قضايا

مقدمة: عندما أردت كتابة بحثي هذا أردت أن أبدئ من فترة تاريخية متقدمة قد مرت بها الدولة المصرية على فترات من الانفتاح الثقافي والتي ربما تأثرت به تأثراً مباشراً، ولكن عند الكتابة عن الهوية الثقافية المصرية ذلك الدولة العريقة الضاربة بجزورها التاريخية والثقافية عبر الزمن يحتار المرء فعلاً كما يحتار القلم من أين يبدئ؟.

لقد لعب المثقفون دوراً هاماً وحيوياً في كل العصور التي مرت بها مصر من القديم إلى الحديث ولكن الدولة المصرية الحديثة والتي يؤرخ لها من حكم محمد على باشا ربما تكون نقطة انطلاق للباحثين يغصون من خلالها في بحور الثقافة والهوية المصرية وتنوع ارهاصاتها على كافة المجالات والذى خلق نوع من الثراء للموروث الثقافي المصري والتي كانت منفتحة على العالم منذ القدم وحتي يومنا هذا.

لذا قد أردت البحث والتنقيب منذ حقبة تولي محمد على باشا حكم مصر عام 1805م ولربما اكون قد حددت تلك الفترة لكونها شكلت هوية مصر التي نحن عليها الأن أو ساهمت بشكل كبير في تشكيلها فيما نحن عليه من خطوات كبيرة من خطوات الثقافة المصرية وتحديد ملامحها المعاصرة والتي جعلت من مصر كتاب مفتوح على العالم اجمع بخليط من الثقافات متعددة الاطياف في ثقافة وهوية شعب مصر من الشمال إلى الجنوب.

لقد شكل محمد على بما أدخله على الهوية والثقافة المصرية من مدارس وبعثات أوربية وحركة الترجمة وخاصة الفرنسية والعكس وأصلحاً داخلياً شكل هوية ووجدان المثقف المصري ولقد أمتد ذلك التأثير على الهوية المصرية والثقافة المصرية لما بعد محمد على علي وأولاده مما أدي إلى وجود موروث ثقافي هجين سرعان ما أثر وتأثر بالموروث الثقافي للوجدان المصري.

1ــ دور الثقافي المصري في عالم مختلف:

يعد دور، المثقف الفرنسي ودوره النقدي في تشكيل الهوية الفرنسية وقيام الثورة الفرنسية لسبب مباشر في بناء الدولة واجهزتها والذي لعب دور الناقد للظواهر السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية السائدة، وهي تعد من خصائص الثقافة والهوية المصرية بامتياز.

أن أقلمه الأفكار ليس بالشيء الهين وذلك من خلال تلقيحها بنتاج أفكار أخرى ربما تكون مماثلة أو مختلفة بالنسبة لهوية اخري وذلك عند انتقالها من شعب إلى اخر لربما خلق نوع من هوية مشتركة ما لم تحويه تلك الثقافة المنقول إليها ويعدَّ ذلك بالمولود الجديد الذي ينتج من تزاوج اشخاص احدهما كلا منهم له هوية مختلفة عن الاخر وربما تتأقلم وتتفق وهذا ما حدث من خلال انتاج الافكار وتلقيحها بالموروث الثقافي الفرنسي وتطبيقها على الواقع الموضوعي للهوية المصرية قادمة من المهاد الغربية متمثلة في الموروث الثقافي الفرنسي من خلال تمريرها داخل الانسجة الاجتماعية والفكرية ذات المصادر التراثية الدينية وحركة الترجمة الواسعة التي سمح بها النظام السياسي حين ذاك والتي لا شك تأثر بها المثقف المصري والذي بدوره أثر في المجتمع من خلال الحركة الفكرية للمثقفين داخل الدولة المصرية ولقد أنعكس ذلك على الهوية والثقافة المصرية.

وعلى الرغم من حدوث مناورات أثرت في الفكر من خلال الأليات الدينية من داخل نظام اللغة التراثية والدينية إلا إنها قد وصلت إلي مأزق فكري وتاريخي وفلسفي في ظل نهاية المرحلة شبه ( الليبرالية) مع قيام ثورة 1952 م.

بعد تجاوز تلك المرحلة من التأثير الثقافي والتي تأثرة به الهوية المصرية، والتي أثرت بدورها في المنطقة العربية بأثرها ولقد ظهر ذلك بوضوح في استقطاب العقول العربية اللامعة في المرحلتين شبه ( الليبرالية)، والناصرية حتي هزيمة 1967م.

وتعدَّ المرحلة الناصرية بحق مؤثرة بشكل كبير في الثقافة المصرية والموروث الثقافي للمثقفين كما تعد الناصرية جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية وكذلك تعدَّ جزء أساسي في الاقليم العربي من خلال النتاج الفكري.

لقد ساهم الدور الثقافي للمثقفين المصرين في أضعاف بعض مصادر القوي داخل النظام السياسي وذلك من خلال بلورة النماذج الملهمة في التنمية والاستقلال وهذا جعل الدولة المصرية تأُمن بحركة التغيير والتحرير الوطني كذا حركات اخري كحركة عدم الانحياز.

2ــ مشكلات الشباب وأزمة هوية الثقافة:

يعدَّ الشباب هم الشريحة الأكبر بين فئات المجتمع والشريحة الأكثر أتساعاً بين فئات المجتمع الأخرى ويرجع ذلك لخصائص ومكونات تلك الفئة من المجتمع فأن الشباب المحرك الحقيقي لمجريات الاوضاع والأحداث وطبيعة الأمور بالمجتمع التي تحيا به تلك الفئة وخاصة إذا كانت مؤثرة في الهوية الثقافية للمجتمع.

يقول: الدكتور. فوزى محمد الهادي (نظراً لما طرأ على مناحي الحياة اليومية من تغيرات ومستجدات بفعل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتي تزداد وتيرتها تسارعاً في العصر الحالي حيث إننا نعيش عصراً تتضارب فيه القيم ويصعب فيه الاجتماع على معايير سلوكية موحدة) أنتهي.

لذا أرى في المبحث ونظراً لما يمثله الشباب من الجنسين من قاعدة هي الأكبر والأكثر أتساعاً وتأثيراً بل ربما تكون هي من يقع على عاتقها التغيير الثقافي في المجتمع عاجلاً أو أجل لذا يجب توجيه الجهود الحثيثة من القيادة السياسية لتغيير المنظور الثقافي عبر الوسائل التثقيفية والوسائل المتاحة للتأثير الإيجابي في شباب اليوم نظراً للانفتاح الثقافي عبر الثقافات المختلفة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة المعلومات الدولية (الأنترنت) ومدي تأثيرها في الموروث الثقافي للمجتمع المصري بأكمله دون تنظيم أو أخلاء لما هو غير إيجابي وقد يكون مؤثر تأثيراً سلبياً علي الشباب خاصة مما يشكل هوية ثقافية جديدة قد تغيير من الموروث الثقافي المصري مع مرور الزمن.

وانساقا مما تقدم ينطلق هذا المبحث للاهتمام بالمشكلات الشبابية من خلال المنظور الإيجابي للهوية الثقافية ويتضح ذلك من خلال....

١ــ مفاهيم المتغيرات الإشكالية لدي الشباب.

٢ــ مشكلات الشباب من خلال الواقع المعاش.

٣ــ أزمة الهوية الثقافية لدي الشباب ومن أين تستقي؟.

٤ــ العمل والرؤي المنظورة لأزمة الهوية لدي الشباب.

لذا أقول أنه أصبح من الضرورات (السيسولوجية){٢} والمنهجية التعرف على مشكلات الشباب الشخصية والنفسية والمجتمعية كما هو الواقع المعاش وعن قرب ومن الضروري إيجاد مجموعة من السياسات التي تساهم بشكل كبير في الحد من السلوك والمشكلات والتي تؤدي إلي تداعيات خطيرة ربما، بل من المؤكد قد أثرت تأثير سلبي في تشكيل الهوية الثقافية لدي الشباب في العشرين عاماً الماضية والتي خلقت مشكلات وجرائم لم تري من قبل داخل المجتمع المصري وخاصة لدي الشباب وكون إنهم رجال الغد والتي سوف تنتقل من خلالهم الموروث الثقافي للأجيال القادمة لذا نؤكد علي الاسراع بالحلول الجزرية وليست الحلول المؤقتة والتي سرعان ما يزول أثرها وتبقي المشكلات عالقة بالهوية الثقافية.

تقع مرحلة الشباب ما بين الفترة العمرية (15 ــ 24) سنة ونعلم أن هذا هو التحديد الدولي المقبول لما تمثله تلك الفترة من تغيرات جزرية تشكل وجدان ومفهوم الشباب من الجنسين وذلك من خلال الاعتبارات نفسية واجتماعية وثقافية مما يؤثر سلباً وإيجاباً طوال حياتهم.

أن الأزمة التي يعيشها الشباب تتمثل في أزمة الهوية والتي يؤدي فيها التساؤل (من أنا؟) والتي من خلال هذا التساؤل قد يقع تحت تأثير ثقافات دخيلة تؤدي به إلي اهتزاز في مفاهيمه السابقة عن تصوره لذاته فأذا استطعنا اكتشاف ذاته وبدور استطاع اكشاف ذاته من خلال التوجيه الثقافي للهوية المصرية أدي ذلك إلي النجاح فإذا عجز أو فشل في اكتشاف هويته وثقافته إدي ذلك إلي الفشل المربك والذي يؤدي بدوره إلي اختلاط الهوية والصراع الثقافي واختلاط الهوية لا طائل منها سوي السلبية علي المجتمع والتي تؤدي إلي تعطيل الحياة بكافة صورها داخل المجتمع.

فيجب علي المجتمع أن يتبني سياسات من شأنها القضاء علي مشكلات الشباب حتي يستطيع الشباب التوافق والتكيف مع مستجدات العصر الذي نحيا فيه والثقافات الدخيلة علي هويتنا الثقافية وقد حددت أربعة مشكلات تواجه الشباب إلا وهي:

1ــ المشكلات الاقتصادية.

2ــ المشكلات النفسية.

3ــ المشكلات الاسرية.

4ــ المشكلات الاجتماعية.

3ــ الثقافية ودورها في تعزيز الهوية الوطنية:

تعتبر الهوية الثقافية والتراثية للدولة المصرية من أقصي الجنوب إلي أقصي الشمال هي أهم الأعمدة والركائز التي يقوم عليها تاريخها العريق عبر الأزمنة المختلفة من القديم إلي الحديث كما تعتبر وبلا أدني شك القاسم الجوهري والقدر الثابت والمشترك من السمات العامة التي تميز الهوية الثقافية المصرية وذلك التاريخ الممتد والحضارة العريقة والتي تضرب بجزورها في أعماق التاريخ الإنساني من ألاف السنين تعطي الدافع والقوة لهذه الأمة علي البناء والتطوير حتي يومنا هذا.

وكلما كانت تلك الأمة قادرة علي التطوير والبقاء ومواكبة التكنولوجيا والأخذ بها في المحافظة على الهوية الثقافية الوطنية، كلما كانت تستقي هذا الرقي والتقدم من خلال خلفية ثقافية، متفاعلة في ذلك مع كافة المعطيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية بما تملكه من وعي للخصوصية المرنة التي تساعد في طياتها علي تقبل النقد ودفع عجلة الاصلاح.

بلا شك فأن الدولة المصرية عبر تاريخها الطويل والممتد استطاعت أن تشكل هويتها الثقافية الوطنية الخالصة وأن تحافظ عليها رغم ما تعرضت له الدولة من محاولات طمس الهوية الثقافية من خلال التاريخ الاحتلالي للدولة المصرية مرتكزة في ذلك علي الرموز والشخصيات الوطنية الخالصة في المحافظة على تلك الهوية مع الحفاظ على خاصية المرونة مع المتغيرات الإقليمية والعالمية.

لقد ظلت تلك الهوية مرتبطة في طياتها بالأرض والانسان علي امتداد العصور المختلفة ولقد ظهر ذلك جلياً في القديم من خلال الحضارات العريقة والتي أمتد أثارها علي وادي النيل من الجنوب حتي أقصي الشمال بل لا اكون مبالغ إذا قولت بأنها اثرت الهوية المصرية علي المستوي الاقليمي والعالمي في تشكيل هويات اخرى لدول الجوار كما ظهر ذلك على المستوي المحلي ومدي تمسك اهل الجنوب بالعادات والتقاليد الراسخة في الاعمال مشكلة للهوية الوطنية ومدي ارتباطها بالأرض والانسان وما زالت باقية إلي يومنا هذا تتوارثها الاجيال.

ومع تواصل تعزيز الدولة المصرية للانتماء الوطني وترسيخ قيم المواطنة للحفاظ على مقومات الهوية الثقافية الوطنية نرى ذلك من خلال الاعمال التي تقوم بها القيادة السياسية من خلال الوسائل الثقافية والتعليمية وأدواتها متمثلا ذلك في دور السينما والمسرح والقنوات التلفزيونية للأعلام المفتوح والوسائل التعليمية من خلال المناهج الدراسية والابنية التعليمة والاخذ بوسائل التكنولوجيا في نشر الثقافة الوطنية.

وتحرص الدولة المصرية في ظل توجهات ودعم السيد الرئيس / عبد الفتاح السيسي علي ابراز تلك الهوية في كل المحافل المحلية والعربية والدولية وكذلك توظيف وزارة الثقافة بجميع مقوماتها لتكون علامة علي الانفتاح الذي تعيشه الدولة المصرية علي مختلف الثقافات مما أنعكس في رصيد الدولة المتنوع والغني بالموروث الثقافي المصري.

وهنا تجدر بنا الاشادة إلي الدور الكبير والمهم والذي تلعبه وزارة الثقافة المصرية في حماية الهوية الثقافية الوطنية للدولة المصرية من خلال المشاريع العملاقة والتي ساهمت بدورها في وضع الهوية الوطنية المصرية في المراتب الاولي علي المستوي الاقليمي والعالمي.

وايماناً من وزارة الثقافة المصرية علي تعزيز هذا الدور المهم والحيوي تسهم الوزارة في اقامة فعاليات متنوعة تتضمن في طياتها ما يعزز ويقوي الهوية الثقافية الوطنية لدي الافراد ويساهم في خلق مردود اقتصادي من خلال الاستثمار في الثقافة.

مما جعل الدولة المصرية في مصاف الدول الرائدة في مجال الثقافة والتراث الانساني مما يؤكد الضرورة إلي مواصلة الدعم لمؤسسات الدولة الثقافية والتعليمية والاعلامية وكذا منظمات المجتمع المدني لتعزيز دورهم المهم في تأكيد الهوية الثقافية الوطنية بشكل خاص والعربية والاقليمية بشكل عام وذلك من أجل الحد من ذوبان الهوية الثقافية الوطنية.

4ــ الهوية الثقافية والتعليم في المجتمع المصري:

أن الهدف من تلك الدراسة البحثية فو المحافظة على الهوية الثقافية والتعرف على ماهية الهوية الثقافية ومقوماتها الاساسية والتحليل التاريخي لتطوير انظمة التعليم في مصر بالإضافة إلي الكشف عن تداعيات تنوع أنظمة التعليم والتي نحن بصددها في هذا العنصر البحثي في مصر علي الهوية الثقافية وعلي التوسع المطرد في الانتشار الموسع لتعليم الاجنبي إلي جانب التعليم الحكومي من ينتج عنه تأثيرات خطيرة وسلبية علي الهوية الثقافية المصرية والتي تتمثل في:

ــ ضمور الشعور بالهوية القومية.

ــ افساح المجال للهيمنة والتبعية الثقافية.

ــ أضعاف مقومات الهوية الثقافية للمجتمع المصري.

ــ تكريس مناهج تلك المدارس للاندماج الثقافي والفكري بين الدارس والمجتمع

الذب يدرسه وليس الذي نشأ فيه حيث تأكد تلك المناهج علي تنمية روح

المواطنة والانتماء للدول التابعة لها.

ــ تأصيل التمايز الطبقي وعدم تكافؤ الفرص التعليمية وتهديد التماسك الاجتماعي في المجتمع الواحد.

أننا نعلم جميعنا أن لكل مجتمع هويته الثقافية والتي يتميز بها عن كافة المجتمعات الاخرى عبر التاريخ حتي وأن كان هناك تشابه طفيف إلا أنه تبقي الهوية الثقافية لكل مجتمع ما يتميز به عن غيره من نمط حياة ولغة تفاهم مشتركة وتناغم في النظرة للأشياء والامور والمتغيرات وكذلك نمط التعامل مع البيئة المحيطة بالفرد.

مشكلة الدراسة:

لقد اتخذت بنية النظام التعليمي في مصر اشكالاً مختلفة تعكس مدي التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري، وما فرضته هذه التطورات علي هيكل التعليم بمختلف مراحله وانواعه من تغيرات ولقد اشار عدد من التقارير الدولية والاقليمية بأن بنية النظام التعليمي بمختلف مراحله لم تعد موحده أو منسقة تتبادل فيما بينها عمليات الاستبعاد والاقصاء والاصطفاء على نحو يهدد النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية للمجتمع المصري.

لقد اصبحت الساحة التعليمية تموج بأنماط من المدارس التي تتباين فيما بينها سواء علي المستوي التبعي أو في هيكلتها أو مناهجها وحتي علي مستوي الممارسات السائدة فيها ومن المؤكد أن هذا التباين يخلق أنواع من الثقافات التعليمية المتباينة والتي تؤثر تأثيرا سلبياً علي الهوية الثقافية المصرية لأبناء المجتمع الواحد ومن انماط هذه المدارس: ــ

ــ (المدارس الدينية (الازهرية والخاصة).

ـ ( المدارس الحكومية ( العادية والتجريبية).

ــ (المدارس الخاصة (عربي ولغات).

ــ (المدارس الدولية).

ــ ( المدارس اليابانية المصرية).

ــ ( مدارس النيل المصرية الدولية).

مما سبق يتضح انماط المدارس في مصر وتنوعها والانتشار الواسع للمدارس الاجنبية وقد اثارة تلك المدارس جدلاً واسعاً منذ نشأتها حول دورها الثقافي وتداعياتها علي الهوية الثقافية فكثير من المهتمين ينظرون إلي هذه المدارس على كونها دارس تبشيرية غربية تعمل علي نشر ثقافة معادية للقيم الثقافية الوطنية والاسلامية وإنها تهدد الهوية الثقافية للمجتمعات التقليدية.

ونحن جميعا نعلم أن مقومات الهوية الثقافية تتمثل في الدين وقيمه واللغة العربية واصالتها والتاريخ الوطني ورموزه الوطنية والتربية الاخلاقية والتي تتأصل من مؤسساتنا التربوية الوسطية المعتدلة وكل هذه المقومات تعمل تلك المدارس الاجنبية علي تشكيلها بصورة مغايره للهوية الوطنية المصرية وحسب الهوية الثقافية القومية لتلك الدول التي تنشر ثقافتها من خلال تلك المدارس.

5- الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة:

أن الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة احد مواد الدستور لعام 2014م والتي ينص فيها الدستور علي أن يدرس طلاب المرحلة الثانوية ضمن مادة التربية الوطنية بعض المواد الدستورية الهامة والتي تخص بالمجتمع ككل وهذا من شأنه تعميق الهوية الوطنية لدي طلاب ما قبل المرحلة الجامعية.

وهذا يرسخ لمفهوم الهوية الثقافية والمحافظة عليها وتؤكد الدولة المصرية من خلال مواد الدستور أن الأسرة المصرية هي أساس المجتمع وتلتزم الدولة بتوفير العدالة الاجتماعية والحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتعددة.

كما نص مجلس النواب وهو المشرع الوحيد والقانوني من خلال سلطة منتخبة من الشعب في البنود (٤،٥،٦،٧) من اختصاصات لجنة الأعلام والثقافة والاثار من ضمن اعمالها ترسيخ القيم الحضارية والروحية وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التميز علي اساس العرق أو اللون أو الدين وأن النسيج المصري كيان واحد بطوائفه المختلفة واكد ايضاً علي الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة والحفاظ علي مكونات التعددية وعلي الخدمات الثقافية والتي تدخل في الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية.

هذا ويؤكد كل ما سبق من المواد الدستورية والتي اشتمل الدستور المصري علي العديد من موادها الصريحة والضمنية الحفاظ علي الهوية والتعددية الثقافية مدي حرصه علي ترسيخ عوامل الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية لدي الاجيال جيلاً بعد جيل وغرس روح المواطنة وحب الوطن والحفاظ علي السمات العامة والخاصة للهوية الوطنية المصرية وروافدها الحضارية.

٦ــ العولمة والهوية الثقافية المصرية:

تعدَّ الهوية الثقافية لأى مجتمع هي الكيفية التي يتعرف الناس من خلالها على ذواتهم وأمتهم وتتخذ اللغة والثقافة والدين اشكالاً لها.

والهوية سلاح ذو حدين أي بمعني إنها يمكن أن عامل تماسك وتوحيد وتنمية ويتأتى ذلك من خلال اللغة الموحدة والتقاليد والمصير المشترك بين الأمة الواحدة كما يمكن أن تكون عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الوطني الاجتماعي في الوقت الذى يشهد فيه العالم انفتاح الثقافات المختلفة من خلال الاتصال الثقافي والتواصل الاجتماعي والذي قد يحدث تصادم بين الثقافات.

ما يشغل اهتمام النخب الثقافية في الوقت الحاضر هو كيفية التوفيق بين العولمة، والهوية الثقافية من خلال جعل الشعور يعمل علي تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم المختلفة لإخضاعها لنظام قيم وانماط سلوك متبعة في المجتمعات الغربية وهذا ساعد علي ظهور الطوائف والمذاهب القومية ضيقة الافق لتقف حجر عثرة في وجه اختلاط الثقافات تحت ذريعة حماية الخصوصيات الثقافية.

وعلي هذا الاساس نستطيع أن نطرح عدة تساؤلات والتي من شأنها توضيح الاختلاط الثقافي:

هل ما تقدمه الحداثة الغربية من قيم ثقافية يتلاءم وطبيعة الهوية الوطنية المصرية؟ هل التمسك بالخصوصية الثقافية المصرية يعدَّ ابتعاداً ورفضاً للعولمة الثقافية؟ هل يمكننا التحدث عن ثوابت ومتغيرات في القيم في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافة في المجتمع؟ ثم هل الهوية الثقافية شيء انتهي وتحقق في الماضي في فترة زمنية معينة؟ وهل الهوية الثقافية المصرية قابلة للتحويل والتطوير والتعايش مع "العولمة الثقافية"؟.

يجب علينا أن نشير إلي أن الهوية الثقافية هي مجموعة السمات والخصائص التي تتفرد بها شخصية مجتمع ما تجعله متميز عن غيره من المجتمعات.

ولقد ظهر في العالم تياران الاول يؤيد العولمة ويدافع عنها والاخر يعارضها ويناهضها وكلا له اسبابه.

فالمؤيد يعتبر العولمة قد احدثت نقلة نوعية في ظل ميادين المعرفة وقربت المسافات واختصرت الزمن وساهمت في التلاقح بين الحضارات وتعزيز ثقافة التنوع الانساني والقيم الثقافية ومن بين هؤلاء المؤيدين نجد الالماني" غونترغراس " والامريكي " همنغواى " والروسي " تشيكوف " والايرلندي " برناردشو ".

اما المعارض للعولمة فيستند إلي إنها غيرت البنية الاساسية لكل مكونات الحياة علي جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافة فساهمت في زيادة معدلات البطالة وانخفاض الاجور واتساع الهوية بين الفقراء والاغنياء وتقليص دور الدولة في الخدمات كالصحة والتعليم ومن بين رواد هذا الفكر وهذا التيار نجد النمساوي" هانس بيتر مارتن " والالماني " هارالدشومان "

فكيف يمكن التوفيق بين التيارين المتعارضين، حتى تكون لدينا نظرة موضوعية عن فكرة العولمة؟ إن ما يهمنا أكثر في هذ الصدد هي العولمة الثقافية. فهناك من اعتبرها أخطر من العولمة الاقتصادية بما تحمله من قيم غربية تريد أن تفرضها كنموذج مثالي على باقي الثقافات العالمية.

لكن انتقاد العولمة الثقافية، بحجة ما تحمله من قيم بعيدة عن الهوية الثقافية المحلية للمجتمعات، لا يكون بالأساس عن طريق تأكيد الهوية وترسيخها والتشبث بها كنسق مغلق، لأن ذلك لن يمكن المجتمع أن يساير العصر وما ينتجه من ثقافة وإبداع وفكر وتقدم معرفي بصفة عامة، بل يبقى مشدوداً إلى الفكر الجامد، غير القادر على التحرّر الثقافي من النسق القيمي للثقافة المحلية أو الخصوصية. وهو ما أدى إلى العودة القوية لثوابت الهوية الثقافية، نتيجة الشعور بالإحباط من العولمة وما تحمله من قيم للحداثة ومحاولة نقدها والبحث عن خيارات جديدة في التراث وفي الدين.

ثم إن انفتاح الثقافة المحلية على المحيط الخارجي، ينبغي، في رأينا، أن لا يكون مؤشراً على إضفاء صفة القداسة على العولمة الثقافية، وأن لا يكون معنى عولمة الثقافة هو فرض ثقافة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة الأمة القوية الغالبة على الأمم الضعيفة المغلوبة. ذلك أن قدرة العولمة الثقافية في فرض وجودها واستمرارها لن يتحقق ما لم تراع هذه العولمة خصوصية ثقافات المجتمعات، ومراعاة تاريخ الشعوب وحقوقهم الثقافية.

ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء النظرية النقدية للعولمة الثقافية صار ضرورياً، لكي تعرف النخب الثقافية والمجتمعات كيف تتفاعل معها في ظل المتغيِّرات الراهنة والمستقبلية، وماذا تأخذ منها وماذا تدع وتترك. فليس كل ثقافة قادمة من الغرب مقدسة. وفي هذا الخصوص، نشير إلى أن الحداثة، كفكرة غربية، تم تجاوزها، وظهرت مرحلة «ما بعد الحداثة» التي تعيش هي بدورها أزمة، لعدم قدرتها على الحسم في كثير من الإشكالات المعاصرة للثقافة والهوية والدين.

***

بقلم / احمد عزيز الدين احمد

الشاعر والروائي والكاتب

.....................................

تعريفات:

1ـ الليبرالية:

يشير مصطلح الليبرالية إلى الفلسفة السياسية أو الرأي المنتشر حول مجموعة من أفكار الحرية والمساواة؛ ويشار إلى أنّ المعتقدات تختلف بين أنواع الليبرالية؛ حيث تُركز الكلاسيكية على الحرية بينما تدأب الليبرالية الاجتماعية على توطيد المساواة أكثر

2ـ السيسولوجية:

لغويًا فإن كلمة سيسيولوجيا هي كلمة سوشيولوجي وهى مشتقة من كلمتين الأولى بمعنى مجتمع، أما الثانية فتعني دراسة وبذلك فسوسيولوجيا تعني دراسة المجتمعات الإنسانية وكذلك المجموعات البشرية والظواهر الاجتماعية.

المراجع:

-  كتاب المفكر المصري " ميلاد حنا " الاعمدة السبعة لشخصية المصرية.

-  كتاب سندباد مصري للكاتب " حسين فوزي ".

-  مقال من الارشيف لـ د. خالد الشرقاوي السموني.

-  كتاب (نشأة الروح القومية المصرية) للكاتب / محمد صبري السوربونى.

-  كتاب ( الشخصية الوطنية المصرية ) للكاتب / طاهر عبد الحكيم.

-  مجلة كلية التربية جامعة بني سويف عدد يناير 2017 م.

-  من موضوع" مشكلات الشباب وأزمة الهوية " والذي نشر بمجلة كلية الخدمة

الاجتماعية لدراسات والبحوث الاجتماعية ــ جامعة الفيوم. أعداد ا. د/ فوزي

محمد الهادي شحاته.

-  شبكة المعلومات الدولية "الانترنت".

 

يُحكَى أنَّ أحد الناس سأل (جُحا):

ـ كم عدد شَعر رأسك؟

ـ 56419 شَعرة!

ـ كيف عرفت؟!

ـ إنْ لم تصدِّقني، تفضَّل عُدَّها بنفسك!

 وكذا هي الأفكار الغيبيَّة التي يُحتجُّ عليها بالجهل. ولا جديد تحت الشمس، إلَّا عقولٌ نَخِرة، يعيث فيها خَرَف الإنسان البدائي، وهَوَسُه باستحضار ما لا يُستحضَر.  وإذا لم ينله بكفَّيه، استعطاه بخياله الطُّفولي. 

هكذا بَدَهَنا ذو القروح في مجلسنا لهذا اليوم.  فقلت:

ـ أمَّا نحن، فنعلم يقينًا: كم عدد شعرات رأسك، يا (ذا القُروح)؛ فتفاعلك الحماسي لم يُبق منها شيء!  المهم: ما الغريب في الخيال الغَّيبي الطُّفولي، وقد بلغ ذلك، كما أخربتنا في مساق سابق، إلى تأليه الإنسان؟

ـ أما وقد ألَّهت الأُمم الحجر والشجر والبقر،  فمن باب أرقى أن تؤلِّه البَشر. مع أن (المسيح، عليه السلام) ظلَّ ينعت نفسه في الأناجيل كلِّها- لا في "القرآن" وحده- بأنَّه: "ابن الإنسان"! 

ـ ما الحكاية، إذن، في تصوُّرك؟

ـ لقد أراد اليهود إبطال ما نُسِب إلى المسيح من معجزات بتعذيبه وصلبه أمام الجميع، قائلين: إنْ كنتَ كما تدَّعي، فخلِّص نفسك، يا فالح!  في مقابل ذلك، اشتغل العقل الآخَر ليردَّ هذه الإهانة، فما وجد إلَّا أن قال: لا.. لا، أنتم واهمون، لم تفعلوا شيئًا، خسئتم وخبتم، إنَّما أنتم قد حقَّقتم إرادته أصلًا، وما سعَى من أجله! هو إنَّما مات فداءً من الخطيئة البَشريَّة!

ـ لكن أين خطيئة التُّفَّاحة الآدميَّة من خطيئة التُّفَّاحات الذَّرِّيَّة، التي اقترفها آدم (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)(1)، إلى جانب تُفَّاحات أصغر اقترفها في أقطار العالَم كافَّة؟! 

ـ صدقت.. أين خطيئة التُّفَّاحة الفردوسيَّة من خطايا الحروب الأرضيَّة، بما فيها الحروب الصليبيَّة، والإسلامويَّة، والبوذيَّة، والشيوعيَّة(2)، والصهيونيَّة... وبالجملة الحروب الدِّينيَّة وغير الدِّينيَّة؟!  وأفظع الخطايا خطايا الحروب بعد اختراع الأسلحة الناريَّة الجبانة، من الرصاصة إلى القنبلة الذَّرِّيَّة، وما بينهما من أسلحة دمارٍ شامل، بدرجات الشمول المتعدِّدة، التي تُهلِك الحرث والنسل في هذا العالم الظالم أهله؟ 

ـ كم مسيح يَلزم العالم للتكفير عن خطاياه المستمرَّة والمتفاقمة والمتعاظمة، بلا انتهاء؟! 

ـ والخطايا بعد المسيح أفظع بما لا يقاس، وهي مِن مُدَّعي المسيحيَّة أنفسهم، وباسمها!

«فإنَّ هذه الأرمدة التي كُنَّ رِجالًا سَتُبْعَثُ من جديد

لتكون لنا نارًا يوم الدَّينونة،

ولكن مَن حَلُمَ بأنَّ المسيحَ ماتَ عبثًا؟

إنَّه يمشي من جديدٍ على بحار الدَّم، وإنَّه ليأتي في المطر الرهيب.»(3)

ـ وأخرجوا ألسنتهم لشانئيهم، صائحين: لقد قام في اليوم الثالث من الأموات ورأيناه وأكلنا معه!  موتوا بغيضكم؛ فهو ليس بَشَرًا للتتحدَّوه، بل هو إله، وابن إله، وإنْ لم يدافع حتى عن نفسه، فلحكمةٍ يعلمها ولها خبيء، معناه الفداء والتكفير! 

ـ هكذا تطوَّر "السيناريو" في هذا المسلسل؟ 

ـ هكذا.. هكذا... إنها مكايدات سياسيَّة وأيديولوجيَّة، في الأصل، خلقت دِينًا.  وكثيرًا ما تخلق الصراعات التاريخيَّة أديانًا جديدة، تمثِّل ردَّات فعلٍ لتلك الصراعات. 

ـ أمَّا الإسلام، فأقرَّ ببَشريَّة المسيح، وبموته ووفاته، لكنَّه نفى عمليَّة الصَّلب نفسها، بمعناها اليهوديِّ والمسيحي، وإنَّما شُبِّه إليهم، ورفعه الله إليه؛ ذلك أنَّ القتلى في سبيل الله أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون، وإنْ شُبِّه إلى الناس أنهم أموات.  ليضع بهذا أقوال الفريقَين معًا، اليهود والنصارى، في سلَّةٍ واحدة، ويرميها في عُرض البحر الميِّت!  وحادثة الصَّلب، إنْ صحَّت، ليست بأشدَّ من النار التي أُلقِي فيها (إبراهيم الخليل)، فكانت بَرْدًا وسلامًا. 

ـ جريمة قتل، بل تعذيب ثمَّ صَلْب بشع، لمحو الخطايا! 

ـ لكي تُمحَى الخطايا: لا بد من ارتكاب أبشع الخطايا على الإطلاق! 

ـ خطيئة تُفَّاحةٍ واحدةٍ بخطيئة صَلْبٍ بشعةٍ لآدمي؟!  أيُّ منطقٍ هنا؟ وأيُّ دِينٍ؟ وأيُّ إله؟! 

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

هنا دخل علينا (أحمد بن الحُسين) من الشُّبَّاك، وهو يُنشِد:

وَيَستَنصِرونَ الَّذي يَعبُدونَ  :::  وعِندَهُمُ أَنـَّـهُ قَد صُلِبْ

لِـيَـدفَـعَ ما نـالَـهُ عَـنـهُـمُ  :::  فَيا لَلرِّجالِ لهذا العَجَبْ!

ـ عندهم أَنَّهُ قد كان ضحيَّةً لمحو الخطايا عن البَشر، يا (أبا الطيِّب).  دعك في مدح (سيف الدَّولة) و(كافور الإخشيدي)!  ليس ينقصنا المتنبئون هاهنا، يا أبا حُمَيد!  

ـ إنَّ تصوُّر إلهٍ على هذا النحو، وتصويره هكذا، هو أكبر من كلِّ الخطايا، وأفظع من كلِّ الإساءات إلى الرحمن! 

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ أ فيظن عاقلٌ أنَّ مِثل هذا التصوُّر يليق بإلهٍ إغريقيٍّ، أو براهميٍّ، أو فرعونيٍّ، ليليق بربِّ العالمين؟! الذي "إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُن فَيَكُونُ!"  أم تراه كان في حاجةٍ إلى أبناء، وإلى ضحايا، ليتخطَّى مُعضلة الخطيئة الأزليَّة، فيسدِّد لنفسه بنفسه فاتورة ما ارتكبه الإنسان من أكل التُّفَّاح القديم؟!  وكيف لا يجد من أريحيَّة كرمٍ ولا عفوٍ، إلَّا بسفك دم ابنه البريء، كفَّارة؟!

ـ ماذا ترى في سيناريو هذا الفيلم؟

ـ إنَّ هذه العقليَّة التي ركَّبت الفكرة محض عقليَّة وثنيَّة، تجاوزتْها العقليَّة البَشريَّة، حتى في النظرة إلى مُلوك البَشر وطُغاتهم، غير أنَّها كانت خلال تلك العصور البائدة متساوقةً مع منطق العقليَّة الطفوليَّة في تلك الأزمنة؛ فكما كان الحاكم الذي يستحقُّ الاحترام قديمًا هو ذلك الإمبراطور الجبَّار الدَّموي، كانت آلهة الشعوب البدائيَّة كذلك.  والفراعنة، على سبيل النموذج، لم يأتوا من فراغ، ولم يتفرعنوا ويتألَّهوا من تلقاء أنفسهم، بل الشعب هنالك كان عبدًا بطبيعته. كذلك كان الإله الذي يستحقُّ العبادة لدَى تلك الأُمم، هو الإله الناريُّ الأحمر، الذي يشرب الدماء، ولا يرضيه إلَّا سفكها، ولا يشفع عنده إلَّا القتل والصَّلب والحرق والضحايا البَشريَّة.  فإذا أفرط من كأس رحمته، ضحَّى بابنه الوحيد، ليحلَّ هذا الإشكال العويص!  لا حول ولا حلول هنالك أكثر ذكاءً وحكمةً ورحمة!  لكن ما العجيب؟  ذلك تراثٌ وثنيٌّ، كان يعتقد في فكرة التضحية للآلهة بسفك الدِّماء البَشريَّة كي ترضى.  وهي فكرةٌ عتيقة، معروفة في منطقة ما يُسمَّى (الشرق الأوسط) بخاصَّة.(4)  ذلك أن التضحية بالأبناء والبنات للمعبود عادةٌ قديمةٌ معروفة.  ولمَّا ترقَّى العقل البَشري، والسَّويَّة الأخلاقيَّة، شُويئتين، تطوَّرت الأضحية من أولاد البَشر إلى أولاد الحيوان المستأنس.

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ بل الزم عقلك أنت، يا هذا!  فمنبع العقل والدِّين واحد، ولا يتعارضان، ولكنَّ الناس بربِّهم وعقلهم يكفرون!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 ........................

(1)  عن الجرائم الأميركيَّة، في حرب (فيتنام) نموذجًا، ومواقف (نعوم تشومسكي)، يُنظَر مثلًا:

Noam Chomsky’s “Responsibility of Intellectuals” after 50 years: It’s an even heavier responsibility now:

https://goo.gl/1k581C

(2)  حول الشيوعيَّة- في السِّباخ العَرَبيَّة- وأخلاقها وممارساتها، يكفي الاطِّلاع على نماذج من اعترافات الشاعر (بدر شاكر السيَّاب)، في كتابه "كنتُ شيوعيًّا"، (منشورات الجَمَل، 2007). 

(3)  ستويل، إديث، (2013)، ثلاث قصائد عن العصر الذَّرِّي، ترجمها: أبو غيلان بدر شاكر السيَّاب، (ضمن كتاب "من نصوص السيَّاب الأدبيَّة المترجمة")، (بغداد: وزارة الثقافة)، 104.

(4)  يُنظَر كتابي: (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّة: نحو رؤية نقديَّـة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 46.

الحرب سلوك بشري أزلي تتوارثه الأجيال عقب الأجيال، ولابد من معطيات تعزز تكراره والإستثمار فيه وربما يمكن الإقتراب من أسباب الحروب كما يلي:

العدوانية

البشر يختزن عدوانية هائلة متحفزة للإنطلاق المستعر، والتعبير عما فيها من طاقات تدميرية ذات تداعيات وخيمة، ويبدو أن التفاعلات البشرية تتسبب بتراكمات عدائية، تتعتق في أعماق الأجيال، وتتسبب بإنفجارات كبيرة تأتي في مقدمتها الحروب، وهي تشبه غضب الأرض وإنبثاق براكينها وأعاصيرها الفتاكة.

الإستحواذية

البشر لديه نزعة للإستحواذ على ما يمدّه بالقوة، والقدرة على التمكن من محيطه وتأمين سلطانه الذاتي، وعندما تتفاعل العديد من الطاقات المطمورة المعبّأة بنوازع الإستحواذ، فأنها تتآلف وتتعاضد لتكوّن حالة تسوّغ ما ستذهب إليه وتدّعيه من الرغبات، والتطلعات الخالية من الأدلة الواضحة، لكنها تآصرت في العمق الجمعي وعبَّرت عن إرادتها.

الغابية

العلاقات الدولية تتميز بأنها غابية الطباع والتفاعلات، ولا توجد علاقة دولية تشذ عن قوانين الغاب الفاعلة بين المخلوقات منذ الأزل، وإدعاءات القيم والأخلاق خداعات لتمرير الآليات اللازمة للنيل من الآخر، فالتوجهات الحقيقية إفتراسية بحتة، وأينما توفرت الفرصة فالأنياب ستكشر والمخالب ستنشب، والضعيف دوما مُستلب ومُنتهب.

الإنتحارية

الإنتحار نزعة كامنة في المخلوقات، وواضحة في السلوك البشري حيث ينتحر كل عام ما يقرب من المليون شخص، وهذه النزعة قد تتطور لتكون ذات تأثيرات جماعية، وطاقات تدميرية تعصف في المكان وما فيه من الناس، والعجيب في الأمر أن البشرية تمر بفترات تتجسم فيها السلوكيات الإنتحارية وتنطلق بتعبيرات جماعية مرعبة.

الإندفاعية

طاقة الإندفاع تأخذ إلى متاهات بعيدة تقتضي السقوط في مطبات ومهاوي ذات قدرات إفنائية عالية، لأن البشر وهو مندفع تتعطل قدراته العقلية، ويفقد مهارة التفكير والتقدير الصحيح للمواقف والتحديات، فتراه كالنيران المتأججة التي تسعى للإحراق، ولا يعنيها ما ستخلفه من رماد وخراب وهشيم لا يصلح للحياة.

الأنانية الكرسوية

عندما تُبتلى المجتمعات بأنانيات متضخمة تتولى أمرها، فأن إندفاعها نحو الحروب سيكون متوقدا، لرغبتها في صناعة الأحداث الجسام التي تخلدها، وتنحتها على جدران التأريخ فلا تنساها الأجيال، وقد تكون حروبها عبثية لكنها مريرة وفظيعة تحقق نوازعها الدفينة.

حب سفك الدماء

سفك الدماء غريزة فاعلة فينا، ومعروفة في الخلق الذي كان يسعى فوق التراب منذ ملايين السنين، وما شذ جيل عن هذه العاهة السلوكية التي تمنح الفاعل شعورا بأنه يمتلك ناصية الحياة ويتحكم بمصائر الموجودات فوقها، وهي تكمن وراء التسلط المستبد والجور العارم الذي عانت وتعاني منه البشرية.

الغنائم

الحروب في جوهرها نشاطات إقتصادية، وبموجب ذلك مضى البشر يتقاتل ويأخذ ما عند غيره من المواشي والنساء والأطفال، لأن في ذلك زيادة للقوة وتحقيق لغنائم إفتراسية تمنح الغازي شعورا بالقوة، والقدرة على السيطرة والتحكم بمصائر الآخرين الذين إستولى على ما يملكونه، وهكذا هي الحرب رغم تطور الدنيا وتقدم الزمان.

الهيمنة

القوة أيا كان حجمها تميل إلى السيطرة على ما حولها وتسعى لإمتداد فضاء وجودها، وهذا شأن الإمبراطوريات عبر العصور، فما أن تبدأ كقوة ناشئة في مكان محدد صغير حى تتحرك بإتجاهات متعددة فتتمدد، وتمضي في مشوارها الإتساعي حتى تفقد القدرة على فرض سيطرتها على ما وصلت إليه فتنكمش وتنهار، وهذا سلوك دائب ومتكرر، فالقوة لا تقنع بما لديها ودوما تريد المزيد.

الدورانية

الأرض تدور وما عليها يدور، والدوران طاقة ذات تأثيرات تدفع للتغيير والتأثير، والتمكن من التجدد والتخلق والتوالد المتواصل، مما يعني أن بقاء أية حالة على وضعها أمر مستحيل، فالدوران حركة وكل متحرك يتغير، ومن دواعي ذلك أن تختلط العناصر والمفردات وتتفاعل بآليات جديدة لتأتي بما يختلف، وذلك يدفع للتصارع والتفاعلات الحامية التي تمحق وتطلق ما فيها من التطلعات.

الموارد

الصراعات القائمة فوق التراب أساسها الإستحواذ على الموارد أيا كانت، فلكي تبقى وتتقوى عليك بالإستيلاء على مصادر الطاقة التي تتبدل مع العصور، فلكل فترة زمنية مصادر طاقة معينة تحركها وتزيدها إقتدارا على التفاعل المتحدي، والقاضي بالإستثمار فيما يتوفر من موارد متنوعة للوصول إلى فرض السيطرة وتقرير مصير الآخرين، وقد بدأت هذه الصراعات بدائية وإنتهت معقدة كما يجري في واقعنا المعاصر.

القوة

من أخطر الدوافع للحروب الشعور بالقوة والتوهم بأنها مطلقة ولا تقدر عليها قوة أخرى، مما يدفع للغرور والتمادي بالإندفاع نحو التوحش والإفتراس المتكالب، مما يتسبب بتحفيز الطاقات الكامنة في الخوامل فيدفعها للتفاعل وتأسيس محور قوة يتنامى ويتحدى، وتحصل المواجهة ما بين المتوهم بالقوة المطلقة والقوة الناهضة أو المنبثقة من بحر السكون.

اليأسية

اليأس من الدوافع الشرسة التي تجعل اليائس يتصرف بآليات غير مسبوقة، وبقدرات إنفجارية ذات تأثيرات تدميرية فائقة، وكلما تنامى اليأس إندفعت البشرية نحو ما يعبر عنه من التفاعلات، ويأتي في مقدمتها الحروب، وفي زمن التواصلات السريعة، وإطلاع المجتمعات على بعضها، بدأت التعبيرات اليائسة البائسة تنتشر وتتحدى فاليائس لا يملك ما يفقده.

الإغرائية \ الدول الضعيفة

القوى تنبعج، والإنبعاجات تكون في المناطق الرخوة ، والدول الضعيفة هي المنحدرات التي تندفع نحوها القوى أيا كان حجمها، فالدول الضعيفة من أهم أسباب الحروب لأنها تتحول إلى فرائس تتكالب عليها القوى بأنواعها، وبما أن منطقتنا ضعيفة الدول فتجد الحروب تشتد فيها، وقس على ذلك الكثير من الصراعات الداخلية والخارجية.

التشامخية

التزاهي والتشامخ والشعور بالتباهي والتعالي من المشاعر الغريبة التي تهيمن على البشر وتسوقه إلى مراداتها التفاعلية فوق التراب، وينجم عن ذلك تناطحات أو تقاتلات، كما يحصل بين الأكباش أو الديكة، وتمضي مسيرة المخلوقات تحت لهيب سياط الدفع نحو الأعلى وهي تزداد إنجذابا للتراب.

