قضايا

قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!

قال ذو القُروح، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:

- السؤال الذي يستدعي الإجابة الواقعيَّة والعِلميَّة، لا الحكايات الأُسطوريَّة: أحقًّا تلك الحكاية النوعيَّة، التاريخيَّة الاجتماعيَّة، التي تُبسَّط على ألسنة بعض النِّسويَّات والنِّسويِّين، وكأنها حكاية "أُمِّنا الغُولة" للأطفال قبل النوم؟

- أيُّ حكاية، صدَّعتَ دماغي، يا رجل!

- تلك الحكاية التي يزعمونها- مغمضي العيون ككلِّ المؤدلَجين- وراء التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشَري إلى المجتمع الزِّراعي، وأنَّ ذلك هو الأصل التاريخي للهيمنة الذُّكوريَّة! غير متسائلين: أفكان هناك تحوُّلٌ مثيلٌ إلى المجتمع الزِّراعي في عالم الحيوان أيضًا، أفضى إلى الهيمنة الذُّكوريَّة؟!  لأنَّ الظاهرة هي هي في مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان، بما في ذلك السُّلطة الذُّكوريَّة، وتوزيع المهامِّ بين شؤون الأُسرة الداخليَّة ورعاية الصغار، وشؤونها الخارجيَّة من كسب الرزق والدفاع عن البيت. ولا علاقة للموضوع، إذن، بثورة زراعيَّة، ولا صناعيَّة، ولا يفرحون! ثمَّ أتُرى ذلك هو السبب في التباين بين الجِنسَين؟ أم أنَّ الأُنثى- أيَّ أُنثى من مخلوقات الله- مختلفةٌ تكوينًا ووظيفةً عن الذَّكَر أصلًا؟ وهي لأجل هذا تَـمُرُّ بيولوجيًّا وسيكولوجيًّا بدورات...

- دورات؟

- نعم دورات من عدم الاستقرار، في شهرها، وسنتها، وحَملها، ووحامها، ونفاسها، وولادتها، وعُمرها، وسِنِّ يأسها، تختلُّ بها هرمونات جسدها، واتِّزانات أعصابها وذهنها ونفسها؟

- مبالغات لمآرب ذُكوريَّة أخرى!

- هذا ما يُثْبِته العِلم الحديث. ونجد فيه ما يفسِّر معنى الحديث النَّبويِّ بـ"نقص العقل في المرأة"، الذي ظلَّ إشكالًا لا يُراد قبوله، أو قد يُحتال في تفسيره، مع أنَّه حقيقةٌ، يُثْبِتها العِلم.

- يا عيني على العِلم!

- لماذا تُنكِر الحقائق الفِطريَّة والطبيعيَّة؟ أو تُفسِّرها في المقابل تفسيرات تستهدف غمط الأُنثى حقوقها؟

- أ هناك غمطٌ أشدُّ من غمطك، يا ذا القروح؟!

- لا شكَّ أنَّ المرأة تَـمُرُّ بحالات شتَّى، هي جزءٌ من تكوينها الأُنثوي، لا يمرُّ بها الرَّجل، بل لا يعرفها، ومن ثَمَّ فحاجاتها الجسديَّة والجِنسيَّة والنَّفسيَّة وحاجة الرَّجل مختلفتان حتمًا، طاقةً وتكوينًا وعُمرًا، وتترتَّب على ذلك بالضرورة الفروق بينهما.

- سلَّمنا جَدَلًا، ما النتيجة التي تريد الوصول إليها عبر كلِّ هذا المخاض؟

- تترتَّب على هذا ضوابطُ حياة المرأة وعملها، والوظائف التي تناسبها، لا عن ظُلم، بالضرورة، أو تحيُّزٍ مبيَّتٍ ضِدَّ المرأة، ولكن لأنَّ تلك هي الطبيعة التي خلقها الله، وتلك سنَّته في كونه.

- يا سلام!

- إنَّ للأُنثى حالات وحالات، لوظيفتها الحيويَّة في الحياة، فهي اليوم حائض، وغدًا تتوحَّم، وبعده نفساء، وبعده مرضع.. وهكذا.

- كلام الشيخ الشَّعراوي!

- بل كلام الشيخ العقلاوي!  أفمِن العقل والعدل أن يُساوَى الجسد وتساوَى النفس، وهذه أطوار حياتهما، بحياة الرجل وأطوارها؟! إنَّ في هذا ظُلمًا للمرأة، وتكليفًا لها فوق طاقتها، من حيث يتردَّد الزعم بإنصافها.

- وأنت من ستنصفها، يا ذا القُروح والحنان؟

- لا يعني هذا التفضيل المطلَق لأيٍّ من الذَّكَر أو الأُنثى على الآخَر، لا عند الله ولا في الحياة، لكنه يعني أنَّ كلًّا مُيَسَّرٌ لما خُلِق له؛ ولو تساويا لفسدت الأرض وانتهت الحياة.  تلك الحياة القائمة على التكامل لا على التماثل.

- أعرفُ ما تُجَمْجِم للوصول إليه.  وهو أنَّه، بناءً على مقدمتك، يصحُّ القول: إنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر...

- كلَّا!  بل إنَّ الذَّكَر ناقصٌ قياسًا إلى كمال الأُنثى، كما أنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر!

- مَن كمال الذَّكَر؟!  تظلُّ المعادلة صعبة!

- أين المشكل؟ إنَّه الاختلاف الحيويُّ الضروريُّ في كلِّ مخلوقات الله. ولقد ثبت عِلميًّا أنَّ خلايا دماغ المرأة تنقص بنسبة 4% عن خلايا دماغ الرجل، كما ينقص نسيج دماغ المرأة نحو 100 غرام عن نسيج دماغ الرجل. 

- الله أكبر!  هكذا اظهر على حقيقتك!

- هل العِلم أيضًا ذُكوريٌّ حين يقول مثل هذا؟!  على أنَّه بالرغم ممَّا يُثْبِته العِلم من زيادة خلايا الرجل الدماغيَّة،  يبدو بأنَّ النِّساء عندهنَّ ارتباطات شجيريَّة أشدُّ بين خلايا الدماغ.

- أكيد عندهنَّ ارتباطات أشدُّ بين خلايا الدماغ؛ ولذلك هنَّ صابراتٌ عليك وعلى أمثالك!

-وهذا ما يعطي المرأة تفوُّقًا على الرجل في سرعة معالجة المعلومات. أمَّا فيما يتعلَّق باللُّغة، فيبدو أنَّ معظم النِّساء يتفوَّقن على الرجال من حيث إمكانيَّة استخدامهنَّ كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر في المعالجة اللُّغويَّة، على حين يعتمد الرجل في الغالب على فَصٍّ واحد، عادةً هو الأيسر.

- "فَصّ مِلْح وذاب!"  المهم يبدو أنَّ الفصَّ الآخَر في دماغك ابتدأ يعمل الآن!

- قلت لك: ليس لديَّ ولا لديك إلَّا فَصٌّ واحدٌ للمعالجة اللُّغويَّة غالبًا. على حين أنَّ المرأة تتفوَّق عليَّ وعليك في إمكانيَّة استخدامها كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر.  وهذا يمثِّل تقدُّمًا للمرأة على الرجل في هذه الخاصيَّة.

- هكذا سيزعل عليك أسلافك وأحفادك من الذُّكوريِّين!

- إنَّ بإمكان المرأة، لو حدث لها عطب في فَصِّ دماغها الأيسر، أن تستمرَّ قُدرتها اللُّغويَّة اعتمادًا على الفَصِّ الأيمن.

- وأنا أقول: لماذا كلام حَرمنا لا ساحل له؟!  كلُّه من الفصَّين!

- فيما لو أصيب الرجل في فَصِّ دماغه الأيسر، لكانت قدرته على تعويض ذلك لُغويًّا أقل كفاءة.(1)

- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! لِـمَ، إذن، معظم الشعراء والأدباء والثرثارين، أمثالك، وعبر التاريخ، هم من الرجال؟

- تلك حكاية أخرى، ربما ترتبط بالتعليم، والحُريَّة الاجتماعيَّة. 

- ما الفائدة، إذن، من الفَصَّين؟

- ربما كان هذا التميُّز للمرأة مهمًّا وحيويًّا على نحوٍ خاصٍّ لموقع المكوِّن اللُّغوي في شخصيَّتها الأُسريَّة، من حيث هي أُمٌّ ومُربِّية.

- وزَنَّانة...!  لكن ما تقوله هذا كان قديمًا!

- تظلُّ المرأة مُربِّية، لأولادها أو لغيرهم.

- حتى لزوجها؟!

- حتى لزوجها!  وإنْ كان هذا التميُّز قد يوظَّف، ولاسيما في مجتمعاتنا الشرقيَّة، في مزيدٍ من الثرثرة! على أنَّ الثرثرة في ذاتها قد لا تخلو من فائدةٍ أُسَريَّةٍ أو اجتماعيَّة.  ولولا تلك الميزة لما استطاعت (شهرزاد)، على سبيل الشاهد، ترويض الوحش داخل (شهريار)، من خلال السِّحر اللُّغوي والحكائي! 

***

وانتهيت مع (ذي القروح)، وهو يودِّعني لدَى الباب، إلى وعدٍ بأن أكتم عليه ما باح به من أسرار؛ كيلا تتَّصل أنباؤها بنسائه، لا سمح الله!  ولقد وفيتُ بوعدي له، وإنَّما أبثُّ هنا أسرار ذلك المجلس لعِلمي أنهنَّ لا يقرأن ولا يكتُبن!  فاكتموا عني وعنه ما استطعتم، أثابكم الله!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 ...............................

(1)  يُنظَر في هذا ما يقرِّره (سايمون بارون-كوهين Simon Baron-Cohen)، مدير مركز بحوث التَّوَحُّد، بجامعة كامبردج، حول "الفرق الأساس بين دماغَي الرجُل والمرأة"، في كتابه تحت عنوان:  The Essential Difference: Men, Women and the Extreme Male Brain، (نُبذة عنه) على صفحة "الإنترنت" ذات الرابط:

http://www.doctorhugo.org/brain4.html

بعد أفول نجم الحضارة العربية الإسلامية وغروب مرحلة الازدهار وتألق الفكر الإسلامي، ظهرت علامات التخلف والانحطاط وكثرت صيحات التكفير والتهويل وفتاوى التحريم  وغيرها مما أدخل الفكر الديني في حالة من الفوضى وعدم التوازن، ومع بزوغ عصر فجر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ظهرت ثلة من العلماء والمفكرين والمجددين داخل فضاء الفكر الإسلامي .

ومن أبرز هؤلاء الإمام محمد عبده (1849-1905) حيث أخذ على عاتقه مهمة التجديد في أمور الدين من خلال تحرير   العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، ومن أجل هذا وصفه الكاتب الكبير محمود عباس العقاد "بعبقري التنوير،" ووصفه الكاتب السيد يوسف "برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني،" ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.

وفي دراسة قيمة للدكتور جميل صليبا بعنوان " الانتاج الفلسفي – الفلسفة عموما وفلسفة العلوم "، نشرت ضمن كتابه الفكر الفلسفي في مائة عام، أن الوطن العربي شهد عدة اتجاهات رئيسة، ومنها تيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب أمثال محمد عبده والذي كان مؤمنا  بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التي تدعو للبناء والرقي المادي والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.

ومشروع  الإمام محمد عبده قد تبناه عدد كبير من مفكرينا المعاصرين، ومن أبرزهم صديقي الأستاذ الدكتور نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، حيث كان يؤمن بأن الإمام محمد عبده واحدا من كبار المجددين المصرين المعاصرين الذين أمنوا ، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.

وفي نظر عصمت نصار ( مع حفظ الألقاب) أنه قد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .

ولذلك رأينا أن من أهم القضايا في نظر عصمت نصار والتي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م.

ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد كما يؤكد عصمت نصار؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين. كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة.

وفي نظر عصمت نصار أن ما توصل إليه محمد عبده في هذا الصدد راجع إلى إيمانه العميق بالخطاب الفلسفي عند ابن رشد، حيث ذهب إلى بعث الفلسفة الرشدية خاصة والمعارف الفلسفية من جديد في الثقافة العربية بعد أفولها، وارتدى بذلك عباءة ابن رشد وراح يدافع عن الحكمة العقلية مؤكدا موافقتها للدين وأن عزوف الأزهريين عنها لا مبرر له إلا الجمود والجهل .

وفي نظر عصمت نصار أن مشروع محمد عبده قد لقي ترحيبا منقطع النظير لدي هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.

كما لقي ترحيبا لدي الدكتور محمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم.

ولم يكتف نصار بذلك بل رأيناه يضم الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) حيث يقول عنه بأنه أحيا خطاب التجديد عند محمد عبده، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.

والسؤال الآن : ما السمات المميزة لمشروع محمد عبده المستنير في نظر عصمت نصار؟

وهنا يجيبنا نصار بأنها تقع في سبع قواعد:

أولها: الانتصار للعقل.

 وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي.

وثالثها: العودة بالدين إلى سذاجته الأولى.

ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية،

وخامسها: الاحتكام إلى أساس مركزي ثابت يستطيع استيعاب سائر المتغيرات تبعاً للواقع المعيش ويتمثل ذلك الأساس في الفصل التام بين الثابت والمتحول على أن يكون ذلك الثابت مرناً على نحو لا يؤثر في قوة صلابته واستمراره، وذلك لأنه يحوي المشخصات الحاكمة للمجتمع والمقاصد العقدية والولاء والانتماء والعمل الجاد للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي. أمّا المتحول؛ فيتسم بالوعي والوجهة النقدية العملية دون أدنى محاولة منه للخروج عن نطاق الثابت الذي يحويه ويختص به لاستيعاب الوافد من المعارف ونقد المستحدث من النظريات والقوانين والنظم وانتخاب النافع من الوسائل والآليات التي توافق الواقع المعيش والحفاظ دوما على حرية البوح والخلاف.

وسادسها: رفض السلطة الثيوقراطية وحكم الكهنة، ويرجع ذلك إلى وعي مدرسة العطار، ومن بعده محمد عبده وتلاميذه بمفهوم السياسة الشرعية الذي يختلف تماماً عن مصطلحات الحكم الإلهي والحكمة الشرعية والحاكمية الربانيّة وغير ذلك من المصطلحات التي زَجّ بها المتطرفون في ميدان السياسة وأمور الحكم والتأكيد على أن الأمة مصدر السلطات، وأن الإسلام لم يخصّ جماعة أو هيئة أو فئة للحد من حرية العباد.

وسابعها: نقد التعارض بين الدين والعلم والفلسفة والشرع؛ فقد ذهب الأستاذ الإمام وتلاميذه إلى أن الإسلام قد حرص على الإعلاء من شأن العلم وأهله، وبيّنوا ذلك في التفاسير المتواترة للقرآن، وأحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه،  وسيرة صحابته، وسلوك الخلفاء الذين حكموا ديار الإسلام، ويشهد بذلك تاريخ العلم في العصر الوسيط. وقد أهتم رواد مدرسة الإمام بعديد من الأمور ذات الصلة. أولها: التأكيد على أخلاقيات العلم وضوابط سلوك المشتغلين به، والحرص على انتقاء النافع والمفيد من المعارف بغض النظر عن جنسية أو دين أو توجّه منتجيها، وعدم الخلط بين الأحكام الظنيّة والرؤى الاستنباطية، والشائع من الأخبار والأمور المتعلقة بالدين في ميدان البحث العلمي. ومن ثمَّ لا يحق لغير المتخصصين في الأمور العلمية الإدلاء بالفتاوى المُحرضة أو الناهية أو المعطلة لمّا ثبت نفعه بالبرهان العلمي، أو وضع المصنفات التي تربط بين الآيات والأحاديث والنظريات العلمية التي لم يثبت بعدُ القطع بصحتها؛ بل على المفسرين والمألولين تفسيرُ مقاصد الآيات في ضوء الثقافة المطروحة على نحو لا يتعارض مع العقل من جهة، ولا يناقد التجربة والتطبيق من جهة ثانية، ولا ينكر الواقعات المسلم بحدوثها في القرآن وصحيح السنة مع عدم ارتياح العقل لها (وللحديث بقيّة)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

كاتب مصري

قال أبن خلدون ان عمرالدولة اربعة اجيال سماها دورة العمران، وأعتقد انها قاعدة سياسية ثابتة لأعمار الدول، وعددها باربعة مراحل الأولى الظفر والقوة والسلطان، والثانية دور الفراغ والدعة وفيه تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، والثالثة المسالمة والتقليد والهدوء، والرابعة الاسراف والتبذير، وبداية السقوط للدولة ونهاية المجد، لا تتعداها اية دولة، وأعتبرها نظرية ثابتة تسري على كل الدول دون تغيير، فهل كا ن اعتقاده يتوائم مع صواب النظرية الحضارية العالمية، أم يتعارض معها؟ هكذا تعلمنا من منهجنا الدراسي الخطأ،

وليعلم القارىءان قيام دول المسلمين التي اتخذها ابن خلدون قاعدة لنظريته الفاشلة قامت على اسر معينة فقدت شروط دولة القانون، الامويون قاموا على السيف والقوة دون النظر الى صالح الجماعة او احترام القانون، او حتى لدماء الناس واموالهم.فقد قتل حجربن عدي واصحابه دون جريرة تستوجب استحلال الدم لمطالبتهم بتحقيق العدالة بين الناس. وامر يزيد بن معاوية بقتل الحسين بن علي في كربلاء دون حق او اكتراث بمشاعر الامة لمطالبته بالعدالة. وفي العهد المرواني أقترفت جنايات بشعة في العدل والحق والقانون لحماية البيت الحاكم. نظرية سارت عليها دولة الاسلام الفاشلة حتى النهاية، ولم تراعِ الشرعية والقانون، بأعتقادي لو ان الامويين حكموا وفق نظرية القانون لكانوا احسن من حكم المسلمين، لأنهم علمانيون يؤمنون بالتطور الحضاري العام.

وقامت دولة بني العباس بانفرادية السلطة دون استشارة الامة، وهي مثل سابقتها الاموية أقترفت اكبر الجرائم في القتل وحقوق الناس وانتهاك الشرعية الدينية فكانت قوانينها العصبية القبلية والاحقية الدينية وزادت على ذلك اشراك العناصر الفارسية الحاقدة على العرب، حتى سقطت عام 656 للهجرة على يد المغول.وهكذا دولة الفاطميين والصفويين والعثمانيين وغيرهم كثير.

كل الدول الاسلامية التي نشأت بعد وفاة الرسول (ص) لم تحرص على استيفاء الجانب الشرعي من تكوينها، فكان سقوطها حتميا لمخالفتها شرعية القانون، وستسقط كل الدول التي لاتعترف بشرعية القانون.

قبلَ ابن خلدون كتب المؤرخ الروماني توكيديد الذي قال: انه لاجديد في حوادث التاريخ، وان كل مايحدث اليوم حدث مراراً قبل ذلك، وسيحدث مراراً في مُقبل الزمان، والتاريخ كله ليس الا دائرة شريرة لا يزال البشر يدورون فيها، وكلما أتموا الطواف فيها مرة بدأوا من جديد.

وفي فلسفة التاريخ عند الفرس قال: أردشير بن بابك مؤسس دولة آل ساسان الى خلفائه، لا تزال ُتكرر هذه الفكرة وتحذر الملوك من الأغترار بالدنيا والجاه والسلطان، وتؤكد ان الزمان لا جديد فيه، فهل قرأ اصحاب السلطة ما كتبه القدماء من المؤرخين نتيجة تجاربهم العميقة في فلسفة التاريخ ليعدلوا مع العامة قبل نهاية السقوط.

ومن ماخذ نظرية ابن خلدون انها ترى ان الحضارة والتركيز على من يملك اسبابها يضعف فيه النزوع الى القوة والصراع من اجل بناء الدولة القوية، حين يتجه نحو الترف فيفسد ويضمحل تدريجيا.هنا يُخطأ ابن خلدون في هذا الاعتقاد لان التدرج في المراتب الحضارية بعدالة القانون لا يضعف الانسان بل يقويه ويقويها في العلوم والمعارف والخبرة والتجربة، فالدولة لا تنشأ وتقوى بالدين بل بالقانون والاعتراف به كتطبيق، لذا فشلت الدول الدينية عبر التاريخ لعدم ألتزامها بالعدل والقانون ومنها دولة الاسلام التي نشأت معادية للحقوق والقانون.

نقول ان الذي يضعف البشر هو سوء استخدامهم لنعَم الحضارة، والتوجه نحو التنعم والتبطل والدعة عند اسرافهم لما ملكوه من اسباب التمدن، ويزهدون في العمل والجهد ومراعاة القانون، فيحاولون استبدال القانون بالقوة مغطاة بشرعية الدين، فيتجهون نحوالمال والسلطة والجنس، فتضعف قوتهم في قبضتهم على السلطان، فيفلت زمام الامور من ايديهم بالتدريج، فيتمهد الطريق لغيرهم للتغلب عليهم وانتزاع الملك والسيادة منهم، وهذا مايحصل حتى اليوم لمن خانوا الله والقسم واليمين وعدالة القانون.

ان من لا يستطيع السيطرة على ادوات الحضارة سيطرت عليه، فهم كالطفل الذي بيده عود الثقاب ولايسطيع السيطرة عليه فيحرقة ويحرق من حوله جهلا بحقيقة الاستخدام، كالحروب الاعتدائية التي لا يحسب القائمين عليها حسابها، ولا شاربين الخمر الذين يسرفون في شربها مع انها غير محرمة.لكن الايغال فيها يعد منقصة في الاستخدام.وفي هذا الخصوص يقول القرآن: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما، البقرة 219 ". لكن الفقهاء اسرفوا في التحريم وهوليس من حقهم حين قالوا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"فوضعوا بذلك قاعدة خاطئة بتحريمه دون معرفة النص.

وكذلك في الحروب لم يفرقوا فيها بين الاعتداءوالدفاع عن النفس لمصلحتهم في الكسب والسرقة واستغلال النساء لهم زيادة في الترف دون مراعاة الحقوق كما حصل في الفتوحات الاسلامية الباطلة المجافية لحقوق نشر الدعوة بقناعة المنطق وعدالة التشريع.

ويبقى الموقف الثقافي الملتزم بالعقيدة والقانون هو الذي يعين الانسان على اتخاذ الموقف الصحيح. ويجعله يستطيع اتخاذا موقف سليم من الحضارة وادواتها والترف واشكاله، فالتحجج بالدين والتشريع يرافقه الظلم والفساد والخيانة لا يتفق وشريعة العدالة في الدين،

هذا ما عانينا منه منذ مجيء الاسلام والى اليوم، لذا فأن المسلمين رافقهم الفشل الا قوة السيف وباطل القانون، بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم حين اشاعوا نظريات الفساد والرشوة واغتصاب النساء بحجة وما ملكت ايمانهم باعتباره شطارة على الاخرين، هنا سقطت قدسية الحضارة واصول الدين فباتوا عرايا اما م القانون كما في دولنا الاسلامية اليوم، وسيسقطون الى الابد بعد ان ابتعدوا عن استقامة الطريق فاصبحوا لغزاً محيرا ملفوفا بالغموض.

ان الحقيقة الدينية التي بها اغتصبوا الحقوق وخانون القيم والاصول خطئاً، هي خالية من التعصب وعليهم ان يعلموا انها حقيقة تتغير وتتطور وليست مطلقة ومنقوشة فؤق حجر، على المسلمين الاصرار على تفسيرالقرآن من جديد وفق مفاهيم التطور اللغوي والتجريدات اللغوية الحقيقية للنص، لا اقوال المفسرين الجهلة الذين اتخنا من تفاسيرهم للنص، دين، والا سنسقط نحن نحن والدين معاً، والسقوط لا يعني الانتهاء، بل يعني الفشل الدائم في التطبيق.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في مرحلة التحوّلات التاريخية الكبرى الجارية اليوم في البلاد العربية، المتتابعة بسيروراتٍ مختلفة، وباحتمالات وصيرورات متنوّعة، وإن كانت لا تزال في مراحل انتقالية تفاعلية، ولم تستقر على نتائج بعد، فإنها تتطلب دوراً مركزياً للمثقفين العرب.

إن غياب المثقفين العرب عن المشهد الحالي الذي يقوم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في عدوانه على قطاع غزة، يعيد من جديد إثارة السؤال المتعلّق بأدوار المثقفين العرب في تاريخهم الراهن، في مجتمعات تتغيّر، ومخاطر مصيرية تتطلب مواقف واضحة، ومجابهة العدوان والقهر، والتصادم مع أنظمة الاستبداد، وقيادة نضال الجماهير لتحقيق أهدافها بالحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة، والديمقراطية. وكذلك الوقوف إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لتمكينه من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" ببيتين من الشعر، وفي التاريخ الإسلامي شهدنا ابن الهيثم، وابن رشد، والكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن حيان. وعربياً عبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، عبد الوهاب المسيري، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.

مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر فيما أُطلق عليه حركة التنوير العربية، أو اليقظة العربية، لما تم فيها من مقاربات التجديد الديني، وإنقاذ كبير للهوية العربية، بعد أن كادت أن تتأثر بكل ما حل عليها من ثقافات خارجية. فإن الراهن العربي البائس بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين. ومن أبرز القضايا الكبرى التي تتطلب انخراط المثقفين العرب حالياً التحرك لمواجهة  العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي اتخذ شكل الإبادة الجماعية بكل أشكالها.

صورة المثقف العربي

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة خلال العقود الأخيرة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.

إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.

بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

لغز المثقف العربي

أظهرت الثلاثة عقود الأخيرة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.

أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية المتسارعة، أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.

في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.

لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.

لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.

أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

في اشتباك المثقف

المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.

المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.

المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.

معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.

مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

سقوط المثقف

إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي، ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة، والسلام، ونشر المحبة، والتسامح.

وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

المثقف الجوكر

ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا.

إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.

إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية

معلقون في الفراغ

لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.

ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.

يقف ما ظل من المثقفين العرب اليوم بلا جدار أيديولوجي، يحصدون فشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقفون دون أي حماية، معلقون في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذمومون من السلطة السياسية، وهم موضع شك من السلطة الدينية، يشعرون بالاغتراب عن أنفسهم ومحيطهم، حائرون مربكون غير واثقون، يواجهون مجتمعاً مأزوماً مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفهم، أو تهميشهم، أو سجنهم، أو تصفيتهم.

***

الدكتورحسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

 

الإسلامُ فى حلِّ عن الأشخاص، مهما كان هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا، اعرف الحق تعرف أهله؛ ولا تعرف الحق بالرجال؛ فإن معرفة الحق بالرجال فيها من البطلان ما يؤخِّرها عن رتبة المعرفة الحقة؛ لاختلاف الأهواء والتَصورات ومواطن القوة لديهم ومواطن الضعف.

لا تعرف حقاً قط على ألسنة الرجال، بل اعرف الحق من الحق أولاً تعرف أهله وتمادى فى العرفان!

ومن أجل ذلك قال الإمام عليّ بن أبى طالب رضوان الله عليه: «لا تعرف الحق بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله». وأهل الحق يأخذون الحق من الحق لا يحيدون عنه، ويأنفون من أخذ الباطل ولا يطيقون استطالته وطغيانه. ومن هنا؛ فينبغى معرفة الشيء فى ذاته بعيداً عن خزعبلات الأشخاص وزعاماتهم الموبوءة.

كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذ كانوا يتنبَّهون إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر ممّا نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدة الادعاءات فيه.

وأفاضوا فى شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ فهناك زعامة «الرياسة»، وهناك زعامة «الجاه»، وهنالك زعامة «المنصب»، وهنالك زعامة «السلطة». هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالى، المجموع فى التقدير القرآنى تعبيراً بقوله :"تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِى الأرْضِ وَلا فَسَاداً، وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ" (القصص: آية 83).

هذا العلو هو فى بعض التخريجات يعنى: النظر إلى النفس. أما الفساد؛ فيعنى النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب. وأصل ذلك كله من الجهل.

وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، لا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه فى هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس، ثم جهل بالله، مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلمية الكبرى. غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيًّا إلى علم بالجهل؛ فالعلماء بالله على هذا هم علماء بجهلهم؛ أى هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى «حقيقة الحقائق»؛ أو حتى تصل إلى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها، فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها.

فأما الذين يعلمون ويقولون مع شدة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق؛ وعن الجهل يكون الكبر وطلب العز فى الدنيا، والعلو فى الأرض، والتلهف على السلطة والاستبداد بها.

وطلب العز فى الناس هو الذى يتولد منه العُجْب. فالوصول إلى قرب الله تعالى وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه فى الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب «الزعامة» : رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً. وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات التى تلاقيها فى نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها، وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حب هذا كله أو بعضه من قلبه. وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه؛ ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتى منه إذْ ذاك أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص. والجماهير العريضة، وقطاعات وفيرة منها فى الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدثون فى الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة فى الدين نفسه، شعروا بذلك أم لم يشعروا؛ وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرد لأنهم يتكلمون عن الله ورسوله؛ هذا إذا مسَّت دعوة الداعى مشاعرهم، وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس فى كل ما ترى، وفى كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعى بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر فتتحول الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يده إلى سُلطة، وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين.

إنه الإرهاب بكل ما تحمله الكلمة من وقع كريه على المشاعر الإنسانية النبيلة. إرهابُ المشاعر والأفكار، وإرهابُ الضمائر والقلوب، وإرهابُ الطمأنينة النفسية وأمان الاستقرار، وما أكثر الذين يُرْهبون الناس فيرتكبون على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل جرائم بشعة فى أبواب الفتاوى تارة، أو تحت ستار الفكر الإسلامى تارة أخرى، وفى عناوين وشارات كلها ترتكبُ باسم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لتكون سُلطة ما أنزل الله بها من سلطان.

***

د. مجدي إبراهيم

شهدت العقود الأربعة الأخيرة من حياتنا الفكرية والثقافية ظهور عدة مشاريع فكرية وإبداعية ونقدية أنجزها المفكرون والأدباء والنقاد في بلداننا العربية، وفي هذا الخصوص رأينا الدكتور طه حسين يبني مشروعه من خلال إدخال منهج الشك الديكارتي إلى مسرح نقد الأدب والفكر والثقافة والدين في مصر والعالم العربي معا،  بل إنه قد تحول عنده إلى ناظم محوري لكل كتاباته حيث قام بتوظيفه طوال مساره النقدي وطبقه على شتى الظواهر الثقافية والفكرية بما في ذلك حقل التعليم.

وفي مجال الفلسفة رأينا الدكتور حسن حنفي يبني مشروعه على فكرة تحليل ونقد خطاب الاستغراب، في وقت كان فيه محمد أركون يعلن عن مشروعه من خلال تشابك العقلاني والأسطوري في التراث الديني الإسلامي واستمرار تفريخ هذين البعدين في مجتمعاتنا راهنا، وكان أيضا محمد عابد الجابري  صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب، وذلك من خلال عدد وافر من الدراسات صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب.

وفي هذا السياق بالذات يلفت انتباهنا مشروع عبدالرحمن بدوي والجهود التي بذلها من أجل فهم الوجودية وتأصيلها في البيئة الفكرية والثقافية بمجتمعاتنا، ويمكن القول مع الأستاذ أزراج عمر أن المغامرة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي تقوم على دراسة البعد الثقافي العربي الذاتي وعلى ترجمة وتحليل بعد الفكر الغربي، ولا شك أن جهوده قد توجت بإضافة مقولتين اثنتين إلى مقولات كل من أرسطو وإمانويل كانط، ومما يؤسف له أن هذه الإضافة المهمة للمفكر بدوي وغيرها لم تبرز في النقد الفلسفي العربي ولم تشهد توظيفا لها في الدراسات الفلسفية والنقدية الثقافية.

كذلك رأينا في الفكر الأوروبي المعاصر وبالذات مع هيدجر، احتل المشروع مكانة جوهرية في تاريخ الفكر، حيث بدا كرد على سؤال مركزي في الميتافيزيقا، يتعلق بإمكانية فهم الكائن البشري. وقد طرح هيدجر إشكالية جديدة للكينونة في كتابه “الكينونة والزمن” l’Etre et le Temps، نقلت الفلسفة من التفسير الميتافيزيقي إلى الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها، إذ أضحت الكينونة جوهرا ووجودا، وأضحى جوهر الإنسان يدرك ويفهم ويؤسس داخل سؤال الكينونة، كونه أضحى معنيا بتدبير هذه الكينونة. فكما قال كانط: "ليس الإنسان شيئا بالطبيعة، وبالتالي فإن إنسانية الإنسان تتولد من الإنسان نفسه".

ويرتكز مفهوم المشروع على مرجعيات ذات منظور فلسفي للإنسان حاول من خلاله البحث عن عالم له معنى، غير أنه لا يتخذ كليا بتلك "الوضعية" التي عبر عنها هيدجر بـ "قفزة ذاتية للإنسان إلى الأمام" من خلال ماضيه وحاضره، بل يفترض ذلك قدرته على التموقع داخل هذه "الوضعية" وقدرته على اتخاذ مسافة لملاحظتها وتحليلها وإدراكها بشكل من الأشكال.

وأي مشروع لابد من أن يرتكز على إعادة مساءلة الحاضر ومدى ملاءمته، وذلك بالتساؤل عما نقوم به اليوم، وإلى أي حد نعتبر أن ما ننجزه اليوم يسمح لنا في نفس الوقت بمراجعة ماضينا والانفتاح على مستقبل ممكن.

وإعادة الحاضر تقتضي النظر في مسألة التجديد من خلال إعادة النظـر فـي كـل التجارب الاجتهاديـة فـي فهـم الكتـاب والسـنة والواقـع وفـي كـل أسـاليب العرض والاسـتدلال التـي اسـتهلك ها الـزمن لان التطـور فـي الأسـاليب -مـن حيث الشكل والمضمون- قد أدى إلى ضرورة استحداث أسـاليب جديـدة تنسجم مع الذهنية المعاصرة ومع تطـور المفـردات الثقافيـة، لنسـتطيع - مـن خلالها- الدخول إلى العقـل الإنسـاني المعاصـر وقلبـه.

وفي اعتقادي أن ذلك لن يتم إلا خلال إلغاء فكرة فصل المقال عن المنهج لا المقال عن العلم، وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

والعجز عن التفسير هنا راجع إلى اختلاط لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب" الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر .

أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية... وللحديث بقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

.......................

المراجع:

1- أزراج عمر: المشاريع الفكرية العربية نزعة فردية متأثرة بالغرب، مثال منشور بجريد العرب، الجمعة 2020/01/24

2-د. محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد، مقال منشور بصحيفة المثقف،  نشر بتاريخ: 08 نيسان/أبريل 2023

3-المختار شغالي: المشروع مفهوم فلسفي، مقال منشور بهسبريس، الأحد 5 يوليوز 2015 - 23:01

غيب الموت منذ أيام احد اشهر فلاسفة التحرير في أمريكا اللاتينية انريكو دوسيل  Enrique Dussel هنا قراءة مختصرة حول سيرته الذاتية والفكرية واهم المحطات التي مرت بها فلسفته خاصة وفلسفة التحرير عامة.

تأويلات دوسيل لماركس

رغم ان ماركس والماركسية لم تكن غريبة على دوسيل، غير ان دوسيل لم يتعامل معها جديا حتى وصوله كلاجيء سياسي الى المكسيك عام 1977. انشغل بدراسة موسعة وعميقة لأعمال كارل ماركس. هذا الانخراط أدى الى اصدار ثلاثة مجلدات (دوسيل 1985, 1988,1990). كانت مساهمة دوسيل تسعى لتطوير تفسير وتأويل جذري للماركسية. وهو ينتقد التأويل والتفسير الغربي السائد للماركسية، وهو تفسير هيجلي الى حد كبير، وهذا التفسير حسب دوسيل مسؤول عن مشاكل واخفاقات الثورات الماركسية من ثورة أكتوبر في روسيا، الى ثورة الساندنيستا في نيكاراجوا.

يرى دوسيل، ان قرنا مضى من تأثير ماركس على المسرح السياسي (1881-1983) . هذا القرن بعد وفاة ماركس تطور أولا تحت سلطة انجلز ثم تحت هيمنة الأممية الثانية (كارل كاوتسكي، لينين، لوكسمبورج) وأخيرا الأممية الثالثة في الفترة اللينينية التي سرعان ما سقطت تحت الستالينية. بعد وفاة ستالين وصلت مرحلة الماركسية الغربية من لوكاش، الى التوسير، وصولا الى هايبرماس. غير ان دوسيل يرى ان تأثير ماركس سيتمر قرنا اخر من (1983-2083)، في هذه الفترة سيكون ماركس ملكا للإنسانية لا لحزب سياسي او نخب معينة. سيكون ملكا للمعارضين للرأسمالية، ولساعون جديا لديمقراطية اجتماعية حقيقية.

نظرة دوسيل الى ماركس تنطلق من منظور تاريخ أمريكا اللاتينية. أي ان دوسيل يتبني منظورا عالميا لاعمال ماركس من منظور إقليمي، إقليمي مثل منظور انجلز، لينين، لوكسمبورج، هايبرماس، او التوسير. ومن هذه النقطة ليس مفاجئا او سرا ان قرأة دوسيل لماركس متأثرة بمفهوم لفيناس لما هو خارجي (الحالة التي تكون فيها خارج المنظومة السائدة ) exteriority، وكذلك العمل. ورغم ان دوسيل لديه تحفظ حول مفهوم لفيناس حول ما هو خارجي، ولكن في نفس الوقت يقبل بهذا المفهوم باعتباره انقساما معرفيا واخلاقيا وسياسيا في التعبير عن المعرفة الغربية. او بصورة أخرى هو يقبل ان تاريخ المعرفة تم بناؤه ذاتيا من الأفكار اليونانية الى العلوم والفلسفة الحديثة. تاريخ المعرفة هذا،  اساسه الابستمولوجي النظر الى المعرفة واللغات الأخرى (كمثال الصينية، الهندية، العربية، والهندو أميركية) كمعرفة خارجية، ومن ثم دمجها كمادة للدراسة او كسلع ثقافية عوضا عن كونها سياقات معرفية.

إن مفهوم "العمل الحي" يجعل من الممكن التقاطع بين الماركسية وفلسفة التحرر بقدر ما تم تعريف فلسفة التحرر منطقيا ؛ "شكل من أشكال التفكير من الخارج الكلية الأوروبية ومجمل الرأسمالية". (التي سيتناولها دوسيل لاحقا في المركزية الأوروبية والحداثة (Dussel 1995، 1998a]). في سبعينيات القرن العشرين، عرف دوسيل الخارجية بأنها ممارسة المضطهدين. صنف المضطهدين في المقام الأول على أنهم "فقراء". ومع ذلك، لم يكن يتحدث فقط عن اضطهاد الفقراء ولكن أيضا عن أنواع أخرى من الاضطهاد، على سبيل المثال، الاضطهاد على أساس الجنس والعمر والعرق. في الآونة الأخيرة، يفضل دوسيل تحديد المضطهدين على أنهم "ضحايا". كيف يصبح "الخارج" بعد ذلك خارج "العمل الحي" ولماذا كان مهما جدا في تأملات دوسيل السياسية والأخلاقية؟ يدفع دوسل هذا التفسير التحليلي في إعادة صياغة ثلاثة فروق رئيسية في كتابات ماركس: التمييز بين  الابداع poiesis / التطبيق العملي، والتمييز بين العمل الحي / قوة العمل، والتمييز بين المركز / المحيط. بعد قراءة المجلدات الأربع من عمل ماركس الأساسي Das Kapital (1857-1880))، يجادل دوسيل بأنه بالنسبة لماركس، كان "الشرط المطلق لإمكانية وجود الرأسمالية هو تحويل المال إلى رأس مال" (يقدم دوسيل الفرضية التفسيرية القوية القائلة بأن بداية رأس المال كانت بالفعل بحثا عن إجابة لهذا السؤال.

الكونويالية، العالم الثالث وفلسفة التحرير

يلخص كتاب دوسيل الأخير، (1988 Etica de la liberación)، مساره الطويل منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين. في المقام الأول، من الواضح أن حجته قد أانتقلت من حقبة الحرب الباردة إلى فترة العولمة (ما بعد الحرب الباردة). التغييرات هي الاعتراف بظهور الجهات الفاعلة الاجتماعية الجديدة وتشكيل مواضيع تاريخية جديدة. لم تعد الطبقة العاملة مهيأة كما وصفها ماركس في البداية، على الرغم من أن عملية استيعاب العمل الحي وتحويل المال إلى رأس مال لا تزال قائمة. يتم وصف "الضحايا" الآن بشكل أفضل بأنهم "أرواح بشرية يمكن الاستغناء عنها" بموجب منطق السوق، المتحررة من كل من المسؤولية الأخلاقية وقيود اليوتوبيا الاشتراكية. هكذا تضع فلسفة التحرير عنوان "التحرر " بدلا من "الإصلاح" (Dussel 1998) . فلسفة التحرير هي نقد موجه للرأسمالية من وجهة نظر العالم الثالث. سيكون البؤس هو إعادة إنتاج ما كشفته فلسفة التحرير في حدودها: الوظيفة الديكتاتورية للأسباب الذرائعية، في نسختيها الليبرالية والاشتراكية على حد سواء.

هناك سياق تاريخي يعزى الى انبثاق فلسفة التحرير، وكذلك لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. ان مشروع التحديث والتنمية بعد الحرب العالمية الثانية قاد الاقتصاديين الى استنتاج مفاده ان التفكير في التنمية والتحديث في أمريكا اللاتينية يجب ان يبدا بالاعتراف بالطابع التبعي للاقتصاد في هذه البلدان. أدى تقاطع تأثير الثورة الكوبية والمشروع الليبرالي النقدي لتنمية أمريكا اللاتينية الى ظهور نظرية التبعية (كاردوزو وفاليتو 1979) وراؤول بريبش (1980)، وذلك يتبع مبدا "ولراس"  حول النظام العالمي وحول الطبيعة التبعية لاقتصادات الأطراف على المركز الرأسمالي. وهذا يوضح الى حد ما من ناحية، اهتمام دوسيل المبكر وتفاعله مع نظرية النظام العالمي. من ناحية أخرى، ساقت نظرية التبعية الى المقدمة وفي الحوار القلق بشان المهمشين والفقراء والبائسين كضحايا للرأسمالية.

***

علي الرئيسي

الفصل بين الحقائق والقيم، واحد من التقاليد المستقرة في مجامع البحث العلمي. والمقصود به أن يتخفف الباحث أو الناقد من انحيازاته الشخصية والاجتماعية لحظة البحث، فلا يجعلها معياراً في اختيار موضوع البحث أو منهجه، أو في الحكم على نتائجه.

والحق أنَّ الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية، من أصعب الأمور، بل ادّعى بعضهم أنَّه مستحيل. ولا أراه كذلك، لكنّي أعرف صعوبته. وأعلم أنَّه أشدُّ عسراً في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والإقليمية، سيَّما تلك التي تدور حول قضايا الهوية، أو التي تكون الهوية عاملاً في تأجيجها، أو سلاحاً في يد أطرافها.

إنَّ حرصَ الباحث على مسايرة ميوله الخاصة أو ميول مجتمعه، لن يساعد في إنتاج العلم، بل لن يؤدي - على الأرجح - إلى أكثر من «تطييب الخواطر»، أي الوصول إلى نتائج مريحة لنفس الباحث أو «جماعته»؛ لأنَّها - ببساطة - تؤكد ما كانوا يقولونه دائماً وما يرغبون في قوله، في ثوب جديد أو لغة مختلفة.

وقرأت في الأيام الماضية كتاباً يعالج العلاقة بين الدين والأسطورة، خَصّص كاتبُه مساحةً واسعة نسبياً، لشرح رؤية علماء أوروبيين للمسافة بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل إلى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين الإسلام والأسطورة، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدّثوا في الموضوع، اشتغل محرك الهوية عند الكاتب فيما يظهر، فأغفل مناقشة آراء أولئك المفكرين وأدلتهم؛ كي يركّز على ما قال إنه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في أوروبا. وبناءً عليه اعتبرها بعيدة عن المجال الإسلامي، ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.

وأميل إلى الظن بأنَّ الكاتبَ لم يشرع في بحثه ذاك، قاصداً إنتاجَ معرفة جديدة. ذلك أنَّ منهجَ السجال الديني يبدو واضحاً في أكثر من موضع. ومن يتخذ منهج المساجلة، فإنَّه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين، التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. إنَّ همَّه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه، بغض النظر عن كونه صحيحاً أو خطأً في الواقع. إنه - بعبارة أخرى - لا يسائل موقفه ومعتقداته؛ لأنَّه مشغول في محاكمة الآخرين.

ربما يكون هذا الموقف ناتجاً من الميول الآيديولوجية للكاتب، أو عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي وإراداته. ولا شك عندي أن مسايرة الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مراراً أنَّ المفكر أو صانع الرأي، ليس مطالباً بمصارعة المجتمع والسير عكس التيار، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو - مثل غيره - حر في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا، فليس من الإنصاف أن نطالبَه أو نطالب غيره بتحمل أعباء اجتماعية، تزيد عمَّا التزم به سائر الناس وأصحاب الحرف الأخرى.

أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظاً، وغايتي إنصاف تلك الشريحة من أهل الفكر الذين اضطروا إلى السكوت كلياً، أو اضطروا إلى إغفال قناعاتهم أو مسايرة التيار العام، طمعاً في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار بعدما اختبروا ضغط المجتمع، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوماً أن «يحملوا السلم بالعرض» كما يقال.

بموازاة هذا، فإنّي أعلم أنَّ المجتمعات لا تتقدَّم، إن ذوت فيها روح النقد. بل أستطيع القول إنَّ إنتاج العلم وتطويره مستحيل، إذا كان نقد الأفكار المعتادة والقناعات السائدة، ممنوعاً أو عسيراً. ليس هناك وقت مناسب للنقد ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف وآخر غير مناسب. التعبير الحر عن الرأي يجب أن يكون متاحاً في كل وقت وفي كل ظرف، حتى لو كنَّا في أسوأ الظروف. أياً كان الأذى الذي ربَّما يخشاه الناس من النقد في ظرف الأزمة، فإنَّه - بالتأكيد - لن يؤدي إلى ضرر مادي. بل على العكس، فالضرر الأعظم الذي وقع سابقاً ولا زال يتكرَّر في عالم العرب، هو هيمنة الخيارات التي تشير إلى طريق غير التي ألفناها بعدما ورثناها عن الأسلاف.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

اليقينيات هي الأسس التي نبني عليها قناعاتنا وفهمنا للعالم. إنها توفر لنا إحساسًا بالاستقرار وإطارًا للتغلب على تعقيدات الحياة. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن ما كنا نعتبره يقينًا بالأمس يمكن أن ينهار في مواجهة المعرفة الجديدة أو الظروف غير المتوقعة.

لقد انقلبت النماذج العلمية، التي كانت تعتبر في زمن سابق حقائق لا تقبل الجدل، رأسا على عقب بفضل الاكتشافات العلمية الرائدة. كان يُعتقد في السابق أن الأرض هي مركز الكون، وأمرا مؤكدا لا جدال فيه حتى قدم كوبرنيكوس وجاليليو نموذج مركزية الشمس. وبالمثل، أفسحت الفيزياء النيوتونية، التي بدت أساسًا لا يتزعزع، المجال أمام نظريات النسبية وميكانيكا الكم الأكثر دقة.

حتى في حياتنا الشخصية، يمكن لليقين أن ينهار. فالعلاقات التي تبدو غير قابلة للكسر يمكن أن تنتهي، والمهن التي كانت تعتبر آمنة في السابق يمكن أن تتعثر، والمعتقدات الراسخة يمكن أن تتطور. وتؤكد هشاشة اليقينيات هاته على عدم الثبات الذي يحدد التجربة الإنسانية.

ومع انهيارها ، يظهر فراغ في أعقاب ذلك - هاوية تظهر فيها العبثية كبطل غير متوقع. إن العبثية، التي غالبًا ما تكون مرادفة للاعقلانية أو التناقض، تتحدى مفاهيمنا المسبقة وتجبرنا على مواجهة طبيعة الوجود الفوضوية وغير المتوقعة.

