الحضارة، فلا يمكن لحضارة أن تحيا وشعبها مارق بلا ضوابط، إلا في عصرنا هذا، فقد انقلبت المفاهيم، وأضحي الانحلال معلما للرفعة، يقول "وانج يانج" المنظر الصيني: إن الغرب قد أضحى عرضه لانهيار حضاري سريع، وذلك لابتعاده عن ان المفاهيم الأخلاقية، وجموحه للإلحاد ورفض الدين، عوضا عن تفسخه الاجتماعي، فأمان المجتمع وتماسكه، أساس أمان الحضارة، وللعلم فأن يانج قد احدث تغييرا مهما في سياسة الحكومة الصينية، فقد بادرت تحت توصياته بالاهتمام بالدين وإحياء الثقافة الدينية الصينية من جديد، ومن ثم أصبحت الصين اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التقليدانية، أي إحياء التقاليد لمواجهة التغريب الثقافي الذي اجتاحها بغية الحفاظ على مجتمعها.

إن الصين بجبروتها وعظمتها الاقتصادية تداركت أهمية الحفاظ على، ولجم الانحلال الأحلاقي الحاصل، وذلك كي تحافظ على وجودها، ولهذا فهمت الصين أن ما يسعى إليه الغرب اليوم من نشر للعهر والفجور عبر محطاته ووسائله المأجورة تحت مسميات " التحرر"، و" التطور"، ما هو إلا سم مدسوس بالعسل، إذ هدفه الوحيد حل أسس الأمم التي نعيش فيها، وتفريغها من محتواها حتى تصبح لقمة سائغة أمامهم، عير أقوى وأخطر الوسائل الممكنة.

لقد أضحى واضحا التوجهات الاستعمارية والنوايا التوسعية في ظل هجمة الغرب الثقافية الشرسة للقرن الواحد والعشرين، مع اختلاف أدوات الغزو والسيطرة، فسابقا كانوا يحتاجون إلى سفن وطائرات وجيوش ومعدات ؛ أما الآن فلم يكلفهم ذلك سوي كبس الذر حتى يستعبدونك في بيتك، وبين أهلك، وجيرانك، ويغزونك بأطنان من الأفكار والأجندات، حتى تصبح مخدر الدماغ، لزج القوام، بلا مقاومة بين أيديهم، فيصيروك كما يشاءون هم لا أنت، فبحسب آخر دراسات قام بها جامعة ويسترن بالتعاون مع جامعة هارفرد الملكية في لندن مع جامعة أكسفورد وجامعة مانشستر التي نشرها في مجلة الطب النفسي العالمي، وفق موقع " هارل بركسس " الألماني، طُلب من مئات المشاركين القيام باختبارات مختلفة للذاكرة، بالإضافة على تمارين إدراكية.

وقد خلصت الدراسة على أن الإنترنت يغير بنية وقدرات العقل البشري، فالذين يقضون ساعات طويلة على الإنترنت والشوسيال ميديا، لديهم تغييرات مزمنة وحادة في مجالات الذاكرة ومستويات الإدراك والسؤال الآن ماذا يحدث إثر ذلك ؟

والإجابة كما يرى الدكتور مأمون تتفتت الأمم وتتخدر الشعوب وتغرق السفينة، وهنا يبدأ الانهيار الأخلاقي، وهنا يقول ألبرت تشنتتز Albert Scwhitzer في كتابه " فلسفة الحضارة": إن الحضارة هي الأخلاق "، وفي نفس السياق أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وكما باتريك جوزيف في كتابه " موت الغرب": ما يعتقده الناس من صواب وخطأ، يمكن أن يتحدد بالكيفية التي يعيشون فيها حياتهم ".

وحتى وقت متأخر من خمسينات القرن الماضي كان الطلاق في أوروبا وأمريكا، يعد فضيحة وكان العيش بلا زواج مع بعضهم يوصف بكيفية عيش القمامة البيضاء، وكان الاجهاض مقرفا، واللواط أو الشذوذ هو الحب الذي لا يجرؤ أحد على النطق به، وفي جزء آخر،م ع انتشار الزنا الغير منضبط والطلاق على نطاق واسع، وانفجار الكتابة العارية،و التعاري اللباسي، وشيوع فلسفة الانحلال والعبث في التيار العام، وكيف الفتيات في العشرية الثانية يرمين مواليدهن الجدد في حاويات القمامة،ووسط الجلي.. هذا المشاهد تذكرنا بالعالم القديم، وروما الوثنية، حيث يترك المواليد الغير مرغوب بهم على الثلج لتموت.