توفر الأسباب والدوافع

في أحيان كثيرة تتوفر أسباب متعددة للدفع نحو الحروب، وفي جوهرها إرضاءات لحاجات نفسية كامنة في الأعماق البشرية واعية أم غير واعية، والساعي للحرب يبحث عما يسوغها ويساهم في تعزيز زخمها وديمومة التحرك بإتجاهها، ويبدو أن النفوس البشرية الجمعية تبلغ مراحل تتكاثف فيها العدوانية وتنطلق عقاربها لتلسع التراب!!

إمتلاك الأسلحة

من أخطر مسببات الحروب إمتلاك أدوات القوة بأنواعها، وخصوصا الأسلحة التي أصبحت متطورة وذات قدرات تدميرية فائقة، وبما أن العديد من الدول تمتلك الأسلحة الفتاكة، فأن نزعة إستعمالها تنبض في دنياها، وتدفعها إلى ضرورة التعبير عما لديها، وهذا من طبع البشر الذي ما أن يمتلك قوة إلا وسخرها للتعبير عن سطوته وعنفوانه وما فيه من النوازع التوحشية.

القطبية

الحروب تذكيها التمحورات حول أقطاب، يتم توصيفها بآليات تسوغ الإمحاق المتبادل بينها، ولكي تدخل الدنيا في حرب مروعة عليها أن تتجمع في متاريس عدوانية صاخبة، وذلك واضح في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يحصل في عالمنا المعاصر يشير إلى إنشاء محاور ذات عدوانية فائقة.

نزعة الإستعباد

البشر فيه طاقة دافعة لإستعباد غيره، ولا بد له أن يجد ما يبرر سلوكه، ومنذ الأزل إتخذ من لون البشرة سببا للإستعباد، وإنطلق مفهوم العبيد، الذي تطور وأصبح يشمل الدول والمجتمعات، فهناك دول مستعبَدة من قبل دول أخرى، كما أن آليات الإستعباد قد تطورت وأصبحت تجني أرباحا كبيرة وبإرادة المستعبَدين، أي أن المستعبَد صار يستلطف الإستعباد.

حب القتل

القتل غريزة كامنة في البشر، وهي أول سلوك كما تحدثنا الروايات والأساطير، فالقتل سلوك متعارف عليه، ويتنامى مع زيادة عدد البشر وتوفر أدوات القتل، وفي عصرنا هناك ما لا يحصى من مسوغات القتل وأسلحته التي جعلته سهلا وسريعا، ولا يكلف جهدا سوى الضغط على زناد.

الإنبعاج

القوة كالماء الجاري ينبعج في المنحدرات والمنكسرات، وعندما تكون دولة قوية وجارتها ضعيفة أو صغيرة فأنها تنبعج نحوها وتستحوذ على وجودها، وهي معادلة تخضع لقاعدة الأواني المستطرقة، فلا بد من الدول أن تتعادل بقوتها لكي تأمن إنبعاج القوى الأخرى نحوها.

النزعة الدينية

الحروب لأسباب دينية أو عقائدية من أكثر الحروب بين البشر، وبسببها تم قتل الملايين تلو الملايين بإسم الدين، لأن الفاعل يتحرر من المسؤولية ويكون صاحب قدرة على الإمعان بخطاياه وهو مرتاح الضمير، لأنه ينفذ أمر ما يعبده من الأرباب والآلهة، وهذه ظاهرة دفعت بشعوب الأرض إلى التصارع الدامي المرير عبر العصور.

الإنتصار على الموت بالموت

الموت شبح يطارد البشر فهو مخلوق عاقل ويعرف بأنه سيموت، وهذا الشعور متمترس في وعيه ولا وعيه، ومتوارث وقائم في أعماق نويّات خلاياه كافة، وكثيرا ما يتوهم بأنه بالقتل سينتصر على الموت الذي سيداهمه لا محالة، لكن القتل وسفك الدماء تبعثان شعورا بالتفوق على الموت بالموت.

الفكروية\ الأفكار العقائدية

الحروب عبر مسيرتها الدامية لها منشأ عقائدي ديني ودنيوي، ومعظم الأديان أو جميعها أذكت الحروب ومنحت البشر الطاقة اللازمة للقتل المروع لتجريده من المسؤولية وتأنيب الضمير بإلقاء المسؤولية على رب العقيدة التي يتبع، وعلى مَن يقوده ويلقي به في أتون الحروب، فالذي يقاتل يكون مُسيرا ولا خيار لديه.

النزوع للعدمية

ويتلخص بإنتفاء قيمة الحياة، أو تجريد الهدف من حق الحياة، فلكي تقتل عليك أن تكون من أنصار الحياة لا من أعدائها، فكيف تبرر قتل حي إن لم يكن من الذين يناهضون الحياة، فعليك أن تخترع التوصيفات المبررة للإقدام على قتله، وهذا ما يحصل في الحروب وتديره وسائل الإعلام الموجهة أو المسماة إعلام الحرب.

التصارعية

ما نغفله أن قوانين الغاب سارية المفعول في العلاقات الدولية، فالقوي لا يتردد بأكل الضعيف، وسلوك الإفتراس يتكرر في ميادين الدنيا الدامية، المحفوفة بزئير القوى الطامعة بما يزيدها قوة ويمدها بطاقات إقتدار وتواصل أكبر، فتكون الدول الضعبفة أهدافها السهلة فتقتحمها وتستأصلها، وتمتص رحيق حياتها.

التفاعلية

التفاعل بأنواعها بين المجاميع البشرية أيا كانت طبيعتها وحجمها ينجم عنه بالدوام معطيات ذات تأثيرات سلبية على الطرفين، وتحصل تأزمات وإمتهانات وتتقاطع مصالح وتنهض مطامع وتوجهات، مما يدفع إلى تقاتلات مريرة وقد مضت أوربا على هذه السكة التفاعلية لقرون.

الخداعية والإيقاعية

الكثير من الدول تتثعلب، وتسعى للإيقاع بغيرها وإفتراسها بوحشية قاسية، فلا تعنيها غير مصالحها وما يُعينها على مزيد من الفتك، فإن توددت وأذعنت، فلغاية دفية وحياة كمينة، تكشف عنها حينما تكون الفرصة مواتية والصولة قاضية.

إرادة الأرض الدوارة

الأرض أبدية الدوران ولا يمكنها أن تخور لأن في ذلك الفناء الأكيد، ولكي تدور بدقة توازنية وتجاذبية متناهية،  تحتاج لطاقة تكفل لها البقاء في المجموعة الشمسية، ويبدو أنها ذات قوانين وتطلعات ثابتة تقضي بالحروب والقتال وسفك الدماء، فأشهى طعامها الأبدان، وأعذب شرابها الدماء.

البُلهاء في الكراسي

الحروب تتناسب طرديا مع وجود البلهاء في كراسي السلطة الحكم، وكلما زاد عددهم تنامت الحروب وإشتعلت الأرض ومات الملايين من البشر، وفي زماننا الشديد تصادف أن تواجد في الكراسي العديد من أصحاب النوازع العدوانية، والدوافع الأنانية، مما يعني أن إشتعال الحروب سيدوم ويتعاظم.

طبائع القرون ونفس البشر

هناك علاقة خفية بين سلوك القرون ونفوس البشر، ومن الواضح ان الربع الأول من كل قرن يكون محفوفا بالمخاطر الجسام، ومزدحما بالويلات والأوبئة والخطوب، وتتكرر ظاهرة الإفناء وإستحضار المعدات والآلات المبتكرة للإمحاق، وكأن الأرض تريد أن تفني المزيد لتزيد، كالناعور الذي يمتلئ ليسكب ما فيه.

نوازع مطمورة

الرغبة في الفناء الذاتي والموضوعي قوة متنامية في الأعماق البشرية، وبين فترة وأخرى تتأجج في جمع من الأجيال وتتفاعل، فتجتاح وجودهم وتطغى على وعيهم وتتسيد على سلوكهم، فيندفعون نحو ما يبرهن إرادتهم التدميرية فيثبون إلى ميادين حروب فتاكة، وهذا ما حصل في عدد من مجتمعات أوربا في القرن العشرين وما آلت إليه تفاعلاتها المروعة.

التحالفية

الأسود في الغابة تتشارك في مهاجمة الفريسة ومن النادر أن تجد أسدا يطارد فريسة لوحده، لأنه أعجز عن الفتك بها بمفرده، ومثلها تجد الحروب تؤججها التحالفات ما بين الدول، ولو نظرنا العديد من الحروب التي حصلت في القرن العشرين لتبين دور التحالف في دفعها وتأجيجها، لأنه يوحي بالنصر الحاسم، وفي الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يبدو أن هذا السلوك ربما تبدد أو تغير، لتطور أسلحة المواجهة والفناء.

العظمة المتفاقمة

القوة عندما تتجاوز قدرات ما حولها وتبسط أجنحتها على غيرها، تصاب بأوهام العظمة والقدرات المطلقة على السيطرة والتدمير، وتعيش في أوهامها وتطارد سرابات تصوراتها، والقوى التي تتأسد عليها تتنامى وهي في غفلة عنها، لإنغماسها بذاتها الوهمية، وبغتة تجد نفسها وقد إرتطمت بصخرة الواقع الجديد وسقطت في أتون مواجهات عارمة.

الهيمنة المتعاقبة

الأرض فيها قوة تهيمن، ولا توجد قوى مهيمنة، ولكي تفرض أية قوة هيمنتها على القوى الموجودة حولها، لابد لها من التأسد والتفاعل بالنار لردعها وإخضاعها، فالدول لكي تخضع يجب أن تسقط في مصيدة الخسران، لتفرض عليها الشروط اللازمة لأسرها وتقرير مصيرها، فتكون الحروب ضرورية لإنجاز هدف الهيمنة.

المقامية \ التشبث بالمقام

بعض المجتمعات ذات تصورات ضيقة وتحسب أنها فوق البشر، وعليها أن تخضعهم لسطوتها مهما كان الثمن، وتربط ذلك بمعتقدات وأجندات قاسية، فترى أن لا يحق لوجود بشر غيرها فوق التراب، وأنها صاحبة الحق في إدارة شؤون الدنيا، وهي نزعات وهمية تجتاح المجتمعات بين آونة وأخرى، وصارت ذات تأثيرات مسعورة بتطور أدوات القتال.

الدفاع عن البقاء ضد التهاوي

بعض القوى تجد نفسها على شفا حفرة السقوط والإنحسار والإنكسار، فتسعى كالغريق الذي يريد التشبث بقشة، فتندفع نحو الحروب ظنا منها بأنها آخر الكي، وتتضح في سلوكيات قادتها أيضا، عندما يريدون التشبث بمناصبهم وتأكيد أنانياتهم الفاقعة العمياء.

التعاند والمعاندة

التعاند سلوك تناطحي لا يختلف عن تناطح الأكباش، وهذه النزعة التناطحية عندما تتفعل في دنيا البشر فأنها تعطل العقل وتؤجج العواطف والإنفعالات المتصلة بها، وتدفع إلى منازلات دامية، يكون فيها الخسران لجميع الأطراف، لكن الرغبة الجياشة تهيمن على السلوك وتقيده بمآلاتها المتراكمة المتفاقمة.

وفي الختام، فما تقدم إقتراب مكثف مختصر لمسيرة الدماء والدموع البشرية، وكأن المخلوقات تطحنها رحى الدوران، وتأمرها بالتآكل والإندثار، فما فوق التراب من التراب وإليه يعود!!

***

د. صادق السامرائي

20\6\2022

لحظة اعلن حكم المباراة فوز العراق على اليابان.. غمر الفرح العراقيين وغصت الشوارع بهم.. بغداد، الموصل، البصرة، اربيل، كربلاء، كركوك.. .. وهم يهزجون (بالروح بالدم نفديك يا عراق). ما كنت تعرف هذا شيعي وذاك سني وهذا عربي وذاك كردي وذاك تركماني.. فالكل وحدّهم حبهم للعراق.

تذكروا ما جرى بين (2006 و2008) يوم وصل الحال الى ان يقتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة، ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!، وثبت بالدليل القاطع ان قادة احزاب السلطة هم في حقيقتهم.. (بدو بزي افندية).

كان فوز العراق على اليابان التي لم تهزم في (25) مباراة دولية، عرسا شعبيا. ولأنني سيكولوجست (ومشكلة السيكولوجيين انهم يبحوشون بالمخفي!) فأنني رحت (ابحوش) عن اسباب هوس العراقيين بكرة القدم.. وما اذا كان هذا العرس الملاييني حالة طبيعية أم انهم (جوعانين فرح) .

ورحت ابحث في هذا الذي اسميناه (هوس)، فوجدت ان العراقيين مصابون به (عالميا)، واليكم اكثر من شاهد:

في العام (2016)، وفي مباريات كأس العالم التي فازت بها المانيا على البرازيل بهزيمة مذلّة.. حتى انني لحظتها تمنيت على المدرب الألماني ان يأمر فريقه بالتوقف عن التهديف بعد الهدف الخامس من باب (أرحموا عزيز قوم ذلّ). وباستثناء أهل الموصل، لأن داعش تحرّم مشاهدتها وتعتبرها كفرا، فان العراقيين انقسموا بين مشجع لألمانيا ومشجع للبرازيل مع انه ليس في احدهم قطرة دم المانية او برازيلية!.. وقيل ان ثلاثة حاولوا الانتحار لفاجعة هزيمة البرازيل!

ولدى مشاهدة مباراة برشلونه والريال على كأس اوروبا، قام بائع لبن بتوزيع اللبن مجانا بفوز (فريقه) الريال برغم انه من مدينة (البياع!). وطاف شوارع مدينة بغداد موكب دراجات هوائية لمناسبة فوز فريقهم برشلونه!.ووعد مدرّس رياضيات باقامة دورة مجانية للطلبة اذا فاز الريال، وانطلقت العيارات النارية بسماء بغداد لحظة احرز الريال هدفا، فيما صدحت الهلاهل بمكان آخر حين ردّ برشلونه بهدف.

قد تقولون ان ما يحصل لدى العراقيين لا يختلف عما يحصل لدى الأوربيين، وهذا صحيح لأن العوامل السيكولوجية لدى جمهور كرة القدم المتمثلة بدافع العدوان والتماهي بالغالب والتشفي بالمغلوب.. هي واحدة، لكنها عند الآخرين لها ولغيرها.. حال آخر كما سنرى.

تحليل سيكولوجي

تنفرد كرة القدم بسيكولوجيا خاصة تعزف على اوتار الطبيعة البشرية وما ورثته من تاريخها الذي يعود لمرحلة الصيد قبل ملايين السنين.. لما بينهما من شبه كبير.فالصياد يجري وراء الطريدة، ينفعل، ويصوّب، ويسدد.. وان صادها جرى له احتفال واستقبل استقبال المنتصر.والآلية السيكولوجية ذاتها تعمل في لاعب كرة القدم والجمهور، مع ان اللعبة تبدو لآخرين سخيفة.. اذ كل ما فيها ان (22) شخصا يتقاذفون كرة بأرجلهم ورؤوسهم.. بطريقة تحرّك جهازنا الانفعالي و تثير ولعا وشغفا وهوسا.. بل عنفا وعدوانا يؤدي الى القتل احيانا بين المشجعين.

وما بين ساحة الحرب وساحة اللعب.. حالة سيكولوجية واحدة، حيث في الاولى جيشان يتقاتلان ويمارسان الخدعة من اجل فوز احدهما وهزيمة الآخر.. وفي الثانية فريقان يعتمدان الخدعة ايضا و(يتقاتلان) بطريقة حضارية اخضعت الصراع لقوانين تضبطه.. تحيط بهما جماهير ترفع اعلام دولها! أو فرقها. ومع ان كرة القدم سجّلت فضلا على البشرية بأن نقلت الصراعات بين الدول من ساحات الحروب الى ساحات كرة القدم، الا انها كانت احيانا سببا في تأجيجها.

وتجسد كرة القدم ثلاث حاجات متأصلة في الطبيعة البشرية هي: حاجة الانسان الى (التغلّب) وقهر الخصم، ونزعته الى الصراع مع الآخرين، وحاجته الى التماهي بـ(المنتصر).. اي الشعور بالزهو وتوكيد الذات.

وهنالك سبب فسلجي ايضا، هو ان الحياة مملة وان الدماغ يحتاج الى تنشيط، وان كرة القدم بما فيها من ترّقب وتوتر وصراخ، تزيح عن الدماغ انشغالاته اليومية بالهموم وتنعشه بما تحدثه فيه من انفعالات وايعازات بافراز هرمونات منشطة.

ان الحالة النفسية الصحية هي الاستمتاع بمشاهدة اللعبة والاعجاب بمهارة وذكاء هذا اللاعب او ذاك، فاذا ما تعدتها من الاعجاب الى التماهي فانها تعني شيئا آخر في الصحة النفسية والحالة العقلية.

قد نذهب بعيدا في هذا التحليل اذا قلنا ان المشاهد الذي (يتماهى، يتوحد) بشخصية لاعب مميز (ميسي مثلا مع انه ما كان افضل من روبن).. وانه يفرح لفرحه، ويغضب اذا اصابه اذى او خسر فريقه.. وينفعل ويسحب انفاسا متلاحقة من النرجيله، وكؤوسا بيضاء او حمراء، ويقضي ليلته كدرا، ويتعارك مع زوجته ويضرب اطفاله.. يمكن ان يكون تصرفه هذا مؤشرا عن احباط او شيء ينقصه بغض النظر عن نوعه ما اذا كان نفسيا، عاطفيا، اجتماعيا، او عضويا.

وكحقيقة سيكولوجية فان التماهي يكون في علاقة طردية مع ما يتعرض له الفرد من اخفاق وشعوره بالعجز من اصلاح الحال، ولا اظن شعبا في العالم المعاصر تعرض الى ما تعرض له العراقيون من فجائع وخيبات.ولهذا فان التماهي عند العراقيين في كرة القدم العالمية حالة عصابية (مرضية) ناجمة عن قساوة وديمومة هزائمهم النفسية في الحياة العامة، وانهم يجدون في التوحّد بفريق فائز ما ينفس عنها، وما يجعل من الفريق الرياضي الآخر بديلا لاشعوريا عن خصمهم السياسي فيسقطون عليه انتقامهم المكبوت. ففي العام (2010) كان العراقيون يتابعون مباريات كأس العالم بمزاج خاص.. وكنّا كتبنا في حينه، انهم صحيح يشاركون ملايين العالم في شغفهم بكرة القدم لكنهم الوحيدون الذين يقبلون عليها وهم كدرون.. (لتوالي الخيبات على العراقيين وتكرر الاحباطات التي تولّد لدى الجماهير المحرومة حاجة البحث عما يشفي غليلهم، وتمني مجيء ” البطل المخلّص”.. فضلا عن ان مشاهدة مباريات كأس العالم تفعل في المضنوك ما يفعله المخدّر في المحبط الهارب اليه من واقع خشن.. فكيف بالمواطن العراقي اذا كان رئيس جمهوريته ورئيس وزرائه يتقاضيان 150 مليون دينار شهريا فيما هو يكدح ” والعشا خبّاز”.. وفي طرق ملغومة بالموت!.وكيف اذا علم ان هناك 36 ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وهناك 13 مليون عراقي دون مستوى خط الفقر!.

لقد فاز العراق على اليابان .. وقد يأتي بكأس بطولة آسيا وتكون الفرحة أكبر، لكن العراقيين يبقون مفجوعين بوطنهم من لعبة السياسة التي تجري على ساحة الوطن.. بين فرقاء افتقدوا اخلاق اللعبة وقواعدها.. ولعبوا من اجل كل شيء الا الفوز بـ(كأس الوطن!).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: موتي مزراحي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(في المنطق، التناقض هو الخطيئة الكبرى، والاتساق هو الفضيلة الأولى".. باتريك شو، المنطق وحدوده (1981)

***

في عام 2018، أعلن الجراح العام الأمريكي أن استخدام السجائر الإلكترونية بين الشباب أصبح وباءً في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تم تشجيع الآباء على التحدث مع أطفالهم حول التدخين. إحدى نصائح الجراح العام للآباء هي "أن يكونوا قدوة إيجابية من خلال الامتناع عن التبغ" ولكن ماذا لو كان الوالدان مدخنين أيضًا؟ ماذا لو أجاب الأطفال، عندما طلب منهم آباؤهم الإقلاع عن التدخين، "أنت تدخن التبغ، فلماذا لا أفعل ذلك؟"

هذا الرد هو مثال على الحجج الشخصية. الحجج ضد الشخص هي محاولات لتقويض ما يقوله شخص ما، ليس من خلال الانخراط في ما يقال ولكن من خلال التشكيك في الشخص الذي يقول ذلك. على سبيل المثال، إجابة الطفل تكون موجهة إلى الوالدين، في ظل فشلهما في تقديم القدوة الحسنة، وليس إلى مخاوف الوالدين من التدخين.

وجهة النظر الشائعة في وسائل الإعلام هي أن الهجمات الشخصية هي حجج سيئة. وفقًا لموقع Urban Dictionary الإلكتروني: "يتم استخدام الأشخاص غير الناضجين و/أو غير الأذكياء للإعلان عن أنفسهم لأنهم غير قادرين على مواجهة خصمهم باستخدام المنطق والذكاء." لكن أليس هذا التعريف في حد ذاته هجومًا شخصيًا على أولئك الذين يقدمون حججًا شخصية؟ وخلافًا لوجهة النظر الشائعة، أعتقد أنه لدينا أحيانًا أسباب وجيهة للتجادل ضد هذا الشخص. بمعنى آخر، يمكن أن تكون الحجج الشخصية حججًا جيدة، خاصة عندما يتم تفسيرها على أنها دحض لمناشدات السلطة.

كثيرًا ما نسعى للحصول على مشورة الشخصيات ذات السلطة، مثل الأطباء والزعماء الدينيين والزعماء السياسيين. إن طلب مشورة ذوى السلطات واتباعها هو مسألة تفكير عملي، وهو التفكير فيما إذا كانت الإجراءات حكيمة أم غير حكيمة. بمجرد أن نتلقى النصائح من السلطات، يبدو أن رفض اتباع هذه النصائح سيكون أمرًا غير حكيم. إذا قام طبيبي الخاص بتشخيص حالتي ووصف لي الدواء، فسيكون من غير الحكمة تجاهل تشخيصه  ورفض تناول الدواء.

والآن، هل هناك ظروف لا يكون من الحكمة فيها رفض الاستماع إلى السلطات واتباع نصائحها؟ نعم: تحدث هذه المواقف عندما تكون السلطة متورطة بعدم الاتساق العملي، أي أنها لا تمارس ما تبشر به. ولنتأمل هنا حالة لي جانج ريم، وهو مرجع ديني في كوريا الجنوبية، الذي أخبر أتباعه أن العالم سينتهي في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1992. واستنادًا إلى تنبؤاته بيوم القيامة، ترك العديد من أتباعه وظائفهم، وباعوا منازلهم وتنازلوا عن ممتلكاتهم لكنيسته؛ لقد تركوا أيضًا عائلاتهم، معتقدين أنهم سيُرفعون إلى الجنة قبل أن يجتاح الوباء الأرض. اتضح بعد ذلك أن لي جانج ريم كان لديه سندات بقيمة 800 ألف دولار، والتي لم يكن من المتوقع أن تستحق الدفع إلا بعد التاريخ الذي بشر فيه بأن العالم سينتهي.

قبل أن يتنازلوا عن مدخراتهم إلى لي جانج ريم، كان من الممكن أن يفكر أتباعه على النحو التالي:

1- باعتباره مرجعًا دينيًا، يقول لي جانج ريم إنه يتعين علينا اتخاذ الاستعدادات، مثل التخلي عن الممتلكات، قبل نهاية العالم في عام 1992.

2- ولكن لي جانج ريم لا يستعد لنهاية الزمان (فلديه ما قيمته 800 ألف دولار من السندات التي من غير المتوقع أن يحين موعد استحقاقها إلا بعد عام 1992).

3- نصيحة لي جانغ ريم فيما يتعلق بنهاية الزمان تتعارض مع أفعاله.

4- لقد تم تقويض مكانة لي جانغ ريم كسلطة دينية، وخاصة في الأمور المتعلقة بنهاية الزمان.

5- لذلك، لن يكون من الحكمة رفض اتباع نصيحة لي جانغ ريم.

وهذه حجة شخصية، لأن الهجوم موجه ضد الشخص وليس نصيحته. ومقدمات هذه الحجة (1-4) تستدل على أن تصرفات السلطة لا تتفق مع نصيحته دليلاً على الاستنتاج (5) بأن عدم اتباع نصيحته ليس من الحكمة. بعد كل شيء، فهو لا يتبع نصيحته الخاصة. ولو كان لأتباع لي جانج ريم أن يجادلوا بهذه الطريقة، لما كانوا قد جادلوا بشكل مشروع فحسب، بل كان يمكنهم أيضا أن ينقذوا أنفسم من الكثير من البؤس.

عندما يتم تقديم شكوى إلى سلطة ما، فمن الطبيعي الرد بالإشارة إلى أن السلطة محل الشكوى تتصرف بطريقة لا تتفق مع توصياتها. ويقدم هذا التناقض العملي سببا وجيها للاعتقاد بأن رفض اتباع نصيحة السلطة لن يكون تصرفا غير حكيم. من المهم أن نلاحظ أن هذا النوع من الحجج الشخصية لا يكون مشروعًا إلا كرد على مناشدات السلطة. إذا أردنا أن نعرف ما إذا كان ينبغي علينا أن نتخلى عن ممتلكاتنا استعدادًا لنهاية الزمان، والسبب الوحيد الذي يدفعنا للقيام بذلك هو نصيحة المرجع الديني لي جانج ريم، فبالنظر إلى التناقض العملي بين نصيحته وأفعاله، في الواقع ليس لدينا سبب وجيه للتخلي عن ممتلكاتنا استعدادًا لآخر الزمان.وبعبارة أخرى، لنفترض أن أحدهم يقول: "يجب أن تستعد لآخر الزمان"، فنسأل: "لماذا؟" الإجابة "لأن لي جانغ ريم يقول ذلك" لن تكون إجابة مقنعة، حيث يمكننا الإشارة إلى أن نصيحته تتعارض مع أفعاله.

من المهم أيضًا أن نلاحظ أن هذا النوع من الحجج الشخصية غير قابل للدحض، أي أنه يمكن هزيمته باعتبارات أخرى، لأنه قد تكون هناك أسباب أخرى وراء ضرورة اتباع نصيحة السلطة على أية حال، حتى لو كانت السلطة متورطة بعدم الاتساق العملي. على سبيل المثال، في عام 2017، كانت الممثلة والمخرجة الإيطالية آسيا أرجنتو من أوائل النساء اللاتي اتهمن المنتج السينمائي الأمريكي هارفي وينشتاين بالاعتداء الجنسي. أصبحت شخصية بارزة في حركة #MeToo ومدافعة عن ضحايا الاعتداء الجنسي، داعية إلى الاستماع إلى الناجين من الاعتداء الجنسي وتصديق قصصهم. وفي وقت لاحق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن: "أرجنتو رتبت بهدوء لدفع 380 ألف دولار لمتهمها: جيمي بينيت، الممثل الشاب وموسيقي الروك الذي قال إنها اعتدت عليه جنسيا في غرفة فندق في كاليفورنيا قبل سنوات".

من الواضح أن تصرفات أرجينتو تتعارض مع رسالتها كقائدة في حركة #MeToo، ولهذا السبب سيكون من المشروع تقديم الحجة الشخصية التالية ضدها:

1- وباعتبارها خبيرة في شؤون النجاة من الاعتداء الجنسي، تقول أرجينتو إنه ينبغي علينا الاستماع إلى الناجين وتصديق قصصهم.

2- لكن أرجنتو لا تستمع إلى الناجين (لقد دفعت مقابل إسكات متهمها).

3- نصيحة أرجنتو حول كيفية علاج الناجين تتعارض مع تصرفاتها.

4- لقد تم تقويض مكانة أرجنتو كسلطة في مجال الناجين من الاعتداء الجنسي، وخاصة في الأمور المتعلقة بمعاملة الناجين.

5 -لذلك، لن يكون من الحكمة رفض اتباع نصيحة أرجينتو.

بالطبع، هناك أسباب وجيهة للاستماع إلى الناجين من الاعتداء الجنسي وتصديق قصصهم. لذا ينبغي علينا أن نفكر دائمًا في النصيحة نفسها وما إذا كانت هناك أسباب وجيهة لاتباعها بشكل مستقل عما تقول السلطة إنه ينبغي علينا فعله.ومع ذلك، إذا تم حثنا على اتباع نصيحة الشخصيات ذات السلطة فقط على أساس أنهم سلطات، فإن التصرف بطريقة لا تتفق مع نصائحهم الخاصة من شأنه أن يقوض مكانتهم كسلطات، وبالتالي يعطينا أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن إن رفض اتباع نصيحتهم لن يكون أمرًا غير حكيم.

إذا كنت على حق، فإن الأطفال المتمردين الذين يشككون في نصيحة آبائهم بشأن التدخين بقولهم: "أنت تدخن التبغ، لماذا لا أفعل ذلك؟ وذلك بكونهم هم أنفسهم مدخنين، وبالتالي فشلوا في تقديم مثال إيجابي. لقد قوض الوالدان مكانتهما كسلطتين يجب اتباع نصائحهما.لقد قوض الآباء مكانتهم كسلطات يجب اتباع نصائحهم.  ونظراً لهذا التناقض العملي، لن يكون من الحكمة أن يرفض الأطفال اتباع نصيحة والديهم بالتوقف عن التدخين. بالطبع، هناك أسباب وجيهة أخرى تمنع الأطفال من التدخين. ولكن لأن والديهم يقولون ذلك، فمن المحتمل ألا يكون أحدهم.

***

........................

المؤلف: موتي مزراحي/ Moti Mizrahi: أستاذ مشارك في الفلسفة في كلية الآداب والاتصالات في معهد فلوريدا للتكنولوجيا. وتشمل كتبه الصورة الكونية للعلم: هل حان الوقت للتحول الحاسم؟ (2018)، نسبية النظرية: المواقف والحجج الرئيسية في النقاش حول الواقعية العلمية المعاصرة/مناهضة الواقعية (2020)، ومع وضد العلموية: العلم والمنهجية ومستقبل الفلسفة (2022).

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إذا كان هذا يخيفك، فضع في اعتبارك أن الأشخاص ربما يحبونك أكثر مما تعتقد.

***

في كتاب إليزابيث جيلبرت "السحر الكبير"، شاركت امرأة في السبعينيات من عمرها درسًا في الحياة في فصل "لا أحد يهتم بك". وقالت إنه مع تقدمنا في السن، لا نتوقف عن الاهتمام بما يعتقده الآخرون عنا فحسب، بل "ندرك في نهاية المطاف هذه الحقيقة المحررة - لم يكن أحد يفكر فيك، على أية حال".

"إنهم ليسوا كذلك. لم يكونوا كذلك. كتب جيلبرت: "لم يكونوا كذلك أبدًا". "الناس في الغالب يفكرون في أنفسهم فقط. ليس لدى الناس الوقت الكافي للقلق بشأن ما تفعله، أو مدى جودة قيامك به، لأنهم جميعًا منشغلون بدراماتهم الخاصة.

من المؤكد أن الناس مشغولون بأفكارهم الخاصة، ولكن هل صحيح أننا نمضي في الحياة دون الكشف عن هويتنا، ولا نسكن عقول الآخرين كما يسكنون عقولنا؟ ليس تمامًا، وفقًا لدراسة جديدة نُشرت في نهاية شهر أكتوبر في مجلة علم النفس التجريبي: اتضح أن الناس يفكرون فيك.

من خلال ثماني تجارب شملت أكثر من 2100 شخص، وجد علماء النفس الاجتماعي جوس كوني، وإيريكا بوثبي، وماريانا لي أننا نقلل بانتظام من عدد المرات التي يفكر فيها الآخرون فينا. يفترض الناس أنها أحادية الجانب عند التركيز على التفاعلات والمحادثات الاجتماعية؛ في الواقع، يفكر الآخرون فيهم أيضًا. أطلق الباحثون على هذه الفجوة بين ما يعتقده الآخرون عنا حقًا ومدى قلة افتراضاتهم، اسم "فجوة التفكير".

نقضي حوالي نصف حياتنا في التواصل، غالبًا من خلال المحادثة. بعد أن نتحدث مع أصدقائنا أو عائلتنا أو معالجينا أو الغرباء الذين نلتقي بهم، نفكر في تلك المحادثات لاحقًا. نحن نعيد تشغيل ما قيل، أو نمضغ النصائح، أو نضحك على شيء وجدناه مضحكًا، أو نفكر في أية أفكار انتقادية. تكشف الفجوة الفكرية كيف أن الناس عمومًا لا يدركون أن شركائهم في المحادثة يفعلون نفس الشيء بالضبط.

كان كوني، الأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، مهتمًا منذ فترة طويلة بالكيفية التي يمكن بها للمحادثات أن تكشف عن تصورنا لصورتنا، أو كيف نعتقد أن الآخرين يروننا. كيف نفكر في أنفسنا عندما نتحدث مع الآخرين؟ كيف نتذكر هذه المحادثات ونفكر في الآخرين وفي أنفسنا لاحقًا؟ يسلط بحثه وأبحاث آخرين، بما في ذلك هذه الدراسة الأخيرة، الضوء على كيف يمكن أن تكون هذه التصورات الفوقية متحيزة وسبب أهمية ذلك: يمكن لهذه التحيزات أن تقود سلوكياتنا وتؤثر أيضًا على علاقاتنا مع الآخرين.

لا تحدث فجوة التفكير في كل محادثة وعلاقة.هناك بعض الحالات أو العلاقات التي لا يتم فيها تبادل مقدار المساحة العقلية التي يشغلها عقل الشخص. قال كوني: "ربما تفكر والدتك فيك أكثر مما تفكر بها، للأسف".

لكن في المتوسط، وجد الباحثون أن الفجوة الفكرية مستقرة بشكل ملحوظ.غطت التجارب جميع أنواع المحادثات والعلاقات: الطلاب في قاعات الطعام، والغرباء في المختبر، وأزواج الأصدقاء. من الثرثرة الطائشة إلى الحجج، وجدت الدراسة أن الناس ابتعدوا عن المحادثات وهم يفكرون في الشخص الذي يتحدثون إليه، على افتراض أن الشخص الآخر لم يفعل الشيء نفسه.

لماذا لا ندرك أننا في عقول الآخرين؟ وقال كوني إن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن أفكارنا متاحة بشكل أكبر. لتوضيح ما هو واضح، نحن نعرف أفكارنا أفضل من أفكار الآخرين. إنهم يلعبون في حلقة مستمرة، بينما تكون أفكار الآخرين لغزًا محصورًا في وعي شخص آخر.

عندما نتحدث مع الآخرين، نحصل على اتصال مباشر بمونولوجهم الداخلي، بالإضافة إلى أدلة غير لفظية حول ما يفكر فيه الشخص، مثل نبرة الصوت أو لغة الجسد. وبمجرد انتهاء المحادثة مع شخص ما، تنقطع كل هذه الإشارات. وكتب المؤلفون: "هذا تحول نفسي مهم حيث ينتقل الناس من الارتباط الوثيق بأفكار شخص آخر إلى العزلة مع أفكارهم الخاصة". ثم "تتسع الفجوة" بين أفكارك وأفكار الآخرين.

في إحدى التجارب، نظر الباحثون إلى فجوة التفكير مع مرور الوقت. ومع مرور الساعات، اتسعت الفجوة الفكرية أكثر فأكثر؛ افترض الناس أن الآخرين يفكرون بهم بشكل أقل فأقل. يعتقد كوني أن السبب في ذلك هو أنهم ما زالوا يتمتعون بنفس القدرة على الوصول إلى أفكارهم الخاصة، لكنهم أصبحوا غير متأكدين بشأن الآخرين.

قد تؤثر الفروق الفردية على مقدار مساحة التفكير التي يتمتع بها الأشخاص أو ما يشعرون به. يريد كوني القيام بالمزيد من العمل حول كيفية عمل فجوة التفكير لدى الأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي، أو لدى الأشخاص الذين لديهم اختلافات في العمر أو العرق أو المهنة.

لكن بشكل عام، تتناغم الفجوة الفكرية مع الأبحاث التي تشير إلى أن الناس أكثر وعيًا بأفكارهم الخاصة. قالت جوليانا شرودر، عالمة السلوك في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، إنه يشار إلى هذه المشكلة باسم "مشكلة العقول الأقل": عندما تبدو أفكارنا أكثر بروزًا، فإننا نوليها المزيد من الاهتمام. والنتيجة هي أن الناس قد ينظرون إلى عقول الآخرين على أنها أضعف من عقولنا.

كتبت شرودر وزملاؤها: «على الرغم من أنه قد يكون من السهل جدًا التفكير في أفكار الآخرين، أو مشاعرهم، أو حالاتهم العقلية الأخرى، إلا أن العقل المنسوب للآخرين قد يكون مفتقرًا بشكل منهجي إلى التعقيد والعمق والكثافة، لأن "عقول الآخرين هي بطبيعتها غير مرئية مقارنة بعقولنا ".

في فصل من كتاب صدر عام 2014، عكست شرودر وزملاؤها كيف يمكن التغلب بسهولة على المسافة الجسدية في الحياة الحديثة من خلال السفر أو التكنولوجيا، ولكن "أعظم رحلة في الحياة الحديثة ليست الانتقال من مكان إلى آخر، بل بالأحرى أن تكون" قادرا على الانتقال من عقل إلى آخر."

وقالوا إن البشر قادرون بشكل ملحوظ على القيام بذلك. لدينا “قدرة غير مسبوقة على التفكير في عقول الآخرين؛ والتفكير في معتقدات ومواقف ونوايا الآخرين؛ أو لتتبع سمعة الآخرين وتذكر من يعرف ماذا داخل المجموعة. ولكن حتى مع كل هذه القدرات، فإن التحيز يزحف ويمنعنا من الإدراك بشكل صحيح تمامًا.

فجوة الفكر ليست هي الطريقة الوحيدة التي نسيء بها تفسير أفكار ومشاعر الآخرين فيما يتعلق بأنفسنا. في بحث نشر عام 2017 حول "وهم عباءة الخفاء"، وجد الباحثون أنه عندما نكون في أماكن مثل غرف الانتظار أو المقاهي أو مترو الأنفاق، فإننا ننظر حولنا بانتظام إلى الأشخاص الآخرين، لكننا لا ندرك مدى قيام الآخرين بنفس الشيء معنا . نعتقد أننا نراقب الآخرين أكثر مما يراقبوننا. (من ناحية أخرى، يحدث "تأثير الأضواء" عندما أُجبر الأشخاص في إحدى التجارب على ارتداء قميص باري مانيلو* في الأماكن العامة، وذكروا أن 50% من الأشخاص لاحظوا ذلك في حين أن 25% فقط لاحظوا ذلك بالفعل).

كتب المؤلفون: يبدو أنه إذا كنا نخجل من شيء ما، فإننا نعتقد أن الآخرين يلاحظونه أكثر مما يفعلون في الواقع. لكن أثناء حياتنا اليومية، نعتقد أن الآخرين يراقبوننا أقل مما نراقبهم. "ومع ذلك، إذا تُرِك الناس لأجهزتهم الخاصة، مع وجود القليل من الأدلة على أن الآخرين يراقبونهم، فإنهم بدلاً من ذلك يشعرون بأنهم غير مرئيين نسبيًا، وكأنهم هم الذين يحدقون في العالم، ولا يدركون أنهم أيضًا محط اهتمام الآخرين".

هناك تحيز آخر عمل عليه كوني وبوثبي وهو ما يسمى بـ "فجوة الإعجاب"، أو كيف يقلل الناس من مدى إعجاب الناس بهما بعد التحدث إليهما. لقد تم إظهار "فجوة الإعجاب" عبر عدد من الدراسات المختلفة الآن، في المحادثات القصيرة والطويلة، بين الرجال والنساء، وفي المحادثات الجماعية وكذلك المحادثات الفردية. لقد وجد الباحثون فجوة الإعجاب لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات (وليس أربعة).

لماذا نتحيز للاعتقاد بأن الآخرين لا يحبوننا كثيرًا؟ تمامًا مثل الفجوة الفكرية، من الصعب علينا أن نعرف ما يفكر فيه الآخرون -إيجابيًا أو سلبيًا- بعد أن نتركهم. من السهل مقارنة التفاعل الاجتماعي بنسخة داخلية مثالية من أنفسنا وننتقدها.

قال آدم ماستروياني، زميل ما بعد الدكتوراه في كلية كولومبيا للأعمال والذي درس فجوة الإعجاب، أننا قد نركز على عيوبنا الاجتماعية في محاولة لإصلاحها. وقال: "نحن مهووسون بالنكتة التي لم تصلنا، والاسم الذي نسيناه، والشيء المهمل الذي لم يكن علينا أن نقوله، وهذا يجعلنا أكثر مرحاً، وأكثر انتباهاً، وأكثر حذراً في المرة القادمة". لكنه يملأ رؤوسنا أيضًا بأفكار سلبية عن أنفسنا، مما يدفعنا إلى افتراض الأسوأ بشأن ما يعتقده الآخرون عنا-  في هذه الحالة، لا يفكرون بنا كثيرًا، وعندما يفعلون، فالأمر ليس كذلك. ليس جيدا".

إن فجوة التفكير والتعاطف معًا مثيرتان للاهتمام لأن الناس لديهم تحيزات أخرى تعمل في الاتجاه المعاكس، نحو التفوق الوهمي: يحدث تأثير بحيرة ووبيجون عندما يعتقد الناس أنهم أعلى من المتوسط في معظم السمات. يحدث انحياز التفاؤل عندما نعتقد أنه حتى لو طلق أشخاص آخرون أو تعرضوا لحوادث سيارات، فلن يحدث نفس الشيء لنا.

ويحدث العكس مع وجود فجوات الإعجاب والفكر. قال فوتر وولف، الأستاذ المساعد في جامعة أوتريخت في هولندا والذي يدرس العلاقات الاجتماعية، إن ذلك قد يكون بسبب إضافة حالة عدم اليقين. قال وولف: "على الرغم من أن البشر موهوبون نسبيًا في فهم الحالات العقلية للآخرين، مقارنة بأنواع الحيوانات الأخرى، إلا أننا أيضًا النوع الوحيد الذي يخفي حالاتنا العقلية عن شركائنا لأسباب أخرى غير المنافسة" مثل الأدب.

يحدث عدم اليقين هذا في التفاعلات التي تعتبر أيضًا مهمة جدًا. إن تفاعلاتنا الاجتماعية وكيفية تقييم الآخرين لنا تساعدنا على الانتماء إلى مجموعات مختلفة وتحقيق أنواع أخرى من النجاح، سواء كان رومانسيًا أو مهنيًا. قال وولف إنه قد تكون هناك فائدة تطورية للتقليل من مدى تفكير الناس فينا أو إعجابهم بنا، لأنه قد يشجعنا على مواصلة الانخراط في السلوك الاجتماعي الإيجابي تجاه الآخرين. إذا كنا عرضة للمبالغة في التقدير، فقد يأتي ذلك بنتائج عكسية إذا كان ذلك يعني أننا لم نقضي المزيد من الوقت في العلاقة.

كل هذه التحيزات المتناقضة يمكن أن تؤدي إلى التشاؤم بشأن ما يعتقده الآخرون عنا: المفهوم القائل بأن الآخرين بالكاد يفكرون فينا، وعندما يفعلون ذلك، يكون سلبيًا. قال كوني إن هذا التشاؤم يمكن أن يكون له عواقب. يمكن أن يؤثر ذلك على معتقداتنا حول مدى رغبتنا في التحدث إلى الغرباء، أو مدى استعدادنا لإجراء محادثات صادقة حول مواضيع صعبة.

في المرة الأخيرة التي تشاجر فيها كوني، قال إنه شعر وكأنه الشخص الوحيد الذي تجاوز الأمر، وكرر كل وجهة نظر، واستعاد القتال. وقال: "لسبب ما، نعتقد أن الآخرين قد قضوا يومهم ببساطة". تذكر أن هذا غير صحيح يمكن أن يضع المحادثات الصعبة على أساس أفضل.

قد تؤثر فجوة التفكير أيضًا على مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية. يقول ماستروياني: "أحد الأفكار الشائعة المقلقة اجتماعيًا هي: "لا أحد يهتم بي، لا أحد يلاحظني، لا أحد يعتقد أنني مهم". قد تنشأ هذه الأفكار من فجوة التفكير، والتعرف عليها قد يقضى عليهاا".

يمكن للتصورات الخاطئة أن تجعلنا نعتقد أن الآخرين يفكرون بنا بشكل أقل، ويحبوننا أقل مما يفعلون في الواقع. قال ماستروياني: "إذا قللت من عدد المرات التي تخطر على بال شخص ما، فقد لا تدرك مدى اهتمامه بك". "جزء من ما يهمني هو التفكير ببساطة في عدد العلاقات التي يجب أن تتعثر أو تفشل بسبب سوء الفهم مثل هذا."

عندما نشر حساب Neuroskeptic على تويتر ملخصًا لمقالة فجوة التفكير، استجاب الكثيرون بالتعبير عن القلق. وقال أحد الأشخاص على تويتر: "لا أريد التحدث مع أي شخص مرة أخرى". أجاب آخر: "تم تفعيل Anxiety Pro Plus".

إذا كنت منزعجًا من إدراك أنك في عقول الآخرين، فإن الجمع بين ذلك وبين معرفة فجوة الإعجاب، يمكن أن يجعل تخيل تفكير الآخرين بك أقل إزعاجا. ربما نفترض، عبر فجوة الإعجاب، أن تلك الأفكار سيئة. على الرغم من أن هذا ربما لا يكون صحيحا.

وقال ماستروياني: "ليس فقط أننا في أفكار الناس أكثر مما نتوقع، ولكن من المرجح أيضًا أن تكون تلك الأفكار أكثر إيجابية مما نتوقع".

وقال كوني إن أفكار الأشخاص المشاركين في الدراسة كانت إيجابية بشكل عام. وقد تفاجأ المشاركون بسرور عندما سمعوا أن الآخرين ما زالوا يفكرون فيهم، تمامًا كما كانوا. وقال كوني: "في النهاية، الناس يحبوننا أكثر ويفكرون فينا أكثر مما نعتقد". هذه ليست فكرة ينبغي أن تلهم المشاعر الغارقة.