في الأدب والفلسفة، تم استكشاف مفهوم العبث من قبل مفكرين مثل ألبير كامو. العبث، عند كامو، هو الصراع بين رغبتنا في المعنى واللامعنى الواضح للكون. عندما تختفي اليقينيات، ونواجه العبث، تأخذ الحقيقة شكلاً جديدًا - وهو شكل متناقض يوجد في قبول اللاعقلاني واحتضان السخافات المتأصلة في الحياة.

إن اختفاء اليقينيات وظهور العبثية كحقيقة لهما آثار عميقة على إدراكنا للواقع. في عالم تتغير فيه الأرض تحت أقدامنا باستمرار، يصبح فهمنا للحقيقة نسيجًا ديناميكيًا ومتطورًا.

ويتجلى هذا التصور المتغير في عالم السياسة، حيث تطمس "الحقائق البديلة" وسرديات ما بعد الحقيقة الخط الفاصل بين الواقع والخيال. في مشهد حيث اليقين بعيد المنال، فإن السرد الذي يكتسب قوة قد لا يكون بالضرورة متجذرًا في حقائق يمكن التحقق منها ولكن في القوة المقنعة لسرد القصص.

علاوة على ذلك، أدى العصر الرقمي إلى تضخيم هذه الظاهرة. إن سهولة النشر السريع للمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت يمكن أن يحول الادعاءات السخيفة إلى حقائق منتشرة، مما يشكل الرأي العام ويغير مسار الأحداث.

إن التناقض بين اهتزاز اليقينيات وتحول السخافة إلى حقيقة يتطلب اتباع منهج دقيق للتعامل مع إشكاليات وجودنا. إنه يدعونا إلى التوازن بين الشك والانفتاح، والرغبة في التشكيك في افتراضاتنا مع الاعتراف بعدم اليقين المتأصل في واقعنا.

إن اعتناق عبثية الحقيقة لا يعني الاستسلام للعدمية أو النسبية. وبدلاً من ذلك، فهو يدعونا إلى إيجاد المعنى في خضم حالة عدم اليقين، لاستخلاص الهدف من فعل التنقل في التضاريس الغامضة للمجهول.

في الختام، فإن التفاعل المتناقض بين اختفاء اليقينيات وصعود السخافة كحقيقة هو شهادة على الطبيعة المعقدة للتجربة الإنسانية. إنه يتحدانا لإعادة تقييم علاقتنا باليقين، مما يدفعنا إلى استكشاف أعمق لرمال الإدراك المتغيرة باستمرار والروح الإنسانية المرنة التي تجد المعنى حتى في زوايا الوجود الأكثر سخافة.

***

عبده حقي

غيب الموت منذ أيام احد اشهر فلاسفة التحرير في أمريكا اللاتينية انريكو دوسيل  Enrique Dussel هنا قراءة مختصرة حول سيرته الذاتية والفكرية واهم المحطات التي مرت بها فلسفته خاصة وفلسفة التحرير عامة.

ولد انريكو امبروسوني دوسيل في 24 ديسمبر، 1934  في مدينة صغيرة تدعى لاباز، في محافظة ميندوزا، الارجنتين. هو ابن طبيب تدرب على التقاليد الامريكية اللاتينية. جده الأكبر هاجر من المانيا في عام 1870. امه كانت كاثوليكية، منغرسة في معظم اعمال الكنيسة وكانت رئيسة لجمعية اولياء الأمور في المدرسة. من كليهما تعلم دوسيل أهمية العمل الاجتماعي، والتراحم، والتواضع، والعمل الجاد. خلال الاربعينات من القرن الماضي ونظرا للحرب العالمية والشعور المعادي للألمان تم طرد والده من الوظيفة مما اضطر العائلة للهجرة الى بيونس ايرس، بعد سنوات انتقلا الى ميندوزا. في سنوات مراهقته كان ناشطا كاثوليكيا حيث كان من الأشخاص الذين تبرعوا بأوقاتهم في خدمة مستشفيات الأطفال من ذوي الإعاقة الفكرية. وكان أيضا ناشطا طلابيا في أيام الجامعة حيث كان يراس مركز الفلسفة، نشاطه الطلابي أدى الى اعتقاله من قبل نظام بيرون عام .1954 

درس دوسيل تحت امرة جيل من الأساتذة الذين تم تدريبهم في التقاليد القديمة للدراسات العليا: معرفة دقيقة للمصادر الأساسية باللغات الاصلية. كان تلميذا الى جانب أخريين، لارتيورو رواق (Arturo Roig)، انجيل كونزاليس الفريز، انتونيو ميلان بيوليس، ميرسو لوبيز (الذي تم تعذيبه حتى الموت  من قبل النظام العسكري في عام 1976)، وكويدو سوجا راموس Guido Soaje Ramos ، سوجا كان اكثرهم تأثيرا على الفتى دوسيل. سوجا راموس كان يطلب من طلابه ان يدرسوا اللاتينية، واليونانية، والألمانية، لمدة 4 سنوات، دوسيل درس الاخلاق Ethics لدى سوجا راموس, كان اهتمامه الاكبر على  الألماني ماكس شيلر ودريتش هيلدرباند بالإضافة الى ارسطو وتوما الأكويني. كانت الاخلاق هي تخصصه الرئيسي، وقد تخرج في عام 1957 حيث كان عنوان رسالته " الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية". هذه السنوات أيضا كانت حافلة بالنشاط الطلابي، حيث كان من مناصري جاكوز مارتين، حيث ساعد في تأسيس جمعية الديمقراطيين المسيحيين.

بعدها التحق بجامعة مدريد في اسبانيا لنيل الدكتوراة حيث قدم رسالته تحن عنوان: الصالح العام: التناقض النظري. كانت رسالة الدكتوارة تبحث في مصدر وتطور مفهوم "الصالح العام" بدا من قبل فكر سقراط الى هانز كيلسن. بناء على راي احد اكثر المطلعين على اعمال وحياة دوسيل، مارينو مورينو فيلا، هذا العمل مهم لسببين: الأول، ان هذا العمل بالفعل يكشف ويتنبأ بالانشغال المركزي لفكر دوسيل وهو البحث عن التقريب للاستجابة المناسبة، على الرغم من انه نادرا ما يمكن تحقيقها للأخر. من خلال هذه الرسالة كان دوسيل يهدف الى الدفاع عن الديمقراطية في ضوء ما كنت تمر فيه اسبانيا في ذلك الوقت.

المواضيع التي تطرق لها انريكو دوسيل كثيرة وواسعة ولا يمكن تغطيتها في هذه المقالة. ولكن سنركز على عدد من القضايا التي تناولها دوسيل بصورة خاصة في مسيرته الفكرية البالغة حوالي 30 عاما. اهم هذه القضايا مناقشته لفكر الفيلسوف اليهودي الفرنسي امانويل ليفناس (Emmanuel Levinas)، انغماسه ودراسته لمجمل اعمال كارل ماركس بعد هجرة دوسيل الى المكسيك. حيث اصدر ثلاثة مجلدات عن ماركس، تناول فيها بالنقد وإعادة النظر في الماركسية منذ فرديرك انجلز حتى جارغن هيبرماس مرورا بجورج لوكاش، ولينين وروزا لوكسمبورج، وثم نظريته حول الكولونيالية والوضع الكولونيالي، ونقده للمركزية الاوروبية من خلال ابرز مفكريها. بالنسبة لدوسيل التجربة الحقيقية لفلسفة التحرير هو الوعي والكشف النقدي عن التجربة الضخمة للهيمنة. الهيمنة والتحرر الذي يقصدهما بين عالم الحداثة/ والاستعمار والعالم الثالث.

 متى ولماذا ليفناس؟

عندما قرات لأول مرة كتاب لفيناس الكلية واللانهاية (Totality and Infinity)، شعرت بعدم اليقين من كل ما تعلمته في السابق، بهذه العبارة يلخص دوسيل علاقته بأعمال لفيناس. بعد ذلك نظرا للمناقشة التي تمت ببنهم في باريس، استطاع دوسيل ان يقيم أوجه الاتفاق والخلاف في فكره مع فكر الفيلسوف اليهودي الفرنسي الكبير. وقد وصف هذه الخلافات بالاضطراب الكبير بين فكر لفيناس وفكر جيل من الفلاسفة الارجنتين الشباب ويمكن تلخيص هذا الاضطراب بالسردية التالية:

لفيناس قال لي ان التجربة السياسية لجيله هو وجود ستالين وهتلر(شخصيتان لا انسانيتان وهما نتيجة للحداثة الهيجلية الأوروبية). ولكن عندما اخبرته ان تجربة ليس فقط جيلي، ولكن تجربة نصف الالفية الأخيرة من تاريخ البشرية كانت غرور الحداثة الأوروبية. غرور منتصر استعماري، إمبريالي في ثقافته ومضطهدا لشعوب الأطراف، لفيناس يعترف بانه لم يفكر ان الاخر كان يمكن ان يكون الهنود الامريكان، والأفارقة او الاسيويين.. اذا كان لفيناس، باعتباره مفكرا يهوديا قادرا على ان يجد في تجربته الخاصة اثرا خارجيا لنقد الفكر الأوروبي في مجمله ( وخاصة هيجل، هوسرل، وهايدجر)، فانه لم يعاني من أوروبا في مجملها الاستعماري، وظلت نقطة مرجعية لفيناس هي أوروبا نفسها. ولكن بالنسبة لنا (الناس والمثقفين من أمريكا، افريقيا، واسيا) من اطراف العالم، الذين جربوا وعانوا من أوروبا، فالنقطة المرجعية لنا هو تاريخ الأطراف، انه تاريخ إيجابي، اما بالنسية "للعالم المتحضر" تاريخ الأطراف يعتبر متوحش، غير موجود، وغير متحضر. (دوسيل 1975, 8).  يتبع

***

علي الرئيسي

عندما تسقط شجرة في غابة نائية، ولا أحد هناك قرب الشجرة، فهل يُسمع لها صوت؟ اذا كنا نعني بـ "الصوت" اهتزاز الهواء المحيط بها، الجواب هو نعم، حيث ان سقوط الشجرة يؤدي الى اهتزاز الهواء حولها. ولكن اذا كنا نعني بالصوت الوعي بالضوضاء التي نسمعها عندما يتفاعل جهازنا الحسي مع الهواء المهتز، في هذه الحالة اذا لم يكن هناك أحد قرب الشجرة عند سقوطها فسوف لا يوجد جهاز حسي يتفاعل معه الهواء المهتز، وبالتالي لن يحصل أي وعي بالضوضاء ولا يُسمع شيء.

لذا فان الجواب على هذا السؤال القديم يعتمد على الكيفية التي نعرّف بها "الصوت". اذا كنا نعرّف الصوت كتجربة واعية عندئذ سوف لن يسبّب سقوط الشجرة أي صوت، ولكن اذا كنا نعرّف الصوت كـ "هواء مهتز" فان الشجرة الساقطة ستسبّب صوتا. وبهذا تُحل المشكلة.

المسألة الأساسية في السؤال هي ليس ان يُجاب على السؤال بسرعة ثم يُوضع جانبا، بل ان المسألة هي أبعد من ذلك، وتنطوي على تفكير عميق في مفهوم "الصوت".

فمن جهة، نحن نصنف "صوت" كعملية ميكانيكية توجد،"في الخارج" بدوننا. ومن جهة اخرى، نحن نعتبره كتجربة وعي خاصة، وجودها يعتمد علينا كليا. عندما نتحدث عن الصوت كتجربة خاصة للوعي، نحن ندرك انه لا يقتصر فقط على الأصوات. كل شيء نتعامل معه – كل شيء نراه، نسمعه، نشمه، نلمسه، نتذوقه – جميعها تعتمد على جهازنا الحسي، أي تعتمد علينا. بدوننا سوف لن توجد تجاربنا. وكما يوضح غاليلو الفلكي الكبير في القرن السادس عشر: "الذوق، الروائح، الألوان .. تكمن فقط في الوعي. عندما يزول الكائن الحي، كل هذه الصفات ستزول وتُمحى تماما".

لو انتزعنا بعيدا كل أحاسيسنا، واستُبدلت تجاربنا بالعالم بـ اللّالون، اللّاصوت، اللّارائحة، اللّاذوق. ماذا يتبقى بدوننا؟ سؤالنا الأصلي حول سقوط الشجرة هو سؤال صعب له معاني عميقة. بمعنى:

"اذا لم تكن هناك حياة واعية، هل سيكون هناك وجود للكون المادي؟ ردة فعلنا السريعة لهذا السؤال ستكون،"بالطبع نعم". لكن لو فكرنا مرة اخرى: اذا لم يكن هناك شيء واعي، عندئذ لا شيء سيُمارس او يكون موضوع للتجربة. سوف لن يكون هناك شيء يشبه ما نسميه "وجود". لا الوان، لا اصوات، لا روائح، لا اذواق، لا تلمّس للاشياء، لا معنى للزمان والمكان.

هل الوعي أكثر جوهرية من المادة؟

عند التفكير في هذا الموقف العام والغريب نجد ان عددا هائلا من المفكرين استنتجوا ان الوعي يجب ان يكون أكثر أهمية من "المادة" التي يتصورها الوعي. فمثلا، الفيلسوف جورج باركلي (1685-1753) في عمل له عام 1710 "مقال يتعلق بمبادئ المعرفة الانسانية" يناقش سخافة ان يكون هناك عالم موجود بشكل مستقل عن ذهننا الواعي . طبقا لباركلي "انه في الحقيقة رأي غريب سائد بين الناس في ان البيوت والجبال والأنهار وكل الأشياء المحسوسة، لها وجود طبيعي او واقعي متميز عن كونها مُدركة بواسطة الفهم .. لأن الأشياء المذكورة ليست الاّ أشياء نتصورها بالحواس؟ واننا لا ندرك أشياءً عدى  أفكارنا وأحاسيسنا، وانه من غير المنسجم والغريب ان يوجد أي واحد او أي مجموعة من تلك الأشياء اذا لم تكن مُدركة.

وفق هذه الرؤية، من السخف القول ان سقوط شجرة يسبب صوتا. بالنسبة لباركلي من الحماقة القول ان شجرة موجودة هناك بدون وجود ذهن يتصورها.

يؤكد باركلي ان جميع المعرفة تأتي من الادراك، ما ندرك هو افكار فقط ،وليست الاشياء في ذاتها، الشيء في ذاته يجب ان يكون خارج التجربة، لذا فان العالم يتألف فقط من أفكار وأذهان تدرك تلك الافكار، الشيء يوجد فقط بمقدار ما يُدرك. من هنا نحن يمكننا ان نرى ان الوعي يُعتبر شيء ما موجود بسبب قدرته على ان يدرِك. باركلي أنكر وجود المادة كشيء ميتافيزيقي، هو لم ينكر وجود الأشياء الفيزيقية كالبيوت والانهار،هو أنكر ما يسميه الفلاسفة المادة matter.(1)

يعرض باركلي حجته في إنكار المادة كالتالي:

1- نحن ندرك الأشياء العادية (بيوت، جبال، وغيرها)

2- نحن ندرك فقط الأفكار، ولذلك

3- فان الأشياء العادية هي أفكار.

ولكي نستطلع ايضا باختصار حالة التوتر بين التصور والواقع، يمكن النظر في تعليق للفائز بجائزة نوبل في فيزياء الكوانتم الفيزيائي ماكس بلانك في مقابلة معه عام 1931:

"انا أعتبر الوعي أساسيا. انا أعتبر المادة مشتقة من الوعي. كل شيء نتحدث عنه، كل شيء نعتبره موجودا يفترض الوعي".

***

حاتم حميد محسن

................................

الهوامش

(1) تعرضت مثالية باركلي للكثير من الانتقادات منها مثلا:

1- هناك مشكلة الموضوعية في تفكيره. اذا انا ادرك المنضدة فهي ستكون موجودة. واذا كان زيد يدرك المنضدة فهي ايضا ستكون موجودة. ما الذي يضمن ان ما نراه هو نفس المنضدة؟ باعتبار ان المرء لديه فقط أحاسيسه الخاصة به، لماذا نفترض ان هذه الاشياء يشترك بها الآخرون، او ان هناك عالم مشترك؟

2- في كتابه Sense and sensibilia يؤكد اوستن J.L.Austin بان: الشيء المألوف لنا هو اننا لم نشعر في يوم ما اننا بحاجة لتبرير إعتقادنا بوجود الأشياء المادية. في اللحظة الراهنة،مثلا، انا ليس لدي شك بأني ادرك الأشياء المألوفة مثل،الكرسي والطاولة والكتب والصور التي تزيّن غرفتي، وانا لذلك مقتنع انها موجودة. انا أعترف بان الناس احيانا تخدعهم حواسهم لكن هذا لا يقودني للشك عموما بان ادراكي الحسي لايمكن الوثوق به او انه يخدعني الآن.

3- الأنانية solipsism: وهي شكل متطرف للمثالية الذاتية تنكر ان يكون للذهن الانساني أي أساس صالح للاعتقاد بوجود أي شيء الاّ ذاته. حجة باركلي المبكرة – ان كل شيء يدركه المرء هو معتمد على الذهن – تشير الى ان لا سبب للاعتقاد بوجود أي شيء يتجاوز تجربة المرء. اذا كان شعار "لكي يكون الشيء موجودا هو ان يُدرك"، عندئذ ما هو السبب لديّ للاعتقاد بوجود الناس الآخرين والأشياء عندما لا ادرك أي منهم حينما أكون نائما مثلا؟ اذا كانت المثالية صحيحة، فهي تعني ان لا شيء يوجد ما لم ادركه انا – وان العالم لم يوجد قبل ان اولد، وهذا العالم غير موجود عندما أغلق عيني او أذهب للنوم. جواب باركلي هو ان الله موجود، ويدرك أي شيء حتى عندما لا أدرك انا ذلك.

 

تساءل (ذو القُروح المزواج)، وهو، كالعادة، لا يحاورني:

- تُرَى لماذا يتعصَّب بعض العَرَب اتِّباعيًّا لموروثهم من كتابة الياء والألف المقصورة بصورةٍ فارسيَّةٍ واحدة، دون سائر العَرَب؟!

- وما أدراني!  كأنَّك تنوي نقل حِوارنا من (نون النِّسوة) إلى (ألف الذُّكورة)!

- ماذا تعني؟

- كان حِوارنا عن النِّسويَّة العَرَبيَّة، فما علاقة ذلك باللُّغة والإملاء؟

- كُلُّ الثقافة العَرَبيَّة، في النهاية، لغةٌ وإملاء!

- سَلْ ما بدا لك، يا ذا القُروح!

- لقد أورثتْ تلك البلوَى الإملائيَّةُ العَرَبيَّةُ المعاصرةُ الكتابةَ والنطقَ معًا بلبلةً عجيبة. 

- بلبلة؟  كيف؟  قَرِّحنا!

- تسمع مذيع أخبارٍ يقول: "الرئيس فلان يَنْعِي الأمير فلان"، بدل: يَنْعَى، وترى امرأة اسمها (مُنَى) تكتب اسمها: مني!  لأنَّ حرفَين صارا يُكتبان برسمٍ واحد؛ فلم يَعُد يُفرَّق بينهما. 

- هذا وقته؟! الناس تُباد في (غَزَّة)، ولا يجدون من العَرَب نقطة ماء، وأنت مشغولٌ بنقطتَي إملاء؟! ثمَّ هؤلاء جهلة، والخطأ منهم محتمَل لهذا السبب أو لغيره.

- أوَّلًا، لا ينفصل التشظِّي اللُّغوي والثقافي عن التشظِّي الوطني والقومي. وثانيًا، ما زعمتَ من خطأ في دائرة العوامِّ: غير صحيح.  لقد بلغ هذا التخليط المتوارث إلى كتب التراث المحقَّقة، ومن كبار أعلام التحقيق، مثل (أحمد محمَّد شاكر، وعبدالسلام محمَّد هارون)!

- لا، هذه تستأهل جلسةً مطوَّلة.  أتحدَّاك أن تُثبت هذا الاتهام على مشايخ التحقيق العَرَب، وبسبب الياء المِصْريَّة التي يُصِرُّون على كتابتها ألفًا مقصورة، كما تزعم!  أتحدَّاك، ولقد سكتُّ عن ادعاءاتك طويلًا!

- دع عنك عبادة الأصنام! قلتُ لك: إذا كان "العَرَب ظاهرة صوتيَّة"، كما قال (عبدالله القصيمي)، فإنهم في الكتابة (ظاهرة إملائيَّة)!

- لا تلفَّ ولا تَدُرْ!  أين البيِّنة؟

- إليك حديث البيِّنة.  ستقرأ في كتاب "المفضَّليَّات"، (للمفضَّل الضَّبِّي)(1)، من قصيدة (الجميح الأسدي) بيته، وقد كَتبه شيخاك هكذا:

وأُمُّها خَيْرَةُ النِّساءِ عَلَي ...  ما خانَ مِنْها الدِّحاقُ والأتَمُ

- عَلَي؟!

- نعم، كتباها: "عَلَي"، بالياء المنقوطة؟!  وهي "عَلَى"، بالألف المقصورة. 

- طيِّب، هذا يُثبِت خلاف ما زعمتَ، وهو أنهما ينقطان ولا يُهملان!

- ينقطان ماذا؟  ينقطان المهمَل ويُهملان المنقوط؟!

- ليتك تنقِّطنا بسكوتك، يا ذا القُروح!  تُقيم الدنيا ولا تُقعدها من أجل نقطتَين؟!  أذكرتني بجيم جِدَّة!

- هي (جُدَّة) بالضم، كما قال (عبدالقدوس الأنصاري). وكذلك هي منذ أن سمَّاها العَرَب بهذا الاسم. لكن العَرَب المعاصرين بلغتهم وبأنفسهم يستهزئون!

- فلنَعُد إلى نقطتَيك!

- بل لنَعُد ، إذن، إلى عصر ما قبل الإعجام، أيَّام كانت تُكتَب العَرَبيَّة بغير نقط، ونستريح!

- كيف تفسِّر هذا، إذن؟

- يبدو أنَّ حِرص المحقِّقَين "الكبيرَين" على تلافي تلك الكتابة المِصْريَّة النمطيَّة، التي لا تُفَرِّق بين الألف والياء، قد أوقعهما في نَقْط الألف المقصورة أيضًا! 

- وهل النصُّ سليمٌ في غير "المفضَّليَّات" بتحقيقهما؟

- نعم، النصُّ سليمٌ في المصادر الأخرى. (انظر مثلًا: "الشاعر الجاهليُّ الجميح بن الطَّـمَّاح الأسدي: أخباره وشِعره"، شرح وتحقيق: محمَّد علي دقَّة)(2).  غير أنَّه لم يُشِر إلى ما في "المفضَّليَّات" من غلطٍ في الرسمٍ الإملائي.

- يبدو حِوارك في شأن النِّسويَّة أرحم من حِوارك في اللُّغة!

- العَرَب ظاهرةٌ إملائيَّةٌ هنا وهناك!  إملاء الموروث، أو إملاء الآخَر، (الغربي) طبعًا!

- عليك من القُروح ما تستحق!

- وعليك! المهم، اعلم أنَّ المغرَّر بهم وبهنَّ في هذا التيَّار، الذي يدَّعي النِّسويَّة، هم فرعٌ من ظاهرةٍ إملائيَّةٍ كذلك، وهم لا يقلُّون خطورةً عن المغرَّر بهم وبهنَّ في التيَّارات المضادَّة. فكلا الفريقين من الشباب الزُّعْر والشابَّات...

- الزُّعْر؟  هي وصلت إلى الزُّعْر؟!

- الزُّعْر: من الفِراخ، التي لمَّا ينبت ريشها بعد.  وفي بعض اللهجات المعاصرة يستعملون الكلمة بصيغة: الزُّعْران.

- ماذا عن الزُّعْر، أو الزُّعْران؟

- معظمهم جماعةٌ من مراهقي البلوغ والمراهقات- وأنا أذكُر لك هنا المذكَّر والمؤنَّث لكيلا تتهمني بالذُّكوريَّة- ومن أنصاف المثقَّفين وأنصاف المثقَّفات، ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة.

- ذو قُروحٍ يحدِّثنا عن التشدُّد!

- التشدُّد يتصاعد مع الزمن، ومن سُنن أتباع الأديان والأيديولوجيات ذلك التصاعد.  فأنت تلحظ هذا بالمقارنة بين صدر الإسلام، مثلًا، والعصر الأُموي، وظهور الخوارج فيه وغُلاة الشيعة وخصومهما، ثم في العصر العباسي جاءك تيَّار الزُّهد والتصوُّف والإعراض عن الدنيا وزينتها.  وتنامى ذلك مع الزمن، وصولًا إلى (داعش) وأخواتها في العصر الحديث، لا فرق في ذاك بين تطرُّفٍ فكريٍّ وتطرُّفٍ سُلوكي.  وكذلك في المسيحيَّة، تنامى التشدُّد، منذ عهد (السيِّد المسيح)، بسماحته وحياته اليسيرة الطبيعية، إلى عهود الرهبنة، والكاثوليكيَّة، وحركات التطرُّف القرعاء عبر العصور التالية.

- لا تُخرجنا من الموضوع باستطراداتك الجاحظيَّة؟

- أنت الذي تُخرجنا بتساؤلاتك المعتزليَّة!  قلتُ: إنَّ أولئك الزُّعْر هم ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة.  يدفعانهما دفعًا إلى تبنِّي أقصى الاتجاه المضادِّ، تنفيسًا عن نفسٍ غضبيَّة، وتحدِّيًا لخطابٍ خصمٍ، يُلغي منطق العقل والتمييز. فالحقائق ضائعة بين تطرُّفين، كلاهما سيِّءٌ ومُغْرِضٌ ولئيم. وحينما يكون الحديث عن النِّسويَّة فإنَّما هي في كثيرٍ من شطحها ونطحها: التطرُّف المضادُّ للذُّكوريَّة.  من حيث لا تُدرِك- أو هي تتعامَى كأيِّ أيديولوجيا- أنَّ سنن الله في الذُّكورة والأُنوثة ليست في بني الإنسان فقط، لتُجعل جريرتها على الرَّجُل أو المرأة، ويُرسَم لها سيناريو فيلمٍ (هنديٍّ) تاريخيٍّ، يُثبِت التآمر القديم على المرأة، وإنَّما هي فطرةٌ ظاهرةٌ في مخلوقات الله الحيَّة جميعًا، من حيوانٍ وطيرٍ ونبات. أم أنت قائل هنا: إنَّ تُراث مجتمع الدجاج، مثلًا، وعادات ذلك المجتمع وتقاليد أسلافه البالية- هي التي جعلت الدِّيك (الذُّكوري الفحل) يستولي على السُّلطة الاجتماعيَّة، وجعل الدجاجة تنسحب من ساحتها السياسيَّة، وتُسلم الحكم إلى الدِّيك؟! وأنَّ تَراجُعها ذاك هو ما جعلها تلتصق بالدِّيك حاميًا، وتقلِّص دورها في العهد الأبويِّ الديوكيِّ، إذ تربَّعت الديوكيَّة على العرش؟ وأنَّ ذلك هو ما أملى على الدِّيك أن يقترن بأكثر من دجاجة، وأن تكون له السيطرة الأُسَريَّة؟! وقِسْ على ذلك دور الجنسَين لدَى مخلوقات الله الأخرى، ومن ثَمَّ قارن بالسُّلوك الذُّكوريِّ الأَبويِّ في شؤون أُسَرها ومجتمعاتها. وذلك كالذئاب، التي تتولَّى ذُكورها مسؤوليَّة كسب الطعام لإناثها وصغارها، وكأنواع من القرود، تفعل مثل ذلك.(3) وعليه، فإنَّ تلك الأُحدوثة القديمة التي تُروَى عن التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشري إلى المجتمع الزراعي، هي أُحدوثةٌ مُسَلِّية، لكنها تتناقض مع الحقائق الحيويَّة البيولوجيَّة التي هي الأساس، كما رأينا، في وضعيَّة الأُنثى والذَّكر، أكثر من أيِّ عوامل أخرى.

- يا حبيبي، يا أبا القُروح، قياسك باطل الأباطيل!  كيف تقيس عالَم الإنسان على عالَم الحيوان؟!  نعم هناك أشياء مشتركة بين العالَمين، لكن الإنسان العاقل يسعى إلى الترقِّي، وتجاوز بعض الفِطَر البدائيَّة.  ولولا هذا لبقي الإنسان حيوانًا، كالقرد، والذئب، والدِّيك!  أيُّ منطقٍ هذا؟

- في المساقات المقبلة سأُعلمك أيَّ منطقٍ هذا!

...  ...  ...

"وافترقْنا،

غابةً تكتبها الأرضُ وترْويها الفصولُ

أيها الطِّفل الذي كنتُ، تَقَدَّمْ!

ما الذي يجمعنا الآنَ؟ وماذا سنقولُ؟"(4)

***

أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1)  (1979)، بتحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 43/ 13.

(2)  ("مجلَّة جامعة الملك سعود"، 1413هـ= 1993م، م5، الآداب (2)، ص ص469- 498)، ص489/ 13.

(3)  يُنظَر مثلًا، موريس، ديزموند، (1984)، القِرد العاري: دراسة للتطوُّر العضوي والجنسي والاجتماعي للإنسان، ترجمة: ميشيل أزرق، مراجعة: محمَّد قجة، (اللاذقيَّة: دار الحِوار)، 22، 32- 33.

(4)  أدونيس.

نحن لا نهاجم الاديان ولا نرفضها، لكننا نرفض ان يُحتكر الدين لصالح مؤسساته الباطلة والتي لم يعترف بها النص المقدس، لتتحكم به ضد البشر حتى جاز لها شرعية التصرف باموال الدولة وانسانها لخدمتها دون خوف من الله والناس، بعد ان غلفت كل باطل بغلاف الدين.فالدين ليس سلعة تباع وتشترى كما عند اصحاب المذاهب الباطلة حين جعلوا موارد الدولة مُلك سائب لهم دون قانون، فكذبوا على الله والدين بعد ان سرقوا الدولة والمواطنين، بل هو قيم وعدل بين البشرلا خيانة وتدليس، نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها، ولا نحترم من اتخذ من الدين وسيلة لقتل الوطن ككل وبيعه للأخرين.

الدين، أي دين جاء نتيجة طبيعية لوعي الأنسان لتنظيم حياته الضائعة بين الغابة والصحراء، وبين القوة والضعف، وبين الحق والباطل، أدركها الأنسان منذ ان كان هائما على وجههة لا يلوي على شيء ولا نصير له في محنة التيه، في مواجهة من يهاجمه او يقتله او يستولي على حقوقه، من هنا بدأ يفكر بقانون يحميه، ولأن القانون لا وجود له في تصوره وواقعه في ذلك الزمن البعيد، ألتجأ الى المقدس الذي لايُخرق، فكانت النار المقدسة عنده عقيدة دين ثم تطورعبر الزمن، الى دين مشخص، للطاعة والتنفيذ.

أما الدولة، فهي تختلف عن مفهوم الدين كونها تنظيم سياسي يمثل مؤسسة أنسانية لتأمين الامن العام والنظام والسلطة، تقوم على القانون والقوة معأ، ولها جمهورها المختلف في العادة والتقليد والمعتقدات الدينية والتقاليد، وكيانها أعتباري تعاوني، اركانها الأرض، والدستور والقانون والقضاء لتأمين العدالة فيها، ولكل دولة نظامها الخاص بها، هنا الدولة تتناقض مع مفهوم الدين في توجهاته العقائدية وتطبيقاته الالزامية كون النص الديني ثابت وقانون الدولة متحرك، لان لكل دولة فلسفتها الخاصة بها، من هنا تبدا الجدلية بين الدين والدولة لصالح الانسان، وليس لصالح سلطة الدولة ومؤسسة الدين.

من هذا المنطلق بدأت تختمر في ذهن الأنسان الرؤية المفهومية بأطارها المرجعي فكان معيارها جملة مفاهيم ُيتفق عليها لا يجوز اختراقها، اساسها الحرية وحق الحياة والاختيار وحقوق الانسان، وبعد تجربة لعشرات الألوف من السنين بدأ الانسان يكتشف عقله ليصقله وترهف ملكاته ليصبح قادرا على عقل الأشياء أي ربطها بعضها ببعض حتى بدأ يدرك الظواهرالطبيعية وربطها ببعض حين بدأ يفكر في النجوم والشمس والقمر والمطر، من هنا خطا الانسان أولى خطواته في طريق الحضارة والتقدم، لذا يقول العلماء: "ان العقل نفسه أول مخترعات الانسان".

وبمرور الزمن استطاع الانسان ان يتصرف بعقله فتغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها وتركها تشكله كيف شاءت، حتى استطاع ان يزيد من ادراكه العقلي والفكري ليصل الى ما وصل اليه اليوم، فبدأت النظريات تتحدث عن الانسان والبيئة والقوى المؤثرة عليه في اختلاف الطبائع والاختلافات البدنية حين عزتها الى الظروف المناخية والجغرافية، لكن يبدو ان بعض النظريات قد ذكرت بأن البيئة وحدها لا تكفي أيضاً دون المحرك الاساس هو العقل لربط الظواهر وتجسيدها في حقائق ملموسة، كما في نظرية أرنولد توينبي"العقل والانسان" ومقارناته لمفردات الحضارات المختلفة.

و بتطور العقل ووصوله الى مرحلة النضوج الفكري تهيأ لأستقبال أول الديانات، - فرق بين العقل والفكر، فالعقل هو ادراك الاشياء وفهمها والربط بين الظواهر، اما الفكر فهو استخدام الذهن العقلي استخداماً منظماً، بينما المخ هو عضو عضلي يشترك فيه الانسان والحيوان، ولا علاقة له بالتحديد العقلي في اتخاذ القرار- فكانت اولى الديانات هي ادعاءات الأنبياء والرسل كما حدثتنا عنها القصص القرآنية الواقعية كما ذكرت في القرآن " نحن نقص عليك نبأهم بالحق، الكهف 13". هذه القصص التي اعطتنا خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريع والسلوك.

وعندما خلق الله البشر منحه الحرية والأمان والسلطة العادلة على نفسه والأخرين ووصاه ان لا يخترقها "أعدلوا ولو كان ذا قربى" شرط قرآني مقدس لم يلتزم به المسلمون، وبأختراقه حدث الخلل، هذا النمط من العلاقة مَثلها النبي ابراهيم والتضحية بأبنه أسماعيل من اجل العهد والوفاء، ولكن بما يؤمر"أفعل بما تؤمر" وليس بأرادتك، فحياة الانسان مُلك له وليس لأبيه او الاخرين، هذه الظاهرة الآلهية الطبيعية الفريدة انهت تحكم الأنسا ن بالأنسان فأنهت أضاحي البشرية التي كانت متبعة آنذاك للبشر، واستبدلتها بالأضاحي الحيوانية، كما كانت عند المصريين الذين يقدمون أجمل فتاة للنيل غرقا كل رأس سنة.

افرزت هذ الظاهرة ظواهر أخرى كظاهرة طوفان نوح وغرق ابنه دون قبول نجدته لكونه كان ظالماً "دعه يا نوح يغرق لأنه ليس من أهلك، هود 46، "لذا كان لابد من الخلاص من الظلم والخطأ بما يعتقد مثل: الحقد والغضب والفوضى والعذاب والموت والتجربة والقلق، هذه الاوامر الآلهية التي لم تلتزم بها مؤسسة الدين الى اليوم، وتحدثت القصص عن الصداقة والوفاء، والخيانة والتوبة والغفران، بأن لها معايير أنسانية يجب ان لا تُخرق ولا تُخان، قيم ومعانٍ نقلت من التوراة الى مزاميرداوود، ومن الأنجيل الى القرآن، لذا اوصى الله محمد ألنبي ان يقرأ تلك الوصايا ويتعلمها لينقلها للناس بأمانة النص ليكون منها وحدة الدولة والدين يقول القرآن: " ويعلمهُ الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والاأنجيل، آل عمران 48".اذن اين الاختلاف في الانتماء الديني الذي اعتدناعليه.هذا مسلم وذاك كافر، واين التطبيق في مجال الحق والعدل، ؟ ولاشيء.

هذه الوصايا المتماسكة جاءت لسد الفراغ الكبير في حقل المعرفة الانسانية التي اوردها قانون حمورابي والوثائق الاشورية حتى ان بعضٍ من نصوص حمورابي جاءت في القرآن (السن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص)، لذا جاء هذا التوجه الطبيعي بوضوح العبارة، ورشاقة الصياغة الادبية والأمانة لروح النصوص الاساس، ودقة المعاني، وحسن الأداء، لذا فالقدسية جاءت فيها أعتبارااتوجهات آلهية يؤمر الأنسان بأتباعها من أجل حياة العدالة الأجتماعية دون أكراه وليست جبرية "لا أكراه في الدين"، اذن كم كانت الحرية مقدسة عند عظماء الانسان وخالقهم الآله، او طبيعة الكون التي حرصت على العدل والحقوق لتعظيم الاديان في مجتمع الانسان، لكن الانسان عبر الزمن قد خان الامانة ولم يلتزم بقيم الخالق العظيم.فلا تقل هذا مقدس وذاك ناكر لقرار الرب العظيم.

هذه التوجهات بحاجة الى تطبيقات فلسفية معرفية قائمة على التشريع والاخلاق والتاريخ تقدمها نظرية التطور حيث تكمن عقيدة التوحيد، وقانون تغير الاشياء، من هذا التوجه الرباني وضع منهج جديد في اصول التشريع والواجبات الانسانية وحتمية عدم تجاوزها في حكم الناس، لذا كانت حرية التعبير عن الرأي وحرية الاختيار في العقيدة الدينية هما اساس الحياة الانسانية على الارض وليس الأكراه، ولا غفران لمن يخترقها أو يتجاوزها بالمطلق، فالسلطة والقانون يحميان العدالة ولا يحصنان الحاكم من الخطأ كما هي اليوم.من هنا فأن الدولة والدين يقعان ضمن ثنائية الارتباط وجدليتها. فكيف الحل، ؟

الحل يكمن بضرورة دراسة التراث دراسة رأسية حقيقية لا وهمية، لمعرفة الاديان وقيمها، والانسان وحقوقه والابتعاد عن محتكريها (مؤسسة الدين والفقهاء المزورين للنص والمفسرين له واصحاب الحجيث الذي رفض الرسول تدوينه كي لا يختلط بكلام القرآن.على منهجهم الناقص في معرفة اساسيات اللغة العربية قبل أكتمال تجريداتها )التي شوهت قيمها بأحتكارهم لها، وأحتكارالسلطة والمال واعتبارهما ملك سائب لهم دون قانون، وفي الاخرة جنة وحور عين لهم ايضا ويبقى الخالق هو الذي يظلم الانسان، ولاندري من رأى بعينه التطبيق، في وقت يقول القرآن على لسان الأنبياء: "لوكنت اعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188

اراد الدين ان يضمن للانسان مزاياه التي تؤهله لقيادة الانسان في الحياة ليمتاز بخلق متين وصدق وصفاء نية وبعد عن الخداع وليس لهلمة التقديس، التي فرضتها الدولتان الاموية والعباسية وجعلت نظرية الملك العضوض قاعدة القوانين عندهما.فكم كان الالتزام بها رخيصاً، بعض الشعوب التزمت بها وانشأت القانون والدستور (شعوب القانون نموذجاً) والبعض الاخر في غالبيتها حولته الى تخريف لحية وسبحة وعمامة دين فأستحقت بامتياز بُعدها عن التطبيق، ونحن منها بعد ان حولنا الدين الى سلعة تباع وتشترى بيد ولي الامر دون الناس او الجماهير حين جعلنا ولي الامر بمثابة الله والرسول "أطيعوا الله والرسول وآلوا الامر منكم "وآلوا ليس جمعا لولي ولا من مادته.حتى وصلنا الى الدرك الاسفل في الانحطاط والتخريب في قيادة الدولة وتطبيق القانون حينما زورنا حتى النص في القراءة والتطبيق.

واخير نقول لن ننجوا من كارثة استغلال الدين من قبل سلطة الدولة ومرجعياتها الا بالانتباه الى وظيفة الكلام في صنع الفكر، ومعرفة النجدين في التطبيق، اي معرفة الخير من الشر لتحصين النفس من خطأ الاقدار ليبلغ الانسان اقصى نموه العقلي في الحد العام، لذا فالاهتمام يبدأ من الصغر لينمو مع الاستقامة وهنا يلعب المنهج المدرسي دور المرشد العام في التكوين، بعدها سيصل الانسان منذ الطفولة الى سعة الخيال وعدم معرفة الحد الفاصل بين الخيال والحقيقة فينمو الذهن وتتجسد مَلكة الحقيقة عنده، حتى يصبح التخيل منظما ومرتبطا بالواقع المدرك حين يبدأ العقل بربط الظواهر للاكتشافات العلمية التي يتحول صاحبها الى اصحاب التطور والدعوات الى حقوق الانسان بالقانون، هنا تظهر رجالات القيادة المرتبطة بالحقوق وبناء الدولة والانسان جراء عدم المبالات بالمكاسب الشخصية بالاستعداد للتضحية في سبيل الوطن والاخرين، لا تخريفات المتدينيين، في الافضلية والمعصومية وغيرها من اساليب التخريف.فلا معصوم حتى الانبياء لقوله تعالى: "يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك فان لم تفعل فمابلغت رسالته والله يعصمك من الناس المائدة 67".فالعصمة هنا في الرسالة وليس في شخصه الكريم.

وتبقى البيئة الجغرافية التي ينشأ فيها هذا الوعي من الانسان لها اثر كبير في الشكل الحضاري الذي ينِشأه.لأن الانسان يأخذ مادته الحضارية مما حوله، اي مما ورثه من بيئته التي ربت له عقله، حتى يستطيع التغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها، لذا شق الانسان الواعي صعوبات العصور وتحول الى الوعي التطوري الكبير.

يقول حكيم: " من التوثيق حفظ التجربة للتغيير نحو الاحسن فالحياة وفق صيرورة الزمن تتغير للاحسن ولا نص يبقى ثابتا، ومن لا يقبل بنظرية التاريخ يبقى ملتحفاً بعباءة التخلف بين البشر، لذا نرى ان الفاشلين في التطور يصنعون من انفسهم رجال دين.

***

د.عبد الجبار العبيدي

تعايش سكان المغرب مع السلفية، لكن بمنطق مغاير للشرق. رضع المغاربة من ثدي الثقافة الأندلسية، وحقق السبق والتميز في مجال العقلانية الدينية. الإسلام المغربي إسلام فقهي بكل المقاييس. لقد عاشت البلاد تجربة تاريخية خاصة. تَنَاقُح القيم الإسلامية مع الفكر الأندلسي أنضج نسقا فكريا متميزا في مجال التفسير والتأويل التقدميين للنصوص الدينية.

لقد عاش المغرب الأقصى تطورات مختلفة في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. الانطلاقة الحقيقية لهذا المسار وتطوراته، يقول الدكتور عبد الله العروي، مرتبطة بالتأثير القوي لكل من ابن رشد وابن خلدون وابن حزم. لقد رسخ هؤلاء الثلاثة بجهودهم ودعم تلامذتهم نظرة جديدة في التفسير والتأويل للنص القرآني. الرصيد الفكري الإبداعي لكل واحد منهم لم ينضب أبدا، بل ترعرعت رمزيته ودلالاته وأبعاد معانيه مع مرور الزمن. لقد بقي فوارا بغذائه العقلي كما وكيفا وقيمة، ومتميزا بغدده الجينية وإفرازاته الطبيعية المحفزة على التغيير، إلى درجة مكن المغاربة من اكتساب المناعة المطلوبة من حساسية الظروف المحيطة ونزوعاتها السيئة وسلوكياتها الغير مرغوبة. بالنسبة لهم، يبقى النص الفقهي والديني دائم الإبهام وفي حاجة حتمية لتأويل التأويلات في كل زمان ومكان سعيا للاقتراب من الحقائق المطلقة.

الفكر الأندلسي، يقول العروي، يميز بجلاء بين الربانيات التي تستوجب أخذ النص بوجهه الظاهر بهدف تقوية الإيمانيات في المجتمع، والمعاملات المبنية على المصلحة الجماعية. لقد تأسست وترسخت في الأذهان فكرة تميز الفكر الظاهري بالنسبة للإيمانيات (الظاهر في العبادات) منذ الفترة الذهبية التي عاشها الفكر الأندلسي الممتدة في الزمن من ابن حزم إلى ابن عربي. إنه الاعتبار الذي جعل المغرب يختار المذهب المالكي كأساس لعقيدة المغاربة، معانقا بقناعة ثابتة المنطق الذي يجمع بين ابن خلدون وابن رشد. إنها التراكمات التي جعلت المغرب بلدا مستقرا وطامحا لاستتباب الأمن والسلام في العالم، ودولته لا تكل ولا تمل في السعي لتجديد طموحاتها لضمان تقدمية قيم قيادتها لمشروعها السياسي على أساس المصلحة العامة والديمقراطية والحداثة. أكثر من ذلك، تعتبر المملكة المغربية بلدا رياديا في تعاطيها مع العلمانية بدون أن ترتاب أو أن تتخوف منها.

الاستثناء المغربي أبرزه العروي عند ترجمته لكتاب مونتسكيو الشهير "تأملات في تاريخ الرومان". لقد أثارته وجذبته فكرة محورية هامة وبارزة في مضمونه، مفادها أن الخلط بين السياسة والدين كان السبب الرئيس في تأخر المسيحية البيزنطية عن الإمبراطورية الرومانية. في الأولى، عاشت مجتمعاتها تحت سلطة ومنطق الكنيسة الخانق للعقلانية والمبادرة، وفي الثانية كانت للبابا سلطة دينية منذ القدم بعيدا عن السلطة الدنيوية. وهو يحاضر طلبته طارحا سؤالا ذكيا للغاية في شأن "الخلط بين السياسة والدين وما ترتب عنه من تقهقر وتخلف في التاريخ" بدون أن يحدد الحقبة التاريخية المعنية (قولة مونتسكيو في شأن واقع الإمبراطورية البيزنطية)، لم يتفاجأ العروي من ردود وإصرار إجماع الطلبة كون القولة تتعلق بالخلافة الإسلامية.

لقد أبرز العروي من خلال ترجمته لكتاب مونتسكيو أن المشكل ليس في الفرق بين المسيحية والإسلام، بل يتعلق الأمر بالفرق بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، مثلما هناك فرق واضح بين الإسلام الشرقي والإسلام الغربي. إنها المعطيات التي جعلت تطورات العقود الأولى من مطلع الألفية الثالثة مختلفة جذريا بين المنطقتين. لقد سلك المغرب طريقا خاصا زمن ما سمي بثورات الربيع العربي. عمت الاحتجاجات ربوع المملكة تحت تسمية "حركة 20 فبراير"، وتوجت بخطاب 9 مارس والمصادقة الشعبية على دستور 2011 بنسبة قياسية.

إن ما وقع بالمغرب هو اعتراف ضمني ومعلن بطبيعة السياسة ومقومات التعامل السياسي. لقد تم توجيه الميول الشعبي إلى تكريس وإبراز الفرق بين العام والخاص بشكل سلس. لقد أفرزت التطورات ارتباط الماضي بخصوصياته ومتطلبات الحاضر وتحديات المستقبل. لم تختلط الأمور في أذهان المواطنين المغاربة. لقد عبر الحراك بوعي شديد أن منطق الدفاع عن المصلحة العامة (المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) لا ارتباط له بالدين (منطق الإيمان الفردي)، بل دوافعه كانت ولا زالت سياسية محضة تتجلى في الدفاع على مصلحة الفرد والجماعة وحقوقهما الاقتصادية والاجتماعية.