ولكن ما الذي يمكنه أن يأتي لاحقاً؟ ما الذي يمكن لسايريس أو غيرها من هؤلاء النسوة فعله أكثر من هذا للفت الأنظار؟ ما الذي يمكن أن تستعمله ثقافة مثل هذه لتحقيق ضجة كبيرة في المستقبل؟ لقد فتحنا هذا الظرف بشكل تجاوز ما كنا نرى بأنها حدود المقبول بالمجتمع، ما الذي بقي؟

قد تخطر ببالهم أفكار أخرى، فهنالك برامج "للصدمات الكبرى" تحاول أن تجد طريقة تظهر فيها كيف يموت شخص تدريجياً، ولن نستغرب بأن يقدم نجوم على مثل هذه البرامج، إذ أصبح الكشف عن فضيحة جنسية بشريط مصور أمراً عادياً، أو رغبتهم بأن يفضحوا خلال ممارستهم الجنس، أو قد نكبر يوماً ونتحول إلى أوروبيين في منطقنا ونظرتنا للأمور، ويمكننا أن نقدم ردة فعل مغايرة لتلك التي يمكنها أن تصدر عن شباب في مرحلة المراهقة عند رؤية ثدي امرأة، وقد نتعلم بأن سقوطنا في قاع الحضارات يمكن أن يكشف عن قاع أعمق، وهذا كله يتمثل بنظرتنا إلى الأمور، وفي جميع الأحوال فإن الكثير من النجوم يعملون بجد ليظهروا بشكل مشين، لكن النتيجة في الوقت ذاته لن تجدي نفعاً بل ستظل في الحضيض.

كل ما سبق ما هو إلا عيض من فيض عن عالم الانهيار الحضاري الذين عيشه في يومنا هذا، وكيف تسقط مجتمعاتنا  تباعا لفخ التحرر الغربي الذي يواصل النهش بتعايمنا وقيمنا وعاداتنا بلا هوادة.

خاتمة

عندما ننزل مخطوطات التاريخ من على الأرفف، وننفض الغبار عنها، نرى ونقرأ على صفحاتها أن الانهيار الأخلاقي والانحلال المجتمعي، كان دائما بمثابة ناقوس الخطر، والذي يدق معلنا انهيار الحضارة بأكملها، وإن مظاهر التعري والزنا والشذوذ كانت دائما علامات ضعف لا قوة.. انهيار لا بناء.. تحلف لا حضارة.. رجعية لا تطور.. كل الحضارات السابقة اتخذت مجموعة من القيم، فحواها الصدق والأمانة والإخلاص والعفة والحياء لترتكز عليها منطلقا لنهضتها والتي صبت محور اهتمامها لرفع قيمة الفرد إلى ما فوق نزعة الغرائز والشهوات ليرقى بذلك نور الملكوت وتشريف الخالق.

إن كل ما يغرس في أذهان شبابنا اليوم تحت مفاهيم طنانة وبراقة مختلفة ما هو إلا إطلال كبير وتشويه لعين أعظم المفاهيم الإنسانية.. إن التحرر كان دائما مطلبا وغاية الإنسان، هدفه الأساسي، إحلال العدالة، في الأرض، وإطلاق العنان للإبداع نحو السماء، ولم يكن يوما مدخلا رديئا للانحلال، بل سبيلا للرفعة والكرامة، فتنبهوا بذلك يا أبناء جلدتي،ووعوا ما يسمونكم من ضلال وانهضوا من سبات الغفلة لعلكم تدركون مجدكم القديم.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- التعري - برسم حضاري !! عندما تغرق السفينة / د. مأمون علواني - برنامج إينغما، يوتيوب.

2- لماذا لم يعد التعري يصدمنا بعد الآن؟، مقال منشور بالعربية، نشر الاثنين، 26 يناير / كانون الثاني 2015.

3- محمد سعيد اخريف: الشباب وأزمة القيم،  مقال منشور بالجزيرة 4/5/2017.

4- دفع الله حسن بشير: صراع القيم.. يصافِحونك بيد وبالأخرى يخبئون الخِنجر المسموم!، مقال منشور بالجزيرة 4/9/2018.

5- مذهب العري، موسوعة ويكبيديا.

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة. والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2-علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية

مراحل التفسير

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري واستمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير والتاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في النص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل.

1- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية.

2- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي.

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي.

3- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم:

اسمه ( قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض.

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات.

4- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص.

5- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج.

6- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

7- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه.

8- ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية.

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له.

***

بروفسور متمرس

د. عبد الأمير زاهد كاظم

في المثقف اليوم