أثناء الجائحة، قد يكون من العزاء أن نعرف أننا ساكنون في أذهان الآخرين، حتى عندما نكون منفصلين. قال ماستروياني إن لديه بعض الأصدقاء الذين لا يراهم إلا نادرًا، ولذا فهو كثيرًا ما يفكر في كل الأشياء التي يريد أن يخبرهم بها، أو يطلبها منهم، أو الأنشطة التي قد يقومون بها معًا. أضاف: عندما أدركت أنهم يمكن أن يفكروا بنفس الشيء عني، حبست أنفاسي!

وقال كوني إنه خلال العامين الماضيين، كان يفكر في الإجازات الماضية والنزهات مع الأصدقاء. إذا أجرى مكالمة هاتفية مع صديق أو أحد أفراد العائلة، فهذا يعني له الكثير.

وقال: "معرفة فجوة التفكير تجعلني أشعر بالوحدة أقل قليلاً في تلك الأفكار التي كنت أفكر فيها، مع العلم أن الشخص الآخر، حتى بعد خروجه من الخط، ربما كان يفعل الشيء نفسه معي". "كنا نبتعد عن بعضنا البعض في بعض الأحيان، لكننا كنا نفكر في بعضنا البعض. لقد كانت تلك فكرة مريحة بالنسبة لي."

(انتهى)

***

........................

الكاتبة: شايلا لاف/  Shayla Love

* باري مانيلو: مغني أمريكي، ولد في 17 يونيو 1943.

https://www.vice.com/en/contributor/shayla-love

لو كان الذي يمارس فعل (النقد) يعلم جيدا"خطورة هذه الممارسة وفداحة عواقبها، ليس فقط على من يكون موضعا"للنقد فحسب، وإنما – بالدرجة الأولى – على فاعل النقد ذاته معرفيا"وأخلاقيا"كذلك، ما كان لكل من هب ودب أن يشرع بانتهاج هذا الضرب من النشاط الذهني المجرد، وما تجاسر على الخوض في غمار هذا المعترك المعرفي المركب . أي بمعنى ان (الناقد) الذي لا يمتلك مقومات هذه الفاعلية الفكرية، ولا يحسن توظيف أدواتها المنهجية بجدارة، ولا يراعي متطلبات التزاماتها الأخلاقية، سيكون هو أول الضحايا الذين يفرطون بسمعتهم المناقبية، ويفضحون هشاشتهم المعرفية، ويخسرون وظيفتهم الاجتماعية .

ولعل من مساوئ (نقاد) المناسبات والمجاملات والاخوانيات في هذه الأيام، الذين لم تبرح أعدادهم تتناسل وتتضاعف دون ضابط – كما في نبات الفطر - على حساب العمق المعرفي والغنى المنهجي والثراء اللغوي، هي ان ممارستهم لعملية (النقد) عادة ما تستوحي سرديتها من خزين (الانطباعات) الشخصية التي كونها فاعل النقد ومنتجه، عبر سيرورة علاقاته الشكلية وتصوراته السطحية وتواضعاته التقليدية، وليس بالاحتكام الى (فيصل) الواقع المعيش المشحون بالتناقضات والتفاعلات والصراعات، والذي هو – أصلا"- من هيأ للكاتب - (منتج النص) - فرصة الالتحام بمكوناته والاصطدام بمعطياته والاندغام بتفاعلاته، حيث يستنبط الأفكار ويستخلص الآراء ويبلور الاستنتاجات، وبالتالي يثر شجون – وفي بعض الأحيان جنون – النقاد ويستدر ملاحظاتهم واعتراضاتهم .

ورغم كل الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية التي أكد أصحابها على حقيقة أن عملية (النقد) لا تكون ذات جدوى أو نفع إلاّ في حالة واحدة وهي ؛ وضع (عازل / فاصل) معرفي بين ما يمور به النص من معان ودلالات ظاهرة أو مضمرة من جهة، وبين ما تجيش به سيكولوجية (الناقد) من (خواطر) و(مشاعر) و(انفعالات) من جهة أخرى . بحيث يفترض أن يبقى الأول (النص) بمنأى عن تدخلات ميول الثاني (الناقد)، مثلما ينبغي على هذا الأخير اجتناب التلاعب بمضامين ما يقرأ استنادا"لقناعاته واستجابة لاعتقاداته، وبالتالي فرض ما يرغب أو يشتهي من رؤى وتصورات غالبا"ما تكون (مجاملة) أو (متحاملة) . ذلك لان أي إخلال أو تجاهل لهذه القاعدة – المعيار قمين بإبطال وإفشال عملية النقد برمتها .

ولما كان الإنسان بطبيعة تكوينه البيولوجي والسيكولوجي أكثر ميلا"لترجيح مرجعياته الأصولية، وأشدّ تعلقا" بمسلماته الذهنية، وأسرع استجابة لإيحاء تمثلاته المخيالية، فان من الصعوبة بمكان تصور انه بات بمنجى عن تأثيرات تلك المرجعيات والمسلمات والإيحاءات، لمجرد انخراطه بممارسة أنشطة تتعلق بموضوعة (النقد) . ولذلك يحسن بهذا الفاعل (النقدي) - إذا رغب أن يكون على قدر من الموضوعية المعرفية والتجرد الأخلاقي حقا"وفعلا"- أن يكون على مستوى عال من الحيطة والحذر إزاء إغراءات الدوافع الذاتية والنوازع الفئوية المطمورة تحت وهاد بنيته السيكولوجية، والتي من شأنها حمله على خلط الذاتي بالموضوعي والشخصي بالاجتماعي والأناني بالإنساني والواقعي بالخيالي .

ولكي نكون أقرب الى الإنصاف منه الى الإجحاف، فان الواجب يقتضي ألاّ نحمل (النقاد) وحدهم كل الأوزار والأرزاء التي يمكن لنا كيلها لهم، وإنما ينبغي – بالمقابل - أن نوجّه أصابع الاتهام والإدانة أيضا"لأولئك (الكتّاب) الذين لا يطربون فقط لألحان عبارات (المديح) و(التسبيح) التي يغدقها (النقاد) على أعمالهم فحسب، وإنما – وهنا أدعى للسخرية - (يتواطئون) ضمنيا"مع نقادهم المزعومين، عبر استعذابهم لغة (الثناء) واستلطافهم عبارات (التقريظ) التي تسبغ عليهم حقا"أو باطلا". وهو الأمر الذي يعمي بصيرتهم ويشوه إدراكهم ويسطح وعيهم، بحيث لم يعودوا يطيقون أي تلميح أو تصريح من هذا الناقد أو ذاك، ينم عن قراءة (نقدية) لسردياتهم من شانها أن تصدّع صورتهم لدى قرائهم، وتثلم مكانتهم بين أقرانهم، وتقلل اعتبارهم في مجتمعهم.

*** 

ثامر عباس 

 

المقدمة: مع التقدم المستمر في مجال الذكاء الاصطناعي، أصبحت مجتمعاتنا تعتمد بشكل متزايد على هذه التقنية في مختلف المجالات مثل الطب، والتجارة، والصناعة وغيرها.

مع ذلك، تظل هناك تحديات مجتمعية تواجه تطور التكنولوجيا في مجتمعات دينية – عشائرية، باعتبار تلك مجتمعات تتميز بوجود انتماء عاطفي وحساسية  أتجاه العرف والتقاليد، وهذا يمكن أن يؤثر سلباً على قدرتها على استيعاب التطورات التكنولوجية الحديثة والتقدم نحو تحقيق الذكاء الاصطناعي.

الهدف من هذا المقال هو تحليل تلك التحديات المجتمعية المعينة التي تواجه مجتمعات دينية - عشائرية في تحقيق الذكاء الاصطناعي وإشراكها في هذا النقاش المتجدد.

سيتم دراسة المشاكل وتحليل التأثيرات السلبية المحتملة،  واقتراح بعض الحلول الممكنة للتغلب على هذه التحديات.

أولاً: تحليل المجتمعات الدينية - العشائرية

المجتمعات الدينية العشائرية: نمط اجتماعي يتميز بوجود عشائر أو قبائل تعيش في نطاق محدد وتتشكل على أساس العائلة والقرابة لحد الجد الخامس او يزيد، والدين الواحد والطائفة الواحدة أحياناً، وتعتمد هذه المجتمعات على قيم الوفاء والانتماء العائلي لتنظيم حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،على الرغم من أنها لا تزال تتمسك بتقاليدها وثقافتها التي تمتد عبر القرون، إلا أن هناك تحديات في التبني والتكيف مع التكنولوجيا الحديثة، التي أفرزتها ثورة الاتصالات الرقمية في القرن الحادي والعشرين .

تُّبان في هذا المجتمعات العديد من العوامل التي تؤثر في قدرتها على تبني التكنولوجيا الحديثة، ومن أهمها التوافق الثقافي والاقتصادي والسياسي، ويمكن أن يكون التوافق الثقافي أحد العوائق الأساسية لتبني التكنولوجيا الحديثة في المجتمعات العشائرية شبه المتدينة، أذ يتطلب استخدام التكنولوجيا الجديدة تغييرا في القيم والمعتقدات التقليدية.

على سبيل المثال، قد يتعارض استخدام الهواتف الذكية أو وسائل التواصل الاجتماعي مع روح الوفاء العائلية المتجذرة في هذه المجتمعات، أو يستخدم بعض الأشخاص تلك الهواتف لبث تقاليد عشيرته ونشر أفراحها وأحزانها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التباهي والغرور، كذلك يقوم البعض بنشر غسيله الطائفي الموروث من عفن التاريخ العربي – الإسلامي في تلك المواقع، كالفيسبوك والتك توك واليوتيوب والسناب.. وغيرها.

علاوة على ذلك، يمكن أن يكون الاقتصاد القائم على الزراعة أو الرعي في هذه المجتمعات أداة أخرى تؤثر في قدرتها على تبني التكنولوجيا الحديثة، فعلى سبيل المثال، قد يعتبر الاستثمار في تطوير البنية التحتية الرقمية أو التغيير في أساليب الزراعة التقليدية عائقًا اقتصاديًا قد يكون صعبًا تجاوزه.

بالإضافة إلى ذلك، يلعب السياق السياسي دورا كبيرا في قدرة هذه المجتمعات على تبني التكنولوجيا الحديثة، فتاريخ هذه المجتمعات مليء بالنزاعات القبلية والعدائيات، وهذا النوع من البيئة السياسية غالبا ما يكون عائقاً لتطوير بنية تكنولوجية حديثة.

ثانياً: التحديات المجتمعية المتوقعة

تشهد التكنولوجيا تطورًا سريعًا في العصر الحديث، ومن بين تلك التكنولوجيا المتقدمة يأتي الذكاء الاصطناعي، الذي  يُعرف بأنه مجال العلوم الحاسوبية الذي يعتمد على إنشاء برامج ونظم قادرة علــــى محاكاة الذكاء البشري.

ولتلك التكنولوجيا الحديثة أثرٍ هائل على كافة المجتمعات دينية كانت أو عشائرية، ملحدة أو مؤمنة، مسلمة أو مسيحية، ومن بين هذه المجتمعات هـــــــــــي مجتمعاتنا المبتلة بالعشائرية المتطرفة والطائفية المقيتة.. ففي هذا المقالة المتواضعة سنقوم بدراسة التحديات المجتمعية التي تواجه هذه المجتمعات في تحقيق الذكاء الاصطناعي، ومنها:

- قلة الوعي التكنولوجي: قد يعاني أفراد تلك المجتمعات من نقص في الوعي تجاه أهمية الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه، قد ينحصر اهتمامهم في الأنظمة والقيم التقليدية مما يجعل من الصعب تعديل سلوكهم وتبني التكنولوجيا الحديثة.

- القيم والمعتقدات التقليدية: يتمسك العديد من أفراد مجتمعنا اليوم بالقيم والمعتقدات التقليدية، مما يؤثر سلبًا على استخدامهم للذكاء الاصطناعي، قد يرون أن استخدام التكنولوجيا الحديثة يتعارض مع قيمهم ومبادئهم وبالتالي يتجنبون استخدامها، وهناك من يعتقد بأن هناك رجل سماوي سوف يظهر ليخلصهم منها، لذلك تعتبر من المكروهات لديهم.

- قلة الموارد والتمويل: يمكن أن تواجه هكذا مجتمعات تحديات مالية وقلة الموارد المالية للاستثمار في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فتوظف الشركات الكبرى والمؤسسات المالية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتستفيد من المزايا التنافسية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، وهذا يعني أن المجتمعات المبتلات بالتدين الشكلي و العشائرية المتوارثة قد تتخلف عن الاستفادة من فوائد هذه التكنولوجيا كما يجب.

- قلة التعليم والتدريب: وهو من المشاكل الجوهرية التي تؤثر على تقدم هذه المجتمعات بشكل عام وعلى أفرادها بشكل خاص، تحدث هذه القضية نتيجة لعدة عوامل تاريخية واجتماعية تؤثر على سبل الحياة ونسج العلاقات في هذه المجتمعات.. للأسباب الأتية:

1- وقبل كل شيء، تعود أسباب قلة التعليم والتدريب العلمي في المجتمعات العشائرية الطائفية إلى التاريخ والتقاليد القديمة التي تسيطر على هذه المجتمعات، ففي العديد من الثقافات التقليدية، يتم تكوين المجتمع وتوجيهه بواسطة العرف والتقاليد الشفهية، وعادة ما يتم تعليم الأطفال وفقًا لما تحدده هذه التقاليد، بدلًا من توفير فرص تعليمية علمية منظمة وشاملة.

2 - تؤثر طبيعة الحياة في هذه المجتمعات على قلة التعليم والتدريب العلمي، فعندما يكون الناس مشغولين بالعمل في الأراضي الزراعية أو في الأنشطة الحرفية التقليدية، يصبح من الصعب توفير الوقت والموارد اللازمة للتعلم والتطور العلمي، وبالتالي، يتم تفضيل الاعتماد على التعليم الشفهي والتدريب العملي، ما يترك العديد من الأفراد غير مدركين للتطورات العلمية الحديثة.

3 - قد يكون للعوامل الاقتصادية تأثير كبير في قلة التعليم والتدريب العلمي في المجتمعات العشائرية - الدينية، فمن الصعب على العائلات التقليدية تحمل تكاليف التعليم العالي والتدريب المتقدم، وبالتالي يفضلون إرسال أبنائهم للعمل والمساهمة في دخل الأسرة بدلاً من الاستثمار في التعليم.. وبالتالي، يتم فقد العديد من المواهب والقدرات العقلية التي يمكن أن تساهم في التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية في المجتمع.

ثالثاً: الآثار المحتملة لفشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعاتنا

يعيش العالم اليوم في عصر تكنولوجي متقدم، حيث أصبحت التكنولوجيا الحديثة جزءًا لا يتجزأ من حياة معظم الناس. ورغم أهمية التكنولوجيا في تطور المجتمعات ورفع مستوى العيش، إلا أن هناك بعض المجتمعات التي تعاني من تحقيق أهدافها في مجال التكنولوجيا، بسبب ارتباطها القوي بالعادات والتقاليد والتثبيت بالقيم الاجتماعية والدينية، ومثال على ذلك مجتمعاتنا المُّبتلة بالطائفة الناجية و القبيلة الكبيرة، وما يترتب عليها من تطرف مذهبي والتزامات قد تخرج عن المألوف .

سوف سنحلل الآثار المحتملة لفشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعات عشائرية- شبه متدينة، بعرض أسباب هذا الفشل، وتبيان تأثيراته السلبية على هذه المجتمعات، كما سنستعرض بعض الحلول الممكنة لتخطي هذه الصعوبات.

الجزء الأول: أسباب فشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعات الطائفية العشائرية

1- الاعتقادات الثابتة والمحافظة على التقاليد:

المجتمعات الطائفية - العشائرية تعتمد على نظم اجتماعية مترسخة ومتحيزة بشكل قوي للحفاظ على التقاليد والعادات القديمة، وهذا يعني أن أي تغيير مفاجئ يتعارض مع هذه الاعتقادات الثابتة، بما في ذلك تطبيق التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم يتعرض لرفض من قبل الأفراد والمجتمع بشكل عام.

2- التوجه نحو العزلة:

مجتمعات الطائفية الناجية والعشائرية المتزمة تمتاز بنمط العيش بعيدًا عن المدن والمناطق الحضرية، ويؤدي هذا النمط إلى عدم توفر البنية التحتية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا الحديثة مثل الاتصالات وشبكات الانترنت.

3 - تقلبات التكنولوجيا:

تطور التكنولوجيا بسرعة هائلة ويكون بعض الأفراد والمجتمعات غير قادرة على اللحاق بهذا التغير المستمر، لذلك، فإن هذه المجتمعات قد تفضل الابتعاد عن هكذا تطور واللحاق به .

رابعاً: اقتراح الحلول الممكنة لتحقيق التطور التكنولوجي

تواجه مجتمعاتنا اليوم تحديات عديدة في مجال التطور التكنولوجي، يعود ذلك إلى العديد من العوامل المؤثرة في هذه المجتمعات مثل التقاليد والعادات والقيم القديمة التي تمنع تحقيق التقدم التكنولوجي، إلا أن هناك بعض الحلول الممكنة التي يمكن اعتمادها لتعزيز التطور التكنولوجي في هذه المجتمعات وهي:

1 - يمكن للتعليم أن يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق التطور التكنولوجي فيها، على أن تكون هناك جهود مبذولة لتعزيز الوعي التكنولوجي وتعليم الناس حول فوائد التكنولوجيا وكيفية استخدامها بشكل فعال، ويمكن أن تشمل هذه الجهود إنشاء مدارس ومراكز تعليمية متخصصة في مجال التكنولوجيا، وتوفير برامج تدريبية تعليمية للشباب والكبار ومن كلا الجنسين .

2  - توفير البنية التحتية اللازمة لدعم التطور التكنولوجي في هذه المجتمعات، من خلال توفير الكهرباء والاتصالات الجيدة وشبكة الإنترنت عالية السرعة، ويعتبر الوصول إلى الانترنت أمرًا حاسمًا في تعزيز التطور التكنولوجي وتوفير الفرص للتعلم والتواصل، بالإضافة إلى ذلك، يمكن إنشاء مراكز تكنولوجية متقدمة توفر المعدات والمرافق اللازمة لرعاية الأفكار الإبداعية والمشاريع التكنولوجية.

3 - تشجيع روح الابتكار وريادة الأعمال بعد أن تتخذ الحكومات والمنظمات غير الحكومية دورًا فعالًا في توفير الدعم اللازم للأفراد والشركات الناشئة في هذه المجتمعات، من خلال توفير التمويل والتدريب والمشورة، ويمكن تشجيع الشباب على تحويل أفكارهم وابتكاراتهم التكنولوجية إلى مشاريع ناجحة، وبالتالي، يمكن أن تساهم هذه المشاريع في تطوير المجتمعات وتحسين الظروف المعيشية.

خامساً: دراسة الأمثلة العملية والتجارب الناجحة التي تم تحقيقها في مجتمعات دينية - عشائرية   في مجال الذكاء الاصطناعي.

تعتبر دراسة الأمثلة العملية والتجارب الناجحة في مجال الذكاء الاصطناعي خطوة هامة في فهم تأثير هذه التكنولوجيا الحديثة على هذه المجتمعات التي تتميز بطابعها الثقافي والتقليدي.

فعلى الرغم من أن تلك المجتمعات تتبع قوانين وأعراف خاصة، إلا أنها أثبتت تجاوبًا ملحوظا مع تقدم الذكاء الاصطناعي وتبنيها لهذه التكنولوجيا لتحقيق تطور اجتماعي واقتصادي مستدام.

من أهم الأمثلة الناجحة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في هكذا مجتمعات يتمثل في شمال أفريقيا، حيث استخدمت بعض القرى النائية في المنطقة تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين أداء الزراعة، أذ تم استخدام الروبوتات والأجهزة الذكية لرصد حالة التربة ومستوى الرطوبة في الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى استخدام التحليل الضوئي لتعيين أفضل الأوقات لسقي الحقول وتطبيق الأسمدة، وبفضل هذه التكنولوجيا، تمكنت هذه المجتمعات من زيادة إنتاجيتها الزراعية وتحسين مستوى دخلها.

كما استخدمت مجتمعات أخرى الذكاء الاصطناعي في تنمية القطاع المالي وإدارة التجارة، فمن خلال تحليل البيانات وتوجيه الاستثمارات، تمكنت هذه المجتمعات من اتخاذ قرارات مالية أكثر فاعلية وذكاءً، مما أدى إلى زيادة الاستدامة والنمو الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، لعب الذكاء الاصطناعي دورًا مهمًا في تعزيز الرعاية الصحية في تلك المجتمعات، أذ تم استخدام الروبوتات وتقنيات التعلم الآلي لتحسين خدمات الرعاية الصحية والتشخيص المبكر للأمراض من خلال تحليل البيانات الصحية، وبالتالي تمكنت هذه المجتمعات من اكتشاف أنماط وأسباب الأمراض المستفحلة وتطوير استراتيجيات مناسبة للتعامل معها.

استنتاجات وتوصيات نهائية

تزداد تقنية الذكاء الاصطناعي (AI) أهميةً وتأثيرًا في حياتنا اليومية، وتعتبر التحديات المجتمعية للذكاء الاصطناعي من بين أهم القضايا التي يجب معالجتها بجدية، فالتوصيات والاستنتاجات النهائية في هذا الصدد أمر ضروري لضمان تطور واستخدام فعال لهذه التقنية الحيوية.

1- الاستنتاجات:

* التوعية والتعليم: يعتبر التوعية والتعليم الشامل حول الذكاء الاصطناعي أمرًا حاسمًا، يجب على المجتمعات والحكومات توفير المنصات المناسبة لتفهم العامة لهذه التقنية وآثارها، كما ينبغي أن يكون الفرد قادرًا على فهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأثره على فرص العمل والمجتمعات العامة.

* التطوير التكنولوجي المستدام: يجب أن يتم التركيز على التنمية المستدامة للذكاء الاصطناعي بحيث تكون التكنولوجيا آمنة وقابلة للتنبؤ وتفي بالمبادئ الأخلاقية، و يجب أن يقود الباحثون والعلماء هذا التطوير بأساس قوي من المبادئ الأخلاقية والقوانين التنظيمية لضمان استخدام أمن ومسؤول للذكاء الاصطناعي.

* تقليل الفجوة الرقمية: يجب أن يتم تطوير وتوفير الوصول المتساوي للذكاء الاصطناعي من أجل تحقيق التنمية المستدامة، أضف الى ذلك تعزيز التكنولوجيا في البلدان النامية وتقديم الدعم والتدريب لتعزيز فرص الترقية والازدهار الاقتصادي.

2 - التوصيات النهائية:

* إنشاء لجنة تنظيمية: يجب على الحكومات تشكيل لجنة تنظيمية لإدارة وتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي. ينبغي أن تكون هذه اللجنة مسؤولة عن إنشاء السياسات والقوانين اللازمة لمنع سوء الاستخدام وحل أية قضايا أخلاقية تنشأ.

* تعزيز الأبحاث والابتكار: يجب أن تدعم الحكومات الأبحاث والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن تساهم الشراكات بين القطاع العام والخاص في تسريع التقدم وتحقيق نتائج أفضل.

تميز الأستاذة بجامعة ستانفورد الأمريكية (كارول دويك ) في كتابها "العقلية: السيكولوجية الجديدة للنجاح" (Mindset: The New Psychology of Success)، بين عقليتين متناقضتين عادة ما يتبنى الأفراد إحداهما عند التفكير، وتبين لنا صفاتهما الأساسية:

العقلية الثابتة: يخاطب أصحابها أنفسهم بـِ: "صفاتك لا يمكن أن تتغير، وأياً كانت مهاراتك ومواهبك وقدراتك فهي محددة مقدّماً، وأياً كان ما تفتقر إليه ستظل تفتقر إليه". إنّ أصحاب هذه العقلية الثابتة لا يحكمون بها على أنفسهم فحسب، بل على الآخرين أيضاً!

عقلية النمو: يخاطب أصحابها أنفسهم بـِ: "يمكنك تنمية صفاتك الأساسية بجهودك، ويمكن للجميع التغير والنمو بواسطة الممارسة والخبرة. وذكاؤك ما هو إلّا نقطة انطلاق! أمّا النجاح فهو نتاج الجهد والتعلم والمثابرة".

توصلت إحدى الدراسات إلى أنّ الأفراد الذين يؤمنون أن مواهبهم قابلة للتطوير (من خلال العمل الجاد، واتباع استراتيجيات جيدة، وعبر الاستفادة من معطيات الآخرين) يمتلكون "عقلية النمو".. فهم يميلون إلى تحقيق المزيد من الأهداف مقارنة بأولئك الذين يمتلكون "عقلية ثابتة" (الذين يؤمنون أن مواهبهم عطايا فطرية لا يمكن تطويرها أو اكتسابها).

وينشأ هذا الفارق لأن أصحاب عقليات النمو لا يهتمون كثيراً بأن يبدوا أذكياء، ويكرسون طاقة أكبر للتعلم، فعندما تتبنّى مجتمعات بأكملها نهج "عقلية النمو"، نجد الناس يشعرون بقدر أكبر من القدرة والتمكين، ويُظهرون حساً أصدق بالالتزام، كما أنهم يتلقون دعماً كبيراً للغاية من الدولة لتعزيز التعاون، والابتكارات.

وعلى النقيض من ذلك، فالناس في المجتمعات التي تتبنى "العقلية الثابتة" بشكل رئيسي يشعرون بقدر أكبر من شيء واحد فقط، وهو وجود الغش والخداع بين الناس، اعتقاداً منهم أن ذلك سيمنحهم الأفضلية على أقرانهم في سباق المواهب.

***

شاكر عبد موسى / العراق

..................

المصادر

Mckinsey Global Institute، "Notes from the AI Frontier: Applications and -1 value of deep learning."

Timnit Gebru، Joy Buolamwini، "Gender Shades: Intersectional Accuracy -2 Disparities in Commercial Gender Classification."

-3عبدالعزيز النعيمي، "العشائر العربية ونظرية النهضة الشاملة".

Elaine Liu، Juanjuan Meng، "Confucianism and Preferences: Evidence from -4 Lab Experiments in Taiwan and China."

-5 مارك زوكربيرغ، "تحويل العالم من خلال الابتكار الفعّال".

Kai-Fu Lee، "AI Superpowers: China، Silicon Valley، and the New World -6 Order."

World Economic Forum، "The Future of Jobs Report 2020" -7."

Bostrom، N. (2014). Super intelligence: Paths، Dangers، Strategies. Oxford-8 University-8 Press.

9- النشرة الأسبوعية من هارفرد بزنس ريفيو العربية/ فكرة الأسبوع: أحرص على تبني عقلية النمو مع بداية العام الجديد/ أمين قطوش، 29 كانون الأول 2023. https://mail.google.com/mail/u/0/#inbox/FMfcgzGwJSDbZBwNvRZtHkrjkDfWTBbd.

يبدو أنَّ مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الأسبوع الماضي، تشكّل موضوعاً جديّاً عند الأشقاء العراقيين. وصلتني خلال الأسبوع ردود فعل كثيرة جداً، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي، لكن الكثير منها يقول صراحة أو ضمنياً «حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف، فلا تعلّمنا ما يصح وما لا يصح». الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة «الصباح» البغدادية بتفسير ظريف فحواه أنَّ التشاؤم سمة للأحاديث الموجهة للجمهور، وليس نقاشات النخب، لأنَّ الجمهور يعدّ الكتابات المتفائلة تملقاً لذوي السلطان. أمَّا الزميل علي حسين فقد رأى أنَّ الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: «ماذا نفعل يا سيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير، يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس».

الواضح أنَّ معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على أنَّ المنحى التشاؤمي ليس مفيداً. لكنَّه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات أو بالمزاج الشعبي أو بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلَّق بدور الكاتب، مع استذكار موقف قديم أتبنَّاه، رغم أنَّه لم يرضِ أحداً، وفحواه أنَّ مسؤولية الكاتب أو العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم، تتلخَّص في إتقان عمله. أي إنَّه لا يحمل رسالة ولا يتوجب عليه أن يتبنى موقفاً غير ما يجب على كل شخص آخر. وأعتقد جازماً أنَّ تبني الناس كافة لهذا الموقف، أي الاجتهاد في إتقان العمل، محرك قوي للنهضة، لو كانت هدفاً.

الداعي لإثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف، أي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع، ومطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت إنه يهدد بتفتيت «رأس المال الاجتماعي». فكيف أنكر المسؤولية تجاه المجتمع، ثم أطالب الآخرين بالتزامها؟

الواقع أنَّ تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث، غير المسؤولية تجاه المجتمع أو إنكارها، فبعضها يقول - ضمنياً - إن دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي، أي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع، إلى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بتشاؤم أو تفاؤل، بل هو أقرب إلى ما يسمى «تلفزيون الواقع»، من دون تمثيل طبعاً.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية أنَّ وسائل التواصل الجمعي كالصحافة، والتلفزيون، والخطابة العامة، ومنصات التواصل الاجتماعي، هي الوسيلة الأقوى لتوصيل، ومن ثم تعميم المشاعر والأفكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة، أي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة أهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسناً، إذا رأى الكاتب مشهداً سيئاً مثيراً للتشاؤم، فهل يغض الطرف عنه أم يعيد تلوينه، أو يقتضي الصدق أن ينقله للجمهور كما رآه؟

كان هذا واحداً من الأسئلة المهمة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» وقد رأى أنَّ نظرة الكاتب، بل أي ناظر إلى الواقع لا يمكن أن تكون محايدة أو خالية من التوجيه المسبق: أنت ترى ما يتوقعه عقلك، وتفهمه وفقاً للإطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فإنَّ مراقبتك للشيء، ثم شرحه، هو تفسير مستند إلى خلفيتك الذهنية، أي إنه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقداً كثيراً جداً، لكن لو تأملتها جيداً فسوف تراها قريبة من منطق الأمور: هل يمكن أن نفهم شيئاً دون الاستناد الى قواعد مسبقة، أليست هذه القواعد قيوداً على الفهم الجديد؟ أي هل ننقل صورة الواقع كما هو، أم ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

تبدو مصطلحات مثل "العرقية" و"الجماعات العرقية" و"الصراعات العرقية" جديدة. وقد ظهرت لأول مرّة في قاموس أكسفورد البريطاني العام 1972، وإن كانت استخداماتها أقدم من هذا التاريخ بكثير. وكلمة عرقي مشتقّة من الكلمة الإغريقية "إثنو"، وقد استخدمت كلمة "العرقيات" في الحرب العالمية الثانية ككلمة سلبيّة مهذبة بالإشارة إلى بعض الجماعات من غير الإنكليز، والذي يُنظر إليهم كمستوى أدنى.

وكان المفكّر الاجتماعي ماكس فيبر قد نبذ التمترسات العرقية للجماعات المحلية، معتبرًا إياها مظهرًا بدائيًا تتراجع أهميته، بل تزول، بفعل انتصار الحداثة والتصنيع وشيوع الفردانية، وقد أيّد وجهة نظره هذه عدد من علماء الاجتماع في القرن العشرين.

وتنامت، منذ أواسط القرن المنصرم، ظواهر العرقية وأشكال أخرى من الهويّات القومية، اتّخذت بُعدًا سياسيًا على المستوى العالمي، وخصوصًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وازدادت اتّساعًا في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، وصولًا إلى وقتنا الحالي.

وقد شهدت العقود الأربعة المنصرمة انفجارًا غير مسبوق للعرقية والنزعات الإثنية والهويّات الفرعية، ارتباطًا بتطوّر العلوم الاجتماعية، وذلك بالترويج لها عبر الكتب والمطبوعات والدراسات والمؤتمرات والندوات، التي تبحث فيها، وشمل ذلك حقول العلوم السياسية والقانونية والتاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وصدرت عن مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات كتبًا وأبحاثًا متنوّعة عن "العولمة" و"الهويّة" و"الحداثة"، وكلّ ما له صلة  بالعرقية والقومية والإثنية، علمًا بأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي علم مقارن، يدرس الاختلافات والتشابهات في العلاقات الإثنية والظواهر العرقية، وهو يوفّر رؤية حيوية لفهم العرقية ومرادفاتها في العصر الحديث.

أصبح من غير المقبول تجاهل المسألة الإثنية، سواء في البلدان المتقدمة صناعيًا، الغنية والديمقراطية، أم في البلدان النامية والفقيرة، والتي لم تدخل مرحلة التحوّل الديمقراطي. في الأولى، بشكل عام، كانت الخلافات تُحلّ عن طريق الدستور وحُكم القانون، في حين أنها في الثانية، تؤدّي في الغالب إلى نزاعات مسلّحة وحروب أهلية، لاسيّما باللجوء إلى الحلول العسكرية والعنفية.

وبالطبع فثمة حروب ونزاعات شهدتها بلدان أوروبا، وخصوصًا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وانقسامه إلى 15 كيانًا، ولعلّ آخرها الحرب المندلعة في أوكرانيا، فضلًا عن تمزّق يوغوسلافيا وتوزّعها إلى 6 كيانات، شهدت بينها حروب تطهير عرقي، ولاسيّما ما حصل في البوسنة والهرسك، ويمكن الإشارة إلى حروب سيرلانكا وروندا والكونغو، إضافة المشكلة الكردية المزمنة والمعتّقة بين أربعة بلدان في الشرق الأوسط، ومشكلة جنوب السودان التي نالت استقلالها في العام 2011، عبر استفتاء بإشراف دولي، بالإضافة إلى تيمور الشرقية، وقبل ذلك حروب الهند وباكستان ثم بنغلادش.

وإذا كانت هذه إحدى مظاهر الصراع العرقي، فثمة وجه آخر له، ففي الغرب اتّخذ منحىً قانونيًا وسياسيًا سلميًا في الغالب، كما هي مشكلة الكيبيك في كندا، والفلامانيين والوالانيين في بلجيكا، وإقليم الباسك وكاتالونيا في أسبانيا، ومشكلة إيرلندا التي ما تزال قائمة منذ عقود من الزمن، ويتجاذبها آراء ووجهات نظر مختلفة، كلّها تتصارع تحت حكم القانون، يُضاف إلى ذلك نزعات إثنية في جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، تبحث عن تعظيم للهويّة الفرعية والتمايزات والخصوصيات.

كما أصبحت الهويّات العرقية أحد الميادين للصراع الدولي والإقليمي، بعد التدفّق الهائل والمستمر للاجئين والمهاجرين إلى أوروبا والغرب عمومًا، مما أعطى شحنة قوية للشعور بالانتماء إلى الهويّات الفرعية. ولعلّ مثل هذا الشعور تنامى كذلك عند تأسيس الاتحاد الأوروبي، فأخذت العديد من البلدان المنضوية تحت لوائه، تبحث عن خصوصيتها، وهو ما دفع دولة مثل بريطانيا للانسحاب منه، وقاد هذا الاتجاه أيضًا إلى ظهور جهات متطرّفة في القارة الأوروبية، ذات خطاب شعبوي إثني في الغالب، ومعاد للأجانب بشكل عام للوصول إلى السلطة، ونمت على هامشه أحزاب يمينية حاولت رفع أكثر الشعارات رنينًا وتطيرًا، تحت ذريعة الخشية من إضعاف الهويّة القومية، لاسيّما في ظلّ عدم الاندماج الثقافي.

ويرتفع شأن هذه القضايا على نطاق واسع ومؤثّر في فترات الانتخابات، بقبول أو رفض التعدديّة الثقافية وإدماج المهاجرين، كما تثير، في الوقت نفسه، أسئلة ما تزال بحاجة إلى معالجات بخصوص التمايز بين الجماعات العرقية، والعلاقات بينها وبين الاحزاب السياسية ذات الطبيعة العرقية، وأشكال الهويّات الأخرى وعلاقتها بالثقافة والحقوق كذلك.

وهذا ما يُظهره الجدل الساخن في إطار المقاربات الأنثروبولوجية، بشأن تصنيف الجماعات البشرية عرقيًا، أو ما يُطلق عليه مجازًا "الأقلية" و"الأكثرية، وهو ما تناوله إعلان حقوق الأقليات، الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1992 .

***

د. عبد الحسين شعبان

هل كان عالم الأحياء جيرمي غريفيث في كتابه الحرية،  أول أكتشف التعارض بين الغريزة الفطرية والعقل الواعي؟ فكانت الحالة البشرية الفاسدة نتاج ذلك النزاع، منذ حوالى المليوني سنة، والذي لا نزال تحت وطأته المدمرة.

يجيب هو نفسه على هذا السؤال فيقول: أنا لست أول من حدد عناصر الغريزة مقابل العقل، المشاركة في إنتاج الحالة البشرية.

وقد كتب جيرمي غريفيث شرحا مفصلا في الفصلين 6:2  و 7:2  في كتابه الحرية؛ نهاية الحالة البشرية، يقول كان هناك العديد من المفكرين عبر التاريخ، بل والعديد من المفكرين العظماء المعترف بهم الذين أدركوا الأجابة على سؤالنا وهو؛ هل أن الحالة الأنسانية المضطربة؛ الغاضبة؛ ألأنانية والمغتربة، تكمن في فهم الصدام الذي يحدث بين غرائزنا الراسخة بالفعل والعقل الواعي الذي ظهر مؤخرا.

أن كل ما مطلوب لأنتاج حالة من الإضطراب النفسي لدى نوع ما هو أن يصبح واعيا؛ لأن هذه القدرة على التكيف الذاتي يجب أن تتحدى بطبيعة الحال غرائز غير متبصرة، متعصبة ومستبدة، لا يهم ما هو التوجه الخاص لغرائز النوع، فحقيقة ان الغرائز غير ذات بصيرة ثاقبة، يعني أنه لا مفر من حدوث صراع مزعج مع العقل الواعي القائم على البصيرة والذي يضبط نفسه بنفسه، لذلك بغض النظر عن التوجه الغريزي لكائن ما؛ إذا طور عقلا واعيا تماما فلابد ان تحدث معركة مزعجة بين تلك الغرائز والعقل الواعي؛ لكن الأهم من ذلك أن هذا  لا يعني أن التوجه الخاص لغرائز هذا النوع لا يمكن ان يكون له تأثير على اصدام مع العقل الواعي، يمكن أن يؤثر عليه بشكل كبير جدا؛ كما حدث عندما أصبحنا نحن البشر واعيين تماما، نحن البشر لدينا غرائز أخلاقية تعاونية؛ ونكرانية للذات ومحبة، وصوتها أو بالأحرى الضمير؛ التعبير عن هذا الصوت الداخلي.

أدرك دارون أن طبيعتنا الأخلاقية المميزة عندما كتب: "أن الحس الأخلاقي ربما يوفر أفضل وأعلى تمييز بين الإنسان والحيوانات الأدنى" الأمر المهم للغاية بشأن إمتلاك البشر لغرائز تعاونية ومحبة ونكران ذات، هو أننا عندما اصبحنا واعيين تماما، وبدأنا في تجربة الفهم؛ وتعرضنا للإنتقاد من غرائزنا وإستجبنا بشكل لا مفر منه بطريقة غاضبة وأنانية ومنعزلة، تسببت هذه الإستجابة المثيرة للخلاف في أنتقادات أكبر من غرائزنا، ثم مرة أخرى لردة فعلنا على تلك الإدانة بطريقة تتعارض وتسئ الى غرائزنا، وكان علينا أن نحتمل ضربة مزدوجة من النقد؛ عندما اصبحنا واعيين، هذا التأثير (الضربة المزدوجة) الناتج عن وجود غرائز اخلاقية ، وهي السبب الأساسي للإحباط والغضب الكامن في سلوكنا وايضا للذنب الهائل وإنعدام الأمن الذي استلزم ان نتبنى الغرائز الوحشية غير الحقيقة والصادقة، وبهذا تفاقم الصراع بين الغرائز والعقل في حالة جنسنا البشري الى حد كبير .

أريد أن أقدم إعترافا بهذا الصراع من قبل بعض المفكرين في العصور القديمة (وسنذكر لاحقا مفكرين مشابهين من العصر الحاضر).

كان الفيلسوف العظيم إفلاطون من بين أوائل من اكتشفوا (الحالة البشرية) طرح فكرة أن كل البشر يختبؤون في كهف (رمز جهلهم بفهم حالتهم البشرية الفاسدة) وتوجد نار تمنع الخروج من الكهف (رمز لضوء الحقيقة  الحارق والمسبب للألم عند محاولة الخروج) والخوف من رؤية عيوب الحالة البشرية التي لا تطاق، لذلك يختبئ البشر أعمق وأعمق في ظلام الكهف .

ولنأحذ النبي موسى الذي كان قادرا على التحدث مع الله*، وفهم المعنى التكاملي للحياة (التكامل وتجسيد لـ  الله).

آدم وحواء بعد أن أكلا الثمرة المحرمة (شجرة المعرفة) وصارا واعيان، حدث السلوك الإنقسامي أو الخطي.

يعني أن جنسنا البشري عاش ذات يوم بشكل تعاوني ومحب، ثم بعد أن أصبحنا واعين فقدنا تلك الحالة، وبالتالي صرنا خطاة  أشرار مذنبين؛  وعدوانيون نستحق الطرد من الجنة، أن كلمة عدن تعني باللغة العبرية البيت الأول.

بالطبع ما ينقص رواية النبي موسى هو التفسير النقدي التعويضي: لماذا البحث عن المعرفة يجعلنا غاضبين وانانين ومنعزلين، وهو الأمر الذي كما أكدت (المقصود بأكدت: جيرمي غريفيث)  في عرضي السابق؛ اصبح بإمكان العلم إكتشاف الطريقة المختلفة التي تعمل فيها  كل من الجينات والأعصاب، اي أنه بينما يمكن للجينات ان تحدد إتجاهات الأنواع، تحتاج الأعصاب الى فهم السبب والنتيجة من خلال العقل، وبما أن العلم لم يكتشف وجود الجينات والأعصاب وكيفية عملهما؛ إلا خلال الـ 160 عاما الماضية او نحو ذلك (الفترة منذ نشر دارون نظريته في الإنتقاء الطبيعي) فهذا مقدار مذهل من الوقت الذي قضيناه نحن البشر الواعون تماما، ان نعيش دون القدرة  على فهم انفسنا بصدق؛ طوال  حوالي المليوني سنة في الواقع، لذا يمكننا الآن أن نرى مدى  أهمية (حرمان اسلافنا من العيش بشكل تعاوني ومحب،  بدلا من ذلك نخدع انفسنا بأنهم كانوا بشرهمج ومتوحشون، يحاولون إنتاج جيناتهم مثل سائر الحيوانات الأدنى مرتبة في سلم التطور؛ لآنه بدون هذا الإنكار وهذا العذر لن نتمكن من ذلك لكي نتعايش مع انفسنا طوال ذلك الوقت، ويمكننا منذ الآن ايضا ان نرى كم هو مريح للغاية ان يكون لدينا الفهم السبب  الحقيقي  لحالتنا الفاسدة، وأن لا نضطر بعد الآن الإستتمرار في تمثيلية الإيمان بقدر كاذب .

***

صالح البياتي

.........................

الهامش

- كل ما ورد في المقاله هو للعالم الأحياء جيرمي غريفيث.

- النبي موسى كليم الله.

يكاد يندر أن تجد إنسان عراقي يمتلك فضيلة (المطابقة) بين ما يقوله ويعلن عنه جهارا"من جهة، وبين ما يفكر فيه ويعتقد به باطنا"من جهة أخرى، بحيث يبدو كما لو أنه يعيش بين عالمين منفصلين ومتناقضين ؛ يظهر الجرأة والجسارة في الحالة الأولى، ويضمر الاستكانة والتقية في الحالة الثانية . ولهذا قلما نصادف في حياتنا اليومية وجود من يعبر عن ومضات عقله بصراحة وخلجات نفسه بوضوح ، وهو ما يعتبر بالنسبة لعلماء النفس والاجتماع حالة متقدمة من حالات (سايكوباثيا) الشخصية بحاجة الى تشخيص الأعراض وعلاج المسببات .

وكما في كل الظواهر الاجتماعية والإنسانية الشاذة والغريبة التي يمكن مصادفتها في حياتنا اليومية، لا يشكل الفرد العراقي - في هذا الإطار - حالة استثناء كما قد يوحي عنوان المقال لمن يستهويه هذا الأمر ويستمرئه، وإنما هي ظاهرة من جملة ظواهر عامة وشائعة يمكن رصدها وتشخيصها لدى أفراد وجماعات أخرى في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة . ولكن ما يتميز به الفرد العراقي عن سائر أفراد المجتمعات كونه (يتفوق) بأشواط على أقرانه في استبطان عقدة (الهاجس الأمني) واجتياف تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، لا في إطار وعيه الظاهر (الشعور) وما يتمخض عنه من تصرفات وسلوكيات غالبا"ما تتسم بالفضاضة والخشونة، الأمر الذي يسبغ عليها طابع التطرف في المواقف والعنف في العلاقات فحسب، وإنما في مطمور لاوعيه الباطن أو (اللاشعور) وما يتوقع أن يترتب عليه من تمثلات وتصورات غالبا"ما كانت مشحونة بفائض من القلق إزاء المستقبل، والخوف من المجهول، والريبة من الغريب، التوجس من المختلف .

والحقيقة انه إذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقنع يميط اللثام عن أسباب تمكن هذه الظاهرة من شخصية الإنسان العراقي المدجنة واستيطانها داخل شعاب سيكولوجيته المترجرجة، فلعلنا لا نجانب الصواب حين نزعم ان العلة الأساسية التي وسمت تفكيره وبرمجة وعيه بالشكل الذي ينم عن قلة حيلة وانعدام إرادة وفقدان مصير، إزاء سلاسل متواصلة من سياسات وإجراءات التجويع الاقتصادي والترويع النفسي والتركيع السياسي والتضييع الإنساني، التي لم تبخل أنظمة الحكم السياسية السابقة واللاحقة في جعلها طقوس متوارثة بين أجيال المجتمع طيلة عقود متقادمة وتواضعات متراكمة، حتى أضحت جزء حيوي من تكوينه الذهني والسيكولوجي .  