وبذلك يكون العروي قد ميز بجلاء في نفس الوقت بين مسيحية الغرب ومسيحية الشرق، وبين إسلام الغرب (السلفية المغربية) وإسلام الشرق (السلفية المشرقية). التركيبة الاجتماعية والتجربة التاريخية في المغرب الأقصى مختلفة تماما عن تجارب محيطها الجهوي. عاش المغرب تجربة دولة بتركيبة اجتماعية بإرث أندلسي، وفقه يتوخى المصلحة العامة الراهنة. الشعب المغربي تشرب من تراثه الحداثي، وتقوت مناعته السياسية، إلى درجة جعلته قادرا على تفنيد ومواجهة النزعات المشرقية المتزمتة. أما ما روجه ابن تيمية في حديثه عن ابن تومرت ودعوته للخروج عن السلطة فهو مجانب في مجمله للموضوعية، بل يمكن اعتباره استحداثا بدواعي ظروف معينة. لقد كان العرب في تلك الفترة تحت سيطرة المماليك الأتراك. اختلاق هذه الدعوة لم يكن سوى وسيلة لإحراج السلطة الأجنبية. الجهاد كأساس لشرعية السلطة يكون خارج الوطن الإسلامي. ما أثاره ابن تيمية لم يكن سوى سلاحا سياسيا لإحراج الطغمة التركمانية.

المغربي، بثقافته التاريخية ومعطياته السوسيوثقافية، لا يمكن له أن يعتبر بتاتا الأفكار والقرارات المخالفة للمصلحة الجماعية فرضا دينيا يستوجب الجهاد. إنه يعي تمام الوعي أن النص الديني الرباني لا يمكن له بتاتا أن يفرض شيئا ليس في مصلحة المسلمين. أشار العروي في هذا الصدد إلى أحداث من تاريخ المغرب القديم. لقد واجه الفقهاء، بشجاعة وحزم، الدعوة إلى تغيير المنكر باليد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). لقد انجلت هذه السحابة بسرعة وعم الاقتناع أرجاء المملكة بكون تغيير المنكر باليد لم يكن يوما فرضا دينيا يلزم الجميع، بل كان دائما من المسؤوليات الأساسية التي تتحملها السلطة العمومية المعترف بها شعبيا.

استحضارا لمقومات المشروع الفكري النهضوي لعبد العروي يمكن القول أن المغرب قد خطا خطوات هامة في مسار الحداثة والديمقراطية والتنمية الذاتية. لقد صنفت الدعوات المشرقية لتغيير المنكر باليد في خانة الآفات المؤدية إلى الفوضى والفتنة. السنة والجماعة في الإسلام، كما تمارس بالمغرب الأقصى، بنيت على أساس اعتبار الفوضى أصل كل داء مجتمعي. لقد تشبع المغاربة بفكرة كون الإسلام نظام ولم يكن يوما فوضى. لقد أصبح الإسلام كما ترعرع وترسخ بالمغرب مرادفا للأمن والسلم والنظام (الكون نظام، ولا بد أن يكون المجتمع نظاما). الفكر السني المغربي أَوَّلَ قوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" تأويلا حداثيا، إذ اعتبرها دعوة صريحة للحيلولة دون قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، والأخذ بعموم لفظ الآية، وبالقياس الجلي، باعتماد القاعدة الأصولية القائلة :" العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب". لقد نهى الله عز وجل الإنسان ألا يأخذ فيما يهلكه. للسلف في الشرق في معنى الآية أقوال، والحق والدلالة النافعة بالمغرب هما مستنبطان مما قاله ابن جرير الطبري: أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا.

وفي الأخير، لا يمكن ألا يتبادر إلى ذهن المغاربة رهان من الرهانات الكبرى التي يجب تصنيفها ضمن التحديات الجوهرية وكأولوية أولويات الدولة الإستراتيجية. فمقابل هذا الامتياز الثقافي المرسخ والمحفز للتنمية، تبرز الحاجة إلى خلق التحولات الكبرى المطلوبة في منطق ممارسة السلطة في مجال إنتاج النخب واستتباب الشفافية والاستحقاق في الأنشطة الرسمية والمجتمعية على مستوى كل الوحدات الترابية بشقيها التمثيلي والإداري.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

ـ ان الشعوب مثل الافراد، شخصيتها وعقليتها نتاج بيئتها وتراكم تاريخها وتجاربها، منذ ميلادها وحتى حاضرها. يستحيل على الشعب كما الانسان، الغاء بيئته وتصفير تاريخه وذكرياته ولغته وعقيدته وعاداته، لتبني شخصية شعب آخر من بيئة وتاريخ مختلفين تماما.

نشوء العلمانية الاوربية

من المعلوم ان جذور (العلمانية: أي فصل الدين عن الدولة والقوانين، وعن التعليم والتثقيف الرسمي) في اوربا الغربية تعود الى ما يسمى بـ (عصر النهضة: اواخر 1400م) ([1]) والخروج مما يسمى بـ (القرون الوسطى المظلمة). إذ بدأت النخب الغربية بالتمرد البطيئ على (سلطان الكنيسة والثقافة المسيحية) التي سيطرت على اوربا خلال الف عام: تقريبا بين (400 م و 1400م).

وكانت الضربات المتتالية التي اضعفت الكنيسة الكاثوليكية المسيطرة، قادمة من الشرق الاسلامي حيث الازدهار الحضاري الكبير الذي ما كفّ وهجه عن بلوغ اوربا الغربية بمختلف الوسائل: العلاقات التجارية والامارات الصليبية والاندلس وصقلية العربية. وقد بلغ ضعف الكنيسة ذروته مع (الانشقاق البروتستاني:1517 م) الذي جعل الكنائس الجديدة تابعة لسلطان الملوك، على عكس (الكاثوليكية) التي كانت تفرض سلطانها على الملوك والشعوب. اعقب ذلك اندلاع حروب الابادة بين الطرفين: (حرب الثلاثين: 1618ـ 1648) التي قضت على ثلث سكان اوربا الغربية، واضعفت عموم المسيحية بصورة كبيرة.

ثم توالت التمردات والثورات (التحديثية) من قبل النخب المثقفة والسياسية مع تنامي الطبقات المدينية الرأسمالية والعمالية، حتى عصرنا الحالي، حيث اصبح تأثير المسيحية محددا في بعض المجالات الاجتماعية والمناسبات الدينية والفولكلورية، بالاضافة الى قيمتها السياحية في ميراث المعمار الكنسي وكلاسيكيات اللوحات والموسيقى الدينية.

الحال في العالمين العربي والاسلامي

وقد حاولت النخب الحداثية عندنا منذ القرن التاسع عشر تكرار ما حصل في اوربا الغربية، متصورة بكل حسن نية انه يكفي ان تقوم الحكومات باقرار: (عزل الاسلام وحصره في الجوامع والصوامع) و (فرض القوانين والثقافة والتربية العلمانية والحداثية) المستوردة نصا من اوربا. تعتبر تجربة (كمال اتاتورك: 1923ـ 1938) في تركيا اولها واهمها، ثم بصورة اقل تجربة (رضا شاه: 1925ـ 1941) في ايران. والطريف ان هذين البلدين الرائدين في العلمانية (تركيا وايران)، منذ عشرات السنين تسيطر على دولتيهما النخب الاسلامية!؟ (التوضيح في الاخير)

اما بالنسبة للعالم العربي، فرغم السيطرة شبه المطلقة للاحزاب العلمانية والملحدة على الحياة السياسية والثقافية منذ اوائل القرن العشرين وحتى اواخره: (وطنيون وقوميون وماركسيون وليبراليون.. الخ) الا ان جميع الدولة العربية وبدرجات تطبيقية وتعبيرية مختلفة، تعلن ان (الاسلام دين الدولة والمجتمع)، بالاضافة الى التنامي الكبير لتأثير الثقافة والتقاليد الاسلامية في جميع نواحي المجتمع، رغم جميع الجهود الاعلامية والتثقيفية (المدعومة غربيا) التي يبذلها انصار العلمانية والحداثة التغريبية!!

الاسباب التاريخية الحضارية المتجاهلة

بسبب غياب النظرة (الواقعية التاريخية) لدى (نخبنا الحداثية) واعتقادهم التبسيطي بأمكانية تقليد اوربا، تجاهلوا هذين الاختلافين الكبيرين والحاسمين في (الدور التاريخي والميراثي) لكل من (المسيحية في اوربا) و (الاسلام في بلدانا):

الحقبة المسيحية الاوربية ارتبطت بالظلامية والانحطاط

ان عصر سيطرة المسيحية وكنيستها على اوربا التي دامت الف عام (القرون الوسطى: حوالي 400 ـ 1400م)، لم يكن عصر (حضارة وقوة) بل كما يعتبرونه هم: (عصر تخلف وظلامية). إذ سيطرت المسيحية على اوربا عقب نهاية حقبتها الحضارية والامبراطورية (اليونانية ـ الرومانية: حوالي 500 ق م الى 300 م)، وبداية حقبة انحطاطها وخرابها بعد نهاية (روما) وغزوها المستمر من قبائل بدو الشمال (الجرمان: الالمان والفيكنغ) وسقوطها النهائي عام (476 م).

على عكس ما اشاعه العلمانيون الاوربيون، لم تكن (الكنيسة) سببا للانحطاط الاوربي، بل هي اتت لتهدئة وحشية القبائل البرابرية من خلال كسبها للمسيحية ومنحها بعض الروحانية والمسالمة. أي ان المسيحية الاوربية لم تكن هي سبب (ظلامية القرون الوسطى)، بل كانت اشبه بـ (العلاج التخديري) لتخفيف معانات الهمجية، إذ كانت هي (الطبيب الروحي) وليس (سبب الوباء). ([2])

لكن كما يبدو ان هذا العداء للمسيحية من قبل المفكرين التنويريين الغربيين في عصر النهضة وحتى الآن، نابع من شعور باطني عميق بأن هذه (المسيحية: ديانة شرقية روحانية) ولا تمثل عقليتهم وميراثهم (اليوناني ـ الروماني). لهذا اعتبروها سبب انحطاطهم. وكانت عملية (التمرد على الكنيسة وعموم المسيحية) تتجسد بهاتين الخطوتين المتداخلتين:

1ـ عملية الابدال: أي ابدال المسيحية بالميراث الاوربي (اليوناني ـ الروماني) الذي كان كان عهد امبراطوريات وحضارة عالمية كبيرة. ثم ان هذا الميراث الاوربي القديم يمثل شخصيتهم ومزاجهم، فهو (قليل الروحانية) كذلك (وثني متعدد الآلهة)، و (سلطته شخصية عائلية) لا تتدخل بسلوك المجتمع ونشاط الدولة. ثم خصوصا ان هذا الميراث ممزوج مع ثقافة (المنطق والواقعية الارضية والعملية) التي كان قد برع بتطويرها وتوضيحها (العقل اليوناني ـ الروماني).

2ـ تشويه وتظليم كل تاريخ الكنيسة: بتضخيم خطاياها ومسح دورها الايجابي: الروحي والتوحيدي والثقافي والمعماري، واعتبارها السبب الوحيد للتخلف والظلام السائد.

هاتان العمليتان: (الابدال والتشويه) لا زال العمل بهما مستمرا منذ اعوام 1400 م الى الآن. حتى تحولت عموم (المسيحية الاروبية) الى نوع من الفلكلور المناسباتي والسياحي.

الحقبة العربية الاسلامية ارتبطت بالحضارة والامجاد

على (النقيض التام) من حقبة (المسيحية الاوربية)، فأن (الاسلام) ظهر في (نهاية الحقبة الظلامية) التي كانت تسود الشرق منذ اكثر الف عام قبل الاسلام. أي منذ القرن السادس ق.م وبدأ انحدار وتساقط دول وحضارات الشرق الاولى: المصرية الفرعونية والنهرينية ـ العراقية، والكنعانية الشامية، ثم آخرها (القرطاجية) في شمال افريقيا ([3]) والخضوع للاحتلالات الاجنبية: الايرانية واليونانية ثم الرومانية ثم البيزنطية، خلال اكثر من الف عام وحتى الفتح العربي الاسلامي، أي بين حوالي (500 ق.م و 600 م)

أن (ظلامية الشرق) اخذت تنتهي مع (الاسلام والعربية)، في نفس الحقبة تقريبا التي بدأ فيها الانحطاط والظلام في اوربا المسيحية. حيث حقق (الفتح العربي الاسلامي) اكبر الانجازات التاريخية التي كانت منتظرة من قبل شعوب الشرق:

1ـ الاسلام حررهم من احتلال اجنبي دام اكثر من الف عام. بل شيد لهم اكبر امبراطورية عالمية (اموية ثم عباسية وفاطمية واندلسية، وغيرها) هيمنت من الاندلس حتى الهند. وتمكنت هذه الامبراطورية من اشراك جميع الشعوب في ادارتها وحتى قيادتها، إذ يكفي (نطق الشهادة) حتى تنتهي كل الفروق العرقية واللونية واللغوية. بل حتى الجماعات غير المسلمة مثل (اليهود والصابئة وخصوصا المسيحيين) قد شاركوا بصورة فعالة في صنع الحضارة وادارتهم لطوائفهم.

2ـ الاسلام تمكن خصوصا من توحيد شعوب شرق البحر المتوسط، السامية ـ الحامية: (العالم العربي الحالي)، دينيا وثقافيا وحتى لغويا. إذ قدم لها عقيدة نابعة من ميراثهم الروحي الاصيل: (الابراهيمي: اليهودي والعرفاني المسيحي)، النابع بدوره من الميراث الديني الاول السابق: (العراقي ـ المصري ـ الكنعاني). كذلك قدم لهم (اللغة العربية) التي هي ايضا حصيلة التطور والتمازج اللغوي (السامي ـ الحامي) بين شعوب المنطقة عبر آلاف السنين. ([4])

3ـ الاسلام، قد تمكن بصورة غير مقصودة، من تفجير (الطاقة الحضارية) التي كانت مكبوتة لدى شعوب المنطقة خلال اكثر من الف عام، منذ نهاية حضارتهم الشرقية السالفة (المصرية العراقية الكنعانية الفينقية). ان (الحضارة العربية الاسلامية) التي صنعتها شعوب العالم العربي الحالي و (معها باقي الشعوب التي اصبحت مسلمة)، كانت بالحقيقة (عملية احياء) لتلك (الحضارة الشرقية) التي كانت قد اندثرت من الارض، لكنها بقيت حية في ارواح واشواق شعوب الشرق.

ان هذا الانجازات التاريخية العظمى، كانت السبب الاكبر الذي دفع غالبية الشعوب الخاضعة في آسيا (ايران وتركستان والسند وغيرها) الى التخلي عن اديانها الاولى (المجوسية والهندوسية والبوذية وغيره). كذلك بالنسبة للغالبية المسيحية في (العالم العربي الحالي) التي اخذت بالتدريج تعتنق (الاسلام) و (تتبني العربية) و(تتعرب) تماما من خلال الامتزاج والتزاوج مع القبائل العربية الفاتحة.

حداثيونا واصرارهم على تقليد نفس خطوتي النهضة الاوربية: الابدال والتشويه

ان عملية التحديث قد بدأت لدينا منذ حوالي القرنين: (نهايات اعوام 1800) في الدولة العثمانية ومصر، وقد دعمتها بقوة ولا زالت، الدول الاوربية التي شرعت بتحطيم الدولة العثمانية ثم فرض الاستعمار والهيمنة على بلداننا حتى الآن.

الذي يجلب الانتباه ويستحق الذكر، وهو امر غائب عن الباحثين، ان نخبنا، بصورة واعية وغير واعية، هذه تجهد الى تقليد نفس خطوتي النخب التحديثية الاوربية:

1ـ العودة المبالغة جدا الى تاريخنا الحضاري الشرقي الاول القديم: المصري الكنعاني العراقي، كبديل للتغطية على (التاريخ الحضاري العربي الاسلامي) على غرار عودة الاوربيين الى (الميراث اليوناني ـ الروماني).

2ـ اهمال وتحقير (الميراث العربي الاسلامي): ان العودة الى تاريخنا القديم الاول، غير سلبية بحد ذاتها، ولكن المشكلة انها تتم بالتقليد الحرفي للطريقة الاوربية، أي على حساب (تاريخنا العربي الاسلامي)، من خلال تجاهله وعدم ذكره سوى بصورة سلبية تحقيرية ظالمة. فتلاحظ ان مواضيعهم المفضلة تتمحور حول: التعذيب والسجون في الاسلام.. قمع المثقفين.. الحروب الداخلية والاغتيالات والفضائح.. مع تغييب تام لذكر هذا الكم الهائل من الانجازات الحضارية العظيمة التي بفضل تأثيرها وترجمتها تمكنت اوربا من احداث نهضتها. ([5])

موانع اساسية ضد الحداثة الغربية

لكن رغم كل هذه الجهود الحداثية الكبرى التي جرت في بلداننا والتي اشرفت عليها اولا الدول الاوربية وجيوشها الاستعمارية، ثم نخبنا الحداثية المدعومة حتى الآن مباشرة وغير مباشرة من قبل الغرب، لا زالت عملية النهضة والعلمنة وعزل الاسلام، تثبت فشلها وتراجعها امام التنامي الكبير للعودة الى الميراث الاسلامي!؟

هنالك ثلاثة اسباب:

1ـ الاسلام يمنح شعوبنا الشعور بالاعتزاز والتمايز رغم قسوة الاوضاع

إذ بالاضافة الى الدافع (الديني الايماني)، هنالك خصوصا، بصورة واعية وغير واعية، ذكريات وتواريخ تلك الانجازات التاريخية الحضارية الميراثية العظمى المرتبطة بحقبة (الحضارة العربية الاسلامية).

2ـ فشل عملية التحديث القادمة من اوربا، رغم مرور حوالي القرنين

فحتى الان لم تتمكن الحداثة الغربية ان تقدم لشعوبنا من الانجازات واسباب الكرامة والفخر ما يجعلها تتناسى انجازات ومفاخر (الحقبة العربية الاسلامية). بل كما هو واضح حتى الآن ان هذه الحداثة مستمرة بنقلنا من انتكاسة الى اخرى. ثم هذه الحقبة الحداثية، لم ترتبط بعملية (فتح) من قبل ابناء منطقتنا، بل بعملية (استعمار غربي) استعلائي احتقاري الغائي، مختلف تماما دينيا وثقافيا ولغويا، لا زال يمارس علينا الهيمنة السياسية والتدميرية والتشويه الثقافي.

3ـ حداثيونا عنصريون قساة ضد شعوبنا

ان ما يزيد الوضع سوءا ان هؤلاء الحداثيين العلمانيين لا يكفون عن كيل سياط الادانة والاذلال العنصري الاحتقاري لشعوبنا، باعتبارها: (متخلفة متدينة رجعية) عاجزة عن تقليد (الحداثة والعلمانية والديمقراطية والانفتاح والتمدن وووو..) في الغرب. ان سطحيتهم ومعاناتهم من (عقدة النقص) ازاء كل ما هو اوربي امريكي، تعميهم عن ادراك الفروق الكبرى بين تاريخنا وتاريخ الغرب، بيئتنا وبيئتهم. بالاضافة الى الفروق الكبرى بين حاضرنا وحاضرهم، حيث الاختلال الشاسع بين رصيدنا العثماني والمهشم بالاستعمار والحروب الداخلية والخارجية، مقارنة بجبروتهم الصناعي العسكري الاقتصادي وما كسبوه من قرون عديدة من نهب واستعباد واستعمار العالم اجمع، وحتى الآن.

يضاف الى كل هذا، عامل آخر خطير وحاسم: ان موقع العالم العربي المجاور لاوربا، خلق ولا زال نوعا من العلاقة المتوترة: (الاخوة الاعداء)، طيلة التاريخ وقبل الاسلام والعربية. انها اشبه بـ (العلاقة الحسودة الاستحواذية) التي تمارسها اوربا الغربية ازاء (روسيا) التي رغم انها مثلهم اوربية ومسيحية وراسمالية، لكنها رغم ذلك تثير شهيتهم الغريزية باجتياحها والسيطرة عليها لاستثمارها ونهبها مثلما فعلوا ويفعلون في عموم الارض.

اما ازاء العالم العربي، فالحالة اسوء بكثير من روسيا، لهذا يستمر الغرب بكل وسائله العسكرية والثقافية الى منع وقمع اية (تجربة تحديثية) مهما تماشت مع الحداثة الغربية: منذ تجربة محمد علي في مصر، حتى تجارب القومييين اليساريين في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن.. وما خلقهم (اسرائيل) وتقديسها الا دليل على مدى الحقد التاريخي والقرار المقدس بمنع الاستقرار والتنمية في المنطقة.

***

سليم مطر

........................

توضيح

[1] ــ عن الاهمية الكبرى للاسلام في تاريخ تركيا، يتوجب التذكير بان:

ـ (الترك: شعوب آسيا الوسطى) ما دخلوا التاريخ وكونوا الدول والالامبراطوريات الا بعد اعتناقهم للاسلام (السلاجقة ثم العثمانيين وغيرهم)، واسهامهم البارز في الحضارة العربية الاسلامية.. ثم ان (تركيا) لا يمكنها التخلي عن ميراثها (الامبراطورية العثمانية) التي انتهت قبل قرن فقط!

ـ عن الاهمية الكبرى للاسلام في تاريخ ايران، يتوجب التذكير بان:

ايران قبل الاسلام، رغم انها صنعت ثلاث امبراطوريات متتالية: اخمينية وبارثية وساسانية، دامت الف عام، الا انها لم تتمكن من صنع حضارة خاصة بها، بل بقيت تعيش على بقايا الحضارة العراقية السابقة. ولم يتمكن الفرس من الاسهام الفعال في صنع حضارة الا في الحقبة العربية الاسلامية. ثم ان وحدتهم السياسية والدينية المذهبية لم تتحقق الا بفضل الاسلام و (الدولة الصفوية الشيعية: 1500م).

لفهم تعريفنا لماهية الحضارة، طالع دراستنا: ماهي الحضارة، وما فرقها عن الثقافة؟ هل نحن مقبلون على (حضارة عالمية جديدة)؟ سليم مطر

ملاحظة: لمن يرغب مطالعة دراستنا هذه، مع الصور والخرائط والمصادر العربية والاجنبية، في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/159-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%AC%D8%AD%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%88%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%8C-%D9%88-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%9F.html

المصادر

[1] ـ لقد دشن عصر النهضة بثلاث احداث كبرى في نفس الفترة تقريبا: (سقوط القسطنيطينة: 1453) على يد الاتراك المسلمين، وفي عام واحد: (1492) تمكن الاسبان المسيحيين من (اسقاط الاندلس: غرناطة) و (اكتشاف امريكا)!

[2] ـ لفهم اشكالية (دور المسيحية في اوربا الغربية) طالع دراستنا في موقعنا: نحو رؤية جديدة لتاريخ الاديان: مثال المسيحية والاسلام.. سليم مطر

[3] ـ لمعرفة قصدنا بـ (الحضارة الشرقية) ابحث في موقعنا عن: العراق ومصر والشام، مهد اول حضارة في التاريخ: ماهي الحضارة الشرقية القديمة؟

[4]ـ لفهم موضوع دور البيئة والتراكم التاريخي في ظهور الاسلام والعربية، طالع دراستينا في موقعنا:

الإسلام والعربية، ليسا نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج 1500 عام من الإنجازات: اللغة الآرامية، ثم اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام والعربية/ سليم مطر

ـ دور الجغرافيا والتاريخ في انتشار العرب والتعريب واللغة العربية! لماذا يصح اعتبار ظهور العرب ولغتهم ودينهم، خلاصة تراكم آلاف الاعوام من تمازج الاقوام والأديان واللغات السامية ـ الحامية؟/ سليم مطر

[5] ـ ابحث عن دراسات كثيرة تحت عنوان: دور الحضارة العربية الاسلامية في نهضة اوربا

ـ لزيادة المعلومات عن موضوع العلمانية والحداثة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية، ابحث عن المواضيع المهمة التالية:

ـ الدولة الإسلامية ليست مستحيلة عند وائل حلاق

ـ المفكر والمؤلف وائل حلاق للجزيرة نت: مشروع الاستعمار بدأ في أوروبا التي احتلت نفسها ولهذا كتبت "قصور الاستشراق"

ـ حوار المشرق والمغرب.. نقاش طه عبد الرحمن ووائل حلاق بشأن أزمة الحداثة

إن نسيت فلا أنسى، في أمر مصافحة النّساء، استفسار الشّاعرة العِراقيَّة المعروفة لميعة عباس عمارة (تـ: 2021) مني، عندما قدّمَ لها المعمار محمَّد مكيَة (تـ: 2015) الدعوة إلى ندوة بعنوان "الصّابئة المندائيّ والإسلام" (كونها صابئيَّة مندائيَّة) في ديوانه "ديوان الكوفة بلندن" (1995). قالت: مَن يُصافح ومَن لا يُصافح عندكم؟ واخبرتها بُعداً للإحراج، هناك مَن لا يصافح، أمّا صاحب الدِّيوان، فيتجاوز المصافحة إلى التّقبيل، فالنّساء عنده، أخوات وبنات، وخصوصاً أنّه سمّى لميعة بعشتار العصر. فأول ما دخلت قالت: أنا لا أصافح الرّجال، فضحك مَن حضر، ثم أقبلت على محمّد مكيّة فاحتضنته وقبّلته.

شهدتُ العديد مِن مواقف الإحراج في المجالس التي تقتضي وجود الرّجال والنّساء، عندما يمدُّ الرّجل يده لمصافحة امرأة فيُفاجأ بضمّ يدها إلى صدرها، فيتغيّر وجهه مِن شدّة الحرج، والأكثر حرجاً عندما تمدّ المرأة يدها لمصافحة الرّجل؛ فيضمّ يده إلى صدره، أمام الصُّفوف مِن الرّجال والنّساء، وقد تعدّى الحال الحفاظ على الوضوء إلى التّفكير أنَّ المصافحة وسيلة لإثارة الشَّهوة، غير أنَّ الإسلاميين الحريصين، على هذا التّقليد، يتخذون منع المصافحة، كتقليد حزبيّ، وهذا أول ما يتلقنه المنتمي الجديد، كدليل على التّقيد بالانضباط الحزبي. لهذا، وبعداً عن الإحراج عمدّت التَّشريفات لدى الملوك والرُّؤساء، إلى إبلاغ النّساء: مَن لا تُصافح تتقدّم ضامةً يدها، كي لا يُحرج الملك أو الرَّئيس.

لم تكن مصافحة النِّساء مسألة تسترعي اهتمامنا في القرى والقصبات، فتحصيل حاصل أنّ النِّساء في ظلّ الأعراف كنَ لا يختلطنَ بالرِّجال إلا لماماً، مع التَّذكير بأنّ العمل في الأرياف يجمع بين الجنسين، وأنّ هناك نساء برزنَ متفوهات، ولهنَّ السَّطوة كأُمهات أو زوجات أو أخوات، وقد يهابهنَّ كبراء القوم، مِن شيوخ عشائر، ووجهاء، ووزراء، ورؤساء.

لكنْ أخذ تحريم أو منع المصافحة مداه، وخصوصاً زمن الصّحوة الدّينيّة، وكثرة أتباع الأحزاب الدّينيَّة، فمِن تقاليد المتدين الحزبيّ السّياسيّ، مع وجود شواذ عن هذه القاعدة، التّظاهر أمام الملأ بأنّه لا يُصافح النّساء، مثلما يعتقد ويتظاهر بغيرها مِن التحريمات أو المكروهات، أن أصل ذلك حديث نبويّ يقول: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ"(الإمام مالك، المُوطأ). لعلَّ الإمام مالك بن أنس (تـ: 179هـ) كان أول مَن رواه ووصلنا عنه مدوناً، مِن بين كتب الحديث، وقد سمعه عن مُحمّد بن المنكدر (تـ: 130 أو 131هـ) عن أُميمة بنت رُقيقة (ابنة اخت السّيدة خديجة بنت خويلد)، ورُقيقة أُمها.

نقل محمَّد بن سعد كاتب الواقدي (ت: 230هـ) الحديث عن مالك بن أنس، كذلك أتى بروايات متعددة عن غيرها، منها رواية الفقيه عن سفيان الثّوري (تـ: 161هـ)، ورواية أن بين النّساء كانت هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان، التي عاشت حتّى خلافة عمر بن الخطاب (ابن سعد، الطّبقات الكبرى).

مع ذلك، أقول: لا بدّ مِن الشّك في سماع ابن المنكدر عن أميمة، فالرّواية نجدها مضطربة في حياة الأخيرة أو سيرتها، منها أنّها كانت مخضرمة بين قبل الإسلام وبعده، وأسلمت والإسلام في مكة، وعذبت قُريش ابنة لها، فاشتراها أبو بكر الصّديق (الطَّبقات الكبرى)، ولا يوجد تاريخ لوفاتها (ابن عبد البرِّ، الاستيعاب). فكيف سمع منها ابن المنكدر الحديث، وكانت وفاته بعد المائة بنحو ثلاثين عاماً؟!

 غير أنَّ أحد أبرز شُراح "الموُطأ"، أبي الحسنات محمّد عبد الحيّ اللَّكنويّ (تـ: 1886) يضع مصافحة النّساء "كراهة" وليست تحريماً، عندما يجعل العنوان "ما يكره مِن مصافحة النّساء" (شرح الموطأ برواية محمَّد بن الحسن)، ولا نعلم هل يقصد التّخفيف أم أنّ الكراهة عنده بمستوى القطع بالتحريم أو المنع البات؟!

جاء في القرآن عن مبايعة النّساء، ولم يُحدّد شروطاً، أو تمييزاً لمبايعتهن، سوى الآتي: "يَا أيُّهَا النَّبِيُ إذا جَاءَك المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أولادَهن ولا يَأتِيْنَ بِبُهتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيدِيهِنَّ، وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِيْنَكَ في معروفٍ فَبَايِعْهُنَّ واستَغْفِر لَهُنَّ الله (الممتحنة: 12).

غير أنَّ الاحتجاج في عدم مصافحة النّساء، حتّى أصبحت واحدة مِن الركائز لدى الإسلاميين، قبل الحديث المذكور، ما ورد في القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنْوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّساء» (النِّساء: 43). ويحكي مَنْطوق الآية عن الطَّهارة، وما يمْنَع الصَّلاة: السُّكر، والجُنب (الاحتلام)، والغائط، وملامسة النِّساء.

ويُنقل عن علي بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ) وابن عباس (تـ: 68 هـ) وأبي حنيفة النُّعمان (تـ: 150 هـ): إنّ «المراد به (الملامسة) الجِماع» وليست المصافحة (الطَّبرسي، مجمع البيان). على محمل ليس مِن الدِّين مشابهة قذارة الغائط بمصافحة المرأة! وقال فريق آخر مَثَّله عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ) وابن مسعود (تـ: 32هـ) ومحمَّد بن إدريس الشَّافعي (تـ: 204 هـ): «المراد به اللَّمس باليد» (نفسه).

قال الطَّبرسي: «الصَّحيح الأول، لأنّ الله سبحانه بيَّن حكم الجنب في حال وجود الماء...». وورد لدى نجل المفسر أبي الثَّناء الآلوسيّ (تـ: 1854 هـ) أبي البركات نعمان الآلوسي (ت 1899): «قول أبي حنيفة لا ينقض (الوضوء) إلا بالمباشرة الفاحشة» (الآلوسي، غالية المواعظ).

ويأتي شيخ الطَّائفة الطُّوسي (ت 460هـ)، مؤسس الحوزة الدِّينية في النَّجف؛ بما لا يتفق مع رأي متشدّدي العصر، وبينهم الأحزاب الشّيعيَّة. قال: «ملامسة النِّساء، ومباشرتهنَّ لا تنقض الوضوء، سواء كانت مباشرة ذات مُحرم، أو غيرهنَّ مِنَ النِّساء. سواء كانت المباشرة باليد، أو بغيرها مِنَ الأعضاء، بشهوة كانت أو بغير شهوة» (الطُّوسيّ، كتاب الخلاف). فإذا كان هذا ما ورد في القرآن ووضحه الكبار مِن علي بن أبي طالب إلى أبي حنيفة النُّعمان ومحمّد الطُّوسي بجواز المصافحة، فيبقى للحديث: «إني لا أُصافح النِّساء، إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (الهندي، كنز العمال)، مناسبة أو سبب، يتحدّد في وقته، شأنه شأن أسباب نزول الآيات، هذا ما إذا كان حديثاً صحيحاً!

قد تكون المناسبة، وجود هند بنت عُتبة، وعلى رواية بما لها دور في قُتل الحمزة بن عبد المطلب (3هـ)، والتّمثيل به (ابن عبد البرّ، الاستيعاب)، وهو عمّ النَّبي، فلم يشأ النَّبي مصافحتها وهي بين النّساء، أو أن يكون عدد النّساء كبيراً، فاكتفي بوضع أيديهن في إناء مِن الماء، مثلما مشهور في الرّواية. فعندما جاء وحشي قاتل الحمزة، مبايعاً تائباً، عفى عنه النّبي، ولم ينظر إليه، وبالتالي لم يصافحه، فقد قال له: "غَيّب وجهك عني يا وحشي، لا أراك" (الاستيعاب).

 للأسف نخوض في مثل هذه المسألة وها هو الزَّمن قد تعدَّ الألفية الثَّالثة بربع قرن، وثورة التكنولوجيا أخذت تهزّ العروش، مثل الفايسبوك وتويتر والإيميل، ويستخدم هذه الوسائل في إعلام المحرمين والمحللين لهذه المصافحة، على حدٍّ سواء، وربما يصطدم بهذه المسألة أكثر مَن يُخالط المنتسبين للأحزاب الإسلامية، وهناك مَن يتجاوزها منهم، لسبب وآخر، مثل وصوله إلى قناعة في المساواة، أو على قول "مكره أخاك لا بطل"، في حال مصافحة هيلاري كلينتون مثلاً، وهناك مَن استفتى وحصل الفتوى الإباحة للضرورة.

بعد سُلطة الأحزاب الدّينيّة بالعراق، كنا نلاحظ عند وصول زائرة رسمية أجنبية؛ لدولتها دالة على هذه الأحزاب، تُمدّ الأيدي لمصافحتها مِن قِبل الممتنعين، أو مثلما نقول مطالستها، فما أتذكره كنا نستخدم بمنطقتنا لفظة "المطالسة" بمعنى المصافحة، مِن "طلس" على وزن "مفاعلة"، ورد "طلس" في عدة معانٍ ليس بينها المصافحة، أما معناها «طلسه بالدَّهان» أي غشاه (المنجد في اللُّغة والأعلام)، ويُذكر إنّها سريانية النِّجار، فصاحب المنجد ليس بمعتمد في أًصول المفردات.

نقول: إنَّ جوهر عدم مصَّافحة النّساء، الذي حمل المعاني الدِّينيّة، على ما يبدو، مرتبط جذره بالتَّمييز الاجتماعيّ، فغُطي بأمر دينيّ عبادي، فصار مِن مبطلات الوضوء، بدلالة أنّ الخصم لا يُصافح خصمه، والسيَّد لا يُصافح عبده، والضَّابط لا يبدأ بمصافحة جنوده، بسبب التّراتبيّة الاجتماعيّة، لأنّ "المصافحة"، مثلما ذَكرناها بـ"المطالسة" فيها اعتراف بالمساواة، والمرأة في العرف القبليّ أو العشائريّ، عند العرب والأعاجم أقل درجةً، ولتبرير هذا الفعل ارتبطت بمبطلات الوضوء، وبالتَّالي مبطلات الصَّلاة.

أما عن العذر الدِّينيّ، فأقول: لماذا الذِّهاب إلى الأصعب، وبين أيدينا الأسهل، أهو الرَّغبة بتغليف الزَّمن بصفائح فولاذية، ودحرجة الصُّخور في مجرى الزَّمن المنطلق إلى الأمام بلا عودة. في حالة العِراق هناك 25 بالمئة مِن البرلمان أكثرهنَّ مِمن لا يصافحهنَّ، فهنَّ جمهور الإسلام السياسي؛ وكيف يُنظر إلى المستقبل، والسِّياسي فيه لا يُصافح النَّساء، حيث جمعت النَّظرة إلى المرأة على أنّها مشروع لَّذة ليس إلاّ، وبالتالي تثير الغرائز عند المصافحين، أو لأنّها أقل رتبةً، وهنا يكون التّعامل معها لا لعقلها وشَّخصيتها ودَّورها الاجتماعي!

 علمنا شيئاً مِن ممانعة الإسلاميين ورجال الدِّين المسلمين؛ ولم نقل شيئاً عن التَّشدد في عدم مصافحة ومجالسة النّساء عند الهندوس واليهود مثلاً، وقد رأيتُ بعيني تصرفات هؤلاء، وسمعتُ بمثل هذه المواقف، لكن المعرفة تنقصني للبحث في هذا الشَّأن.

***

رشيد الخيّون

 

لقيت خلال حياتِي المدرسيَّة أساتذةً من مشاربَ شتى. عرّفني كلٌّ منهم بعالمٍ غير العوالم التي عرفتُها وألفتُها. وما زلت أذكر تلك النقاشاتِ الساخنةَ التي أخذتنا بعيداً عن الكتاب والمنهج، حين انفتحت أمامنا تجربة الأستاذ العلمية والحياتية، والتي حوت -دائماً- ما يفوق المنهج الدراسي قيمة وفائدة. أقول هذا كي أدعوَ أصدقائي العاملين في حقل التعليم والتدريب لفتح عقولِهم وقلوبهم لتلاميذهم، وتشجيعهم على الانخراط في النقاش الجاد حول مختلف قضايا الحياة، في موضوع الدرس أو غيره. ثمة مجتمعات لا توفر غير مساحة ضيقة للنقاش الجاد والمنفتح، النقاش الذي يأخذ الإنسان إلى حدود الخيال، من دون رهبة.

لهذا أرى دور المعلم وصاحب الثقافة حيوياً في تحريض الناس على التفكير والنقاش الذي يطرق الآفاق البعيدة وغير المألوفة. من بين الأساتذة الذين تركوا أثراً في نفسي، أذكر اثنين، لا يقول أحدهما شيئاً إلا وقع على خلاف رأي الآخر. فمن ذلك مثلاً أن الأول اعتاد التشديد على أن الحكمة في الصمت، وأن سر المعرفة يكمن في التأمل الفردي وتجنب الجدال. وغالباً ما ذكر روايات وأشعاراً تؤكد هذا المعنى. وبعكسه تماماً كان الأستاذ الثاني، الذي ما انفك يذكرنا بأهمية النقاشات الثنائية والجماعية، ويؤكد أن النقاش سبيل وحيد لشحذ قدرة التحليل عند الإنسان. وكان يقول مثلاً إن الأثر المروي عن علي بن أبي طالب «تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه» لا يعني مجرد النطق، بل أراد التركيز على «الكلام» أي الحديث المنظم الملتزم بقواعد المنطق، الذي يقيم وسطاً معرفياً يتواصل عبره مختلف الناس، نظير ما يسمى اليوم الميديا/ الوسائط media التي يصل دورها إلى تكوين الرأي العام أو الفهم المشترك للقضايا المطروحة في المجال العام. ولطالما لفت هذا الأستاذ أنظارنا إلى بعض القواعد اللطيفة في الحديث، سواء تعلقت بآداب النقاش أو قواعد التفكير المنطقي والعقلاني، وهي قواعد أظننا في أمس الحاجة إلى أمثالها، في ظل التحولات المثيرة التي نشهدها اليوم -بل كل يوم. ويظهر لي أن ميول هذين الأستاذين تحاكي نمطاً عاماً. فثمة مجتمعات تتقبل النقاش في أي مسألة، وتقبل مختلف الطروحات مهما كانت غريبة عن عاداتها ومألوفها. وثمة مجتمعات لديها ميول معاكسة تماماً، فهي تقصر النقاش في القضايا العامة على الحد الأدنى، في الموضوعات وفي عدد المشاركين وفي الحدود المسموح بها. ومما أذكره أنني كنت أزور بين حين وآخر أحد الأشخاص، وكان يحضر مجلسه نخبة البلد من مختلف المجالات. لكنني لا أذكر أبداً أن النقاش قد تجاوز أحوال الطقس، وهل نزل المطر أم لا، خفيفاً كان أم ثقيلاً، ويطول الحديث عن البلدان التي شهدت سيولاً، وماذا ترتب عليها... إلخ. لقد ظننت -وربما أكون مخطئاً- أن هذا النوع من النقاش ليس عفوياً، بل هو مقصود للحيلولة دون انفتاح نقاشات قد لا ترضي جميع الحاضرين.

أما مبررات الذين يعارضون النقاش العام في القضايا الساخنة فهي لا تتعدى الإشارة إلى «حساسية» من نوع ما.

فبعضهم يشير لحساسية الموضوع ذاته، وأن هناك أشخاصاً ربما تستفزهم الحقائق غير المألوفة، فيرون فيها تحدياً لقناعاتهم. وثمة من يطلب قصر النقاش على الأشخاص الموثوق في أهليتهم والتزامهم بالخط العام للمجتمع. لكن أكثر الحساسيات شيوعاً هي المتعلقة بتوقيت الكلام، ولا يعدم المعارضون أزمة من هنا أو هناك، يقدمونها مبرراً لتأجيل النقاش في هذا الموضوع أو ذاك.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

(لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إليَّ التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة . إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية).. كارل ياسبرز

يكاد الكثير منا ألا يتفقوا على شيء اتفاقهم على السخرية من الفلسفة وعن عدم جدواها، البعض يصفها باللغو المضر، والبعض الاخر يعتقد ان العلم تجاوزها، ولم يعد لها مكانا في عالمنا ! ودعونا نطرح سؤالا: هل ماتت الفلسفة حقا؟ هل اصبحت شيئا من الماضي؟ وهذه الاسئلة وغيرها كثير لم تطرح هذا اليوم فقط والعالم يحتفل بالفلسفة التي خصص لها السابع عشر من تشرين الثاني يوما لتكريمها، وإنما طرح هذا السؤال منذ ان تاسست الفلسفة اول مرة وكانت تعني " حب الحكمة "، فكلما تطورت الحياة كان هنالك سؤالا محددا: هل استنفذت الفلسفة اغراضها وماتت؟، وقد اثير هذا السؤال قبل سنوات عندما كتب عالم الفلك الشعير ستيفن هوكنغ في مقدمة كتابه " التصميم العظيم " - ترجمه الى العربية ايمن احمد - أن الفلسفة ماتت، لأنها لم تتمكن من مواكبة التطور في العلوم الحديثة. فالعلماء الآن وليس الفلاسفة حسب قول المرحوم هوكنغ، هم من يحملون المشاعل لاستكشاف ما هو مجهول في الكون:" فلم نعد نحتاج لتأملات الفلاسفة للإجابة عن أسئلة من شاكلة: كيف نشأ الكون؟ وهل يحتاج الكون إلى خالق؟ وما إلى غير ذلك، فلدينا الآن من القدرات النظرية الرياضية والمعدات التجريبية لمقاربة هذه الأسئلة المحيرة، ما يغنينا عن التأملات الفلسفية المحضة "

في كتابه الفلسفة انواعها ومشكلاتها – ترجمه الى العربية فؤاد زكريا – يكتب هنتر ميد:" اذا قال احدهم ان الفلسفة عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب "

في كل مرة يحاول البعض ان يقول بان الفلسفة لم يعد لها مكانا في المجتمع الحديث، فالفيلسوف مجرد رجل سفسطائي ثرثار، أو ينظر الى العالم من برجه العاجي، يحلق في الخيال، مثلما وصف ارستوفانيس، غريمه الفيلسوف سقراط في مسرحيته الشهيرة " السحب " عندما وضعه في " سلة " معلقة بين الأرض والسماء! .

قبل حوالي 2500 عاماً تجول في بلاد اليونان رجل اسمه " بروتاغوراس " ولد عام 490 ق.م في ابديرا احدى جزر اليونان، وكانت هذه المدينة مقرا لديمقريطس مؤسس المدرسة الذرية، ويذهب ابيقور الى ان بروتاغوراس نشأ في اسرة فقيرة، وكان في صباه يعمل في جمع الحطب إلى أن التقى ديمقريطس الذي علمه الفلسفة . في كتابه " مشاهير الفلاسفة " – ترجمة امام عبد الفتاح امام – يذكر ديوجينيس ان بروتاجوراس قرأ اول كتاب في بيت الكاتب المسرحي يوربيديس، عاش بروتاجوراس يتجول في المدن اليونانية يلقي الدروس مقابل اجور يدفعها الطلبة، وفي افتتاحية محاورة " بروتاغوراس " لافلاطون – ترجمة عزت قرني – نجد ابوقراط الشاب يخبر سقراط ان بروتاغوراس في اثينا وطلب منه أن يكون وسيطا ليقبله تلميذا في مدرسته، فقال له سقراط:"اذا دفعت له مالا وصادقته لجعلك حكيما كنفسه "، يصفه سقراط بانه:" اعلم واحكم اهل العصر بلا منازع " .

اشتهر بروتاغوراس بمقولته:" الإنسان مقياس الاشياء جميعا، وهو مقياس وجود ما يوجد منها وما لا يوجد " . ويقصد بذلك أن الصح والخطأ، والخير والشر، كلها يجب أن تحدّد حسب حاجات الإنسان. وعندما سُئل ذات يوم هل يؤمن بآلهة الاغريق، أجاب بالقول: " أما فيما يتعلق بالأرباب، فليست لي أدنى معرفة عما إذا كانوا موجودين أو غير موجودين، فهناك أمور كثيرة تحول بيني وبين معرفة هذا الأمر، منها غموض الموضوع ومنها قصر عمر الإنسان "، وبسبب هذه المقولة تم حرق كتبه في ساحة السوق، ومطاردة أي شخص يقتنيها .

كان بروتاغوراس قد كون مجموعة فلسفية اطلق عليها " السفسطائيون " سيسخر منها افلاطون في محاورته " السفسطائي " – ترجمة قؤاد جرجي بربارة - حيث يصورهم في هيئة رجال يتاجرون بتعاليم تتعلق باروح الناس، فهم متموجين، ويحاول افلاطون ان يدحض ادعاء السفسطائي بالمعرفة، ورغم أن أفلاطون يظهر احترامه لعض الفلاسفة للسفسطائيين؛ إلا انه يختلف مع معظم معتقداتهم، ويعارض فكرة دفع مال مقابل تعليم قِيَمٍ وفضائل مثل المواطنة الصالحة والانسان الماهر والفضيلة . ولهذا كان ادِّعاء السفسطائيين تعليم القيم الحياتية هو ما ركَّز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدا كل البُعد عن منهجهم الحقيقي، وهو تدريس البلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. فقد سعى السفسطائيين الى احتلال مكانة شعراء القصائد الملحمية مثل هوميروس في نشر الحكمة من خلال دروس يومحاضرات تتخللها احاديث عن التاريخ والشعر والفلسفة .

سعى السفسطائيون الى تقديم فلسفة تشمل خبرات الإنسان اليومية، وعلى عكس أفلاطون الذي كان يرى أنّ مهمة الفلسفة هي أن تفتح الطريق إلى ما وراء الطبيعة، كان السفسطائيون يهدفون إلى إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ويذهب ماركري تايلور الى أن الاصل في نشاة الفلسفة السفسطائية هو الموازنة بين التقاليد وصور الحياة اليومية المختلفة، وان السفسطائية تختلف عن الفلسفة الطبيعية في الموضوع والمنهج والغاية، فالسفسطائية فلسفة موضوعها الانسان وحضارته التي ابدعها، وسعي الفيلسوف السفسطائي الى جمع اكبر قدر من المعرفة في كل نواحي الحياة – تايلور الفلسفة اليونانية ترجمة عبد المجيد عبد الرحيم –، فالوجهة التي وجهها السفسطائيون للفلسفة هدفها اعلاء شأن الحياة الاجتماعية للانسان، حيث كان بوتاغوراس يؤكد على مقدرة الانسان واستقلاله في المجتمع . وقد دعا السفسطائيون إلى معارضة كل تمييز بين الطبقات والطوائف والشرائح الاجتماعية، وكان يبدو لهم الفخر القومي بأنه " حماقة بلا معنى"، وأعلن بروتاغوراس أن دولة إلى جانب القومية هي أشياء بلا أهمية، فيما أصرّ الفيلسوف المتمرد ديوجين أن الإنسان هو مصدر لكل الطموحات.

عاش السفسطائيون في أثينا في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وشغلوا مناصب معلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة ومحاضرين وممثلي مسرح وفلاسفة وخطباء وأطباء في آن واحد، وكانوا يستخدمون الفلسفة لتدريس معظم المعارف للشباب، وفي إحدى محاورات أفلاطون يتوجه سقراط بالسؤال إلى بروتاغوراس عمّا يقترحه من موضوعات لتعليم الطلبة فيجيب بروتاغوراس: أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية، لكي يحسن إدارة بيته، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوّة حقيقية في المدينة كمتكلم ورجل أفعال.