ولعله لو بحثنا في سيرورات وديناميات تاريخ المجتمع العراقي، لوجدنا من الأسباب والدوافع القاهرة ما لا يجعل فقط من شخصية الفرد العراقي عرضة لدوامات الخوف والقلق والتوتر فحسب، وإنما يحلها الى كتلة مضطربة تتلظى بجحيم لا يطاق من جنون الارتياب والهلع من كل ما له صلة بمؤسسات الدولة الأمنية وعناصر السلطة القمعية التي تحيط به من كل جانب . لاسيما وان هذا الإنسان المقهور في إرادته، والمهدور في إنسانيته، والمغدور في حقوقه، قلما عرف فترة من فترات تاريخه المخضب بدماء الأبرياء والبؤساء، والمعفر بدخان الحروب والصراعات . استشعر خلالها انه يعيش في ظل (دولة راعية) تحميه من غوائل الخوف والعنف من الآخر، مثلما يتمتع برعاية (مجتمع حاضن) يجنبه الوقوع بين براثن العزلة والاغتراب . ولهذا غالبا"ما نجد ان مشاعر (الثقة) المتبادلة بين رجل الأمن ونظيره المواطن العادي، كانت - على الدوام - ليست فقط ضعيفة وهزيلة وإنما ملغية ومعدومة بالكامل، هذا ان لم تكن ملغومة بالحقد والضغينة والكراهية، بحيث ان الحديث عن هذا الأمر يبدو أشبه ما يكون بثرثرة سمجة منه بتوصيف حالة واقعية معاشة . 

والمشكلة ان التربية البيتية (الأبوية) والتنشئة الاجتماعية (القبلية)، ساهمتا – كلا"في مجالها الخاص - في تكريس مثل هذه المخاوف وترسيخ مثل هذه الهواجس، سواء عبر سيرورات (المجايلة) الفاعلة في مثل بيئة المجتمع العراقي، حيث الروابط الأسرية والصلات القرابية والانتماءات العصبية لها اليد الطولى في تنميط وعي الفرد ونمذجة سلوكه، أو من خلال الممارسات والإجراءات البيداغوجية والإيديولوجية التي لا تفتأ السلطات السياسية من حمل مكونات المجتمع على الامتثال لتعاليمها والاجتياف لقيمها، بحيث لا تترك أي مجال أمام من يتجاسر على ردم الهوة بين من يرمز الى الدولة / السلطة، وبين من هو خارج وصايتها المستمرة ورقابتها المتواصلة ! . 

***

ثامر عباس

عندما يُبنى النظام السياسي على عقيدة حزبية أو دينية، يكون التراجع عنها انهياراً، فبعد أنْ يقضي النظام عقوداً مِن التعليم والتثقيف بها، لحمل المجتمع عليها، منقوشة في الدستور وفي دفاتر المدارس، فلا مجال للتراجع، مع بقاء النظام نفسه، فلم ينفع الاعتذار ولا إعادة الاعتبار، لمَن أُعدم وغيب بسببها، والسُّؤال: ماذا لو خرج مصلحٌ مِن أبناء العقيدة نفسها، ألم يتغير النّظام؟ نعم، يتغير ولكنّ لا تبقى العقيدة قائمة، فإذا انهارت، انهار ما سواها. لا يكفي خلع النَّظام ثيابه، إلا الإصلاح الشّامل، الذي يقرّ بأنَّ الدَّولة لإدارة مصالح النَّاس، لا دين لها، ولا عقيدة ملفقة مِن الرّوايات. عندما أراد أحد ملوك أوروبا عزل الكنيسة عن الدّولة، أعلن أنه ليس ملكاً على «الضَّمائر»، فكان الإصلاح (لوكير، التّسامح في عصر الإصلاح).

يذكر التّاريخ ما فعله الخليفة عبد الله المأمون(ت: 218هج)، لما عاد إلى بغداد ووجد المطاوعة استغلوا الفراغ، وبما أنّ بغداد عاصمة، ومَن يهيمن عليها تخضع له الأطراف، أعلن منها تسيير دولته بعقيدة كلاميّة دينيّة، وهي «خلق القرآن»، وأمر امتحان الفقهاء بها، ووفقها يتحدد الإيمان والكفر، استمر عليها، مِن بعده، أخوه وابن أخيه، لكن ما إن أتى جعفر المتوكل (قُتل: 247هج) وانقلب عليها، لم تنته العقيدة فقط، بل انتهى النّظام نفسه، فصارت تتحكم فيه الميليشيات- بمصطلحات زماننا- والقول مشهور: «خليفةٌ في قفص/ بين وصيفٍ وبغا/ يقول ما قالَا له/ كما تقول الببّغاء»(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام). كذلك شاع ببغداد على لسان اللُّصوص والعيارين، السنة (307هج)، عندما قُلد المملوك نجح الطُّولوني في إدارة الشّرطة: «أخرج ولا تبالي/ ما دام نجح والي»(مسكويه، تجارب الأُمم).

مِن أمثلة العصر الحديث البليغة: ظهر ميخائيل غورباتشوف (1985-1991) مصلحاً، بعد سبعين عاماً (1917-1991) مِن هيمنة العقيدة المركزيّة في الدَّولة والمجتمع، ومع كلّ الجبروت الداخلي والخارجي، وإذا يتحول الإصلاح (البروسترويكا) كارثة على النّظام نفسه، لأن الإصلاح هزّ ثوابت العقيدة، كما أن الأنظمة التي تبنت العقيدة الدّينيَّة، تورطت بها، لأنَّ العقائد للأفراد لا تصلح تطبيقات في الدَّولة.

اتُّهم غورباتشوف كثيراً، ومازال متهماً، حتَّى بعد وفاته (2022)، بالعمالة لإسقاط الاتحاد السّوفييتيّ، لكن لا أحداً نظر بأنّ الإصلاح إذا بدأ لا يُعصَم منه النّظام نفسه، وهنا لا يعنينا الخطأ والصّواب، إنَّما نظام العقيدة، لأنْ تكون ضمير النّاس، لا يقبل الإصلاح بأدواته. هذا، وإذا كان نظاماً دينياً، فالإصلاح المرائي سيضر الدِّين والدُّنيا معاً. كنا نقرأ لافتات ضخمة، ببعض العواصم، تقول: «فلان ضمير الأُمة»، فتأمل.

ما تنجح به أنظمة، مِن تجديد، وتقدم بالأقوال والأفعال، لم تكن أنظمة عقائديَّة، عندها السّياسة فن الممكن تماماً، والداخل أهم مِن الخارج، ومعلوم أنّ عقيدة دولة، أي دولة، عابرة للحدود والأوطان، لا تكتفي بداخلها، بل تواجه أزماتها الدّاخليّة بتصدير ضررها إلى الخارج، وإشغال شعبها بالشّعارات، لا بالبناء وملاحقة التّطور، ويكون شعبها أولاً، فمَن لا ينفع شعبه عاجز عن إعانة غيره. هنا يكون التّجديد هلاكاً لنظام العقيدة، بينما حياةً لغيره، وحكاية الحرس القديم، ومواجهته للإصلاح، ليست خافية على أحد، فإذا اضطرت إلى الإصلاح فلا يتعدى التَّرقيع.

نسب لعَدي بن زيد (ت: 587م) ما نعتبره حكمةً، وإنْ اختلفت المناسبة: «نُرقّعُ دُنيانَا بتَمزِيق ديِننَا/ فلَا دِينُنَا يَبقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ»(اليسوعي، شعراء النّصرانيَّة قبل الإسلام)، وقد استشهد ابن خلدون بالبيت، ولم ينسبه (المقدمة)، غير أنّ الجاحظ (ت: 255هج) نسبه لبعض المجان (كتاب الحيوان). أياً كان القائل فالحكمة ظاهرة فيه. ترى بشار بن بُرد(قُتل:167هج)، أخذه وقال بما يفيد المقام: «نُرقّعُ بَعضَ دُنيَانَا ببَعضِ/وَنَترُكُ مَا نُرقّعُهُ ونَمضِي»(ابن أدمر، الدُّر الفريد وبيت القصيد).

***

د. رشييد الخيون - كاتب عراقي

 

أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف جعلتني أشعر بأنني محاصرة ذهنيا

بقلم: زينب الحسني

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت أحلام اليقظة الممتدة بمثابة هروب كنت في أمس الحاجة إليه، لكنها تحولت إلى دافع يزاحم أنشطة اليقظة.

لقد كان الجو حارًا بعد ظهر يوم الأحد. لذلك قررت أن أحتسي بعض الشاي المثلج وأشاهد صبيًا أشقرً لطيفًا - في نفس عمري تقريبًا، يرتدي سروالًا بنيًا وقميصًا أبيض - يلعب في الخارج بمضرب البيسبول . في السياق، يجب أن تعلم أنني كنت مجرد فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات، أعيش في منطقة ريفية في لاغوس بنيجيريا، أحلم بالشخصية الرئيسية من فيلم لم أتمكن من إكمال مشاهدته بسبب انقطاع التيار الكهربائي. في هذه المرحلة، لم يسبق لي أن رأيت شخصًا أشقر أو مضرب بيسبول في الحياة الحقيقية. هذه هي أول ذكرى لي عن أحلام اليقظة.

في البداية كان الأمر بمثابة هروب غير ضار، وملعب إبداعي حيث أطلق فيه للخيال العنان. كنت أستحضر مشاهد بشخصيات مختلقة، وأنسجها بسلاسة في حياة المشاهير الذين رأيتهم في المجلات أو على شاشة التلفاز  لدى جارتي. ومع مرور الوقت، بدأت أحلم في أحلام اليقظة لساعات متواصلة - كانت أحلام اليقظة تبدأ من تلقاء نفسها - وأحيانًا كنت أستيقظ في الليل وأحلم حتى الفجر. في أحد أحلام اليقظة المفعمة بالحيوية، جاءت فتاة جديدة إلى المدرسة وأصبحت أفضل صديقة لي، وأوقفت أخيرًا التنمر الذي كان يحدث لي في الفصل. وفي الواقع، لم تأت فتاة قط.

تدهورت الأمور عندما تراجعت مصادر دخل والدي، وأصبح من الصعب تلبية الاحتياجات الأساسية أصبحت أحلام اليقظة بمثابة خلاص لعدم قدرتي على التغلب على الفقر الذي سيطر على حياتنا. في رأيي، لم أكن أجلب دلوًا من الماء أو أتعامل مع إصابة في الضفيرة الصدرية؛ لقد عشت أسلوب الحياة الفاخر لكيمورا وكيندرا وكارداشيانز. لماذا أعود إلى عالم مليء بالصراع والتوتر بينما أستطيع أن أعيش في أحلام اليقظة الحية؟ قدم هذا العالم الخيالي في البداية راحة هائلة من مشاكل الحياة الواقعية. ومع ذلك، فإن تعطيل أنشطتي أثناء اليقظة، سيؤدي في النهاية إلى تفاقم الضغط النفسي.

تم تقديم مصطلح "أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف" (MD) في عام 2002 من قبل عالم النفس السريري إيلي سومر. إنها ظاهرة نفسية تتميز بأحلام اليقظة الواسعة التي تحل محل التفاعل البشري الواقعي و/أو تتعارض مع قدرة الشخص على العمل في مجالات مهمة مثل المدرسة أو العمل. وهى تنطوي على عوالم خيالية مفعمة بالحيوية وغامرة يخلقها الشخص داخل عقله، غالبًا للتعامل مع التوتر أو القلق أو التحديات العاطفية الأخرى. العديد من الأفراد الذين يعانون من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لديهم تاريخ من الصدمات في مرحلة الطفولة أو سوء المعاملة أو الاضطراب العاطفي،وبعض السمات، مثل الإبداع العالي والاستيعاب، قد تهيئ الأفراد للانخراط فيها.

غالبًا ما تتسم أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف بسمات تتداخل مع حالات الصحة العقلية الأخرى، مما يجعلها ظاهرة معقدة يصعب التعرف عليها وعلاجها. على سبيل المثال، يمكن أن تشبه السلوكيات المتكررة أعراض اضطراب الوسواس القهري (OCD). هناك أيضًا تداخل بين أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف واضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط (ADHD): قد تساهم بعض أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في عدم قدرة بعض الأشخاص على تنظيم نوبات أحلام اليقظة؛ وفي الوقت نفسه، قد تؤدي أحلام اليقظة المفرطة إلى عجز في الانتباه كأثر جانبي.  كتب سومر وزملاؤه أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف تبدو "ليست مستقلة تمامًا عن وجود اضطراب آخر، ولا يمكن تفسيرها بشكل كامل".

يختلف هذا النمط الإشكالي من أحلام اليقظة بشكل كبير عن نوع أحلام اليقظة التي يعيشها معظم الناس. لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة.في أغلب الأحيان، كنت أتدرب على نفس المشاهد مرارًا وتكرارًا في أحد أركان الغرفة، وأقوم بتعديل المحادثات أو تعبيرات الوجه قليلاً. كنت أبكي عندما بكت شخصياتي، وكنت أضحك عندما تبكى. وعلى الرغم من أنني كنت أمشي بشكل قهري أثناء أحلام اليقظة، إلا أنني بذلت قصارى جهدي لإخفاء ذلك قدر استطاعتي خلف واجهة من السلوك المتواضع. لم تكن مشكلتي شيئًا يمكنني مناقشته بشكل علني أو طلب المساعدة بشأنه، حتى لو أردت ذلك. في موطني، أي شيء يشبه حتى ولو عن بعد شذوذًا سلوكيًا غالبًا ما يُوصف بأنه "بلاء" ويقابل بالريبة.

إن العيش مع إصابة في الضفيرة العضدية جلب لي المزيد من الألم الجسدي والعاطفي، مما زاد من وتيرة أحلام اليقظة. تركت جلسات العلاج الطبيعي آلامًا في جسدي، كما غمرتني استفزازات زملائي المستمرة بشأن مظهري. أصبحت أحلام اليقظة ملجأي الدائم، ووسيلة للخروج من جسدي وتخدير الألم. لقد عانيت من الشعور بالذنب والعار والإحباط في كل مرة استسلمت فيها لساعات من أحلام اليقظة. ومع ذلك، في هذه الأحلام، تمكنت النسخة المثالية من نفسي من تجربة الحب والقبول والكمال.

لقد حاولت الابتعاد عن الأمر، وتعهدت بالانسحاب نهائيًا. ولكن حتى أصوات الموسيقى يمكن أن تؤدي إلى حلقات تتصاعد إلى ساعات من الهروب الغامر. كثيرًا ما كنت أوبخ نفسي، وأتوسل بشدة إلى الله أن "يصلح" دماغي. عندما انتقلت إلى مرحلة البلوغ، بدأت أحلام اليقظة غير المنتظمة في إحداث تأثيرات بعيدة المدى، حيث تتداخل مع أنشطتي الاجتماعية ومساعي الأكاديمية. لقد حظيت بفرصة الحصول على موارد من الأصدقاء والعائلة لأتمكن من الدراسة في الجامعة. لكنني وجدت صعوبة في التركيز، خاصة عندما كانت الفصول الدراسية عبر الإنترنت بسبب فيروس كورونا (COVID-19). كان بإمكاني قضاء خمس ساعات في أحلام اليقظة بينما كان الموعد النهائي للمشروع يحدق في وجهي. كان لهذا الصراع أثره السلبي على أدائي الأكاديمي العام، مما كلفني فترة تدريب واعدة وفرص وظيفية.كما أنها عطلت أنماط نومي بينما زادت من التوتر والقلق وعدم الرضا عن الواقع. بدلاً من التعامل مع أصدقائي الحقيقيين، فضلت التراجع إلى الخيال. حتى المهام الأساسية مثل الطبخ والتنظيف والنظافة الشخصية أصبحت تحديات هائلة.

ومع اتساع الهوة بين أحلامي وواقعي، شعرت بالعجز عن عبورها. عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، طلبت أخيرًا المشورة الطبية سرًا.عرض المعالج الذي تواصلت معه عبر الإنترنت المساعدة، لكن التنقل من مسكننا الريفي إلى العيادة البعيدة كان مكلفًا وصعبًا من الناحية اللوجستية. بالإضافة إلى ذلك، في مكان حيث غالبًا ما يتم تجاهل مشاكل الصحة العقلية وتجاهلها، فقد أسيء فهم حالتي إلى حد كبير، حتى من قبل المتخصصين الذين حاولوا المساعدة.أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف ليست مدرجة أيضًا في نصوص التصنيف الرسمية مثل الإصدار الأخير من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5-TR) والأطباء النفسيون لا يعرفون ذلك إلى حد كبير.

لذلك كان علي أن أتعلم كيفية إدارة حالتي دون مساعدة مهنية وفي صمت. لم يكن الأمر سهلاً وكانت الرحلة مليئة بالانتكاسات ولحظات اليأس. لكنني وجدت العديد من الاستراتيجيات مفيدة، بعضها تم تطويره بشكل مستقل والبعض الآخر تعلمته من أشخاص لديهم تجارب مماثلة.

1. البحث عن  الدعم:

كنت أعتقد أنني الوحيدة التي تتعامل مع هذا الأمر، ولكن منذ بضع سنوات، اكتشفت مجتمعًا عبر الإنترنت يضم أفرادًا من جميع أنحاء العالم شاركوني في صراعي مع أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف. لقد كان ملاذًا حيث يمكنني أخيرًا التحدث بصراحة عن التحديات التي أواجهها دون خوف من الحكم أو سوء الفهم. التقيت بأشخاص آخرين أدركوا النطاق العميق لهذه المشكلة، أشخاصًا لم يسألوا: "لماذا لا تتوقفين؟"، بل عرضوا بدلاً من ذلك التعاطف والدعم والنصائح العملية. لقد انفتحت أيضًا على صديقي المقرب للمرة الأولى ولم أعد أشعر بالوحدة بعد الآن. أدى انخفاض الشعور بالعزلة إلى تقليل الحاجة إلى اللجوء إلى أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف.

2. البقاء حاضرا:

كانت إحدى الاستراتيجيات الأولى التي اعتمدتها هي أن أكون حاضرة: أضع يدي على صدري لأشعر بنبضات قلبيأو أعد الأوراق على فرع قريب للحفاظ على تركيزي على اللحظة. في الأساس، كنت أمارس اليقظة الذهنية. من خلال لفت انتباهي إلى هنا والآن، اكتسبت سيطرة أكبر على ميولي في أحلام اليقظة. لقد جعلني ذلك أكثر وعيًا بالمحفزات مثل الصباح الباكر والمسلسلات والمحادثات المكثفة والصراعات مع الأقارب والمهام المتكررة، بالإضافة إلى الأحاسيس التي شعرت بها خلال حلقات أحلام اليقظة .

3. الأنشطة البدنية:

إن المشاركة في النشاط البدني الذي يتطلب اهتمامي الكامل ساعد في تحويل ذهني عن أحلام اليقظة. أصبحت الهوايات مثل الرسم ونط الحبل والصور الفوتوغرافية وحتى صناعة الورق أدوات قيمة في ترسانتي. كما أنني أتطوع في مجتمعي مرة واحدة في الأسبوع لتعليم الشباب الفقراء مهارات حياتية مهمة؛ وهذا، على وجه الخصوص، ساعدني بشكل كبير.  ومع قضاء المزيد من الوقت في النشاط في العالم، قمت أيضًا بتقليل استخدامي لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت تميل إلى زيادة مشاعر عدم الكفاءة بينما توفر أيضًا مادة لأحلام اليقظة. بدأت ألاحظ أن أحلام اليقظة أصبحت أقل إلحاحًا عندما تم إيقاف تشغيل تطبيقات التواصل الاجتماعي.

4. إنشاء حدود زمنية:

أدركت في وقت مبكر أنني بحاجة إلى وضع حدود بين أحلام اليقظة وحياتي اليومية. إن تحديد أوقات محددة للأنشطة سمح لي بالحفاظ على درجة من السيطرة على أفعالي القهرية. كنت أقوم بضبط المنبهات والتذكيرات بتسميات مثل "استكشف خمس صفحات من كتاب القانون الدستوري الموصى به" أو "أرسل رسالة نصية إلى تيم وسارة". وبمرور الوقت، تمكنت من تقليل تكرار ومدة حلقات أحلام اليقظة عن طريق وضع هذه الحدود الزمنية. وبالمثل، يتضمن العلاج السلوكي المعرفي (CBT) أحيانًا جدولة أنشطة محددة في أوقات محددة ومساعدة الأفراد على إنشاء إجراءات منظمة.

5. التعاطف مع الذات:

ربما كان الدرس الأكثر تحديًا وتحويلًا هو تعلم أن أكون لطيفًة مع نفسي. كان علي أن أتقبل أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لم تكن عيبًا في الشخصية، وأنه لا يوجد أي خطأ جوهري في عقلي. لقد سمح لي التعامل مع نفسي بالتعاطف بالتقليل تدريجيًا من قبضة أحلام اليقظة على حياتي. أردت أن أكون محبوبة كشخص عادي وكامل، وهي الرغبة التي غذت أحلام اليقظة. الآن أقوم بتوجيه هذا البحث عن الحب بشكل مختلف.

إن التحرر من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف هو عملية مستمرة بالنسبة لي؛ لا تزال هناك أيام أتعثر فيها، لكني أحاول قبول ذلك دون الحكم على نفسي أو انتقادها. أنا لست مرهقة كما كنت من قبل. آمل أنه مع تزايد الوعي بقضايا الصحة العقلية في بلدي وإجراء المزيد من الأبحاث حول هذه التجربة على وجه التحديد، آمل أن يجد الأفراد الآخرون مثلي - الذين يتوقون إلى حياة أقل استهلاكًا للهروب إلى الخيال - الدعم والفهم الذي يحتاجون إليه.

(انتهى)

***

.......................

المؤلفة: زينب الحسني/ Zainab Al-Hassani . زينب الحسني هو اسم مستعار لطالبة قانون وشاعرة مقيمة في لاجوس بنيجيريا.

هوامش:

* تنجم إصابات الضفيرة العضدية عادة عن صدمة في الرقبة، ويمكن أن تسبب الألم والضعف والخدر في الذراع واليد. غالبًا ما تشفى إصابات الضفيرة العضدية جيدًا إذا لم تكن شديدة. يتعافى العديد من الأشخاص الذين يعانون من إصابات طفيفة في الضفيرة العضدية بنسبة 90% إلى 100% من الوظيفة الطبيعية لأذرعهم.

لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة، ومن خلال تركيز انتباهي على هنا والآن، اكتسبت سيطرة أفضل على ميولي إلى أحلام اليقظة

مقدمة: لقد كانت الحرب منذ فترة طويلة موضوعا للسحر والخوف والتحليل. ومع ذلك، فإن أحد الجوانب التي غالبا ما تستعصي على فهمنا هو عدم موثوقية اللغة في الوصف الدقيق لعنف وأهوال الحرب. في هذا المقال، سوف نستكشف التحديات المعقدة التي نواجهها عند محاولة توضيح الطبيعة الحقيقية للحرب، مع تسليط الضوء على سبب فشل اللغة في كثير من الأحيان في التعبير عن جوهرها بشكل كامل.

مدى تعقيد العنف في الحرب

إن وصف عنف الحرب مهمة شاقة بسبب تعقيدها المتأصل. إن العنف في الحرب يتجاوز التعريفات البسيطة؛ فهو يشمل الأبعاد الجسدية والعاطفية والنفسية والمجتمعية. إن الطبيعة المتعددة الأوجه للعنف تتحدى الأوصاف التبسيطية، مما يجعل من المستحيل تقريبا على اللغة أن تشمل نطاقه الحقيقي بشكل كامل.

الذاتية والمنظور

سبب آخر لعدم موثوقية اللغة في تصوير عنف الحرب هو ذاتيتها واعتمادها على المنظور. يعاني الأفراد المختلفون من العنف ويتصورونه بشكل مختلف. تتشكل اللغة التي نستخدمها بطبيعتها من خلال وجهات النظر الشخصية والخلفيات الثقافية والتحيزات. ومن ثم، فإن محاولات رسم صورة موضوعية تفشل لأن اللغة غير قادرة على التقاط مجموعة متنوعة من التجارب.

حدود اللغة

اللغة، باعتبارها أداة نقل للفكر الإنساني، تمتلك قيودا متأصلة عندما يتعلق الأمر بتغليف أهوال الحرب. الكلمات، بغض النظر عن دقتها أو مقصدها، غالبا ما تكون غير قادرة على تحويل الواقع الغامر والعميق للحرب إلى مجرد تمثيل لغوي. لا يمكن التعبير عن عمق العواطف والتجارب التي تصاحب الحرب بشكل كافٍ ضمن حدود اللغة وحدها.

الانفصال العاطفي

عند محاولة وصف عنف الحرب، غالبا ما تفشل اللغة في نقل العمق العاطفي الذي يعيشه المشاركون. إن الألم والخوف والحزن واليأس الذي يصاحب الحرب نشعر به بعمق ولكن يصعب التعبير عنه باللغة. ونتيجة لذلك، ينشأ انفصال عاطفي بين الجمهور والتجارب الفعلية للحرب، مما يحد من فهمنا لتأثيرها الحقيقي.

عدم القدرة على وصف الصدمة

تنتشر الصدمات في سياق الحرب، وغالباً ما تكون ندوبها النفسية غير قابلة للوصف. إن المعاناة التي لا يمكن وصفها والتي يتحملها الأفراد المتأثرون بالحرب تخلق حاجزًا لغويًا يزيد من إعاقة فهمنا. إن تجارب العنف الشديد والرعب تتجاوز الحدود اللغوية لمفرداتنا، مما يجعل اللغة أداة غير كافية لنقل حجم هذه الصدمات.

التجريد من الإنسانية والعبارات الملطفة

ونظراً للطبيعة الوحشية المتأصلة للحرب، فقد تم التلاعب باللغة منذ فترة طويلة لتخفيف الحقائق القاسية. يتم استخدام العبارات الملطفة والجهود اللغوية اللاإنسانية لإبعاد أنفسنا عن الحقيقة المروعة. يشكل هذا الانفصال المتعمد الروايات التي نستخدمها، مما يزيد من عدم وضوح الحدود بين الحقيقة والخيال، مما يعيق الفهم الحقيقي لوحشية الحرب.

الفروق الثقافية وقضايا الترجمة

عند مناقشة العنف في الحرب، تشكل الحواجز اللغوية عقبة أخرى. تعد ترجمة الفروق الدقيقة في التجارب الشخصية من لغة إلى أخرى مهمة صعبة للغاية وغالبًا ما تؤدي إلى فقدان المعلومات وسوء التفسير. ونتيجة لذلك، يصبح من الصعب على نحو متزايد على المجتمعات المتنوعة أن تتواصل وتستوعب بشكل حقيقي العنف الذي شهدته الحروب المختلفة.

التجارب الحسية في الحرب

تشغل الحرب كل الحواس، من صوت الانفجارات الذي يصم الآذان إلى رائحة الدخان النفاذة. ومع ذلك، فإن اللغة محدودة في قدرتها على تكرار مثل هذه التجارب الحسية. إن محاولات وصف عنف الحرب تفقد الحدة التي توفرها الأحاسيس الجسدية الفعلية، مما يقلل من قدرتنا على فهم التأثير الكامل.

تأثير الدعاية والإعلام

وفي عصر وسائل الإعلام، تتفاقم عدم موثوقية اللغة في وصف الحرب. غالبا ما تشوه الدعاية والإثارة السرد، مما يغير الفهم العام. إن قوة الصور واللقطات الصوتية تحجب اللغة الدقيقة، مما يزيد من التحدي المتمثل في الفهم الدقيق لعنف الحرب.

خاتمة:

اللغة، بكل تعقيداتها وقيودها، تكافح من أجل تلخيص العنف الحقيقي الذي شهدته الحرب. إن تعقيد العنف، والتصورات الذاتية، والانفصال العاطفي، والحواجز الثقافية، كلها تساهم في عدم موثوقية اللغة. وباعتبارنا متعلمين بضمير حي، يجب علينا أن ندرك هذه القيود وأن نستكشف وسائل بديلة لسد الفجوة بين اللغة وفهمنا للأهوال التي تحملناها في ساحة المعركة.

***

محمد عبد الكريم يونسف - سورية

 

"انت لست ضعيفا ما دمت تقاوم"

مقدمة: أثارت القضية التي رفعتها دولة جنوب افريقيا لدى محكمة العدل الدولية بلاهاي ضد الكيان المحتل لأرض فلسطين بسبب الجرائم المرتكبة ضد المدنيين والاطفال والمرضى والمدارس والمستشفيات وممارسة الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتمييز العنصري والتهجير القسري للغزاويين الكثير من ردود الأفعال سواء المرحبة في صفوف المنحازين للحقوق الفلسطينية أو المستنكرة بالنسبة للمساندين للإسرائيليين وانطلقت نقاشات في الدوائر السياسية والحقوقية وكذلك في الفضاءات الاعلامية والجامعية.

كما تم طرح المفارقات الفلسفية التي تتضمنها الأزواج المفوهيمية للحرب والسلام والحق والقوة وأيضا الحرية والعدالة والسيادة والمواطنة ووقع اثارة قضية تفكيك الاستيطان والعمل على انهاء الاستعمار وطرق القضاء على التمييز العنصري وتجفيف منابع الكراهية بين الشعوب والانتصار للحق والعدل بدل تفشي العنف والجريمة وانتشار الفوضى والقتال على الساحة الدولية وعولمة الفقر والمرض والازمات.

في هذا السياق، تظل الحرب، بحكم تعريفها، مجرد صراع بين أطراف غير راغبة أو غير قادرة على حل خلافاتها بوسائل أخرى. وبالتالي فإن الحرب هي توازن محض للقوى. وبالتالي، فإن نتيجتها في أغلب الأحيان تنطوي على خضوع أحد الطرفين المتحاربين للآخر. ومع ذلك، فإن الوضع الناتج عن ذلك، الحقيقة التي يرسيها توازن القوى هذا، ليس عادلاً للطرف المهزوم، لأنه، كما قال روسو، "القوة لا تصنع الحق". وعلى العكس من ذلك، يشير السلام إلى حالة اجتماعية يتفق فيها أصحاب المصلحة على حل النزاعات التي تعارضهم إلا بالقوة. وبالتالي فإن حالة السلام لا تعني عدم وجود خلافات، بل تعني وجود إجراءات معترف بها من قبل الجميع للتحكيم في النزاعات التي تنشأ بالضرورة عن الحياة في المجتمع. كما يبدو للوهلة الأولى أن السلام يتوافق مع حالة العدالة، لأن القرارات المتخذة في هذا الإطار تتخذ وفق قواعد مقبولة، وبالتالي مشروعة. وبهذا المعنى، يبدو أن الرغبة في السلام تتوافق مع الرغبة في العدالة. لكن هذا الارتباط يقوم على افتراض: التكافؤ بين الشرعية والمشروعية والعدالة. ومع ذلك، ليس لأن القانون أو الإجراء قانوني، فإن الوضع السياسي أو الاجتماعي الناتج عنه يكون مشروعًا، وبالتالي عادلاً. وفي بعض الأحيان يكون رفض خيار الصراع المفتوح باسم الحفاظ على السلام بأي ثمن بمثابة إدامة حالة من الظلم، وبالتالي التغاضي عنها. إن معالجة المشكل تفترض أننا نميز الرغبة في السلام والرغبة في العدالة. إن الرغبة في السلام تعني في المقام الأول الرغبة في الخروج من الاشتباكات والأعمال العدائية. ولكن هل يكفي أن نرغب في إنهاء الصراعات - ليست فقط الصراعات المسلحة على المستوى السياسي ولكن أيضًا الصراعات مع الآخرين في العلاقات الشخصية، وكذلك الصراعات مع الذات التي تقسم الفرد - لنريد السلام حقًا؟ أما الرغبة في العدالة، فهي تسكن الموضوع الأخلاقي كما تسكن الموضوع السياسي. ويتم التعبير عنها بشكل ملموس من خلال رفض الظلم، ومحاربة المصالح والامتيازات. ويمكن التعبير عن الرغبة في العدالة بدورها من خلال المطالبة بالاعتراف بالحقوق العالمية، والدفاع عن الأضعف، والمطالبة بالمعاملة العادلة. المشكل هنا يتساءل عن العلاقة بين السلام والعدالة. للوهلة الأولى، يبدو أن السلام والعدالة قيمتان لا يمكن فصلهما. من وجهة نظر العقلانية، يعتبر السلام والعدالة هدفين أساسيين للعقل. وكلاهما يعبر عن المطالبة بالعالمية العقلانية. إن العمل من أجل السلام يعني الابتعاد عن منطق الصراعات والمواجهات الخاصة. بالنسبة لكانط، فإن السلام الدائم هو هدف العقل العالمي -فكل الحروب التي أصبحت مستحيلة. ولكن ألا يمكن أن تكون هناك تناقضات بين السلام والعدالة؟ في بعض الأحيان نصنع السلام لأسباب أخرى غير العدالة – الهدوء والأمن، عندما نفضل الاستسلام بدلاً من الاستمرار في القتال. إن الرغبة في السلام هي إذًا استسلام، ولا تعمل من أجل العدالة. يمكننا أيضًا أن نصنع السلام ونعززه من منطلق المصلحة أو الإستراتيجية البحتة. على العكس من ذلك، فإن السعي لتحقيق العدالة يفترض أحيانًا أن نحمل السلاح، وأن ننخرط في المواجهة: حروب التحرير؛ الثورات. تحت أي ظروف إذن تعبر الرغبة في السلام حقًا عن الرغبة في العدالة؟ مما لا شك فيه أنه لا يكفي أن نرغب في السلام، بل أن نرغب فيه، أي أن نعمل من أجل السلام، من أجل سلام لا يمكن فهمه إلا على أنه نهاية للأعمال العدائية أو الصراعات، والذي لا يوجد سلام حقيقي إلا إذا فكرنا فيه. فيما يتعلق بالعدالة والحرية. إذا كان النزاع المسلح عبارة عن توازن محض للقوى، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن التوفيق بينه وبين انسجام الحياة الاجتماعية الذي تهدف إليه العدالة. ولكن أليست، مثل اتفاقيات ميونيخ، سلاماً ظالماً؟ هل رغبتنا في السلام تحمينا بشكل عام من الظلم؟ هذه بعض المعضلات التي يطرحها هذا المشكل، نحن نفترض هنا إمكانية وجود رغبة في السلام: فالناس لا يسعون إلى المواجهة فحسب، بل يمكنهم أيضًا أن يريدون السلام. ونتساءل عن طبيعة هذه الرغبة. ماذا يريد الناس عندما يريدون السلام؟ وعلى وجه الخصوص، فإن الرغبة في العدالة هي التي تحرك الرغبة في السلام. هل نريد السلام دائمًا لنرى العدالة تنتصر؟ هل يمكن أن تكون الرغبة في السلام مدفوعة بنوايا أخرى؟ اي واحدة؟ فهل هذه النوايا الأخرى، المخالفة للعدالة، سيئة بالضرورة، ومستهجنة؟ ألا يجب أن يتوقف العدوان على غزة لكي تتوقف المعارك الدنيوية حول المقدس الأخروي والتصادم بين الحضارات ؟

1) إذا كانت القوة لا تصنع الحق، فإن الرغبة في السلام هي بالضرورة تهدف إلى العدالة

في الكتاب الثاني، الفصل الثالث من العقد الاجتماعي (1762)، يوضح جان جاك روسو أن من يستسلم لقوة خصمه لا يشعر أبدًا بأنه مجبر على طاعته ملزمًا بل مقيدًا فقط: "إذا كان من الضروري الطاعة بالقوة، لا نحتاج إلى الطاعة بدافع الواجب، وإذا لم نعد مجبرين على الطاعة، فإننا لم نعد ملزمين بذلك." الآن، إذا كانت الحرب تتمثل في فرض إرادة المرء بالقوة على الخصم، فحتى عندما ينتهي الكفاح المسلح ويتقدم أحد الطرفين على الآخر، فإن الصراع يظل قائما. وبالتالي، يبقى ميزان القوى قائماً، ومعه عدم الاعتراف بشرعية الوضع السياسي الذي يترتب على ذلك. كما أن الأمر الذي تم إنشاؤه لا يتم التعرف عليه إلا من خلال الضرب. وعلى العكس من ذلك، فإن رفض أن تكون الحرب ملاذاً أو حلاً هو الحفاظ على أن السلام الوحيد، المرادف لغياب الصراع المفتوح، هو الذي يضمن في نهاية المطاف إقامة حالة مقبولة من الأغلبية بسبب شخصيته الصالحة. ما لم يكن الأمر مثاليًا بالطبع. هل يفتك الحق بمنطق القوة؟

2) الدخول في الحرب يمكن أن يتوافق أيضًا مع الرغبة في العدالة

إن كون الرغبة في السلام هي رغبة في العدالة لا يعني العكس، أي أن أولئك الذين يريدون الحرب سيظهرون بالضرورة الظلم. ويجب ألا نجعل السلم المدني مثالياً إلى درجة الاعتقاد بأن غياب الاضطرابات السياسية يعكس عدم وجود الظلم. عندما كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي (1848) أن "تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراعات الطبقية"، فإنهما يذكراننا بأن الصراع محفور في قلب المجتمعات البشرية: إن اختلافات المصالح التي تغذيها رغباتهم تضع البشر في منافسة ومعارضة. داخل الدول وكذلك بين الدول نفسها. ومن وجهة النظر هذه، يمكن للسلام أن يحجب حالة بنيوية من الظلم. دعونا نتذكر أن بعض حروب الغزو الإمبراطوري وُصفت بأنها عمليات "تهدئة"، وأن المجتمع الاستعماري الذي تم إنشاؤه بمجرد هزيمة السكان المحليين لم يكن عادلاً على الإطلاق، كما هو الحال في الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي لها حيث لم تكن المساواة بين المواطنين أمام القانون موجودة. وبالتالي، هناك سلام غير عادل يشكل في كثير من الأحيان بدايات الحرب القادمة، مثل معاهدة فرساي، التي عاقبت ألمانيا بشدة بعد الحرب العالمية الأولى والتي يتفق عليها المؤرخون. ويعتقدون أنها حددت إلى حد كبير قدوم الحرب العالمية الأولى. من الثاني. في انتقاد هوبز، أشار روسو إلى أن مفهومه للسلام المدني يعادل اختزاله في الأمن. ومع ذلك، فإن الحفاظ على النظام الاجتماعي كما هو يمكن أن يستوعب تمامًا الحفاظ على الظلم الصارخ داخل المجتمع. بين المجتمعات؟

3) إن الرغبة في العدالة تعني معالجة الصراع الاجتماعي من خلال المؤسسات السياسية

في كتابه "الأمير" (1532)، كتب نيكولا مكيافيلي أن "الحرب تكون دائمًا عادلة عندما تكون ضرورية، وتكون الأسلحة مقدسة عندما تكون المورد الوحيد للمضطهدين". ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يريد الحرب من أجل الحرب لأنها مكلفة بشكل منهجي للجميع. وبالتالي، يجب علينا دائمًا أن نفضل الحفاظ على السلام، ولكن بشرط واحد فقط هو النظر إليه من زاوية الاحترام غير المشروط للمؤسسات السياسية والحفاظ على النظام الاجتماعي. عندما كتب جون راولز في كتابه نظرية العدالة (1971)، أن "درجة معينة من الاتفاق حول مفاهيم العدالة ليست الشرط الوحيد لمجتمع إنساني قابل للحياة"، فهو يعني أن سياسة النظام لا تحتفظ بشرعيتها بين السكان إلا إذا فهو ينظم التعبير وحل الخلافات التي لا تفشل في الظهور مع مرور الوقت. ومن وجهة النظر هذه، فإن السلام يحدد كلا من شرط ونتيجة الفن السياسي المتمثل في الاتفاق على الخلاف. لذا فإن الرغبة في السلام تعني أولاً وقبل كل شيء الرغبة في منع الظلم ومحاربته باستمرار بوسائل القانون. الظلم الذي ينشأ عندما لا يتمكن جزء من السكان من التعبير عن مطالبه. فهل يمكن الحصول على العدالة بالمضي في طريق السلام ام بالتمسك بخيار الحرب والقوة؟

خاتمة

ويضع الجميع في أذهانهم صيغة كارل فون كلاوزفيتز: "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى". بشكل غير مباشر، يذكرنا أنه باسم السلام، يجب ألا نتخلى عن ممارسة السياسة: وهذا يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن نتحمل بشكل جماعي المستوى غير القابل للاختزال من الصراع الموجود داخل المجتمعات البشرية وبعضها البعض. إذا كانت الديمقراطية، بالمعنى القوي للكلمة، يجب أن تظل ثمينة في نظرنا، فذلك على وجه التحديد لأنها تضمن، من حيث المبدأ، التعبير عن الخلاف ومراعاة الخلاف بفضل الشكل المؤسسي للنقاش. فمتى ينتهي التدمير الممنهج والاستهداف المستمر للسكان في قطاع غزة وحاضرة فلسطين؟ وكيف يحل العدل محل الظلم وتكف الدول القوية عن سياسة المكيالين تجاه الدول المتعثرة؟ الا ينبغي على المنتظم الاممي أن يعاقب كل من يعتدي على حقوق الانسان والمواطن في العالم مهما كانت قوته ومبرراته وتردع كل من يصادر سيادة الدول ويمنع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بين العصف المأكول وطوفان الأزمات والمعالجة ببروستاريكا و طنية

عالم الأقتصاد العراقي:

سوف يكون محور البحث في سيمياء العنوان " فضاءات الأقتصاد العراقي، فالحفريات العميقة في الأقتصاد العراقي تبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير، ولآن التنمية الأقتصادية هي الرافعة الديناميكية لحلحلة الأشتباكات الرثة والمزمنة منذ قرن من الزمن فهي كفيلة في أضفاء السوداوية والقنوط على الواقع العراقي، ولو إن المشكلة تبدو كشبكة عنكبوتية متشابكة المتاهات خاضعة لخيبات أصحاب القراروهلامية الجدية والعبثية السياسية والدبلوماسية مع غياب ثقافة المواطنة وتعدد الأنتماءات الفئوية والشعبوية، وضغوطات المحتل الأمريكي بعقوباتهِ التعسفية2018 والتي داست السيادة العراقية بغطرسة تغولية مريبة، وتنمر دول الجوار أيران وتركيا وأطماع الكويت الجارة في قضم الحدود والأستحواذ على الممرات المائية واستنزاف الخزينة بديون باطله أكثر من 65 مليار دولار أمريكي ، أن أوجاعنا وخيباتنا المأزومة والمهزومة ربما بقدم وعراقة هذا الوطن الجريح، وتبدو المخرجات الأقتصادية الرثة والمعيبة رديفة الوطن ومتلازمتها منذ وجودهِ الجغرافي والسياسي عام 1921 حتى اللص المحترف (بريمر) البغيض الذي أكتنز المليارات من النقد ووجه ثروات البلد ومصادر الطاقة لحساب أسياده في واشنطن أضافة إلى أحياء المحاصصة والفئوية الطائفية والأثنية والمناطقية البغيضة والتجاوز على كرامة العراق بألغائه مؤسسة الجيش العراقي الباسل والذي كان واضحا بلعب ورقة الجوكر الشيطانية في تخريب ليس فقط المنظومة الأقتصادية بل تخريب المنظومة الأخلاقية للشعب العراقي بأنتشار نزعة اللصوصية والجرمية والفساد المالي وتخدير الشعب بالأفيون والكرستال القاتل، فأصبح الفساد الأداري والمالي شائعاً في مؤسسات الدولة العميقة وهو اليوم يعتبر من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات الأتحادية المتعاقبة، فهو بالتأكيد (يقوَض) الحكم السوي ويشوه السياسة العامة ويهدم مرتكزات القطاع العام والخاص والتالي يلحق الضرر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن خلال هذا الغوص الجاد في ألقاء الضوء الكاشف على محطات الوجع العراقي لذا صرنا نتشبث الخروج من الوحل التسلطي الخارجي، أو ربما البحث عن تلك القشة المنقذة في أستنساخ بعض النماذج الناجحة في بعض دول الخليج والعالم المتمدن، ولست سوداويا بل تفرض علينا الحقائق المأساوية والمؤلمة والتي كابدناها يبقى هذا البصيص من الآمال الواعدة بأستراتيجيات وردية واعدة تندس ضمن أحلامنا الممنوعة لآننا نعيش حرمانات كوميدية رثة ومعتقة نكابدها مرغمين، ولا زلنا نفتش في المعاجم القديمة عن كذبة كبرى تدعى (الوطن)!؟.

حفريات عميقة في أقتصاديات الدولة العراقية

- أمريكا في العراق صراع على النفوذ ومآلات السيطرة ورهانات المستقبل بدت جلية للعيان للأعوام 2003 – 2016- 2014- 2018 – 2023 – 2024 وهي المخرجات البغيضة والمؤثرة للعقوبات الأمريكية على العراق عام 2018.

-الأقتصاد العراقي المستنزف في حضن الصندوق الدولي الأسود.

- كوابيس أضطراب بوصلة أسعار النفط يهدد الأقتصاد العراقي.

- سوداوية المخرجات السيئة للأقتصاد العراقي تنحو بأتجاه عالم الغثاثة السياسية والمخاض العسيرللتغيير.

- مزاد العملة الأجنبية فرية أمريكية (بريمرية).

- عدم الجدية في أقرار (قانون) حريمنع الأستحواذ والتسلط والبيروقراطية ويعطي المجال الأوسع لخنق للقطاع الخاص وعدمية أستدامة أستثمارية جديدة تعالج الثغرات المحبطة أمام التغيير.

- نعم الجفاف والتصحريقسو على زراعة العراق، قلة الأمطار تعمق الأزمات المائية وتزيد من معاناة أكثر من ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني شحة المياه، وإن العراق يستنزف خزين مياهه الجوفية للسنة الخامسة للتصحر، وبأعتقادي اللجوء للمياه الجوفية تكون للطوارئ فقط.

- العراق وتحقيق التوازن بين ثرواته الطبيعية ومستقبل الطاقة المستدامة.

- تراجع الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي والتأثير المباشر على السوق الموازية بأضطراب الأسعاروالتي تدفع فاتورتها البغيضة الطبقات الفقيرة والوسطى، كمثال لا للحصر سعر طبقة البيض اليوم الأربعاء 10\1\24لامس الثمانية آلاف دينار عراقي.

- البرلمان العراقي ومن بعدي الطوفان وغياب الرقابة البرلمانية والتشريعية.

المعالجة بوصفة بروستاريكا أصلاحية وطنية عراقية

 البحث في حيثيات مثل هذا الموضوع الدقيق والخطيرو الذي يلامس خبز المواطن وحريته ووجوده يجب على الباحث ان يركزعلى المعطيات السوسيولوجية ومآلاتها وتحدياتها ورهانات المستقبل لا ضير ولا ضررفي أستنساخ نماذج لمشاريع ناجحة بنقلة نوعية خدمية تلمس حياة المواطن في مآلات واعدة بالنماء والتغيير الحقيقي من دول أقليمية أو دولية، والتحرر من فايروس أسطورة تمجيد الفرد كما ظهرفي أنماط السياسة والأنثروبولوجيا الجمعية العراقية والعالم العربي .

المطلوب بديل حسب مقاسات العقلانية لا الغيبية، كما رفض أنماط الحياة المرتبطة بالرأسمالية البطريركية الذكورية ذات النزعة الأستهلاكية المتجهة إلى تدمير مسارات التنمية المحلية والدولية، ويجب حضور السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية، وأحياء وبث الروح في النقابات والمنظمات العمالية في وطننا العراق لكونها تمثل الضمانات الوحيدة لأعادة بناء عالم آخر أفضل متعدد الأقطاب مدني ديمقراطي بديلا وحيدا عن بربرية الرأسمالية الجشعة، نعم التماهي مع نماذج المشاريع الأقتصادية التنموية (الواعدة) بمستقبل أستراتيجي للشباب، وهي فرصة ثمينة للأطلاع على النهضة التنموية لدول عربية ناهضة بالواقع الأقتصادي للدولة بأستخدام منصات علمية حداثوية في توفير الأستدامة للموازنات المقبلة، وأضيف توسع الدولة في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة وأكتشاف المهارات والابتكارات للبحث عن البديل التقليدي بظل أستخدام الأستدامة المالية التي تدفع إلى التوازن بين الأنفاق والأيرادات حينها توفر للدولة (خمسة) روافد نقدية لدعم موجودات الغطاء النقدي في البنك المركزي العراقي، ومن هذه النماذج المشاريعية المستدامة " مشروع طريق التنمية " إنهُ رغبة دولية وأقليمية لآنجاز المشروع (أثني) بالعاجل للبدأ بالتنفيذ لكونه عامل ضغط لمكافحة الفساد وهدر المال العام وهو تدعيم للأستثماروالأستغناء التدريجي عن النفط كمصدر رئيسي لموازنة البلاد وبناء هيكلي للأقتصاد المستدام الغير نفطي ويبقى كمشروع ستراتيجي واعد للتغيير، وعندي هنا وهناك بعض الملاحظات ربما لها الأثر في الوصول إلى التغيير الشامل الأصلاح بمفهوم بروستاريكا عراقية وطتية:

-التوأمة بين مكافحة الأرهاب وهيئة النزاهة.

- أعادة تأهيل وأكمال مطار الموصل الدولي .

- نظام النزاهة الوطنية ضمان لتحقيق الحكم الرشيد.

- التقليل من أثر التصحرالجاثم على العراق الذي يستنزف خزين مياههُ الجوفية للسنة الخامسة وهناك ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني من مشكلة شحة الماء.

- مشكلة السكن يجب أن تكون من أولويات البرنامج الحكومي الحالي.

- الدفع الألكتروني يقلل من نسبة الفساد، البطاقات ستسهل الأمور اليومية.

- معالجة فك الأختناقات المرورية.

- أضطراب بوصلة الدينار العراقي في السوق الموازية بتأثرهِ أمام القوة الطفيلية للدولار الأمريكي.

وأخيراً وليس آخراً

لا ضير بالأستأناس بأفكاربعض أساطين الأقتصاد السياسي العالمي وصناع مشاريع الأصلاح البنيوي كتنظير للأستفادة من أفكارهم وتجاربهم في ماهية الدولة المدنية الديمقراطية منهم نماذج:

- كارل ماركس هو معلم الطبقة العاملة وصاحب شفرة (كود) التغيير: "بنضوج الوعي العام والأدراك " بحالته المأساوية الظلامية عند الجماهير المستلبة، طبعاً لأنفراط العقد الأشتراكي السوفييتي وأنفراد أحادية القطب العالمي بقيادة أمبراطورية الولايات المتحدة وكارتلات الشركات االعملاقة حركت أعلامها الموجه ولآن الأعلام بمفهومه الموضوعي كونهُ قوة خفية ناعمة مؤثرة وخصوصاً عندما يزحف بالتوجه الطفيلي في التغول وخلط الأوراق أوجدت كيان هلامي أسمتهُ (المواطن المستقر) أو المواطن المترف الذي تعرض طويلا إلى القمع والقهر الروحي أدى إلى نشوء المواطن المستقر "طوعيا " كما نرى اليوم في بعض دول الخليج، والشعب العراقي في ظل الحكم الصدامي ل 35عام، وسيكون عائقاً غثا وصعباً أمام التغيير ألأ خروج المواطن من داخل هذه الشرنقة المرعبة (دولابوسييه وكتابه العبودية الطوعية).

- الفقيد الدكتور فالح عبدالجبار فهويوضح مفهوم اللادولة هو شكل آخر موازي من أشكال التنظيم الأجتماعي غير مستند على تنظيم أجتماعي أو سلطات مستقلة، فهي دولة عميقة يستحوذ على سياساتها المال والسلاح السياسي، ففي نظر الدكتور عبدالجبار- عند ترجمة كتابه يسميها الدولة االغير رسمية تكون داخل الدولة وخارجها وأكتسبت أهمية سياسية وعسكرية دائمة من خلال قواعد شعبية لها، وبشكل أدق يسميها (الجماعات الهجينة) وإنها تعمل على بناء هياكل موازية للدولة مما يمنحها أستقلالية غير قانونية (كتاب اللادولة فالح عبدالجبار 2021)، وللأسف رحل المفكر الأكاديمي مبكرأ وترك غيابه كماً من الأسئلة والتوضيحات وهكذا الموت وأستحظرما قالهُ الأديب الفلسطيني غسان كنفاني عن الموت وهو ينعي نفسه: (وحدهم من يغلقون الأبواب دون أصدار ضجيج لحظة خروجهم لايعودون...).

- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

يوم السبت 6كانون 2024 وصلتني دعوة - وأنا في بغداد الحبيبة - من منتدى بيتنا الثقافي في الأندلس حضور محاضرة عن نظام النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد كانت محاضرة موضوعية واقعية بكم ثري من المعلومات الأقتصادية في موارد العراق الثرية الغير مستثمرة راقت لي المحاضرة وخصوصاً عند تبويبها المحاضر بتراتيبية ممنهجة تتماهى أكاديمياً بهذه المحاور:

1- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

2- أجراءات وقائية تعزز الصناعة

3- سماع صوت الفئات المهمشة

أستاذ سعيد رشيد متخصص في مجال الحكم الرشيد وركزفي محاضرته الموضوعية على رافعة "النزاهة " متناولا الوضع العراقي بعد 2003 حتى اليوم مؤكداً: إنهُ لا توجد رؤية أقتصادية تنموية واضحة في العراق، فالمفروض أنما يصرف للتنمية اليوم يجب أن يجلب بعد سنوات أموال وخدمات ملموسة للمواطنين لكن شيئاً من ذلك لم يحصل بسبب الفساد الأداري والمالي، وأثني على ما طرحهُ المحاضر في مجالات تقويم الحكم الرشيد القائمة على النزاهة وبياض اليد والذات لهي كفيلة في وضع البلد على السكة الصحيجة أضافة لسن قوانين وقائية حديثة تواكب الرقمية الحداثوية.

****

كاتب وباحث وناقد أدب عراقي مغترب

في كانون ثاني \2024

 

غالبا"ما نقف عاجزين أمام لوثة غريبة ومحيّرة متوطنة داخل أوساط نخبنا الاجتماعية، ومتشبثة بتلابيب رموزنا الثقافية مؤداها؛ إخفاق أو عدم قدرة الفاعل الثقافي العراقي (المثقف) على الإفلات من قيود انتماءاته الأولية (الاثنية، القبلية، الطائفية، الجهوية)، وفشله في إظهار قدرته على التخلص من رواسب تأثيراتها الذهنية والنفسية سواء على صعيد مدركاته / تصوراته أو سلوكياته / علاقاته . هذا على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها البعض منهم لتخطي تأثيراتها السوسيولوجية، والتغلب على إيحاءاتها السيكولوجية، والحد من أطيافها المخيالية . من منطلق كونه عنصر (فاعل) محسوب على ما يسمى بجماعات (النخبة) التي من المفترض ألاّ يليق بوعيها ولا يناسب أخلاقياتها استمرار التمسك بتلك التأثيرات والإيحاءات والأطياف، بزعم حسبانها مواريث يستوجب حمايتها من عوامل الاندثار ورعايتها من تجاسر المتطفلين . ناهيك عن العناد في الذود عنها والمحافظة عليها بكل تلك الحمية العصبية التي تصل في بعض الأحيان لحدّ الهوس، لاسيما وانه دائم المطالبة بان يكون رمزا"للمعرفة وعنوانا"للتنوير ومرتكزا"للحداثة .

وإذا ما تواضعنا على حقيقة سوسيولوجية تكاد تكون شائعة بين الناس ومألوفة لديهم مفادها؛ انه من الصعوبة بمكان العثور على فرد ما من أفراد مجتمعات المعمورة يكون خالي الوفاض من رواسب الماضي وشوائب التاريخ - بصرف النظر طبعا"عن مستوى تطور تلك المجتمعات في مدارج الحضارة - فان محاولة البحث في خوانق التاريخ وشرانق المجتمع التي يستبطنها وعي المثقف العراقي وتجتافها سيكولوجيته، ستبدو كما لو أنها بلا معنى أو دون جدوى طالما ان جميع البشر سواء في هذه الظاهرة . على اعتبار انه يتعذر وجود مجتمع بلا سرديات تؤسس لبدايات صيرورة هذا التكوين البشري أو ذاك، مثلما نحتفظ بأرشيفات تاريخه ومواريث أجياله ومخلفات حضارته .

والحال انه وان صحّ قولنا ان الغالبية العظمى من الناس يحتفظون في مخزون ذاكرتهم أو مخيالهم بشيء من مخلفات أصولهم السوسيولوجية، ومواريث منابتهم الانثروبولوجية، وترسبات مرجعياتهم الخرافية والأسطورية، بيد أن ذلك لا يشكل – بالنسبة لهم – عائق يحول دونهم والتطلع الى الأمام والتنطع صوب المستقبل، تجاوبا"مع سيرورات التغير واستجابة لديناميات التطور . لا بل ان بعض الشعوب استخدمت تلك الأرشيفات والسرديات التاريخية – بعد أن رممت بنائها ماديا"وشحنت مضامينها رمزيا"، ومن ثم وظفتها إيديولوجيا"واستثمرتها سياسيا"لاعتبارات جيوبولتيكية وجيواستراتيجية . ولكن، بالمقابل، هناك مجتمعات أخرى اختزنت بعادا"تاريخيا"موغل في القدم وامتلكت رصيدا" حضاريا"سباقا"في العراقة، إلاّ أنها - برغم ذلك - فشلت فشلا"ذريعا"في استثمار هذه المزايا التاريخية والحضارية التي طالما تاقت إليها بعض الشعوب وتحسّرت عليها بعض الأمم دون طائل .

ولعل من أشد المعاضل الوجودية فتكا"لبنية الوعي الاجتماعي وأكثرها ضررا"على مضامينها التصورية والاعتقادية، هي تلك المرتبطة ب(خوانق) التاريخ و(شرانق) المجتمع التي غالبا"ما يفشل الفاعل الثقافي في المجتمعات التي لا تبرح تتغذى مكوناتها على قيم  ماضيها البدائي، في التخلص من تأثيرها أو الحد من آثارها حتى ولو قطع البعض منهم شوطا"كبيرا"في مضمار التحصيل العلمي والتأهيل المعرفي . إذ تبدو – بالنسبة لهم - مسألة الإفلات من قبضتها والتملص من قيودها صعبة عقليا"ومكلفة سيكولوجيا"، وذلك جراء تعرضهم المستمر وخضوعهم المتواصل لعميلات (التنميط) الذهني والنفسي والقيمي والرمزي، عبر سيرورات المجايلة الاجتماعية والثقافية التي عادة ما تكون فاعلة وناشطة في هكذا نمط من المجتمعات (الأبوية) . ناهيك عن انخراطهم ضمن ديناميات (الاجتياف) و(التدجين) التي تفرضها عليهم وتمارسها ضدهم مؤسسات عديدة ومتنوعة وظيفتها تحقيق (الضبط) العقلي والنفسي والأخلاقي للأفراد والجماعات؛ ابتداء"من (الأسرة) سوسيولوجيا"، ومرورا"ب(المدرسة) بيداغوجيا"، وانتهاء" ب(الدولة) إيديولوجيا"

وعلى العكس مما كان متوقعا"أو مرجوا"، فان (خوانق) التاريخ قد ازدادت ضيقا"، و(شرانق) المجتمع قد تضاعفت سمكا"، مع فترة انتشار الإيديولوجيات الرديكالية وتصاعد ضجيجها (اليميني) و(اليساري)، إضافة الى اعتلاء أحزابها السياسية عرش السلطة والإمساك بأعنة النظام . حيث بات التاريخ حقل مستباح للمزايدة والمفاضلة باللجوء الى عمليات (الاختلاق) و(التلفيق) من جهة، وأضحى المجتمع مضمار منافسة ضارية لتسويغ ادعاءات (الأحقية) الوطنية و(الشرعية) السياسية بين مؤدي ومعارضي مختلف الإيديولوجيات المتصارعة من جهة أخرى . وهو ما أفضى الى انتكاس وارتكاس وعي (نخب) استمرأت الانخراط في عمليات (تأدلج) واسعة النطاق، بين خوانق سرديات تاريخية لا تني تتوغل في مجاهل الأسطرة والأمثلة من جهة، وبين شرانق أصوليات اجتماعية لا تفتأ تمعن في تأجيج مشاعر التعصب والتطرف من جهة أخرى .

***

ثامر عباس

 

لعبت الصحافة الثقافية، على امتداد تاريخها، دوراً محورياً في دعم المبدعين وإتاحة الفرصة لتقييم أعمالهم ونشرها ورفد المشهد الإبداعي بعديد من المبدعين الجدد، لا سيما البعيدين عن أضواء العاصمة إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في هذا الدور، وعلى الرغم من أن الصحافة الثقافية لم تختفِ من المشهد، لكن حضورها أضحى هُلامياً في المشهد الإبداعي.. الصحافة الثقافية تعيش أزمة حقيقية وتعاني من تراجع ملحوظ واختلال في المستوى الذي ظهر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، كما يقول مختصون، بوقوع الصحافة الثقافية في إطار الأزمات الفرعية وتصفية الحسابات.

الصحافة الثقافية باتت في احيان كثيرة تفتقر إلى التركيز على الحياة الثقافية ومجتمع المثقفين، وتصب تركيزها على العلاقات بين المؤسسات الثقافية، وتبحث عن الفضائح داخل الأروقة الثقافية والأزمات التي تتصاعد داخل المجالس الثقافية، متناسية الإبداع الأدبي والثقافي الذي يجب أن يطيح بتلك الأزمات.

وللآسف نجد محرر صحافي أومسؤول صفحة ثقافية، لا صلة له أصلًا بالثقافة، هذا في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الصحافة جزءا من الثقافة وتدعمها وتغذيها، إذ لا يمكن اعتبار الصحافة كياناً بعيداً عن الثقافة ، ويجب رفع مستوى هذا التخصص كما كان من قبل، من توسيع إطار المفهوم الثقافي والاهتمام بالقراءة والشعر والأدب، وتغطية المجتمع الإبداعي من مثقفين وكتاب وقراء وظواهر أدبية، والخروج من عباءة تغطية أزمات الثقافة والمؤسسات الثقافية، فضلا عن تكوين كوادر إبداعية حقيقية داخل المؤسسات الصحافية.

الصحافة الثقافية يوصفها كثيرون بالمهمشة، سواء على صعيد الصحف والمجلات القائمة أو ضمن الصفحات الثقافية في صحيفة أو مجلة ما. والمؤسف فعلياً أن هذه الصفحات من السهل حاليا التخلي عنها وحذفها، فقط بسبب وجود إعلان أو مادة سياسية أو اقتصادية أو... يراد أن يتوسع بها، هذا يعكس النظرة المتدنية للثقافة بشكل عام والصحافة الثقافية بشكل خاص، وهو ما يهدد المشهد الثقافي لعدم وجود نقاد ومتابعين للمشهد الإبداعي ومتغيراته، كما أن هذا الأمر ينعكس على القارئ وطبيعة متابعته للحياة الثقافية، وهنا تنبع ضرورة ربط الصحافة الثقافية بنطاق التغطية الجيدة والتعامل معها على أنها جزء لا يتجزأ من التغطية الصحافية العامة، مع ضرورة تخصيص مساحة أكبر من التغطية والتعامل مع صحافيي الحقل الثقافي بقدر من الاهتمام والجدية، وكذا الحث على الارتباط بها أكثر، حيث إن الثقافة إحدى وسائل بناء الفكر والعقل.

الصحافة وسيط بين المؤسسات والقطاعات والمتلقين، لذا لا بد أن تكون على قدر المتغيرات والتطورات في جميع الساحات، ومنها الساحة الثقافية التي تهمشها غالبية المؤسسات الصحافية، وهذا ما يفسر تراجع المتابعة للحياة الثقافية بصورة أو بأخرى. وفي رأيي، لا بد من زيادة الوعي بأهمية هذا النوع من الصحافة المتخصصة، لأن الثقافة تمثل الوجه الآخر للمجتمع، الصحافة الثقافية تعاني من أزمات متعددة، بدءاً من المحاباة والمجاملات ووصولاً إلى التغاضي عن تغطية الأنشطة الثقافية المتنوعة، ولا سيما الشعر الذي يعاني من تراجع سواء للمتابعة أو التغطية.. إضافة إلى تركيز الاهتمام على العاصمة، وتجاهل الأقاليم التي تزخر بمبدعين يعانون من التجاهل والنسيان.

لا يقتصر دور الصحافة الثقافية، على الترويج أو التغطية للساحة الأدبية، بل من شأنها أن تعمل على رفع مستوى الوعي المجتمعي بالأدب عن طريق النقد الأدبي، الذي يشهد بدوره تواريا كبيرا في العقود الأخيرة، لاسيما مع فقد العلاقة بين الكاتب والقارئ لعدم تركيز الأخير على الأدب، أو العزوف عن القراءة بصفة عامة، خاصة مع الزيادة الرهيبة في أسعار الكتب وفي الوقت نفسه تدني الحالة الاقتصادية للمواطنين، الصحافة الثقافية ينبغي أن تستعيد مكانتها بدعم وتغطية جميع أشكال الفنون الأدبية من القصة القصيرة والرواية والشعر ومناقشة الظواهر الأدبية وتحليل المتغيرات التي تطرأ على المشهد الإبداعي بموضوعية، معتبرا أن التجاهل الحادث حاليا يبعث على إحباط الكُتاب والمبدعين.. كذلك القراءالمؤسسات الثقافية والدولة بصفة عامة، لا تهتم بالأنشطة الثقافية ولا تعطي لها مساحة وجود كافية أو حتى مخصصات مالية تحرك المياه الراكدة في مسيرة الإبداع فضلا عن الحاجة المجتمعية العامة بأهمية أن تعي الدولة قيمة دور المثقف وضرورة دعمه ودعم موقفه، بعيدا عن التهميش وتثبيط المواهب، من دون وعي أو وجه حق.

***

نهاد الحديثي

ظلّ الجدل محتدمًا بين تيارين، كلاهما يزعم امتلاكه للحقيقة ويدّعي الأفضلية، بل يتعصّب لفكرته لدرجة يتم فيها "شيطنة الآخر"، التيار الأول - يطلق على نفسه اسم "الإسلامي"، وإن كان يمثل طيفًا واسعًا غير متجانس من الذين يندرجون تحت هذا العنوان؛ أما التيار الثاني - فيصف نفسه ﺑ "العلماني"، حتى وإن كانت مرجعياته الفكرية مختلفة، بل ومتناقضة.

يرى بعض الإسلاميين، وبشكل خاص الإسلامويين، أن العلمانية مصطلح غربي، وهي بالأساس وجدت لحل مشكلة في الغرب، حتى وإن كانت نتائجها إيجابية في سياق تاريخي، بفصل الكنيسة عن الدولة، إلّا أنه لا يمكن تطبيقها على مجتمعاتنا، لأن الأرضية مختلفة تمامًا، والإسلام "دين ودولة".

ومثل هذه المبررات تلقى هوىً كبيرًا لدى جمهور واسع، حيث يتم تصوير العلمانية بأنها فكرة مستوردة، أي أنها لا تمتّ إلى عالمنا الإسلامي بصلة، وهدفها التغريب وقبول الاستعمار الثقافي، خصوصًا حين يتم ربطها بالإسفاف وإشاعة الرذيلة والانحلال الأخلاقي والفساد القيمي، بل إنها ملازمة للكفر، وذلك في إطار الدعاية السياسية والمنافسة المجتمعية ضدّ العلمانية.

 لكن ثمة آراء إسلامية منفتحة، تلك التي تعتقد أن لا وجود لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، كما يذهب إلى ذلك محمد عمارة، ويدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى "دولة الإنسان"، وبهذا المعنى يقدم الإسلام شؤون المجتمع وسياسة الدولة وأمور الدنيا في الحياة، و هو ما فعله النبي محمد (ص) حين اضطر الهجرة إلى المدينة المنورة، فوضع دستورًا هو نواة أولى لدولة مدنية تحترم الأديان، بعد أن كان في مكة مبشرًا .

أمّا العلمانيون فإنهم أيضًا يحاولون "شيطنة" التيارات الإسلامية، ولا يفرقون أحيانًا بين الإسلاميين والإسلامويين، بل ويعتبر بعضهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن كل ما يمتّ إلى الدين بصلة هو متخلّف ورجعي، حتى وإن قصدوا بذلك بعض الطقوس والشعائر، التي تمارس باسمه، وتمثل درجة تطور الوعي الديني والمجتمعي في حقبة زمنية معينة، وهذه قد لا يكون لها علاقة بالدين، وإنما تندرج في خانة التديّن، وهكذا يتم الخلط بين الدين والتديّن، فتكال الاتهامات تحت هذه المسوّغات، في حين أن الدين منظومة قيم إنسانية وأخلاقية، تدعو إلى السلام والتسامح والعدالة والمساواة والشراكة والإخاء.

وقد حاول بعض العلمانيين الابتعاد عن المفهوم المبالغ فيه للعلمانية المغالية، "العلمانوية"، فتبنوا مفهوم "الدولة المدنية"، وهي حسب بعض تفسيراتها، تقف على مسافة واحدة من جميع المجموعات الثقافية الدينية والقومية واللغوية والسلالية، وتحمي جميع أفراد المجتمع. وقد يكون من المفيد استخدام مصطلح "الدولة القانونية" التي تقوم على المشروعية القانونية، بمعنى حكم القانون، وتتجسّد شرعيتها السياسية برضا الناس وتقديم المنجز لهم، فللدين حقله الروحاني والعقائدي والإرشادي، أما السياسة فهي ميدان للمصالح، وحتى لو اجتمعت العقيدة مع المصلحة، فلا بدّ من تكييفهما مع الواقع المتطوّر باعتباره هو الأساس والمتغيّر.

وإذا كان بعض الإسلاميين، والإسلامويين بشكل خاص، يميلون إلى "أدلجة" الدين وتسيسه بالضدّ من تعاليمه، بتبرير أعمال العنف والإرهاب، وهو ما قامت به تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما، بحيث فقد طابعه الروحاني والأخلاقي والإنساني، فإن بعض العلمانيين يتنكرون للدين ودوره، كمرجعية للمجتمع. ويذهب محمد أركون إلى نقد العلمانية، التي كانت في بدايات عصر التنوير طاقة تحرريّة، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى نوع من التسلط والهيمنة، كما هي العلمانية في ألمانيا النازية وفي الكتلة الاشتراكية وبعض نسخها العالمثالثية.

هكذا تفسخت العلمانية، خصوصًا عند استعمار أمم وشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها، بزعم تمدينها، إضافةً إلى دعم أنظمة استبدادية متخلّفة مفروضة عليها بفعل النظرة المركزية الأوروبية، التي ما تزال مهيمنة في النظر إلى شعوب البلدان النامية، وذلك لضمان مصالح الغرب، وخير مثال على ذلك، الموقف من حرب الإبادة على غزّة، حيث أصبح العقل دغمائيًا وذرائعيًا ومصلحيًا، وأصبحت العلمانوية دينًا جديدًا، لا يقل دغمائيةً عن دغمائية الإسلامويين أو المتأدينين، خصوصًا برفض التعددية أو العجز عن استيعابها، فضلًا عن احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية، ولاسيّما حقه في الحياة والعيش بسلام وتقرير مصيره بنفسه.

وإذا كان هناك علمانيون يميلون إلى قبول المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، فإن بعض الإسلاميين أخذ بمصطلح العلمانية المؤمنة، أي غير الإلحادية ذات المرجعية الإسلامية، وهؤلاء ينفتحون على التيارات العلمانية، ولا يجدون ضيرًا في ذلك، في إطار مصالحة تاريخية ومبادرة شجاعة لجعل الدولة مدنية بامتياز، مع كون الإسلام مرجعيتها الحضارية بكلّ ما يحمل من معان إنسانية وأخلاقية سامية.

***

د. عبد الحسين شعبان

موازاة مع استحضاري في هذا المقام كل مقالاتي السابقة في شأن الخصوصية الثقافية والسياسية المغربية مقارنة مع باقي الدول المغاربية ودول المشرق العربي، يبقى من الواجب أن نسائل أنفسنا، أفرادا وجماعات ومؤسسات، جميعا عن الأمد الممكن مغربيا لبناء الصرح الوطني المتراص للحسم النهائي في منطق التنشئة المنتجة للإنسان الكامل.

الوضع المغربي شبيه إلى حد ما بأوضاع ألمانيا زمن ماركس الإيديولوجيا الألمانية وليس مؤلف الرأسمالية. عاش هذا البلد حالة تأخر مادي مرحلي مذلة مقارنة بالتطورات والتحولات الكبرى التي أحدثتها النهضة الأوروبية خاصة بفرنسا وبريطانيا. فإذا كان الفلاسفة (كارل ماركس ونيتشه أساسا) وراء دفع ألمانيا للبحث الموضوعي على أسباب تأخرها والشروع في بناء صرح دولة ومجتمع جديدين يستدرك الواقع المتخلف الذي كبس على أنفاس الألمانيين، فإن لنا كمغاربة كنز فكري، عايشناه ولا زلنا ننقب بكل ما لدينا من قوة لسبر أغوار أعماقه، مؤمنين كامل الإيمان كونه يشكل مشروعا للنهضة المغربية. إنه مشروع الدكتور عبد الله العروي المستحضر لأفكار ابن خلدون وابن رشد ومحيي الدين بن العربي وغيرهم والمستند على الماركسية الموضوعية التاريخانية، وما تراكم من قبلها ومن بعدها من نظريات فلسفية غربية. بفعل أهمية تراكماته المعرفية، تنبأ المفكر المغربي مبكرا بفشل الإيديولوجيا العربية المعاصرة (برامج كل من محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى والأرضية السياسية للوحدة المصرية-السورية...)، وعبد طريقا خاصا به متحديا الصعاب والمنعرجات الخطيرة التي كادت أن تتسبب في تعميق هدر المورد الزمني في وطنه كوعاء متحمل لمراحل برامج التحديث الضرورية في المجالات الثقافية والاقتصادية العلمية والسياسية.

الخصوصية الوطنية والفكرية المغربية جعلت المرحوم الحسن الثاني يصرح مبكرا وبشكل علني ورسمي بتشابه أوضاع المملكة ببنيتها الترابية بأوضاع ألمانيا الفيدرالية (تشابه تاريخي). هذا الوعي المتقدم على زمانه بهذه الحقيقة هي التي جعلت مغرب العهد الجديد يراكم المنجزات بسرعة قياسية رافعا بذلك من القيمة التاريخية لثورة الملك والشعب. لقد تجاوز المغرب بآليات مؤسساتية عصرية اعتماده الحصري على المثقفين التقليديين ومنطق نقلهم لثقافاتهم المتواترة المرتبطة بمهنهم من جيل لجيل (كالمعلمين ورجال الدين ...). لقد أصبح تأثير المثقفين العضويين التنويريين واقعا مغذيا للسياسات العمومية. إنهم صنف الفاعلين الجدد المؤثرين بفكرهم المنظم على طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم الوظيفية والمهنية. لقد عبروا عن نوع من الحكمة والأمل في مساعيهم لتحقيق تطلعات الطبقات الاجتماعية المتوسطة. لقد أبانوا عن قدرات اجتهادية وازنة في بحثهم المتواصل لابتكار غايات جديدة ترتقي من خلالها الثقافة والأخلاق في المجتمع المغربي مستهدفين تشخيص الوقائع التاريخية الموضوعية في الماضي والحاضر، ومن تم استنباط الدروس والعبر العقلانية التي تخدم المستقبل. أكثر من ذلك، جند العهد الجديد رجال الدولة في كل المجالات لسبر أعماق المنتوجات الفكرية للمثقفين الكبار ذوي المشاريع الفكرية المتكاملة التي تقدم برامج عامة لتحديث العقل المغربي على أسس موضوعية وقابلة للتفعيل (حتمية ترسيخ الحداثة بالمغرب مسألة وقت فقط). هكذا، بفعل التراكمات الواقعية الملموسة، ارتقت نظرة المغاربة إلى مستقبلهم، بحيث أصبحوا مقتنعين بفساد أطروحات المثقف السلفي والمثقف الانتقائي والليبرالي الانتهازي والتقني الذي لا يستجيب لمتطلبات الحكمة والتبصر. كما يمكن القول بثقة عالية أن الدولة المغربية أصبحت في مستوى السعي لخلق الظروف المساعدة لتمكين المثقف الثوري من الظهور للوجود ومساعدته للقيام بما ينتظر منه. إنه وضع جديد مشجع لهذه الفئة الريادية من المثقفين. في نفس الوقت، وتيرة تطور الأوضاع يسرت مشاركتهم الوازنة والمؤثرة في العلاقات الخارجية التي تقيمها الدولة، بحيث توسعت هوامش تفاعلاتهم مع التطورات العالمية بالشكل الذي يمكنهم اليوم من تجديد ثوريتهم الوطنية عبر الاحتكاك بالآخر.

في هذا السياق، للتعبير كون المغرب قد انتقل من مرحلة إلى أخرى في مسار مشروعه الديمقراطي الحداثي، نشرت على حائط حسابي الرسمي على الفايسبوك يوم 13 يناير 2024 تدوينة تحت عنوان "عتاب وجود.." بمضمون أبرزت من خلاله الحاجة الملحة لتحويل النسق التنشئوي المغربي إلى آلية حديثة وناجعة لتخفيف ضغوط الماضي، والاستجابة لتطلعات جيل الخمسينات والستينات والسبعينات، ومن تم ربط الثقافة المغربية المعاصرة عند أجيال الحاضر والمستقبل بالتطورات الكونية وبتراكم ابداعاتها الإنتاجية والاستفادة من صلابة جسور التواصل بين العلم والفلسفة. لقد تعمدت القول: "لم تسعفنا الحياة لنكون من المساهمين في ابتكار النظريات والكشوفات العلمية وتطوير الانتاج المادي النافع لحياة المغاربة والافارقة والبشرية كونيا (إنه واقع المنظومة التعليمية المنتجة للفئات العريضة من الشعب المغربي) ... لم تسعفنا كذلك في إغناء النظريات والتجارب العلمية للحسم في القضايا الجديدة والتقرب من الحقائق المطلقة ... لم تتح لنا الفرصة لنبدع في الغوص تفكيرا في المجهول الغابر عن منجزات العلم ... لم نتفلسف بما يكفي .... انبهرنا لقضايا غير عادية، فكرنا فيها، وطرحنا الأسئلة في شأنها، لكننا اضطررنا لمعرفة النتائج من الآخر لضعف إمكانيات مؤسساتنا التعليمية والبحثية..... لكننا نتضرع ملتمسين من صانع منطق وجودنا ألا يصنفنا من القطيع عديم الفائدة ..... نطلب من الله الرحمة والمغفرة...".

إنها متاهات الماضي المضنية وإكراهات رفع تحديات الحاضر لخدمة المستقبل. لم تتح لعامة الشباب المغربي فرص التفكير في مفهوم "الإنسان الأعلى" للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه المتشابه مع مفهوم "الإنسان الكامل" للشيخ محيي الدين بن عربي. هذا الأخير، اعتبر أن الوجود المحقق هو الله عز وجل، مطلق النعوت التي لا توصف (القدرة والعلم والحرية والإرادة...)، الشيء الذي جعله ينتصر لفكرة كون الوجود الإنساني وجود بالظل (ليس حقيقيا). الصفات الحسنى بالنسبة له ليست محدودة ولا نهائية ولا تكمن في ذات الله ولا يتصف بها إلا من خلال اتصاله بالخلق. الواحد بالنسبة لابن عربي لا ينتسب له التعدد والكثرة.

على أساس هذا الاعتبار، اجتهد ابن عربي في تحديد ماهية "الإنسان الكامل". إنه المخلوق الذي يجب أن يكون دائم السعي لتحقيق الأسماء الحسنى فيه وعلى وجه الأرض (القدرة، والعدل، والرحمة، والعلم، والحق، والحكمة، ....)، وأن يسموا عن غرائزه طامحا ملامسة الأعلى الحقيقي. الحسنة التي نالها هذا الشيخ، الذي يعتبر من رواد التصوف، تتجلى في رفضه للواقع وكونه عاكس معتقدات عصره والإيديولوجيا الدينية الاستغلالية. المتصوف هو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه. لقد كان ابن عربي موسوع المعرفة التي امتدت إلى الشعر والأدب. ولادته في مرسية سنة 1165م، وحياته بالأندلس كان لهما وقع كبير على عقلانية مواقفه الدينية. يُعرف لدى المتصوفين باسم (الشيخ الأكبر)، أما في الشرق الأوسط، فُعرف باسم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

نفس العلاقة بين الخالق والمخلوق تناولها الفيلسوف فريديريك نيتشه بمنطلقات مختلفة. لقد اعتبر الإنسانية حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان المتفوق، داعيا إلى خلق إنسان جديد لا يكل ولا يمل في تقليد الله بهدف ارتقاء حقيقة التقرب إليه. أمام سلطة الظلم والاستغلال التي مارسها رجال الدين في ألمانيا، وما أشاعوه من معتقدات واهية، لم يجد نيتشه من سبيل لإثارة انتباه الجمهور سوى الدفع بتأليه الإنسان. من أشهر أقواله "الإله قد مات" (ولم يقل الله)، قتلناه بسبب ما راج دنيويا باسمه معلنا بذلك موت القيم والعادات السائدة المعاكسة للحرية والإبداع. غير مبال بالعواقب، تجرأ فريديريك على مواجهة رواد الدوجماطيقية وإيديولوجيتها الوثوقية، القطعية، التوكيدية، الإيقانية.

بالنسبة لهذا الفيلسوف الألماني، الإنسان، المسؤول دنيويا على مصيره وسيد نفسه، مطالب بشرعنة ذاته ساعيا إلى تأليهها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبذلك تكون المساواة في الرزق خرافة. بسبب شدة تذمره من المعتقدات السائدة، اعتبر الإنسان القوي، المقابل للإنسان العبد، لا يضيع الفرص باحثا عن الزعامة والقيادة. بكتابه "هكذا تكلم زراديشت"، الشخصية الدينية التي عاشت بإيران الحالية، ركز نيتشه على مسار هذا الشيخ وتمكنه من تأسيس أقدم ديانة قبل ظهور الكتاب اليهودي المسمى "التناخ" (توراة – نفيئيم – كتوفيم/ ختوفيم). سيرا على نفس المنهج لهدم المعتقدات الواهية، عرف نيتشه الإنسان المتفوق كونه إله نفسه، يخلق كل القيم والمبادئ بنفسه ولنفسه، ويجدد قدرته على التحكم في مصيره بشكل مستمر مبدعا في تنويع وتوسيع معاني العدالة والحب والصدق والعلم من أجل تراكم المنافع المادية وخدمة الصالح العام (على كل إنسان أن يساهم في صناعة حقائق عصره، والحقائق تتغير بتغير العصور).

وفي الختام، نستحضر فقرة معبرة للغاية من كتاب "بين الفلسفة والتاريخ" للدكتور عبد الله العروي: "لم أفهم شيئا من نيتشه لأنني قرأته مبكرا جدا، ولكن على الخصوص لأنني كنت ضحية منظومة تربوية سيئة التصميم، غير ملائمة، وفي حاجة أن يعاد فيها النظر رأسا على عقب" (المدارس الثانوية الفرنسية-الإسلامية). إنه الاستحضار الذي قادني للعودة إلى نص كارل ياسبرز كمحفز معرفي للتقدم في مسار ترسيخ مقومات الإنسان الكامل مغربيا بتقوية ميولاته للتفلسف بأدواته المعروفة: الدهشة باعتبارها الأصل والشك الذي يثور على المعرفة ويدفع إلى بلوغ اليقين وسؤال الوعي بالذات التي يوصلنا إلى حقيقة الأشياء".

***

الحسين بوخرطة

مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري

تبنى أغلب العلاقات على أسس معينة فعندما نسمع بالعلاقات الإجتماعية سيتبادر إلى اذهاننا العلاقات الطيبة فالإنسان بطبيعة الحال كائن اجتماعي يحب التواصل مع الآخرين ومشاركتهم أفكاره وآراءه وكذلك أفراحه وأحزانه، ومن الطبيعي أن تكون العلاقات متينة ومبنية على أساس الصدق والأمانة في التعامل فكل طرف في هذه العلاقات يكون مهتم بجعل صاحبه أو شريكه أو تحت أي مسمى يُعنى بالعلاقات الإجتماعية سعيداً ويتمنى له الخير بعيداً عن الحقد والمصلحة الذاتية والعلاقات المؤذية، ويمكن أن نتطرق هنا إلى أنواع العلاقات في كل المجتمعات من العالم فهناك أكثر من نوع فمنها العلاقات العائلة وهي ليست من اختيارنا وانما هي موجودة قبل ولادتنا ووهناك علاقات العمل وهي علاقة زملاء العمل مع بعضهم وعلاقة رئيس العمل والمرؤوسين، وعلاقات الصداقة وهي اسمى العلاقات والتي تكون على اساس الحب الحقيقي بين الاطراف وحب الخير والتعاون فيما بينهم وهي التي تجعل من الحياة مكانا افضل للعيش وتجعلنا سعداء، وهناك علاقات تبادل المصالح وهي مشروعة كون كل طرف يستفاد من الاخرى بطريقة أو بأخرى وليس فيها غش او تلاعب فيما بينهم وانما الصدق اساس هذه العلاقات  ولا ضرر ان تكون هذه العلاقات على اساس المصلحة من قبل الطرفين فالكل بكل الاحوال مستفيد منها، وبقي ان نذكر العلاقات السامة والتي هي محور حديثنا لهذا اليوم كونها من العلاقات التي انتشرت بشكلٍ واسع في جميع المجتمعات وهذه العلاقات مبنية على اسس شريرة فبدلا من أن تعطي الامان والثقة بالنفس تكون مصدرا للضعف والزعزعة والشعور المستمر بعدم الامان فهي علاقات سلبية ومؤذية تؤثر على الصحة النفسية والعقلية، لكن كيف نعرف اننا في وسط علاقة سامة وسلبية والاجابة على هذا التساؤل تكون بصورة دقيقة وذلك عندما يكون الشخص في موضع يعطي فيه اكثر مما يأخذ وتستغل بطريقة بشعة فقد تكون العلاقة على اساس المصلحة الذاتية كأن يلجأ اليك احدهم في أوقاته العصيبة لكن عندما تحتاجه لا يكون إلى جانبك ويحاول التسويف وخاصة إذا تكرر الحال ! . ولمعرفة أنك في علاقة سلبية أو ما تسمى في الوقت الحاضر التوكـسك مع من حولك فيمكن توضيح بعض النقاط التي تم البحث فيها وجمع آراء كثيرة حولها ومنها:

1- تشعر بعدم الراحة أثناء وجودك مع الطرف الآخر .

2- الشعور بالتهديد والخطر من المواجهة أثناء الحديث مع المقابل .

3 - الشعور بالاستغلال وعدم إحترام الطرف الآخر لك .

4- الشعور بقلة الثقة بالنفس أثناء الحديث معه، وقلة الدعم من قبله .

5- يأخذ طاقتك الإيجابية كونه ينشر سلبيته عليك فكل كلامه شكوى ويتحدث عن نفسه بطلاقة وعندما تحاول إبداء رأيك والتكلم عن مشكلة من مشاكلك يغلق باب الحوار وينهي المحادثة معك .

وبكل تأكيد هناك المزيد وحسب الموقف، وهنا يتوجب على الأشخاص الذين يعيشون بمثل هكذا علاقات أن يبدأوا بالتفكير بالانسحاب من تلك العلاقات التي تعد هدر للصحة النفسية والجسدية ويتم ذلك عن طريق أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه بالدرجة الأولى بالابتعاد عمّا يضره، طلب العون من العائلة والمقربين للتخلص من هكذا علاقات من خلال النقاش والمشورة لإيجاد الحلول اللازمة، يمكن الاستعانة أيضاً بكتب التنمية البشرية التي تهيء النفس لمواجهة مثل هكذا مواقف. وفي ختام هذه المقالة يمكن القول أن الإنسان قد يُخدع في بعض العلاقات لكن عليه أن يتعلم من التجارب التي عاشها والاستفادة منها ليتخطى مثل تلك العلاقات غير المرغوبة والضارة أبعدنا الله وإياكم عنها.

***

سراب سعدي

 

كيف يجب أن ننظر إلى ماركس اليوم؟ هل نعتبره مفكراً للاإنسانية كلها وليس لقسم منها فقط؟ لا شك في ذلك . كفيلسوف وكمحلل اقتصادي وكأب مؤسس لعلم الاجتماع الحديث ودليل لفهم التاريخ الإنساني؟ .بلى، لكن الميزة المهمة هي الشمولية العالمية لفكره . لقد فكر الفلاسفة قبله بالإنسان ككل لكنه كان الأول الذي فهم العالم ككل من الناحية السياسية والاقتصادية والعلمية والفلسفية في آن واحد .

***

قبل اعوام استعانت به احدى الصحف البريطانية التي تنتمي الى اليمين المحافظ أن يكتب لها مقالا عسى ان تتمكن من استعادة اهتمام القراء بها، بعد ان شهدت تراجعا كبيرا في التوزيع، وعدم اكتراث رواد السوشيال ميديا بموقعها الالكتروني، فقرر اليساري المتشدد "سلافوي جيجك " ان يخوض التجربة، وأن يفاجأ جمهور الصحيفة بمقال عن كارل ماركس، وقد حدثت المفاجاة حيث نَّفذ عدد المجلة من المكتبات، وكادت عمليات البحث عن المقال في الانترنيت أن تسبب مشكلة فنية لموقع المجلة الالكتروني، وعندما تعرضت هيئة تحرير المجلة الى توبيخ من بعض قادة اليمين المحافظ، كان جواب رئيس التحرير،  لا مفكر في العصر الحديث يمتلك القدرة على جذب القراء مثل السلوفيني صاحب الشعر المنكوش والصور المثيرة للاستغراب والكتابات التي  تحاول استعادة كارل ماركس .

كان سلافوي جيجك قد كتب في الذكرى الـ " 200 " لميلاد ماركس من ان صاحب "رأس المال " كثيرا ما كان على حق، فماركس كما يقول جيجك هو:" الشبح الذي يظل يطاردنا، والطريقة الوحيدة لإبقائه حيا هو التركيز على تلك الرؤى التي تصير الآن أكثر واقعية من زمنه نفسه " .

في كتابه " ان تكون ماركسيا في الفلسفة " – ترجمه الى العربية الياس شاكر – يرى لوي ألتوسير أن الهوس بهيغل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى كان محاولة لمحاربة ماركس. ويذهب ألتوسير بعيدا حين يقول  أن " ماركس ترك هيغل وراءه في لحظة محددة من تطوره ومن ثم صاغ مفاهيمه ومناهجه الاصيلة "

ما من كاتب حظي بقراء اكثر من ماركس، وما من فيلسوف بعث من الآمال في نفوس الناس اكثر منه، ولم يثر صاحب نظرية من الحوار والتعليقات والشروحات اكثر منه .. وما من مفكر احدث تاثيرا مماثلا لما احدثه ماركس في القرن العشرين، وما ان يطرح اسمه حتى يثار سؤال مهم: هل انتهى عصر ماركس بغياب الاتحاد السوفيتي ونهاية عصر الانظمة الشيوعية؟ وهل ان كارل ماركس لم يعد موجودا في بلاد زعمت انها وريثته الحقيقية الوحيدة،وهل صار ماركس الذي تصادف هذه الايام ذكرى " 203 " على ميلاده، رجل من الماضي، ولم يعد يشغل بال احد؟، هذه الاسئلة طرحها ابرز مؤرخي القرن العشرين إريك هوبزباوم عندما اصدر عام 2010، كتابا بعنوان " كيفية تغيير العالم .. حكايات عن ماركس " "، وقد وصفت احدى الصحف  كتاب هوبزبام بانه محاولة لانقاذ ماركس من " مزابل التاريخ"، فكان رده  ان ماركس هو من جديد المفكر الحقيقي للقرن الحادي والعشرين . يسخر هوبزبام من الاستفتاء الذي اجرته محطة الـ "بي بي سي " البريطانية عام 2007 عندما اعلنت ان ماركس هو العدو الاعظم لمستمعي الاذاعة، ويقول هوبزبام اننا لو طبعنا اسم ماركس في " غوغول " سنجد ان هناك اكثر من " 32 " مليون مرجع، وهو الرقم الاكبر بين المفكرين الكبار، لم يتقدم عليه إلا داروين واينشتاين، لكنه كان متقدما كثيرا على فرويد وتجاوز آدم سميث باكثر من " 25 " مليون .