يقول كيركغارد عن " بروتاغوراس " إنه أوّل من تفلسف حول الانسان، وأن الفلسفة التي انبثقت عنه هي فلسفة للحياة، الحياة الانسانية الحرة، التي هي الهدف لدى بروتاغوراس .!، ومثلما كانت غاية كيركغارد -الأب الحقيقي للوجوديّة- هو أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، كان بروتاغوراس يدعو الناس إلى معرفة حدودهم وقدراتهم، ولذلك يرى بعض مؤرخي الفلسفة أن الوجوديّة بدأت مع السفسطائيين واكملت توهجها مع سقراط الذي كان هدفه الاساسي العمل على جعل الفلسفة تتّجه إلى الإنسان نفسه، وليس إلى العالم الخارجي، فسقراط ومعه بروتاغوراس رغم اختلافهم في الافكار كانا اول فلاسفة يقرّرون تحويل الفلسفة من النظر إلى الكون والبحث عمّا وراء الطبيعة، وجعلها تتّجه إلى الإنسان وما يحيط به.

يكتب زكي نجيب محمود في مقدمته لمحاورات افلاطون ان السفسطائي بروتاغوراس استطاع رغم مرور كل هذه الاعوام ان يظل الفيلسوف الذي يرافق الانسان في حاضره ومستقبله.تُصبح الفلسفة مع السوفسطائيين مهمة عملية، اسلوب في جعل ان يكون للمرء اسلوب في هذا العالم، فالحديث عن اصل الكون والعالم، حديث لا نفع منه، دعونا من الغيبيات والحجج المنطقية، ولننطلق ونسير شؤون الحياة ونتعامل مع الفلسفة باعتبارها كيانا يستفاد منه الانسان، يصر بروتاغوراس على ان نعتقد بكل ما هو مفيد لنا، انه يطالبنا بنقل اهتماماتنا من الواقع المطلق الى قضايا المعرفة البشرية . حين صرخ السفسطائيون بكلمة " الانسان "كانت تلك الصرخة بمثابة تجربة لتطوير الفلسفة اليونانية من مجالها الطبيعي الى وجودها الانساني وكانت خطوة لتمجيد الذات الانسانية، كانت مهمة الفيلسوف السفسطائي ان يعبر عن الروح الجديدة التي تسعى إلى الحرية، واعلان قوة الانسان والثورة على التفكير الذي يمجد الاساطير والابطال الخارقين، وسيلخص سوفوكليس الذي ولد قبل بروتاغوراس بست سنوات، في مسرحيته انتيغون الفكرة التي طرحتها السفسطائية عن الانسان:" الانسان من بين الاشياء القوية اقواها جميعا.لقد علم نفسه الكلام، والتفكير السريع، وسكنى المدن " - انتيعون ترجمة علي حافظ –، قرر السفسطائيون ان ينشروا هذه الافكار، فالانسان سيد الطبيعة، وله الحق في الحرية والسلطة، ولا بد ان يكون قويا لينتزع حقه . انها النزعة النيتشوية في اعلاء شأن ارادة القوة . ان مصلحة الإنسان فوق القوانين التي تقيد حريته

كان نيتشه يرى ان سقراط أوّل من تفلسف حول الحياة، وأن جميع الفلسفات التي انبثقت عنه هي فلسفات للحياة؛ الحياة السعيدة والنزيهة، التي هي الهدف لدى سقراط، ويضيف نيتشه أن الفلسفة السقراطية تُناصب العداء لكل معرفة لا تقترن بالإنسان. ويكتب الفيلسوف الوجوديّ الألماني كارل ياسبرز: " ربما كان أنقى وجه في طريق من جازفوا بأنفسهم ليطيعوا مطلباً مطلقاً هو وجه سقراط، هو من كان يعيش في ضياء عقله، بشمولية عقله ( لا أعرف شيئاً)، فقد تابع طريقه دون أن تبلبله أو تضلّه عن سبيله الأهواء العنيفة للناس الذين يغتاظون ويكرهون ويريدون بأي ثمن أن يكون الحق معهم، ولم يقدم أي تنازل، ولم ينتهز فرصة الهرب التي كانت متاحة له، ومات في صفاء وسكينة، متحملاً تلك المجازفة باسم معتقداته التي يؤمن بها- كارل ياسبرز مدخل الى الفلسفة ترجمة محمد فتحي الشنيطي -، في حوار مع سيمون دي بوفوار يقول سارتر إنّه تعلم من سقراط كيف يمكن للفيلسوف أن ينزل الفلسفة من السماء إلى الارض، ويُدخلها إلى الأسواق والبيوت. ومثلما ارتبطت الوجوديّة بالمقاهي الباريسية والنوادي الثقافية الألمانية ومدرجات الطلبة، ارتبطت فلسفة سقراط ومعه السفسطائيين بالناس الذين كانوا يقابلونهم في الأسواق والشوارع، حيث كانت عادته أن يتوجه كل صباح إلى الأسواق حيث يتجمع الناس ليلقون عليهم اسئئلتهم، والخلاف الوحيد بين سقراط والسفسطائيين، انه لم يكن يتقاضى مالاً مقابل أحاديثه ودروسه، حيث اعتبر نفسه منشغلاً برسالة مفروضة عليه، فلا يكاد إنسان يلقي عليه السلام حتى يسأله عن معنى كلمة الشرّ، ولماذا علينا أن نختار الخير. وتدور المناقشات ساعات وساعات، مثلما كانت تدور في المقاهي الفرنسية التي كان من أشهرها مقهى اسمه (لي دو ماغو) حيث كان جان بول سارتر ومعه سيمون دي بوفوار ومجموعة من أصدقائهم يدخلونه صباحاً ويجلسون فيه على موائد صغيرة متجاورة ويدخلون في نقاشات لا تتوقف وهم يحرقون السجائر. تكتب سيمون دي بوفوار: " كنتُ أشعر أن المقهى أصبح جزءاً من العائلة" – قوة الاشياء ترجمة محمد فطومي - .وفي أثينا القديمة كان يمكن أن تصادف رجلاً يتجوّل في الشوارع يحادث المارة، وإن كان ثمة شخص لا يعرفه فلسوف يسأله: من تكون يا هذا؟

- سقراط بن سوفرونيسكوس.

* ما هي اهتماماتك؟

- أن أتحدّث مع الذين يودّون ذلك.

* ولأيّ هدف؟

- لكي أساعد العقول على أن تولّد الحقيقة.

وليس غريباً أن تكون لدى كلٍّ من كيركغارد ونيتشه، مواقف متضاربة تجاه فلسفة سقراط؛ فمن ناحية، كان يُنظر إلى سقراط كمدافع عن نوع من العقلانية يتخطى القيم التقليدية والشخصية الخالصة إلى معايير أخلاقية عالمية، وهو ما أشاد به كيركغارد نفسه وانتقده نيتشه. لكن كليهما أدرك أن سقراط خاطر بتجاوز حدود المعقول كي يعيش الحياة بكلّ معانيها. وكما علق كيركغارد حول أهمية القناعة الشخصية التي يكون فيها الشخص مستعدّاً للتضحية بحياته من أجلها مثلما فعل سقراط وهو يتجرع السمّ.

هكذا نجد أن الأساس في فلسفة سقراط وبرتاغوراس هو معرفة الإنسان لنفسه. إن موضوع الفلسفة ودورها الأساسي وهدفها الرئيس، يكمن في معرفة طبيعة الإنسان للمصدر الأول لأعماله وسلوكه، لطريقته في العيش والتفكير، وان المعرفة المعرفة لا تتحقق إلّا من خلال معرفة النفس، وأن الفيلسوف الحقّ هو من يمارس فلسفة الحياة، وأن يكون منهجه الحقيقي هو الحوار والمحادثة الحية، ودراسة المسائل التي تنشأ من السؤال والجواب.

في محاورة المادبة يصف ألقيبيادس ما فعلته في نفسه حواراته مع سقراط:" تركني في حالة ذهنية شعرت فيها انني، ببساطة، لا استطيع أن امضي في العيش بالطريقة التي كنت عليها .. جعلني اعترف انني بينما اقضي وقتي في السياسة فأنا اهمل كل الاشياء التي تهيب بي ان انتبه اليها في نفسي " – افلاطون محاورة المأدبة ترجمة وليم الميري -

عندما يقول برتاغوراس: " الإنسان مقياس الأشياء جميعًا"، فإنه يتحدث عن الإنسان بوصفه نوعا، لا عن الناس بوصفهم أفرادًا. وعندما يقول: " إننا وجدنا في عالم غير مكترث"، فإنه يعني أيضًا الجنس البشري في عمومه، وهو يضيف إلى ذلك على الفور الفكرة الإيجابية المتفائلة القائلة إن الناس من حيث هم أفراد ليسوا وحدهم، وإنما هم بطبيعتهم كائنات اجتماعية قادرة على المشاركة مع أقرانهم من البشر والتعاون معهم من أجل تحقيق مصالحهم الفردية ومصالح الجنس البشري بأكمله. فصاحب النزعة الإنسانية يرى في وحدة الجنس البشري قوة فاعلة يمكن استغلالها في نشر مزيد من الوعي الاجتماعي وروح المساعدة المتبادلة بين الأفراد. وهو على هذا النحو يحول ما يرى معظم الناس أنه جانب مؤسف من جوانب الموقف الإنساني، أعني عزلة الإنسان في الكون، إلى مصدر ممكن للخير البشري.

ينسب إلى بروتاغوراس ما يقارب عشرة أعمال، من بينها: " في الموجود"، و" في العلم"، و" في الآلهة"، و" الجدل أو فن الحوار"، و" الحقيقة"، ولم يبق من هذه الكتب شيئا بسبب ما تعرضت له من مصادرة او حرق، وقد وصلت منها شذرات في كتب تاريخ الفلسفة وايضا في محاورات افلاطون التي كان بروتاغوراس احد شخصياتها مثل محاورة " بروتاغوراس" ومحاورة " الثئيتتس" .

في معظم شذراته التي وصلتنا نجد ان بروتاغوراس يسخر من الميتافيزيقيا وينظر الى الوجود الطبيعي من خلال الوجود الانساني، مناديا بانسانية الانسان ووجود ذاته، وعلى هذا الاساس رقض السفسطائيون وفي مقدمتهم بروتاغوراس القوانين التي تحد من حرية الانسان، فالانسان في نظرهم مزود بطبيعة حرة متمردة متفوقة .فالانسان كما يقول الفيسوف السفسطائي أنطيفون " اعظم الحيوانات الوهية "، فالفرد هو كل شيء هو المقياس، هو الحقيقية .. والذي يريد السعادة ويحرص عليها يجب ان يقتنيها في ذاته .فالطبيعة البشرية في راي السفسطائيين هي طبيعة الذات القوية التي لا تخضع ولا تسمح باستعبادها . هسي طيسعة متمردة تنشد الفرادة والتميز والتفوق . هي طبيعة تكره الضعف وتنادي بـ " إرادة القوة "

لم يتزوج بروتاغوراس طوال حياته، حتى يتجنب كما يقول في محاورة افلاطون " عبئا ثقيلا يقع عليه " عاش حياته متجولا، يهتم بالجدال مع الناس، وينسب اليه انه اول من ابتكر ذلك تانوع تاذي سمي " الجدل السقراطي "، ووفقا لما يقوله افلاطون فان بروتاغوراس اول من اوضح الكيفية التي يتسنى بها للمحاور ان يدحض القضايا المطروحة امامه للنقاش . يحبرنا ديوجينيس في كتابه مشاهير الفلاسفة ان بروتاغوراس توفي بعد ان غرقت سفينته عندما كان يقوم باحدى رحلاته البحرية، وقد كان عمرة قد قارب التسعين عاما.وقد القيت في رثاءه قصيدة جاء فيها:

" إي بروتاغوراس

لقد سمعت عنك قولا

مؤداه أنك قضيت نحبك

وانت رجل هرم " .

اليوم ونحن نحتفل بالفلسفة، نتساءل: هل الفلسفة تقف في مواجهة مشكلة التعايش السلمي بين البشر في العالم كله؟ . وهل لا يزال الفيلسوف يساهم في السؤال المطروح دوما عن معنى ان ننحترم حق الاخر في الحياة؟ .. لعل موقف بعض كبار فلاسفة الغرب من الحرب الهمجية التي تشنها اسرائيل على الفلسطينيين يجيب على بعض الاسئلة التي تراودنا عن موقف الفلسفة تجاه ما يجري في العالم . في الايام الاخيرة وصفت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر ما يجري في غزة بالابادة الجماعية التي يريد من خلالها جيش الاحتلال الاسرائيلي القضاء على شعب باكمله ومنعه من الحصول على حقع في اقامة بلد يعيش فيه بامان .فيما عبر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك عن ادانته لاسرائيل التي وصفها بالكيان المتشدد الذي يسعى الى الغاء الاخر، فيما عبر الفيلسوف الايطالي جورجيو اغاميين عن خيبة امله من الحكومات الغربية التي تتفرج على المحازر ولا تحرك شيئا . في الوقت الذي اصدر فيه اكثر من " 80 " فيلسوفا واستاذا للفلسفة بيانا اعلنوا فيه تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانتهم المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، ولم يكتفوا بذلك بل وجهوا ادانة شديدة لحكومات بلدانهم لكونها تقف مع اسرائيل وطالبوهم بموقف انساني واضح امام ما يحدث من انتهاكات للانسانية، ونجد مفكرا كبيرا مثل الامريكي نعوم تشومسكي يصف ما يجري في عزة بانه تطهير عرقي، مطالبا العالم بان يقفوا مع الانسانية المضطهدة، فلا شيْ اهم من الانسان وحريته وحقه في العيش بامان واستقرار وكرامة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

فلاسفة غربيون في مواجهة " النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني".. بين الالتزام الخجول و"فلسفة الحياد" المزعوم والدعم السياسيّ " الخفيّ" لحقّ الأقوى".

***

(كل ما في اﻷرض من فلسفة لا يعزّي فاقدًا عمّن فقد).. إيليا أبو ماضي

(إن الفلسفة التي لا تشفي آلام البشرية هي محض هباء. فالفلسفة التي لا تبرئ الرُّوح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي مريضًا ولا يشفي عليلًا).. أبيقور

(ليس العالم، تحديدا، كما يوجد في الظاهر، عالم الجميع. ذلك أن ّ الديمقراطيين، أصحاب الشعار(الديمقراطي)، وأناس الغرب، يحتلّون في هذا العالم موقعا أعلى، بينما الآخرون من عالم آخر، ليس عالما بحقّ، بحكم كونه آخر. هو حيّز للبقاء فحسب، ميدان للحرب، والفقر والحواجز والأوهام. نقضّي الوقت في هذا الضرب من " العالم"، من الميدان، في جَمْعِ أمتعتنا للفرار من الرعب)... (آلان باديو - الشعار الديمقراطي)

(أعرف بوضوح أكثر مما مضى بأنّ إمكانية تدمير إسرائيل يجرحني في أعماق نفسي . كثير من مثقفي اليسار قاموا بنفس تجربتي: ينسون لفترة " الإمبريالية " و" الواقع الاستعماري"، ويتذكّرون أصولهم ويجدون أنفسهم لدهشتهم، يهودا"... (ر. آرون)3942 فلاسفة

يقدّم الفيلسوف نفسه بوصفه "صديقا للجميع"،" و"مفكّرا كونيا" و"مواطنا عالميا أ و" أبا مشتركا لكلّ المواطنين، مُصلحهم ومرشدهم وحاميهم، يهب نفسه للجميع حتى يشارك في استكمال كل خير، فرحا مع أولئك الذين تغمرهم السعادة، متعاطفا مع أولئك أصابهم الحزن ومواسيا لهم".( إيبكتات " الدليل المختصر" 32- سطر 154 نشر " هادو"، لايد، بريل 1996.). هذه هي صورة الفيلسوف عامّة، تلك التي تتراءى لنا حينما نقرأ خطاباتهم. لقد كانت الفلسفة دوما " خطابا"كونيا من أجل الإنسان ومدار التفكير فيه هو " الإنسان" أيّ كان، "إنسانا كليا" لا يعرّفه لا لونه ولا دينه ولا انتماءه إلاّ أن يكون " انتماء إلى الإنسانية"، بل " إنسانيته " أي بوصفه " إنسانا" لا غير، قيمة القيم أو " الغاية القصوى" كما يقول كانط. الموقف الفلسفي إذن " موقف أخلاقي" بالأساس من جهة مقاصده ومشروعية وجوده. بالرغم من أنه غالبا ما يجد صعوبة بل استحالة في " تبرير مشروعية " وجوده بالنسبة للآخرين. صعوبة تقوم في " استحالة " أن يكون الموقف الفلسفي موقفا " مفيدا نافعا " على نحو مباشر في حياة الناس و بالمعنى المادّي والحسي للمنفعة. ولعلّ هذا ما يفسّر صعوبة العلاقة بين الفلاسفة وعامة الناس. إنّ خصوصية الموقف الفلسفي، بوصفه " موقفا إيتيقيا" لم يستطيع، مع ذلك، ردم المسافة بين الفيلسوف والعامّي . بل لعلّه يزيد الهوة بينهما اتساعا حينما يترجم الموقف الفلسفي إلى سلوك حياتي، في علاقته بالبشر، من خلال التعبير عن " حضور الفيلسوف" التاريخيّ" كفرد " يعيش حاضره " على نحو " مخصوص" بمحاولته فهمه والتفكير فيه واتخاذ موقف منه وربما السعي إلى" تغييره" أيضا... وذلك تجسيدا " لصداقته" للمدينة وانشغاله بالإنسان في أحواله...هكذا كان " الفيلسوف " سقراط نموذجا " لهذا الموقف الفلسفي " الملتزم" بالتفكير في "الإنسان" والمنشغل بحاضره . وهكذا كان الفلاسفة من قبله و من بعده على هذه الصورة وإن تعدّدت زوايا وأبعاد النظر إليها بل وسياقات تشكلها كصورة " عامّة" للفيلسوف " الملتزم"، الفيلسوف "بوصفه سياسيا" لا تتعارض لديه غايات الفعل الأخلاقي مع " غايات الفعل السياسي" . غير أن الواقع، في معنى " معيش البشر ووضعهم"، ظلّ دوما مجالا " لاختبار" هذا المعنى في " صدقيته " ومشروعيته " الأخلاقية " خاصّة.باعتباره كما أسلفنا القول، " موقفا سياسيّا- أخلاقيا" بالأساس. ولما كانت الأخلاق ليست سوى الصلة بين منظومة قيم عليا وممارسة لهذه القيم، فإنّ مجال الممارسة أو " البراكسيس" كثيرا ما يكشف عن " حرج " dilemme بين " الأخلاقي أو " الإيتيقي " وبين " السياسي" بوصفه وجها من وجوه الممارسة أو الفعل " الذي يحتكم إلى " معايير " ومعقولية خاصّة غير التي تقوم عليها " الأخلاق"، حرجا بين " الوقائع والقيم" بعبارة ماركوز، بين الوسائل والغايات . انتبه الفلاسفة دون شك إلى " إشكالية " الأخلاقي والسياسي" وبحثوا لها عن صور عديدة لإمكان " علاقة بينهما، على صعيد نظري بالأساس. بيد أن المعضلة تظل قائمة في مواجهة الأخلاق لواقع الممارسة " السياسية" ذات معقولية تحتكم إلى مبادئ المردودية والنجاعة . من هنا كثيرا ما يجد الفيلسوف نفسه في " مأزق" حقيقيّ حينما يحمله الواقع، واقع الممارسة السياسية والوضع السياسي أو " الحاضر المعيش" على اتخاذ موقف وترجمة التزامه " الأخلاقي" إلى موقف سياسيّ وهو الذي يطرح نفسه دوما رجل "الأخلاق والسياسة" من حيث انه مضطلع بمسؤولية " تحرير الإنسان من كلّ أشكال استعباده".

يكشف التاريخ عن مراحل عديدة عن " مسافة " يؤسف لها بالرغم من إمكان تفسيرها نظريا، بين أفكار الفيلسوف وأقواله وبين "مواقفه" من قضايا الإنسان . ولعلّ قضايا " التحرر" الوطني " بالذات أبرز " المحطات" التي تنكشف فيها هذه المسافة بوضوح برغم جهد الفيلسوف غالبا في تبريرها " إيديولوجيا" على صعيد " الوعي" .وذلك لأنها تضع الإيتيقي والأخلاقي في مواجهة " السياسة". وتمثّل " القضية الفلسطينية" أبرز القضايا المعاصرة التي ما تزال تشكلّ " اختبارا حقيقيّا" " لالتزام الفيلسوف " الأخلاقي، لأفكاره حول " الإنسان" . ذلك أن القضية الفلسطينية ومن وجهة نظر " فلسفية" هي قضية " الحريّة" في أعمق معانيها، قضية " الإنسان المضطَهَد "، وهي " قضية تحررّ الإنسان من أشكال اضطهاد التي يمارسها الإنسان على الإنسان. من هنا فلا مناص للفيلسوف من أن " يفكّر فيها " ويضطلع بمسؤوليته الفكرية تجاهها، بل وبمسؤوليته " السياسية والإيتيقية" تجاهها. وبالفعل فقد كان للفلاسفة الذين عايشوا ميلاد هذه " القضية" وعاصروها مساهمتهم في "الانشغال بها " على صعيد " الفكر " وحتى الممارسة في " الانخراط" في " مواقف" إيديولوجية " تشرّع سياسيا"، وربما فلسفيا أيضا وأخلاقيا "وضع الإنسان الفلسطيني والإسرائيلي" على حد السواء باعتبارهما موضوع مواجهة بل وصراع على جميع الأصعدة . اختلفت مواقف الفلاسفة المعاصرين من " هذه القضية بحكم " الموقع والانتماء " الحضاري والثقافي. ولم يكن طبعا بين الفيلسوف " العربي" و" الفيلسوف الغربي" في شأن قضية " التحرر الوطني للشعب الفلسطيني" أيّ نوع من التجانس . غير أن" القضية الفلسطينيّة" كانت لكليهما " اختبارا حقيقيّا " " لإيتيقا التفكير الفلسفي " وللالتزام " الأخلاقي" للفيلسوف بوصفه ناصرا للإنسانية أيّ كانت. غير أن هذا الذي سمّي "اختبار " الإيتيقا في السياسة كان أشدّ وقعا وأكثر دلالة لدى " فلاسفة غربيين" معاصرين بحكم المنزلة و" الصيت" وشيوع أفكارهم وكتاباتهم. ولعلّ هذا ما قد يبرّر انصرافنا إلى الاهتمام بمواقف بعض من هؤلاء الفلاسفة الغربيين المعاصرين بالرغم من أهمية التحليل المقارن بين" مواقفهم ومواقف فلاسفة مفكرين أو فلاسفة عرب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.3943 التشبث بالارض"عندما رأيت شجرة الزيتون مدمرة على أيدي المستوطنين حضنتها كأني أحضن أحد أبنائي وقد سقط شهيدا"ا (لحاجة محفوظة، فلسطينية مرابطة)

قد يكون " سارتر " الفيلسوف الفرنسي هو أوْلى من نبدأ به في هذا الباب، بحكم ما عرف عنه من نزعة " إنسانية" و" التزام" فكري وسياسي" وانتصار لقضايا " التحرّر" . وبالفعل، فقد كان سارتر دوما نصيرا - أو هكذا عرف- لحركة الشعوب المضطهدة في " التحرّر" من ربقة "الاستعمار " أو" الاستغلال الاقتصادي الخ .. وقد أدى به التزامه هذا إلى رفض جائزة نوبل للآداب. وكان لا يتردّد عن المشاركة في المظاهرات ودعم الثورات وحركات التحرّر وبشكل مخصوص موقفه المعروف من " حركة التحرّر الجزائرية" من الاستعمار الفرنسي. بيد أن التزامه هذا " فكريا وإيتيقيا" بالدفاع عن قضايا التحرّر، يجد نفسه أمام اختبار عسير، حينما يتعلّق الأمر " بالقضية الفلسطينية"، لينكشف " السياسي" حدّا " للإيتيقي" يحمل سارتر على ضرب من " الحياد الزائف" والمقنّع، فيصبح " صديق الجميع" (الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ السواء!) هكذا دون أن يحسم موقفه بوضوح تجاه " الكيان الإسرائيليّ" بوصفه " محتلاّ" . إذ يقول:" لقد كنت آمل دوما وما أزال بأن تجد المسألة اليهودية حلاّ نهائيا في إطار إنسانية بلا حدود لكن، بما أن أيّ تطوّر اجتماعي لا يمنع من وجود مرحلة تحرّر وطني، فلابدّ من أن مسرورين بأنّ دولة إسرائيل المستقلة تأتي لتضفي مشروعية على آمال وكفاح يهود العالم بأسره" (تصريح سارتر عام 1949 بعد إعلان الأمم المتحدة قيام "دولة إسرائيل" يوم14 ماي 1948). يوم النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين) . يأتي هذا التصريح بعد ثلاث سنوات من قول آخر لسارتر في كتابه " تأملات في المسألة اليهودية " بأنه " لا وجود لتاريخ يهوديّ " وأنّ العداء للسامية هو ما صنع اليهود (...) وحملهم على اختيار أن يكونوا يهودا رغم أنفهم". هذا القول ينكر على " اليهود" تكوّنهم كشعب على أساس التاريخ والثقافة . وبالرغم من ذلك فإن سارتر لا ينكر لليهود الحق في الوجود على أرض فلسطين دون أن يساءل نفسه أو بالأحرى يتجاهل طرح السؤال عن كيفية وصولهم إلى هذه الأرض، وعن حركة " الاستيطان" لليهود وهجرتهم من كافة بلاد العالم إلى فلسطين. بل إنه يعتبر إقامتهم أمرا واقعا وان على الفلسطينيين قبول ذلك . يقول سارتر بكل بساطة:" لقد استقرّ الإسرائيليون بإسرائيل وأضحى لهم أطفال بل إنّ منهم من له أحفاد . إنّ هؤلاء الذين ولدوا على هذه الأرض والذين ليس لهم مكان غيرها، قد تعلموا مهنة وهو يعملون .فلهم إذن الحقّ في السيادة على الأرض". غير أن سارتر، وفي تنازع بين دعوى الالتزام أخلاقيا بـ"الحقّ الإنساني في الحرية" وبين " الاعتراف " بالدولة الإسرائيلية " سياسيا" ككيان، يعبّر سارتر عن " حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم" وأهمية ذلك في تحقيق السلم وإنهاء النزاع بين اليهود والعرب . فيقول:" يجب اعتبار إنشاء دولة فلسطينيّة حدثا من أهم الأحداث في عصرها وواحدا من الأحداث التي تسمح لنا بالتفاؤل". نلاحظ كيف أن سارتر لا يذهب بالتزامه الإيتيقي تجاه الإنسانية إلى موقف حاسم يعترف فيه بالاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين أي بتوطين الإسرائيليين على أرض فلسطين. ذلك أن وجود إسرائيل في نظره لم يكن حدثا استعماريا.إذ يقول:" لا يمكن أن نسحب السيادة من الإسرائيليين لأنهم موجودون في فلسطين لأجيال ولا يستغلون البلد استعماريا. وأقول أيضا بنفس الطريقة: إنّ الناس الذين وقع طردهم، فلابد من أن يكون لهم حقّ العودة". هكذا، يسمّي الإسرائيليين باسمهم ويعتبر ويشير إلى الفلسطينيين " بعبارة الناس". وذلك باسم " حياد " هو في الحقيقة زائف . وحينما يتعلّق الأمر بتبرير "دفاع" الفلسطينيين عن أرضهم لا يتردّ سارتر في اعتبار ذلك " إرهابا" وإن كان "مشروعا" في نظره فيقول:" اسمعوا، انأ لا أرى مع الأسف، حلا آخر (غير الإرهاب)في هذه اللحظة. لا ألوم الفلسطينيين أن يفعلوا ما فعلته جبهة التحرير في الجزائر، ولا أن يخوضوا المعركة بما لديهم من وسائل.فلو كانوا أكثر عدد لحاربوا على نحو آخر- إن الإرهاب سلاح الفقراء، وقد كان دوما موجودا- لكنه في النهاية، هو أيضا في حالات معينة طريق نحو حرب شعبيّة...". ولأنّ سارتر صديق " الجميع ": الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، (وقد ذهب إلى إسرائيل وإلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين صحبة بارنار ليفي، في محاول للإطلاع على وجهات النظر وتصوّر حلول للنزاع بينهما )، فإنّه لا ينكر على الإسرائيليين حقّ الردّ على " اعتداءات " الفلسطينيين فيقول:" ولا أنكر على الإسرائيليين أيضا أن يردّوا على الهجوم عليهم لأنه لا يمكن أن نطلب منهم أن يتركوا أنفسهم كلّ مرّة عرضة للقتل ." يجد سارتر، دون شكّ، حرجا شديدا في حسم موقفه الذي يتّسم بالتعقيد وبضرب من الشعور بالألم تجاه نزاع لا منته فيقول:" إنّنا نجد تضادّ العالم العربي وإسرائيل بمثل انقسام فينا ونحن نحيا هذا التضادّ كما لو كانت مأساتنا الشخصية." - سارتر 1966 في محادثة مع رجل السياسة الإسرائيلي سيمها فلابان ). ينتهي موقف سارتر " المحايد" وغير القادر على الحسم إلى حلّ الدولتين.

وغير بعيد عن هذا الموقف المركّب، نجد " حنّا آرنت" الفيلسوفة " اليهودية الأصل" تنقد اليهود في علاقة بعض الجمعيات بالنازية ولكن دون أن تنكر على " إسرائيل" إقامة دولتها طبعا بل تتحمّس لذلك وتشارك في ترحيل " أطفال اليهود في فرنسا إلى " أرض الميعاد" . فلقد اعتبرت " آرنت" قيام " الصهيونية" " تحوّلا كبيرا " ثوريا " في حياة اليهود" من حيث أنها " محاولة لحل المشكل اليهودي"، " بتحويل اليهود إلى شعب مثل سائر الشعوب". وهو ما سيؤدّي في نظر مؤسس الصهيونية ( هرتزل) إلى نهاية " كراهية اليهود". غير أنّ هذا كان حلم هرتزل " كما هو حلم حنا آرنت، الحلم الذي كذّبه التاريخ بحكم أن قيا م "دولة إسرائيل " كان في مجال جغرافي، في منطقة حيث تحاط هذه الدولة الناشئة " غصبا" بشعوب تحمل " كراهية " لهذا الكيان لأنه بالذات غاصب . لقد أقيمت دولة إسرائيل في نظر آنت على " حلم صهيوني" لم يأخذ بعين اعتبار " الشعوب المجاورة" وهو ما سيؤدّي إلى نزاع لا منته . تقول آرنت:" يتظاهر بعض القادة الصهاينة بالاعتقاد بأنّ اليهود يمكن أن يظلّوا في فلسطين ضد رغبة الجميع وأنهم يستطيعوا أي هؤلاء القادة أن يواصلوا سياسة كل شيء ولاشيء تجاه وضدّ الجميع وضدّ كل شيء .(...) يتخفّى وراء هذا التفاؤل يأس عميق وقبول عميق للانتحار". لأجل ذلك فقد كان موقف حنا آرنت من " الصهيونية" موقفا نقديا حذرا لا يتردّد في نقد مسارها التاريخي ومآلات سياسة القادة الصهاينة في التعامل مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامّة. وترى حنا آرنت أن " دولة إسرائيل الصهيونية " دولة شمولية قمعية لا تكترث " للشعب الفلسطيني" بل تنتهج سياسة محور حضوره التاريخي وهنا يكمن موطن الداء وأصل الصراع . تقول آرنت:" لقد كان الصهاينة منشغلين جدّا بفكرة أن الشعب الذي لا أرض له في حاجة إلى أرض خالية من أي شعب إلى درجة نسوا فيها ببساطة السكّان المحلّيين". غير أن الكيان الصهيوني لم ينسى وجود السكان المحليين" بل الأصليين، إنما تناسى وجودهم وتصرف كأنهم غير موجودين . تلك هي سياسة اللامبالاة والإنكار التي عبرت عنها حنا آرنت في معنى " حلم إسرائيلي" ببلد لا يوجد:" إن البلد الذي تحلم به إسرائيل لا يوجد (...) فان تكون فلسطين، فهي ليست مكانا حيث يمكن لليهود أن يعيشوا معزولين، وليست هي بأرض ميعاد حيث يمكن أن يتخلّصوا من عداء السامية". تتهم حنا آرنت قيام دولة إسرائيل " بمنطق الإقصاء " للآخر وإنكار وجوده وتقوقعها على ذاتها داخل دائرة حكم " كلياني" . بيد أنها لا تعتبر وجود إسرائيل وجودا استعماريا من حيث أنها لا تستغل السكان المحلييّن، لكنها تتغافل عما هو أخطر من ذلك، أي تهجيرهم من أرضهم والتعامل معهم "كمهاجرين" وغرباء عن الأرض وهذا شكل من " الاستعمار" التخريبيي إن صحت العبارة، ليس هم بالأعمار بل " الإخلاء" للأرض. وذلك حتى يكون " الإسرائيليون هم " أصحاب الأرض " الأصليين، وملاّك أرض " خالية" لا سكان فيها. " أرض بلا شعب" . لم تستطع حنا آرنت أن تذهب بتحليلها إلى حدّ " سحب المشروعية" أو حتى التشكيك في وجود "إسرائيل" على أساس " الحق" بل على العكس تقرّ لها بالحقّ في الوجود بل وتعتبر ذلك منعرجا تاريخيا بالنسبة إلى اليهود وبذلك تكون وفية لأصولها " اليهودية"، للحلم اليهودي بـ"إسرائيل كبرى "." فحقّ اليهود في فلسطين قائم على عمل اليهود ". غير أنها وبضرب من الحياد " المزعوم" لا تنكر على الفلسطينيين حقهم في الوجود جنبا إلى جنب مع اليهود، في " كنفيدريالية". لكن قيام الكيان الصهيوني على " الغصب" للأرض لم يساعد على تجسيد هذا " الحلم"، بل زاد الوضع تعقيدا وحمل العرب والفلسطينيين على " معاداة" دائمة مبدئية لليهود وجعل الصراع بينهما غير منته، صراعا عنيفا بالضرورة. لا تعترف حنا آرنت بمشروعيته من جهة " الفلسطينيين" حينما تعتبره كغيرها إرهابا" لا مقاومة. بل وتتحدّث عن انتصارات لليهود في " معركتهم مع العرب"، انتصارات لئن لم تضع حدّا للكراهية لليهود، فإنها وطّدت وجود إسرائيل في " دولة قومية ". غير أنها تقرّ مع ذلك بأنّ" الكيان الإسرائيلي" مارس سياسة اقتصادية وثقافية..بدولة شمولية عسكرية، غير مكترثة بالفلسطينيين والعرب المجاورين ولذلك فإنّ مستقبلها غير "مضمون" بل إنّ صراعها مع العرب لن يفضي إلى "وجود آمن" . تقول حنا آرنت:" لم تغيّر الحرب وانتصارات الإسرائيليين شيئا ولم تحلّ المشكلة..." بل على العكس، " فإنّ منزلا لا يعترف به جاري بما هو كذلك ولا يحترمه، فليس منزلا . إنّ وطنا قوميا يهوديا لا يعترف به الشعب المجاور ولا يحترمه ليس وطنا، بل وَهْمًا - حتى يصبح ميدان حرب.(...) إنّ دولة يهودية حتى في فلسطين أغلبيتها يهودية، وبعبارة أخرى حتى لو كانت فلسطين يهودية خالصة، فستكون تشكيلا فقيرا جدا دون اتفاق مسبق للشعوب العربية المجاورة". لكن كثيرا ما كانت الأحداث في المنطقة العربية وفي علاقة بالنزاع العربي الإسرائيليّ مناسبة لكشف هشاشة وربما زيف هذه النظرة " المحايدة" لحنا آرنت . ففي حرب 67 والعدوان الثلاثي انتصرت حنار آرنت وبوضوح شديد لإسرائيل إذ تقول:" لقد قام الإسرائيليون بعمل رائع" وتضيف في رسالة إلى كارل جاسبرس بأنّ "جمال عبد الناصر يجب أن يشنق مباشرة". هكذا تكّذب الوقائع السياسية مزاعم " الخطاب الإيتيقي" لآرنت عن تعايش وسلم بين الفلسطينيين والعرب وإسرائيل. وتكشف عن زيف خطاب آرنت حول " الاستعباد والاستغلال " ونقد الرأسمالية العالمية واضطهاد الإنسان! لقد كانت آرنت دوما مع قيام دولة إسرائيل، دولة قومية لليهود وتعتبر ذلك " أمرا واقعا " على الجميع قبوله وعدم التشكيك في مشروعيته بأي وجه من الوجوه. غير أنها قيام دولة إسرائيل لا على أساس تاريخي ولا ثقافي بل " بقرار سياسي" لا يتعارض لديها مع الدعوة إلى "حسن الجوار مع الدول العربية فتقول:" إنّ التصرّف الواقعي الوحيد يتمثّل في سياسة تحالف مع شعوب متوسطية أخرى يدعمّ التموقع المحلّي في فلسطين ويضمن تعاطفا حقيقيّا مع الجيران". تعبّر آرنت عن " حلم" بالتوافق بين العرب وإسرائيل، توافقا يكاد يكون مستحيلا لغياب شروط تحقّقه فعليا بالنظر إلى سياسة "إسرائيل الصهيونية " العنصرية وسعيها الحثيث إلى إبادة " الشعب الفلسطيني"، فعن أي توافق نتحدّث والحال هذه؟!!

يعبّر جاك دريدا عن " هذا الحلم" في موقف " خجول" يترجم عن التزام إيتيقي غير حاسم بالقضايا الإنسانية . إذ يحرص داريدا على " الصداقة" للجميع ويساوي الضحية والجلاّد. داعيا بعبارته الشهيرة " يجب فعلا أن نعيش معا " فليس هناك خيار، في التعايش، فيقول:" لا يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين أن يعيشوا معا حقا إلا يوم يكون السلم ( وليس إيقاف الحرب،أو مسار السلام) يصبح قائما في الأجساد والقلوب، حينما ينجز الضروري من أولئك الذين يملكون سلطة اتخاذ المبادرة بطريقة حكيمة أفقية أولا ". وحيث أن درايدا لا يطرح بوضوح " نشأة إسرائيل " إلا على نحو تلميح إلى مفارقات النشأة، فسيظلّ موقفه على صعيد الواقع الفعلي مجردّ " حلم يقظة" لمفكّر لم يستطع أن يحسم بشكل قاطع حتى على صعيد " الفكر" في "الانحياز " إلى " صاحب الحقّ. " إذ يقول بأسلوب " حذر" خجول:" هل حدث فعلا هذا الاختراع السياسي في إسرائيل؟ أنا من الذين ينتظرونه، هذا " الحدث السياسي" في إسرائيل، ومن أولئك يطلبونه في الأمل، واليوم أكثر من أي وقت مضى وبيأس من الأحداث الأخيرة، حتى لا نتحدّث عن سواها، لا تأتي إلاّ لتكثيف ( على سبيل المثال (...) استمرار " الاستيطان" الاستعماري أو قرار كهذا للمحكمة العليا تجيز التعذيب، و، بوجه عام، كلّ المبادرات التي توقف، وتحوّل وجهة أو تقطع ما نستمرّ في تسميته، كطريقة في التعبير " مسار السلام". وبالرغم من انتقاد داريدا " أحيانا وبالمناسبة " سياسة " دولة إسرائيل"، بل ونشأتها " العنيفة "، فإنه لا يتردّد في اعتبار " المقاومة " إرهابا".منكرا " الحق" في الدفاع عن النفس " ورفض الفلسطينيين الاحتلال الإسرائيلي" فيقول زاعما ضرورة " الحكم بإنصاف على واقع الصراع" وتجميل المسؤولية لكلا الطرفين المتنازعين:" الحكم بإنصاف على المسؤوليات المتبادلة والمتباينة وغير القابلة للمقارنة: فمن جهة النشأة العنيفة لدولة إسرائيل مع تواطؤ عديد الدول القوية، وفي الأثناء تمديد وتطوّر قمع من نوع استعماري وتقليدي(ّ...) وفي المقابل، الإرهاب، وسياسة آثمة لعديد الدول العربية في المنطقة، لدول قليلة الديمقراطية، وسلطة فلسطينية أثقلتها الأحداث، وبالكاد ديمقراطية، وتغريها وتكرهها المزايدات. يمكننا ولا بد لنا من الاستمرار في هذا النهج، التشديد ومزيد تكثيف الدعوات( إلى التعايش والسلم..)". يكتفي جاك داريدا في النهاية مثلما حال سارتر وغيرهما بالدعوة المتكرّرة إلى "السلام" والتعايش بضرب من الأمل في " مستقبل أفضل "، مع القفز على " واقع الهيمنة والاحتلال والتعذيب والاستيطان بل والإبادة الجماعية التي ينتهجها الكيان الإسرائيلي فيقول بتفاؤل " الحالم":" ربما هو الوقت قد حان لصنع المستقبل مع ألم غير قابل أن يصلح، إذا ما أردنا أن نفقد أيضا، مع أرواحنا حياتنا.(...)ودون سابقية إضمار، لابد من أن نجبر الضرر قدر الإمكان حيثما يوجد إمكان لذلك، ولابد أن نعيد المهجّرين قدر الإمكان ويجب أن نقوم بعمليات التطعيم الأكثر مشروعية، ولابد بالخصوص مشاركة الأرض". هكذا إذن يكون من الضروري خاصّة في نظر داريدا " مشاركة الأرض" بين الفلسطينيين " وهم أصحابها" وبين " الإسرائيليين وهم " غاصبوها" ومفتكّوها عنوة من " أصحابها . يتساوي عند داريدا " صاحب الحقّ وغاصبه . ولا يرى أيّ حرج أخلاقي بالمرّة في أن يقبل " صاحب الحق" واقع " الاحتلال " في وقت يسلّم فيه داريدا " بما يسمّيه " النشأة العنيفة " (عبارة لطيفة خجولة للدلالة على الاحتلال الإسرائيلي) "لدولة إسرائيل"؛ بل نجده كما سارتر وآرنت يعتبر وجود أو قيام ّدولة إسرائيل" " حدثا بارزا يبعث على الأمل" في نهاية معاناة " اليهود" . ودون تقدير لمعاناة " الفلسطينيين وقد اغتصبت أرضهم، يدعو بكل " حياد" هؤلاء إلى القبول " بالأمر الواقع" بوجود " الكيان الإسرائيلي " والتعامل معه بما هو كذلك بل والجهد في التصالح معه " ونسيان" كل الآلام والعذابات...بل والتطلع إلى مستقبل أفضل "لتعايش" يظلّ في نظرهم ممكنا مع كلّ ما يشهده الواقع من استمرار " الكيان الصهيوني" في سياسة " الإبادة الجماعية " لشعب فلسطين، فأي تعايش يمكن مع هذه الإبادة؟! يغمض داريدا عينيه عن هذا الواقع الصارخ ويسلك مسلك "النفاق" والتمترس وراء " إنسانية " كونية وخطاب إيتيقي حول " التعايش والصداقة والسلم الخ" وهو يعلم أن " الواقع " السياسي يكذّبه ويجعله خطاب " حالم" يأبى أن يفتح عينيه على هذا الواقع المأساوي الذي لا يترك أي طريق إلى الحلم . كيف يمكن " الحلم " بالسلام مع " استمرار الاستيطان" والتعذيب اليومي والتهجير والإبادة وافتكاك الحقوق الخ ؟! وبضرب من " السلوك الدبلوماسي" السياسي، يعبّر داريدا عن انشغاله بوضع الفلسطينيين والإسرائيليين على حد السواء، انشغالا " منصفا" وجدانيا وملائما سياسيا، حتى لا يتهم بالعداء " للسامية"، تهمة يخشاها المثقفون حينما يتحدثون عن "اليهود "، وحتى لا يتهم بالانحياز إلى " الظلم" فيما يتعلق بالفلسطينيين فيقول:" أفكّر فيهم دائما، بكل صداقة ومواساة:... في الفلسطينيين الذين، وفي الوقت الذي يكافحون فيه من أجل استقلالهم الشرعي وتأسيس دولتهم،لا يدينون مع ذلك الهجمات الانتحارية، لكن أيضا في الإسرائيليين الذين يكافحون ضدّ (السلطة) ويرفضون أحيانا بعض المهاّم التي توكل إليهم". (داريدا من مقابلة سنة 2004). ولابد لنا بالمناسبة لفهم هذا " الحياد الكاذب" أن نطّلع على كتاب داريدا عن "الصفح" وموافقته جانكليتفيتش الفيلسوف اليهودي الذي يرى أن الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود لا تغتفر وغير قابلة للصفح. وداريدا هو الآخر من أولئك" المثقفين الغربيين" الذين يحملون " إثم" اليهود المضطهدين والشاعرين بمسؤولية ما عانوهم تاريخيا في أوروبا من " النازية" لوصفها " اختراعا أوربيّا"، وهو من هؤلاء الذين يساندون " اليهود" مساندة مطلقة ويرون في نشأة دولة " إسرائيل" " مكافأة سعيدة" لمعاناتهم الطويلة وتكفيرا أوروبيا غربيا " عن ذنب اضطهادهم. أما اعترافه بالحقّ الفلسطيني فيأتي " محتشما" خجولا من باب " الحياد" الزائف والإلزام "الإيتيقي" الكاذب حتى لا يتهّم بالتناقض وازدواجية الخطاب الخ ...

إنّ مواجهة هؤلاء الفلاسفة بالقضية الفلسطينية سرعان ما يكشف عن "زيف" إدعاءاتهم بالدفاع عن " المضطهدين" والمستضعفين في العالم، وعن الإنسان أينما كان ...ويجعل من " التزامهم الأخلاقي والإيتيقي " الذي يدّعوه ويكرّسوه في خطابهم الفلسفي أضعف ما يكون في مجابهة " الواقع السياسي" أو بالأحرى " التزامهم السياسي" تجاه " إسرائيل " والسياسات الداعمة لها بالنصرة لها بل ودعمها " سياسيّا" فعليا حينما يلزم ذلك.

ولم يكن الفيلسوف اليهودي الأصل " لوفيناس" خارجا عن هذا الموقف العام بل كان أكثر وضوحا في التزامه به . فبالرغم من دعواه الفلسفية إلى " الانفتاح على الغيرية " والالتقاء بالآخر المغاير وجها لوجه الخ، فإنّه - حينما يتعلّق الأمر "بالمسألة اليهودية "، يكون حاسما في الإقرار بحق اليهود في بناء دولتهم والإقامة في أرض " فلسطين" أرض " الميعاد". يقول لوفيناس:"لا يتمثل المهمّ لدولة إسرائيل في تحقيق وعد قديم، ولا في بداية عهد أمن فعليّ - إشكالية مع الأسف- بل في الفرص التي أتيحت أخيرا لإتمام القانون الاجتماعي لليهودية. لقد كان الشعب اليهودي متعطّشا إلى أرضه ودولته، لا بموجب استقلال دون محتوى ينتظره، بل بسبب إنجاز حياته الذي يمكن له أن يبدأه في النهاية". (لوفيناس "الحرية الصعبة. (1984). يعتبر لوفيناس نشأة " دولة إسرائيل" عملا خالدا رائعا " فيقول" لقد حانت في النهاية ساعة العمل الخالد. إنه لشيء فظيع مع ذلك أن نكون الشعب الوحيد الذي يعرّف بمذهبه في العدالة والوحيد الذي لا يستطيع تطبيقه". ويعتبر لوفيناس وهو" اليهودي" أن اليهود " شعب الله المختار" في معنى للاختيار بأّنه:" وعي بالواجبات الاستثنائية". يستند لوفيناس إلى التاريخ التلمودي ليبرّر وجود " الكيان الصهيوني"، معتبرا إياه مشروعا وليس" احتلالا" بالمرّة، إذ يقول:"إنه لمشكل حادّ، أنه ومنذ إنشاء دولة إسرائيل على قطعة من أرض قاحلة كان ملكية أبناء إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين قرنا، وبالرغم من هدم يهودا سنة 70، لم تخل المجموعات اليهودية المكان، وأنه في الشتات أو التيه لم تكفّ عن المطالبة ومنذ بداية القرن قاموا بإعادة إعمارها بعملهم؛ لكن، وفي قطعة الأرض التي توجد أيضا منذ قرون يسكنها أولئك الذين، محاطين من كلّ جانب على مساحات كبرى، هم الشعب العربي الكبير الذين هو جزء منها ويسمون فلسطينيين". يريد لوفيناس كما هو بيّن أن يقرّ بأن قيام " دولة إسرائيل لم يكن بالعنف بل على أساس "التاريخ والثقافة". ومن هنا فليس وجودها استعماريا. ومن هنا أيضا فلا مناص للعرب وللفلسطينيين أن يقروا لها بالحقّ في الوجود بل لابد من التوافق والتصالح وقبول هذا الوجود "الشرعيّ". وان أصل النزاع في هذا الرفض الذي يكاد يكون غير "مبرّر" خاصة على أساس تاريخي. فالإسرائيليون " هم أصحاب الأرض" كما الفلسطينيين وهذا ما قامت عليه " الصهيونية " بوصفها بعبارة لوفيناس "أحد أهم الأحداث الكبرى للتاريخ البشري". وإذا كان وجود: الكيان الصهيوني" في المنطقة العربية يجعله محاطا "بأعداء" فذاك أمر يؤسف له في نظر لوفيناس، ولكنه واقع لابد من أخذه بعين الاعتبار في تحقيق " السلام" , ويمتدح لوفيناس بالمناسبة "خطوة السادات في تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل. ويذهب لوفيناس إلى الاعتقاد انه لا مناص من التعايش، على معنى "داريدا" كاضطرار، بين العرب وإسرائيل فيقول:" ليس ليهودي من حاجة أن يكون " نبيّا ولا ابن نبيّ" حتى يرجو و يأمل في مصالحة يهودية -عربية، وكي يرى فيه، من وراء التجاور السلمي، بمثل جماعة أخوية". هكذا كان أيضا حلم " ريمون آرون" الفيلسوف وعالم الاجتماع اليهودي الأصل، تحقيق المصالحة بين " العرب وإسرائيل" ؛ مصالحة، لئن كانت صعبة وعسيرة جدا، فإنها مع ذلك ممكنة لو اعترف " العرب " بإسرائيل أمرا وقعا لا مجال لرفضه آو إنكاره أو التشكيك في شرعيته. يقول آرون:" سيستمرّ النزاع طويلا قائما بقدر ما لم يعترف جيران إسرائيل بها (...) فلا يمكن لإسرائيل، وحي متفوقة عسكريا أن تحلّ مشكل وجودها بالقوّة. وفي المقابل فإنه يوم يصبح جيرانها أكثر قوة منها فسيكون لهؤلاء فرصة خلق الأمر الواقع". لم يخفي آرون انتماءه " اليهودي" حتى وإن لم يكن متدينا لكنه كان شديد الصلة وجوديا، وهو المقيم في فرنسا، بدولة إسرائيل. فقد كان متنصرا لها معترفا في الآن نفسه مع ذلك بمأزق " الصهيونية " التي زادت الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية تعقيدا بسياسة اللامبالاة بالعرب. غير انه لا يخفي تعاطفه إنسانيا مع اليهود في معاناتهم فيقول:" أتألم مثلهم، ومعهم مهما قالوا وفعلوا، لا لكوننا أصبحنا صهيونيين أو إسرائيليين، بل لتنامي المدّ التضامني فينا. وأي كان مصدره. وإذا كنت القوى لكبرى بموجب حسابها الرياضي لمنافعها، تترك هذه الدولة الصغير للهدم لكونها ليست دولتها، فإنّ هذه الجريمة، والمتواضعة قياسا بالعدد، فأنها تنزع عنّي الرغبة في الحياة واعتقد أنّ ملايين الملايين من البشر سيخجلون من الإنسانية". إنّ علاقة آرون بالـ" الكيان الإسرائيلي" ليست وجودية فحسب كما يبدو بل وجدانية إذ يقول:" أعرف بوضوح أكثر من الماضي بأنّ إمكانية تدمير إسرائيل يجرحني في أعماق نفسي . كثير من مثقفي اليسار قاموا بنفس تجربتي: ينسون لفترة " الإمبريالية " و" الواقع الاستعماري"، ويتذكّرون أصولهم ويجدون أنفسهم لدهشتهم يهودا".

على هذا النحو تضع " السياسة" كثيرا من المثقفين والفلاسفة الغربيين أمام: امتحان" عسير" لآرائهم حول " الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وسائر القيم الأخلاقية وحول الإنسان قيمة كونية وغاية قصوى الخ .. . فينسون كل ذلك أو يتغيّر الخطاب الفلسفي، وقد كان من قبل، على صعيد النظرية، " حاسما " إيتيقيا " ليصبح " بفعل السياسة" وتأثير السلطة، وهيمنة الأقوى ( اللوبي الصهيوني) خطابا " ناعما" محايدا خجولا غير قادر على الحسم . فحينما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية بالذات " قضية القضايا "" حتى للإسرائيليين كما يقر بذلك من ذكرنا من الفلاسفة، ينكشف الزيف وازدواجية الخطاب والكيل بمكيالين والنفاق و" الديبلوماسية " الخ ...ليطرح " الفيلسوف نفسه" " صديقا للخصوم فيساوي بقصد منه وبشكل " وقح" بين الضحية والجلاّد زاعما " الحياد" فيما لا يستقيم فيه الحياد لو كان التزام الفيلسوف "حقيقيا" تجاه الإنسان، صاحب الحقّ. فكأنما " الفلسطينيّ" ليس إنسانا أو إنسانا من" درجة ثانية" بالنظر إلى الإنسان " اليهودي". من الثابت أن المثقف عموما، والفيلسوف خصوصا لا ينكشف " حقيقيّا" إلى في مواجهة " لحظة الحسم"، خارج " الحياد" . فالحياد كما يقول بارط " أملس وفارغ وغير ملتحم " . هو كذلك دوما وخاصّة حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية بالذات. يكتب " الفلاسفة " بكل أشكال الحياد، ليرتحلوا في " اليوتيوبيا" وفي الحلم، هروبا من مسؤولية " اتخاذ القرار ": الانحياز إلى الحقّ . يكتبون بكلّ أشكال الكتابة المحايدة بعبارات رولان بارط، بـ " الكتابة البيضاء، المعفاة من كلّ مسرح أدبي، اللغة الآدمية - التفاهة المستساغة- الأملس، والفارغ وغير الملتحم، والكلام المنثور ( صنف سياسي وصفه ميشليه)- التكتّم و شغور "الشخص"، إمّا ملغى أو على الأقلّ قد صار غير قابل للإصلاح- غياب الصورة الهوامية وتعليق الحكم، والمحاكمة، - التنقّل - رفض " أن نعطي لأنفسنا احتواء" ( رفض كلّ احتواء ) - مبدأ الرقّة- الانسياق - الاستمتاع: كل ما يراوغ أو يحبط أو يجعل الكلام تافها، التحكّم والتبكيت." ليس المحايد أمرا للغة. وَلْنَقُلهْا ( تقريبا) مثله: هو الإرتحال في يوتيوبيا."

وإذا كان الغالب على " المثقفين، حتى مثقفي اليسار، ومنهم فلاسفة لا يملكون الجرأة والشجاعة على قول الحقّ في وجه هيمنة "اللوبي الصهيوني "، فإنّ من الفلاسفة الغربيين من لا يتردّد في ذلك. ليفضح واقع " الخوف" والانحياز الفاضح والتناقض حتى بين " الخطاب الإيتيقي والأخلاقي لكثير من الفلاسفة الغربيين وبين مواقفهم " السياسية" تجاه واقع الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين على وجه الخصوص. هذا جيل دولوز أحد الفلاسفة القلائل الذين لم يتردّدوا في فضح ظلم الصهاينة وأوهامهم الكثيرة التي حملوا الكثير على " تصديقها" عنوة، بسيطرتهم على وسائل الإعلام. يقول جيل دولوز:" سوف تطالب الصهيونية ثم دولة إسرائيل الفلسطينيّين بأن يقرّوا لهما بالحقّ. في حين لا تكفّ دولة إسرائيل ذاتها عن إنكار حتّى واقع وجود شعب فلسطينيّ. لا نتحدّث مطلقا عن الفلسطينيين، بل عن عرب فلسطين، كما لو كانوا هناك بالصدفة أو على وجه الخطأ. وسنتصرّف فيما بعد كما لو أنّ الفلسطينيين المهجّرين قد أتوا من خارج، وسوف لن نتحدّث عن حرب المقاومة الأولى التي خاضوها لوحدهم. سنجعلهم أحفاد هتلر بما أنهم لم يعترفوا بحقّ إسرائيل. لكن إسرائيل تحتفظ بحقّ إنكار وجودهم الفعلي. هنا يولد توهّم لابدّ أن يتوسّع أكثر فأكثر، ويرمي بثقله على كل أولئك الذين يدافعون عن القضية الفلسطينيّة. يتمثّل هذا التوهّم وهذا الرهان لإسرائيل، في اعتبار أنّ كل من يعترض على الظروف الواقعية وأفعال الدولة الصهيونيّة، هو معاد للسامية . تجد هذه العملية منبعها في السياسة اللامبالية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين.

لم تخف إسرائيل مطلقا هدفها منذ البداية: إخلاء الأرض الفلسطينيّة. بل أكثر من ذلك، التصرّف كما لو كانت الأرض الفلسطينية خالية، وكونها موعودة دوما للصهيونيين. يتعلّق الأمر طبعا بالاستعمار، لكن لا بالمعنى الأوروبي للقرن 19م: لا نستغلّ سكان البلد، بل نهجّرهم. ومن يتبقّى منهم، فلن نجعل منه يدا عاملة مرتبطة بالمنطقة، بل بالأحرى يد ا عاملة متنقّلة ومنفصلة، كما لو كانوا مهاجرين وضعوا في غيتو.

يتعلّق الأمر منذ البداية بشراء الأراضي وفق شرط وهو خلوّها من السكان أو قابلية إخلاءها منهم. إنها إبادة جماعية، لكن تظلّ التصفية الجسدية فيها لاحقة للإخلاء الجغرافي: يجب على الفلسطينيين باعتبارهم عربا على وجه العموم، أن ينصهروا مع العرب الآخرين. إنّ التصفية الجسدية، سواء أوكلت للمرتزقة أو لا، هي حاضرة. لكنها ليست إبادة جماعية في زعمهم، بما أنّها ليست " الهدف النهائيّ": وبالفعل فهي وسيلة من بين وسائل أخرى.

إنّ تواطؤ الولايات المتّحدة مع إسرائيل لا يعود فحسب إلى هيمنة اللوبي الصهيونيّ. فقد بيّن إلياس سانبار بوضوح كيف أن الولايات المتّحدة تجد في إسرائيل مظهرا من مظاهر تاريخها: القضاء على الهنود الحمر، الذي ليس، هنا أيضا، سوى جزء فيزيائيّ مباشر. يتعلّق الأمر بالإخلاء، وبما أنّه لم يحدث أن وجد هنود حمر في أرض فلسطين، اللهمّ في الجيتوات، حيث كثيرا من المهاجرين من الداخل. إنّ الفلسطينيين ومن نواحي كثيرة هم الهنود الحمر الجدد، الهنود الحمر لإسرائيل. يشير التحليل الماركسي إلى حركتين متكاملتين للرأسمالية: فرض حدود باستمرار، داخلها تنظّم الرأسمالية وتستغل نسقه الذاتي؛ والدفع باستمرار إلى أبعد ما يكون حدودها، وتجاوزها لإعادة بناءها الخاص على نحو أكبر أو أكثر كثافة. إنّ دفع حدودها، هو حركة الرأسمالية الأمريكية، للحلم الأمريكي، الذي استعادته إسرائيل وحلم إسرائيل الكبرى على الأرض العربيّة، وعلى كاهل العرب."جيل دولوز"نظامي حكم للمجانين "، مينوي 1983).

***

عبد الوهاب البراهمي

.....................

هامش:

وقع الاعتماد في هذا المقال بالخصوص على ملف (في 5 مقالات) في " المجلة الفلسفية " الفرنسية مقالات متسلسلة بعنوان:" الفلاسفة في مواجهة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني" (أكتوبر 2023)

عند بداية الأعوام الأولى لسقوط النظام السياسي، كنت من أوائل الذين وقفوا الى جانب سياسة تشجيع ودعم الجامعات الأهلية في العراق، من منطلق اعتبارها منافس حقيقي وند مكافئ – هذا ما كنت أظن - للجامعات الحكومية التي كان مستواها العلمي قد شارف على التآكل، جراء تفشي علاقات الاستزلام والزبائنية المرتبطة بالانتماءات الحزبية والولاءات الإيديولوجية، ليس فقط داخل الحرم الجامعي وضمن مقرراته المنهجية فحسب، بل وكذلك بين أروقة ملاكاته الإدارية وهيئاته التدريسية التي كانت عقليتها وعلاقاتها قد تأدلجت الى حدّ يعيد .

ولعل الخطأ الذي اركبته، هو الاعتقاد بان من مزايا الجامعات والكليات الأهلية كونها مؤسسات تعليمية تعود ملكيتها للقطاع الخاص كمشروع تجاري، يستهدف الأرباح المالية لقاء الاستفادة من مخرجاته العلمية والمعرفية. هذا بالرغم كونها (الجامعات الكليات) ملزمة بمراعاة بعض الشروط العلمية والفنية والإدارية التي تحددها وزارة التعليم العالي كجهة حكومية مسؤولة . غير أنها لا تخضع – شكليا"على الأقل - لأية اشتراطات سياسية أو اعتبارات إيديولوجية، لا بالنسبة لسياسة قبول الطلبة ولا بالنسبة لطبيعة المناهج الدراسية المقررة مثلما هو شأن نظيرها الجامعات الحكومية . بحيث يتيح لها هذا الأمر أن تكون بمنأى عن الالتزامات والاملااءات التي تخضع لها نظيرتها الأخيرة وتكون ملزمة بمراعاتها والتقيد بضوابطها . هذا وقد فاتني في حينها أن شروط نجاح المشاريع ذات الطابع الخاص – بما فيها مشاريع المؤسسات التعليمية / الجامعية - تحتاج الى أوضاع سياسية مستقرة ومتوازنة، تكون فيها (الدولة) هي الجهة المسؤولة والوحيدة عن تنفيذ القوانين وسريان التشريعات، دون السماح لأية جهة أخرى التدخل في شؤونها الوطنية والمساس في صلاحياتها السيادية . 

ونظرا"الى ركام الخلفيات السياسية والمرجعيات الإيديولوجية الموسومة بالتحزب والتعصب التي هيمنة – على مدى عقود عمر الدولة (الوطنية) - على عمل المؤسسات البيداغوجية (المدارس والمعاهد والجامعات) في المجتمع العراقي، حيث سيادة الرؤى الواحدية لسيرورات الواقع وهيمنة التصورات النمطية لثقافات المجتمع، فقد كان حصول أي تغيير في هذه المسارات أو وقوع أي تحويل في تلك العلاقات، كفيل باستقطاب المشاعر الرافضة وتحفيز النوازع المناهضة التي كانت تنظر بعين الرضى والقبول الى كل ما كان يطرأ على أنظمة الحكم السياسي الشمولية من انكسارات إيديولوجية وانهيارات مؤسسية كنوع من أنواع (الثأر) للأنا المخصي والمقموع ، وذلك بصرف النظر عن طبيعة المصدر أو الجهة التي أحدثت التغيير وساهمت في التحول . بحيث ان لحظة سقوط النظام السابق كانت بمثابة دعوة مجانية لإطلاق تلك النوازع الثأرية المختزنة من عقالها، لاختراق تلك الشقوق والتصدعات التي كانت سلطات الأنظمة السابقة تحاول إخفائها وترميمها دون جدوى .

والمشكلة هي انه كلما تطاول العهد بالأنظمة السياسية التوتاليتارية وتصلبت قبضتها السلطوية في الردع والقمع، كلما تزايدت انحرفات المجتمع وتعاظمت إخفاقات الدولة، الأمر الذي يفضي بالمكونات الاجتماعية المتذررة اثنيا" وقبليا"وطائفيا"الى استمراء مظاهر الفساد في المؤسسات الحكومية واستشراء ظواهر الفوضى في العلاقات الجماعية كنوع من أنواع التعويض عن الحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي . بحيث تستطيع تلك المكونات من تحقيق مصالحها الشخصية كأفراد وبلوغ مآربها الفئوية كجماعات، عبر توظيف واستثمار علاقات الاستزلام والربائنية التي سرعان ما تنتعش في مثل هذه البيئات الموبوءة والأجواء المشبوهة.

وإذا ما كانت مظاهر الفساد وظواهر الفوضى على مستوى النظام السياسي قمينة بضعضعة كيان (الدولة) وانحسار هيبتها واضمحلال تأثيرها، فان عواقبها على مستوى النظام الاجتماعي كفيلة بتفكك عرى (المجتمع) ونخر بناه وتآكل قيمه واندثار أخلاقياته . ولعل مكمن الخطورة في هذا المجال هو تسارع التحول فيما هو (طارئ) من قيم و(استثنائي) من علاقات، الى ما يشبه (المأسسة) و(الشرعنة) لظواهر الفساد والفوضى، لاسيما في ميادين العلم والفكر والثقافة التي من شأن التفريط بمعاييرها والاستغناء عن شروطها، الانحراف بسيرورة المجتمع صوب مئالات الانحطاط الأخلاقي والخراب الحضاري .       

***

ثامر عباس

ـ (من السهل فِهم النقد المُبْغِضِ للبَشّرِ. ومع ذلك، فقائِمةَ بالأخطاء البَشّرية غَير كَافية لتأمينِ ما تَدعيه فلسفة البُغْضِ..) ـ إيان جيمس كيد

تعيد سردية "المكارثية" إنتاج مفهومها التآمري الموجه، بتخوين وترهيب كل من يتضامن مع الحركة الفلسطينية المقاومة "حماس"، ويتبنى نظريتها الحربية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها في السابع من أكتوبر 2023.

وانبرت القوى الغربية الداعمة للمجازر المقترفة في قطاع غزة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربية أخرى، لتفتك بكل مقاييس حقوق الإنسان وديمقراطيتها المزعومة، وتزيح الستار عن الوجه الحقيقي المقنع للمؤسسات الدولية ومكاييلها المختلة، وانتقامها المبطن لكل توجه إسلامي وعربي محض، أو فلسطيني تاريخي بوجه خاص.

وعادت "فلسفة الغرب المكارثية" من جديد، لتعيد التفكير في جدلية الصراع الغربي الإسلامي، ليس من زاوية التفكيك التاريخي الثقافي، كما اصطلح عليه، عند كبار مفكري الهجنة الأمريكية، من مثل صامويل هنتغتون، الذي يرى أن "صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية لعوامل سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكن توقع أن تظهر مواجهات حضارية لأسباب دينية وثقافية".، أو زبيغينيو برجنسكي، الذي يذهب في كتابه "الموجة الثالثة، إرساء الديمقراطية في نهاية القرن العشرين" إلى أن العالم الغربي مقبل على توظيف قوته العسكرية والسياسية لتحييد الثقافة المغايرة، وإعادة تشكيل وحدته داخل منظومة تؤسس لنظام عالمي جديد ..".

وهو نفس الأسلوب "الكولونيالي" المتحول، الذي ينظر بعيون إسرائيلية، مستقاة من "فعل الترهيب الدولي" وتخنيع الأحلاف، وتركيع مناهضي سياساته ومحوريات ألاعيبه.

وتحول هذا المفهوم المتداول، على طول خط الهجوم الوحشي الشرس على غزة، إلى خوالف عشوائية غير مسبوقة في مفاهيم العلوم السياسية الدولية. فالخيانة المحاذية للجنون الحربي، هي قيمة مضافة لمنظور "الدفاع عن النفس". والقتل المنظم والإبادة ونسف المؤسسات الصحية، هو مشروع استباقي تحت أي طارئ، مادام يعزز قدرته الضاغطة لتجفيف الإرهاب المخصوص. وهكذا تصبح "المكارثية" عنوانا أيديولوجيا مفتوحا، يصادر الحقوق الدولية للحياة الإنسانية، ويوجه الإعلام المسيطر عليه، لتحقيق قيم الاختلال والمجاهرة بالتفوق والقوة المسيطرة؟. حتى راج المثل الأمريكي السائر على كل لسان إعلامي، من كون "أن أي خطر خارجي على أميركا يجب الا يواجه على حساب الدستور والحريات الأميركية"، وهو الأثر القائم الآن حرفيا في مسار السياسة الصهيونية، المستقوية بالفيتو الأمريكي وسلاحه الفتاك.

ومن يتابع الأحداث اليومية المنشورة في وسائل الإعلام العالمية، والمرتبطة بمستوى هبوط الوعي الغربي، واستمناءاته الفجة تجاه حقيقة استفراده بنظرية "المكارثية الإسرائيلية الجديدة"، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، (نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يتعرض له معارضو هذا التوجه الشوفيني الأخرق، خصوصا من نخب الثقافة الغربية المتنورة، كالكتاب تشارلز دانس وستيف كوغان وميريام مارغوليس وبيتر مولان، والمخرجين السينمائيين مايكل وينتربوتوم، ومايك لي، وآصف كاباديا، ومن الكتاب المسرحيين تانيكا غوبتا وآبي سبالن وغيلين سلوفو، ومن الفنانين روبرت ديل ناجا وتاي شاني وأوريت آشري ولاريسا سنسور وروزاليند ناشاشيبي وفلورنس بيك وجورجينا ستار..إلخ)، يلاحظ أن عماء الحرب وأحقاد الحضارة ونيران الكراهية، قد أغمضت الضمائر واستأثرت بتدجين شعارات مأفونة، من قيم القطيعة الإنسانية، مليئة بثقوب التجويف والمهاترة، وناقمة على أقل الأبعاد الكونية التي تتشدق بها.

إن "المكارثية" النسقية الجديدة، هي جسر ثقافي سياسي أيديولوجي، متصل بتداعيات تلك المحطة الأمريكية المكسوة بفوبيا "الشيوعية والجاسوسية" في بدايات القرن الماضي. وعلى الرغم من أنها تآكلت مرحليا بفعل ذوبان جليد الحرب الباردة إبان فترة الصراع والتوتر والتنافس والسباق العسكري والأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والسوفياتي، فإن عودتها الطارئة من باب القضية الفلسطينية اليوم، تؤشر على انتقالها من ساحة معركة الفكر والوجدان الهوياتي والثقافي، إلى واجهة القوة العسكرية والاحتلال الجغرافي وتحطيم المنظومة القيمية والأخلاقية المتعارف عليها.

***

د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

قد يراها القارئُ اللَّبيبُ غريبةً، بأنّ الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ) ينتقد التكفير، وهو الذي كفّر الفلاسفة في: «تهافت الفلاسفة»، «مقاصد الفلاسفة» و«المنقذ مِن الضلال»، حتى قيل لكثرة انشغاله بهم: «بلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يتقيأَهم، فما استَطَاعَ» (الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء)، وأتهمهم بـ«استدراج العوام» (المنقذ)، مع أنَّ الفلاسفة المتهمين ليس لديهم ما يُغري العوام كي يستدرجوهم. بيد أن الغزالي الأشعريّ، ويُشهد له كان إماماً في التَّأليف والفقه، عانى الأشاعرة أنفسهم، لما تعرض لمحنة التسقيط، وبهذا صار لا يعطي الفقهاء الحق بالتكفير، وبالتالي التحكم بدماء النَّاس، لأنّ فتوى التّكفير خطيرة، باعتبارها «حكماً شرعياً، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدَّم، والحُكم بالخلود في النَّار» (الغزاليّ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزَّندقة).

اقتنع الغزالي بخطورة التكفير بعد أن طاله، فتراه يقول لأصحابه ممَن أغاظه الهجوم عليه: «رأيتك أيها الأخ المُشفق، والصَّديق المتعصب (التَّعصب له)، موغر الصدر، منقسم الفكر، لما قرع سَمعك مَن طعنِ طائفةٍ مِن الحَسَدة، على بعض كُتبنا، المصنفة في أسرار معاملات الدِّين، وزعم أن فيها ما يُخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ المتكلمين، وأنَّ العدول عن مذهب الأشعريّ، ولو في قيد شبرٍ كفر، ومباينته ولو في شيءٍ نزرٍ ضَلالٌ وخُسرٌ».

يغلب على الظن أن قول الغزالي بخطأ التكفير والمكفرين، واستيعاب التّجربة التي مر بها، له علاقة بما تشبعه مِن الفكر الفلسفي، فالفلسفة علم تبادل الآراء والأفكار، لذا عندما أُفتي بحرق كتبه، كان مهيئاً بها، مِن دون أن يدري، لنبذ التكفير، باعتباره خوضاً في الضّمائر والدّماء. حدد أصحابه الأشاعرة تهمته بالغلو في التصوف: «الشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنباء الشنِيعة، والتَّصانِيفِ العَظِيمة، غلا فِي طرِيقَة التَّصوف، وتجرَّد لنَصر مذَهبهم، وصَار داعِيةً فِي ذلك، وأَلَّف فيه توَاليفه المشهُورَة، أُخِذ عليهِ فيهَا مواضِع، وساءت بهِ ظُنون أمةٍ، واللهُ أعلمُ بسرِّه، ونفذَ أمرُ السلطان عِندنا بالمَغرب، وفَتوى الفُقهاء بإِحراقهَا» (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء).

حتى صار ينتقد المفتي بالتَّكفير قائلاً: «كلِّ فرقةٍ تُكَفر مخالفَها، وتنسبه إلى تكذيب الرَّسول عليه السَّلام، فالحنبليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنه مشبَّه، وكَذبَ الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعريّ يُكفر المعتزليّ زاعماً أنْه كَذب الرَّسول في جواز رؤية الله تعالى، وفي إثبات العِلم والقُدرة والصِّفات له، والمعتزليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنَّ إثبات الصِّفات تكفير القُدماء... ولا يُنجيك مِن هذه الورطة إلا أنْ تعرف حدَّ التَّكذيب والتَّصديق، وحقيقتهما فيه» (الفيصل). لم ينفع الغزالي اعتبار الفلسفة بوابةَ الخراب الفكريّ، فظل يُلام على «إِدمَانِ النَّظَر فِي كِتَاب رسَائلِ إِخوَانِ الصَّفا، وَهو دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ، فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب» (الذَّهبيّ).

حصل هذا، لأنّ الخلاف داخل الجماعة الدّيِنيّة، سرعان ما يتحول إلى خلاف مع الله، مع أنّه خلاف بالأفكار، مثله مثل الخلاف داخل العقائد المدنيَّة. صحيح أنَّ الفقيه المغربي علي بن محمد الصدفيّ (ت: 509 هـ) أفتى، بعد حرق كتب أبي حامد مِن قِبل المرابطين، بتأديب الذي نفذ الفتوى، وتغريمه قيمتها «لأنّها مالُ مسلمٍ» (ابن الأبار، معجم أصحاب القاضي أبي عليّ الصّدفيّ)، لكن ما حصل أيقظ الغزاليّ.

أقول: لو يضع تجربته المُكفِرون أمام أعينهم، ويأخذون بفائدة درس الفلسفة، لأنها قد تحررهم مِن طامة التَّعصب. تخيل أن الغزالي، على فخامته داخل الإسلام عامة، يحل به ما حلَّ بالشَاعر إبراهيم بنُ سَيَابَةَ (ت: 198هـ) أحد المتهمين بالزَّندقة: «قَد كُنْتُ قبَلَ اليَومِ أَدعَى مُسلِمًا/ واليَومِ صَارَ الكُفرُ مِنْ أَسمَائِي» (ابن المُعتز، طَبقات الشّعراء). ختاماً: إذا كان هذا حال الغزاليّ فما حال الآخرين؟!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

ألقى الرئيس الأمريكي بايدن خطابًا حماسيًا قبل أيام ربط فيه الصراعات في أوكرانيا وإسرائيل. حيث قال إن كلاً من النظام الديكتاتوري في الكرملين وحركة حماس الإسلامية المسلحة "يمثلان تهديدات مختلفة، لكنهما يشتركان في هذا الأمر: كلاهما يريد القضاء تماماً على ديمقراطية مجاورة". لكنه تجاهل العربدة الصهيونية المنفلتة، وتجاهل صور الدمار المرعب في غزة، وتجاهل آلاف الشهداء الفلسطينيين جلهم من الأطفال والنساء تم ذبحهم أمام أعين الغرب المنافق الذي توحد في مواجهة روسيا واعتبرها تهديداً للأمن الدولي.

ولكن في غزة كان لهم موقف مختلف حيث احتشدوا للبكاء على إسرائيل، وسارعوا في مناصرة الموقف الصهيوني وتسويق روايته، والدفاع عنه في حرب الإبادة التي يستعرض من خلالها الجيش الصهيوني النازي قوته لقتل النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء، وتدمير الشجر والحجر. هذا النفاق الصارخ من قبل الغرب وخاصة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا يؤكد زيف ادعاءات هذا الغرب بالتفوق الأخلاقي والإنساني، ويميط اللثام عن وجهه الحقيقي الذي كان يخفي رذائله بفضائل زائفة.

ما هي الديمقراطية التي يخشى عليها الغرب؟

بالرغم من تعدد المفاهيم لمصطلح الديمقراطية، لكنها تُجمع على أهم مقياس للديمقراطية هو مقياس الحرية الذي يصفه الغرب بمؤشر الديمقراطية. وفقاً لهذا تُظهر التجربة الغربية تحقق بعض معايير الديمقراطية وغياب الكثير منها. إن القول السائد في الغرب أنهم عاشوا عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة صدقها الكثيرون. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد خفت منذ سنوات، بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الادرياتيكي ـ في فترة تصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة ـ لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي تحتاجه.

حتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكافة المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سراً بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.

تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. سقراط اعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. وافلاطون أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة.

أرسطو اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم "سولون".

إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي "فولتير" الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعاً عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية.

أصبح مصطلح الديمقراطية متداولاً بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين رداً على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.

مع ظهور علماء الطبيعة "نيوتن" و"غاليلو" في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رؤوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة "فصل الدين عن الدولة". وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سبباً في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية "بريطانيا، السويد، الدنمرك، النروج، إسبانيا، هولاندا، بلجيكا".

أوهام الديمقراطية

إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلاً مباشراً حاداً إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية تحتكرها نسبة ضئيلة من السكان اللذين يمتلكون حق التصويت وكلهم من الذكور الأصليين. لكنها ديمقراطية أتاحت إمكانية تبوأ العديد من المواطنين العاديين مناصب حكومية. سقراط اعتبر وصول المواطنين إلى مناصب عليا إشكالية. وهي إشكالية لا زالت قائمة من وجهة نظر البعض ومنهم عالم الإثولوجيا البريطاني "ريتشارد دوكينز" Richard Dawkins.

يعتبر سقراط أن في الحياة شيء واحد صالح ومفيد هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.

كان التعليم لدى اليونانيين القدماء يتعلق باللغة، والمنطق، والهندسة، والحساب، والفلك، والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم اللبرالي الحديث. إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل.

هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب "الديمقراطي" أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، وإن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية "المسكينة" التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيدة "ديمقراطية".

ما بعد الديمقراطية

تم استخدام مصطلح ما بعد الديمقراطية لأول مرة من قبل عالم الاجتماع السياسي البريطاني "كولن كراوتش" Colin Crouch في كتابه "التعامل مع ما بعد الديمقراطية" Coping with Post-Democracy. وقد حدد الدول التي تعمل وفق أنظمة ديمقراطية ـ أي أنها تجرى الانتخابات، وتسقط الحكومات، وتوفر حرية التعبير ـ ولكن تطبيقها يصبح محدوداً تدريجياً. وهذا يعني أن نخبة صغيرة تختار المؤسسات الديمقراطية لتمنح نفسها سلطة اتخاذ القرار. قد يشير المصطلح أيضاً إلى مفهوم عام لنظام ما بعد ديمقراطي، قد يتضمن هياكل أخرى لصنع القرار الجماعي والحكم، غير تلك الموجودة في الديمقراطية المعاصرة أو التاريخية.

وبرأيي أن ذلك شكل نعياً لموت الديمقراطية الاجتماعية بصورة غريبة، وظهور الليبرالية الجديدة. فالمجتمع ما بعد الديمقراطي هو المجتمع الذي يستمر في امتلاك واستخدام جميع المؤسسات الديمقراطية، ولكنها تصبح فيه على نحو متزايد قوقعة رسمية. وتنتقل الطاقة والدافع الابتكاري من الساحة الديمقراطية إلى دوائر صغيرة من المجتمع السياسي، أي إلى النخبة الاقتصادية. وهذا ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة. فهم لا يعيشون في مجتمع ديمقراطي، وإن بدا غير ذلك.

يعود ذلك بصورة رئيسية إلى عدم وجود أهداف مشتركة بالنسبة للأشخاص في المجتمعات ما بعد الصناعية. فمن الصعب عليهم بصورة متزايدة تعريف أنفسهم كمجموعة، وخاصة بالنسبة للطبقة الدنيا. وبالتالي يصعب التركيز على الأحزاب السياسية التي تمثلهم. على سبيل المثال، لم يعد العمال أو المزارعون أو رواد الأعمال يشعرون بالانجذاب إلى حركة سياسية واحدة، وهذا يعني أنه لا يوجد هدف مشترك لهم كمجموعة وهو الاتحاد أو النقابة.

وتأثيرات العولمة تجعل من المستحيل تقريباً على الدول أن تضع سياساتها الاقتصادية الخاصة. ولذلك، تُستخدم الاتفاقيات التجارية الكبيرة والاتحادات فوق الوطنية (مثل الاتحاد الأوروبي) في صنع السياسات، ولكن من الصعب جداً التحكم في هذا المستوى من السياسة باستخدام الأدوات والطرق الديمقراطية.

بالإضافة إلى ذلك، تمنح العولمة الشركات عبر الوطنية المزيد من النفوذ السياسي نظراً لقدرتها على تجنب التنظيم الفيدرالي والتأثير بشكل مباشر على الاقتصادات المحلية.

وهناك عامل آخر لانحسار الديمقراطية في معظم الدول "الديمقراطية" لأن مواقف الأحزاب السياسية في معظمها أصبحت متشابهة إلى حد كبير. وهذا يعني أنه ليس هناك الكثير للاختيار من بينها بالنسبة للناخبين. والنتيجة هي أن الحملات السياسية تبدو أشبه بالإعلانات لجعل الاختلافات تبدو أكبر. كما أصبحت الحياة الخاصة للسياسيين عنصرا هاما في الانتخابات. في بعض الأحيان تبقى القضايا "الحساسة" دون مناقشة.

ثم عامل التشابك بين القطاعين العام والخاص، حيث هناك مصالح مشتركة كبيرة بين السياسة وقطاع الأعمال. ومن خلال شركات الضغط، تستطيع الشركات المتعددة الجنسيات وضع التشريعات بشكل أكثر فعالية من سكان أي بلد. لأن تلك الشركات ترتبط مع الحكومات بعلاقات وثيقة بحكم حاجة الدول إلى الشركات لأنها أصحاب عمل رائعون. ولكن بما أن قسماً كبيراً من الإنتاج يتم بالاستعانة بمصادر خارجية، ولأن الشركات لا تواجه أي صعوبة تقريباً في الانتقال إلى بلدان أخرى، فإن قانون العمل يصبح غير ودي للموظفين وتنتقل اللقمة الضريبية من الشركات إلى الأفراد. لذلك أصبح من الشائع أكثر بين السياسيين والمديرين تبديل وظائفهم عبر ما يسمى (الباب الدوار).

ولا ننس الخصخصة. أي الفكرة النيوليبرالية للإدارة العامة الجديدة (الليبرالية الجديدة) لخصخصة الخدمات العامة. ومن الصعب السيطرة على المؤسسات المخصخصة بالوسائل الديمقراطية، وليس لديها ولاء للمجتمعات البشرية، على عكس الحكومة. والنتيجة وجود آلاف "الشركات الوهمية" التي تتسم بالمرونة والمراوغة وتنحني لتقلبات السوق. وتلك الشركات الخاصة لديها الحوافز الكبيرة لتحقيق الربح الفردي بدلاً من تحسين رفاهية الجمهور.

ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

في الديمقراطيات الغربية، يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة. هذا الأمر يتم في كافة الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسياً مثل الولايات المتحدة، أو كان حكما وزارياً مثل بريطانيا، أو نظاما مختلطاً كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.

لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئاً حقيقياً في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات. ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعداً في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب. إن سيطرة رؤوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.

إنها ديمقراطية الكذب التي تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك.

ديمقراطية تافهة خالية من أي معنى حقيقي. تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالاً تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.

ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في تجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها.

ديمقراطية منافقة تعتبر الحرب بين روسيا وأوكرانيا غزواً روسياً لأوكرانيا يشكل انتهاكاً مروعاً للمبادئ الأخلاقية والقانونية الأساسية. وترى في المقاومة الفلسطينية المشروعة للاحتلال الصهيوني عملاً إرهابياً مداناً.

هل فشلت الديمقراطية الغربية؟

نعم فشلت فشلاً ذريعاً. ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال والنساء يحكم باسم الديمقراطية، ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك! وكذلك الأحزاب اليمينية الشعبوية الغربية أوصلت قادة إلى المناصب العليا بواسطة الديمقراطية.

لقد بلغ عدم الرضا عن الديمقراطية داخل الدول الغربية إلى أعلى مستوياته منذ ربع قرن تقريباً وفقاً لباحثين من جامعة كامبريدج. ارتكز البحث، الذي يغطي 154 دولة حول العالم، على سؤال الناس عما إذا كانوا راضين أو غير راضين عن الديمقراطية في بلادهم.

أظهر البحث أن نسبة غير الراضين كانت 33% في عام 1995، وصلت إلى 58% في عام 2021 وهو أعلى مستوى مسجل.

إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها جان بول سارتر بأنها "فخ الحمقى". واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلاً. لهذا قال عنها "جان جاك روسو" أن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبداً ولن توجد أبداً.

ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالباً لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف إلى نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.

إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكراً على الأحرار والملاك.

أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب، لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.

عالم المصالح الكبرى

اتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات. والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يسارياً ولا يمينياً ولا ديمقراطياً. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.

دخلت المجتمعات الغربية -بمعظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي تم تنظيمها في العديد من الدول الأوروبية خلال الأعوام الأخيرة، الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعاً جماهيرياً وصعوداً انتخابياً. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري "فيكتور أوربان" بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.

وهذا ما ذكره عالم الاجتماع "ايمانويل تود" حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم وهي عدم اتساق الفكر، والتواضع الثقافي، والعدوانية، والحب المرضي للمال، وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسارا في الديمقراطية وخللا في التربية وفراغا روحانيا وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.

إن عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

يضرب العنف جذوره في الفعل التاريخي للبشر، فمنذ فجر الطبيعة والإنسان يَقمع و يَضطهد ويَتحايل على أبناء جنسه، وتكشف قصة الحضارة عبر سيرورتها الطويلة ما أُزمت به الأرض من جرائم عرقيّة وصراعات دينيّة.

 واللافت أنّ الحضارة كلما تقدّمت بالإنسان أسرع ليتوّسلها في ابتكار أدوات خطيرة للتحايل وأساليب مختلفة للترميز العنفي، والذي يظهر أنّ منطقة العُنف تتشخّص بطبيعة العلاقة المركبة بين (المُعنِّف والمُعنَّف)؛ فلا يختار المعنِّف إلا الأسلوب المتاح له إمكاناً والمؤثّر تمكّناً بالآخر المعنَّف به، ولعل أبرز معايير اختيار أسلوب العنف هو ما تتلذذ به الطبيعة البشرية وما يغطس في لا شعورها من أنانيات متراكمة، فذو الطبيعة الشرسة لا يفضّل الأسلوب العنفي الذي يختاره ذو الطبيعة الهادئه!

 حدّثني أحد الأصدقاء الكادحين في سبل العيش، أنّ مرؤوسه في العمل إذا سخط عليهم، أثقلهم بساعات عمل طويلة أزاء أجر زهيد، حتى إذا اقترب رأس الشهر أبطأ عليهم استحقاقهم قصداً منه، وتمنّن لسانه جميلاً عليهم، والتوت كلماته بما يبرّر أفعاله، وقد يرهف جسد بلغةٍ تلوح بما هو ودود وتخفي ما هو أناني، ويستطرد الصديق ليقول:(إنّ بعض العاملين معنا ينصاع للباقة حديثه، وآخرين يقتنعون بتبريراته، وطرفاً ثالث يفضّل أن يتعايش بصمت)

في هذه القصة الحيّة تلّبس العنف بثوب يبدو لطيفاً وعقلياً (التمنّن الجميل، التبرير المنطقي)، ولكنّه في الحقيقة يضمر ما هو قهريّ وتحيّزيّ وإجباريّ.

يشخّص علماء الانثروبولوجيا هذا النوع بالعنف الرمزي، ويعني أن يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتعبير والتي تكون أكثر ملائمةً لمصالحهم وتسلّطهم عبر أسلوب لطيف وعذب

والأخطر من هذا ما ذهب إليه بورديو أنّ العنف الرمزيّ قد يكون " غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة".

 ويظهر أنّ استعماله الرموز هو ما يجعله خفيا من جهة وهلامياً واسعاً من جهة أخرى، فالرموز تتعدى ما هو لساني لتشمل الأيقونات ولغات جسد ونبرات الصوت وكل هذه علامات قد تتخفى لتطلب ذهنية وقادة لتشخيصها، الرموز عالم واسع وفضاء متحرّك.

العنف الرمزي هو ايديولوجية تعمل بخلسة على توجيه ضحاياها واستغلالهم بالكيفية التي تريد، وقد يكون غير مرئي لأنّه يأخذ حالة بداهة مُلقنة مؤسّس لها لا يحق لأي أحد الخروج عليها، وقد يكون مبطّن بمشاعر معنوية وبتواصل حميم يصعب معها كشفه، العنف الرمزي يصادر حقوق العقل والوجدان معاً.

أظن أنّ هذا النوع هو أكثر أنواع العنف شهرتاً وتأثيراً في عالم يكتظ بالتكنولوجيا وماكنات التواصل الاجتماعي فمع السيولة المستمرة للحداثة الرقمية والفهم المغلوط للحرية، اتسعت أشكال العنف الرمزي وأخذت صوراً عديدة من الابتزاز والتشهير والتنمّر.

 أتساءل أخيراً، عن امكانية معالجة هذا المشكل، هل يمكن للدين بما يوفّره من رقابة وجدانية وايقاظ للضمير أن يخفف حدّة هذا النوع من العنف؟

هل للعقد الاجتماعي والقوانين الوضعية أن تحجّم مَن يعنّف الآخرين رمزياً؟

 هذه أسئلة ملحّة تنتظر جواباً واقعياً.

***

عبد الخالق الفتلي

 

"واعتقادنا أن النهضة لم توفق هذا التوفيق إلا لأنها امتازت على ما تقدمها من النهضات بمزيتين ظاهرتين: أولاهما أنها كانت نهضة أمة كاملة وجدت زعيمها ولم يكن زعيم رهط محدود أو طبقة خاصة، والثانية أنها طلبت الاستقلال حيثما وجدت إليه سبيلا ولم تقيده بوسيلة من الوسائل أو نظرية من النظريات" (العقاد في كتاب سعد زغلول زعيم الثورة). لا يهدف هذا المقال للتنظير لماهية الهوية وتعريفاتها والخلافات الفلسفية والاجتماعية وغيرها حولها، وإنما ينطلق من مشكلة ازدادت في الظهور بقوة بعد السابع من أكتوبر وبدء عملية طوفان الأقصى، وهي التشكيك في الهوية العربية والاستنقاص منها، مما يسبب مشكلة أعمق، لأن الصراع مع دولة الاحتلال ليس سياسيا وعسكريا واقتصاديا فحسب، بل هوياتيٌّ أيضا!

إن نقاشا قديما كان يجري والهدف منه تفتيت أطراف ومراكز الهوية العربية بهدف الوصول إلى حالة من الهويات المتعددة -غير العربية- في العالم العربي، وقد ذكر جمال حمدان في شخصية مصر هذه المسألة:

"ونبدأ فنقول إن مصر لم تكن الوحيدة التي أثير حولها هذا الجدل، فالسودان وُصف بأنه إفريقي وليس عربيا، والمغرب زعموا أنه بربري لا عربي، وقيل عن لبنان حينا والشام حينا آخر إنه فينيقي أو سوري وليس عربيا، والعراق كذلك لم ينج من الاتهام. بمعنى آخر، أن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو بأخرى بأنها ليست عربية، ولكنها مستعربة على أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عربا جنسيا". والحقيقة أن هذا الادعاء يتساقط إذا عُلم بأن ما يشكل الهوية العربية هو الثقافة لا العرق، بمعنى أن الهوية العربية تعتمد بشكل مركزي على وجود اللغة العربية مع حامليها وبالتالي الثقافة والذاكرة والفكر العربي، وكان هذا دأب العرب منذ القدم، إذ أن كثيرا من مشاهير التاريخ العربي -إذا صح هذا التعبير- ليسوا من العرب عرقيا، غير أن انتماءهم للثقافة العربية وتشبعهم بها جعل التشكيك في عروبتهم باعتبار العرق ضربا من المغالاة الشعوبية لا غير، ويبرز منهم كثير مثل عنترة وبلال بن رباح ثم الجاحظ وسيبويه وأبو نواس وغيرهم الكثير. ولما كان الأمر كذلك فإن كل من انتمى ثقافيا إلى العروبة فهو داخل في الهوية العربية غير خارج منها حتى وإن كان عرقيا من بعيد أو قريب ليس عربيا، وفي هذا أيضا يبرز كلام تاريخي وأنثروبولوجي كثير يطرح سؤالا ما إذا كان كل من هم خارج الجزيرة العربية ليسوا عربا عرقيا، والنتيجة التي يُمكن الوصول إليها -إذا ليس يسع تفصيل المقدمات هنا- هو أن هناك ترابط أنثروبولوجي-عرقي كبير بين العالم العربي حاليا، ويكفي القول بأن محمد عزة دروزة في كتابه "الوحدة العربية" قد وصل إلى أن هناك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية القديمة (الحامية) والعربية (السامية)، لذلك فإنه لا معنى للقول بأن كل من يقع خارج جزيرة العرب ليسوا عربا سواء من الناحية الثقافية وهي المبدأ الأولي الذي تقوم عليه الهوية العربية، أو من الناحية العرقية، والنتيجة هي التي يصل إليها جمال حمدان حين يقول "ومن ثم بالتالي كان مصير مصر عربيا من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية"، وهو يؤكد بهذا الاتصال الكامل بين المنطقة العربية بمعنى أن مصير الجزء هو مصير الكل والعكس، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية -في ظل انعدام الاتحاد السياسي والاقتصادي والمعوقات التي تحد من وجوده- لكل جزء من هذه الأجزاء، كما أن هناك خصوصيات ثقافية واجتماعية لكل مجتمع داخل الدولة الواحدة غير أنهم جميعا يتأثرون بمصير الدولة، أو كما جاء في التعبير النبوي" ... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

من الأسباب كذلك لاتهام الهوية العربية بالنقص والقصور هو ربط الهوية بالحكومة، باعتبار أن الحكومات هي الممثل لهذه الهوية، وعلى الرغم من بديهية بطلان هذا الادعاء -غير المصرح به- إلا أنه ينتشر لا سيما بين المستائين من عدم وجود ردة فعل حقيقية -كما يتصورونها- من الحكومات للحرب على غزة. والحديث عن الهوية العربية لا يتخذ الطابع القطري للهوية باعتبارات الحدود القائمة وإنما الطابع القومي الثقافي الذي سبق الحديث عنه، لأن الهوية القطرية لها أبعاد تتعلق ببناء الدولة ذاتها أو كما يصف كينيث هوفر في إجابته على سؤال: لماذا الهوية؟ فيقول:" بأن الناس يخلقون الدول لإثارة النقطة حول من هم، وكم هم مختلفون عن أناس آخرين في الجانب الآخر للحدود" وهذا غير متحقق -حاليا على الأقل- مع الهوية العربية، وعليه فإنها تتخذ الطابع الكلي لا الجزئي، وهذا ما تدل عليه المناصرة العابرة للحدود للقضية الفلسطينية والشعور بأنهم جزء من هذه المعاناة لا خارجها.

 إن هذا الارتباط بين أفعال الحكومة وقوة أو ضعف الهوية قد ساهم في تفكك الهوية العربية إلى هويات قطرية-جزئية، جعلت من كثيرين -في الجانب المقابل- يعتقدون بأنهم غير ملزومين إلا بما يقع داخل حدود دولتهم، وعلى هذا جاء حديث بعض "رجال الدين" حول عدم إلزامية القيام بأي شيء "إلا الدعاء" للفلسطينيين.

والواقع أن الجانبين مردود عليهما، فإن الهوية العربية أولا غير مرتبطة بأفعال الحكومات كونها ليست ممثلة لها للاعتبارات السياسية من حيث العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى ومع النظام العالمي، ولذلك تجيء الأهمية الشعبية لمطالبة الحكومات بعدم الرضوخ كليا لهذه الاعتبارات وإنما عليها اتخاذ موقف ثابت وحازم من القضية، ولذلك فإن هذا الربط لا معنى له، كون أن المجتمع هو الممثل الأول لهذه الهوية، وكما هو معلوم فإن الشعوب -أغلبها على الأقل- لا زالت على فطرتها السوية المناصرة القضية الفلسطينية والغاضبة على الاحتلال واعتبار أن المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد لإنهاء هذه الجرثومة القابعة في صدر الوطن العربي. وأما ثانيا فإن الهوية العربية عابرة للحدود ولا تلتزم بالاعتبارات القطرية، فإن مصير كل من يقع في هذا الإطار واحد -كما تم تبيينه سابقا- ولا يُمكن الاكتفاء بما يقع داخل الحدود، حتى من الجانب الأمني-البراغماتي فإن كل صراع في جزء واحد أو عدة أجزاء من المنطقة، له تأثير بالغ على الأمن القومي لباقي دول المنطقة كونها مرتبطة ماديا ولا ماديا، والشواهد التاريخية على هذا كثيرة وواضحة.

إذن من المستفيد من ضعف الهوية العربية وتفتيتها؟، إن المستفيد الأول من هذه المسألة هي بلا شك إسرائيل، فإن تفتيت الهوية العربية إلى هويات فرعية تتعلق كل واحدة منها بحضارة قديمة لا تأثير مباشر لها في الواقع المعاصر يجعل من الهوية الصهيونية متقبلة وواقعية في المنطقة، وهذا ما لا يتحقق في ظل وجود هوية عربية شاملة وعميقة وقديمة، في مقابل هوية صهيونية قليلة وسطحية وحديثة. ويطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه المسألة فيقول:" ولكن الدولة الصهيونية تريد أن يصبح الشرق الأوسط مقسما إلى دويلات إثنية ودينية وعرقية، ومن ثم تصبح الدولة العبرية مسألة طبيعية للغاية، لأنه داخل التشكيل الحضاري العربي تبقى مثل هذه الدولة كيانا دخيلا شاذا. وقد ترجم المخطط الصهيوني نفسه في الآونة الأخيرة إلى فكرة السوق شرق الأوسطية ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث يتم تفتيت الهويات لتظهر الهوية العبرية وتقوم بقيادة المنطقة وتوظفها لصالح الغرب."

وأما بذكر الشرق الأوسط الكبير، فإن هذه الخطة لا زالت قائمة، ولا يُظن أنه تم التغافل عنها، غير أنها تأخذ أسماء أخرى، ولعل من أكبر الأدلة على هذا، الخريطة التي رفعها نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتحمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" وقد وضع اللون الأخضر على دول "الشرق الأوسط الجديد" هذا، دون أن يَذكر وجود دولةٍ فلسطينية، والواقع أن الشرق الأوسط الذي تحلم به الإدارتان الأميركية والصهيونية لا يتم إلا من خلال هذه الأساليب التي تحاول تفتيت الهوية العربية مبدئيًا واستقلال كل شعب بهويته القطرية، بل زاد الأمر عن هذا فظهرت أصوات تقسم الهوية القطرية نفسها إلى هويات أصغر، مثل القول بأننا وإن كنا جزءًا من نسيج اجتماعي عربي في دولة عربية في جزيرة العرب غير أننا لسنا عربا!، فتجد أن الهويات تصير أصغر فأصغر للوصول أخيرا إلى نتيجة مفادها أن الهوية الصهيونية واحدة من هذه الهويات الصغيرة الموجودة في الشرق الأوسط. لذلك فإن كل انتقاص من هذه الهوية العربية الشاملة هو خدمة للمشروع الصهيوني.

في النهاية أقول بأن الحال يقتضي الحفاظ وإعادة بناء الهوية العربية من أجل الوصول إلى حالة من مقاومة الهوية التي تريد دولة الاحتلال فرضها على الواقع العربي، ولا يتم هذا إلا بالجهود الشعبية الثقافية بداية، ثم يُمكن تطوير الأمر إلى بناء مؤسسات تُعنى بهذا من جميع الجوانب المركزية التي تشكل الهوية.

***

جاسم بني عرابة

"قد جاءَكم بصائِرُمن رَبِّكمْ فمن أَبصرَ فلِنَفسهِ ومَنْ عَمى فَعليها وما أنا عليكمْ بحفيظٍ" سورة الانعام: 104

البصرهو النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات، ويقال أبصرته برؤية العين إبصارا، والإبصار هو النظر الدقيق والإشراف، وهو أعم من الباصرة وهي العين (ألم نجعل له عينين) البلد8 أما الباصرة الباطنة فهي القلب، فالبصر إذن هو حاسة النظر الذي به تدرك العين صور الاشياء، فالرؤية والنظر مطلق غير مقيد بقيد العلم والعلم مطلق غير مقيد بقيد النظر .

فالنظر هو التحديق والتقليب في حدقة العين لادراك الصور وبه تبدأ مرحلة الابصار وهو أول مراتب الابصار أي إن النظر يتم دون استخدام للعقل وبالتالي عدم الاحاطة الكاملة بالشئ المرئي، فهو إذن نظر خاطف، ويحدث كثيرا أن ينظر الانسان لامر ما دون التركيز عليه وفكره مشغول بأمرٍ آخر فيبدو له الامر وكأنه لم يرَ شيئا ! وعندما يُسأل عما رآى فإنه سينكر رؤيته لاي شئ !وهو صادق لانه لم يُبصر شيئا بسبب عدم قيام مركز الابصار بعمله وقت النظر، فالنظر تم بلا رؤية وبالتالي بلا إبصار ! ويحدث ذلك عندما يكون الناظر شارد الذهن أو في حالة ذهول أو واقعا تحت تأثير مسكر، فهذه الامور تسبب عطلا مؤقتا لخلايا المراكز العصبية في المخ (بما فيها مركز الابصار) والنتيجة هي عمى مؤقت يزول بزوال اسبابه، أما إذا أصيبت خلايا مركز الابصار بتلف عضوي فالنتيجة هي العمى الدائم، وحالة النظر بلا رؤية معناها عدم القدرة على الابصار بسبب انعدام الركن الفعلي أو الادراكي وهو الرؤية قال تعالى"وتراهُم يَنظرونَ إليكَ وهم لايُبصرونَ" ..الاعراف 198، كما وإن الرؤية بلا نظر يمكن ان تحدث نتيجة استحضار بعض المشاهد القديمة المخزونة على شكل ذكريات من عمليات ابصار سابقة تامة وهذا مانعبر عنه (احلام اليقظة ) ومن الجدير بالذكر ان احلام اليقظة تتم بصورة اوضح في حال اغماض العينين ليتسنى للعين الا تتداخل صورها مع الصور الانية و حدوث (تشويش) على مركز الرؤية، وحقيقة الامر إن العين طالما تتجاهل بعض المشاهد أوتخدع العقل بارسال صورا سطحية أو فارغة، شأنها شأن الفلم الغير محمض، و قد ينخدع الدماغ بها ليعطي انطباعه على ضوء تلك الصورة وهذا مايسمى "خداع البصر"فهي كالحارس المرتشي الذي يغض الطرف عن بعض الامور ويهرّبها دون فحص وتمحيص (قالَ إلقوا فلمّا ألقوا سَحروا أعينَ الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) . فالاية القرانية واضحة كعين الشمس فالعين من الممكن جدا أن تُخدع أو تُسحر لتنقل تصورا مغلوطا الى الدماغ، فالبصر يُخطف ويُزيغ ويُخدع.

ويقال إن فلانا مبصرا أي عكس ضرير ولكن ينادونه بالبصيرتكريما له بمعنى إنه يشاهد الاشياء كلها ظاهرها وباطنها بقلبه وجوارحه وليس بعينيه.

والابصار هو إدراك الصور ورموزها وانعكاساتها مع تحليل العصب البصري للمخ لترجمتها وتحليلها، لذلك فهو رؤية الاشياء مع استخدام العقل للاحاطة التامة بالشئ، أي إنه لايحدث بمجرد النظر السطحي إنما يتم عن طريق الاتصال بالمخ وهنا تظهر الحكمة الالهية في (غض البصر) لانه تعدى مرحلة النظر وزاد عن الحد المطلوب الذي حرك الاحاسيس معه قال تعالى"قُل للمؤمنين أن يغضّوا من أبصارهم ذلك أزكى لهم" النور30

فالبصرهو حاسة الرؤية الواضحة للاشياء، والرؤية هي الصورة الحقيقية بعد مرورها بمرحلة النظر ثم البصر انتهاءا بالرؤية قال تعالى"رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" الاعراف198

أي إن النظر قد اقترن بالعين التي تدور في محجرها حسب الاية الكريمة

والنظر نعمة كبرى بل إنها أعظم النعم التي من الله بها على عباده

ونحن في بحثنا هذا نحاول تسليط الضوء على بعض الفروق البلاغية بين النظر والبصر والبصيرة في القرآن الكريم التي شملها في عدة آيات للتفريق سنختار بعضا منها:

- النظر للتأمل: قال تعالى (فلينظر الانسان مم خُلق) (أفلا ينظرون إلى السماء فوقهم) (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) فالنظر هنا استشعارا لعظمة الخالق .

- النظر لاهل الجنة بغير إحاطة (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) القيامة23

- النظر بمعنى المعاينة (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) الانعام99

- النظر للاستشهاد (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) الاعراف143

- النظر للتيسير (وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة280

- النظر للتميز بين الامور (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها) البقرة259

- النظر المستحب للتمتع بجميل خلق الله (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خُلقت) الغاشيى17

- النظر المكروه وهو النظرة السيئة التي تطال ماحرم الله (ولاتمدنّ عينيك الى مامتعنا به أزواجا منهم..) الحجر88

- طرفة العين وهي المدة الزمنية اللزمة لالقاء نظرة واحدة سريعة (قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ طرفك) النمل 40

أما البصرفهو إدراك العين وهو الحاسة التي توصل الى الرؤية المتكاملة للصورة قال تعالى (أم لهم أعين يبصرون بها) الاعراف 19

- النظرة الخاطفة وهي التسريع والتعجيل (وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر) القمر50

- الكفر والجهل (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم و على أبصارهم غشاوة) البقرة 7

- بصر الادب والطاعة والعفاف (مازاغ البصر وماطغى) النجم 17

- الزيغ وهو الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف5

- الغشاوة وهي حالة إعجازية تتعطل أمامها كل القوانين السارية في الامور الاعتيادية (وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لايبصرون) يس 9

- غض البصر (فل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم) النور30

أما البصيرة فهي قوة الادراك والفطنة والحجة والدليل وهي القوة المدركة في القلب، ومن وفقه الله جعل بصره في خدمة بصيرته فالمعرفة القلبية والفراسة والقوة الايمانية الحقة هي بصيرة مبصرة، وللبصيرة ايضا درجات منها:

بصيرة الايمان: وهي أن لايتأثر الايمان بشبهة عارضة تعارض ماوصف الله به نفسه ورسوله، فالله منزها عن العيوب والنقائص وهو حي لايموت لايخفى عليه مثقال ذرة في السموات والارض، وهذه البصيرة تجعل الانسان يسمو على منهج الصراط المستقيم، فهي نور يقذفه الله في قلوب المؤمنين لإبصار حقائق الاشياء (وابصر فسوف يبصرون) الصافات 179

- بصيرة العقل والحكمة وهي نور العقل والضمير التي يهتدي من خلالها الانسان بهدي الله"قد جاءكم بصائِر من ربكم"الانعام 104

- بصيرة الوجدان و التحكم بالحواس وهي بناء الافكار واتخاذ القرارات الصحيحة"قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني"يوسف108

- بصيرة الوعد وهي الايمان المطلق بالحياة الاخرة وان الانسان سوف يحاسب على أعماله وان أول المحاسبين له هي نفسه (بل الانسان على نفسهِ بصيرة) الاسراء 14

- بصيرة الجوارح وهي الرؤية القلبية الخالصة لله (ماكذب الفؤاد مارآى) النجم 12

- بصيرة البيان والتذكير (تبصرة وذكرى) ق 8

- لبيان الايات (وجعلنا آية النهار مبصرة) الاسراء12

- خصوصية المعنى وهي الوظيفة الدقيقة وراء كل لفظ بعينه (وتراهم ينظرون اليك وهم لايبصرون) الاعراف198 فلنتأمل هذا الثراء اللفظي الذي يظهر جمال اللغة القرآنية وبلاغتها فقد وردت فيه ثلاث ألفاظ تباعًا وهي الرؤية، النظر، والبصر، هذه الاية تجعل القارئ يتأمل جميل التخصص وفرادة المعنى وغنى المفردة.

فالبصيرة تنبت في رياض القلب المؤمن وهي الفراسة التي يميز الله بها بين عباده، فعندما يبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ومتحصنينين بنور الوحي وهو نورينبع من نور الله وينتشر ويستمر بزيادة الايمان والهدى

والبصيرة ثلاث درجات:

- اليقين فهي حق يمتثل بأوامرالله جل وعلا (قد جاءكم بصائر من ربكم) الانعام104

- اليقين بالعدل والحكمة الالهية (أليس الله بأعلم بالشاكرين) الانعام53

- الفراسة الصادقة والصراط القويم وهي فراسة يختص بها اهل الايمان وهي متصلة بالله متعلقة بنور الوحي (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) محمد30

ومما سبق نصل الى نتيجة مفادها إن وظيفة البصر عملية مركبة من شقين هما النظرويقوم بها مركز عصبي خاص في قشرة المخ (الدماغ) وهو متصل بشبكية العين عن طريق العصب البصري، فالابصار هو الادراك الحسي لعالم المرئيات ذات الكيان المادي بعد النظر اليها في الضوء، أما البصيرة فهي الفكر المتقد والخلفية المخزونة عند الانسان التي تمكنه من التمييز والادراك واتخاذ القرارات والاهتداء الى الخير بنفس مدركة وبنظرة ثاقبة وفراسة وسرعة بديهية، فهي إذن المخزون والمكنون الداخلي للانسان والذي نعبر عنه بالعقل الواعي والقلب الناضح بالحكمة والمنفتح على تعاليم الله، وعندما يقال إن فلانا أعمى البصيرة فهذا تعبير مجازي لايراد به التعبير عن عمى العين بل يعني إنه لايرى حقيقة الاشياء بانطباعها في عقله وقلبه وعليه تكون بصيرته عمياء (ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا) 110 الانعام

فالبصيرة تنظر للاشياء بعين القلب ويدركها العقل النير دون الحاجة الى حاسة البصر، هذه الخصيصة التي يخصها الله لبعض من عباده تجعلهم من الذين أبصروا الحياة بقلوبهم المؤمنة، فالبصيرة مصدرها الايمان بالله وتوحيده وترك الظلم و الملذات والبدع والخرافات التي تذهب البصيرة وتمحوها، وإن عمى البصيرة والقلب لهو العمى المبين والبلاء الحقيقي "أفَلَمْ يَسيروا في الأرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقَلونَ بِها أوآذانٌ يَسمعونَ بِها فإنّها لاتعمى الأبصارُ ولكن تعمى القُلوب التي في الصدور"..الحج46، وعندئذ لن يلتفت المرء الى ماأحله الله وحرمه ولن يرى شمس الحق ولاظلمة الباطل ولن يجد غضاضة في تعدي الحدود ولاحرجا في الايغال بالظلم فتراه يتخبط بالضلالة كالذي يتخبطه الشيطان من المس و فقد البصر وتاه عليه طريق الصراط وزين له سوء عمله طريق الشر الذي خلط عليه الاوراق فاتخذ العدو صديقا والظالم سندا وتعدى على حقوق الاخرين واغتصب المحرمات وخان الامانة وأراق العهد واستباح الاعراض ومن أضله الله فماله من هاد (ومن أضلُّ ممن اتبع هواهُ بغير هُدى من الله إنَّ الله لايهدي القوم الظالمين) القصص 50 والزيغ هو الميل والانحراف وعدم الهداية وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به بسبب فسوقهم واختيارهم الكفر على الايمان والباطل على الحق وذلك هو العمى المبين، فالبصرمداده الافق والبصيرة مدادها العمق، واذا كان البصر يرينا ظواهر الاشياء فالبصيرة ترينا كنه وحقيقة وجوهر الاشياء، ومدار عمل البصيرة هو القلب العامر بالايمان.

وحقيقة فإن من يتدبر معاني كلام الله جلّ وعلا في مجال البصر والبصيرة سيجد إن الله خصّنا بأجمل النعم وأعظمها وهي حاسة البصر، كما أتم نعمته علينا بأن أنار بصائرنا كما أبصارنا فهو نور السموات والارض بنوره نهتدي وبهدايته نسير (لاتُدركهُ الابصار وهو يُدركُ الابصار وهو اللطيف الخبير) الانعام 103

***

مريم لطفي الآلوسي

 

يعتبر التأويل، كعملية فكرية فقهية صرفة، الأساس الضامن لديمومة الدين في حياة الإنسان. التاريخ يتطور بسرعة، وعلى الفقهاء ورواد الفكر الإسلامي أن لا يتعبوا من تعميق التفكير في النصوص الدينية. لقد أبانت أحداث التاريخ البشري المتتالية أنه كلما تفاقمت الهوة بين التأويل والنصوص الحرفية كلما ساد الصراع والاقتتال أو التسلط والخضوع. فبفعل طبيعة تعاطي العقل البشري مع العلوم والتكنولوجيا والمادة، تسارعت الأحداث التاريخية في العالم، وتطورت الحياة بشكل ملفت، وتداخلت بشكل غامض النزعتين الاستهلاكية والإبداعية، والمادية والروحية. دواسات السرعة أصبحت بيد الرأسمال، بل أصبح يحتكرها بالقوة والمال وكشوفاته العلمية وتقنياته الهندسية المتطورة.

في هذا السياق، تزداد مشاق الفقهاء ورواد الفكر الإسلامي تعقيدا على مدى الساعة. فأمام تأويل سابق للتراث تبرز الحاجة بسرعة فائقة إلى تأويل جديد، وكأننا أمام صيرورة مركبة ومعقدة لا تمنح الوقت الكافي للتموقع زمنيا في نسق التأويل بقواعده ومتطلباته الجديدة. الإنسانية اليوم تحتاج لتأويل التأويل لإنتاج تأويل جديد وبالسرعة المطلوبة. الحفاظ على توازن تفاعل الروح والمادة أصبح صعبا ومعقدا للغاية. السرعة في هذا المجال مطلوبة بإلحاحية. إنها الحقيقة البارزة التي نستنبطها من استنتاجات المفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي. نفهم من كلامه أن الارتماء في أحضان التلكؤ في هذا المجال ستكون له عواقب خطيرة على الحضارة العربية الإسلامية. القرآن هو الأصل وكلياته صالحة لأي زمان ومكان، وجزئياته في حاجة إلى تأويل مسترسل ومنتظم زمانيا. العروي يقول أن لا أحد يستطيع أن يقر أن التأويلات القرآنية المتعلقة بالزمان والمكان صحيحة 100%. التأويل بالنسبة له هو مجرد قراءة وليس حقيقة متفق في شأنها. من ادعى أو يدعي قطعيا صحة تأويله أو تأويلاته، فقد ادعى النبوة، وهذا أمر مرفوض. النبوة انتهت، والتأويلات صالحة لزمانها والنص هو الباقي. العلوم تتقدم، والاختراعات تتراكم، وأنماط الحياة تتنوع وتتغير بسرعة مذهلة. إن أفق المسلمين في العالم وحاجتهم إلى تأويل مستمر وسريع يراعي مصالحهم، مصالح الأحياء منهم وليس الأموات، في مخاض يكتنفه الغموض بفعل الضبابية التي تميز علاقة العلوم والتكنولوجيا والروح والمادة في حياتهم اليومية.

بالنسبة للمغرب وليد الثقافة الأندلسية، البلد المتميز بخصوصيته التاريخية، الحل الذي يفرض نفسه باستعجال، يقول العروي، هو مساعدة الدولة بإسلامها الفقهي الواضح على تحقيق القطيعة المنهجية مع التراث قبل العودة إليه بمنطق الحداثة، وبالتالي تمكينها من الآليات الناجعة لترسيخ ثقافة التفريق بين السياسة الشرعية والسياسة المدنية. مرجعه في ذلك هما ابن رشد وابن خلدون. لقد دعا هذان المفكران إلى التفريق بين الحقيقة التاريخية والحقيقة النصية، بين التفسير أو موقف الفقيه أو القاضي الأصولي ومواقف المحدثين. منطق المحدث شيء، ومنطق المؤرخ شيء آخر. الفقيه الأصولي مرتبط بالتاريخ وليس بنصوص المحدثين.

***

الحسين بوخرطة - المغرب

قال (ذو القُروح) الزوجيَّة، وهو لا يحاورني:

- ثمَّة نمطٌ من النِّساء لا تعدو قضيَّةُ النِّسويَّةِ لديهنَّ المناكفة، والاستفزاز التقليدي، فإذا المرأة تُثبت من خلال هذا السلوك أنَّها أشدُّ ضيقًا في الأفق من غيرها، وأنَّ اهتمامها منحصرٌ في الغيرة من بنات جنسها على الرَّجُل.

- وهي لهذا أُنثى تقليديَّة الفكر، كما ترى؟

- تمامًا! رأس همِّها التفكير النسويُّ البدائي: زواجًا، وغيرة، وخيانة، مع "برانويا paranoia" مزمنة، وعُقدة شعورٍ بالاضطهاد. امرأةٌ مستعبَدةٌ للذُّكورة بامتياز، غير متحرِّرة الفكر والمطامح، وإنْ عبَّرت عن شخصيتها تلك بخطابٍ مناقض، لم ينشأ إلَّا عن أنها مهووسة بأن تغدو فَلَك الرَّجُل الوحيد، وأن "يُسَتِّـتَها" مولاها، كما يقال في بعض اللهجات؛ ولذلك فقد صارت قضيَّة القضايا في ذهنها أن تكون زوجةً وحيدةً، لا شريكة لها.

- فيما هناك خطاب مستنير آخَر، قد يعجبك، كذلك الذي عبَّرت عنه الكاتبة (نورة علي)، في (صحيفة الجزيرة، الخميس 4 جمادى الآخرة 1430هـ، العدد 13391)، تحت عنوان "عن التعدُّد.. عذرًا بنات جنسي"، حيث تقول:

"الرجُل ليس إلاهًا تعبده الأُنثى؛ لكلِّ إنسان في هذه الحياة دور يؤدِّيه، ولكل إنسان إنسانيَّته، حياته الخاصة. والمرأة إن لم يكن لها اهتمامات وأهداف، لن تشعر بوجودها كفردٍ فعَّال منتج، وسيتقوقع اهتمامها في فَلَك الزوج، أين ذهب؟.. ماذا يفعل؟.. من يحدِّث؟ بماذا يفكِّر؟.. وتستهلك وتهدر وقتها في مراقبته، فتتأجج داخلها نار الشكِّ والغيرة.  في نظري.. المرأة التي ترضى بالتعدُّد، فتكون زوجة لرجل معدِّد، من غير مرضٍ ولا عقمٍ أو غيرهما من الأسباب التي يتيح فيها الشرع والمجتمع الزواج بأخرى، امرأة ذات شخصيَّة فذَّة، واعية، مدركة لدَورها وحقِّها في الحياة، حريصة على أن تترك بصمة وأثرًا في كل مكان، تتفاعل مع المجتمع، تساهم في حل مشكلاته. أمَّا أن يتحجَّم تفكيرها، وتدور كل أنماط حياتها في فَلَك الزوج، فهذا ضياع لمعنى الحياة."

- هذا من أطرف الآراء لامرأة قط، وأكثرها صدقًا، وعقلانيَّة، واستنارة، وتجاوزًا للتفكير النِّسويِّ النمطي؛ لأنه خارج الصندوق، أو قل: خارج عُشِّ الزوجيَّة، كما يسمُّونه.

- بالتأكيد أعجبك لأنك تنوي التعديد، أيها الذُّكوريُّ المفتري!

- كلَّا.  وهذا لا ينفي أن التعديد يُفترَض فيه أن يكون مقنَّنًا تقنينًا صارمًا. وقد أشار "القرآن" إلى أنَّه محفوفٌ بالظُّلم، والظُّلم قد حرَّمه الله على نفسه، وجعله بين الناس محرَّمًا. ذلك أنَّ الآيات تشير إلى استحالة العدل بين النِّساء مطلَقًا، في الآية من (سورة النِّساء): "وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء، وَلَوْ حَرَصْتُمْ؛ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ، وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا". العدل، إذن، غير مستطاعٍ بين النِّساء ، مهما حرص الزوج. والنَّصُّ مطلَق، لم يَنُصَّ على العدل في الحُبِّ فقط، كما مال بعض المفسِّرين، ممَّن قد يضيفون على النصوص من رؤوسهم.

- ومن ثَمَّ فالأمر في التعديد سبيلٌ إلى الظُّلم؟ هكذا ببساطة؟

- وما عدم العدل، سِوَى الظُّلم؟ وهو ظُلم مُتَعَدٍّ، إلى الأولاد والمجتمع.

- لِـمَ يُجاز، إذن؟!

- لم يُقفَل باب التعديد، ولم يُعَدَّ زانيًا مَن عَرَفَ غير واحدة من خلال الزواج، كما في ديانات أخرى، يبتدع أهلها طهوريَّةً ورهبانيَّة، ما كُتِبت عليهم، ثمَّ لا يستطيعون رعاية ما ابتدعوه حقَّ رعايته.

- لماذا؟

- لماذا؟ لأنَّ ثمَّةَ ضرورات ثَبَتَ في المجتمعات "التوحيديَّة"، التي تُحرِّم التعديد، أنَّ مفاسدها كثيرة، بل أنَّ هناك تحايلات لإقامة علاقات عديدة، غير معلنةٍ ولا شرعيَّة، خارج نظام الزواج.

- أي؟

- أي مسافحةً ومخادنة.  مع أنَّ المرأة نفسها قد ترغب في أن يُعدِّد زوجها لسببٍ أو لآخَر.

- فما الحل؟

- الكلُّ يعرف الحلَّ، لكن الحلَّ لا يريده الكل!

- الحلُّ إجازة التعديد؟

- من حيث المبدأ، ولكن مع جعله في دائرة الخوف من الظُّلم والتحذير منه.

- والظُّلم ظُلمات يوم القيامة.

- وفي جعل مخافة الله، ومخافة الظُّلم، أمام الإنسان، وتحذيره الصريح، شديد اللهجة من التعديد، ما يفضي إلى توقِّي الوقوع في الظُّلم بالاكتفاء بواحدة: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاء، مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا."

- الخلاصة؟

- الخلاصة: هذا هو ميزان العقل والعدل والواقع، الذي تُلْوَى أعناقه من ذوي الأهواء لفتح باب الرُّخصة في التعديد على مصراعَيه- متفاخرين بزرائب من النِّساء وقطعان من الصِّبية- أو تُلْوَى أعناقه من ذوي الأهواء النقيضة؛ لتصوير الأمر ذُكوريَّةً محضةً وظُلمًا مطلَقًا للمرأة.

- لا تُكابر، يا رجُل، ولا تغالط؛ أنت تعلم أنَّ المرأة مستضعفةٌ مضطهدة غالبًا!

- البكاء على المرأة المظلومة التي يتآمر عليها الرجال عبر التاريخ، وإدارة المعركة الأزليَّة بين آدم وحواء، لا يفيد المرأة.

- المجتمع كلُّه نتاج مدرسة المرأة أوَّلًا وأخيرًا.

- طبعًا.  لكن لا قيمة للقِيَم، لدَى تيارٍ أيديولوجيٍّ، خارج ما اعتنقه من أفكار، من حيث هو لا يرى الحياة، ولا يُبصِر الواقع، ولا يشاهد الطبيعة من حوله. كأنَّ الله لم يخلق في الطبيعة إلَّا الإنسان، وكأنَّ التمايز بين الأُنوثة والذُّكورة، في الطبيعة والوظائف والقدرات، ليس إلَّا في عالم الإنسان!

- وبعدين؟

- ولأنَّه منهج تفكيرٍ مستلَب البصيرة والمنهجيَّة، فإنَّ نموذج المرأة الغربيَّ هو النموذج المثالي، الأمثل، والأوحد، لدَى الشرقيَّات.

- ألا ترى في هذا مبالغة خياليَّة؟

- كيف؟

- معظم هؤلاء يجهلون الغرب ونموذجه، أصلًا! وبعض الناشطات والناشطين من عتاة التيَّار النِّسوي لا يمتلكون من الثقافة ولا من الفكر ما يتيح لهم القرب من واقع المجتمع الغربي، بما يؤهل حتى للمحاكاة!

- وهنا بيت الداء المضاعف! حيث تنبني الأحكام على السماع، أو عبر الإعلام، أو التصوُّر الطوباوي للغرب وأهله. ومن هنا فإنَّ تلك الشطحات المعرفيَّة والوجوديَّة لا تتأتَّى عن عَمَالَةٍ ثقافيَّة، ولا حتى من انبهارٍ بالضرورة، ولكن عن ضحالةٍ فكريَّةٍ ومعرفيَّة، مع تعصُّبٍ يُعمي ويُصِم!

- أراك ما أسلمتَ أحدًا من لسانك، يا ذا القُروح!

- لِسـانُ الفَـتَى نِصْفٌ، ونِصْفٌ فُؤادُهُ؛

فَلَم يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحمِ والدَّمِ!

- لاحظْ الذُّكوريَّة حتى في هذا البيت..  قال الشاعر: "الفتى"، ولم يقل "الفتاة"!  ولذلك تعاورَ البيتَ غيرُ شاعرٍ من أجدادك الذُّكوريِّين، فنُسِب إلى (الأعور الشني، 50هـ= 670م)، و(زياد الأعجم، 100هـ= 718م)، و(عبدالله بن معاوية، 129هـ= 746م).

- لا، ليس السبب عن ذُكوريَّة، لكن الحقيقة أنَّ لسان الفتاة "كُلٌّ"، لا "نِصْفٌ" فقط!

- عليك من القُروح ما تستحق!

- وعليك!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

خطوات عملية لمواجهة "ظاهرة الطلاق"

استيقظت في الصباح الباكر يوم إجازتي على صوت رنات مكالمة على الماسنجر، اعتقدت أنها من أختي الوسطى تبلغني بالاعتذار عن المجيء هي وأبنائها لقضاء العطلة معنا في منزل العائلة، إلا أن المكالمة من حساب جدتي "أمامة بنت حارث" لا أصدق نفسي -إحدى فصيحات العرب في الجاهلية، وزوجة "عوف بن محلم الشيباني"، أحد أشراف العرب- تتواصل معي. وبمجرد أن فتحت المكالمة إذ بها تقول لي: صباح الخير يا ابنة الشرق أما زلتِ نائمة ؟ -

 صباح الخير جدتي يسعدني تواصلك معي..

- جدتي أمامة: اتصلت في الصباح الباكر بعد أن غاب عني النوم وأشتد عليا القلق؛ بسبب ما توارد في وسائل التواصل الاجتماعي من الحديث عن زيادة نسبة الطلاق بين الشباب في الآونة الأخيرة بمجتمعاتنا العربية.

- نعم، جدتي فقد تفاقمت المشكلة في عديد من الدول العربية، وأصبحت مصر في صدارة دول العالم من حيث ارتفاع عدد حالات الطلاق.

. -جدتي أمامة: من أجل ذلك يا فتاة الشرق ستصل إليك هديتي بعد ساعة من الآن.

- قبل أن تمر ساعة دق جرس الباب واستلمت علبة داخلها مطوية، وقد كتبت جدتي يا فتيات الشرق جئت لأذكركن بما أوصيت به ابنتي "أم إياس" قبل زفافها إلى عمرو بن حجر. فقد حدثتها أن تحفظ عني خصالا عشرا في تعاملها مع زوجها، ولتكون دستورًا للعلاقات الزوجية وهي: أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب وفي حسن السمع والطاعة رأفة الرب. وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه إلا أطيب ريح، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود. وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والرعاية على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير، والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فإنك أن أفشيت سره لم تأمني غدره، وان عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحا، والاكتئاب إذا كان فرحا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك فيما أحببت أو كرهت، والله يخير لك بخبرته، ويصنع لك برحمته.(1)

- وبعد قراءتي لنصائحها شرد ذهني عن المطوية المفتوحة أمامي لدقائق معدودة، ثم أرسلت لجدتي "أمامة" عبر حسابها على "الفيس بوك" أننا في حاجة ماسة لاسترجاع نصائحك لابنتك، حينما تزوجت ب"عمرو بن حجر" أمير كندة، والتي تعد من واجبات الزوجة الصالحة. لا أنكر جدتي أن تزايد نسبة الطلاق كانت من أكثر المعضلات التي شغلت بالي، وأخذ التساؤل عن سبب ارتفاع معدل الطلاق في مجتمعاتنا الشرقية يراودني دوما؟ ولقد رأيت أن الإجابة تكمن -فيما أرى- بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة بوصفهما شريكين تنقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى "مرحلة ما قبل الزواج"، وهى ما تسبق نصائحك هى مرحلة اختيار شريك الحياة، حيث يتغيب على كلا الطرفين معرفة معايير اختيار شريك الحياة والتي منها وأهمها فيما أرى: الصراحة والوضوح بين الشريكين وضرورة التعامل بشخصيتهما الحقيقية على ما فيها من إيجابيات وسلبيات حتى لا يحدث صدام ما بعد الزواج، فليس هناك أجمل من الصدق والعفوية؛ الذي سيترتب عليه الاستعداد لقبول كل منهما للآخر بكل ما فيه من اختلافات، مع السعي لمعالجة الصدامات والتحديات بنوع من الحكمة بين الشريكين. كما نجد أمثلة كثيرة من الخاطبين يكون شغلهم الشاغل الإعداد لمنزل الزوجية وحفل الزفاف دون التأني بالتعرف على شخصية شريك الحياة أو التغافل عن الاختلافات، والتي تعد مؤشراً لانهيار علاقتهما واعتقاد كل منهما بتغير شريكه بعد الزواج. أما المرحلة الثانية "جدتي أمامة" : هى مرحلة الزواج وهنا أؤكد على كافة نصائحك حول أسرار نجاح العلاقة الزوجية. وأود أن أشير إلى ما يجب أن يلتزم به الشريكان لاستقرار الأسرة.

وأولها وأهمها الخصوصية: فعلمتني الحياة جدتي أن شريكي الحياة لا يمكن أن ينسيا ما بينما من مودة وحب وسكينة بين عشية وضحاها ما دامت حياتهما خاصة ولا ثالث بينهما، سواء في أوقات الود أو الخلاف، وأؤكد خاصة في وقت الخلافات ينبغي عدم تدخل طرف ثالث من الأهل أو الأصدقاء؛ لما سيترتب عليه من تأثير سلبي على العلاقة الزوجية. وليعلم الزوجان أنه لا توجد حياة زوجية دون خلافات لذلك لابد من تجنب اتخاذ قرارات أثناء الغضب والانفعال وضرورة التحلي بالصبر.

ثانيا- تقبل وجود فروق ثقافية واجتماعية بين الزوجين، والتي تعد ناتجة عن اختلاف التنشئة الاجتماعية وطبيعة التفكير والتعليم، وقد تتسبب في صعوبة التفاهم بين الشريكين.

ثالثا- وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت وهى مشكلة مستحدثة في زماننا "جدتي" تسببت في إحداث حالة من الخرس الزوجي بين شريكي الحياة داخل المنزل؛ بسبب الاهتمام بشكل مرضي بمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي طوال اليوم، وكذلك التعرف على الأشخاص الافتراضيين ومتابعة أحداثهم والاستغناء بهم عن الأنس برفيق دربه. بل وتصور الحياة الزوجية في العالم الافتراضي بشكل نموذجي الأمر الذي يجعل شريك الحياة ينظر إلى الآخر باعتباره شخصاً غير مناسب له. وقد تتسبب لدي بعض الحالات في الخيانة الزوجية لغياب الوازع الديني.

رابعًا- العنف الأسري والذي يعد سبب انهيار الأسرة وتزايد معدل الطلاق، حيث يسيطر على أذهان الذكور استخدام الضرب باعتباره في معتقداتهم أنه الوسيلة الفعالة لفرض الهيمنة على الزوجة وإلزامها بالطاعة العمياء، ولعل انتشار ظاهرة الضرب أدى لقتل المودة والسكينة في قلب شريكة الحياة، وتحول حياتهما إلى معركة اندلعت فيها نيران الكراهية وانعدام الثقة.

- من أجل ذلك جدتي يجب على الدول العربية ومؤسسات المجتمع المدني أن تسعى إلى الحفاظ على كيان الأسرة في القرن الحادي والعشرين، والحد من تفاقم مشكلة الطلاق بين الشباب بشكل عملي وفعال على النحو الآتي:

 - لابد من التركيز على دور الآباء والأمهات في ترسيخ مفاهيم تحمل المسئولية، والاحترام بين الفتيان والفتيات من خلال معرفة كل منهما واجباته وحقوقه داخل الأسرة لإعدادهما للمستقبل.

- لابد من تكاتف الأزهر الشريف والكنيسة ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الثقافة والإعلام في الدولة في عقد دورات لتدريب المقبلين على الزواج، للتعرف على أسرار الحياة الزوجية الناجحة التي يعلو فيها دستور العلاقات الزوجية لجدتي "أمامة بنت الحارث" فيما يخص بنات الشرق، وكذلك تحمل الرجال لمسئولية الحياة الزوجية واحترام واحتواء الزوجة رفيقة دربة وتوأم روحه. وقد ساهمت الدولة المصرية بتدشين عديد من المبادرات تهدف إلى توعية الشباب على كيفية تكوين حياة أسرية يسودها الود والرحمة.

- توجيه وسائل الإعلام كافة بعرض بعض من النماذج المشرقة من الأسر المترابطة، كنماذج يُحتذي بها للشباب

-استثمار التكنولوجيا الحديثة من خلال إعداد دورات ومنصات تعليمية من قبل خبراء الطب النفسي والمتخصصين في الإرشاد الأسرى؛ لتأهيل الشباب المقبل على الزواج، وذلك بتعليم المرأة كيفية التعامل مع سيكولوجية الرجل وفهمه، وكذلك تعليم الرجل كيفية التعامل مع طبيعة الأنثى، حيث أن فن إدارة الحياة الزوجية يقع على عاتق الزوجين ولابد من إعدادهما لمواجهة المشكلات الزوجية، وكيفية التعامل مع الأبناء وإعدادهم للمستقبل، خاصة وأن معظم الشباب في يومنا يتزوجون وهم غير مؤهلين اجتماعيًا أو نفسيًا لتحمل المسئولية.

وعقب الانتهاء من كتابتي إلى جدتي "أمامة بنت الحارث" دخلت أختي وأبناؤها مع أبي، وكانت بجانبي المطوية فأهديتها إياها، وبدورك أيها القارئ الكريم سارع إلى أهدئها للمقربين إليك من فتيات الشرق. 

***

آمال طرزان

دكتوراه في الحركة النسوية

...............................

(1) محمد صادق عبده عوض: دستور العلاقات الزوجية في ضوء أمامة بنت الحارث،ط1، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض

يقال إن الأزمات الكبرى هي أم الأفكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم أن كثيراً من الاختراعات المؤثرة في حياة الإنسان، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلاً الطيران التجاري، الذي أثمرت عنه أبحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها أنظمة الاتصالات اللاسلكية، وشبكة الإنترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الأغذية والأدوية ومواد البناء والنظافة والإلكترونيات والمصنوعات الهندسية، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد، اعتماداً على تقنيات الاتصال الحديثة، في ظروف الحصار الذي فرضه وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطاً، فقد أنتج اقتصاداً جديداً وأنماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثراً لزمن طويل في المستقبل.

حسناً، ماذا عن الأفكار التي لا تتعلق مباشرة بالتقنية وأدوات العيش؟ أعني الأفكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم الدين والاجتماع... إلخ. هل تخضع لنفس القاعدة، أعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟

أظن أن الأزمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القارئ، أعني بها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسكانه. خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، حاولت التعرف إلى رأي عدد من البارعين في التحليل السياسي، فوجدت آراء قيمة، قد تعارضها أو توافقها، لكنها – بشكل عام – جديرة بالمناقشة والتفكير، لأنها تحاول الإجابة عن أسئلة مهمة، مثل سؤال: ما هي نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب، في الموقف السياسي والشعبي.

وجدت أيضاً قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب على نظام الأمن الإقليمي، ومواقف الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية من المشروع المسمى «حل الدولتين»، وإمكانية نيله الدعم الإقليمي والدولي في الأشهر المقبلة.

ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم أهميتها، مثل التحولات المتوقعة داخل حركة حماس، واحتمالات الانشقاق في حركة فتح، نتيجة التناقض الشديد بين القناعات المؤسسية والموقف الرسمي الحالي. ومنها أيضاً انعكاس الحرب على ميول الأقليات المسلمة في الغرب، للاندماج في المجتمعات المضيفة أو البقاء على الهامش. وكذا تأثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط إلخ. وجدت أيضاً كتابات مفيدة عن اقتصادات الحصار، وطب الطوارئ، تحاول الإجابة عن سؤال: ماذا يمكن لشعب محاصر أن يفعل في ظل الحرب وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات وإغلاق الحدود.

وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة 2020 - 2021 حول سلاسل الإمداد والتموين وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية والوطنية.

لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلاً أو ستضيع، وسط الركام الهائل من الردود والمجادلات السطحية، التي تتنوع بين مدائح فارغة وإساءات قبيحة، لشخص الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي أو السياسي الذي يعتقد المجادلون أنه ينتمي إليه.

يغريني التشاؤم بالقول إن المجتمع العربي عاجز عن النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول إن التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة، وإن التراجع المتوقع للأزمة سيسمح بنقاش مستأنف. على أي حال يهمني أن أدعو القارئ وكل من يتصل به إلى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش المنفتح قد يقود إلى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية، فليس وراءها سوى إيذاء الذات وإثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء، وخصوصاً الآن، فلطالما كانت الأزمات أماً للأفكار العظيمة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

العروي من أكبر المنظرين للنهضة القطرية العربية والمغاربية. أساس التنمية بالنسبة له هو خلق الشروط الواقعية للمرور إلى الحداثة بتربية الأجيال على الدرابة اليدوية واكتساب الخبرة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية. على غرار رفيقه في دروب الفكر السياسي، الراحل محمد عابد الجابري، فند العروي مبكرا كل المشاريع العربية المتعصبة للقومية والسلفية بمختلف ألوانها ومشاربها، وبقيت فكرتي "القطيعة المنهجية مع التراث" و"العودة إلى التراث وغربلته" تشكلان توجهين مختلفين أسهب المفكران في تحليلاتهما منذ عقود في إطار مشروعين فكريين متباينين للنهضة القطرية في المنطقتين العربية والمغاربية.

الحداثة في مشروع العروي هي مجرد تجربة تاريخية (مرتبطة بتطور الأحداث التاريخية) أعطت نتائج مبهرة للإنسانية. فهي بذلك ليست قيمة يجب التشبث بها ووضعها في نفس مصاف القيم الأخرى. لقد تحول ارتباطها كمفهوم بالتجربة والواقع إلى رافعة حقيقية للتنمية، بحيث تقسم العالم إلى معسكرين الأول متقدم والثاني متخلف. فبعدما تعبت وضاقت العديد من الشعوب من التخلف والتقليدانية، تحول اقتناعهم بالنتائج، بعدما تشربوا عبر التجربة مزايا الفكر الحداثي، إلى إرادة لبناء نسق معيشي جديد لا يستوعب إلا الفضاءات المنتجة للقوة الذاتية والنفوذ والرفاهية. بنفس المنطق، وفي إطار التنافس التاريخي الشرس للحضارات، تخلصت الدول المعاندة، كالصين وروسيا وتركيا واليابان وبعض الدول الأسيوية...، من ترسبات الإيديولوجيات التقليدية القاتلة، بتشديد الحرص على الحفاظ على هويتها التاريخية، وحققت بامتياز المقومات التي أهلتها لمراتب التباري على قيادة العالم. وبذلك برز من حقبة تاريخية إلى أخرى مفهوم جديد للحداثة مثبتا تجربة أو تجارب متقدمة تفرض إجبارية الاقتناع كون التخلي عن الأصالة لا يؤدي إلى التخلي عن الهوية بل يرفع من قيمتها على المستوى العالمي.

تبسيطا للعمق الفكري لهذا التقابل، تقابل الحداثة والأصالة، يقول العروي أن المفهومين لهما مجالين مختلفين. فضاءات الحداثة هي السياسات العامة والمصلحة العامة للمجتمع، وهي مرتبطة بالإنتاج المادي خارج البيت وخارج الشعور. أما الأصالة فهي شعور وحنين يتيح الحق للرجوع إلى النفس. فكما يلازم الليل النهار، أصبح هذان الحقان الأساسيان متلازمان بالنسبة للإنسان العالمي الليبرالي. ففي النهار، لا يفكر المرء ولا ينشغل إلا في العلاقات الخارجية المبنية على الكسب المادي المترتب عن التفاعل المنتج لخبرته اليدوية والعقلية والتكنولوجية وطاقاته الإبداعية. أما الليل في نظر العروي، فهو الحيز الزمني الذي يضمن السكينة والتأمل في الذات (في البيت). فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول العروي كان يعتكف في غار حيراء، لكنه كان يخرج لتفعيل كل ما راكمه خلال لحظات انعزاله وتفاعله مع ملائكة الرحمان. استمر على هذا الحال إلى أن استطاع الجهر بشعار "الإسلام يجب ما قبله" بدون أن يندثر التراث العربي الجاهلي من شعر وأدب ومعارف علمية وفلسفية وفنون متنوعة. بنفس المنطق، جاء لينين مناديا بنفس الشعار "الاشتراكية تجب ما قبلها" وأن نهاية التاريخ كأفق مرتبط بوصول البروليتاريا إلى الحكم. ثم جاءت الليبرالية ورفعت شعار "النظام العالمي الجديد الذي يجب ما قبله"، واستمرت مكتسحة ومعاندة أزماتها المرحلية ورافعة شعار توحيد قيم الإنسان العالمي. توالت التفاعلات والاصطدامات، والتي سماها البعض بصراع الحضارات، إلى أن وصل العالم إلى استنتاجات الدكتور عبد اله العروي. برزت الصين والهند وروسيا بحضارتهم ذات الخصوصية التاريخية. الحداثة بالنسبة لهم مرتبطة بالعلاقات البرانية (خارج البيت) التي لا تشارك شعوبهم قيمهم وحنينهم إلى الماضي. الحداثة ليست آلية لترسيخ الانفصال بين الذات والهوية، بل ترمي إلى عدم التعسف لربط الخصوصية الوجدانية بالمعاملات التجارية والمالية والتكنولوجية.

بالعودة إلى التاريخ يتضح أن الإنسان القديم قد استطاع بقدرات فلاسفته ورواده في الفكر والعلوم المختلفة أن ينفصل عن الفكر الأسطوري. تجاوز معتقد تعدد الآلهة، فكر في أصل الكون من مادة واحدة (الماء في أول الأمر)، ودخلت المجتمعات بعده إلى مراحل تاريخية جديدة. لاحظ طاليس أن الرطوبة هي أصل الحياة، وكلما تغيرت خواصها تغيرت الموجودات. تأمل طبيعة الماء في الوجود الإنساني، ووجد أنه يملك الرطوبة والجريان والتجمد والتبخر، فاهتدى إلى فرضية كونه أصل الوجود. إنه الاعتبار الذي جعل العروي يناصر فكرة تجريب "القطيعة المنهجية مع التراث". لا بد للإنسان العربي والمغاربي أن ينفصل مؤقتا عن تراثه، وينغمس بمعرفة ونباهة في الحداثة جاعلا المنفعة والمصلحة الجماعية أمام أعينه، ليعود إلى نفسه بنظرة جديدة وثاقبة بعد بلوغ الثقافة الحداثية. لا يمكن لمجتمعات المنطقة العليا الممتدة من المحيط إلى الخليج أن تبقى غارقة في الكيفية التقليدية التي تتلقى بها هذا التراث المنفصل عن مسار النبوغ العالمي لإنتاج المادة، بل عليها أن تدخل فضاء الحداثة بشكل كلي (100%)، ثم تعود بعد ذلك إلى تراثها وهويتها بنظرة مغايرة ومتطورة. الياباني لا يزال يبانيا وأفلام بلاده ذات خصوصية بارزة في العالم. الأمر ينطبق كذلك عن الفيلم الفرنسي والألماني.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

تحدثنا في موضوعنا في الاسبوع الماضي، عن الموجة السائدة منذ سنوات لدى الباحثين العرب لـ(التشكيك بتاريخ الاسلام الاول والنبي والقرآن). ما يجلب الانتباه ان (غالبية) هؤلاء الباحثين يتجاهلون عن عمد حتى بالاشارة، الى ان هنالك ايضا ومنذ سنوات طويلة في الغرب وباقي العالم، عمليات تشكيك بتواريخ جميع الاديان المعروفة مثل: البوذية والهندوسية واليهودية والمسيحية، وغيرها.

نسجل هنا باختصار شديد الجدالات التشكيكية بخصوص هذه العقائد الدينية الكبرى، وغايتنا دفع القراء والمهتمين للبحث بانفسهم عن التفاصيل وخصوصا باللغتين الانكليزية والفرنسية:

ـ الهندوسية (البراهمية):

يدعي اتباعها انها اقدم ديانة حيّة ومستمرة في العالم، وانها موجودة قبل 3000 عام ق.م . ولكن هذا الادعاء يتناقض تماما مع الحقيقة التالية: ان جميع عقائد البشرية لا يمكن التأكد من صحة تاريخها الا بووجود آثار كتابية لها. فمثلا، ان العالم اجمع متفق على ان عقائد مصر والعراق ثم الشام هي اقدم عقائد البشرية، لانها قد تركت لنا اقدم النصوص المكتوبة في التاريخ(حوالي 3000 ق.م).

طبعا ان الجماعات البشرية كلها منذ بداية تكوينها كانت لها معتقداتها الروحية والغيبية، لكنها بقيت شفاهية ولم تدخل التاريخ الذي نعرفه الا بعد ان اصبحت مدونة وعثرنا على بعض نصوصها المكتوبة.

بالنسبة للهندوسية، مثل جميع عقائد البشر، قد تكون موجودة قبل مليون عام او اكثر، ولكن كيف نعترف بذلك ما دامت نصوصها لم تكتب الّا في القرن الثالث ق. م. لان الهند كلها لم تعرف الكتابة الا في هذا التاريخ،عندما انتقلت اليها (الكتابة الآرامية العراقية الشامية) التي اسموها(البرهمية)،عن طريق الايرانيين الاخمين الذين عرفوا، هم ايضا، لأول مرة الكتابة  بعد احتلال بابل عام 539 ق.م،إذ تبنوا الكتابة المسمارية العراقية ثم الكتابة ألارامية (الفينقية) الشامية. ([1])

ـ البوذية:

البوذيون انفسهم، حسب طوائفهم الصينية والتبتية واليابانية والهندية، يختلفون في تحديد تاريخ حياة (بوذا) في اكثر من خمسة قرون، تترواح بين اعوام 1000 ق. م حتى 400 ق.م

علما بأن اقدم نص بوذي يعود الى القرن الاول الميلادي، أي بعد التاريخ المفترض لحياة (بوذا) بحوالي الف عام. وقد عثر عليه  في افغانستان ـ قندهار وايضا في سيلان.([2])

ـ المجوسية او الزرادشتية:

وهي ديانة ايران القديمة قبل الاسلام. وهم يدعون ان(زرادشت) قد عاش حوال 2000 عام ق.م . علما بان ايران لم تعرف الكتابة الا بعد احتلال(الاخمين الايرانيين) للعراق عام 536 ق.م . ثم ان كتاب المجوس المقدس (أفستا: الابستاق) لم يتم العثورعلى أي نسخة قديمة منه، الا بعض الوريقات التي تحوي على بعض الاشعار التي ربما ويفترض لها علاقة به.  والمتفق عليه تاريخيا ان كتابهم المقدس قد دون لاول مرة بعد اكثر من ثلاثة قرون من الاسلام.[3] ولكن المجوس يدعون بانه كان مكتوبا وقد حرقه(الاسكندر المقدوني)، ثم بعدهم حرقه (المسلمون)؟؟!!!  لكن ليس هنالك اي مصدر او شهادة تؤكد إدعائهم هذا.([4])! علما بأن اقدم معابدهم:(معابد النار) تعود الى(الدولة الايرانية الساسانية) التي قضى عليها العرب المسلمون. اي ان الساسانيون هم الذي حولو هذه الديانة المجوسية الرعوية البدائية "الشفاهية"، الى ديانة رسمية مع معابد خاصة بها.([5])

ـ اليهودية:

تدعي بان كتابها المقدس(التوراة) قد كتبه(موسى) حوالي 1300 ق.م . ولكن جميع الابحاث الحديثة بما فيهم المؤرخون  تتفق على ان التوراة قد بدأ تدوينها منذ القرن السادس ق.م  في بابل (بعد السبي) وفي فلسطين، من قبل عدة جماعات مختلفة وفي فترات مختلفة، وتم جمعها فيما بعد، بحيث احتوت على نصوص مكررة ومتناقضة،  واسماء شخصيات تختلف اسمائها في نفس النص. ([6])

المسيحية:

وهي محل جدالات مستمرة حول صحة شخصية المسيح إذ كما صرحت احدى العالمات: «لا يوجد وصف واحد ليسوع أقنع جميع أو حتى معظم العلماء» وأن جميع صور يسوع تخضع للنقد من قبل مجموعة منهم) وحسب اقدم المصادر التاريخية هنالك اكثر من عشرين شخصا ادعى انه(المسيح)!([7]) كذلك هنالك جدالات حول صحة تواريخ ومؤلفي الاناجيل وهل هم فعلا تلاميذ المسيح، وحول ماهية لغتها، لان اقدم نسخة عثر عليها تعود الى 250 م، أي بعد حوالي قرنين من صلب المسيح. والغريب ان هذه الاناجيل الاولى قد كتبت كلها باليونانية،([8]) رغم ان المسيح لم ينطق كلمة واحدة يونانية، لأن لغته هي(الارامية) وبها نطق آخر عبارة وهو على الصليب:( (إيلي إيلي لما شبقتني؟: الهي الهي لما تركتني؟).

***

سليم مطر ـ جنيف

........................

* لمطالعة هذا الموضوع مع قسمه الاول، بالاضافة الى الصور والخرائط والمصادر العربية والاجنبية، في موقعنا بعنوان: الى المتشككين بتاريخ الاسلام الاول وكتابه ونبيه، نعم هذا من حقكم، ولكن لا تتعاموا عن الحقائق التالية:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/158-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%88%D9%84-%D9%88%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%87-%D9%88%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%87%D8%8C-%D9%86%D8%B9%D9%85-%D9%87%D8%B0%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%82%D9%83%D9%85%D8%8C-%D9%88%D9%84%D9%83%D9%86-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-2.html

[1] - ابحث عن: ويكيبديا  بمختلف اللغات:  تاريخ الكتابة: History of writing

ان (الخط البراهمي) هو الخط الهندي الهندوسي الحالي،  وان أقدم نقوشه وأشهرها هي المراسيم المنحوتة في الصخور للملك (أشوكا ) في شمال وسط الهند، والتي يرجع تاريخها إلى 250-232 قبل الميلاد. ابحث عن ويكيبيديا: الخط البراهمي: Brahmi script

اما ما يسمونه افتراضا (الكتابة السنكسريتية) الهندية، فان اقدم آثارها هي: مخطوطة جريد النخيل - Palm-leaf manuscript   ، وتعود الى بضعة قرون قبل الميلاد.  ابحث كذلك عن:  مخطوطة باور

كذلك للتفصيل ابحث عن:  Spitzer Manuscrip

كذلك موضوع بالفرنسي:  الكتابة الهندية عبر التاريخ

Les écritures indiennes au fil de l’histoire

ـ من المهم التوضيح ان اقدم (كتابة مفترضة)  في الهند هي(السندية: باكستان) التي تعود الى عدة آلاف ق.م. لكنها بالحقيقة غير مؤكد بانها كتابة، بل هي مجرد نقوش على الفخاريات لم تترك أية مدونات ولهذا يتمكن العلماء حتى الآن من فك رموزها، وهنالك اتفاق على انها محاولات اولية لرموز كتابية!!

ـ  نجلب انتباه القراء والباحثين، الى عميلة الخداع والايهام الخطيرة التي يمارسها بعض المؤرخين الغربيين لاسباب (عنصرية آرية)، عندما يقولون: ان تاريخ النص الديني المجوسي  وكذلك الهندوسي يعود الى ثلاث آلاف عام ق. م، رغم ان اقدم كتابة هندية وايرانية تعود الى بضعة قرون قبل الميلاد!؟ ولكن هولاء الباحثين يلجئون الى ما يسمى  (التحليل اللغوي: الفيلولوجي) لـ(يفترضوا؟!) ان هذه النصوص الدينية اقدم بكثير من تاريخ تدوينها وتاريخ الشواهد الاثرية على وجودها.

فمثلا، لو قام شخص في وقتنا الحالي بتأليف نص باسلوب قرآني، فهل هذا دليل على ان زمن تأليفه يعود فعلا الى عصر القرآن؟؟!!

فانتبهوا الى هذا الخداع اللغوي المقصود، والى الاختلاف الكبير بين (تاريخ النص: Text ) الذي يعتمد الافتراض اللغوي، و(تاريخ المخطوطة: manuscrip)  الذي يعتمد التحليل الاثاري للنص المكتوب. لهذا فانه مثلا، ان افضل طريق للبحث عن التاريخ الحقيقي  لاي عقيدة او كتابة ، البحث عن:(اقدم مخطوطة مكتوبة)،  فمثى بالنسبة للكتابة الهندية والهندوسية،  بعد جهود بحثية كبيرة لامعرفة التاريخ الحقيقي ، وجدنا هذه العبارة المناسبة للبحث:

ما هي اقدم مخطوطة  هندية وهندوسية؟

Hinduism: What's the oldest Hindu manuscript available

[2] ـ عن الجدالات عن تاريخية البوذية، ابحث عن:

(rouleau de Gandhara) (canon pâli)

(Un manuscrit bouddhique vieux de 2000 ans restauré et numérisé)

[3] ـــ  عن المجوسية وكتابهم الافستا ابحث عن:

ـ Avesta - World History Encyclopedia

ـ طالع: آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، ص130، 131.

ـ كتاب بالعربي تفصيلي مهم عن تدوين الأفستا في العصر الإسلامي:

ــ تحريف الزرادشتيين للديانة الزرادشتية في العصر الإسلامي/ د. خالد كبير علال.

[4] ــ طالع: أقدم مصدر تم فيه ذكر اسم (زرادشت) يعود إلى القرن الرابع ق. م، إذ ذكر أحد المؤرخين اليونان أن الفرس يقولون: إن (زرادشت) عاش قبل ستة آلاف عام.

ــ L’Avesta, Zoroastre et les sources des religions indo ــ iraniennes par Jean Kellens

ثم إن الطائفة المجوسية بقيت حيّة وإن ضعفت وقل عدد أتباعها، لكنها من المستحيل أن تستمر بدون كتابها المقدس إذا كان فعلا مكتوبا!! ثم لماذا اضطروا إلى تدوينه في القرن الرابع الهجري، إذا كان موجوداً؟! وقد أضافوا إليه الكثير من المؤثرات الإسلامية والمسيحية، وادعوا أنها موجودة منذ القدم!

ــ مثلا، عن حكاية (المعراج) المجوسية، (أردا فيراراز ــ ناماغ) (كتاب أردا وياراز)، فإن الباحثون اتفقوا على أنه دون في القرن الرابع الهجري بجانب كتابهم الأفستا. طالع:

ــ الموسوعة الإيرانية بالإنكليزية: encyclopaedia iranic/ مفردة(ARDĀ WĪRĀZ)

كذلك ابحث: Zoroastrian visions of heaven and hell/ The British Library

ــ إيران في عهد الساسانيين ــ ارثر كريستنسن ــ ص40 ــ ص41.

ــ عن مشكلة تاريخ زرادشت ونصوص المجوسية: هنالك جدل دائم بين المختصين الغربيين لتحديد الفترة التي عاش فيها (زرادشت) بعضهم يبلغ حد 2000 ق.م، وبعضهم يهبط إلى القرن الأول أي زمن المسيح! لأن المشكلة تكمن في عدم وجود أية أدلة آثارية وشهادات تاريخية على وجوده أصلاً. (هيرودوتس الرابع ق.م) لم يتحدث عن زرادشت بل ذكر (دين الفرس)، و(إنجيل متي) يتحدث عن (المجوسية 2/ 1ـ 16). أما الشهادات التي تذكر اسم (زرادشت) فهي باليونانية واللاتينية وتعود إلى القرن 1 م أمثال الإيطالي (Pliny the Elder) و(نيقولا الدمشقي)، وكلها نقلا عن مصادر شفاهية وأقاويل تتحدث عن زمن بعيد لقرون مختلفة. طالع بالفرنسي:

ــ Jean Kellens/ L’Avesta, Zoroastre et les sources des religions

ــ بل هنالك من يعتقد بأن هنالك (عدة زرادشت، وليس واحداً)، والطريف أن جدل المختصين يعتمد (فقط فقط فقط) على تقدير تاريخ (لغة ومعاني) النصوص المنسوبة إلى المجوسية والتي تتحدث عن نبيهم. علما بأن أقدم نسخ هذه النصوص الحالية يعود تاريخ كتابتها إلى ما بعد الإسلام، وهي نصوص (الخليقة: بنداهيش Būndahišn.). ابحث بالإنكليزي والفرنسي والألماني: Zoroaster

ــ كذلك طالع:

آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، ص130، 131.

[5] ـ  نفس المصدر السابق:  أشرف على هذا النهوض الديني  المجوسي الكاهن (كارتير Kartir: القرن الثالث م)، وهو (الموبدان الأكبر: أي الرئيس الأعلى لكهنة المجوس)، الذي جهد لجعل المجوسية الديانة الرسمية للإمبراطورية، على أمل مواجهة الاكتساح المسيحي والمانوي القادم من العراق.

وعلى غرار شخصيتي (ماني البابلي) و(النبي عيسى) جهد المجوس لإبراز شخصية نبي خاص بهم أحيوه من تراثهم الشعبي: (زرادشت)، ربما من شخصية زاهد إيراني قديم مقدس. كذلك بدأوا بتدوين بعض النصوص الشعرية الدينية التي نسبوها لنبيهم بأسم: (الزند الزرادشتي: أبستاق ــ الافستا: Avesta)! الذي ارجعوه الى شخصية زراشت، كما ارجع اليهود توراتهم الى موسى قبل قرون طويلة من كتابته الفعلية في بابل.

[6] ـ عن اليهودية وموسى ابحث عن ويكيبيديا:

ـ (تاريخية الكتاب المقدس: Historicity of the Bible)، كذلك: (حقيقة وجود موسى:

historicity of moses

وللتفاصيل الكاملة،  طالع ملفنا الكامل عن اليهودية:  اليهودية، ليست سماوية توحيدية، بل بابلية كنعانية؟! سليم مطر

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/156-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D8%B3%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%A8%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D9%86%D8%B9%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.html

[7] ـ للتفاصيل  المباشرة السهلة عن المسيحية والمسيح، ابحث عن:  ويكيبيديا:

ـ (نظرية أسطورة يسوع/ Christ myth theory)

(مصادر لتاريخية يسوع/ Sources for the historicity of Jesus)

[8] ـ عن تااريخ الاناجيل ابحث بالعربي عن: ويكيبديا: إنجيل

وعن الجدالات حول لغتها، ابحث عن: عبرانى أم يونانى.. ما لغة الكتاب المقدس الأصلية؟.. ومتى ترجم للعربية؟

لستُ أعلم، كيف أدخلَ المتنبيّ (اغتيل: 354هج) الكتاب في مدح كافور (ت: 357هج)، وذَهبت كنايةً: «أعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ/ وخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ». أقول: هل كانت رسالة معرفيّة بالفعل، أم حكمت القافية، فصار الاتفاق. خَرجتْ قراءةُ الكُتبَ أعاظم الثّقافة والأدب، فهذا أبو هِفَّان المِهْزَمي(ت: 257هج) يقول عن رائد البيان: «لم أرَ قط، ولا سمعتُ مَن أحبَ الكتبَ والعلومَ، أكثر مِن الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتابٌ قطُ، إلا استوفى قراءته، كائناً ما كان، حتَّى إنْه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنظر... يحضر لمجالسة المتوكل(الخليفة)، فإذا أراد القيام (المتوكل) لحاجة، أخرج كتاباً مِن كمهِ أو خفهِ وقرأه... فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظرُ في كتابٍ، أو يقلبُ كتباً»(الحمويّ، معجم الأدباء). فشاع عن وفاته: «بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أنْ يصفها قائمةً كالحائط، محيطةً به»(أبو الفداء، المختصر). رواها صاحب المختصر فقط.

كان دافع المقال مهرجانَ «تحدي القراءة العربيّ»، المُقام بدبي سنوياً، يُختار المتبارون، صبايا وصبياناً، مِن مختلف البلدان العربيّة، يشارك كلّ واحد بقراءة خمسين كتاباً، وعددهم مليون، فيقرؤون خمسين مليون كتاب. بعد تسجيل التَّلاميذ، مِن قِبل مدارسهم، يتدرجون بالقراءة على خمس مراحل، لكلّ مرحلة جوازٌ خاص، وفي كلّ منها تُنجز قراءة عشرة كُتب، وتلخيصها في عشر صفحات، وهكذا دواليك، حتّى ينتهي إلى الخامسة، مرحلة الجواز الذَّهبيّ. رصدت المبادرة جوائز مجزية للفائزين، مِن قِبل مؤسسة «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالميّة».

أُطلقت المبادرة لأهمية قراءة الكُتب في الثّقافة والمعرفة، ونقول الكُتب لدخول الإنترنت المنافس بتفوق، في المحتوى المختصر، أو السّماع السَّريع، أو المشاهدة الخاطفة. لا يُنظر لقيمة المقروء، أو المسموع، أو المرئي، فصُناع المحتوى لا تقيدهم تقاليد الكتابة، مجال لا يميز بين الغث والسّمين. حتَّى شاعت «كتابات يحررها كُتابها»، مع أنَّ التّحرير حِرفةٌ بذاتها، فصار المحتوى الهابط يملك ناصية التّوجيه. لذا قصدت المبادرة التّلاميذ إلى الصّف الثَّاني عشر، وهو سن التَّأسيس المعرفي والسلوكيّ، وبهذا تُعيد المبادرة دور الكِتاب في الوعي.

لم أخذ ما تعلمنا بالمدرسة، عن فك أسرى بدر مقابل تعليم الصِّبيان القراءة، على محمل الجد، حتّى عثرتُ على الرّواية، فكتبتُ معتذراً. وإذا قال مشككٌ في التّاريخ: إنها مِن تلفيق ابن سعد كاتب الواقدي(ت: 230هج)! أقول وليكن، مع استبعاد ذلك، فالتَّفكير بها زمن راويها يكفيها أصالةً.

قال: «كان فِداءُ أسارَى بَدرٍ أَربَعَةَ آلافٍ إِلَى مَا دُونَ ذلكَ، فمَنْ لم يكُن عندَه شَيءٌ أُمِرَ أَن يُعلِّمَ غِلمانَ الأنصارِ الكتابةَ... كانَ أهلُ مَكَّةَ يَكتُبون وأهلُ المدينَةِ لا يَكتُبون. فمَن لم يَكن لهُ فدَاءٌ دُفع إليهِ عشَرَةَ غِلمانٍ مِن غِلمان المدينَةِ فَعلَّمَهُمْ. فإِذا حذقُوا، فهو فِدَاؤُهُ»(الطّبقات الكبرى).

كنا نأمل أنّ تنال مبادرة الشّباب العراقيين «أنا عراقيّ أنا أقرأ»، منذ إطلاقها(2012)، الاهتمامَ، بعد إدراك القراءةِ بلسماً لدمل جِراح الحروب والحصار، وما خلفه الإرهاب، وما تبثه المنابر مِن جهالةٍ، لكنَّ أصحابَ المبادرة ظلوا يفرشون الحدائق والأرصفة، بما جمعوه مِن (المحسنين) مِن كتب، بينما الجهات الرّسمية لا تراهم ولا تسمعهم. هذا ما كان يشغل الذِّهن عند تكريم الفائزين، مِن بين قراء الخمسين مليون كتاب بدبي، على أنّ إشاعة المعرفة أهم مشاريعَ البُنى التّحتية، أعظم شأناً مِن الجسور والطُّرق والمصانع.

نعم، بالقراءة تنهض الأُمم، شرط الاهتمام بنوعيتها، وإلا فالأمية المبطنة فاشية اليوم، بين سطور مَن عوتب الزَّمان فيهم: «وأتى بكُتَّابٍ لو انطلقت يدي/فيهم رددتهم إلى الكُتَّابِ»(الثّعالبي، أحسن ما سمعتُ)، أيّ يردون إلى حلقات تعليم القراءة والكتابة، وهذه أمية ابتلى بها زماننا.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

انتهت الحلقات التسعون من المسلسل اللبناني السوري (كريستال) المقتبس من دراما تركية بعنوان (حرب الورود) عرضت في موسمين بين عامي (2014 و 2016) وحظي بمشاهدات عالية.وكذلك حظي مسلسل (كريستال) بمشاهدة واسعة تأرجح فيها بين المرتبتين الأولى والثانية للأعمال الدرامية الأكثر مشاهدة، ليس في داخل البلدان العربية فقط بل والعرب ايضا في دول العالم.. جسّد اهم ادواره ممثلون لبنانيون وسوريون يتصدرهم: محمود نصر، باميلا الكيك، ستيفاني عطاالله، لين غرة، رولا حمادة، أنجو ريحان، خالد شباط،، إياد أبو الشامات، بلال مارتيني، علي سكر، وعلي فيمنه.. كتب له السيناريو والحوار كل من لبنى مشلح ومي حايك واخرجه الفنان التركي هاكان ارسلان.

ويرى بعض النقاد ان مسلسل "كريستال" تفوق غالبية نجومه في الأداء على المسلسل التركي "حرب الورود" وهو ما لم يتحقق في الكثير من التجارب العربية السابقة.

فكرة المسلسل

الفكرة او الثيمة الرئيسة في مسلسل كريستال هي (صراع حب) بين ثلاث شخصيات: مصممة أزياء شهيرة (عليا – باميلا الكيك)، وأبنة بستاني (في – ستيفاني)، وطبيب شاب وسيم وماهر في تخصصه (جواد- محمود نصر)، تجسّد ثلاثتها صراع الحب هذا بكل حالاته: عشق، غرام، حب من طرف واحد، كره، مكر، كيد... وانتقام.

يتوفى والد مصممة الأزياء (عليا)، فتعود الى الوطن لرعاية شقيقها المصاب بمرض عصبي عقلي (باسل- خالد شباط)، وتلتقي ثانية بصديق طفولتها وحبها الأول.. الطبيب جواد. ويحدث أن (في) ابنة الناطور وحارس (وحدقجي قصر عليا) تقع في حب جواد ايضا. وطبيعي ان نار الغيرة تشتعل في البطلة الثرية، وترى فيها اهانة ايضا اذ كيف لأبنة (حدقجي بيتها) وولية نعمة عائلته ان تقع في حب حبيبها.. والحبيب طبيب ايضا!.

غير ان ابنة البستاني (في) تتجرأ على تصعيد المنافسة وتنجح في جعل الطبيب جواد يحبها.. وتتعقد الأحداث، وتتعدد الشخصيات والأبطال الثانويين.. وحكايات وتفاصيل بعضها ادخل لغرض (التطويل).

افضل الممثلين اداءً

نرى ان افضل الممثلين اداءا في المسلسل هو الفنان السوري خالد شباط (باسل)، ولا يعني هذا انه افضلهم كفاءة في التمثيل، بل لأنه ادى ببراعة شخصية شاب مصاب بمتلازمة (اسبرغر)، وكان هو الوحيد بينهم الذي مثل دور شخصية مصاب باضطراب عقلي فيما الآخرون مثلوا ادوار شخصيات طبيعية.

وللتوضيح فان متلازمة أسبرجر، تعني في مصطلحات الطب النفسي: اضطرابا في النمو العصبي تتميز بصعوبات كبيرة في التفاعل الاجتماعي والتواصل غير اللفظي وتصرفات متكررة من السلوك والاهتمامات. و يعانى البالغون المصابون بها (مثل باسل) من مشاكل فى علاقاتهم الأسرية وحالات هوسية تقلق وتزعج من حوله. وعادة ما يكون الشخص الذى تم تشخيصه بمرض أسبرجر، غير سعيد عندما يكون بمفرده.

وأرجّح ان الممثل خالد شباط عايش حالات المصابين بمتلازمة اسبيرجر واضطراب التوحد الخفيف.. في احد مشافي دمشق او بيروت، لأتقانه ابرز اعراضها: صعوبة الكلام والحركات المتكررة و حالات الهوس.

وتميزت (باميلا الكيك – عليا) باداء متقن للشخصية الأرستقراطية في كبريائها وتفردها وذوقها الراقي في مظهرها الذي يجسّد دورها كمصممة ازياء ذكية طموحة، اذا وجدت تصميما لزي جميل.. اتقنت تنفيذه، وراحت تبحث عما هو اجمل. ويبدو ان باميلا وجدت في عليا ما يجسد حقيقتها من الداخل في جمالها وقوة وانفة شخصيتها وطيبتها وشطحاتها، ما جعل المتلقي يرى في عليا وكأنها باميلا.. فتوفر فيها شرط المصداقية الذي يعد اهم شرط سيكولوجي في الدراما.

واستطاعت باميلا تجسيد اهم حالتين سيكولوجيتين في ثيمة المسلسل (الحب).. حالة ضعفها امام جواد صديق صباها وحبيبها الأول يوم عاد من اميركا فوجدت ان حبه لها كان قد تحول الى حب لصديقة وليس حبيبة فيما هي كانت تريده ان يكون عشقا وغراما، فعاشت ضعف حالة الحب من طرف واحد. والحالة الثانية ان منافستها في حب حبيبها (جواد) ما كانت بمستواها اعتباريا وماديا، والأصعب انها ابنة (حدقجي بيتها!).

ولها ولباسل.. كان الدور الأكبر في متابعة المشاهدين للمسلسل.

فقدان الصدق السيكولوجي

الشرط الأهم في نجاح اي عمل درامي (مسلسل درامي، فلم سينمائي، مسرحية).. هو الصدق السيكولوجي.. ونعني به ان المتلقي يرى في الشخصيات التي يشاهدها انها موجودة في الواقع.. أولا، وان صفاتها العقلية والسلوكية والاجتماعية مطابقة لتركيبة الشخصية.. ثانيا.. وهذا لم يحصل في بطلي المسلسل (مي و جواد).

  • ستيفاني عطا الله. بطلة المسلسل (في) كانت هي السبب الأول في تحويل هذا العمل الى دراما مفتعلة.ولا يعود ذلك الى ادائها، فهي ممثلة قديرة، بل يعود الى تركيبة شخصيتها التي صاغها المؤلف. فهو منح فتاة من عائلة فقيرة(ابنة حارس وحدقجي) صغيرة في السن، لم تحصل على تحصيل دراسي عالي.. منحها موهبة فنية وذكاءا وحيلة و(شيطنة) وجرأة وتحديا تتفوق فيها على جميع ابطال المسلسل بمن فيهم مصمة ازياء شهيرة وولية نعمة عائلتها، وطبيب يدير اهم مستشفى في المنطقة.

 محمود نصر. السبب الثاني.. ان المؤلف ارتكب الخطأ نفسه في صياغة تركيبة شخصية الطبيب (جواد فياض) الوسيم والثري بأن جعله يقع في حب ابنة البستاني الناطور(في) كما لو كان مراهقا.. بل جعله يعيش حالة هيام وكانه لا تو جد بالدنيا غير (في)، وجعل (في) تلعب به كما تريد لدرجة انه يترك عمله المهني كمدير مستشفى اذا طلبت منه ان ياتيها.. وياتيها في المكان الذي تريد.وتتلاعب به وبمشاعره كيف تشاء، ما جعل المتلقي يرى فيه انه لا يمكن ان يوجد طبيب يماثله في الواقع وان وجد فأنه يكون سفيها وليس بمواصفات شخصية طبيب.

وكان يمكن ان يشكل عامل اخفاق للمسلسل لو ان احدا غير (محمود نصر) قد اداه، لكن موهبة الفنان محمود وقيامه بادوار مماثلة لا سيما قيامه بدور طبيب نفسي في مسلسل (60 دقيقة)، اسهم في استمرار متابعة المشاهدين لحلقات المسلسل التسعين.

السبب الثالث الذي اسهم في تحويل مسلسل كريستال الى دراما مرتبكة مفتعلة يكمن في السيناريو باعتماده (متلازمة تكرار الصدف).فحيثما كانت هناك شخصيتان تتحدثان في خلوة عن شخصية ثالثة، واذا بك ترى هذه الشخصية (خاتلة) تسمع ما يدور بينهما عنها!

شخصيات.. غابت فجأة

يفاجأ المشاهد للمسلسل بممثلين ادوا ادوارا مهمة وغابوا دون سبب، في مقدمهتم الفنان السوري علي سكر الذي قام بدور الطبيب النفسي (عامر) وعمل على معالجة (باسل) وتحليل شخصيتي صديقه الطبيب جواد، وعليا التي احبها.. وغيّب دون سبب مع ان دخوله شكل اضافة نوعية للمسلسل.

والمأخذ الأخير (القاتل) هو.. نهايته، بان جعل الباطل ينتصر على الحق لحظة قرا المحامي وصية (باسل) التي اوصى بجميع ما يملك الى (في).. مع ان في لم تتزوجه عن حب بل عن قصد يخص عليا، وانها لم تعاشره كزوجة، وانها خانته بعلاقتها مع جواد.. فكانت نهاية غيرمنطقية تضاف لعدم منطقية الكثير من أحداث المسلسل.

لماذا اذن حقق كريستال نسبة مشاهدة عالية؟

تتلخص الأسباب في ان موضوع المسلسل هو (الحب) بكل حالاته، لأنه يجذب عامة الناس لاسيما الشباب.. الشريحة الأوسع في المجتمع، ولأن معناه الحقيقي قد تشوه او ضاع في زمن التكنولوجيا. وان الذي جسد هذه الحالات هم نجوم عربية كانوا رائعين في اداء ادوار بحوار صيغ بشكل راقي وعمد الى ان يكشف الكثير من اسرار الحب بلغة شفافة ومواقف رومانسية، بسيناريو كان كاتبه كعازف بيانو ماهر يتنقل (بايقاعات مختلفة) ليضمن متابعة المتلقي لحلقاته التسعين.. فاستحق (كريستال) العربي ان يتفوق على من اقتبسه.. (حرب الورود) التركي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

حين نقرأ بعض الدراسات أو المقالات التي تتعرض للمجتمع العراقي في مجالات التاريخ أو السياسة أو الاجتماع أو الثقافة أو الدين، تصادفنا في بعض الأحيان ألفاظ (طنانة) وعبارات (رنانة) تحاول إسباغ نوع من الصفات المثالية أو الخصائص الفريدة على طبيعة هذا المجتمع المحيّر، هي أبعد ما يكون عن الواقع وأقرب ما يكون الى الخيال . ومن جملة تلك الصفات والخصائص التي يطيب للبعض كيلها جزافا"عبارة (البوتقة) لوصف التفاعلات والديناميات التي استطاع من خلالها المجتمع العراقي – في ظنهم واعتقادهم - (دمج) مكوناته و(توحيد) جماعاته، ومن ثم بلورت شخصية اجتماعية (معيارية) متخطية للانتماءات الفرعية، وخلق هوية عراقية (حضارية) عابرة للولاءات التحتية .

وعلى الرغم من مواقف العلامة الراحل (علي الوردي) حيال موضوعة (الصراع الثقافي) في المجتمع العراقي وما تمخض عنها من انشطار في شخصية أفراده على مستوى التصورات والسلوكيات ما بين قيم (بدوية) وأخرى (حضارية)، إلاّ أنه كان يستبطن تصور أن الجماعات (الحضرية) رغم كونها شكلت قطبا"جاذبا"للجماعات (البدوية – القبلية) على أساس ما كانت تتمتع به الأولى من فرص وإمكانيات، فهي قادرة – علاوة على ذلك – لأن تصبح (بوتقة) حضرية لصهر لتلك الجماعات والمكونات التي كانت تعيش حياة (التبدون) و(التريف)، بحيث استطاعت في نهاية المطاف على دمجهم في كيانها المديني . مشيرا"الى أن العراق (أصبح من جراء ذلك كأنه بوتقة اجتماعية كبيرة تتفاعل فيها القبائل الجديدة القادمة من الصحراء مع سكان العراق الذين هم بقايا الأقوام القديمة)، كما أن العاصمة بغداد صارت (بوتقة اجتماعية ضخمة تذوب فيها خلاصة ما أبدعه البشر من تراث حضاري حتى ذلك الحين).

والحال أنه إذا ما رجعنا الى كرونولوجيا التاريخ (القديم والحديث والمعاصر) واستعرضنا أحداثها المؤلمة وأمطنا اللثام عن وقائعها المريرة، سنواجه بحقيقة سوسيولوجية لا يمكن بأي حال دحضها أو تكذيبها مفادها؛ ان (العراق) كجغرافيا بشرية، وان (بغداد) كمدينة حضرية، فشلا"فشلا"ذريعا"في أن يتحولا من كيان تستوطنه الجماعات الهلامية والكيانات الفضفاضة، الى (بوتقة) اجتماعية لصهر هذه المكونات المتنافرة والمتناثرة سواء منها المحلية المتوطنة أو الأجنبية الوافدة، بحيث تستحيل – كما يفترض - الى جماعة (وطنية) موحدة . كما إنهما عجزا عجزا" تاما"في دمج الثقافات والهويات سواء منها الأصيلة أو الدخيلة، بحيث تستحيل – كما ينبغي - الى شخصية (عراقية) جامعة .

ولعل هناك من يعترض على رأينا الرامي الى إزالة بعض الانطباعات العاطفية المتكونة لدى عامة الناس، بخصوص حقيقة (البوتقة) الاجتماعية وعملية (الصهر) الثقافي التي حصلت في العراق، لاسيما في العقود الأولى من عمر (الدولة) العراقية وعشية بناء كيانها (الوطني) إبان فترة الحكم الملكي العزيزة على قلوب البعض وما تلاها . وحيال مثل هذا الاعتراض المتوقع نقول : نعم فعلا"شهد المجتمع العراقي محاولات عديدة تعرضت من خلالها مجموعات عرقية وطائفية وقبلية لعمليات (صهر) قسري و(دمج) إجباري كانت الغاية منها (احتواء) كيانها الجماعي و(امحاء) موروثها الثقافي، بحيث تفقد أصولها التاريخية وتنسى هويتها الحضارية .

ولكن هل يا ترى ان فكرة (البوتقة) الاجتماعية تتأسس على مثل هذه السياسات (الاستيعابية) الظالمة والإجراءات (الاحتوائية) القاسية، التي عمدت لممارستها مختلف الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق سواء في عهوده الماضية أو الحاضرة ؟! . الجواب: كلا بالطبع!. إذ ان ما كانت تستهدفه (البوتقة) المعنية لا يمكن موضعته في إطار سياسة تجميع وتوحيد شتات المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية العراقية حول مجموعة من (الرموز) التاريخية والوطنية، التي يمكن اعتبارها قواسم مشتركة تنظوي تحت لوائها تلك المكونات، دون أن تفقد – جراء ذلك - خصائصها القومية أو الدينية أو الثقافية أو اللغوية . بقدر ما ساهمت في مراكمة الكراهيات ومفاقمة الانقسامات على أسس من الأصوليات المجيشة والعصبيات المعبأة، بحيث دللت التجارب السابقة وأثبتت الممارسات اللاحقة ان سياسات (الصهر) وإجراءات (الدمج) التي اعتمدتها الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، أفضت الى خلق مجتمع (تتآكل) مكوناته ذاتيا"تحت وطأة مشاعر التنابذ والتباغض المتبادلة، بدلا"من أن تكون عاملا"على اجتثاث الحساسيات التاريخية والاحتقانات الدينية والاستقطابات الإيديولوجية والتخندقات السياسية .  

***

ثامر عباس   

تنويه: مرت في 22 تشرين/ أكتوبر ذكرى رحيل الشاعر السرياني سركون بولص في (2007). ومع انه يعدّ من أبرز ايقونات الحداثة في الشعر العراقي والعربي ايضا، فان ذكراه مرت دون ان يحتفى بها، حتى من الأوساط الثقافية، بما يليق به شاعرا انسانيا خالصا ترك ست مجموعات شعرية بنكهة تميزه عن شعراء زمانه، بدءا من مجموعته :الوصول الى مدينة أين، مرورا بحامل الفانوس في ليالي الذئاب، وانتهاءا بالعقرب في البستان.. فضلا عن كتاباته القصصية وترجماته.

ولأنني انشغلت من زمن بدراسة سيكولوجيا الشعر والشاعر بهدف توثيق العلاقة (المعدومة عراقيا!) بين الذين يصفون المشاعر والانفعالات بأرق ما في اللغة من مفردات (الشعراء)، وبين الذين يكشفون عن اسرارها وكيف تتشابك العاطفة مع الحالة النفسية والمزاج والشخصية والخبرات (السيكولوجيون)، فأنني وجدت في شعر سركون ما قاله عنه ابن مدينته وعضو جماعته (الكركوكية) الصديق فاضل العزاوي بأن (عمارته الشعرية ذات أعال وسفوح، وفي أعاليه قول للأعالي وفي سفوحه قول للسفوح).. وان التنقل بين الأعالي والسفوح يوحي بان صاحبه مصاب بالأغتراب، فرحت اقرأ اشعاره.. لأحلله واحلل شخصيته سيكولوجيا.

الأغتراب.. ماذا يعني؟

قد تبدو مفردة (الأغتراب) عادية حتى عند مثقفين، مع أن هذه المفردة كتب عنها فلاسفة وعلماء نفس واجتماع.. المئات من المؤلفات.. اليكم موجزا بهم وبها.

يعد ماركس وهيغل اول من لفت الانتباه الى (الاغتراب) حين اوضحا ان بداية تغريب الانسان تنشأ من انفصاله عن الطبيعة من خلال العمل والانتاج. ومع تزايد قدرة الانسان في السيطرة على الطبيعة فانه يواجه نفسه كشخص غريب، حيث يكون محاطا بأشياء هي من نتاج عمله لكنها مع ذلك تتخطى حدود سيطرته وتكتسب في ذاتها قوة متزايدة.

ولقد ركز ماركس على اغتراب العامل في أربعة ابعاد: عن ناتج عمله، عن عمله، عن نفسه، وعن الآخرين، ووصف الاغتراب بانه ظاهرة تاريخية تتعلق بوجود الانسان، وان مصدره هو الانسان ذاته وليس التكنولوجيا، ورأى ان الحل يكون في الاشتراكية التي يتحرر فيها الانسان من تبعية المال والملكية الفردية.

وبعكسه، منح الفيلسوف الالماني فويرباخ الاغتراب معنى دينيا، ورأى انه يتطلب دينا انسانيا يتعلق بالانسان وليس بالآلهة، فيما حاولت نظرية ريزمان عزو سبب الاغتراب الى كون سلوك الانسان اصبح يوجّه من قبل الآخرين، وأن الانسان لم يعد يتلقى مؤشرات سلوكه من اعماق ذاته بل من استحسان واستهجان من يحيطون به.

ويعدّ روسو اول من اعطى (للغربة) بعدا سياسيا بقوله: حين يتولى بعض النواب "تمثيل" الشعب، فان هذا الشعب لا يمارس سيادته بنفسه، ويبدأ بالانعزال داخل وطنه، ويشعر بالغربة. واضاف بان السيادة لا يمكن ان تمارس بالانابة، فهي اما ان تمارس بالذات واما لا تمارس اصلا.. وأن الحضارة سلبت الفرد ذاته وجعلته عبدآً للمؤسسات الاجتماعيه التي أنشأها هو واصبح تابعآ لها.

وتعد نظرية سارتر اكثر نظريات الاغتراب شيوعا في القرن العشرين، وفيها يرى ان الاغتراب النفسي حالة طبيعية لوجودنا في عالم خال من الغرض، وكذلك نظرية ماركوس الذي يعزو الاغتراب الى فشل الحضارة في ادراك الأمكانية الخلاقة للطبيعة البشرية.

ويظهر الاغتراب بشكل واضح لدى ممثل (الوجودية الجديدة).. كولن ولسن الذي رأى ان الانتماء صفة تطبع نفسيات الكثير من الكتّاب والمفكرين والفنانين التي فصلها في كتابيه (اللامنتمي) و(ما بعد اللامنتمي) ثم كتابه (سقوط الحضارة)، مشيرا من خلال معالجته لنتاج الكثيرين من المبدعين امثال: (ويلز، هنري باروس، كامو، سارتر، دستيوفسكي.. ) الى حالة الغربة التي عاشوها بوقوفهم خارج المجتمع وضده.

وحديثا اسهم علم الاجتماع في تطور مفهوم الاغتراب وتركزت جهود علمائه في تفسير الاغتراب في الحياة الحديثة للفرد المغترب الذي يشعر بالضيق والعجز ويرى ان القيم السائدة لم يعد لها معنى لديه وانه صار يشعر بانه غريب عن جماعته. وعزا بعضهم الاغتراب في البلدان النامية الى التغيرات الاجتماعية السريعة والمتلاحقة التي تؤدي الى التناقض بين القيم الاجتماعية والفكرية التقليدية والمجتمع الجديد التي ينجم عنها تفكك في النسيج الاجتماعي وتباين في انماط السلوك الاجتماعي وتضاد بين قيم تقليدية ثابتة وقيم جديدة متطورة.. يحدث انقساما في انماط السلوك الاجتماعي للفرد يمكن تسميته بـ(الشيزوفرينيا الاجتماعية).

وكان اكثر المنشغلين بالاغتراب هم علماء النفس. فشيخهم (فرويد) يرى ان الاغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين (الأنا) والضوابط المدنية، ويحدث نتيجة الانفصام بين قوى الشعور (الوعي) واللاشعور (اللاوعي).. وان اللاشعور هو القوة الأعظم والأكبر في شخصية الانسان حيث يحتوى على الرغبات والدوافع المكبوتة التي تحرك سلوكه.. ولا يستطيع اشباعها في عالم تنغصّه الحضارة.

وفي كتابه (المجتمع السوي) يرى فروم ان مصدر اغتراب الانسان هو (الهيكل الاقتصادي السياسي المعاصر)، وان ظاهرة الاغتراب هي في حقيقتها ناجمة عن الرأسمالية المستغلة للشخصية الانسانية. ويشخّص (الاغتراب عن الذات) بوصفه اهم حالات الاغتراب. ويحدد ثلاثة مجالات للاغتراب: الاغتراب والتميّز عن الآخرين.. بان يعي وجوده بوصفه كيانا منفصلا عن الآخرين، والاغتراب عن المجتمع بشعوره انه ما عاد منتميا نفسيا الى المجتمع الذي يعيش فيه، والاغتراب عن الذات المتمثل في عدم مقدرة الانسان على التواصل مع نفسه وشعوره بالانفصال عما يرغب في ان يكون عليه. ويضيف ان الانسان اصبح يحس بالاغتراب منذ فقد صلته بالطبيعة وانتظم في المؤسسات الاجتماعية التي يعدّها وسائل لامتصاص حرية الانسان. وشخّص أسباب الأغتراب بهيمنة التكنلوجيا الحديثة على الأنسان وسيطرة السلطة وهيمنة القيم والأتجاهات والأفكار التسلطيه، فحيث تكون السلطة وعشق القوة يكون الأغتراب.

ستة أسباب.. للأغتراب

نستنتج بأن نظريات الاغتراب تتفق على ان له سببا ولكنها تختلف في تحديد ماهية السبب، ونرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان الهدفية: او فقدان المعنى الذي يتمثل بالاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وهي الاحساس بالوحدة والانسحاب من العلاقات الاجتماعية او الشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي: ويعد اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته.

وتفيد الدراسات التي قاست الاغتراب بان المغترب يعاني من واحد او اكثر من مكونات او عناصر الاغتراب كالاحساس بالعجز وفقدان القدرة على توجيه ما يقوم به من نشاط وفق تخطيطه، او حين تكون علاقاته بالآخرين او السلطة مصدر شقاء، فيشعر بالبؤس والقلق والاحباط وفقدان الولع والاهتمام بالامور الحيايتية والشعور بعدم وجود معنى في الحياة. وقد يحس المغترب بعدم جدوى الأخلاق فيسلك سلوكا يخرج عن المباديء الخلقية في سبيل تحقيق اهدافه وغاياته. ويؤدي احساسه بالعزلة الى التقوقع على نفسه، وقد ينقلب الى شخص ضد المجتمع. وحين يصل حد الشعور بأن ذاته اصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها.. فينهيها بانتحار بطيء بالادمان على الكحول، او بانتحار سريع بطلقة!.

الاغتراب.. عند سركون بولص

تشكّل شخصية سركون بولص انموذجا لأغتراب المثقف العراقي بشكل خاص، لأن فيها تجسّدت أهم انواعه. فالاغتراب حسب سارتر ناتج عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم باللامعنى والعبثية.. وكان قد عاشه سركون. والاغتراب حسب هيجل انفصال او تنافر بين الفرد والبنية الاجتماعية، وكان قد خبرها سركون. واذا كان الاغتراب يعني وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به يتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق والشعور بفقدان المعنى.. فقد عاشها سركون ايضا.

ان التحليل السيكولوجي لشخصية سركون يقدم لنا خمسة مؤشرات عن اغترابه:

- ان الذات لديه هاربة، وانه في بحثه عنها كمبحر نحو العدم.

- الاحساس بأنه مشتت الهوية identity diffused

- الصراع بين حس الأقلية والحس الأنساني المطلق

- الشعور بالانتماء واللاانتماء في آن معا، وتحديدا في السنوات التي عاشها في امريكا.

- صدمة الخيبة التي احدثها تجواله في مجتمعات العالم بأنه لا معنى لوجود الانسان وقيمته حتى في ارقاها.

لقد صعب على سركون التوفيق بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه حتى لو كان من ارقاها.

فبعد حرب الخليج 1991 ادرجت السلطات الامريكية العراقيين من حملة الجنسية الامريكية بمن فيهم الاشوريين الامريكان، على اللائحة السوداء كمشبوهين محتملين في التواطؤ مع العدو (العراق). وكان سركون في حينها ترك بيروت الى سان فرانسيسكو حيث لا اقليات بالمعنى الثقافي ليحظى بالحرية المطلقة والرحابة والمناخ المفتوح لكل ما يريد.. فكانت صدمة الخيبة التي احدثت لديه غربة المكان بعد ان خبر غربة الزمان، وشعر كمن هو منفي داخل نفسه.. وظلت الخصومة بينه وذاته الى يوم مماته.

ولم يكن ترحال سركون وتنقله بين المدن للمتعة والترفيه عن النفس بل كان حاجة قسرية، لأن الذي يعيش الاغتراب تنشأ لديه حلول قسرية للصراعات العصابية كالابتعاد عن الاخرين انفعاليا، او الحصول على محبتهم، او العداء لهم.. فيما كان الحل القسري لدى سركون هو السفر الدائم.

ولأن سركون كان وسيما، ولأنه كان شاعرا مبدعا، وكاتب قصة ورواية، وضليعا في الترجمة، وثقافة واسعة في الشعر العالمي.. فقد تولد لديه الشعور بالنرجسية، التي تفضي بآلية نفسية الى ان تجعل صاحبها ملتصقا بأوهامه عن نفسه.. وعن المجهول واللانهائي.

وسركون خبر الاضطهاد لاسيما في صباه وبدايات شبابه التي عاشها في كركوك: (ايهاالماضي.. ايها الماضي.. ماذا فعلت بحياتي).. ونقمته على ماضيه هذا مرتبطة بانتمائه الى أقلية وشعوره كما لو كان مواطنا من الدرجة الثانية في مجتمع عشائري متزمت، فيما هو يحمل فكرة انسانية عن الناس وفكرة نرجسية عن ذاته.

ولأغتراب سركون علاقة بالحضارة، فلأن لديه حساسية عالية، ولأنه يحمل صورة مثالية لما يجب ان تكون عليه حياة الانسان، فانه وجد ان منغصات الحضارة والتغيرات السريعة والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية.. قد سلبت الانسان حريته وأنسانيته وحولته الى ما يشبه الآلة.. في حالة تناقض الطبيعة الجوهرية للأنسان التي قاسها سركون على روحه الشفافة وعقله المبدع. فالشعور بالاغتراب ليس شرطا في الابداع الشعري ما لم يمتلك الشاعر موهبة الابداع.. كتلك التي تميز بها سركون.. حتى في حياته التي انتهت بتراجيديا احتضاره في منفاه الالماني بشقة صديقه مؤيد الراوي.. من جماعة كركوك.. التي عاشت عصرها الذهبي قبل اربعين سنة.. وتشتت مبدعوها في المنافي!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

كيف موْضع المُثقّف نفسه من الصّراع؟

ألا يزال من المستبعد أن نناقش مسألة " المثقف السوداني"؟  ومساهماته في قضايا الشّأن العام أو بالأحْرى كيف يتعاطى الشّأن العام؟. ووجه الاستبعاد حين نُدرك أبعاد المسألة من  كلّ نواحيها. أعني تأثيرات عمل المُثقّف وتفكيره ومدى اسْهام  افهُوماته وسلوكه الفكري وانخراطه في الحراك الاجتماعي ونتاج ذلك على القضايا العامة.وبعد أن شهدنا عديد المشاريع الفكرية التي تحوّلت إلى (دوغما) وانتهت بالاستبداد والانغلاق على نفسها.  بل ورأينا المثقف نفسه أسيراً لايدولوجيا مقولاته وأفكاره والأسوأ من ذلك تحوله لمثقف  قبيلة/ عشيرة .

ومع تطور نقاشات جينالوجيا المثقف، ظهرت أطروحات مختلفة بشأنه، بدأت بتعيين زمن ظهور مفردة "المثقف" بدلالاتها الحالية، ونقاش الجينالوجيا والجذور وعمليات التأريخ للمثقف قادت إلى دراسة إشكالات المثقف في سياقه التاريخي(1)، مثل علاقته بالسلطة، وظيفته، موقعه من الخريطة الاجتماعية، واجبه الأخلاقي، ونقاش وجود واجب أخلاقي بالأساس يخص المثقف، وغيرها من الإشكاليات. إن ورقتنا لا تغوص عميقاً في الجدال الذي لم يحسم بعد حول من هو المثقف والذي ظهر تاريخياً مع قضية الفريد دريفوس.

طموحٌ وحيد تدّعيه هذه الورقة؛ وهي تعرية القبْليات التي توجّه رؤية المُثقف لذاته وللآخر  - بما هو آخر والمجتمع وموقعه من الحرب الجارية الان؛ وفضح البداهات المُحتجبة التي توارت خلف اطروحاته وكتاباته في الازمة التي تعيشها بلادنا حالياً. ولا أدّعي بانتماء للنّخبة والصّفوة على ما يشهد به تاريخنا السوداني من سجالات وكتابات لصفوة مقتنعة بأنه يقع على عاتقها تحرير المجتمع والجماهير وبناء الدولة والمشروع الوطني فاذا بها في أول اختبار أخلاقي تسقط  وتنحاز الى رواسبها الثقافية والاثنية  وموقعها الاجتماعي من حقل الصراع؛ انما انا فردٌ أعمل في ميدان الانتاج الفكري وانخرط في تجربة الكتابة وهي تجربة تشتبك فيها السّلطة مع المعرفة والاستنارة مع التّعمية، الصّراع والتّحولات، الأمل والاستحقاق على مايقول علي حرب.

نماذج مختلفة وأهداف موحدة:

 وأيّاً ما كان نموذج المثقف وحقل اختصاصه أو مجاله فهو من يهتم بتوجيه الرأي العام وينخرط في السجالات العمومية دفاعاً عن الحقيقة أو الحُرية أو مصلحة الشّعوب وإذ ذاك يصنف كمثقف عضوي ملتحم بالجماهير  و"المثقف العضوي" هو الملتحم عضوياً مع المجتمع الخاضع لبطش نظام توتاليتاري قد يكون محلياً وقد يكون خارجياً استعمارياً. وبسبب هذا التعريف والدور أصبح تعريف "المثقف العضوي" هو الأكثر جاذبية، رغم انه ينطوي على دفاع غير نقدي عن المجتمع أو الجماعة المعنية التي ينخرط المثقف عضوياً فيها على ما يرى غرامشي في اطروحاته وتهويماته؛ او مستقبل الدولة ومشاريع البناء الوطني الجامعة باعتباره المثقف الرسولي والنبوي على ما يرى جوليان بندا في طوباويته؛ واذا صحّ ذلك فاذاً هذه مهمته وبل مشروعيته ومسؤليته وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للسياسي وربما المشروع البديل عنه.

ولكن؛ أي موقع يمكن أن يتموْضع فيه المثقف في ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد؟ أو بالأحرى كيف موْقع المُثقفين أنفسهم في ظل الصّراع الحالي؟ فما بين المثقف الذي احتمى باثنيته وتنازل عن مقولاته ووجّه معرفته لخدمة القبيلة  وذاك الحائر بسبب تشوش ذهنه والمختبئ خلف برجه العاجي وانتهازيته؛ والاخر الذي اكتفى بالحياد  وليس الصمت، وهو حياد يضمر فيه الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع ولكنه خائفٌ من الاعلان عن ذلك؛ وما بين هؤلاء وأؤلئك مشتركاتٌ تتمثّل في غياب الرؤية وفهم الواقع بشكل ضباب بالاضافة للهشاشة  المعرفية وعدم معرفة المكان الصحيح الذي يجب أن يتموضع فيه المثقف في وقت الأزمات والشدّة وحين يوضع قدر الشّعوب على المحك.

أزمة فهم الواقع:

إن اللحظة التي يتعرض فيها نظام ما  فكري أم سياسي أو إجتماعي ...الخ إلى عطب أو اعطال تنجم عنه اضطراب وظيفي في آلية اشتغاله بحيث لايعود في وسع دورته الطبيعية أن تعمل على النحو الذي استقر  عليه أمرها في السابق(2)  يدعى هذا الامر بالأزمة . ومن نافل القول أن مناحي الحياة في البلاد  شهدت أزمة خطيرة جداً متمثلة في الاستقبال الخاطئ للواقع فكان أن هُزم المثقف في فهم الوقائع . فاليومي هو الحقل المُنخرط فيه على حساب الاستراتيجي الذي يمثل الهيكل والبنية والحافز لما يظهر عليه اليومي ويتبدى في الفعل والسلوك. وبالتالي تعرض  الاجتماع السياسي الى انسداد كامل وغاب التفكير الجاد في مشروع الدولة الوطنية والبناء الوطني مما أحدث شرخ وتفكك أمام أي قدرة لتشكيل الوجدان المشترك وبناء اللُّحمة الوطنية.لمجابهة التحديات التي مرت بها البلاد من الحروب الاهلية وانفصال جنوب السودان والابادة الجماعية وهما حدثان مهمان في تاريخ السودان الحديث والمعاصر.

انخرط المثقف السوداني يبني أفهوماته وخطابه ليتطابق الواقع معها وليست لتكون آلية لقراءة وفهم الواقع  بل سعى عبر خطابه لتزيف الواقع وانكاره تارة. فالحرب لم تفاجئه بفظاعتها وعنفها فقط بل جعلته يموضع نفسه وفقاً للحقل الاجتماعي الذي ينتمي اليه حيث تترابط هذه الأثننة مع علاقات السلطة وموقعه من الصراع يتحدد بمدى الخطر الذي يحيق بامتيازات كيانه الاجتماعي أو بما يمكن الحصول عليه كغنيمة تستوي في ذلك المؤسسات والسلطات والمكان ..الخ. وتخضع الارادة والكرامة ...الخ. ساهم عدم فهم الواقع في تعطيل العقل عن ممارسة التفكير في الوقائع الماثلة للعيان وبما يمكن أن يطلق عليه الاتصال الخاطئ مع المحسوسات والسيطرة الكلية للقبيلة والعشيرة على نمط تفكيره. .

فكر سياسي أم فكر عشائري:

ومثلما فضحت حراكات ديسمبر من العام 2018 سوْءات مجتمعنا السّوداني على كافة الأصعدة  فقدفضحت مثقّفنا وعرّته من ورق التوت المعرفي، أمّا الحرب الحالية  فقد أتاحت لنا أن نعرف من هو المثقف بمقولاته وتمثيلاته المُنحاز لشعبه وللحقيقة أينما وجدت. وذاك الذي هرب للقبيلة والاثنية ليجنّب نفسه طرح الاسئلة والاجابة عليها ؛ المُثقف الذي تتنازعه سلطتين سلطة الجيش  بكل ارث العنف وخلله  وسوءاته وكياناته الاجتماعية المُسيطرة على مراكز قراره منذ مائة عام؛  وسلطة الدعم السريع المولود من رحم الجيش ومن كيانات اجتماعية محددة استخدمت في ما مضى لتركيع واخضاع باقي الكيانات، اذ أن فشل  ما يسمى بالدولة ونخبها هو ما انتج كل المليشيا .

تميّزُ تاريخنا السّوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً  لتجريب كل الايدلوجيات  التي أثبتت فشلها المريع من اليمين الى اليسار(...)؛ كانت القبيلة هي (الايدلوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ اليها كل المهزومين من النخب السياسة والمثقفين باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسية التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الايدلوجيا والفكر لصالح الكيانات الاثنية. ولا يجدي الهروب من الحقيقة في حال اردنا تشخيص وقائع بلادنا واحداثها المتسارعة؛ فقد صُمّمت هذه البلاد بشكل عنصري ومارست كل الحكومات المتعاقبة سياسات الاقصاء والاستلاب وقامت مشروعية الحكم على العنف. فالدولة هي دولة غلبة ومن يحكمها  يتعاطى معها باعتبارها غنيمة. فالذين يتحدثون عن الحفاظ على الدولة ؛يدركون تماماً أنه لاتوجد دولة بل توجد كيانات اجتماعية قبلية محددة تسيطر على الجغرافيا والموارد. إن وجود معنى "القبيلة" بوصفها حصناَ على سبيل المثال، سيسخر من معنى ووجود المواطنة والدولة، ومن ثم سيهدم الطريقة الحديثة في تكوين المجتمعات التي تدعمها الثقافة ويفككها النفاق الشوفيني، وفي كليهما تلعب الثقافة دورا في تذويب تلك التصنيفات لصالح الإنسان وحده، سواء كان أقلية او كان متسعا وواسعا ومساهما في صناعة "الأمة" بمفهومها القار والراسخ الذي لا يعترف بنزعة التقسيم العرقي او الديني او الطائفي. الثقافة على وفق هذا النسق ستعبر الى آفاق الإنسان وروحه المتطلعة الى الحرية والانعتاق من التبعية.

تجلّت أزمة المثقف في هذه الحرب بصورة كبيرة؛فقد اصطفّت النخب المُثقفة كلاً حسب موقعه القبلي والاجتماعي  من الصراع. وثمة محايدون ينتظرون آخر فرس في سباق الفوز بالسلطة ؛  فقد رأينا كتابات لمثقفين يقدمون نقداً صارماً للدولة وسلطتها وايدلوجيتها وعنفها وما ان بدأت الحرب حتى كفروا بما قالوا لأن امتيازهم أصبح مُهدداً ولأن موقعهم الاجتماعي سيتضرر منها. وموقفهم من الصراع الحالي هو موقف كياناتهم الاجتماعية وامتيازاتها لا موقف وقائع شعوبنا والحدث الذي تمر بها ومخاضها في أن تولد من جديد بوجدان مشترك لتبني دولة محترمة؛ فالصراع الحالي هو صراع سلطة لأن مفهوم الدولة في ذهنية من يتصارعون يرونها غنيمة ومن يفوز بها سيحكم بالمطلق؛ أما الاجندة الوطنية فهي غائبة تماماً ؛ وأما وقف الحرب في القريب العاجل فهو أمرٌ يتعذر حدوثه لاتساع الرقعة وتداخلات المصالح الاقليمية والدولية في البلاد.

مثقف تنظيمات ما قبل الدولة:

يشير مصطلح تنظيمات ما قبل الدولة اصطلاحا الى (القبيلة) ومثقف "القبيلة" متهم بالمساهمة في تعميق الجهل الذي يكبل القبيلة ومجتمعاتها وأفرادها وشرائحها، ويعيق بروز ما ومن يمكن أن يخفف من ذلك الجهل. فهو يبرر لها كل خطاياها، ويحسن لها مساوئها، ويجمّل صورتها لتبدو زاهية  وهي على النقيض من ذلك. هو يمتلك الخطاب، والوسيلة، والمصادر، والنبرة العالية، والشرعية القبلية كي يصوب ويخطئ أياً كان، ويطلق النيران على كل من تُسول له نفسه النظر إلى ذات القبيلة ونقدها، ولو على سبيل الملل من ديمومة نقد "الآخرين"، عند كل منعطف وعلى رأس أي قضية. في طول وعرض تاريخ صيرورة مجتمعات البشر واندياح مساراتها، توزع المثقفون والمهمومون بمصائر مجتمعاتهم إلى "مثقف قبيلة" متواطئ. ومثقف ناقد حريص على انبعاث التجديد في مجتمعه. من دون الحفاظ على تجديد دائم وانبعاث متواصل؛يتجمد المجتمع ويتكلس ويسير للخلف بثبات -ولا معنى أو مغزى هنا للتقدم المعماري وامتلاك سبل التكنولوجيا والحياة الحديثة ما دام المضمون "القبلي" هو الذي يعشعش في دواخل تلك الوسائل والأدوات.

مشكلة "مثقف القبيلة" أنه يشعر بالدفء المنبعث من جنبات الأمية الأبجدية والأمية الثقافية التي تحيطه بالتصفيق وتهيل عليه عبارات الإطراء والتأييد. يقع فريسة الخطاب الخادع والوعي الزائف الذي ينشره في مجتمع الجهل. وهكذا يدور "مثقف القبيلة" مع دوران قبيلته جهلاً وتجهيلاً معاكساً. وقد رأينا المُثقف القبلي  الذي يصارع من أجل قبيلته وامتيازاتها ذاك المثقف الذي وجّه كل كتاباته للكيان الاجتماعي الذي ينتمي اليه مستهيناً بالروح البشرية متلذذاً بالدماء التي تسيل هنا وهناك. فريق من المثقفين يرى أن الجيش بخلله وتشوهاته  يمثل الدولة نفس الجيش الذي قاد حروب على مناطق (جنوب السودان؛ دارفور؛ النيل الازرق؛ جبال النوبة) نفس الجيش الذي وأد كل السبل  لقيام دولة مدنية وديمقراطية أما الفريق الاخر فانه يرى أن الدعم السريع يمكن أن يجلب الديمقراطية والدولة المدنية...الخ من الترهات وقد بشّرنا هذا المثقف بنهاية وزوال دولة 1956 التي لم توجد أصلاً فدولة ما بعد جلاء المستعمر لم تظهر كدولة بهيكلها وبنيتها ومؤسساتها وأفهوماتها وخطابها بل ظهرت كأشكال بيروقراطية ومؤسسات قبلية تتنازع وتتصارع ما بينها منذا العام 1955 أي قبيل ولادتها المشوهة  وفي الجهة الاخرى المعاكسة يطالب المثقف بالحفاظ على شئ لم يوجد أبداً ؛ وهذه السردية التي يتنباها مثقف القبيلة تظهر لنا الكم الهائل من التشوهات المعرفية والخلل العقلي الذي أصاب المثقف. . ولا أبالغ حين نقول أن تأثير المثقف الاثني في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر في هذه الحرب سواء كانت أحزاب سياسية أو إئتلاف سياسي أو منظمات المجتمع المدني أو النّقابات فمثقفنا يرى الدولة بمنظور مقولاته وتمثلاته لا بمنظور الواقع والحدث ويريد تطبيق مقولاته وخطاباته على  وقائع واحداث لا يفهم كيف بدأت متناسياً كرنولوجيتها قافزاً نحو النهاية.

أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في بلادنا ليست علاقات مترسبة ومتناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل هي علاقات سياسية واقتصادية في آن واحد، وعلى نحو أدقّ؛ هي علاقات سياسية - اقتصادية. فهذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. وظلت علاقات القربى تضطلع بمهمات العلاقات الموحِّدة للمجموعات التي ارتبطت بهذه الكيانات القائمة على التوازن.

تظهر الحرب الحالية وبشكلٍ جلي إن القبائل لا تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة وسعيها لابتلاع كل الجغرافيا السياسية التي تسمى السودان، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة التي يقول بها البعض من دون إلغاء هذا أو ذاك ؟ حيث  أضحت القبيلة ؛عقبة أو تحدٍ لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في بلادنا في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الاقاليم والأطراف.

وجه أخر للمثقف المختبئ أظهرته هذه الحرب وهو المغاير للمثقف الاثني  المقتنع فعلاً بصحة مواقفه وأفكاره؛ وهو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام  ما يحدث، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك؛ على ما كتب ويرى عزام أمين في مقاله المنشور بالعربي الجديد.

أي مثقف نريد:

تطويراً على "مثقف غرامشي العضوي" اذدهر مفهوم "المثقف الناقد" والذي قدم تعريفاً أكثر عمقاً إزاء دور المثقف في مجتمعه وإزاء مصفوفة السلطات التي تواجه الأفراد. "المثقف الناقد" هو الذي يعتمد النقد رؤية لمقاربة المواقف والأنظمة والسياسات، حتى إزاء الشرائح والطبقات والشعوب المضطهدة.(3) مقارباته ابستمولوجية أكثر منها إيديولوجية، وتضامنه مع المظلومين وإن كان قائماً وحاسماً بيد أنه ليس تضامناً أعمى بل مرفوقاً ومشروطاً بالنقد أيضاً، ذلك أنه "لا تضامن من دون نقد"، كما قال إدوارد سعيد. "المثقف الناقد"، إذن، ينقد دكتاتورية السلطات وينقد أيضاً، بتمايز عن "المثقف العضوي"، دكتاتورية المجتمعات وأنظمتها الثقافية والدينية والاجتماعية.

يصعب القول أن بلادنا تمتلك المثقف الناقد؛ اذ الكل منخرط في خطاباته الايدلوجية ورؤيته القبلية وموضعة نفسه في حقل كيانه الاجتماعي فهو لايرى خارج حدود القبيلة والدين والمجتمع فشخصية المثقف منفصمة (4)سواء في بياناته في المعرفة والتنظير على الدوام، فهو الرجل المهووس بانتمائه العرقي المتفوق دائما، وهو نفسه المنزوع الى تمثلات المعرفة والثقافة التي لا تعترف بحدود هذه التمثلات وتعبرها الى الكوني والإنساني.. ومن ثم فنحن أمام شخصيتين تتصارعان في جسد واحد وفكرة واحدة، لكنهما – اي الجسد والفكرة – ستوحيان بالفشل الذريع في النظرة الى الكون والطبيعة والمجتمعات. وهي ذروة النفاق الاجتماعي الذي يشيعه المثقف بمناسبة ومن دون مناسبة وهو يستسلم بطريقة مروعة الى قاع تلك النزعة ونتائجها الكارثية على أهمية الثقافة في ترويض النزعة العصبية وتفسير أهمية أن يكون المرء إنسانا بالدرجة الاولى، وان الصفات التي نسبغها عليه ما هي إلا اضافات شكلية تأتي على وفق ضرورات ما ينجزه في الحياة من جهد وعطاء.

ماهو الموقف من الحرب:

يلعب المثقّفون دوراً بارزاً في مجتمعاتهم بتوجيهها وقيادتها الى التعايش المستدام في بلادنا التي عانت كثيراً من الحروب الأهلية ؛وإذا كانت الأنساق الثّقافية غير مدركة من قبل الجميع؛ نتيجة اتساع رقعة الجهل وتراجع مساحة التعليم، وسيطرة الإعلام الموجه الذي يركز على إنتاج الأتباع والقطيع بوصف ذلك أحد نتائج الحرب؛ فإن الأعمال الأدبية والثقافية والفنية والفكرية يفترض أن تكون قادرة على الغوص في عمق هذه الثقافة، ومواجهة أسس العنصرية ومظاهرها، وأن تجتهد بعد ذلك من أجل صناعة وعي  ثوري ثقافي واجتماعي مناهض للتمييز العنصري.وخطابات الكراهية وهزيمة مشاريع العنصريين واجتثاثها تماماً.

يقول البير كامو أنه: ليس بوسعنا إنكار الحرب، بل ينبغي أن نموت فيها أو نحيا بها. وإذا كان الامر كذلك  فلابد  للمثقف من اتخاذ موقف من الحرب العبثية التي تدور رحاها اليوم، سواء بالكلمة والجهر بالحقيقة متى تجلّت واضحة بلا مساحيق فلسنا في حوجة للمزيد من الضحايا أو النتائج الكارثية للحرب لكي نتخذ قبل كل شيء موقفا مناهضا لها في جميع الاتجاهات والمسارات والمآلات. ذلك أن الحرب في مطلق الأحوال هي الحرب بكل مخلفاتها وفظاعتها وشرورها؛ إذ هي مرفوضة أخلاقيا في أي ظروف جرت، وبأي مسوغات اندلعت، وبأي دوافع مشروعة من الناحية السياسية أو الأمنية انطلقت ووقعت ؛ لذا فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على المثقف الانتصار للعقل في صف الحق والوقوف ضد عبثية التاريخ وصناعة المآسي كما يقول عبدالرحمن السخيري في مقاله عن المثقفين والحرب.

وعلى خلاف كلاب الحراسة والكهنة من المثقفين القبليين   فالمثقف الاخلاقي والنّزيه، لا يُقايض موقعه في الصراع بالتوقيع على شيك بياض للعسكريين أو الطغاة (جيش ودعم سريع) في التصرف بمصير ملايين البشر ودفعهم إلى الجحيم غير مبال بالتضحيات الجسام التي تقع على كاهل كل أطراف الحرب؛ كما تقع ويلاتها على من هم خارج دائرة المواجهة العسكرية ومعاركها سواء اقتصادياً او اجتماعياً.

وليس المثقف خارج التاريخ أو النمط الاجتماعي فهو كغيره من البشر لديه نزعاته واطماعه وفكره ويرتبط بمصالح وحسابات  إيديولوجية أو ظرفية أو ما شابه ذلك، وتتوزّعه مشاعر الكراهية إزاء هذا أو ذاك من أطراف الحرب والصراع، لكنه في الوقت نفسه ينفرد بموقع أو صفة تسمح له باستعمال عقله بصورة نقدية وتشريحية للفصل بين الحقائق والأوهام، والتمييز بين المرئي من الحقيقة وبين الأكاذيب المفبركة، وليس الاحتماء بالاثنية والعرق والباس دفاعه عن كيانه الاجتماعي لبوس الدولة وأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة.

لا زلت اؤمن بان بلادنا تحتاج لثورة ثقافية قبل ثوراتها السياسية ؛ نحتاج لثورة ثقافية  تحدث تحولات في مسارات التفكير والإنتاج والترويج الثقافي لبلادنا يستجيب لمثيرات التحولات الاجتماعية ولتنوعنا وتعددنا ويحفزها فيتحول من نتيجة للتغير المحيط إلى سبب له. نحتاج لثورة ثقافية  لننتج ما يكفي من القطائع والتجاوزمن أجل مشروع جديد ومختلف. نحتاج  لثورة ثقافية تتفاعل مع الثورة السياسية التي تعيد تشكيل منظومات الفعل السياسي والاقتصادي والتنموي عامة وتعمل لاحقا على قيادته أو تقديم البدائل الجمالية له وتمنع النخب التي بلا ضمير وطني والمتسلقين والانتهازيين وأصحاب المشاريع الوهمية من الصعود.

***

أحمد يعقوب

....................

هوامش:

1- عن المثقف العربي والحرب – أيمن نبيل – العربي الجديد 9 اغسطس 2015

2- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000 ص 113.

3- مختصر محاضرة ألقيت في المركز الموريتاني للأبحاث والدراسات الإنسانية (مبدأ) ـ نواكشوط ٣ فبراير ٢٠١٧.

4- المثقف والقبيلة علي سعدون – الصباح 2-7-2020

مصادر:

1- أوهام النخبة أو نقد المثقف – علي حرب – المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2004.

2- سوسيولوجيا المثقف – جيرار ليكرك، ترجمة د. جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدة كانون الثاني 2008

3- خيانة المثقفين – جوليان بندا

4- المثقف والسلطة – إدوارد سعيد

5- توماس سويل المثقفون والمجتمع – أنماط المثقفين العامة واثرها في حياة الشعوب – ترجمة عثمان الجبالي الطبعة الاولى 2011 فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

6- نهاية الداعية، الممكن والممتنع في أدوار المثقفين – د. عبدالاله بلقزيز – الشبكة العربية للابحاث والنشر الطبعة الاولى المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000

7- المثقف المشتبك والمثقف المختبئ – عزام الامين –العربي الجديد 2023

8- المثقفون والحرب – عبدالرحمن السخيري – الحوار المتمدن 2022

تختلف وجهات النظر من قبل الأباء في تربية أبنائهم وخاصة في عصرنا هذا والذي يعتبر عصر السرعة وعصر التكنولوجيا، لكن بغض النظر عن ذلك فالطفل يبقى طفلاً وفن التعامل معه هو أساس شخصيته وأساس تكوينه، فيصبح فيما بعد إنسانا فاعلا ومؤثرا في المجتمع ومن هنا يجب أن نحسب ألف حساب من أجل تنشئته تنشئة صالحة تحظى بالقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية والتي لها دور مهم في صلاح الأمم والشعوب. فالبذرة الأولى هي أساس تكوين المجتمع فإذا كانت صالحة صلح المجتمع بأكمله والعكس صحيح أيضاً. ويتبادر للأذهان أن أفضل من يقوم بتربية الطفل هم الوالدين لكن في الحقيقة الكل مشترك في التربية وبكل تأكيد الأبوين هم الأساس لكن هناك عوامل أخرى تساعد في تنشئة الأطفال ليس فقط ما يتعلمه من والديهم، فالعائلة الكبيرة لها دور أيضاً في هذه التنشئة كالأعمام والعمات والاخوال والخالات والأجداد كل له بصمة معينة لها تأثيرها الإيجابي أو السلبي على تنشئة الأطفال فيجب الإنتباه لها، وبكل تأكيد المدرسة لها حصة كبيرة جداً في هذا الأمر. لكن ماهي أفضل الطرق التي يجب اتباعها عند التربية؟ أكدت الدراسات الحديثة أن أهم أمر يجب الإنتباه له عند تربية الأطفال هو الإستماع للطفل وترك مساحة ليعبر فيها عن كل ما يجول في خاطره والاستماع إلى مشاكله وإن كانت بالتفصيل حتى يبدأ الطفل يثق بوالديه ويخبرهم عما يحدث معه فيكونون هم الملجئ الأساسي في حياته خاصة في فترة الطفولة والمراهقة التي تعتبر من أهم المراحل العمرية خطراً. ومن المهم أيضاً أن يركز الأبوين على الأمور الإيجابية للطفل ومدحه عليها وبكل تأكيد يظهر ذلك من خلال مشاركة الأطفال لوالديهم في أعمالهم المنزلية وغيرها، ومن الأساليب الصحيحة هو الإبتعاد عن التوبيخ المستمر للطفل أو الصراخ والانتقاد فذلك يجعل من الطفل متقلب المزاج ويميل إلى العصبية وعدم الاستماع لأي نصيحة تقدم إليه. الحزم مطلوب في التربية وكذلك أسلوب الثواب والعقاب لكن يجب الإنتباه لهذه المسألة فالعقاب المفرط سيؤدي إلى نتائج غير مرغوبة أكثر الأحيان ولعل من أساليب العقاب حرمان الطفل من أمر يحبه لفترة محدودة حتى لا يعود للخطأ مرة أخرى من أنجح وسائل العقاب. ومن الطرق أيضاً المهمة في تنشئة الطفل هي تشجيع الطفل فمن الضروري جداً تشجيع الطفل حتى يبدأ الإعتماد على نفسه في أمور كثيرة و، وكذلك من المهم أحياناً أن نُعلم الأطفال بعواقب الأمور وليس فقط العقاب فمثلا رمي الألعاب بقوة يجعلها تنكسر وسيخسر الطفل لعبته لذلك يجب عدم رمي الألعاب حتى تبقى فترة طويلة. الروتين مهم للطفل في بداية حياته فيجعله ينضبط في سلوكياته مثل مواعيد النوم والاستيقاظ ومواعيد اللعب والتنزه ووو..الخ. الحب مهم جداً في التعامل مع الأطفال وتنشئتهم تنشئة صالحة فمن خلال الحب سيتولد لدى الأطفال رغبة في فعل الخير لجميع من يعرفونهم ويبادلونهم الحب فيتعلمون الاحترام والتضحية منذ الصغر. بقيّ أن أذكر أن الطفولة اليوم تحتاج إلى صبر أكثر من ذي قبل ولعل ما يحدث من إهمال الأهالي وإدخال أطفالهم إلى العالم الافتراضي في وقت مبكر سبب رئيسي في ظهور أمراض نفسية لم تكن موجودة في السابق لذلك من المهم أن نبعد الأطفال عن تلك الوسائل ولو في السنوات الأولى من حياتهم وجعلهم يعيشون طفولتهم بسلام دون ادخالهم في معتركات من شأنها إفساد حياتهم ولأمد طويل...

***

سراب سعدي

أنواع اليهود في عصرنا: السفارديم والإشكناز والمزراحيم والدونمة والسامريون وناطوري كارتا

إنَّ جيلنا الذي نشأ في فترة المد الوطني واليساري العالمي أواسط القرن الماضي فصاعدا وتأثر بالفكر الاشتراكي الأممي تعلم أن يفرق بين اليهود والصهاينة، وبين اليهودية كدين محترم كسائر الأديان والصهيونية كفكر رجعي عنصري لحركة رجعية خرافية عنصرية دموية... هذا التفريق تأخذ به اليوم غالبية القوى المقاومة في العالم العربي وهو موجود حتى في الخطاب الإعلامي للمقاومة الإسلامية في لبنان وحماس والجهاد في فلسطين المحتلة وعلى هذا يغدو مستهجنا تشويه الخطاب المقاوم باستهداف اليهودي لأنه يهودي أو ابن يهودية نتيجة جهل هذا البعض بهذه الحقائق فالحضارة العربية الإسلامية هي الوحيدة بين الحضارات والأمم التي أنصفت الأقليات ومنهم اليهود، بل وراح هؤلاء اليهود يتبعون العرب المسلمين في أي بقعة حلوا بها وفتحوها حتى بلغوا معهم بلاد الصين كما أكد ذلك المناضل والمؤرخ اليهودي الشيوعي الصيني يسرائيل إبشتاين.

أما في اللهجات العربية وخاصة اللهجة الفلسطينية فالأمر مختلف؛ وعامة العرب يستعملون كلمة اليهودي واليهودية كصفة نسبة عادية. وأتذكر خلال أزمة احتجاز القائد الفلسطيني جورج حبش في فرنسا سنة 1992 حين سافر للعلاج فيها بناء على اتفاق مسبق بين الحكومة الفرنسية وياسر عرفات. وحين اخترقت المخابرات الفرنسية المكالمات الهاتفية لعرفات وحبش اعتبرت كلامهما عن اليهود من قبيل معاداة السامية، وحين واجهت الحكومة الفرنسية عرفات بذلك سخر منهم وقال نحن الفلسطينيين نقول لليهود يهود ولا نشتمهم بهذه الكلمة مثلكم واذهبوا واسألوا سفيرهم في باريس. ويبدو أن الفرنسيين سألوا السفير الصهيوني فعلا فأكد لهم ما قاله عرفات، من أن كلمة يهود ويهودي ليست شتيمة أو سُبة في كلام العرب مثلما هي في لغات الغربيين بل مجرد صفة!

سأحاول في هذه المقالة أن أفيد القارئ ببعض المعلومات للتفريق بين اليهود حسب أنواعهم المعروفة من باب الاطلاع ومعرفة الآخر فالفرق بين السفارديم ومعهم المزراحيم والأشكناز كبير جدا وفي الإعلام الصهيوني داخل "إسرائيل" يستعملون عبارة "الأمتين" لهاتين المجموعتين أو المكونين لليهود المعاصرين:

1- اليهود السفارديم: هم الذين تعود أصولهم إلى إسبانيا والبرتغال. وبعض هؤلاء كانوا قد سبقوا العرب المسلمين إلى هناك، وانحازوا إلى جانبهم دائما، وحل بهم ما حلَّ بالعرب والبربر المسلمين بعد حروب الاسترداد وقمع محاكم التفتيش الكاثوليكية بعد سقوط الدويلات العربية الإسلامية هناك. والطريف أن اسم "سفارد" جاء نتيجة خطأ في الترجمة فالكلمة كانت اسم مدينة في آسيا الصغرى تم ربطها بإسبانيا عن طريق الخطأ، فتُرجمت الكلمة في الترجوم (الترجمة الآرامية لأسفار موسى الخمسة) إلى «إسباميا»، و«سباميا». وابتداءً من القرن الثامن الميلادي، أصبحت كلمة «سفارد» هي الكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى إسبانيا.

شاع في الكتابات العربية خلط خاطئ بين كلمة «أشكناز» التي يعني بها البعض يهودا غربيين وسنأتي إليها بعد قليل، و«سفارديم» التي تعني يهـودا شرقيين. وهذا غير دقيق فكلاهما تعني "يهود غربيين". أما اليهود الشرقيون هم «عيدوت مزراحي» وتعني الجماعات الشرقية. والحركة الصهيونية منذ تأسيسها ومن حيث قياداتها ومنظريها كانت حركة أشكنازية بنسبة تفوق التسعين بالمائة إضافة إلى شخصيات نادرة من اليهود السفارديم ولم يعرف في قيادة الحركة الصهيونية أحد من يهود مزراحيم أي شرقيين. وبعض قادة الصهاينة من السفارديم لا يصرحون بأصولهم ويزعمون أنهم من الأشكناز لينجوا من التمييز العنصري الإشكنازي ضدهم.

2- اليهود الأشكنازيون: وهم من يهود دولة الخزر المنقرضة جنوب روسيا وهم من المتهودين ذوي الأصول التركية والسلافية وغير ذلك ولا علاقة لهم ببني إسرائيل شبه المنقرضين بل اعتنقوا الديانة اليهودية في عصور متأخرة ويشكل الأشكناز تسعين بالمائة من يهود العالم البالغ عديدهم قرابة الأربعة عشر مليون نسمة وما تبقى هم السفارديم والمزراحيم.

اليهود الأشكناز أوروبيون غربيون ثقافة وعادات وتقاليد رغم أن أصول غالبيتهم من أوروبا الشرقية التي هجروها بعد الاضطهاد اليديني الذي لاقوه، وهم يزدرون اليهود الآخرين ويكرهونهم. ومشهورة مقولة شاعر الصهيونية الأشهر نحمان بياليك، وهو إشكنازي، بأنه (يكره العرب لأنهم يُذكِّرونه باليهود المزراحيم "الشرقيين"). أي أن اليهودي الأشكنازي يكره في سريرته اليهود الشرقيين والعرب معا وهذه هي معاداة السامية الصافية! ويلجأ بعض يهود المغرب العربي إلى ادعاء أنهم من أصل فرنسي حتى يُحسِّنوا صورتهم أمام الأشكناز المهيمنين على الدولة ويتفادوا التمييز العنصري الأشكنازي ضدهم.

أما من الناحية العقيدية فالأشكناز يزعمون أنهم يتبنون الصيغة الفلسطينية لليهودية، مقابل الصيغة البابلية التي تبناها السفارد. ومع أن كلا الفريقين تَبنَّى التلمود البابلي، في نهاية الأمر، مرجعاً وحيداً في الأمور الدينية والفقهية، فقد ظلـت بعض نقط الاختلاف. فالسـفارد، على سـبيل المثال، يتسمون باتساع الأفق والانفتاح على الحضارات والمجتمعات التي عاشوا فيها، أما الإشكناز فلم ينفتحوا على الحضارات التي عاشوا بين ظهرانيها برغم تأثرهم بها، وانغلقوا على الكتاب المقدَّس والتلمود وعلى تفسير النصوص الجزئية وعاشوا في الغيتوات.

3-اليهود المزراحيم: وتعني كلمة مزراحيم المشارقة. وأصول هؤلاء من يهود العراق وهم من بقايا السبي البابلي وقد تفرقوا في الأرض وخصوصا في بلدان الجوار كتركيا وإيران والجزيرة العربية والبعض. وبعض هؤلاء وخصوصا ذوي الأصول الشمال أفريقية يسمون أنفسهم "اليهود العرب". وهناك جمعية علنية ومجازة من الشباب والشابات اليهود مقرها في فرنسا بهذا الاسم "جمعية اليهود العرب"، وهم مناصرون ومؤيدون لحقوق الشعب الفلسطيني، وقد كتبت عنهم ذات مرة قبل سنوات قليلة. دينيا يتبع اليهود المزراحيم، باستثناء يهود اليمن، المذهب اليهودي السفاردي الذي تطور لدى اليهود الخارجين من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أما يهود اليمن فيتابعون مذهبا دينياً يهودياً خاص بهم. ويشمل مصطلح المزراحيم أيضاً اليهود من تونس والجزائر وليبيا والمغرب الذين عاشوا في شمال إفريقيا قبل وصول السفارديم.

من وجهة نظر الحاخامية الإسرائيلية الرسمية، فإنَّ أي حاخامات من أصل مزراحي في إسرائيل يخضعون لسلطة حاخام السفارديم الأكبر في إسرائيل. واعتباراً من عام 2005، كان 61% من اليهود الإسرائيليين من أصل مزراحي كامل أو جزئي رغم أن نسبتهم من عموم يهود العالم صغيرة جدا كما قلنا (هم والسفارديم نسبتهم عشرة بالمئة)، ولكن حصتهم صغيرة وتافهة في قيادات الكيان السياسية والأدبية والاقتصادية، وهذا يعني أن دولة إسرائيل تحكمها أقلية من الأشكناز المتهودين الغربيين الصهاينة في فلسطين والذين لا يجمعهم جامع ولا كنيس باليهود وبني إسرائيل القدماء. وسبب هذا الوجود الكثيف لليهود الشرقيين هو نجاح إسرائيل والحكومات العربية العميلة في العراق والمغرب ومصر واليمن ...إلخ، بتهجير اليهود الشرقيين في الخمسينات والستينات إلى دولة الكيان التي كاد مشروعها يفشل بسبب رفض غالبية اليهود الأشكناز الغربيين الهجرة إليها.

أما من حيث اللغة، فأن عبرية السفارديم والمزراحيم هي الأقرب إلى اللغة العبرية الفصيحة القديمة. وهي مختلفة عن عبرية الأشكناز المختلطة بلغات أخرى ومنها لغة اليديش الخاصة بالأشكناز. واليديش لهجة ألمانية بنسبة 70 بالمئة. إن فصاحة عبرية اليهود الشرقيين يعود إلى أن يهود العالم العربي كانوا منذ أيام الأندلس لا يتحدثون إلا العربية، واقتصر استخدامهم للعبرية على الكتابات والأسفار الدينية العبرية الفصيحة المتخصصة والتي بقيت سليمة ومستقلة. وقد كان لاحتكاك اليهود بالعرب أثر عميق في لغتهم، فقد ازدادت عبريتهم فصاحة بمجاورتها اللغة العربية التي تُعدُّ أرقى لغات المجموعة السامية كلها. وقد تَرتَّب على ذلك أن «دولة» إسرائيل، التي قامت على أكتاف الأشكناز، وجدت نفسها رغم كل شيء مُضطرَّة إلى اعتبار عبرية السفارديم هي اللغة الرسمية وفي السياسة والأدب والفن والإعلام والتعليم في الجامعات والمدارس. وقد اضطر المؤلفون في الأدب العبري الحديث، أو العاملون في مجال الدراسات اللغوية، حتى وإن كانوا من الأشكناز، إلى الخضوع المُطلَق للسان السفارد.

4- يهود الدومنة: وهم من أصول مختلفة وخزرية غالبا. برز منهم مؤسس طائفتهم شباتاي زيفي، ولد في يوليو 1626، بمدينة إزمير التركية من أبوين يهوديين مهاجرين من إسبانيا أي من يهود السفارديم. وكلمة دونمة تركية تعني "المرتدين/ الراجعين". فحين زعم مؤسسهم زيفي أنه المسيح المنقذ حوكم، وقبل أن يحكم عليه بالإعدام أعلن إسلامه فعفا عنه السلطان العثماني محمد الرابع في القرن السابع عشر. وقد قام زيفي لاحقا بنشاط كبير لبعث فكرته وتأصيلها بشكل سري وبعد أن توفي عام 1675م سار أتباعه على دربه في محاولة للحفاظ على وحدة وتواصل الجماعة. وهذه الجماعة ليس لها تأثير كبير في دولة الكيان المؤقت ولا خارجها.

5- ناطوري كارتا: والكلمتان باللغة الآرامية وتعنيان (حارس المدينة). هي حركة يهودية حريدية (أصولية) ترفض الصهيونية السياسية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة إسرائيل. تعدادهم يقارب 5000 يهودي ويتواجدون في القدس ولندن ونيويورك. وهي جماعة دينية يهودية تم تأسيسها في سنة 1935، تنادي بخلع الكيان الإسرائيلي وتفكيكه سلميا، وإعادة الأرض إلى أصحابها الفلسطينيين. وتقوم هذه الحركة على أن تأسيس دولة إسرائيل مخالف للشريعة اليهودية التي قررت أن يبقى اليهود مشتتين موزعين في بلدان العالم حتى قيام "الماشيحا" أي المهدي المنتظر اليهودي.

6- الطائفة اليهودية السامرية أو السُمَرة وبالعبرية: «شمرونيم»، هي مجموعة عرقية دينية، تنتسب إلى بني إسرائيل وتختلف عن اليهود إذ يتبعون الديانة السامرية المناقضة لليهودية (رغم اعتمادهم على التوراة) لكنهم يعتبرون توراتهم هي الأصح وغير المحرفة وأن ديانتهم هي ديانة بني إسرائيل الحقيقية. يقدر عدد أفرادها بـ 820 شخصاً موزعين بين قرية لوزة في نابلس ومنطقة حولون بالقرب من تل أبيب. ويعادي اليهود الأشكناز يهود السامرية ويعتبرونهم غرباء عنهم وعن اليهودية وقد جاء بهم الآشوريون وأسكنوهم في السامرة العاصمة القديمة لإسرائيل المنقرضة. أما السامريون أنفسهم فيعتقدون أن تاريخهم قد بدأ منذ بداية الخلق مع آدم، ويعتبرون نوح جدهم العاشر، وإبراهيم جدهم العشرين، وصولاً إلى موسى الذي بعثه الله ليحررهم من عبودية ملك مصر القديم الذي تسميه التوراة "الفرعون" وسبق وأن ذكرنا أن هذه الكلمة "فرعون" لا وجود لها في السردية المصرية القديمة كلها. ويعتقدون أنهم هم الإسرائيليون الأصليون الذين ينتسبون إلى يوسف الصديق وكهنتهم ينتسبون لسبط لاوي، وأن اسمهم "شومريم" وليس السامريين التي تعني المحافظين، ويقصدون أنهم من حافظ على الديانة القديمة دون سائر بني إسرائيل.

***

علاء اللامي

اعتدنا دائما في حلقات الدرس الفلسفي أن نفرق بين السؤال الفلسفي وفلسفة السؤال. حيث الانتقال من ماذا ولماذا الي اين وكيف. فالسؤال الفلسفي بقف دائما أمام سؤالين ماذا يحدث ولماذا يحدث على كافة المستويات المختلفة. والمتأمل لتاريخ الفكر الفلسفي يجد أن الغالبية العظمى من المهمومين بالفلسفة يقفون عند هذه المرحلة ولكن الباحثين  عن المجتمع الأمثل منهم هم من يسعون دائما الي التحول من السؤال الفلسفي الي فلسفة السؤال وتكمن ضالتهم المنشودة متمثلة في كيفية التحول ومكانه. وبلغة مناهج البحث الفلسفي المعاصرة كيفية بلوغ كيمياء الفكر من ناحية وجغرافيا الفكر من الناحية الأخرى.

والناظر الي الواقع المعيش في تلك المرحلة الفارقة في تاريخ أمتنا العربية يجد أن معظمنا يقف عند مرحلة السؤال الفلسفي: ماذا يحدث؟ ولماذا؟.

ماذا تفعل إسرائيل وامريكا وفرنسا...الخ؟ ولماذا هذه الأفعال؟.

والإجابة ببساطة شديدة تتمثل في أن المصالح المشتركة هي ما تقود الى مثل هذه الأفعال دون مراعاة لأية ابعاد إنسانية أو قانونية. فما يلتقي مع مبدأ المصلحة هو الصواب وإن تعارض مع كل المبادئ والقيم الإنسانية وضرب عرض الحائط بكل القوانين والمعاهدات الدولية ؛وما يتعارض مع المصلحة هو الخطأ الأكبر الذي لا يجب الوقوع فيه. هذا هو منطق الفكر السائد في المعسكر الأول الذي يشن العدوان بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. واعتقد أن هذا الأمر لا يخفى على الإنسان العادي أو المثقف؛ لا يخفى على الرأي العام القادم أو الرأي العام التابع.

والجميع يعلم ألية حل هذه المشكلة والمتمثل في وجوب نحقق الوحدة العربية حتى يتسنى لنا مجابهة هذا الطوفان المدمر الذي لن تكون فلسطين بالنسبة له نقطة نهاية بل نقطة بداية . ففي الماضي القريب وبحيل مشابهة لما يحدث اليوم دمرت العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان...الخ من مآسي العالم العربي. واليوم هناك ثمة محاولة علي الصعيدين السياسي والعسكري – لا تخفى إلا على من يغمس رأسه في الرمال -لتصفية مصر من خلال جعلها طرفاً مباشرا في الصراع حتى يتسنى لهم تصفية القوة الوحيدة التي مازالت متماسكة في العالم العربي. هكذا نكون قد فهمنا ماذا يفعلون ولماذا؟. وبعبارة أخرى عرفنا الاجابه عن السؤال الفلسفي ولكن ماذا عن فلسفة السؤال؟.

أشرت إلى أن حل هذه الأزمة يتمثل في الوحدة العربية؛ وهنا تظهر فلسفة السؤال: كيف وابن.

ما أسهل الإجابة عن كيف: بنبذ الفرقة والتكامل على كافة المستويات المختلفة بحيث نتحول إلي قوة يخشاها القاصي والداني. ولكن السؤال عن اين فإن الإجابة عليه متروكة لمن بيدهم القدرة على الإجابة .

فهل آن لنا أن نتحول من السؤال الفلسفي الي فلسفة السؤال؟.

***

الدكتور شعبان عبد الله محمد

استاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب سوهاج

في المثقف اليوم