في شبابه حاول هوبزبام كتابة سيرة أدبية عن كارل ماركس، وتفرغ لقراءة ارشيف الماركسية، لكنه شعر أن الكتابات الشيوعية  لا تريد ان تحرر ماركس من التطابق المشاع والشهير مع حياته، وان الحياة دائما ما تتغلب على الافكار في الكثير من السير الذاتية التي كتبت عن ماركس . يكتب هوبزباوم مقالا عن البيان الشيوعي اراد ان يؤكد من خلاله ان ماركس اكتشف شيئا عن الراسمالية قبل اكثر من 150 عاما وعلى العالم الرأسمالي ان يلاحظ ذلك، وخرج بنتيجة أن عند كارل ماركس الكثير ليقوله للقراء . ولأن سعي الانسان ان يكون العالم مجتمعا مختلفا عن المجتمع الذي لديه، وافضل منه، لذا من المفيد ان نحسب حساب ماركس اليوم . قال هوبزوباوم ان بعض كُتاب سيرة ماركس مصاصو دماء، واعترف أن ماركس يتغير كل قرن، فلم يكن ماركس خارج ما يجري من احداث في العالم، فماركس القرن الحادي والعشرين يختلف عن ماركس القرن العشرين . ويطرح هوبزباوم سؤلاً: كيف يجب ان ننظر الى ماركس اليوم؟ هل نعتبره مفكرا للانسانية كلها؟ هل هو فيلسوف ام ومحلل اقتصادي او أب لعلم الاجتماع الحديث، أو مرشد لفهم التاريخ الانساني؟ .

نشأ إريك جون بليرهوبزباوم في مدينة فينا التي يسميها العاصمة المفقرة لامبراطورية عظمى، تخبرنا السجلات الرسمية انه ولد في مدينة الاسكندرية في التاسع من حزيران عام 1917، لعائلة يهودية، الأب بريطاني والأم نمساوية،  يصر ان موظف القنصلية البريطانية اخطأ في تاريخ ميلاده فاضاف عليه بضعة اشهر، لا يتذكر شيئا من مدينة الاسكندرية التي عاش فيها اقل من عامين، فما ان انتهت الحرب العالمية الاولى حتى انتقل الاب والام  الى فيينا مع طفلهما، كان والده  يعمل في التجارة، لكنه يصاب بالإفلاس في سنواته الاخيرة . الام  تعمل في مكتبة تراجع الكتب التي تنشر حديثا، تهوى  قراءة الروايات الرومانسية، وقد نقلت هذا الشغف لابنها البكر، جربت كتابة الرواية، فصدرت لها رواية وحيدة لم تلق الاهتمام،  في الثانية عشر من عمره يتوفى والده، يتذكر المشهد في سيرته الذاتية – عصر مثير ترجمها الى العربية معين الامام -:" في وقت من امسية يوم الجمعة الثامن من شباط 1929، عاد والدي من جولة اخرى من جولاته البائسة في المدينة بحثا عن مال يكسبه او يستدينه، الجو قارس وانهار امام الباب، سمعت والدتي الأنين عبر النوافذ العلوية، وحين فتحتها على الجو القارس في ذلك الشتاء، سمعته ينادي عليها . توفى خلال بضعة دقائق، جراء نوبة قلبية " . كان الاب في الثامنة والاربعين من عمره، وبموته حكمت الام على نفسها بالموت،ظلت تقول لابنها " هناك شيء انكسر في قلبي "، وبعد مرور اقل من ثلاث سنوات تموت الام وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، لم يترك الاب شيئا لعائلته باستثناء كتب كثيرة باللغة الانكليزية تتحدث عن الرحلات والمغامرات، يبدأ الشاب ايريك العمل معلما للغة الانجليزية لاعالة عائلته، يذهب للعيش هو وشقيقته في بيت خالتهما . عام 1933 تنتقل عائلة خالته إلى لندن، بعد أن تولى الحزب النازي السلطة: " إن أي شخص رأى صعود هتلر أمام عينيه يجب أن يكون قد تأثر سياسياً بذلك، ولا يزال ذلك الصبي بداخلي وسيظل "

عام 1936 يحصل على منحة للدراسة  في جامعة كامبريدج، كان عمرة 19 عاما عندما انضم الى الحزب الشيوعي عن طريق النادي الاشتراكي بالجامعة، لكنه يخبرنا في سيرته الذاتية انه اصبح شيوعيا عام 1932 عندما بدأ بقراءة كتب ماركس وانجلز، وسيبقى عضوا في الحزب الشيوعي لاكثر من خمسين عاما، ويقول ان السبب الذي جعله يبقى كل هذه المدة في الحزب، يناسب سيرته الذاتية الشغوفة بشخصية ماركس:" كانت الشيوعية بمثابة التعبير المثالي عني "، لكن على الرغم من انتماء هوبزباوم الى الحزب الشيوعي،إلا ان رفض ان يكتب كالشيوعيين، حيث اصر على انه ماركسي المنهج، يرفض ان تحمل كتاباته نصوصا ايديولوجية للتدليل على ظاهرة او واقعة تاريخية، بل انه اراد استعمال المفاهيم الماركسية في اطار نظري يمتاز بالسهولة والمرونة، لكي يجعل تاثير هذه الكتابات على القارئ عميقا . في شباط من عام 1940 يتم استدعاه للخدمة في الجيش وصف سنوات خدمته العسكرية بانها كانت سنوات فارغة، تُمارس فيها حربا فارغة، اثناء سنوات الحرب سيوضع تحت المراقبة باعتباره شيوعيا، وقد كانت الاجهزة الامنية تنظر اليه باعتباره شخصا مثيرا للشبهة، يجب ابعاده عن الاماكن الحساسة في الجيش، يخدم في وحدة الالغام، ويسخر من الذين يحذرونه من القنابل:" لن تصيبك القنبلة إلا اذا كان اسمك مكتوب عليها "،  بعد الحرب يحصل على الدكتوراه في التاريخ وكان موضوع رسالته عن  جمعية فابيان،  وهي  منظمة اشتراكية بريطانية هدفها النهوض بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية من خلال الجهود التدريجية والإصلاحية في الديمقراطيات، وليس من خلال العمل الثوري .

يعمل محاضرا في جامعة لندن، بعدها سيصبح استاذا للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي، قال إن هناك نسخة أضعف من المكارثية انتشرت في بريطانيا وأثرت على الأكاديميين الماركسيين: "لم احصل على ترقية لمدة 10 سنوات، لكن لم يطردني أحد". عام 1978 يتم اختياره زميلاً في الأكاديمية البريطانية، وفي العام ١٩٩٨، يمنح وسام الشرف في بريطانيا. وعلى الرغم من أنه كان شيوعياً منذ العام ١٩٣٦، إلا أنه ندد بالغزو السوفياتي لهنغاريا عام، وظل محافظاً على منظوره الماركسي العريض في توجهاته الفكرية وممارساته العملية.

تقاعد هوبزباوم من الجامعة عام 1982، وأصبح أستاذا فخريًا للتاريخ، وعُيِّن رئيسًا لبيركبيك عام 2002،  ظل أستاذا زائرا في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في مانهاتن، متعدد اللغات، يتحدث الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية بطلاقة، ويقرأ البرتغالية والكتالونية.نشر العديد من الكتب اشهرها رباعيته عن التاريخ الحضاري لاوربا منذ الربع الاخير حتى نهاية القرن العشرين، واشتمل المشروع على مؤلفات مرجعية هي " عصر الثورة .. اوربا 1789- 1848" و" عصر راس المال 1848- 1875 " و " عصر الامبراطورية 1875 -1914 " والجزء الاخير بعنوان " عصر التطرفات – القرن العشرين القصير 1914- 1991 –" ترجم الرباعية الى العربية فايز الصياغ – في هذه الموسوعة الضخمة يؤكد هوبزباوم على انه لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته، ولا يؤرخ لوقائعه او يصف احداثه كما " كتاب التاريخ "، انه يريد ان يتوجه الى القارئ والباحث الذكي، فيقدم له ظواهر التاريخ الاساسية والاحداث الكبرى في حياة الناس، محاولا أن يربط بعضها ببعض، في المجالات الاسياسية، والاقتصادية،والاجتماعية، والثقافية التي يوليها اهتمام خاص، بحيث تكون الحصيلة النهائية صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مراحله المتسلسلة .. وسنجد هذا لاهتمام في الثقافة في كتابه " ازمنة متصدعة .. الثقافة والمجتمع في القرن العشرين – ترجمته الى العربية سهام عبد السلام -  والذي لا يشذ عن منهج كتابة التاريخ الذي اتخذه هوبزباوم لنفسه، فهو يشير الى عالم تهاجمه التناقضات، عالم مشغول بازمة الهوية . في مقدمة الكتاب يشير هوبزباوم الى ان الناس يعيشون في عصر فقد ملامحه وتطلع في السنوات الاولى من الالفية الجديدة الى " مستقبل غير معروف، بلا خريطة هادية، ولهذا انتابت الانسان الحيرة المشوبة بالاضطراب " .

خارج كتاباته عن التاريخ، استمر هوبزباوم بكتابة عمود اسبوعي عن موسيقى الجاز، وفن البوب، وعن السينما وافلام رعاة البقر، وعن اشكال الموسيقى الشعبية، مما اثار استياء الحزب الشيوعي الانكليزي، وقد كتب عام 1963 مقالا بعنوان " البيتلز وما قبله " تنبأ فيه بان هذه الفرقة على وشك أن " تبدأ هبوطها البطيء " .

بالإضافة إلى ارتباطه بـ " الحزب الشيوعي البريطاني "، أقام هوبزباوم علاقات وثيقة مع الحزب الشيوعي الإيطالي، وتفرغ لدراسة كتابات انطونيو غرامشي والذي كان له تاثير كبير على منهجه في كتابة التاريخ،  في كتابه " كيفية تغيير العالم " يخصص مساحة  للحديث عن غرامشي  حيث يرى يعتبره المفكر الأكثر أصالة في الغرب منذ عام ١٩١٧، لأنه-  أي غرامشي -، اعتبر أن الاشتراكية لا تعني مجرد المِلكية الاجتماعية والتخطيط للتنمية الاقتصادية فحسب، بل تنطوي كذلك على مواصلة النضال لتحويل السلوك الاجتماعي وخلق شعب جديد،  ويرى هوبزباوم أن كتابات غرامشي ينبغي إعادة طرحها من جديد كاستراتيجية نضالية شأنها شأن أعمال ماركس وإنجلز.

منذ الستينيات، اتخذت مواقف هوبزباوم  السياسية طابعا معتدلا، ولم يعد يدعو إلى " الأنظمة الاشتراكية من النوع السوفيتي". لكن حتى اليوم الاخير من حياته ظل مكانه راسخا في حركة اليسار العالمي  يكتب  في سيرته الذاتية  - عصر مثير –:" كنت على الأقل رجلاً تفقد حياته طبيعتها وأهميتها بدون المشروع السياسي الذي ألزم نفسه به كطالب مدرسة، على الرغم من فشل هذا المشروع بشكل واضح، وكما أعرف الآن، كان لا بد أن يفشل. لا يزال حلم ثورة أكتوبر موجودًا في مكان ما بداخلي، حيث لا تزال النصوص المحذوفة تنتظر استردادها من قبل الخبراء " . ورغم هذا الايمان بقدرة الماركسية على تجديد نفسها، إلا اننا نجد هوبزباوم يكتب  في السنوات الاخيرة " أن التوقعات طويلة المدى للإنسانية كانت قاتمة، ان  أحد أسوأ الأشياء في السياسة في الثلاثين عامًا الماضية هو أن الأغنياء نسوا الخوف من الفقراء " .

في الساعات الأولى من الاول من تشرين الاول عام 2012، توفي  هوبزباوم في احدى مستشفيات لندن، حيث كان يعاني من مضاعفات    سرطان الدم، قالت ابنته انه ظل يحارب هذا المرض لسنوات دون ضجة،  يتابع ما يجري في العالم، وكانت غرفته في المستشفى مليئة بالكتب .يكتب:" ليس ثمة مكان افضل من سرير المستشفى، للتفكير بطوفان الكلمات والصور ( الاوورويلية ) التي تستحضر الرواية الشهيرة 1984، الذي طغى على وسائل الاعلام المطبوعة والمرئية آنتذ . كانت كلها مفبركة لتخفي الحقائق وتخدع وتضلل الناس".

بعد وفاته تكتب الغارديان:" " رحل مؤرخ غير عادي، ورجل شغوف بسياسته،  لقد جلب التاريخ من البرج العاجي إلى حياة الناس". تم حرق جثته بناء على وصيته، ودفن رماده بالقرب من قبر كارل ماركس .

في مذكراته يكتب:" بالنسبة لكل من هم في مثل عمري، يعتبر العيش طيلة القرن العشرين درسا فريدا بكل ما في الكلمة من معنى " .

شكّلت الماركسية هاجسا لهوبزباوم، وكان يرى ان افكار ماركس تتمتع  بالقدرة على الابتكار والاختبار . في مقدمة كتابه   " كيفية تغيير العالم .. حكايات عن ماركس والماركسية " –- يخبرنا ان فمرة الكتاب ولدت:" في أوائل تشرين الأول ٢٠٠٨، عندما أعلنت صحيفة فاينانشال تايمز بالبنط العريض في الصفحة الأولى: تشنُّج الرأسمالية "، وكان هذا اعلانا حسب قول هوبزباوم من ان ماركس " لن يغادر المسرح طالما ظلت الرأسمالية العالمية تعاني أقسى موجة من التخبط والتأزم " . ويجد ان الماركسية كانت في المائة والثلاثين سنة الماضية الموضوع الرئيسي في الموسيقى الفكرية للعالم الجديد، من خلال قدرتها على تحريك القوى الاجتماعية . لكنه يرى أن انحدار الماركسية في العقود الثلاثة الاخيرة  من القرن العشرين كان بسبب أفول عصر الأيديولوجيات الكبرى والأفكار الإصلاحية بشكل عام وبزوغ عصر ما بعد الحداثة الذي جرف بقايا البنى والمؤسسات والهياكل التي قامت على هذه الأيديولوجيات الكبرى..لكن رغم ذلك يطالبنا هوبزباوم بضرورة إعادة قراءة ماركس في عصرنا الحاضر  فـ " نحن عاجزون عن التنبؤ بحلول المسائل التي تواجه العالم في القرن الواحد والعشرين، لكن إذا قدر لنا النجاح، فلا بد لها من طرح الأسئلة التي طرحها ماركس حتى لو لم نكن راغبين بقبول أجوبة تلاميذه المختلفة " . يؤمن هوبزباوم بان  الفلاسفة قبل ماركس فكروا في الإنسان ككل، لكن ماركس كان الأول الذي فهم العالم ككل من الناحية السياسة والاقتصادية والعلمية والفلسفية في وقت واحد.

 في محاولة لاستعادة لحظة ماركس الاولى ياخذ هوبزباوم على نفسه مهمة تقشير ماركس مما احاط به من اغلفة تحاول ان تضع سورا بينه وبين  قراء القرن الواحد والعشرين، ويحدد هوبزباوم هذه الاغلفة بان الاول منها هو محاولة الدمج بين مفهومي الاشتراكية والماركسية، والغلاف الثاني هو القراءة اللينينة المتزمتة  لماركس، والغلاف الأخيرهو  الخلط بين تاريخ الماركسية والحركات العمالية.

يعترف هوبزباوم انه مدين بالكثير الى كتابات ماركس التي علمته معنى الالتزام في هذا العالم، وساعدته ان يفسر المادة التاريخية تفسيرا عقلانيا  واضفت، على مؤلفاته نكهة خاصة تدعونا للتمعن في حكايات ماركس الحقيقية .

عاش هوبزباوم حياته التي اقتربت من القرن مخلصا لمبادئه وافكاره الماركسية، منددا بالظلم في كل اشكاله، وفي حوار أجرته معه صحيفة  الأوبزرفر عام  ٢٠٠٢، يقول بوضوح:" إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل،إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة،  لم أكن صهيونياً قط. ولكن بعد أن قامت إسرائيل واستقر فيها اليهود، لم تعد فكرة إزالتها وإزالتهم واردة. ولم أكن بتاتاً من الداعين إلى تدمير إسرائيل أو إذلالها. نعم، إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل، وهي سياسات كارثية شريرة؛ إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة" .

مضى إريك هوبزباوم قدماً في تقديم نموذج للمفكر الذي يجمع بين انجازاته الفكرية والثقافية ومواقفه السياسية الثابتة، وظل طوال حياته، يردد: " لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أية تنازلات أو أساوم على الإطلاق"

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

(الارض غير المستغلة أو تلك التي لم يتم استغلالها جيدا من قبل سكانها الأصليين يحق للشعوب الصناعية المتحضرة مصادرتها واستثمارها)

تلك هي الفكرة التي ساقتها الرأسمالية لتبرير الاستعمار الاستيطاني في الامريكيتين واستراليا وجنوب افريقيا وفلسطين، وكانت مبرراً لأبادة السكان الأصليين الذين يقفون بوجه (التقدم) وحضارة الرجل الابيض، ولم تكن تلك فكرة طارئه، بل هي متجذرة  في الثقافة الاوربية قديماً وحديثاً، وتعود جذورها الى حركة التنوير وشعور الرجل الابيض بعظمته بعد النهضة والثورة الصناعيه.

الفيلسوف (فولتير) يرى ان الرجل ذا البشرة الداكنه حيوان بأنف أفطس وبذكاء محدود أو بلا ذكاء اطلاقاً.

(ايمانويل كانت) يقسم الشعوب الى أعراق يعتلي العرق الابيض القمة في تصنيفه، بينما الهنود فليس لديهم القدرة على الابداع لمحدودية عقولهم، والسود في منزله عقلية متدنية جداً.

البير كامو يبرّر موقفه المعارض لاستقلال الجزائر بادعاءه ان المستوطنين الفرنسيين أجدر بالمواطنة، وان السكان الأصليين ليست لديهم قدرة على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي فلا أهمية لاستقلالهم السياسي.

في روايته (يوتوبيا) تخيّل توماس مور جزيرة يسكنها حكماء عقلاء ويسودها العدل والرفاه، ولم يستطع مقاومة ثقافته العنصريه حتى في مشروعه المتخيل، فيمنح سكان الجزيرة حق التمدد الى الجزر المجاورة ان ضاقت عليهم جزيرتهم، وان رفض سكان تلك الجزر فلابد من محاربتهم أو طردهم من أرضهم، على اعتبار ان لجزيرة يوتوبيا رسالةً (سامية*) لنشر العدل والرفاه  في الجزر الاخرى.

تتطور تلك الفكرة على يد جان لوك فيلسوف ومؤسس الفكر اللبرالي ليعلن عن نظريته في الملكية الخاصة والتي تصبح فيما بعد مرتكزاً نظرياً لتسويغ التمدد الاستعماري للرأسماليه، وتبرير سحق كل من يقف بوجهها على اعتباره عائقاً في طريق التحضر، بل هو مجرم في تحديه الوصايا الالهية بنظر لوك كما سنرى لاحقاً.

فما الذي جاءت به نظريته في الملكية الخاصة:

كتب جان لوك في ( المبحث الثاني في الحكومه) الفصل الخامس بان الله قد خلق الارض بخيراتها من طعام وماء وحيوانات لتكون ملكاً مشاعاً للجميع، إلا انه أمرنا بان نحسن استثمار الارض بالعمل، وقد منح الفرد حق تملك الارض التي  بعمله ستنتج له ما يكفيه لتأمين حياته، فاذا اقتطع أرضاً وسيّجها واعتنى بالأشجار صارت ملكاً له، وهو يتحدث هنا عن الانسان البدائي الذي يعيش بفطرته في ظل قانون الطبيعة فقط٠ توصّل جون لوك إلى ان العمل هو مصدر ملكية الفرد، وقد كان هذا الكشف فتحاً جديداً في علم الاقتصاد، أخذ به آدم سميث وريكاردو، فما كان مألوفاً آنذاك أن الله قد منح الارض للملك و فوّضه  كي يمنحها لمن يشاء. (بالطبع الرأسمالية الناشئة كحركة تقدميه آنذاك كانت تهدف الى هدم تلك المفاهيم الأقطاعية وترسيخ حق الملكية الفرديه، فكانت هذه النظريه استجابة طبيعية لمتغيرات الواقع الاقتصادي وصعود البرجوازية في اوربا).

يكمل لوك بناء نظريته موضحا ان الله كان كريماً بحيث خلق ما يكفي الجميع، كذلك أعطى الانسان عقلاً يمنعه من الاستحواذ على حصص غيره، فلو فكّر أحدهم مثلاً في تكديس مايزيد عن حاجته من الفاكهة فانها ستتعفن، ولهذا سيكتفي بأخذ حاجته فقط، اي ان المساواة في ملكية الافراد تتحقق بسبب وجود الرادع الذاتي الذي يفرضه المنطق العقلي في المجتمعات الاولى والتي يعيش فيها الانسان بفطرته.

كان هذا قبل ان تتأسس المجتمعات السياسية التي تحتكم لقوانين وضعية حيث يصبح فيها توزيع الملكية أكثر تعقيداً، فبعد أكتشاف النقود أصبح من الممكن والعادل ايضاً توسيع ملكية الفرد بما يزيد عن حاجته وتكديس ناتج عمله الفائض على  شكل أموال، فالمال لا يتلف مثل الفاكهة. ويعود ليوضح ما يقصده بالعمل كمصدر للملكية  فيقول: ما يقضمه حصاني من حشيش ملك لي والسور الذي يشيّده عبدي هو ملك لي أيضاً !!!. هنا صار واضحاً ان النظرية تسّوغ تكديس رأس المال لا بعمل الفرد نفسه فقط بل عبر استغلال عمل الآخرين. والأمر لا ينتهي به عند تبرير الاستغلال الطبقي فحسب، بل يواصل التنظير  لتبرير استغلال الشعوب الاخرى وتقديم الاسانيد النظرية لاعطاء الرجل الابيض حق طرد السكان الأصليين في الأمريكيتين من ارضهم، بل يصل به الامر الى اتهام الهنود الحمر** بالأجرام لمخالفتهم وصية الرب الذي أمرنا ان نستغل الارض بالعمل لتمدنا بالمزيد والمزيد من ثمارها ومواردها، وبغير ذلك لا يمكن الادعاء بحق ملكيتها.

الملكيه الفرديه هي الشرط الذي يضعه جون لوك للتحول من المجتمع البدائي الذي يحتكم بقانون الطبيعة الى مجتمع سياسي تنظمه القوانين الوضعية التي ترعاها الحكومة. ووفق هذا المعيار كان يرى السكان الاصليين في اميركا كمجتمع بدائي لا تنظمه قوانين وليس فيه حكومة بسبب عدم وجود ملكية فردية، فالارض مشاع للجميع بل حتى الملك لا يملك لنفسه كفرد قطعة أرض. وهو يتجاهل حقيقة ان للهنود الحمر حضارات مثل المايا والانكا وامبراطوريات وممالك مثل امبراطورية الأزتك *** في المكسيك بتعداد 16مليون نسمة وكانت تضم مدناً كبيرة بمقاييس ذلك الزمن، و امبراطورية الانكا في بيرو، وهذا يعني أن هناك قوانين وحكومات ولكنها مختلفة في بنيتها عن تلك التي نشأت في اوربا.

الأوربيون لم يكونوا قادرين على فهم ماذا تعني الارض بالنسبة للهنود الحمر، وحين علموا ان الارض بالنسبة للسكان الأصليين مقدسة، حسبوا ان الامر ضرب من ضروب الرومانسية فحسب، و الامر ليس كذلك، فالهندي الاحمر يؤمن بكل جوارحه بان كل شئء في هذا الكون (النهر والشجر والحجر) كائنات حيه تشعر وتتألم وتحنو على الانسان وإن الأرض هي الام، الأم ليس بمعناها الرومانسي الخطابي الذي يردده الانسان الوطني الحديث، بل الام بأحاسيسها وجوارحها. والام ليست للبيع والشراء، الام للجميع، تحنو على كل ابناءها وابناءها بالمقابل يحمونها ويدفعون عنها اي ضرر. هذا ما يفسر الدفاع المستميت للهنود الحمر اليوم عن البيئة، تلك الثقافة الروحية يناضل ورثتها ببساله وثبات لمنع فضلات المصانع وتسريبات الصناعة النفطية من تلويث الانهار، وهي كائنات حية ومصدر كل الحيوات، وتتواصل نشاطاتهم واحتجاجاتهم ويقدمون الشهداء لمنع جز اشجار غابات الأمازون وهي مصدر لجزء كبير من الأوكسجين الذي نتنفس.

يجب ان لا نفهم مقولة ان كل ما في الكون كائن حي ضمن ثنائية الخطأ والصواب علمياً، فالعلم لايرى في الجماد حساً، ولكن لنعطي انفسنا فرصة النظر الى الامر من منطلق ما تركته تلك الثقافة الروحية من شحنات عاطفية ثورية لحماية كوكبنا الذي يجري تدميره بشتى انواع الملوثات وفضلات الصناعات الأحفورية دون حدود لجشع رأس المال. وفي المقابل من الجنون أيضا ان نقف ضد العلم والتطور الصناعي أو نتجاهل ما قدمته الثورة الصناعيه للبشرية جمعاء. ولكن لنتأمل كيف كان سيكون حاضرنا ومستقبل البشرية لو أن تلاقحا بين ما أنجزه الغرب من تقدم علمي مادي مع الثراء القيمي لثقافات الشعوب الاخرى. هل كان مثل هذا التفاعل الحضاري والثقافي سيجنبنا ولو بعضاً من كوارث الحروب والابادات البشرية ويردأ عنا الأخطار الكبرى كالتسليح النووي والاحتباس الحراري اللذان يمثلان أخطاراً  وجودية مقلقة على الأنسان؟.

ما أضاع فرصة التلاقح الثقافي هو العقل الاداتي الانتفاعي المتوّج بمنطق الربح والخسارة، والذي ورثناه عن حركة التنوير وكان عربة الرأسمالية في توسعها وحروبها الامبريالية، وتدمير الثقافات الاخرى مما أضاع فرصة تفاعل الحضارة الأوربية المادية وانجازاتها العلمية الرائعة مع الحضارات الاخرى بما فيها من طاقات روحية ولمسات انسانية قد تسهم في تشذيب النزعات العدوانية تجاه الانسان والطبيعة.

***

قصي الصافي

..........................

الهوامش:

* هناك على الدوام رسالة (سامية) تبريراً للتوسع الكولونيا لي، تتغير تلك الرسالة مع الزمان والمكان فمن نشر المسيحية وتنوير الوثنيين الى تحديث القارة الافريقية صناعياً، أو مكافحة المخدرات في أمريكا اللاتينية، أو نشر الديمقراطية وحقوق الانسان (في الدول المارقة فقط)، أو محاربة الارهاب أو الدفاع عن الأقليات. في جميع تلك الرسائل يكشف الواقع تناقضات ومعايير مزدوجة بشكل فضائحي.

** لا أميل الى تسمية السكان الأصليين بالهنود الحمر لأنها جاءت بسبب اعتقاد كولمبس الخاطئ حين وطأت قدماه أرض اميركا اللاتينيه بانه وصل الهند التي كانت هدف رحلته، و بهذا لم يفرض الأوربيون ثقافهتم فحسب بل فرضوا عليهم اسماً وهوية جديدة لاعلاقة لهم بها البته.

*** لم يستطع الأسبان اسقاط وتدمير امبراطوريات وممالك السكان الأصليين عسكرياً وانما سقطت بسبب الامراض التي كانت تحملها اجسام الأسبان وخاصة الجدري، والتي لم يكن السكان الأصليين قد تعرضوا لها أو عرفوها من قبل وليس في أجسامهم مناعة ضدها فمات الملايين منهم٠

قال (ذو القروح)، وهو ما ينفكُّ يشدُّ شَعر رأسه، كأنَّما يَصعَّد في السماء:

ـ لا أرى أَنْوَكَ ممَّن يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي.  ولئن تفهَّمنا ذلك من مستشرق، فكيف نفهمه من عَرَبي؟ سِوَى على وجهٍ أعمى من الاستلاب؟ ولاسيما وهو يؤرِّخ للتراث الإسلامي؟! 

ـ أمَّا الاستلاب للآخَر في عصرنا هذا، فحدِّث ولا حرج!  أنت تجد نفسك في قلب الجزيرة العَرَبيَّة وكأنك في (نيويورك) أو (لندن)!  لا أقصد في الحضارة، ولكن في اللغة؛ فالإنجليزيَّة هي لغة الجزيرة العَرَبيَّة اليوم. لكأنَّ العَرَب بلا هويَّةٍ ولا لغةٍ، وإنَّما هم ببغاوات، غاية وسعهم أن يُحاكوا أصوات الآخَرين!

ـ ذلك هو الاستعمار!

ـ الاستعمار؟

ـ نعم!  غير أنه لم يعُد الاستعمار بالجيوش، بل بالعقول، واللُّغات، والأسواق، والهُويَّات.  استعمارٌ أفظع من الاستعمار التقليديِّ العتيق.  وذاك هو "الغزو الداخلي"، الذي عبَّر عنه الشاعر (البَردُّوني):

غُزاةُ اليومِ كالطَّاعون :::  يَخفَى وهْوَ يَستشري

تَرقَّـى العارُ مِن بَـيْـعٍ ::: إلى بَـيْـعٍ بِـلا ثَـمَـنِ

ومِن مُستَعمِـرٍ غــازٍ ::: إلى مُستَعمِـرٍ وَطَنِـي!

ـ مَن ذاك الذي قصدتَ بأنَّه يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي؟ 

ـ هُمُ كُثْرُ!  تقف على نموذجٍ منهم، مثلًا، لدَى محقِّق "رسالة ابن فضلان"(1)، حيث يقول في مقدِّمة تحقيقه: "وما أشرق القرن الثامن للميلاد حتى كان للعَرَب مُلْكٌ فسيح الرُّقعة في إمبراطوريَّةٍ عريضة..."!  فلا يشفع التاريخ الهجري بالميلادي، وذلك أضعف الإيمان، مع أنه يكتب عن العصر العبَّاسي!  أَ وَلَم تكن لذلك المُلك الفسيح هُويَّة؟ ولا لتلك الإمبراطوريَّة تاريخ؟!

ـ ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم ما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ.﴾

ـ صدق الله العظيم.  ما وردَ في الآية، في شأن الإفك، يَصدُق على كلِّ إفكٍ من القول، بما في ذلك الإفك اللُّغوي، أو الحضاري، ممَّا يستخفُّ به السُّفهاء، وأثره عظيم، إنْ على المدَى القريب أو البعيد.

ـ تلك عُقدة الغالب، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون).  وبالأمس كان الغرب يحاكي الشرق، ويحذو حذوه، حتى بلغ الأمر ببعض نسائه، وربما رجاله، إلى تعريض الأجساد للشمس، لتكتسب سُمرةً كسُمرة البَشرة العَرَبيَّة!

ـ مسكين (ابن خلدون)، لم يعاصر مسخ زماننا في التقليد للآخَر، وإلى درجةٍ مزريةٍ من النزوع نحو العبوديَّة!  ثمَّ إنَّ هذا لم يَعُد في الأوساط الشعبيَّة، بل هو في النُّخَب، ولدَى مَن يدَّعون العِلم والثقافة والاستنارة. 

ـ بل هو بين هؤلاء أشدُّ وأنكَى. 

ـ على ذِكر (ابن خلدون)، لقد كان يناقش صُوَرًا شتَّى من التبعيَّة والاستلاب العقلي والإنساني.

ـ مثل ماذا؟

ـ مثل تأليه البَشَر، واعتقاد بعض الفِرَق الإسلاميَّة، كـ"الغُلاة" و"الواقفية"، أشياء في بعض أئمتهم تُشبِه التأليه؛ فإمامهم في السحاب: الرعدُ صوته، والبرق سوطه(2)، وكأنَّه مسيحهم الثاني، مؤتمِّين فيه بما نشره اليهوديُّ (بولس الرسول) من عقيدةٍ في (يسوع).

ـ بل ربما تجاوزوا، غلوًّا فيه وفي ذُريته، ما قاله بولس في (المسيح)! 

ـ كما ستجد من الطائفيِّين، في هذا المضمار، مَن جعلوا هِجِّيراهم نبش تلك القبور، وأنفقوا أعمارهم في نهش ساكنيها، وتصنيف الكتيِّبات فيهم، باسم البحث التاريخي، وتصحيح صفحاته.  وهم لا يفعلون ذلك أكاديميًّا، بل ينتفشون به إعلاميًّا وجماهيريًّا.  وهؤلاء يُهدِرون حيواتهم في عِلْمٍ- بزعمهم- هو الجهل بعينه والجاهليَّة بسحنتها، إثارةً لعامَّة الناس بنعراتٍ طائفيَّة، طوَّافين بأصنام الماضي، للتذكير بما جرى فيه، لكيلا يلتئم للأُمَّة جرحٌ، ولا يُنسَى لها ثأر. 

ـ سَكَنَة كهوف التاريخ جميعًا هم شرُّ البَريَّة على مستقبل الأُمَّة. 

ـ هم كذلك.  ولقد شَجَرَ بين الأُمَم، ونَشِب بين فئاتهم وتيَّاراتهم من المذابح والمحارق والخوازيق، ما لا يُقارَن بما جرى في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، مهما قيل فيه.  ولو أنَّ تلك الأُمم ضلَّت (بالضاد) تجترُّ ماضيها التاريخي، وتشحن الحاضر به، وتستعيد ما نَشِب فيه، لتصفية ثاراتٍ مجنونة، ما تقدَّمت خطوة إلى الأمام. 

ـ تخيَّل لو أنَّ (اليابان) بقيت تصيح: "لبيك يا هيروشيما!".. "يا لثارات نجازاكي!"، مقيمةً طقوس بكائياتٍ، وصرخات تلبيات، أين كان موقعها اليوم؟!

ـ بين رفات هيروشيما ونجازاكي! وكذا لو أنَّ (أوربا) ظلَّت تدور في فَلَك ما نَشِب في العصور الوسطى، أو حتى في تاريخها الحديث إبَّان الحربَين العُظمَيين، وتُدير المناظرات المتلفزة بين الحلفاء والنازيِّين، على طريقة السُّنَّة والشِّيعة، لكانت مثار سخرية العالَم، ولبقيت مِثلنا تدور في أتون صفِّيناتها.

ـ مع الأسف، اجترار حماقات التاريخ لا تراه إلَّا في الرؤوس العَرَبيَّة، والرؤوس العَرَبيَّة قديمة عهدٍ بالفاليات!

ـ أنت تجد الساعةَ مَن لا يفتأ يغرِّد في "إكس- تويتر سابقًا"، وينشر على "الفيس بوك"، لا لشيءٍ إلَّا لنكأ الجروح، وتذكير الناسين، وتصديع الأُمَّة، وتأليب بعض الناس على بعض!

ـ ووسائط التواصل المعاصرة نفسها تُسهم في ذلك.

ـ هي بدَورها مِنَصَّاتٌ مُسيَّسة.  خذ على سبيل المثال (مِنَصَّة تويتر/ إكس لاحقًا)، التي تُثبِت باستمرار أنها مِنَصَّة مزاجيَّة، بلا معايير مفهومة، ولا حُريَّة منضبطة.  وإنما تُسلِّط شعارها الهُلامي: "المعايير"- في ذريعةٍ غير صادقة، أو في أحسن الأحوال غير منصفة- لتطبِّق عقوبات ما تزعمه من "انتهاك تلك المعايير" غير المحدَّدة، إن وُجِدت أصلًا.

ـ ولا يُنذَر بها "المنتهِكون"، إنْ وُجِدوا أصلًا، قبل قفل حساباتهم أو تعليقها. 

ـ ذلك لكي تُقصي مَن تشاء، وتؤوي إليها مَن تريد! وهي تفعل ذلك متى شاءت، وحسب أحوال الطقس العامَّة، وبلا أسباب معلومة، ولا احترام لمستخدميها. 

ـ يا (ذا القُروح)، حتى (دونالد ترمب) لم يَسلَم من تقلُّبات مزاجها!

ـ بالطبع!  صحيح أنَّ الرَّجل كان أهوج، لكنَّه لم يجاوز ما تتشدَّق به المِنَصَّة من حُريَّة التعبير.  فلمَّا جاء حذف حسابه في حَزَّةٍ تُكسِب المِنَصَّة صيتًا، فعلت به ما لم تكن لتفعل في طقسٍ آخَر.  وإلَّا كم من الحسابات المروِّجة للعنف، والمخدِّرات، والجنس بأشذِّ صوره، ووسائل الإجهاض، إلى غير ذلك من الموادِّ غير الأخلاقيَّة ولا الحضاريَّة، ومع ذلك تجد ترحيبًا مستمرًّا، وربما حماية خاصَّة!  ولا يُعترَض عليها بأنها "تنتهك معايير مجتمعنا!"  والشاهد هنا أن مِنَصَّات التواصل الاجتماعي الشَّعبيَّة تَستغِلُّ وتُستغَلُّ أسوأ استغلال.  ومن ذلك: الاستغلال في تأليب المجتمعات، بعضها على بعض.

ـ عالَـمٌ يخاف ولا يختشي!  ولو وُجِد المنافس لتحسَّن الحال.

ـ أجل، وهذه الحال في كل مجال.  لو وُجدت مِنَصَّات عالميَّة، ونَشِب التنافس بينها، لرأيت تحسُّنَ الحال، ولطارت تتبارى لتخطب ودَّ المستخدمين بشتَّى الطرق، ولكانت المعايير معلنةً وصادقة. 

ـ دع عنك هذا! وبعيدًا عن استغلال وسائل التواصل تلك، ألا ترى أنَّه لا يَصلُح حاضرنا حتى تُصفَّى الحسابات التاريخيَّة أوَّلًا! 

ـ لا، لا أرى! غير أنَّك سترى بعضهم يَفْهَق حياته ساذجًا صادقًا في مَرْكَضِه في هذا المضمار، وآخَرين كذبوا وكتبوا حتى صدَّقوا أنفسهم، وثالثة أثافيهم ممَّن اتخذوها تجارةً إعلاميَّة رائجةً، في بيئةٍ فارغة العقول، عاطلةٍ من الإسهام الحضاريِّ الحي. ونحن بذلك، دون عقلاء العالَم، نوظِّف التاريخ لخراب الحاضر والمستقبل، بل والماضي أيضًا.  مآسي التاريخ تَدفع الأقوام إلى التوحُّد، والاتِّعاظ من الأخطاء، ومداواة الأدواء، ونحن تَدفعنا مآسي التاريخ إلى تحويلها إلى أفلام هنديَّة، نلعب فيها جميعًا أدوار البطولة!

***

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1960)، رسالة ابن فضلان، تحقيق: سامي الدهان، (دمشق: المطبعة الهاشميَّة)، 14.

(2)  يُنظَر: ابن خلدون، (2001)، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 184- 185.

(الحول العقلي) مصطلح جديد كنا ابتكرناه في علم النفس العربي ليصف واقع الحال الذي عاشه ويعيشه العراقيون بعد 2003. وكنّا حددنا اعراضه بأن المصاب به يرى الايجابيات في جماعته ويغمض عينه عن سلبياتها، ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن ايجابياتها.. وكما يرى احول العين الواحد أثنين ولا يمكنك ان تقنعه انه واحد،كذلك احول العقل يرى ان جماعته، طائفته،قوميته.. على حق والأخرى على باطل،وان هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع ان جماعته شريك فيها.

كان هذا الحول العقلي مقتصرا على الغالبية المطلقة من الحكّام الذين استلموا السلطة بعد 2003،لدرجة ان من كانوا يسمون انفسهم (المعارضة) يرون ان العراق من حقهم فقط،والآخرون لا حق لهم فيه!.وبدءا من عام 2008 انتشرت عدوى هذا الحول لتصاب به كتل سياسية وفصائل مسلحة،كل واحدة ترى ان فكرها.. عقيدتها.. رؤيتها للأمور هي الصح والأخرى زندقة او ضلالة او غباء.. واشتد هذا الحول في 2019 ليوصل الجميع بأن الحكم للسيف لا للعقل.. فحصد السيف رقاب المئات بينهم قادة قوم وشباب فكر وابرياء وصبايا واحداث.. وامهات وحبيبات مفجوعات.

الحول العقلي.. صيّرهم بدوا!

ستندهش او تفاجأ او لا تصدق ان قلت لك ان هناك تطابقا في القيم والسلوك بين البدو زمن الجاهلية وبين أفندية زمن الديمقراطية رغم ان البعد الزمني بينهما اكثر من 1500 عاما؟! واليك ما يثبت:

كان البدو في العصر الذي سبق دعوة النبي محمد الى الاسلام بـ(الروح القبلية).. يحكمهم الانتماء الى القبيلة ومناصرتها سواء كانت على حق ام باطل، والتي تعني في مصطلحاتنا العلمية الحديثة.. التعصب (Prejudice) الذي يعني انتماء الفرد المطلق الى قبيلة، جماعة، طائفة، قومية،او دين.. والدفاع عنها حتى لو كانت على باطل.

ولنعد الى ما حصل في 2006 في العراق، فحين تشكلت أول حكومة بهوية شيعية، تعمّق التعصب بين افراد الشيعة، وصاروا يتباهون بأنهم الأفضل والأحق بالسلطة من طائفة السنّة التي راحت بدورها تسخر من الشيعة وتصفهم بانهم جهلة لا يصلحون للسياسة.. ما يعني ان هناك تطابقا تاما بين (الأسلاميين .. شيعة وسنة) في الزمن الديمقراطي وبين البدو في زمن الجاهلية.

ومن انغلاق عقولهم الناجم عن تحكّم (التعصب الجاهلي) في قيادات كتل واحزاب الأسلام السياسي، انهم لم يدركوا ان التعصب للطائفة يؤدي بحتمية اجتماعية الى حرب.. فحصلت بين عامي( 2006 و2008) زمن حكم حزب الدعوة الأسلامي، وراح ضحيتها الآف الأبرياء وجعلوا من الفرد العراقي البسيط اكثر سخفا من البدوي الجاهلي بان اوصلوه الى ان يقتل الآخر لمجرّد ان اسمه (حيدر او عمر او رزكار!).

و(بداوة) قادة كتل واحزاب الاسلام السياسي (شيعة وسنّة) الذين شكلوا الطبقة السياسية في العراق، انهم اعادوا احياء (الروح القبلية - التعصب) وغلّبوا الانتماء الى القبيلة على الانتماء للوطن، وعملوا بالضد من تعاليم النبي محمد الذي اضعف (الروح القبلية) وعزز مبدأ (المسلم اخو المسلم). ووصل حال (بداوة) حكومات ما بعد 2006 انها استمالت شيوخ العشائر فاستجاب لها كثيرون حتى لو كانوا يعلمون أنها على باطل!.

علّة اهل العراق الجديدة

والعلة الجديدة في اهل العراق،انهم ما عادوا (اهل نظر وفطنة) كما قال الجاحظ، بل انهم اصيبوا بالحول العقلي، والأخطر ان عدوى الحول العقلي اصابت وزارة الثقافة، واصابت مثقفين يعدون انفسهم (قامات) وآخرين ينتمون الى منظمات معنية بالثقافة التنويرية (الأتحاد العام للأدباء.. مثالا) ومؤسسات علمية بعضها يترأسها (أحول عقل) خالص!.

وأخرى تخصهم وتخصنا.. انهم ما عادوا يهتمون بما نشخّصه فيهم من عقد نفسية، وينظرون لتحليل السيكولوجيين لهم وما يكتبون، بأنه فائض معنى، والأصح انهم يخشون مكاشفتنا لهم بأن (الحول العقلي) انتقل بالعدوى عبر عشرين سنة ليصيب حتى من كان يعد نفسه تقدميا!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

عن موقع توينكل: ملحقات الجناس: بعدما وضع علماء البلاغة العربية تعريفًا خاصًا بالجناس ومفصلاً في أنواعه، أضافوا للجناس ملحقات له ومشابهة له حيث أطلق عليها تسمية (الجناس المطلق) وهو على قسمين: المتلاقيان في الاشتقاق: ويقصد به  اتفاق اللفظتين في الاشتقاق ومثال عليه:  قال تعالى: "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43)، فاللفظين "أقم" و"القيم" مشتقين من مادة لغوية واحدة وسميا بالجناس المطلق لتلاقي اللفظين في الاشتقاق وهذا ما يسمى ملحق بالجناس. المتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق: ويقصد به الجمع ما بين لفظين بما يشبه الاشتقاق، نذكر له مثالَا  قال الله عز وجل: "قال إني لعملكم من القالين" (الشعراء 168)، فنجد أنّ الفعل قال مشتق من مصدره القول وأن كلمة القالين جمع القالي وهي كلمة تطلق على المبغض والهاجر ولكن جمع بينهما على ما يشبه الاشتقاق، وهذا خير مثال على الملحق بالجناس والمتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق. وجاء في موقع موضوع عن الجناس: جناس الاشتقاق: ورد في قوله تعالى: "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" (الأنفال 8) فكل من كلمتي ليحق و الحق مشتقتان من الفعل حقق. ومنها قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ" (الروم 43) فكل من كلمتي أقم والقيم مشتقتان من الفعل قوّم. وقوله تعالى: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (الأنعام 79) فكلمة وجهت وكلمة وجهي مشتقان من الفعل وجه. وعن منتديات ستار تايمز عن الجناس: تجنيس الاشتقاق بأن يجتمعا في أصل الإشتقاق ويسمى المقتضب، نحو فروح وريحان، فأقم وجهك للدين القيم، وجهت وجهي.

وعن موسوعة الوافر: ما الفرق بين الجناس والطباق والسجع؟ السجع هو توافق الحرف الأخير من الكلمتين في النثر في الحروف مثل اللهم أعط ممسكا تلفا وأعط منفقا خلفا. الجناس هو التشابه بين الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى مثل صليت المغرب في المغرب. يُطلق على الطباق كلمة التّضاد، وهو عكس معنى الترادف، لأنّه يُعنى بين الكلمة وعكسها في الجملة، ويُمكن لهذا الطباق أن يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين، كما ينقسم الطباق إلى طباق سلب وإيجاب، وفيما يلي أمثلة على الطباق وأقسامه: إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب. هل الجناس من علم البديع؟ قسّم علم البديع إلى: الفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية، حيث ساق عشرين محسّناً لفظياً منها الجناس، والترصيع، والتوشيح، والإلغاز، والطباق مع أنه من المحسنات المعنوية لا اللفظية. أما في الفصاحة المعنوية فقد أورد خمسة وثلاثين محسناً معنوياً منها التشبيه، والسرقات الشعرية مستوحياً ما قاله فيها من كلام ابن الأثير. وجاء في جامع الكتب الاسلامية: هناك أنواع أخرى للجناس، منها ما أطلقوا عليه جناس التصحيف، وضابطه: أن يتماثل طرفاه خطًّا ويختلفَا نطقًا ونقطًا، ومثلوا له من القرآن بقول الله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: "وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء 79-80) فالجناس بين "وَيَسْقِينِ" و "يَشْفِينِ" والطرفان فيه متماثلان في الخط، فلو أزلتَ النقط التي على حروفهما حدث بينهما تماثل تام، والاختلاف في النقط تابعاه اختلاف في النطق كما ترى. ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (قَصِّر ثوبك، فإنه أتقى وأنقَى وأبقى) ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) . وكذا ما يسمى بالجناس اللفظي أو جناس الاشتقاق، فهذه الصورة وإن اشتبهت بالجناس لفظًا فقد فارقته معنًى؛ لعدم التفاوت في معانيها، مثال ذلك: قول الله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ" (الروم 43) فأنت تلحظ اتفاقًا بين: "أَقِمْ" و "الْقَيِّمِ" وهذا الاتفاق جعل هذه السورةَ كأنها جناس، ولكن لما كان المعنى واحدًا للكلمتين زال معنى الجناس عنهما.

جاء في معاني القرآن الكريم: قوم يقال: قام يقوم قياما، فهو قائم، وجمعه: قيام، وأقامه غيره. وأقام بالمكان إقامة، والقيام على أضرب: قيام بالشخص؛ إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، وقيام هو على العزم على الشيء، فمن القيام بالتسخير قوله تعالى: "منها قائم وحصيد" (هود 100)، وقوله: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها" (الحشر 5)، ومن القيام الذي هو بالاختيار قوله تعالى: "أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما" (الزمر 9).

جاء في تفسير الميسر: قال الله تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" ﴿الروم 43﴾ فَأَقِمْ: فَ حرف استئنافية، أَقِمْ فعل، الْقَيِّمِ: الْ اداة تعريف، قَيِّمِ صفة. للدّين القيّم: المستقيم (دين الفطرة). فوجِّه وجهك أيها الرسول نحو الدين المستقيم، وهو الإسلام، منفذًا أوامره مجتنبًا نواهيه، واستمسك به من قبل مجيء يوم القيامة، فإذا جاء ذلك اليوم الذي لا يقدر أحد على ردِّه تفرقت الخلائق أشتاتًا متفاوتين؛ ليُروا أعمالهم. وعن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" ﴿الروم 43﴾ "فأقم وجهك للدين القيِّم" دين الإسلام، "من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله" هو يوم القيامة، "يومئذ يصَّدَّعون" فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار.

عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43) أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة أي لا تعدل عنه يمينا ولا شمالا فإنك متى فعلت ذلك أداك إلى الجنة وهو مثل قوله ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقوله تتقلب فيه القلوب والأبصار. جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43) وصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن (القيّم معناه الثابت والقائم) هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر (أو الإقامة) هي للدين أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبداً ، بل أقم وجهك للدين القيم. وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً .

***

د. فاضل حسن شريف

بقلم: شايلا لوف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

فيما يتعلق بنشاط الدماغ، فإن تخيل شيء ما يشبه إلى حد كبير رؤيته حقيقة، فلماذا لا تخلط بين الاثنين كثيرًا؟

في عام 1910، سألت عالمة النفس ماري تشيفيس ويست بيركي المتطوعين عما تعتقد أنه سؤال يسهل عليهم الإجابة عليه: هل ما تراه حقيقي أم خيالي؟ في بحثها، طلبت من الناس أن يتخيلوا أشياء، مثل التفاحة، أثناء النظر إلى الحائط. ثم، سرًا، استخدمت جهاز عرض مبكرًا يسمى الفانوس السحري لإلقاء نفس الصورة.  واجه المشاركون صعوبة في التمييز بين ما رأوه بأعينهم وبين ما تخيلوه في رؤوسهم.

اقترحت هذه التجربة الرائدة، والعديد من التجارب التي تلتها، أن الرؤية وتخيل الرؤية تتضمن عمليات مماثلة في الدماغ. وهذا يؤدي إلى لغز؟ تقول نادين ديكسترا، عالمة الأعصاب الإدراكية في جامعة كوليدج لندن: "إذا كان الدماغ يتعامل مع الخيال بشكل مماثل لكيفية تعامله مع الواقع، فلماذا لا نخلط بين الاثنين طوال الوقت."

في دراسة حديثة لما يسمى "تأثير بيركي"، نشرت مؤخرا في مجلة Nature Communications، طلبت ديكسترا وزملاؤها من أكثر من 600 شخص أن ينظروا إلى شاشة مليئة بالكهرباء الساكنة، ويتخيلوا خطوطا قطرية على الشاشة، ويقدموا تقريرا عن مدى تأثيرها. وكانت الخطوط حية على مقياس من 1 إلى 5. على مدار التجربة، على غرار دراسة بيركي، قدم الباحثون سرًا خطوطًا قطرية حقيقية لاختبار مدى تأثير ذلك على ما يعتقد الناس أنهم رأوه.

كما هو الحال في عمل بيركي، وجدوا أن الناس يمكن أن يخلطوا بين الخيال والواقع بسهولة. لكن ليس دائمًا: ويبدو أن العامل الرئيسي هو مدى وضوح الصورة وحيويتها. الأشخاص الذين قالوا إنهم رأوا خطًا قطريًا واضحًا كانوا أكثر عرضة للقول إنهم يعتقدون أنه حقيقي، بقطع النظر عما إذا كان حقيقيًا أم لا.

وجدت ديكسترا دليلًا إضافيًا على هذا المبدأ نفسه من خلال إعادة تحليل إحدى تجاربها السابقة لتصوير الدماغ: عندما تخيل المشاركون في الدراسة أنهم يرون شيئًا ما، أظهرت أدمغتهم نمطًا مشابهًا من التنشيط في القشرة البصرية كما هو الحال عندما كانوا ينظرون إلى نفس الشيء، ولكن كان التنشيط أضعف بشكل عام. وتقول ديكسترا إن نتائجها تشير إلى أن الناس يستخدمون "عتبة الواقع" للتحقق مما هو حقيقي وما هو متخيل، في عملية تسمى مراقبة الواقع الإدراكي. عندما تكون الإشارة أضعف من هذه العتبة، فمن المرجح أن يصدق الشخص أن ما يراه هو خياله. إذا كان قويًا أو أقوى، فمن المرجح أن يصدق أنه حقيقي.

وهذا يعني أن الأشخاص الذين لديهم صور ذهنية مفعمة بالحيوية قد يجدون صعوبة في التمييز بين الواقع والخيال؛ كان هناك بعض الارتباط بين وجود صور حية وزيادة احتمال التعرض للهلوسة. وللنتائج أيضًا آثار على كيفية تعاملنا مع المستقبل من خلال الواقع المعزز أو الافتراضي الذي أصبح أكثر واقعية.

ومن المثير للاهتمام أن عتبات واقعنا ربما تتغير دائمًا - لذا مع تغير التكنولوجيا، قد نتغير نحن أيضًا. عندما أجرى بيركي تجربته، كانت مقاطع الفيديو نادرة وكان الناس يعتقدون دائمًا أن ما رأوه كان قادمًا من عقولهم. بعد كل شيء، ماذا يمكن أن يكون؟ وقال أحد المشاركين: "لو لم أكن أعلم أنني أتخيل ذلك، لظننت أنه حقيقي".

(انتهى)

***

..............................

الكاتبة: شايلا لوف/ Shayla Love كاتبة في مجلة / سايكى (Psyche ). وبالإضافة إلى ذلك ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

(لا يجب استبعاد قدرة الفن على التعبير عن فكر سياسي وثقافي نضالي، ذلك أنه يوفر جهدا حاسما في تقديم أدوات استقلاليته دون الزيغ عن نطاق الثقافة الاجتماعية السائدة، ويستتبع ذلك بالخوض في تجربة الترافع ضد الخمول والاستهتار والسلبية، ومع ما يقوى الوعي الجمالي، أو ما يستثير الحزن والمواساة عوضاً عن آمال القيامة والانبعاث).

لم يتغاض الفلاسفة عن فعل الفن في الحياة، وأبعاده الجمالية والإنسانية والأخلاقية، إذ يعتبرونه الدافع الجوهر للحياة، ويمثل جزء كبير منه الإدراك المبدع للجدوى من قيم العيش وإرادة المشاركة، وحس التدافع والانتصار للكونية .

وهذا المدار القيمي، يلتقي في صلب (التراجيديا) أو المأساة، كونه يستخلص النشوة والإسراف ورمز الغريزة، وهي تعبيرات عن كون الإنسانية اليوم تعيش تمزقا أخلاقيا خطيرا، وتناغما لتنميط الحياة وبعدا عن إرادة تحرر الذوات.

لكن روح هذا الافتئات، يحاول جهد الأيمان، استعادة الجذوة، وإيقاظ الحواس من عمائها المصطنع، مع ما يغدي ذلك من حضور لافت للأخلاق الجمالية واقتداريتها في التأثير والإبهار والانتشار السريع.

ولا أدل على ذلك من أن نخبا من الفنانين والشعراء والمثقفين المرموقين من جميع أنحاء المعمورة، هبوا لنجدة الضمير وإيعازه من غفلة التوجيه ونار الفتنة في قضية غزة وما تتعرض إليه من إبادة ومجازر وهتك حرمات وتهجير وتجويع.

لقد تحررت الأصوات الفنية من ارتدادات التشطير الدافعي للشهرة والنجومية، وعلاقاتها بالأسواق والعلامات التجارية، وأضحت تكرس الجبهة المضادة للتعتيم والتغول والابتزاز وكل أنواع الحصار، كما هو معروف لدى أجهزة التنظيم الإعلامي والسيطرة المدفوعة.

وخلال 100 يوم من الحرب الإبادية القاتلة على قطاع غزة، انتفضت قوى الفن تلك، وهي تغلي كمرجل صدى الضمير العالمي، الذي يقبع في صمت الدهاليز، متفرجا متآمرا غير قادر على تغيير التراجيديا أو توقيف عجلاتها الساحقة؟.

ونقلت وسائل الإعلام الدولية، نداءات لكبار الشخصيات في عالم الفن والثقافة، كالمغني الارلندي سيث واتكنز، والملحن والأوبرالي الإيطالي جو فالسي، ومغني الراب الأمريكي ماكليمور، والممثلة البريطانية جولييت ستيفينسون، والممثل الأسترالي رشاد ستريك، ومغني الراب الأمريكي ريدفيل، والفنانة النرويجية هيلاري أليسون، والمغنية البريطانية ميلاني مارتينيز، بالإضافة إلى نجوم هوليود كأنجيلينا جولي ووسوزان ساراندون وجينا أورتيجا، وعارضتا الأزياء الأمريكيتين "بيلا وجيجي حديد" ...

ومما يثير الفضول، في مقابل تعزيز الدافع الحقيقي لهذا التحول، أن يكون مضمون المحتوى المروج ضمن نداءات هؤلاء المؤثرين، أو للكثير منهم، متناغما مع حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسان الفلسطيني المقهور. حتى إن قراءة العديد من تعليقاتهم أو تصريحاتهم أو معاني كلمات أغانيهم وأناشيدهم، يحيل إلى وعي ثقافي وسياسي منظم وذي مردودية فكرية وإبداعية. وهو ما لا يتناقض البتة مع بعض سلوكيات نخب المجتمع الغربي، من حيث إيثاره الصمت السلبي، وعدم اتساقه مع نسبة كبيرة ممن يجهلون حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته على السلم الدولي وقضايا العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

ومن أجمل ما سمعت وقرأت مؤخرا، أغنية للمغني الارلندي الشهير سيث واتكنز، وهي تحمل عنوان "تحيا فلسطين" Leve Palestina، انتشرت بسرعة فائقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتؤرخ الأغنية لتاريخ القضية الفلسطينية ، منذ أحداث النكبة عام 1948، وحتى أحداث غزة التي بدأت مع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

والأغنية من كلمات وألحان نفس المؤدي، والذي يشتهر بكونه يغني للقصص الإنسانية العادلة، غير بعيد عن إبداء وترجمة أحاسيسه الخاصة بالقضايا التي يؤمن بها.

سيث واتكنز عندما سئل عن الأغنية كيف جاءت وما أسباب نزولها، أجاب ""يا فلسطين، يا فلسطين، كتبت هذه الأغنية وأنا أبكي على أكثر من 20 ألف شهيد في غزة خلال 77 يوماً فقط، 40% منهم أطفال، وهي نسبة أعلى من أي صراع آخر في الذاكرة الحديثة، مشددا على أن "."الحل: أرض واحدة، حقوق متساوية، وإنهاء دولة الفصل العنصري، آمل أن تجلب هذه الأغنية الأمل لليائسين، والتعاطف مع أولئك الذين ليس لديهم شيء حالياً، لأولئك الذين ما زالوا يعانون من واحدة من أكثر الحملات الإرهابية اللاإنسانية والمروعة في التاريخ الحديث".

تقول كلمات الأغنية في بدايتها:

في عام 1948 طردوا من أرض أجدادهم، قصفت بيوتهم ومدنهم

يا فلسطين يا فلسطين، نسمع نداءك المستغيث

أن تعود الأرض مرة أخرى، وأن يتحرر شعبك

يا فلسطين يا فلسطين، شعبك يعيش في خوف

نطالب بتحريرك من النهر إلى البحر

في عام 1967 نفّذت إسرائيل الغزو

لتستعمر وتستوطن القليل الذي تبقى

من شعب فلسطين القديمة، مرة أخرى مصيرهم متشابك

مع الاحتلال الصهيوني لبيوتهم وعقولهم المتعبة..

لقد كان الفن وسيبقى معبرا لتجسيد فعل المحاكاة، أو هو سبيل إبداعي من سبل تهذيب الحياة وتخليقها. فلا تقوم الإنسانية ما قامت إلا بنشاطه العبقري وبصيرته وحكمته ونورانيته. ولا يستوي الناهض فيه من الساكن الخراص، فالمقامان يختلفان، ويتشابكان في القلق والرؤية وتدبير القيم. الأول ينصف ويعدل ويترجم ويؤثر، أما دونه، فيظلم وينتهك ويحزن وينافق.

فأيهما أسعد بالإنسانية؟ وأيهما الأجدر بالملكة والتفاعل الفاهم والمستبصر؟ وهل يستويان مثلا؟

***

د. مصطفى غَلْمَان

قال الله سبحانه "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وردت ناضرة وناظرة في سورتين متتاليتين لوجود ارتباط بين النظر والنضر اي عندما يكون البصر والبصيرة في بهجة. النضر: الحسن ووقع منه في القرآن ثلاثة مواضع في قوله جل جلاله "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة " (القيامة 22) ناضرة اسم أي مضيئة مشرقة، و"وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الإنسان 11) النضرة أي البهجة في الوجه والسرور في القلب، و"تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) نضرة النعيم أي بهجة النعيم. جاء في معاني القرآن الكريم: نَضْر: اسم علم مذكر عربي قديم، وهو مصدر بمعنى: النعومة، النضارة، الحسن، الجمال، الذهب والفضة. ونضر بن الحارث ( ت 2هـ) حامل لواء المشركين يوم بدر وابن خالة النبي صلى الله عليه وسلم. اصل اسم نَضْر: عربي. أسماء ذات صلة: النضر، نَضْر، نَضير، نُضار، نضرة. قال الله تبارك وتعالى " فَوَقَـهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" (الانسان 11) نضرة بمعنى ظهور البهجة والسرور على الانسان، وهو تعويض عن الخوف من الله ومن يوم القيامة. لقاهم يعني استقبالهم.

عن برنامج لمسات بيانيه ما الفرق بين (ناضرة) و(ناظرة)؟ وما معناهما؟ للدكتور فاضل السامرائي: قال تعالى: في سورة القيامة "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23)) لماذا اختلفت الضاد؟ (ناضرة) معناها جميلة "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24)) من النضارة والجمال. (نضرة بالضاد) وجوه يومئذ (ناضرة) جميلة (ناظرة) تنظر إلى ربها، (ناضرة) جميلة من الجمال . (ناظرة) أي تنظر الى ربها هذا يسمى جناس يعني اتفاق الكلمات واختلافها في حرف.

جاء في موقع موضوع: قوله تعالى:  الجناس المُحرّف "وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23) والجناس في كلمتي ناضرة وناظرة في تبديل الحروف. الجناس مصدر من الفعل (جانَسَ)، (يُجانس)، (مجانَسة)، و(جِناساً)؛ بمعنى شابهه، واتَّحد معه في النَّسق، أمّا في الاصطلاح اللغويّ، فالجناس هو: فنٌّ من فنون البديع، تكون فيه الألفاظ متشابهة في النُّطق، واللفظ، ومختلفة في المعنى، ممّا يُظهر الجمال والتناغم في التوازُن الصوتيّ في آيات القرآن، كما يُظهر التناسُبَ بين السِّياق القرآنيّ والمقام، وهذا التوازُن الصوتيّ ينتج عن تكرار مُنتظَم للصوت؛ بسبب تشابه لفظَيه في الشكل، واختلافهما في المعنى -كما ذُكِر في تعريفه-، وتُظهر أثراً واضحاً في أُذن المُستمِع، فتجعله أكثر مقدرة على إطلاق الفِكر في التأمُّل والتدبُّر، وتُحقِّق له اللذّة السماعيّة. أنواع الجناس وهو على نوعَين؛ جناس تامّ، وهو الذي يتّفق فيه لفظان في أربعة شروط، هي: ترتيب الحروف، وعددها، ونوعها، وهيئتها من حيث الحركات والسَّكنات، ومثال ذلك قول الشاعر: فَدارِهِم ما دُمتَ في دارِهِم وأَرضِهِم ما دُمتَ في أَرضِهِم والجناس غير التامّ، أو ما يُسمّى بالجناس الناقص، وهو: اختلاف لفظَين في أحد الشروط التي لا بُدّ من توفُّرها في الجناس التامّ، مثل: السّاق والمَساق (اختلاف شرط العدد)، والشَّعْر والشِّعْر (اختلاف شرط الشكل)، وبين وبني (اختلاف شرط ترتيب الحروف)، وتَقْهر وتَنْهر (اختلاف شرط نوع الحروف)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاختلاف إذا وقع في نوع الحروف، فيُشترَط ألّا يقع في أكثر من حرف واحد. والجناس يُعَدُّ جناساً حَسَناً إذا ورد في النصّ بلا تكلُّف، ولا تكرار كبير يُؤثّر في حَقّ المعنى، وسبب استحسان الأذن للجناس حدوثُ تجاوُب في النغمة الموسيقيّة بوجود التماثُل الكامل، أو الناقص بين الكلمات، ولأنّ النفس مُتشوِّقة إلى سماع ما يأتي متوافقاً مع النغمة نفسها، مع اختلاف المعنى.

يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة وباسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها. والمعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: "وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة " (القيامة 24) الخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) وقال: "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الانسان 11) وقوله: " إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 23) خبر بعد خبر لوجوه، و"إِلَىٰ رَبِّهَا" متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية. والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الايمان على ما يسوق إليه البرهان ويدل عليه الاخبار المأثورة عن أهل البيت وقد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ" (الاعراف 143)، وقوله تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11). فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإلهية شاملة لهم"وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" (النمل 89) ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشئ من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شئ ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له. ومن هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" على"نَاظِرَة " يفيد الحصر والاختصاص، أن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة. والجواب أنهم لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه انما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم. وأما ما أجيب به عنه أن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها. فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الابصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره. أن العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23)، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهو سألك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6).

***

د. فاضل حسن شريف

 

هناك من زعم أن ما أوردته فى أضابير الانترنت وزودي عن من لا مثيل لهم ولا قرين، حافل بالشطط، ويشوبه التناقض، ويعوزه البحث والدليل، رغم أن جل ما أوردته كان مترعاً بالشواهد والبينات، ولم يكن يمت للتناقض بصلة، أو يصل إليها بسبب، فقد زعمت في مقال لي أن لهجة المرء تاريخه وذاته، والغض منها غض منه، والاستخفاف بها استخفاف به، ولا يرضى الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز كما قال أحد الأدباء، وأنا أيها السادة لم أكن أنثر عليكم دموع الخنساء، أو أشنف مسامعكم بتشاؤم أبى العلاء، ولكن أحكي عن أمة يعتقد البعض أن ليس لها جاه عريض، أو نسب عريق، أو علم وثيق، حتى لا تُضام ناصيتُها، فللغير أن يعفّر خدها بالتراب، ويستبيح ذمارها عبر الفضائيات وأضابير الانترنت، هذه اللهجة التى جعلت من أمة متعددة الأعراق، متباينة السحنات والعادات، أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، تُختزل فى عبارات مبتذلة، لتدفع عن الحياة الرتابة، وعن النفوس الملالة، ووتتقاذفها أفواه رجرجة الخليج ودهمائهم، أصحاب الأخلاق المنحلة، والأحلام المختلة، الذين يصلون نسبهم بالفن ويستظلون تحت أفيائه، طغمة السوء التي سخرت اللهجة السودانية للتسلية ولتزجية الوقت، والتي جعلت من السوداني الذي أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، خاملاً لا يضاهيه أحد فى الميل الي الدعة والراحة، ومتبطلاً يزجى فراغة بالنوم و مسامرة الأصفياء، وعليه فأن دوحة الكسل فى أرض النيلين فينانة الأفرع، ريا الأماليد، السودانى الذي إذا أراد البعض وصفه بكليمات يلقيها فى عجل لم يحيد عن سخاء تفيض به الموائد، وعلم تزخر به المنابر، وبشاشة تفتر بها الشفاه، نعم أيها السادة السوداني أحمى للجار، وأذبّ عن الذمار، فمتى ترتفع أغطية القلوب، وتنكشف حجب الأسماع.

انني حينما كتبت ما خطه يراعي لم أكن أهرف بما لا أعي، وإنما صدحت بها واضحة جلية، لا التواء فيها، بأن هناك بدع تمضغها بعض الأفواه فى سماجة، وتجترها بعض العقول فى غباء، بأن أمة النيلين لا تشارك فى رأي، ولا تحفل بحادث، بل هى مصفدة بأغلال الونى، ومقيدة بسلاسل الخمول، وأن اللهجة السودانية الغنية بالألفاظ، والحافلة بالتعابير والمرادفات، ولا غرو فى ذلك فهي نبعت من يم عظيم، وبحر زاخر، قد تضائلت وتقهقرت وأمست تعانى من الفقر والجدب، ولم يبقى من فضائها الرحب، وجيشها اللجب، سوى (يا زول وآآآى، وشيء من كدة كدة يا الترلة)، تستخدم للتخفيف من وطأة الخسارة الفادحة التي مُنِيت بها مملكة علوة وسلطنة سنار، ومأوى المهدي ودينار، وملاذ أوشيك وزنقار، كيف لأمة لا تنفض عنها غبار الخمول، ولا تمسح عن أجفانها فتور الوسن، تحقق فى نوادر المخطوطات، وتنقب عن نفائس المطبوعات، وتحذق أصول التحقيق، وتمتلك فيالق من جهابذة العلماء، يُرجع إليهم في الملمات،ويؤخذ برأيهم في المعضلات، ويُلهِم عندلبيهم الغواني فى الحفلات، ويدبج كاتبهم الصحف بالقصص والمقالات.

لا، لم يكن في مقالي تناقض، ولا في ألفاظي شطط أو جنوح، كما انني يا أخ اليمن لا أرفع شعار تمزق وفرقة، ولا صاحب دعوة تعصب واستعلاء، فالحديث حق مباح للبشر، وكذلك اختيار اللهجة واللغة، فمن تحدث باللهجة السودانية لا يعني هذا أن مصرعه قد آن، وأن حتفه قد حان، وأن جثته سوف تتكفل الخيل بجرها لترمى بالجنادل والصخور، لا أيها العزيز، وحتى ننصرف عن حومة الجدال أن لفظة زول لا تطلق هكذا على عواهنها، بل تعد أهانة لا تغتفر إذا كنت تعلم شخصية من تخاطبه، فأنت إن دعوته بها فكأنك تعمدت تجريده من أسمه وألحقته بالغرباء ممن لا تأمن بوائقهم، أنا على الصعيد الشخصي أمقت أي أحد يتعمد أن يتغاضى عن أسمي وينعتنى بهذه الصفة، لا أريد أن أنجرف عن جادة السبيل، ولكن أعتقد أن الجوهر في تقييم أو قبول غيري للتحدث بلهجتي هو الكيفية التى يتناول بها المفردات والألفاظ، فحتماً لا تنطلى عليك لهجة المستهزء العابث بموروثاتك، وبين الخِل المُحب الذي يتودد اليك بلهجتك، أما ما يشعرني بالضجر والغيظ أن يمازحك أحدهم وأنت تراه لأول وهلة بهذه الجوقة من المفردات الخلابة التى تعكر صفو الحصيف على شاكلة : ( يا زول، دقيقة يا زول، والله بالغت عديل كده، عايزين ملاح أم رقيقة يا زول، أنا يا الحبيب وين قالولي سافر) ثم بعد هذه الديباجة الرائعة من التعابير الممجوجة، يسألك عن ضالته التى ينشدها، مثل هذا الصنف من الناس تراه فى كل صقع وواد، ولقد حدث معي هذا الشى قرابة ترليون مرة وأنا أسعى فى دهاليز الغربة وأضطرب بين أرجائها.

الأخ أحمد البحرينى، وصفت مقالي “السوداني مادة خصبة للتهكم” بأنه يوثق عُرى الضغائن بين الأشقاء، وبأني مهوناً بقاطني الخليج أشد التهوين، ومستخفاً بهم أشد الاستخفاف، صدقنى أنا أبعد الناس عن الاساءة إلي العرب أو الازورار عنهم، ولست بصاحب دعوة تحمل فى أطوائها معانى الاستخفاف، أو الرغبة في الانسلاخ عن اللسان والثقافة، فاللغة العربية هى جزء من حياتنا، ومقوم لوحدتنا فى السودان، ما قصدتهم فى مقالي السابق هؤلاء القوم الذين فتنتهم الدنيا وركنوا إليها، وغدوا يزمون بأنوفهم، ويستكبرون بألسنتهم، ويحصدون من الملايين التى رفعتهم من حضيض، وداوتهم من جهل، ذهباً يكتنز، وقصوراً تُشاد، هم طائفة المهرجين الذين يلتئم بهم شمل الناس عبر الفضائيات ويعدونهم من أيقونات الجذل، وقلائد الابتهاج، هذه الأيقونات لها عقيدة ثابتة كأنها سُنة كونية ماضية، أن الضحك والفرفشة لا تكتمل إلا بالسخرية من وطن متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أخي البحريني فيما الخلاف؟ وعلاما الجدل؟، فتعدي أصحاب الهوى الطاغي، والعشق المضني، على اللهجة السودانية التي تسرب إليها كل لحن، وشابتها كل عجمة، لا تتعارض فيه الأراء، أو تصطرع حوله الحجج، كما أنني أبتدرت مقالي بقولي: (فسجية بعض العرب) ولم أقل كل العرب من قاطني الخليج، فبعض هذه تبرئنى من الغلو والشطط،كما أنني أيها الكاتب المتبسط فى فنون اليراع، قد بسطت لك الأمثلة والشواهد على أشياء حدثت معى ولم أجلبها من نتاف الكتب، أو خطفات الأحاديث، فمقالي السابق دونته بعد سلسلة طويلة من حالات الغبن التي لا يتسع المجال لذكرها.

وختاماً السبب الذي حدا بك للرد علينا دافعه الغضب للعشيرة، واظهار المحبة للأهل، وهو نفس السبب الذي دفعك للكتابة إلينا.

***

د. الطيب النقر

 

أسباب الهجرة:

لقد أوضح الدكتور مكي عزيز بالاشتراك مع رياض إبراهيم السعدي في كتابهما (جغرافية السكان). الصادر عن جامعة بغداد عام 1984م؛ عن أسباب ونتائج الهجرة بما يلي: "الفقر وانعدام الأمن الغذائي والبطالة ونقص فـرص العمل، والتغيـر المناخي، وسوء أوضاع البيئة، من بين الأسباب الرئيسية للهجرة من الريف، كما أن لها نتائج ديموغرافية أو سكانية واقتصادية واجتماعية على كل من الريف والمدينة. وأسباب الهجرة القروية على الأرجح تكون الهجرة قـراراً متعمداً وأحد الطرق التي يسعى لها الكثيرون لتحسين سبل العيش والحياة الكريمة، وسيتم تعداد أهم الأسباب الرئيسة التي تجعل السكان يتخذون القرار بالهجرة القروية:

- الفقـر المدقع في القرية وانعدام الأمن الغذائي: حيث إن ما يزيد على 75% من الفقراء ومن يفتقرون للأمن الغذائي هم من أهل المناطق القروية، حيث غالباً ما يعتمدون على الإنتاج الزراعي بطرق قديمة لتأمين معيشتهم، كما يواجهون مصاعب كبيرة في الحصول على المنح أو القروض لتحسين زراعتهم، كما يصعب عليهم الوصول إلى الأسواق.

- ضعف توافر فـرص العمل: حيث إن معظم الفرص الوظيفية الموجودة في القرية هي في مجال الزراعة وبأجور زهيدة، وبظروف غير صحية وضعف في العدالة والمساواة، إضافة إلى قلّة توفر فرص التدريب والخدمات الإرشادية.

- عـدم المساواة في الخدمات: حيث يرغب أهل القرية بالهجرة؛ بسبب الحصول على الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية الأفضل والمزيد من الحماية الاجتماعية.

- التغير المناخي: حيث إن معظم صغار الملاك والمزارعين والصيادين والقرى المعتمدة على الغابات والرعي الطبيعي هي من أكثر الفئات تأثراً بالتغير المناخي وما ينتج عنه من كوارث طبيعية.

- استنزاف الموارد الطبيعية والتدهور البيئي: حيث إن التغير المناخي والتصحر قد حول الكثير من الأراضي الزراعية إلى صحاري؛ مما أضعف كثيراً من قدرة وإنتاجية المزارعين.

- انعدام الأمن والاستقرار الذي أدى بنزوح المجتمع الريفي بصورة خاصة والمجتمع في محافظة الأنبار بصورة عامة بسبب العمليات العسكرية الأخيرة.

نتائج وأثار الهجرة

تتعدد أسباب ونتائج الهجرة القروية، فهناك نتائج ديموغرافية أو سكانية، وأخرى اقتصادية واجتماعية مثل اختلاف التركيب النوعي وغيرها الكثير، ومن أهم هذه نتائج الهجرة القروية ما يأتي:

نتائج ديموغرافية: يتغير عدد السكان بسبب الهجرة القروية في اتجاهين متضادين، من زيادة في أعدادهم في المدن، ونقص في القرى والأرياف، حيث ينتج نمو حضاري عشوائي في المدن، مما يؤدي لنقص في الخدمات العامة بسبب زيادة الضغط عليها، وزيادة البطالة وانخفاض اجور العمال والانحراف، والتحضر الشكلي أو الزائف.

نتائج اقتصادية: يمكن للصناعات والخدمات في المدينة امتصاص البطالة، كما تنشأ مهن جديدة ويرتفع أجر العامل المهاجر في المدينة، مع ذلك في الصورة العامة ينخفض مستوى الأجور عن السابق، وترتفع نسبة البطالة، وفي القرية تنقص الأيدي العاملة من الشباب إلا القلة، ومع هذا تكون تلك الأيادي العاملة مكلفة الثمن بسبب قلتها في الريف، على العكس من المدن المهاجرة اليها إذ ترتفع كثافة الأيادي العاملة، هناك وتقل كلفها لقلة الطلب عليها. إذ أن هناك الكثير من الأعمال في المدن يستخدم فيها الآلة لوفرة رؤوس الأموال ومقابل هذا فأن الريف يفتقر للكفاءات مقارنة باليد العاملة في المدن.

نتائج اجتماعية: في المدينة تزداد نسبة الجرائم، كما يمارس القرويين عاداتهم التي لا تتفق مع الحياة الحضرية، وتنتشر مدن الصفيح التي هي بؤرة المشاكل الاجتماعية، وفي القرى يختلف التركيب النوعي وترتفع نسبة الاناث، وتقل التوجهات لتطوير الريف مما يزيد من تخلفه. كذلك التغيير من شكل مخطط المدن من خلال التوسع العمراني والعشوائيات .

الحلول والمقترحات:

لحل هذه المشكلة لا بد في البداية من بتر الأسباب التي تؤدي لأفضلية المدن أو التقليل منها، والعمل على أن لا تكون الأرياف مهجورة حتى وإن حصلت الضرورة للعمل في المدن، ففي بادئ الأمر لا بد أن يكون هناك ما يكفي من الخدمات في الأرياف كالخدمات الصحية والتعليم؛ ذلك كإنشاء مستشفى في منطقة وسطية بين القرى أو إنشاء جامعة ودوائر حكومية فرعية، أي أن يكون هناك ما يشبه المدينة المصغرة في وسط الريف، ومن ثم نقل جزء من الأعمال إلى مناطق الريف كأن تكون هناك شركات في المناطق الريفية، وشيئاً فشيئاً تكون المنطقة الوسطية تلك كمدينة ريفية، يرجع إليها أهل الريف في أعمالهم وحياتهم اليومية، وتساعد على بقاء أهل الريف في موطنهم الأصلي، وأما إن كان هناك مدينة قريبة أو تقع في الوسط من مناطق الريف فيتم استغلالها كنقطة مركز فقط، بحيث يكون لأهل الريف مواصلات خاصة بهم تصلهم بالمدينة على الدوام فلا يضطرون للاستقرار بشكل دائم في المدينة، في خطوة أخرى يمكن العمل على تشجيع الاستثمار في المجالات الزراعية والانتاج الحيواني، سواء من أهل الأرياف نفسهم بتخصيص نسبة دعم خاصة بالمزارعين ورعاة الماشية، أو من خلال توجيه الأموال إلى تلك المجالات من خلال وضع حوافز للاستثمار، والعمل على إزالة الهوة والفرق بين الريف والمدينة، والحد من هذا التباين، وبذلك تنتفي بعض أسباب هجرة الريف للحصول على المال في المدن، وتوفير الكثر من الخدمات والمنشآت التي تجعل ابن الريف يستغني عن الهجرة الى المدينة لوجود ما يعوضه عن الهجرة إلا لبعض الرحلات الموقتة للأعمال الإدارية وغيرها التي يكون مركزها المدينة.

كما أن النظم الغذائية والتنمية الريفية تؤثر على الهجرة وترك الزراعة وتتأثر بها في آن واحد، قد يجانب الصواب رسم صورة بسيطة للوضع. فمن ناحية، هنالك أمثلة عديدة حول اضطرار أصحاب الحيازات الصغيرة، وغيرهم من السكان الريفيين، إلى الهجرة إلى البلدات والمدن الأكبر نتيجة افتقار الوسط الريفي والزراعي إلى الفرص الاقتصادية. وكذلك نتيجة الوضع الأمني والسياسي، وفي هذا السياق من المتوقع أن يقود انخفاض الانتاجية الزراعية، وتكوين الروابط مع الأسواق، وتنمية الاقتصاد الريفي خارج المزرعة، إلى الحد من الضغوط المؤدية إلى الهجرة. وترك الأراضي واهمالها، وتشير الأدلة إلى حصول ذلك على سبيل المثال الاستثمارات في تحسين البنية الأساسية في الحالات التي توفرت فيها الاستثمارات في المناطق الريفية كما في محافظة بغداد، وعدم وتمكين أصحاب الحيازات الصغيرة من الوصول إلى التكنولوجيا، والتدريب والخدمات. ومن جانب آخر، غالباً ما يؤدي تحسن الانتاجية الزراعية وزيادة الدخول إلى دفع عجلة العمالة خارج المزرعة، الأمر الذي يزيد في حالات عديدة من الفرص المتوفرة للأشخاص للخروج من المناطق الريفية ومجال الزراعة. ومع ارتفاع أرباح المزارع، تزداد الاستثمارات في المدخلات، والخدمات والآلات. وبارتفاع دخول المزارعين، يزيد إنفاقهم على السلع غير الغذائية من قبيل المعدات المنزلية، والملابس، والأنشطة الترفيهية. وتؤدي جميع هذه العوامل إلى تهيئة الفرص في القطاع غير الزراعي. وبالتالي، تساهم التنمية الزراعية، في واقع الأمر، في تعزيز فرص بالريف والمزرعة. وفي حين تعد الزراعة والتنمية الريفية ضروريتين لحراك العاملين نحو القطاعات غير المرتبطة تقليديا للحد من اضطرار الأشخاص للهجرة من أجل إعالة أسرهم، إلا أن هذه التنمية بطبيعتها تهيئ الفرص لحراك العاملين. وقد تبين أن هذه الفرص تساعد أسر أصحاب الحيازات الصغيرة على زيادة دخولهم وتوفير رأس المال اللازم للاستثمار في مزارعهم. وعدم ترك اراضيهم الزراعية واهمالها.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.........................

المصادر:

- مكي محمد عزيز ورياض ابراهيم السعدي، جغرافية السكان، جامعة بغداد، مطبعة جامعة بغداد، ط1، 1984.

- كاظم عبادي جاسم، جغرافية الزراعة، دار صفاء للنشر والتوزيع، ط1ـ 2014.

- عباس فاضل السعدي، اصول جغرافية الزراعة، جامعة بغداد، دار الوضاح للنشر، ط1، 2019.

 

مع كل منعطف من منعطفات المعرفة البشرية التي لا تفتأ تنمو وتتطور بمتوالية هندسية، ومع كل منعرج من منعرجات الحضارة الإنسانية التي لا تبرح تتقدم وترتقي بمقاييس تصاعدية، تظهر الحاجة لاجتراح مفاهيم واستنباط مصطلحات تواكب هذه النقلة وتجاري هذه الطفرة النوعية، بما يمكنها من تحايث معطياتها في مجالات الوعي والسلوك الإنسانيين بحيث يتاح للفاعل الاجتماعي التعاطي مع هذا الحراك، بلّه السيولة والانثيال، على النحو الذي يحقق غاياته ويضمن مقاصده بشكل متوازن . ولعل الأستاذ الجامعي والمفكر اللبناني (علي حرب) كان السبّاق – من بين أقرانه العرب - في الاشتغال على هذه الأدوات المفهومية، لاغناء عدته المعرفية وتجديد طرائقه المنهجية خلال تعاطيه مع عناصر الثقافة العربية المتشابكة والمتراكبة، عبر سبر أعماق مكوناتها السوسيولوجية والابيستمولوجية والسيكولوجية . 

وفي ضوء ما شهده – ويشهده – العالم اليوم من ثورات علمية وانقلابات معرفية وانفجارات منهجية،  للحد الذي نسفت كل قناعاتنا المعروفة وأطاحت بمجمل مسلماتنا المألوفة، فقد غزت الأدبيات الثقافية والسرديات الفكرية العديد من المفاهيم والمصطلحات التي كان مجرد التفكير بها يعد من قبيل (التندر) أو (التهكم) . لا بل ان الأمر بلغ حدا"من الابتداع للمفاهيم والمصطلحات الغريبة والصادمة، ليس فقط من أجل حملها على مواكبة سيرورات الواقع المتقلبة ومحايثة دينامياته المتذبذة فحسب، وإنما جعلها تضمر معاني ودلالات ما قد ستئول إليه أوضاع المجتمعات وظروفها في قابل الأيام كذلك . أي بمعنى ان مجهودات نحت واجتراح تلك المفاهيم والمصطلحات، لم يكن ليجعل من تعبيراتها ومقاصدها تقتصر فقط على ما يعلن عنه الواقع القائم من معطيات معاشة فحسب، بل وكذلك تضمينها تصورات استشرافية لما قد يتمخض عن المستقبل من احتمالات وخيارات وعلاقات .

وعلى هذا الأساس، فقد تلقف بعض الكتاب والباحثين المأخوذين بكل جديد والمبهورين بكل مستحدث - حتى ولو كان غير معقول وغير ممكن - جملة من تلك المفاهيم والمصطلحات التي ضمنها أصحابها دلالات تشي بموت (المثقف) تارة وانقراض(الثقافة) تارة ثانية، والتي تأتي في سياق الترويج لنهايات (التاريخ) و(الجغرافيا) و(الايديولوجيا)، الخ . كما لو أنها بديهيات مطلقة لا يأيتها الباطل ولا ينالها النقد ولا يعتريها التآكل . دون أن يضعوا في اعتبارهم جملة من الحقائق لعل أبسطها ؛ ان المجتمع الذي يعيشون فيه وينتمون إليه – وان يكن مستحيلا"وجود مجتمع بلا ثقافة - سيكون جحيما"لا يطاق بلا ثقافة تشذب همجيته وتهذب بربريته، مثلما هي أيضا"استحالة وجود ثقافة بلا مثقفين يشكلون عناصرها الإنسانية يجسدون قيمها الأخلاقية ويرسون قواعدها الحضارية . 

وإذا ما تواضعنا على حقيقة ان (الثقافة) هي، أولا"وقبل كل شيء، منظومة من القيم الأخلاقية والقواعد الحضارية والضوابط السلوكية، قبل أن تكون شهادات عالية ومناصب رفيعة وملابس أنيقة وصلاحيات واسعة، فان ادعاء (انقراض) الثقافة و(موت) المثقف) في المجتمعات التي لا تزال مكوناتها تحتكم الى البدوية / القبلية، ومرجعياتها الأصولية / العصبية، وعلاقاتها الفئوية / الزبائنية، وتضامنياتها الريفية / القروية، واستقطاباتها الجهوية / المناطقية . يبدو ضربا"من العبث الفكري والسفسطة اللغوية، من حيث ان عناصر صيرورة (الثقافة) في هذا النمط من المجتمعات المتصدعة والمتشظية، لم تتبلور بعد وفقا"لمقاييس التطور والارتقاء والتقدم حتى يمكن إعلان انقراضها بهذه البساطة . مثلما ان عوامل تكوين الفاعل  الثقافي (المثقف) في مثل هذه الجماعات المتذررة والمتبررة، لم تكتمل بعد استنادا" الى معايير الوعي والأخلاق والتحضر حتى يمكن إعلان موته بهذه السهولة.

وعلى هذا الأساس، لا ينبغي لنا الانسياق – دون بصيرة – خلف بريق المفاهيم ولمعان المصطلحات التي لا يبرح الوعي الغربي ينتجها ويروج لها، تعبيرا"- حقيقيا"أو متخيلا"- عن خصوصيات تجاربه وممارساته في المضامير الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والقيمية والنفسية، ناهيك عن نزوع (مركزيته) للهيمنة الكونية . إذ ليس كل ما تجود به الحضارة الغربية المعاصرة من أنماط فكرية وسلوكية وأخلاقية ورمزية، يمكن حسبانه على لائحة (التثاقف) بين الشعوب و(التلاقح) بين الحضارات و(التمازج) بين الثقافات .  

***

ثامر عباس

وحينما تناقش العوامل (الطاردة) نجد الحروب والاضطرابات السياسية التي شهدها البلد قد لعبت دوراً بارزاً في ظهور أنماط استثنائية من الهجرة، مما كان له أكبر الأثر على الأنماط الحضرية المعاصرة. منها أن نسبة كبيرة من أبناء الريف المهاجرين وعلى الأخص الفقراء منهم قد انتقلوا إلى ضواحي المدن والعاصمة بغداد وأقاموا (مدن الأكواخ والصفيح- التنك)، ثم ما لبثوا أن انتقلوا إلى مناطق المدن ووسط بغداد، مما ساهم على تجريف البساتين والمزارع من قبل أصحابها بسبب المبالغ الطائلة التي تجنيها إذا ما قورنت بمبالغ المحصول والناتج الزراعي.

ولا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى ما حدث للمدن الكردية، فمنذُ ازدياد الوعي القومي لدى الأكراد بسبب ظهور قيادات مثقفة استطاعت إحياء نزعة الاستقلال الذاتي. ومن هذه الزاوية يمكننا فهم الصراعات الحادة التي نشأت بين الحكومة العراقية والأكراد، التي أدت بها إلى هدم الكثير من القرى الكردية وهجرة سكانها إلى الأحياء الكردية داخل المدن العراقية.

فضلاً عن العوامل السياسية هناك؛ والعامل الاقتصادي الطارد الذي لعب دوراً هاماً في تحديد الهجرة الريفية، ويرتبط بطبيعة الحال بمعدل النمو الاقتصادي في مناطق العراق المختلفة. كما لوحظ أن طبيعة المبادئ السياسية التي تبنتها حكومة الزعيم قاسم قد انعكست على الواقع الريفي، إذ احدث مشروع الاصلاح الزراعي نتائج اجتماعية/ اقتصادية هامة، وبمقتضى هذا المشروع تكونت طبقة وسطى ريفية نتيجة لإعادة توزيع الأراضي الزراعية التي استولت عليها الحكومة من كبار الملاك. وعلى الرغم من أن هذا الموقف قد يؤدي على الأقل نظرياً إلى تقليل معدلات الهجرة الريفية، إلا أن ذلك لم يتحقق في الواقع. فكانت نتيجة ذلك تدهور الانتاج الزراعي وهجرة بعض العوائل الفلاحية إلى المدينة بسبب انتشار البطالة بين الفلاحين لينظموا إلى جماهير الفقراء الحضريين. وبسبب الهجرة الفلاحية ظهرت طبقات ممتازة متتابعة، غالباً ما كانت دخيلة، فخلقت في نهاية الأمر ارستقراطية زراعية وبروليتاريا ريفية رثَّة واسعة النطاق.

فكان الفلاح العراقي تدفعه العوامل الاقتصادية إلى ترك القرية لاهثاً وراء سراب المدينة، بسبب الانتاجية الزراعية الضئيلة إلى حدٍ بعيد، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة العمالة الزراعية إلى درجة عالية، يضاف إلى ذلك استغلال الوسطاء والمرابين للفلاحين، مما يعني ابتلاع الفائض النقدي الذي قد يحققه.

ومن هنا نستطيع أن نفهم استمرار ارتفاع معدلات الهجرة الريفية في معظم مدن العراق برغم مشروع الاصلاح الزراعي. وهناك شواهد تشير إلى أن الاصلاح الزراعي قد لا يحدث نتائجه الايجابية إلا في المدى البعيد، خاصة إذا ما ترتب عليه ادخال اساليب انتاجية جديدة وإعادة توزيع حقيقي للملكية الزراعية.

كما لوحظ أن القرى العراقية قد بدأت تفقد خلال عقدين من الزمان نسبة كبيرة من شبابها النشطين بسبب الهجرة إلى المدن، مما أدى إلى انخفاض الانتاجية الزراعية بسبب استمرار اساليب الانتاج التقليدية، وامتناع ابن القرية الذي اكمل دراسته الجامعية في المدينة للعودة إلى مسقط رأسه ليساهم في تطوير قريته وخدماتها. لذلك تواجه الحكومات العراقية المتعاقبة في بعض الأحيان موقفاً حرجاً، لكن في معظم حكومات دول الخليج العربية قد حلَّت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بتخصيص جزء من عائدات النفط لاستيراد آليات متطورة لتستخدم في تطوير الانتاج الزراعي، ومثال ذلك تطوير انتاجيتها في مجال التمور وتحسينه.

هذا فضلاً عن المشاكل التي احدثها ابن القرية في المدينة بعد الاستقرار، إذ نقل معه عاداته وتقاليده القروية من (الفصلية، والنهوة، والكوامة، والثأر، والقتل بالمثل)، فتجده على ابسط حال يطالب بحقوقه من خلال القضاء العشائري لا القضاء المدني، وقد سمعنا الكثير من تلك القصص والروايات والخلافات على أتفه الأشياء منها: عبور جرذ من دار إلى دار وارعب طفلاً ما فتكون النتيجة فصل عشائري، أو عبور ديك داجن إلى دجاجة الجيران من دار إلى دار يسبب القتل أو الفصل العشائري.

وقد نقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قصص مؤلمة لما وصل إليه البلد، بسبب ترييف المدن، ومن سيادة عصابات الجهل لا يصدقها العاقل يتناقلها أهل بغداد ومدن العراق الوسطى والجنوبية. تقول إحدى القصص بأن رجلاً جاءه عزرائيل في الحلم ليأخذ روحه، فتوسل إليه هذا الرجل أن يتركه ويذهب إلى جاره الثالث، وفي الصباح حكى الرجل حلمه لعائلته وبعد يومين توفي الرجل الجار المعني بالحلم، وحصلت صدمة عند الرجل الحالم الذي ذهب إلى مجلس الفاتحة وحكى للجالسين من حوله الحكاية، فمسكه أهل المتوفي وفرضوا عليه (فصل الديَّة).

وهناك قصة أكثر سريالية لكنها حقيقية مفادها أن جرذاً يعيش في بيت بإحدى مناطق شرقي بغداد يرمز إليه بالرقم واحد، وهذا الجرذ يعبر كل يوم إلى البيت رقم 2، وحدث أن طالب صاحب البيت جاره (بفصل ديَّة) بسبب أن الجرذ تسبب بحدوث صدمة عصبية (جفلة باللهجة البغدادية) لزوجته، وكأن هذا الجرذ هو ابن لصاحب الدار رقم (1) وأُلزم بدفعها. وذات مرة وخلال دخول هذا الجرذ للبيت رقم (2) قتلوه ممّا دعا جاره إلى المطالبة بدفع الجزية جراء وفاة الجرذ، فأسترد ما دفعه سابقاً.

وهناك قصص كثيرة، منها: قصص عزوف الأطباء عن العمل في وجبات مستشفيات الطوارئ معروفة، حيث يطالب أهالي المتوفين الطبيب المعالج بدفع الفديَّة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

نشر أحد الاصدقاء فيديو يظهر فيه الدكتور خزعل الماجدي وهو يلقي محاضرة .

خلاصة ماقاله في محاضرته، ان الدين عكس الحب !!

لأن الحب يقوم على الرغبة الطوعية في حين ان الدين يقوم على الخوف.

وهو هنا يسجل إخفاقاً جديداٍ ناجماً عن التسرع وعدم التعمق في دراسة الأشياء.

وهذه ليست المرة الاولى التي يتبنى فيها موقفاً مستعجلاً كما فعل في موقفه السابق عندما ربط صحة الرسالات السماوية بوجود آثار لتلك الرسالات!!

ولديَّ عليه بعض الملاحظات مع بالغ احترامي لشخصه ولاجتهاده في الكتابة والنشر.

١- لماذا هذه المقارنة بين الدين والحب؟؟

الدين عقيدة والحب موقف عاطفي.. هل نستطيع المقارنة بين السيارة والطعام ؟او بين الحب والنوم؟؟

٢- لم يفرق الرجل بين صُلب الدين وجوهره الحقيقي وبين الثقافة الدينية الشعبوية المتداولة بين الجهلة والتي ساهم في نشرها الكثير من الناس لاسباب كثيرة والتي كرّست فكرة الخوف والعذاب والانتقام الألهي لأتفه الاسباب..

٣-في نظري، المتواضع، ان جوهر الدين يتلخص في آية واحدة:

تقول: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولاتحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون (سورة فصلت)...

لايتطلب الأمر سوى الايمان بالله والاستقامة !!  اين الخوف في ذلك؟

الاستقامة تبعث على الاطمئنان سواء أكان الشخص مؤمناً او ملحداً.

هل الدعوة الى الاستقامة مقتصرة على الدين ؟ هل هنالك حركة او منهج مادي او ملحد الخ.. لايدعو الى الاستقامة؟

٣- نسي الرجل ان هنالك قلقاً وخوفاً انسانياً شاملاً اسمه قلق الموت !! يعاني من هذا القلق كل البشر بغض النظر عن عقائدهم. والأيمان الديني الحقيقي يخفف او يزيل ذلك القلق.

٤- يقول ان اسماء الملائكة مثل عزرائيل وجبرائيل ، موجودة في الديانات القديمة الوثنية ونحن أخذناها منهم مع وجود فروق بسيطة في اللفظ ..يبدو انه يجهل ان الله يقول انه ارسال العديد من الرسل الى الامم القديمة وهي تأتي من نفس المصدر وتستخدم نفس اسماء الملائكة، لكنها حُرّفت على مدى آلاف السنوات وتحولت الى ديانات وثنية..

والدليل على ذلك انه حتى الاسلام يتعرض للتحريف والافتراء وتدخل عليه بعض الطقوس التي تشبه الوثنية مع انه أحدث الاديان ..

٥-لاينبغي للباحث الرصين اسقاط قناعاته الشخصية المسبقة على قضية عامة ويعمل على اشاعة قناعاته الشخصية والباسها لباساً علمياً بحثياً نزيهاً...

٦- كنت اتمنى ان يضيف الدكتور خزعل جملة بسيطة يقول: فيها انه يتحدث عن الثقافة الدينية الشعبية الجاهلة والتي قد تكون بعيدة عن جوهر الدين..واذا كان يعتقد انه ليس من واجبه البحث عن جوهر الدين، حينها نقول له عليك الابتعاد عن المواضيع التي لاتطيق الغوص فيها.

٧- بعض الناس يعتقدون خطئاً، ان استعجالهم في طرح افكارا تبدو لهم ثورية ، سوف يضعهم في موضع المفكرين الذين احدثوا هزة في التاريخ الفكري الانساني..

قد يستطيع هؤلاء ان يكونوا مفكرين اذا اعتمدوا التركيز والعمق في اعمالهم الفكرية.

***

د. صلاح حزام

خصص الصديق الدكتور إياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية، فوق أنه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعاً أنَّ دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكنّي أسأل نفسي دائماً: متى كان وضع العرب مثالياً أو خالياً من دواعي التشاؤم؟ فهل نحول صحافتنا إلى مجالس عزاء، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم أو بكينا موتاهم، ما القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي إلى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟

لكن ثمة جانباً لا يتعلق بالعاطفة أو الموقف الشخصي من الحوادث، أعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الأمر أكثر وضوحاً في حال المجتمع العراقي، الذي يخاطبه الدكتور إياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه أكثر، على جمهوره العام والكثير من أهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع، فقد وجدت التشاؤم قاسماً مشتركاً فيما بينهم، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

أعرف مبررات كثيرة، تاريخية وسياسية، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها هذا التوجه؟

في سبتمبر (أيلول) الماضي كتبت عن «رأس المال الاجتماعي»، وأعيد التذكير بأنه يشير إلى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائماً، هل يتعزز «رأس المال الاجتماعي» أم يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة، أم يحصل العكس، أي انصراف كل فرد إلى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته، بل حتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟

انظروا إلى واقع العراق، أليس هذا ما ترونه؟ كل الناس يشكون من كل شيء، كلهم يتَّهمون قادتهم ونخبهم وأهل الرأي فيهم، بالتسبب في كل ما حل بالعراق، والنخب تتَّهم السياسيين، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون أو الصبر أو المشاركة في الحلول إلخ.

أزعم أنَّ صناع الثقافة في العراق، في الماضي والحاضر، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت «رأس المال الاجتماعي»، أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئاً مفيداً لهم كأمة واحدة، لا كأفراد أو طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصباً، أو يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعاً أي تفكير جاد في التغيير أو محاولة للتغيير، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي أو يرهق نفسه وحياته، إذا كان جزاؤه - أياً كان الحال - هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بأنَّه فاشل وعاجز، أو مجرد حرامي أو متسلق أو متسلط أو ذيل للأجنبي؟ وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

إن جواً كئيباً كهذا، سيفضي - دون شك - إلى إفساد السياسة، ثم القضاء على حرية التعبير، وأخيراً تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين، الذين كفاءتهم الوحيدة هي إثارة العواطف والانفعالات، أو إثارة الخوف من الآخر المختلف، أي - باختصار - الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟

إن كانوا يرغبون في غير هذا، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماماً، المثل الصيني: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة.

***

د. توفيق السيف - كاتب وباحث سعودي

 

" التعدد الثقافي، ثراء للعالم: {إن التعدد الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والابتكار والإبداع، ضروري للجنس البشري كما هو ضروري التنوع البيولوجي في ترتيب الحياة.}"1

لا شك في أن التطرف بأشكاله كلها من صراعات وجدالات وعنف وتشاحن بشتى مصادرها لا تؤسس وحدة وطنية حقيقية، كلما كانت تنزع نحو فرض خصوصية معينة أو رأي أحادي وإلغاء باقي الخصوصيات والآراء الراسخة في الجغرافية التاريخية الثقافية في مجتمع ذلك الوطن، كون أي تنوع للخصوصيات ضمن أي مجتمع هو مفتاح إثراء لمفهوم الوحدة وآفاق التنمية بكل صورها وأنماطها إذا ما تم استثماره بشكل عقلاني وأمثل. ولكن استغراق كل خصوصية من الخصوصيات المتنوعة ضمن هذا المجتمع، في ذاتها الضيقة ومصالحها الجهوية على حساب الآخرين من شركاء الوطن يفضي إلى التنافر وسوء النوايا والتباغض ويعطل مسارات وسبل تطوير حالات التعارف والتآلف والتعاون على رسم حقائق العيش المشترك..

فالخصوصيات عندما تتفق فيما بينها على منظومة قانونية مدنية صلبة تكون بمثابة قاعدة أو مرتكز مشترك بينها، تنتج ثقافة نهضة ووحدة وأمن وسلام، لأن هذه الخصوصيات تصبح محترمة كلها وبنفس المستوى في التعبير عن ذواتها الفرعية داخل دفء الذات المشتركة وبالتالي تتبلور صورة واقعية لثقافة الوحدة على أساس التنوع البناء..

الثقافة والوطن:

أي ثقافة في أي مجتمع لا يمكنها التطور والتأثير الحضاري ما لم تتسم بالاعتدال بين الوحدة والخصوصيات في ذلك المجتمع، لان التزاحم الثقافي بين الخصوصيات في ظل ثقافة التطرف يولد حساسيات ثقافية تنتهي بصراعات على أساس هوياتي يدمر الثقافة الوطنية، بينما التفاعل بين الخصوصيات في الفضاء الاجتماعي،عبر ترسيخ وتنمية الجوامع والمشتركات، وردم الفوارق وترميم الشروخ عبر التواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، من شأنه بلورة حقيقة الثقافة الوطنية. كونها إبداع المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته الثقافية التاريخية. بمعنى آخر تهميش خصوصيات لحساب خصوصية أو خصوصيات أخرى وفق منطق التطرف والإلغاء لا يحقق المعنى الحضاري للثقافة الوطنية، بل يجعل الثقافة في تمثلاتها الذاتية أو الهوياتية تبتعد عن دائرة الفعل التاريخي لمقولة الوطن في الواقع المجتمعي. وبالتالي كل فعل يهدف لإبراز خصوصية واحدة، أو تذويب وصهر الخصوصيات الفرعية في خصوصية محددة بوسائل القسر والتعسف ونشر أدوات وخطابات التطرف في المجتمع، هو الاتجاه نحو المزيد من الضمور والتخلف الاجتماعي والثقافي، لان الثقافة عندما تتمركز وتنغلق، تستبد ولا تكون ضمن إطار الفعل الحضاري القيمي الإنساني بل تصبح طرفا إشكاليا داخل المجتمع المتنوع، بحيث بدلا من بروزها كمعنى خلاق للتنمية والأمن والسلام والنهضة تصبح طرفا في صراع المصالح الخصوصية..

الثقافة ومأزق الهويات:

كلما اتجه المجتمع بمجموع تشكيلاته الثقافية المتعددة في جذورها وتاريخها الديني وحمولاتها الثقافية، نحو تجاهل او إنكار واحدا من هذه الجذور، سوف ينتهي به الأمر إلى انفجار هويات خطير وعميق، وغالبا هذا الاتجاه أو الخيار مصدره التطرف ضمن ثقافة العصبيات القبلية والرهانات المصلحية الضيقة، التي تنطلق من مشاريع القهر والتهميش لخصوصيات وهضم حقوقها لحساب أخرى، مما يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة, تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية، الأمن العام والسلام الوطني والتنمية بكل أشكالها، وذلك لأن منطق التطرف والعصبيات والتهميش والعزل، هي الضد النوعي لخيارات اللقاء والتعاون والشراكة في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات من لدن كل الخصوصيات.

و هذه الخيارات لن تتحقق إلا في ظل حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء, وتتبلور عبر عملية حوار وتعايش ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

الخصوصيات وتكافؤ الفرص:

المجتمع الذي يطمح أهله إلى الرقي والتنمية والأمن والسلام الأهليين، لابد له من ترسيخ معالم السلطة القانونية الحازمة والسليمة، أي سيادة القانون العادل بين التنوعات، لأنه على ضوء الثقافة الوطنية التي هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، فآفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، تصبح مفتوحة لجميع التنوعات والخصوصيات، والقانون الصارم أساسه التعامل الحضاري مع كل الاختلافات في المجتمع على حد السواء، لأن السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز عن كل أشكال التعددية في المجتمع، لأنها المعيار والمؤشر لنهضة وارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين.

عبر التاريخ الإنساني ككل، التطرف بكل الكراهيات والعصبيات لم ولن يصنع استقرارا والإكراهات لا تقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع. ثم إن التنوع والتعدد في المجتمع لا يكون لحاله مصدر التشتت والتشظي والتشردم، بل بإرادة أصحاب هذا التعدد يمكن أن يكون ذلك كله، بل هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي الإنسان داخل هذا التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته وحصانته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.و كإضاءة معرفية أخرى، يعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة، كما تؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة. قال تعالى [ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ](سورة فصلت، الآية 34) .

لا مجال لأن يتحقق الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. فحسبان حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع بمنطق حضاري إنساني، هو نقطة الإنطلاق الحقيقية في مشروع التنمية وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي.

لهذا كان التعامل الإيجابي والحضاري مع الآخرين، هو القادر على امتصاص التعصب والتطرف والكراهية، حيث المسافات تتقلص والمتباعدين يتقاربوا من خلال التعامل الأخلاقي الرفيع الذي يفضي إلى الاعتراف والتعارف المتبادلة على أساس الصدق والاحترام العميق، وتحييد كل ما من شأنه بث سموم التطرف والتشنج والصراع.

فالعلاقات في أي مجتمع إنساني في الإطار الوطني عندما تتسم بالتحضر والإنسانية، لا تعترف بالتمييز والمفاضلة، وإنما بحقوق المساواة والكفاءة بصرف النظر عن أصلها، كل ذلك تحت سقف تحمل المسئولية العامة والخاصة.

الإدارة الإيجابية للتعدد الثقافي:

هناك الإرادة الإنسانية في النظر للتعدد الثقافي كمعامل استراتيجي ضمن معادلة بناء الوحدة الثقافية الوطنية المتينة، وأيضا تأتي الإدارة العقلانية كمعامل مهم في التعامل مع التعدد الثقافي على أساس قيم الحوار والاحترام والتسامح، فالثقافات الفرعية لا تموت حينما تهمش أو يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، بل تحتاج إلى نيل الحرية والحماية القانونية والإعلامية للتعبير عن ذاتها، من أجل الإسهام في تفعيل عناصرها الإيجابية مما يزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الثقافية الوطنية من كل المهددات والتحديات.

الحرية بوصفها مسؤولية وطنية:

أحد مؤشرات الحرية في العالم المعاصر هو حق الوصول إلى المعلومات، رغم بعض المؤاخذات التفصيلية بخصوص هذا المؤشر إلا أن حق الوصول إلى المعلومة الخاصة بالذات الوطنية أو أحد تشكيلات المكون الوطني يمثل قيمة مضافة نحو التأسيس إلى رؤية متقدمة للوحدة الوطنية وللشراكة الثقافية عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من المقاربة والإطلاع على المصادر الفكرية لبعضها البعض، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع مصادر وأمهات الكتب الدينية والتاريخية والعقدية.

وهذا من الحقوق الثقافية الأساسية لكل التنوعات، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وتعطيل هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية, تجاوزا نوعيا وخطيرا ومهددا لترسيخ قيم التعددية والتسامح والحريات الخاصة والعامة. حيث أن الحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات, وعلى السلطتين التشريعية والقضائية في أية الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع. لأن دول التنوعات القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين التنوعات المكونة لها. وإنما بسبب وعي التعدد واحترامه. والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق نظام اجتماعي وسياسي قائم على التعايش الثقافي المتوازن والمرن في آن واحد.

الحماية القانونية للتعدد الثقافي:

إن التنوعات الاجتماعية، دائمة الحاجة إلى الدفء القانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى تتمكن من خلال ذلك في التعبير عن ذاتها الثقافية والإسهام في التنمية الثقافية للوطن وتعزيز قيم الحوار والتسامح والتعارف والتعايش والأمن والإستقرار، بينما منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع كل ما يرتبط بالثقافات الفرعية والذاتية والوطنية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، فهذا ضد إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل على العكس تماما مع مقتضيات العدالة والحرية وأساسيات المواطنة، إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية.

فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يفتح المجال أمام اقتصاد السوق ويفتح مجال الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن سن قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية بل أكثر من ذلك سيرسم معالم اقتصاد الثقافة وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل حقول الحياة المجتمعية. ففسح المجال للثقافة والمثقفين من أجل القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع وتنقيته من الزيف والتمويه والغش والفساد عموما. أضف إلى ذلك الحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

من هنا كانت صيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق شرطا أساسيا في ترسيخ أدب المواطنة ومصداقية التعايش ونزاهة الثقافة الوطنية من شبهات التمييز العنصري.

لأن الاختلاف داخل الوطن لا يبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين. فكل القناعات محل احترام وتقدير ما دامت لا تمس بخصوصيات الآخرين. فالاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وآرائهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا باحترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم، قال تعالى [ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

إذن المطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته. فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أساس الاحترام هو التفهم (أي وعي الأبعاد والآفاق) كما أن الاحترام مصدره العميق هو التسامح الذي يولد موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية عادلة خلاقة . فالاحترام يشق طريقه في المجتمع عبر الدعم القانوني للحرية الثقافية باعتبارها من مرتكزات دولة القانون والإنسان. كما أن الحرية الثقافية، تحمي الحرية الفردية، لأنها تسبح في بحر المسؤوليات العامة والجماعية.

الإنفتاح الثقافي وحق الاختلاف:

المؤكد أن حقيقة التنوع المحاطة بالحرية والاحترام المتبادل والتسامح مركز ثقل الاستقرار والتنمية في المجتمعات المعاصرة، فقد مضت عصور إلغاء الخصوصيات أو التمييز أو القسر القهري من فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف، لأن مآلها الفشل والاستدمار الذاتي والوطني، كون جميع القوى الإنسانية أدركت أن التعسف لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، الذي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية. كون الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للتعارف والإبداع, ومعطلة للتنمية والتقدم في المجتمعات.

المجتمع المدني وتنمية الثقافة:

من معالم المجتمعات القوية في الزمن المعاصر، فعالية مؤسسات المجتمع المدني، التي تتوزع غالبا بين النوادي والجمعيات والمؤسسات الحقوقية والدينية والأدبية والعلمية والإبداعية والفنية الأهلية، والتي تعنى بتنمية العمل الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والإسهام في حماية المجتمع من المعضلات الاجتماعية والثقافية، والتنوعات الاجتماعية تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية. ولعل فكرة تنمية الثقافة المجتمعية تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني، حتى تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة التعاون الثقافي الإبداعي للمؤسسات الوطنية القادرة على حماية الهويات والمقدسات والإنسان قبل كل شيء من أي تحديات أو رهانات ضد الأمن الثقافي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي، إذ أن المجتمع المدني يقدم لكل تنوع اجتماعي، حق التعبير والإسهام في الحياة الثقافية الوطنية ورفد التنمية الثقافية للمجتمع، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية توضع لصالح جميع الشركاء من كل التنوعات لممارسة دورها ومسئولياتها على الصعيد الثقافي.

جماع القول: إن التنوع الاجتماعي والتعدد الثقافي من الحقائق الإنسانية والتاريخية، كل ما هنالك أنها تتطلب رؤية حضارية راقية حتى تكون معاملات بناء لا هدم، ومقتضيات أساسية في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتنمية الثقافة المجتمعية على أساس خيارات احترام الإنسان كإنسان والتعايش الثقافي البناء والسلم الأهلي الخلاق للحوار والتعارف والتسامح والتعاون والتآلف..

***

ا. مراد غريبي

...........................

 1- المادة (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بشأن التنوع الثقافي لليونسكو (باريس، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2001)

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الحنين هو الحنين إلى الماضي، لكن علماء النفس بدأوا يدركون أنه يمكن التركيز على المستقبل أيضًا.

معظمنا على دراية بالحنين: ذكرى بعيدة لحفل زفاف أو تخرج أو احتفال عائلي. إنه شعور إيجابي في الغالب، على الرغم من أنه ممزوج بمسحة من الشوق لما مضى بالفعل. وكما كتب المؤلف مايكل شابون في مجلة The New Yorker في كتابه "المعنى الحقيقي للحنين" (2017)، إنها اللحظة التي "تجري فيها مكالمة هاتفية مباشرة مع الماضي وتسمع صوتًا يجيبك".

هذا هو النهج المعتاد في التعامل مع المشاعر، لكن علماء النفس أدركوا مؤخرًا أن هناك أكثر من نوع واحد من الحنين إلى الماضي، بما في ذلك بعض الأنواع التي تركز بشكل أقل على الماضي وأكثر على المستقبل. يسمى "الحنين المتوقع" و"الحنين الاستباقي" (هناك بعض الدلائل على أنه يمكن تجربة المشاعر الأخرى بطريقة استباقية أيضًا، مثل الاستمتاع والقلق والفخر والغضب الذاتي والراحة، لكن فقط في السنوات الأخيرة نظر علماء النفس إلى الحنين في هذا الضوء).

الحنين الاستباقي يعني توقع أنك في يوم من الأيام سوف تشعر بالحنين إلى تجربة معينة. يقول وينج يي فيربون تشيونج من جامعة وينشستر: من المتوقع أن يتم تجربة المشاعر المتوقعة في المستقبل". وكما غنى مغني الريف تريس آدكنز: "سوف يفوتك هذا،/ سترغب في استعادته،/ ستتمنى لو أن هذه الأيام لم تمر بهذه السرعة".

في هذه الأثناء، يفتقد الحنين الاستباقي ما لم نفقده بعد، والذي لا يزال يحدث، وفقًا لكريستين باتشو من كلية لو موين في سيراكيوز، نيويورك. على الرغم من وجود أسماء متشابهة، فإن التمييز بين الحنين المتوقع والحنين الاستباقي هو عندما يتم تجربة العاطفة: شوق الحنين الاستباقي يحدث في اللحظة الحالية، في حين أن الألم العاطفي للحنين المتوقع لم يأت بعد.

بهذه الطريقة تكون مشاعر الشوق والحنين الاستباقي سابقة لأوانها. يقول باتشو: "إن [الحنين] الاستباقي يفتقد شيئًا لا يزال لديك". إنها كعكة حنين معقدة ذات طبقات زمنية عديدة: تحتوي على تجربة الشوق التي يعيشها الشخص في الحاضر، ومستقبل متخيل حيث أصبح الحاضر منذ ذلك الحين ماضيًا، ويتضمن تأملات في مشاعر المرء في الحاضر وفي ذلك المستقبل المتخيل.

إذا كنت قد قضيت وقتًا مع شخص عزيز عليك يعيش بعيدًا عنك وشعرت بالحزن الاستباقي لأنه سيغادر قريبًا، فقد شعرت بالحنين الاستباقي. إذا كنت في هذا الموقف، ووجدت نفسك تتخيل كيف، في يوم من الأيام، سوف تشعر بالحنين إلى زيارته، فسيكون ذلك حنينًا متوقعًا. يوافق باتشو على أن الحنين الشخصي يرتبط بفوائد الصحة العقلية: الشعور بمزيد من الارتباط مع الآخرين، والتفاؤل، والحصول على إحساس أعمق بالمعنى والغرض. وفقًا للدراسات، فإن الأشخاص المعرضين بشكل خاص للحنين الشخصي يميلون أيضًا إلى الانخراط في الأحداث الجارية أكثر من المتوسط. (ومع ذلك، هناك شكل آخر من أشكال الحنين الذي يركز على الماضي يسمى الحنين التاريخي أو فقر الدم - فقدان فترة زمنية في الماضي لم تكن تعيشها بالفعل - ويرتبط بعدم الرضا عن الحاضر، أو السخرية، أو التشاؤم.)

ماذا عن أشكال الحنين المعترف بها حديثًا والتي تركز على المستقبل؟ يبدو أيضًا أن الحنين المتوقع له آثار جانبية إيجابية في الغالب، مثل زيادة الاستمتاع باللحظة، ولكن لا يبدو أن الأمر نفسه ينطبق على الحنين الاستباقي.

ساعدت باتشو في تطوير "مسح الحنين الاستباقي" لتقييم ميل الناس إلى الحنين الاستباقي. وجدت هي وزملاؤها أن الأشخاص الذين لديهم ميل أكبر للتفكير في المستقبل يميلون أيضًا إلى تجربة المزيد من هذا النوع الاستباقي من الحنين في كثير من الأحيان. كما أن الأشخاص الذين لديهم ميل للحنين الاستباقي يجدون صعوبة في الاستمتاع باللحظة الحالية، وينأون بأنفسهم عن تجربتها، حتى يشعروا بألم أقل عندما تنتهي. كما يمكن أن يكون لديهم ميل نحو الحزن والقلق.

تقول باتشو: "الحنين المبكر يمكن أن يجعل الوالدين يشعران بالحزن وهما يشاهدان طفلهما الصغير يلعب، لأننا نعلم أن تلك الأيام الأولى من البراءة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد عندما ينضج الطفل".

ومع ذلك، فإن الحنين الاستباقي ليس سيئًا تمامًا: ففي بعض الأحيان قد يشعر به الناس في الأيام الصعبة بحيث يسهل عليهم العيش في تلك اللحظات. وفي دراسة حديثة أخرى عن الحنين الاستباقي،ذكرت باتشو وزملاؤها منشور مدونة عثروا عليه في عام 2020، بعنوان: "الحنين إلى الإغلاق بسبب كوفيد-19: لقد كان وقتًا مخيفًا، لكنني سأفتقد اجتماعنا العائلي القسري".

في تلك الدراسة، ركز فريق باتشو على الحنين الاستباقي في التسويق والإعلان، على سبيل المثال الطريقة التي تذكرنا بها إعلانات شركة الصور كوداك بأن لحظات الحياة الصغيرة لا تبقى إلى الأبد، وتعد منتجاتها بإنقاذنا من البكاء على اللحظات الخاصة الضائعة. . ومن خلال تجاربهم، وجد الباحثون بالمثل أن الحنين الاستباقي يمكن أن يقلل من الاستمتاع والحالات المزاجية الإيجابية في المواقف الممتعة، ولكنه يمكن أن يزيد من الاستمتاع في المواقف غير السارة من خلال جعل اللحظة الحالية تبدو أكثر قيمة.

يقول باتشو: "في أوقات الشدة، يمكن للحنين الاستباقي أن يخفف من المشاعر السلبية ويثير المزيد من المشاعر الإيجابية" ويضيف: "على الرغم من ضغط الصعوبات، فإن الحنين الاستباقي يذكر الشخص كيف سيفتقد قيمة الجوانب الجيدة."

يعد نحت الحنين إلى الماضي أمرًا مهمًا لأن خيوط الحنين المختلفة تؤثر علينا بطرق متنوعة. يقول باتشو: "إن فهم الاختلافات بين أنواع الحنين يمكن أن يساعد الناس على تحقيق أقصى قدر من فوائد الحنين إلى الماضي وتجنب المخاطر المحتملة أو الجوانب السلبية".  عندما كانت تقضي بعض الوقت مع أحد أفراد الأسرة المرضى، وجدت نفسها تفتقد بالفعل اللحظات التي قضتها بينهما، ولكن بطريقة ما كانت تقدرها.

وتقول: "أرحب الآن بترقب الحنين لأنه يذكرني بتقدير اللحظات، الجيدة والسيئة على حد سواء، التي تشكل أهم شيء في الحياة".

بعد أن علمت تشيونغ بالحنين المتوقع، قالت إنها كانت متحمسة لبناء "بنك ذاكرة" أكثر ثراء مع عائلتها. وتقول: "أتطلع إلى الحصول على تجارب أكثر إيجابية وذات مغزى معهم لأتطلع إليها في المستقبل".

لقد كان الحنين، بأشكاله العديدة، رفيقنا منذ فترة طويلة. كما أشارت ورقة بحثية صدرت عام 1977 عن الحنين إلى الماضي:

لقد كانت تجربة الحنين إلى الماضي... موضوعًا رئيسيًا في الأسطورة والشعر؛ فالكتاب المقدس، وأوديسة هوميروس - الأدب في جميع العصور - يعطي صوتًا بليغًا لهذه الظاهرة الإنسانية؛ في الواقع، نادرًا ما يوجد شخص لم يختبر ذلك من قبل.

ولكن إذا لاحظت أن نوعًا من الحنين إلى أوقات أكثر سعادة تحرمك من الاستمتاع باللحظة الحالية، أو أن اللحظة الحالية مشوبة دائمًا بالحزن، لأنها ستختفي يومًا ما - تشير النتائج الجديدة إلى أنه قد يكون من المفيد التخلي عنها لما سيأتي.

يقول تشيونغ: "أريد أيضًا أن أحظى بتجارب عاطفية بطريقة طبيعية، وألا أطاردها في حد ذاتها". "أتصور أن [الحنين] يشبه مفارقة السعادة - فكلما سعيت لتحقيقها بشكل مباشر، قل شعورك بالسعادة."

***

........................

الكاتبة: شايلا لاف/ Shayla Love كاتبة في مجلة / سايكى (Psyche). وبالإضافة إلى ذلك ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك

 

أُثِيرَ مُنذ سنوات قضية شائكة الي مشيخة الأزهر الشريف .وهي "الموت السريري" لحالات  مرضية  في غيبوبة او نزيف في المخ أو موت جذع المخ.

وما زال قلبه ينبض....!! هل نرفع عنه الأجهزة ..؟ ما المستحب وما المكروه...؟ هل نحن نعذبه بإبقائه على الأجهزة  لفترات طويلة تحت الأجهزة ...؟ او بعض الأمراض المستعصية من الشفاء ومأساة المريض من الألم الشديد والصراخ ،وقد أثارت حالة من الجدل ،،هل يسمح الشرع  ويتخلص الطبيب برفع الأجهزة عن المريض ويفقد اخر انفاسة..؟ وفريق يعارض ذلك علي انه قتل للمريض ..!!

وقد أقر،،، [مجمع الفقه الإسلامي] رفع أجهزة الإنعاش وإيقافها متى تبين بالفحوصات الطبية المؤكدة من قبل المختصين .بأن هذا الشخص قد مات دِماغِيًّا ، فجاء في قراره المتعلق بذلك: المريض الذي رُكِّبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائيّاً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطيل لا رجعة فيه، وإن كان "القلب والتنفس" لا يزالان يعملان آلياً بفعل الأجهزة المركبة...فإن ثبت موت جذع دماغ هذا المريض، فلا حرج في رفع أجهزة الإنعاش عنه، فإن موت جذع الدماغ هو الذي يترتب عليه الموت الدماغي،  وفي نفس السياق من أجمل الكُتب التي قرأتها مؤخرًا، كتاب: «مسألة موت وحياة»

تأملات عالم النفس الشهير "إرفين يالوم" في مرض زوجته "مارلين"{بالسرطان النقوي} وقرارها الأخير [بالموت الرحيم] على يد طبيب.

يتخلى {إرفين} عن هالته العلمية الرصينة ويكتب مثل عجوز بداخله قلب طفل مُحب، رجل في العقد الثامن ، قضى حياتة  مع زوجته أكثر من "خمسين عامًا" ويرتجف من مواجهة العالم بعدها بصفتة كاتب واديب وروائي مشهور ، تتوسله ليوافق على مُغادرتها الحياه،، ويتوسلها أن تبقى.،،

يُصارح إرفين ملايين القُراء حول العالم أنه يتوق (للإنتحار) معها، أن يموتا معًا على يد الطبيب ذاته، لكن أمانته العلمية تحرمه من ذلك، لقد ساعد كطبيب نفسي مئات الأزواج والزوجات على تخطي مأساة فقد الشريك، يقول في ذلك:

«سيكون إنهاء حياتي بمثابة خيانة لعملي معهم، ولعملنا مَعًا.

فقد ساعدتهم على أن يتخلصوا من آلامهم ومعاناتهم، وعندما أواجه ما عانوه، أختار أن أهرب من التزامي تجاههم. لا، لا يمكنني أن أفعل ذلك. إن مساعدة المرضى يقبع في جوهر حياتي : شيء لا يمكنني أن أنتهكه. لا أستطيع أن افعل ذلك، ولن أفعله.»يوافق  الزوج "إرفين" أخيرًا على وداع زوجته عندما تٌخبره أنه منحها كل شيء، منحها حياة تستحق العلامة الكاملة، أو على حد قول "زوربا" في رواية كازانتزاكيس: «لا تترك للموت إلا قلعة مُحترقة».

فهي تستقبل الموت مثل شُعلة أتممت إحتراقها وأضاءت حياته وحياتها، تشعر بالإمتلاء الكامل و الإمتنان الكامل لشريك منحها كل شيء، ورغم أنها لا تؤمن بالروحانيات إلا أنها ستُغادر العالم بقول القديس بولس:

(وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لدي محبة فأنا لست شيئًا)

بينما هي ملكت المحبة طوال حياتها، لذا هي ملكت كل شيء.

يُخبر إرفين زوجته بسماحه لها بالذهاب لكنه يستاء من أن قبره سيُجاورها فقط، يتمنى قبر يسعهما كما الفراش، تهمس له بلطف أخير أنها زارت كل مقابر الولايات المُتحدة الأمريكية، ولم تجد أبدًا تابوت يسع لشخصين.

يصف إرفين (قُبلته الأخيرة) لزوجته وراحته لإنعتاقها من الألم ولو كان سيحمله في وحدته فيما تبقى له حتى موته، لكنه سيفعل ما أجاده طوال أكثر من خمسين عامًا، سيحول الأمر كله لخبرة نفسية يُمررها بإيثار نبيل لقراؤه، سيحول مأساته وألمه الأخير لكتاب يصفه أنه ربما في لحظات كتابته هو كل ما يبقيه على قيد الحياة ويمنعه من تحطيم جهاز تنظيم ضربات القلب والذهاب لمارلين، لذلك ربما إمتنانًا لكل أثر صنعته روايات وكتب إرفين يالوم في نفسي أُتمم دائرة الأثر الجميل بقراءة كلماته. وتخيل الرحمة تسعه هو وزوجته ولكل مريض يتألم علي الكرة الارضية ،إن الرواية الحاضرا التي تبحث عن المجهول هي رواية اخلاقية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

يعتقد المسيحيون ان السيد المسيح هو الأمين عليهم، هو حاميهم من الذنوب، هو حي باقٍ لا ينام ولا يموت، يقول السيد المسيح (ع)" تعالوا الي َ يا جميع المتعبين،من الحياة، أريحكم لتجدوا الراحة والنجاح في نفوسكم، أنجيل متى 28 "، لكن أتباعه يعتقدون انهم ليسوا بحاجة دائما الى الله (المسيح الباقي)، فالنجاح ليس بحاجة اليه ولا بدونه ولا حتى الراحة والفشل، فالفشل سبيله التراخي واختراق القانون.والراحة سبيلها العمل.فطريق النجاح هو الصدق والعدل والوفاء للرب والانسان وليست منية من أحدٍ،وهذه خصال انسانية يجب ان تتوفر فيك تلقائيا ايها المؤمن بالامين مَهما كانت ديانتك، ولا داعي لتُدخل الرب فيها، هنا ينتفي عندك التوسل والدعاء من اجل نيل الأصول، ويبقى الرب هو القدوة، ولا حاجة لرجال الدين، وتقول المسيحية ان الاعتماد على الدعاء يؤدي الى الفشل والكسل والاعتماد على الوهم حيث السقوط والموت الاكيد، لكنهم يؤمنون ان الرب لا ينام ولا يصيبه النعاس ابداً فهو الذي يرعاهم دون ان يرفعوا ايديهم اليه بالدعاء والتوسل بالقبول، نظرية في غاية الواقعية الصحيحة.

نعم، المسيحيون يؤمنون ان الكون وخالقه يسيران وفق قوانين السُنن الثابتة التي لا تتغير كما يقول القرآن الكريم:"لن تجد لسنة الله تبديلا،الاحزاب 62"، اذن، ما الجدوى من الدعاء وزيارة المراقد والوهمية منها؟ واللطم والبكاء على ميت مات قبل اكثر من 1400 سنة ولن يعود.وهو المقدر له دون تبديل وتغيير،؟ فلا زالت المسيحية تدعو للنظام والمحبة والحقوق، لا للوهم من مؤسسة الدين، فهل وجدت في بلدٍ مسيحي تفرقة بين الكاثوليكي والبروتستانتي في الحقوق، مستحيل، لماذا.؟لانهم يحتكمون بالقانون ويبقى الدين هو الرقيب، فالمذهب عندهم عقيدة رأي لا تفريق.

أما نحن المسلمون تصب علينا المصائب من السلطة والانسان الظالم ليل نهارونحن ندعو ونقول ربنا ارحمنا وخلصنا من الظالمين، وها نحن بعد أكثر من 1400 سنة ولن يستجب لنا القدر برفع ظلم الظالمين. فالى متى نبقى رافعين الأكف ننتظر رحمة رب العالمين، والصالحين؟ ولم يستجب لنا دعاء، فالدعاء فرية عند من لا يؤمنون بالقانون، انما العمل وعقيدة القانون هي المطلب الصحيح.

بينما نحن ندعو فلا يستجاب لنا وهم لا يدعون والحياة وفرة لهم كل ما يطلبون فأين الخلل؟، حتى اصبح المسلم يهرول من وراء الحاكم يستمد الامل، ولامجيب؟

الخلل، هم يطبقون السُنن بصحيح ونحن ندعومنها متكاسلين لا نفهم الحق والعدل الصحيح الا من تهريج رجل الدين، فهل ان دينهم يدعوللصلاح وديننا يدعو للهلاك والعدم، لا؟. الفرق بيننا وبينهم، هم رحماء بينهم بالقانون الذي يتساوى فيه الجميع وبلا رب يدعون، بينما نحن ندعو الرب ان يرحمنا ولا نؤمن بعدالة الله في القانون، الم يقل القرآن: "اعدلوا ولو كان ذا قربى، اذن علام َ تفرقون، بين العبيدي والموسوي في الحقوق، ان كنتم من الصادقين؟.

يقول يوسف وهو في سجنه مناديا صاحب السجن ": يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار،يوسف 39"، فكيف فسرت الاية عند المفسرين، وكيف فهمها المسلم في التطبيق؟

على المسلمين ان يفهموا ان الجهد لا يأتي من موضع الدعاء،كما ان الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد، ولكن لابد منه في ظلمات فيها نوراًونصيباً من أمل، ابقوا ياقادة شيعة الفُرقة بين المسلمين على اللطم والدعاء والبكاء والنحيب والرادود يُجهلكم وانتم تلطمون، أملا في عودة المستحيل، مستحيل، فاذا كان الدعاء يقوم على السُنن،فالعقل له مكانة التكريم والاستجابة ليكون العلم والهدف والتسخير فمصدره السنن، لا الدعاء والعويل فثقافة الانسان يشكلها العقل والتفكيراليوم لا الوهم في عالم الظالمين الفاسدين.

اذن الدعاء ما هو الا بدعة من الفقهاء ورجال الدين، لتجهيل المسلم ووضعه في دائرة الأرتخاء النفسي والكسل الجسمي وانغلاقية الفكر في التفكير، فكلما زاد المقدس في فكرك زاد ت الانغلاقية في التفكير، وكسب المكاسب الباطلة من اموال الجهلة والمغفلين، كما في العتبات المقدسة، ولا علاقة له بالمراد منه ابداً، فمتى نصحو على الصحيح،؟ أمر تشجعه حكومات الفاسدين زيادة في التجهيل، وتعتقد المسيحية ان المسيح الانسان سيظهر ممجدا مطاعا في اخر الزمان. (يوم القيامة) بنص قرآني بلا احداث رهيبة، بل سينتهي بعودته ابليس ليظهر العرش العظيم حين تظهر معه الحالة الابدية، ليتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين به دون عقاب، وهذه هي ابدية الخلاص من الذنوب، دون وعود وترهيب، وهذا هو اعلان الخلاص لكل انسان منهم دون تفريق.فهم يقدمون للانسان الواجب المراد الذي نادى به السيد المسيح ولا يظلون منتظرين العودة بلا امل في القريب.

ونحن ونظرية المهدي المنتظر الوهمية، الى اين،؟ النظرية لم تأت بنص مكين كما ذكر المسيح، بل مجرد وهم من مؤسسة الدين ولا نص فيها ابدا حتى من اهل البيت(ع)، أصحاب الشأن الكبير.

اذن نظريته مخترعة من رجال الدين لالهاء الناس بالاخرة وصدهم عن الدنيا ولكسبهم السلطة والمال دون تحقيق،كما هم في نهب المال العام اليوم دون حدود، بعد ان اعتقدوا انه ملك سائب لهم بلا قانون. نظرية مبنية على الوهم، ولا نص فيها ولا اثبات صحيح، فماذا سنحصد ممن ابتكر الوهم الذي.لا صحيح.

كتبنا فيها الكثير وبالتفصيل فمن يقرأ ومن يكتب والحاكم همه ايهام الواهمين.

ورغم ان المسيحية تدعي ان المسيح بن مريم قد صلب ومات ودفن وصعدت به الارادة الآلهية الى السماء، لكن القرآن ينفي ذلك،: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم،النساء 157". الفرق ان ما تدعية المسيحية جاء بنص يهودي قديم،وهم يدعون انه حي عند الله حسب نظرية التثليث، ففي كلتا الحالتين هو عرج الى السماء لتدعي فيه الابدية، فحققت لاتباعها الكثير في الحرية والحقوق وبنت لهم وطنا فاق اوطان الاخرين، وكلنا اليوم نعيش في ظل ما ابتكروا واخترعوا واوجدوا من دساتير وقوانين، رغم انهم انحرفوا عن جادة الصحيح حين ساهموا بدمار بلدان الاخرين في حروب سلطوا علينا فيها امعات الشعوب، فدمروا الانسان والقانون، لكن تطبيقا انهم ساهموا في الكثير.بينما نحن بقينا نفتش في أوهام مؤسسات الدين والادعية والاقاويل، ولا غير دون تحقيق.

ونحن نفتش ما جاء في الديانات التي نقلوها لنا من اساطير الآولين لنحوله الى تحقيق، حتى شكلت الجزء الكبير من اساسيات الفكر العربي المسلم بالتعاليم الدينية الوهمية التي اتخذت المنحى التعليمي والوعظي لا التطبيق، حتى استطاعت السيطرة على عقولنا، مستمدة قوتها من القوى الخفية في غياهب الجب الوهمية،متمثلة في الجنة والنار، والفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق، واطاعة ولي الامر حتى لو كان ظالما وفاسداً،والخوف من عذابات القبر الوهمية،والغيبيات التي لا اول لها ولا اخر، والقرآن يقول: لا يعلم الغيب الا الله العظيم "لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الأعراف 188"،

من هنا تلقفها المنهج المدرسي السلطوي، ليعلمها للصغاء والكبار حتى حَفَر في اذهانهم كل التخاريف. فتحولت الحقائق الى اوهام يصعب نزعها اليوم في ظل دولة الوهم واللاقانون، حتى أصبحت الاساطير اديان آلهية صبت في التشريع الديني المقدس عند الغالبية فكانت المذهبية الباطلة المخترعة من فقهاء السلطة ومارافقتها من تقاليد، تنخر في الصدور.

من هنا باتت تزرع فينا معتقد الموت والأخرة، هي المقصد كماجاء في النص المقدس: "الحياة الاخرة خير وابقى "ونسينا ان المقصود من النص هو الاستقامة في الحياة والاخرة هي الجزاء العادل للمؤمنين، فضعنا وضاع المجتمع في ظل حكومات تعتقد في الوهم دون القانون في حكم الأغلبية من اصحاب المعرفة والعرفان والمفضلين في السلطة والمال السائب لهم دون الاخرين، وما دروا ان المال لا يشتري المواطنين، فعملية العودة للصحيح باتت مستحيلة في ظل السيف وقوة السلطة الظالمة والتنفيذ دون وازعٍ من احساس انساني وضمير، لكن النهاية للحق ابداً، لذا سيفشلون، بعد ان اقرت الرسالة الانسانية بأنتهاء عصر الاحادية، ومجيء عصر الاجتهادية في التطبيق؟.

***

د. عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم