قضايا

يعد الطلاق في العصر الرقمي موضوعا حظي باهتمام كبير في السنوات الأخيرة. مع ظهور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت حياتنا متشابكة بشكل متزايد مع العالم الرقمي. ومع ذلك، فإن تأثير هذه التطورات التكنولوجية على الطلاق واستقرار العلاقات لا يزال موضع نقاش. سوف يستكشف هذا المقال كيف يوفر العصر الرقمي الاستقرار ويزيد من عدم الاستقرار في حالات الطلاق.

إن إحدى الطرق التي يوفر بها العصر الرقمي الاستقرار في حالات الطلاق هي سهولة الاتصال. في الماضي، كان لدى الأزواج الذين يمرون بحالة طلاق خيارات محدودة للتواصل، وغالبا ما كانوا يعتمدون على الاجتماعات وجها لوجه أو المكالمات الهاتفية. ومع ذلك، مع ظهور البريد الإلكتروني والرسائل النصية ومكالمات الفيديو، أصبح التواصل بين الأطراف المطلقة أكثر كفاءة ويمكن الوصول إليه. وهذا يسمح بتواصل أكثر وضوحا وأسرع، مما يمكن أن يساهم في عملية طلاق أكثر استقرارا وودية.

هناك جانب آخر من الاستقرار في الطلاق الناجم عن العصر الرقمي هو القدرة على جمع الأدلة. في بعض الحالات، قد يشعر أحد الطرفين أو كليهما بالحاجة إلى جمع الأدلة لدعم قضيته. في الماضي، كانت هذه العملية أكثر صعوبة وتعتمد بشكل كبير على شهادات الشهود. في الوقت الحاضر، مع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح جمع الأدلة الرقمية أسهل. وهذا يمكن أن يوفر الاستقرار لإجراءات الطلاق من خلال تقديم دليل ملموس لدعم المطالبات أو الادعاءات.

ومن ناحية أخرى، أدى العصر الرقمي أيضا إلى تضخيم عدم الاستقرار في حالات الطلاق. أحد الأمثلة على ذلك هو ظهور منصات المواعدة عبر الإنترنت. عند الطلاق، قد يلجأ الأفراد إلى المواعدة عبر الإنترنت كوسيلة للتعامل مع الاضطراب العاطفي. ومع ذلك، فإن هذا يمكن أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، لأنه قد يعقد عملية الطلاق ويحتمل أن يخلق المزيد من الصراع بين الأطراف المعنية.

بالإضافة إلى ذلك، أتاح العصر الرقمي وصولا غير مسبوق إلى المعلومات والأخبار المتعلقة بالزوج السابق. وتعتبر منصات التواصل الاجتماعي سلاحا ذا حدين في هذا الصدد. في حين أنها يمكن أن تكون وسيلة للبقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة، إلا أنها توفر أيضا تذكيرا دائما بالعلاقة السابقة. وهذا يمكن أن يعيق عملية الشفاء من العلاقة ويجعل من الصعب المضي قدما، وبالتالي إطالة أمد عدم الاستقرار الذي تعاني منه بعد الطلاق.

هناك عامل آخر يساهم في عدم استقرار حالات الطلاق في العصر الرقمي وهو انتشار التنمر عبر الإنترنت والتحرش عبر الإنترنت. في بعض الحالات، يمكن أن يصبح الطلاق قاسيا، وقد يلجأ أحد الطرفين إلى استخدام التكنولوجيا كأداة للمضايقة والترهيب. يمكن أن تسمح منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات المجهولة عبر الإنترنت بنشر معلومات كاذبة وإساءة الاستخدام والتهديدات. وهذا يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تحدث أثناء الطلاق، مما يجعل من الصعب على الأفراد العثور على السلام والانعتاق من قيود علاقة ما.

يقدم العصر الرقمي أيضا تحديات جديدة فيما يتعلق بحضانة الأطفال وحقوق الزيارة. مع ظهور التكنولوجيا، أصبحت الزيارة الافتراضية ممكنة. وفي حين أن هذا يمكن أن يوفر للآباء الفرصة للحفاظ على الاتصال مع أطفالهم، إلا أنه يمكن أن يؤدي أيضا إلى خلق حالة من عدم الاستقرار. يمكن للزيارة الافتراضية أن تطمس حدود الوجود الجسدي والافتراضي، مما يجعل من الصعب على الأطفال التكيف مع التغييرات الناجمة عن الطلاق وإدخال شركاء جدد.

علاوة على ذلك، شهد العصر الرقمي زيادة في الآثار المالية أثناء حالات الطلاق. لقد سهلت الخدمات المصرفية عبر الإنترنت وأنظمة الدفع على الأفراد إخفاء الأصول أو الانخراط في الخداع المالي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار وعدم العدالة في عملية الطلاق، حيث قد يكتسب أحد الطرفين ميزة على الآخر من خلال هذه الوسائل.

كما أدى العصر الرقمي إلى ظهور ظاهرة "المطاردة الافتراضية". مع زيادة الوصول إلى المعلومات الشخصية والأنشطة عبر الإنترنت، قد يلجأ بعض الأفراد المطلقين إلى مراقبة تواجد شركائهم السابقين عبر الإنترنت. هذا التطفل على الخصوصية يمكن أن يساهم بشكل أكبر في عدم الاستقرار الذي يحدث أثناء الطلاق وبعده، لأنه يمنع الأفراد من المضي قدما أو إيجاد حل.

وأخيرا، يمكن أن يوفر انتشار مجتمعات الدعم عبر الإنترنت ومنصات العلاج الاستقرار وعدم الاستقرار أثناء الطلاق. من ناحية، يمكن لهذه الموارد عبر الإنترنت أن توفر مجتمعا داعما وإرشادات للأفراد الذين يمرون بمرحلة الطلاق. يمكنهم توفير شعور بالاستقرار من خلال ربط الأشخاص الذين لديهم تجارب مماثلة وتقديم منصة للدعم العاطفي. ومع ذلك، من ناحية أخرى، يمكنها أيضا تضخيم عدم الاستقرار من خلال تعزيز المواقف السلبية أو المتحيزة تجاه العلاقات، مما قد يعيق عملية الشفاء.

في الختام، يعد الطلاق في العصر الرقمي ظاهرة معقدة تظهر الاستقرار وعدم الاستقرار. في حين أن التقدم التكنولوجي قد أحدث تغييرات إيجابية، مثل سهولة الاتصال والوصول إلى المعلومات، إلا أنه أدى أيضا إلى تضخيم عدم الاستقرار من خلال عوامل مثل التحرش عبر الإنترنت والتمويل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في عام 1980 صدر كتاب للدكتور حسن حنفي "التراث والتجديد"، وكان هذا الكتاب بمثابة مقدمة لمشروعه النظري الفكري، وفي هذا يعلن حسن حنفي إلى أنه مشغول بالتراث الإسلامي  السني ويدعو إلى تجديده وذلك من خلال أحداث ثورة في فهمنا للتراث، والغاية عند حسن حنفي ليست التراث نفسه، بل الواقع الذي نعيشه نحن وتثويره، والطريق إلى تثوير الواقع هو تثوير التراث  من خلال إحداث نوع في فهمنا للتراث لأنه التراث ليس مجرد أفكار منفصلة عن حياتنا، وإنما التراث يعيش معنا، ونعيش به، ونحن نفكر بالطريقة التي يمليها علينا التراث، ونختار وفقًا لشروط التفضيل التي يمليها علينا التراث، ونتصور العالم كما رسمها لنا التراث، ومن ثم إذا أردنا تغيير واقعنا ينبغي قبل ذلك أن نغير تصوراتنا.

فالثورة الصناعية في البلاد النامية لم تحدث إلا بعد أن قامت ثورة ثانية، وهي الثورة المعرفية، ولذلك النهضة عند حسن حنفي تسبق التنمية، وأما التجديد لديه فيعني إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، وذلك لأنه إذا كان التراث يشكل واقعنا، فينبغي إذن أن نشكل التراث وفقًا لحاجتنا حتى لا يشكل واقعنا وفق احتياجات عصر آخر ولد فيه.

وهنا لا يقصد حسن حنفي أن التراث بكامله متهم، فهو يعتقد أن التراث في كل أمة هو مصدر من مصادر قوتها، والتراث العربي في يوم ما كان مصدر من مصادر قوة المسلمين، ولكن ما يصلح للأجداد قد لا يصلح للأحفاد .

وهنا نجد أن حسن حنفي يقدم نفسه كمفكر إسلامي، لا كمفكر عروبي، ويقول عن نفسه بأنه فقيه يريد أن يجدد للمسلمين دينهم، وهو يعترف بذلك في مقدمة كتابه " من العقيدة إلى الثورة،بالمجلد الأول ؛ ولا أنسى ما قاله لجورج طرابيشي عقب ندوة " العقلانية والعقلانية العربية " التي انعقدت في تونس في 1986: أيها الأخ جورج، أترى هذا الذي يكلمك ؟ إنه ليس حسن، بل حسنان . فهناك حسن حنفي الفيلسوف، وهناك حسن حنفي النبي . وما دمت قد عقدت العزم على الكتابة عن حسن حنفي، فرجائي عندك أن تدع حسن حنفي النبي جانبًا، وأن تكتب فقط عن حسن حنفي الفيلسوف .

في موقفه من التراث، كان حسن حنفي يعتقد أنه قد احتار موقفًا وسطًا بين موقفين متطرفين: الموقف الأول، وهو يرى أن التراث مكتف بذاته، وليس في الإمكان أحسن مما كان، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو موقف جمهرة الإسلاميين، وإن جزء منهم يرون أن التراث ليس خال تمامًا من العيوب، ولكن يعتقدون أن إصلاحه ممكن، والبناء عليه واجب .

ويعتبر حسن حنفي أن دعاة هذا الموقف متطرفون. والموقف الثاني: فهو يرى أن التراث لا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، بل إنه جزء من تاريخ التخلف، والارتباط به سبب من الاغتراب عن الواقع، ومن ثم نجد دعاة هذا الموقف يختارون الفكر الجديد القادم من أوروبا، وهو الفكر الأوروبي الغربي الحديث والذي يعتقد أنه مكتف بذاته أيضًا، وأصحاب هذا الموقف هم العلمانيون الواقعون خارج الدائرة الإسلامية .

ويعتقد حسن حنفي أن الموقف كلاهما على خطأ، فأصحاب الموقف الأول يتهمهم بالنفاق والعجز والنرجسية، بينما يصف أصحاب الموقف الثاني بقصور النظرة العلمية وتقليد الغرب، وبالازدواجية، ويرى حسن حنفي أن الصوب هو التوفيق بين التراث والتجديد والأخذ من القديم بما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمفاهيم القديم، وهو موقف كما قال " يستوعب مزايا الموقفين السابقين، وأن يتخلى عن عيوبهما".

ثم يتحدث حسن حنفي عن عيوب المحاولات السابقة التي حاولت تجديد التراث، سواء من داخله، أو من خارجه، والتجديد من خارج التراث هو تأتي بمنهج أوروبي حديث، وتقيس التراث عليه كما فعل " عبد الله العروي " مثلا .

والتجديد من داخل التراث يتم عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في التراث وقدرتها على تلبية حاجات العصر مثل إبراز فكرة الاتجاهات العقلانية عند العرب؛ وبالأخص المعتزلة، أو نظريات الإسلام في الشورى مثلًا، وكل هذه المحاولات عند حسن حنفي تتسم بالنظرة الجزئية، والمطلوب في نظره النظرة الكلية الشاملة كما فعل هو أو كما يظن أنه فعل. وما دام أن العلة في التراث هو جزء من تكويننا الذهني والنفسي، فينغي الذهاب كما يقول حسن حنفي إلى مركز هذا التراث لكي يبدأ التجديد من هناك، هنا نتساءل ما مركز هذا التراث ؟

ويجيبنا حسن حنفي فيقول: مركز التراث يتمثل في علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وأصول الدين يناقش مركز العقيدة، متمثلًا في الغيب وعلاقة الإنسان فيما وراء هذا الغيب من خلال معرفة الإيمان، والملائكة، والقضاء والقدر،...إلخ. أما أصول الفقه فيتعلق بمعرفة الأحكام من خلال الأدلة التفصيلية، أصول الفقه في نظر حسن حنفي نعبر عنه بالفقه الإسلامي، في حين أصول الدين نعبر عنه بالفكر الإسلامي.

وأصول الدين وأصول الفقه يمثلان فقط مجرد محور واحد من محاور مشروع حسن حنفي الفكري، حيث أن مشروع حسن حنفي يعمل على ثلاث محاور: التراث والتجديد، ونقد الحضارة الغربية الحديثة ويجسده كتابه في "مقدمة في علم الاستغراب"، وإعادة تفسير الواقع.

وفيما يخص المحور الأول من مشروع مقدمة في الاستغراب وهو التراث والتجديد قال " حسن حنفي" أن أصول الدين هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوراته عن العالم، وكذلك يمدهم ببوائق السلوك، وهو مثله كمثل الايديولوجيا السياسية، حيث يتصور " حسن حنفي"  أن المسلم يرى العالم والتاريخ والمستقبل بطريقة مغايرة عن غيره، وهي طبيعة الايديولوجيا، والعقيدة في امكانها أن تصنع ذلك، فمثلًا الماركسية تمثل أيديولوجيا من خلال النظر إليها على أنها نظرية في تفسير العالم، بحيث تدفع معتنقها لاتخاذ سلوك معين في الحياة ومن ثم فأصول الدين هو بمثابة أيديولوجيا سياسية للجمهور أو الشعوب، خاصة بعد أن فشلت الأيديولوجيا الألمانية عن تحقيق أهداف الجماهير .

والسؤال الآن: ما المطلوب من أصول الدين ليصبح أيديولوجيا ؟

ويجيبنا " حسن حنفي"  فيقول: أن أصول الدين عامل ثورة وتحرير للإنسان، وأصول الدين الآن نراه لا يخدم الإنسان المسلم لكونه مشغول بعالم الغيب، وكان من المفترض أن يركز على الواقع الذي يعيشه المسلم، ولذلك كان ينبغي على أصول الدين أن يتحول من كونه علم يبحث في الغبيات وأمور العقيدة إلى علم للصراع الاجتماعي، وكذلك كان ينبغي أن يكون من مهام أصول الفقه تشكيل جبهة إسلامية واحدة من دول أسي وأفريقيا ضد المخاطر الإسلامية التي تواجهه المسلمين، وأصول الدين لا يقل شأنا عن الماركسية التي استطاعت مع دول أوربية كثيرة في مظلة واحدة متمثلة في الاتحاد السوفيتي السابق وجزء كبير من دول أوروبا الشرقية في القرن المنصرم، فلماذا لا يقوم أصول الدين بنفس الدور ويجمع المسلمين تحت مظلة واحدة، وذلك من خلال اتحاد إسلامي أيا كان فيدراليا، أو كونفدرالي أو أي شكل من أشكال الخلافة الإسلامية.

بيد أن هذا في نظر " حسن حنفي"  لم يحدث، وذلك لكون أصول الدين قد شغلنا بأمور قضوية أخرى عن الواقع، ولهذا انتقد " حسن حنفي"  أصول الدين بضراوة باستثناء المعتزلة الذين طرحوا فكرة العدل في مقابل فكرة التوحيد عند الأشاعرة، و"حسن حنفي"  يؤثر فكرة العدل في مشروعه على فكرة التوحيد، ولهذا انتقد " حسن حنفي"  الأشاعرة لكونهم غلبوا التوحيد على العدل، مع أن العكس صحيح في نظره، لأن العدل هو القضية اللصيقة بالواقع، بينما التوحيد مفارق للواقع، بينما مهمة أصول الدين هو تغيير الواقع .

أما أصول الفقه فيحتل مرحلة ثانية بعد أصول الدين في مشروع " حسن حنفي" الفكري، وذلك لكونه قدم النقل على العقل، وخاصة مع الإمام الشافعي في مشروعة الأصولي القائم على أدلة أربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، القياس، وهي كلها نقلية وليست عقلية .

وهنا نجد " حسن حنفي" لا يقبل أي وصاية على العقل، لكونه يريد أن يبدأ الفقه من الواقع لا من النص، وهو دائما يعول على الواقع، وبسبب هذا المبدأ العقلاني عند " حسن حنفي" نجده يهاجم الفلسفة السنيوية ذات المنحى الإشراقي، حيث ينظر إليها أنها السبب في تأخرنا، وكان ينبغي في نظره أن تسود الفلسفة الرشدية، والتي نجحت في الغرب فأفرزت لديه فكرة العقلانية والتنوير، ولذلك كان يعتقد " حسن حنفي" أن ذروة العقلانية كانت متجسدة في فلسفة ابن رشد .

وبالعودة إلى موضوع التجديد في مشروع " حسن حنفي" الفكري، فنجده يرى أن التجديد يتم بثلاث طرق: تجديد اللغة، وتجديد المعنى، وتجديد الواقع، وأما تجديد اللغة كما يقول يتم باستعمال الألفاظ المتداولة بدلًا من الألفاظ التقليدية الموروثة، مثلا يمكن أن نستخدم كلمة أيديولوجيا بدلا من كلمة دين، وذلك لن اللفظ التقليدي لا يعبر بما فيه الكفاية عن المعنى الكامن فيه، ولا يشير بوضوح إلى المعنى المراد، بل إنه في بعض الأحيان يكون محملًا بدلالات سلبية، ولا يؤدي الوظيفة التواصلية المطلوبة منه، وأما تجديد المعنى فيتم بإعادة قراءة التراث بمنظور العصر، وأما تجديد الواقع فيتم من خلال تغيير الواقع الثقافي وإعطاء الأولوية للمعاملات على حساب العبادات، يوجد خلف كل تجديد من هذه الثلاثة، هناك كلام وملاحظات كثيرة يطول شرحها .

مما سبق يتبين لنا أن " حسن حنفي"  كان مفكرا مستوعبا للتراثي – الإسلامي والغربي معا، وكلامه هنا يشهد بذلك، كما أنه كان مفكرًا عضويًا مهتمًا بنهضة مجتمعه وهذه فضيلة أخرى تُحسب له، ولكنه برغم ذلك فهو كالمهندس الذي شيد بناءً ضخما، لكنه كان قليل الجدوى، على عكس آخرين مثل "فؤاد زكريا"، لكنه كثير الجدوى، صحيح أن الإضافات التي أضافها على مستوى النظرات الجزئية في كتبه لاشك في أنها كثيرة، وأما على المستوي الكلي بالنسبة للمشروع فهي محدودة .

ولعل هذا هو السبب الذي جعل جورج طرابيشي يؤلف عنه كتابا كاملا بعنوان " ازدواجية العقل " ويصفه بأنه يمثل أيقونه رقصة المتناقضات ووحدة الأضداد، حيث يقول طرابيشي:" أول ما يلفت النظر في كتابات حسن حنفي قدرة كاتبها شبه اللامحدود على مناقضة نفسه، فهو لا يضع قضية إلا لينفيها، ولا يبدي رأيا إلا ليقول عكسه، وهذا ما أباح لأحد نقاده أن يتطرف في القول إلى حد التجريح فيتساءل عما إذا كان في قدرة حسن حنفي أن يظل محتفظا بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع ؟

ولكن لندع جانبا النقد ضد مشروع حسن حنفي فالرجل له وما عليه، ويكفي أن مشروعه في التراث والتجديد حمل لنا هموم الإنسان فكرًا وواقعًا في العالم العربي، وهو يقاوم لإبداء الموقف الحضاري من التراث العربي الإسلامي، ومن التراث الغربي، ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية، والفكرية، والفلسفية، وفكره بلا شك يرقى إلى البناء النسقي المنظم بالمعنى الفلسفي، بحيث تحقق الفلسفة وجودها، ويحقق الفكر ذاته من خلال التقسيم المألوف لمباحث الفلسفة إلى ثلاثة: مبحث المعرفة، مبحث الوجود، مبحث القيم، وهو تقسيم يحفظ للمشروع انسجامه وأتساقه المنطقي وللفلسفة وجودها الفعلي وللفكر وحدته .. فتحية للدكتور حسن حنفي وهو الآن بين يدي الله، والذي بموته كشف عن وجود فراغ في المشاريع الفكرية الآن في مصرنا الحبيبة.

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

............................

المراجع:

1- حسن حنفي: التراث والتجديد .

2- فصول، حسن حنفي ومشروع تجديد التراث، يوتيوب،

3- بو بكر الجيلالي: مشروع التراث والتجديد عند حسن حنفي.

المقدمة: يعتبر موضوع مشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة (الراشدة والأمامية) أمرًا هامًا ومثيرًا للجدل في الوقت الحاضر، فمنذ فترة طويلة تحدثت العديد من الدول الإسلامية عن تحقيق العدالة والتنمية والازدهار من خلال تطبيق نظام إسلامي حقيقي يقوم على القيم والمبادئ الإسلامية.

ولكن يبقى السؤال الرئيسي هو.. كيف يمكن لهذه الدول تحويل هذه المشاريع إلى حقيقة على أرض الواقع؟ وهل يمكن أن تكون تلك الدول أكثر قدرة على تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي من خلال إقامة نظام إسلامي راشدي أو أمامي؟.

إن العديد من الباحثين والخبراء يرون أن إقامة - دول أسلامية - يمكن أن تكون حلاً للكثير من المشاكل التي تواجه الدول العربية والإسلامية في الوقت الحاضر، فنظام الحكم الإسلامي يقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي يضمنها الإسلام لجميع أفراد المجتمع، بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الإسلام نظامًا شاملاً يغطي كل جوانب حياة الإنسان، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

ومن المهم أيضاً أن نتحدث عن مشاريع الإسلمة في العصر الحديث، أذ تتطلب هذه المشاريع نهجًا متقدمًا واستراتيجيات واضحة لتطبيق القوانين الإسلامية في عصر التكنولوجيا والعولمة، وتعتبر الدولة الماليزية والدولة التركية من الأمثلة الجيدة على دمج القيم الإسلامية في أنظمتها القانونية والسياسية دون التخلي عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أولاً: المشروع السياسي الاسلامي

تعد المرجعية السياسية العنصر الأساسي الذي يحدد الاتجاهات السياسية والقرارات الحكومية في الدول العربية، فهي تمثل مرجعاً لتحديد الهوية الوطنية والقيم الثقافية والدينية التي يستند إليها المجتمع العربي.

وقد تتأثر المرجعية السياسية بعدة عوامل مثل التاريخ والثقافة والدين والاقتصاد والسياسة الخارجية، لذا يعد فهم المرجعية السياسية للعالم العربي أمراً بالغ الأهمية لفهم القرارات السياسية والمسار الذي تسلكه دول العالم العربي.

1- أصل المشروع السياسي الإسلامي:

يعود أصل المشروع السياسي الإسلامي إلى الفكر الإسلامي الذي يؤمن بأن الدين يجب أن يكون قاعدة للسلطة السياسية والشرعية، ويُعتبر الخليفة الراشد الثاني (عمر بن الخطاب 13- 23هـ) أول من وضع أسس التجربة الإسلامية للحكم السياسي، أذ تميزت فترة حكمه بالعدل والمساواة بين المواطنين.

يليه الخليفة الراشدي الرابع (علي بن أبي طالب 35- 40هـ) ثان من حارب من أجل الحكم الإسلامي الرشيد القائم على الشورى والعدالة الاجتماعية.

لقد عاصر الامام (علي بن ابي طالب) حركة الوحي الرسالي منذ بدايتها حتى انقطاع الوحي برحيل رسول الله (ص(، وكانت  له مواقفه المشرّقة والتي يُغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن مبادئ الاسلام الحنيف، وقد انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله القرآنية في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث والنبوي الشريف.

-2الأهداف الرئيسية للمشروع السياسي الإسلامي:

* تحقيق العدل الاجتماعي: أذ تعتبر العدالة وتوزيع الثروة بين جميع أفراد المجتمع من القيم الأساسية للإسلام.

* تطبيق الشريعة الإسلامية: يهدف المشروع السياسي الإسلامي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في تشريعات الدولة وتطبيقها على المواطنين.

* تعزيز الهوية الإسلامية: يعتبر المشروع السياسي الإسلامي وسيلة للحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيزها في المجتمع.

3-التحديات التي تواجه المشروع السياسي الإسلامي:

* التنوع الثقافي: يعتبر التنوع الثقافي والعرقي في العالم الإسلامي تحدياً كبيراً أمام تحقيق المشروع السياسي الإسلامي بسبب اختلاف التفاهمات الثقافية والاجتماعية.

* التطرف الديني: يعد التطرف الديني أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المشروع السياسي الإسلامي، أذ يتسبب في تشويه صورة الإسلام وتحقيق أهداف سياسية بواسطة العنف.

* الديمقراطية وحقوق الإنسان: تعد مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان تحدياً لتحقيق المشروع السياسي الإسلامي.

ثانيا: جذور المرجعية السياسية

تعود جذور المرجعية السياسية في العالم العربي إلى العصور القديمة ، أذ كانت هناك ممالك ودول تستند إلى إيمان ديني قوي وتقاليد ثقافية مميزة، ومنها يمكن ذكر (الخلافة الراشدة 11- 41 هـ) التي كانت تمثل مرجعية سياسية ودينية للمسلمين في أوائل الإسلام، والتي أسقطها الخليفة الأموي (معاوية بن أبي سفيان41- 60هـ) من خلال جعله الحكم وراثي في الأسلام وليس بالشورى .. كما كانت هناك ممالك عربية مثل مملكة نجد ومملكة حضرموت وغيرها التي كانت تمثل مرجعية للأهالي.

1 - الدين كمرجعية سياسية:

تلعب الديانة دوراً هاماً في تحديد المرجعية السياسية للعالم العربي، أذ يعتبر الإسلام الدين الرئيسي لمعظم السكان في المنطقة، ومن هنا تنبثق العديد من التيارات الدينية التي تؤثر على القرارات السياسية، مثل التيار السني والتيار الشيعي والسلفية والإخوان المسلمين وغيرها، وقد شهدت الدول العربية تأثراً كبيراً من التيارات الدينية في تحديد السياسات الحكومية خصوصاً في مجالات القضاء والتعليم والسياسة الخارجية.

2- التحديات الاقتصادية والاجتماعية:

يعتبر الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية من العوامل المؤثرة في تشكيل المرجعية السياسية، فالفقر والبطالة والفساد يؤثران سلباً على الاستقرار السياسي ويؤديان إلى زيادة التطرف والانقسامات الاجتماعية .

وقد كان بوسع العالم العربي والإسلامي كذلك من استخدام الآلة الاقتصادية، مثل تصدير النفط في تعديل بعض المواقف الغربية المتطرفة عموما والأمريكية خصوصا تجاه العالم الإسلامي مثل الجنوح المتطرف إلى جانب إسرائيل في حربها الدائرة في غزة ولبنان واليمن الجنوبي وسوريا.

أن عملا واسعا يجري اليوم لإلحاق أسواق العالم الإسلامي ومصادر ثرواته الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية وهو أمر حاصل بالفعل ... الإمارات العربية المتحدة أنموذج.

ثالثاً: ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب

تعتبر ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب من أخطر المشاكل التي تواجه العالم في الوقت الحالي، فالانغلاق يعتبر توجهًا فكريًا واجتماعيًا يؤدي إلى الانعزال والتخلف والإفراد بالرأي ورفض التعايش مع الآخرين، بينما التكفير هو استخدام الدين كوسيلة لتبرير العنف والتطرف، والإرهاب هو استخدام العنف والتهديدات من أجل تحقيق أهداف سياسية أو دينية.

-1أسباب الانغلاق والتكفير والإرهاب:

* الفقر والعوز الاجتماعي.

* الجهل وضعف التعليم.

* تأثير السياسات القمعية والظلم.

* الانعزال الاجتماعي وضعف الروابط الاجتماعية.

* تأثير وسائل الإعلام والتضليل الفكري.

* استغلال الدين لأغراض سياسية وجماعية.

2- تأثير الانغلاق والتكفير والإرهاب على المجتمع:

* زيادة العنف والتطرف.

* انعدام الأمان والاستقرار.

*  فقدان الهوية والقيم.

*  تعزيز الفجوات الاجتماعية.

*  تعطيل التقدم والتطور الاقتصادي.

3- سبل مكافحة العنف والتطرف:

* تعزيز التعليم والتثقيف.

*  محاربة الفقر والعوز.

* تعزيز ثقافة الحوار والتعايش.

*  مكافحة التطرف الفكري وتقديم الرؤى الإيجابية.

* تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع.

رابعاً: الفتن الطائفية والفكر المقدس

الفتنة الطائفية والفكر المقدس هما من الظواهر السلبية التي تهدد السلم والاستقرار في المجتمعات، وتسبب في تفرق الناس وتعريضهم للانقسامات والصراعات الدامية، إن مكافحة هذه الفتن وتفكيك الفكر المقدس يعتبران تحديات كبيرة تواجه المجتمعات في العصر الحالي، وهنا تبرز أهمية القيام بأبحاث ودراسات تهدف إلى فهم هذه الظواهر وإيجاد السبل للتعامل معها بفعالية.

1- ماهية الفكر المقدس:

هناك مجتمعات عربية وإسلامية تقدس أشخاصاً معينين، وخاصة رجال الدين، ولا يخضع كلامهم لسلطة العقل، ولا يتطابق مع المنطق، وتتقبل عقولهم كل ما تسمع به بشكل أعمى، كم من الناس تعرضوا لمشاكل وكوارث لا حصر لها على يد حاكم مقدس ؟، وذلك ببساطة لأن هذا الحاكم قد تم تقديسه من قبل كثير من منهم... (صدام حسين المجيد) أنموذج .

العرب من أكثر الشعوب التي تنظر إلى بعض الأشخاص على أنهم مقدسون، خاصة أولئك الذين ارتبطوا بالدين في الماضي ويعتقدون أن معجزات وعجائب معينة قد جاءت إليهم.

هذه المشكلة خطيرة لأنها تعزز تطور التفكير الخرافي، لكن الأهم من ذلك أنها تمثل تقديسًا خطيرًا للأحياء، مما يمنح الجماهير السيطرة على مصيرها ويقودها إلى طريق الرجعية، لأنك يمكن أن تصبح ضحية من بعض الأفراد الذين يسيقونك تدريجياً الى التخلف وربما حتى الانقراض في المستقبل القريب!.

2- لماذا يتم اختيار الامامة عوضاً عن الخلافة ؟:

أن تبلور نظرية الإمامة في الإسلام كان مبنياً على إجابات مختلفة للأسئلة والشكوك والإشكاليات التي يطرحها علماء الشيعة، لأنهم أول من طرح هذه القضية، وهذه القضية لها تاريخ طويل.

- علماء المسلمين (غير الشيعة) اتبعوا نفس الأسلوب في حوارهم مع الشيعة، واستخدمت ردودهم مرارا وتكرارا نفس الكلمات والأسماء والمصطلحات التي يستخدمها الشيعة.

هذه الكلمات توضع على ألسنتهم وأقلامهم لمجرد الرد على الأفكار والمعتقدات التي يعتبرونها مثيرة للجدل أو غير مقبولة، يتعلق الأمر بشخصية الخليفة (أو الإمام) أو بشكل الرئاسة وشروطها ومرافقيها.

فمثلاً، الفصل بين هذا اللقب ومصطلح «الإمامة» لا ينشأ عن فراغ أو تحيز عند أهل السنة، ولكن باعتبار أنه لقب لغوي مجرد، فإن هذه التسمية (الإمام والإمامة) تؤدي نفس الغرض من الناحية اللغوية والقانونية، وتحقق الغرض المنشود من التحديد.

وإذا بدأنا بدراسة تاريخية للوضع السياسي للدولة الإسلامية في نشأتها الأولى وفهمنا موقف الأخرين منها (أو الموقف الذي عبرت عنه الإمامة)، فسنرى وجهة نظر مختلفة للطوائف التي شاركت فيها، وكم أثار زعماء الطوائف في الأيام الأولى مسألة الإمامة في المساجد والمجالس العامة، وتنافسوا في المرافعات الشفوية، ثم سجلوها فيما بعد ذلك بأسلوب جدلي يعتمد على الحجج والأدلة التي تؤيد وجهات النظر المختلفة، وقد انكشف ذلك لأحقاً بالصراعات السياسية التي أدت إلى المعارك المحتدمة بينهم ، وأدى كل ذلك فيما بعد إلى تشتت جهود الدولة ونشوء طوائف ودول سياسية مختلفة، كالأدارسة والفاطميين .

خامساً: تجارب عربية وأسلامية

1- الأسلام السعودي من التطرف الى الانفتاح:

في 10 أغسطس عام/ 1932م ، غير مؤسس المملكة العربية السعودية (عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود1875- 1953م) اسم "مملكة الحج النجدي والولايات التابعة لها" بعد هزيمة الشيخ عجلان وقتله ، وفتح معظم شبه الجزيرة العربية ، أذ تم تغييرها إلى " المملكة العربية السعودية".

وبعد عام من التغيير وقع عبد العزيز اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط مع - شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا -، وبدأت قصة الثروة الهائلة في المملكة .

ورافقت الثروات الهائلة المتدفقة من الأراضي السعودية رغبة في قيادة المنطقة وانتزاع القيادة من القاهرة التي بدأ دورها يتراجع بعد أزمات اقتصادية متتالية.

وأدى الارتفاع الكبير في أسعار النفط في السبعينيات من القرن العشرين وما بعده، إلى جانب هجرة ملايين الأشخاص للعمل في المملكة، إلى ظهور ثقافة "سعودية" في المنطقة ، من هنا بدأت "النسخة السعودية" من الإسلام السني في غزو البلدان العربية تدريجياً.

ولعل الهزيمة الكبرى التي منيت بها القاهرة، الزعيمة القديمة للمنطقة، هي أن الثقافة السعودية نجحت في اكتساح شوارع مصر، وهيمن الإسلام الوهابي/السلفي على المشهد، وكل ما عدا ذلك كان يخالف السنة النبوية.

وهكذا أصبحت "اللحية" "لحية"، و"صباح الخير" أصبحت "السلام عليكم"، وانتقلت الساعة إلى المعصم الأيمن تقليداً لرسول الله.

وبمرور الوقت، قطعت النسخة السعودية من الإسلام السني خطوات كبيرة في مجال الثقافة، أو ما يشير إليه البعض بـ"القوة الناعمة"، ودخل "العجمي" إلى الشارع، وبقيت أصوات عبد الباسط وعبد الصمد والمنشاوي والصديق، وجدت نفسها محاصرة في إذاعة القرآن الكريم فيما ملأت التلاوات السعودية أجواء المتاجر والسيارات ، أما الأخرون فقد منعوا الفن وحاولوا إخفاء الفنانات وفضلوا ما يسمى بالسينما الملتزمة.

وبهذه الطريقة، تمكنت النسخة السعودية من تثبيت حضورها وهيمنتها في الشوارع العربية لأكثر من ثلاثين عاماً، مدعومة بمليارات الدولارات التي أنفقت ببذخ لتحقيق هذا الهدف.

2- التغيير المطلوب: هل نحن أمام نسخة جديدة من الإسلام؟

]"معظم الأحاديث النبوية لم يثبت أنها قالها الرسول، لكن كثيراً يستعينون بها لإثبات وجهة نظرهم." – ولي العهد السعودي/ ورئيس مجلس الوزراء محمد بن سلمان بن عبد العزيز 1985م –[.

لقد ظلت (المملكة العربية السعودية) لعقود طويلة معقل للتطرف في العالم الإسلامي السني، بسبب أفكار الشيخ (محمد عبد الوهاب التميمي الحنبلي 1703- 1792م) المعروف بـ «الوهابية».

لكن اليوم يتغير ويظهر أمامنا ولي العهد السعودي، ويرى أن الشيخ (محمد عبد الوهاب) كان أولا وقبل كل شيء رجل سياسي وعسكري، والمشكلة الحقيقية هي أن معاصريه وحدهم يعرفون ذلك، في ذلك الوقت، كانوا يقرؤون أو يكتبون، أي أنهم كتبوا التاريخ من وجهة نظرهم الشخصية.

إذن، بكل بساطة، غيرت السعودية بوصلتها تماما، وقرر حكامها الفعليون أن معظم الأحاديث النبوية التي نسمعها من على المنابرهي أحاديث غير مثبتة وينبغي تجاهلها، فهي تنص بوضوح شديد على أن الشيخ محمد عبد الوهاب (النواة الرئيسية) للأفكار الوضعية المتطرفة.

ما يشترك فيه جميع المسلمين هو أنه لا توجد "نسخ" مختلفة من الإسلام، وبغض النظر عن المكان الذي تذهب إليه، فإن الإسلام هو نفسه، ويعتبر هذا كلامًا دقيقًا عند الحديث عن القرآن والفرائض، لكن الدين، أي دين، هو أوسع بكثير من عهود الكتاب المقدس ونصوصه.

نعم مبدأ التحرر من التفكير التقليدي يقوم على مشاركة الجميع في عملية التغيير، وما هي أفضل طريقة لنشر هذه القيم من خلال إظهار الناس كيف يمكن للاحترام والتسامح والحرية والانفتاح أن يحسن حياتهم.

المسلمون في الرياض يصلون مثل المسلمين في القاهرة، والناس في باكستان يصومون في نفس الوقت الذي يصوم فيه المسلمين في العراق، فهذه شعائر وواجبات، ولا خلاف ولا اختلاف في كيفية تنفيذها.

ومع ذلك، فإن الأوامر والنواهي الدينية المتعلقة بقضايا الحياة هي نقاط تمايز وغالبًا ما تختلف عبر الزمن والبلدان، مما يؤدي إلى ظهور نسخ مختلفة وحتى مختلفة من الإسلام في أماكن مختلفة.

3- التجربة الإيرانية باختصار:

إيران هي دولة تقع في غرب آسيا وتعتبر واحدة من الدول الإسلامية التي تمر بعدة تحديات سياسية واقتصادية في الوقت الحاضر، لقد شهدت إيران تطورا سياسيا هاما منذ الثورة الإيرانية في عام/ 1979 التي أطاحت بالحكم الملكي ،وأسس نظام جمهورية إسلامية جديدة.

ومع مرور الزمن، تغير العديد من الجوانب السياسية والاجتماعية في إيران، وتبنت الحكومة الإيرانية سياسات مختلفة في محاولة لتحسين الوضع الداخلي والخارجي للبلاد.

تأسست جمهورية إيران الإسلامية بزعامة (روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني1902- 1989م) ، ومنذ ذلك الحين، شهدت إيران تطورات سياسية هامة، بما في ذلك الحروب الإقليمية مع العراق 1980- 1988 والتطرف الديني والعقوبات الدولية.

في الوقت الحاضر، تتبنى الحكومة الإيرانية سياسات متعددة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. تشمل هذه السياسات التحكم في الاقتصاد الوطني، وتطوير الصناعات الوطنية، وتعزيز العلاقات الدولية.

وتواجه تحديات كبيرة ، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية، والتضخم المالي، والبطالة، ومن المهم أيضا النظر في التطلعات المستقبلية لإيران وكيف يمكن تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار السياسي.

ولعل في رسالة نادرة من المفكر والفيلسوف الإيراني (عبد الكريم سروش 1945) إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد (علي خامنئي)، وردود أفعال أتباعه عليها، ما يدل على أن الإمام الخميني أراد لأيران أن تكون "مصدر إشعاع " في المنطقة والعالم ، وهو يخوض كامل الصراع المستمر والمتصاعد مع جيرانه وقوى الاستكبار العالمي كما يسميها .

في الوقت نفسه  تعرض للتشهير والعزلة بسبب "تصدير الثورة "التي نجح نوع ما في تشكيل ما يسمى "محور المقاومة" في العراق واليمن ولبنان وسوريا.

وكان سروش يؤمن بألوهية الوحي والنبي، وأن فهم الناس لمعنى الوحي يتطور مع الزمان والمكان، وهو ما طبقه الإمام الخميني أيضاً في نظرية الاجتهاد، ويرى أن هذا التغيير، في أي زمان وفي أي مكان، يرتبط بظهور آراء قيمة وقوية ، لقد غادر سروش إيران بعد معركة مع المتشددين هناك والذين يرفضون فكرة الاعتدال.

سادساً: الاستنتاجات

تناولت هذه الدراسة موضوعا مهما وحساسا يتعلق بمشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة، وتحليلا لظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب التي رافقت هذه المشاريع.

إن العالم العربي شهد في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة وتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية هامة، ولعل من أبرز هذه التحولات تقدم الإسلاميين في العديد من البلدان العربية ومحاولاتهم أسلمة الأنظمة وإقامة دولة الخلافة، وفي هذا السياق، ظهرت ظاهرة الانغلاق والتكفير والإرهاب التي أثرت على الأمن والاستقرار في المنطقة.

وتختلف مشاريع أسلمة الأنظمة العربية وإقامة دولة الخلافة من بلد لآخر ومن جماعة إسلامية لأخرى، ولكن الهدف المشترك هو إقامة نظام إسلامي يعتمد على الشريعة الإسلامية ويحقق عدالة اجتماعية ويضمن حقوق الإنسان.

وبعض الجماعات الإسلامية تستخدم وسائل سياسية وديمقراطية لتحقيق أهدافها، في حين تلجأ بعض الجماعات الأخرى إلى العنف والتطرف لتحقيق أهدافها.

ولكن ظاهرة الانغلاق قادت الى انعزال الفكر الإسلامي عن البيئة الثقافية والحضارية المحيطة به، وتقديم أفكار متشددة ومتطرفة تنكر الآخر وترفض العقلانية والتنوع، وولدة ظاهرة التكفير من الانغلاق الفكري، أذ يعتبر المتشددين المختلفين عنهم في الفكر أو الديانة كافرين ويروجون للكراهية والعنف ضدهم، وتندرج تنظيمات الإرهاب الإسلامية تحت هذه الفكرة، أذ يعتقد أعضاؤها أن استخدام العنف والإرهاب هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافهم.

ولعلّ أبرز الأسئلة التي لا تزال تحاصر العقل العربي مهما اختلفت توجهاته وحكوماته، هو سؤال العجز الذي يتردّد بهيئة: هل الشعوب العربية عاجزة أم متخاذلة ؟وجوهر هذا التساؤل ينبع من الصورة التي زُرعت خلال العقد الأخير عن «حراك» الشارع العربي والمعروفة بـ«الربيع العربي»، بحيث تظهّر للمشاهد العربي، والفلسطيني خصوصاً، مشهد خروج «الشعوب» العربية بمختلف أشكال المواجهة لتحقيق ما ادعّى حينها بأنّه كرامتها وحقوقها.

في الواقع، لا يمكن فهم حالة «الشلل» التي أصابت الجزء الأكبر من الأمة العربية دون مراجعة حقيقية للظروف الموضوعية التي سبقت لحظة الامتحان التاريخي، فالإنسان العربي فجر السابع من أكتوبر 2010 لم يولد من العدم، بل هو نتاجٌ لمنظومةٍ إعلاميّة- ثقافية - سياسية شكّلت وعيه للذات والعالم ولأدوات الممكن والمستحيل، في إطار اجتماعي يعرّف بخصائص محدّدة يمكننا أن نسمّيه اختصاراً «إنسان الربيع العربي».

وكما قال الأستاذ ماجد الغرباوي في كتابه (مدارات عقائدية ساخنة).. ] على الجميع تدارك الناس الطيبين، ضحايا العقل الجمعي المضلل ليعودوا الى رشدهم، فقد أستنزف الخطاب الطائفي جهودهم وأموالهم ووعيهم[.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

..............................

المصادر:

* الجندري، محمد. (2018). "الإسلاميون وتحديات المرحلة الانتقالية في العالم العربي".

* كتيب/ الأمة الواحدة.. والموقف من الفتنة الطائفية/ أية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي/ مجمع أهل البيت(ع) – العراق.

* قناة العالم/ علي أمام المتقين ورمز العدالة الإنسانية / 20 أبريل، نيسان/ 2016.

https://www.alalam.ir/news/.

* موقع رصيف22/ هل يشهد العالم العربي ظهور نسخة جديدة من الأسلام/ ماجد عاطف/ 12 أغسطس، أب/ 2023.

https://raseef22.net/article/1094469.

* موقع كتابات/ الاختلاف في الاتجاهات الفكرية / عبد الله بدر إسكندر/ 6 يوليو، تموز/ 2015. https://kitabat.com/author/2091/page/6.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).. سورة القارعة

الفقير والغني تواجدا جنب الى جنب عبر العصور والأزمان منذ الخليقة الاولى. الصراع الإنساني وعبر العصور بين الفلاح والصياد في بلاد الرافدين احد تلك المظاهر. عودة الى أسطورة الخلق الاول وصراع الاخوان هابيل و قابيل احد اهم الروايات الإنسانية متمثلا بالصراع بين الغني والفقير..

ليس من الصدفة ان يكون هناك في كافة المجتمعات الإنسانية تدرج في الحالة  الاقتصادية بين ابنائها متراوح بين الفقر، ذوى الدخل المحدود، الغني والأثرياء وفي عصرنا الحالي الثراء الفاحش. وجود البشر من الفقير والغني معا في المجتمعات الإنسانية و في كافة ألاطوار التاريخية التي مرت فيها البشرية، حالة طبيعية. الثروة بصورة عامة ياتي عادة عن طريق الوراثة. ومن ثم يكون لثروة الغني سببا و مسببا، ما يطلق عليه بالعامية  ب(البخت) اي  الحظ و القدر يلعب دوره في هذه المسالة كذلك. هناك ثروة تأتي صاجبها عن طريق مواهب الفرد  (الفهلوة) العلمية الفنية و السياسية. اما الدراسة والاجتهاد ليس بالضرورة ان تكون مصدر للثراء وربما فقط ليكفي ما يحصله المرء من وظيفته لرزقه اليومي اي ذو الدخل المحدود. الاستثناء يؤكد القاعدة. لكن هناك ثراء اخر ليس في الحسبان اي تشتري ورق يانصيب وتغدو بتلك الورقة ثريا في يوم وليلة او تدخل اول حانة للقمار وتفوز بالجائزة الكبرى. اما الثراء الغير شرعي فكثير هي دروبه من الغش والتحايل والنصب والسرقة وامور كثيرة ونشاطات غير شرعية يصل بصاحبه الى الثراء واحيانا الثراء الفاحش.

الأذكياء اقل ثراء من الأغبياء كذلك وربما احدهم ذو قابلية فكرية وذكاء محدود يصبح لاعبا رياضيا ثريا. اما الثراء القادم مع النشاطات السرية من بيع الأسلحة وتجارة البشر بكافة انواعه وتجارة المخدرات وبيع اسرار الدولة والخيانة في الحروب والوشاية وامور اخرى كثيرة قد تصل بصاحبه الى الثراء السريع.

بالنسبة لنا نحن المسلمين نؤمن بان الله سبحانه وتعالي هو وحده عز وجل من يوزع الأرزاق بين البشر . بعيدا عن اي تحيز في الموضوع نرى بان الغرب والدول الكبرى هي الغنية على اقل في يومنا هذا. الثراء الفاحش للسياسيين لم يساعدهم في الخلاص من نهاياتهم المأساوية والجدير بالذكر ان ورثه هؤلاء من الأبناء والأحفاد لا يتمتعون ويتهنون بتلك الثروات وتصيبهم ما يسمى ب (لعنة الفراعنة) اجلا ام اجلا. لان "فرخ البط عوام" كما يقول المثل المصري ليس  بصيح بين ابناء العلماء فهم ليس بالضرورة يصبحون علماء بعد موت أبيهم لانه وببساطة العلم والمعرفة لا يمكن توريثه.  الا ان عند رجال الدين تكون الوراثة في العائلة على اساس الانتماء والنسب وليس العلم. هذا يشمل جميع السياسين وابنائهم وأقربائهم ممن اصبحوا اثرياء بين يوم وليلة بعد عام 2003 وودعوا بثرواتهم في بنوك تصورا بانهم في مأمن من اللصوص وتقلبات الاقتصاد والأيادي التي تتلاعب في الاقتصاد العالمي من اسهم وسندات تهبط وترتفع وبنوك تخسر الملاين وحتى يعلنون إفلاسهم. بالنسبة للبنوك هناك معلومة مهمة اذا سرق أي مصرف (بنك) في أي مكان في العالم فلا يقوم مديروها  بإبلاغ الشرطة لكي لا يخسروا ثقة عملائهم والمودعين لديهم وحتى الجهات و الشخصيات السياسية ورجال عالم المال والأعمال وتجار الحروب والسياسيين  والشركات التي  يتعاونون معهم والعديدون  من امثالهم. لكن القدر لهم بالمرصاد وسيعلمون اي منقلب سينقلبون ولو بعد حين.

لم تتمكن كافة الأفكار السياسية والأنظمة التي بنيت على تلك الافكار ان تزيل تلك الفوارق الاقتصادية بين مواطنيها. قال أستاذي الذي كان حميما في حديثه وصادقا وهو يحاورنا حول النظريات الاقتصادية ونحن كطلبة دكتوراه جالسون حول الطاولة الكبيرة في مكتبه وننظر الى شاشة التلفزيون الذي كان توا قد بدا البث فيه ابيض اسود  بخطاب من ميخائيل گورباچوف وهو يعلن عن إصلاحاته المسماة) برستويكا. (قال الاستاذ ان ٧٥ من السنوات لم تكفي لنجاح تجربة مجتمع المساواة والعدل. نحن درسنا طلابنا في الجامعة خلال تلك السنوات ان الرأسمالية في حالة ازمة كبيرة و لا محال ستنتهي والية الى الانهيار وهي في ذلك تعيش مخاض نهايتها وايامها الاخيرة ليخرج لنا گورباجوف بان في واقع الحال ان النظام الاشتراكي هو في ازمة و في طريقها الى الزوال.  نعم لم يمر الكثير من الزمن على ذلك الخطاب ليبدا دولة اشتراكية بعد اخرى تنهار وتتساقط كقطع الدومينو . تلك الانظمة الحديدية مع الحلف العسكري واعني حلف وارشو ويتحول حتى الحزب الشيوعي الى مجرد حزب صغير  لا يؤيده ٩٩%  بل مجرد نسبة ضئيلة من الشيوعيون أنفسهم  بعد ان ترك المنافقين والمنتفعين الحزب. . العديد من رجال الأنظمة السابقة تحولوا الى تجار راسما لين كبار بثروات خيالية. للتاريخ حصل هذا طبعا لحزب النظام البعثي عشية احتلال العراق كذلك ولم يبق من يؤمن بتلك الأفكار ويخرج بنتائج ٩٩،% من اصوات الناخبين لرئيس هانه اقرب المقربين وكي لا ننسى كان هذا الرئيس يعتبر انتماءه للحزب وظيفة يؤمن قوت عيشه. لان خلال سنوات حكمه كان كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا فعليا للحزب. هذا يذكرني بما أجاب به الرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف نظيره المصري جمال عبد الناصر عن عدد العراقيين المنتمين الى حزبه.

 طبعا هناك محاولات لإعادة الساعة الى الوراء والعودة على الأقل بالنسبة للجناح السوري للحزب و النشط في العراق لكونها طبعا تدور في نفس الروح الطائفية الإيرانية او الخط الإيراني مرور من لبنان، سوريا، العراق، البحرين واليمن وصولا الى باكستان وافغانستان. تمعن فقط جيدا في ما أصاب المنطقة بأسرها من ويلات بعد انهيار ايران الشاهنشائي والى يومنا هذا.

اما في العراق فنرى اليوم صراع من نوع اخر وان  الحوزة  النجفية هي تاريخيا عاصمة التشيع في العالم وليست القم او أي مدينة اخرى حسب (مؤتمر النجف الاشرف).  وان بني هاشم و ال البيت رضوان الله عليهم لم يكونوا الاعربا حتى لو غير البعض لون عمامتهم البيضاء الى السوداء الهاشمية الموسوية.

الرسالة المحمدية السماوية عالمية كدعوة للإيمان بوحدانية الخالق ولكن عالميتها في الإيمان ويبقى الأشراف من ال البيت هم من تم اختيارهم من قبل البارئ لحمل راية الرسالة المحمدية ونشرها في العالم.  الجدير بالذكر ان المال والثروة كانتا وستبقيان لب جميع الصراعات والحروب ان كان على المستوى الشخصي بين الأفراد او الاحزاب  والدول وهناك حتى صراع قاري بين الفقر والغناء الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي للكوكب الأرضي في الليل أفضل دليل على تلك التناقضات. دول إفريقيا وبعض دول قارة آسيا تنام في ظلام دامس بينما نرى أماكن اخرى كقارة اوربا والولايات المتحدة واليابان ومناطق اخرى "منورة" كما يقول المصريون. كما ان تلك الدول أنظمتها بصورة عامة غير ديمقراطية وتحكمها الدكتاتوريات العسكرية وهي سابحة في الظلام. الديمقراطية واحترام التعددية والراي المخالف الاخر هو الطريق للتطور وفي كافة العصور والازمان.

هذه اللوحة نراه سياسيا كذلك وأعيد القول وكما نرى ان تلك الدول السابحة في بحر من الظلام لا تزال أنظمتها غير ديمقراطية احادية ويعبث العسكر المغامرين في مقدراتها .  التعددية واحترام الرئ المقابل والمجتمعات التعددية المدنية المفتوحة طريق نجاة البشرية وزوال الدكتاتوريات وسيبقى البشر من الأغنياء والفقراء يعيشون جنبا الى جنب دون اي صراع على لقمة العيش ابد الآبدين.

***

د. توفيق رفيق التونجي - الأندلس

٢٠٢٤

 

إن الإنسان عبر تاريخ علاقته مع الطبيعة والمجتمع، استطاع أن يطور في وجوديّه المادي والفكري معاً، فكلما تطورت وسائل إنتاجه مثلاً، تطور الإنتاج نفسه، ورافق تطور هذا الإنتاج تطور بالضرورة في العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما يتجلى التطور في الإنسان الفرد نفسه، أي في نفسيته وأخلاقه وقيمه ونظرته إلى الحياة ومهاراته الشخصيّة واهتماماته وميوله وسلوكياته وغير ذلك. هذا ويعتبر التطور الأهم في حياة الإنسان قد حدث برأيي مع قيام الثورة الصناعيّة أولاً، ومع الثورة المعلوماتية الفضائيّة ثانياً، فعندما حقق الإنسان هذه الثورة بجهوده العضليّة والفكريّة المتراكمة تاريخيّاً، استطاع في الحقيقة أن يحقق بعمله هذا، تغييراً جوهريّاً في معطيات وآليّة عمل العالم الإنساني بكل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وذلك بسبب ارتباط الكثير من مؤسسات الحياة بهذه الثورة ومعطياتها، ممثلة بالحاسوب والنت والفيس والخلوي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المرتبطة بهذه الثورة بكل مفرداتها، التي أصبحت حاجات أساسيّة وضروريّة في حياة الإنسان بشكل عام.

إن هذه التكنولوجيا على سبيل المثال راحت تبرمج كل نشاط الإنسان من الهاتف الجوال الفردي، وصولاً إلى أجهزة المؤسسات التي يعمل بها، وهذا البرمجة ذاتها نالت سلوكيات وتفكير الإنسان أيضا كما أشرنا أعلاه، أي أن الإنسان ذاته تبرمج عقله ونفسيته ونشاطه بما يتفق وآليّة عملها ذاتها.

بيد أن مسألة التطور هذه بكل أطرفها وآليّة عملها، راح يتحكم بها تاريخيّا من سيطر على مَلْكِيّةِ هذه التكنولوجيا، وهي الطبقة الرأسماليّة عبر تاريخها، منذ أن كانت طبقة تقدميّة ناضلت من أجل حريّة الإنسان وكرامته وعدالته ضد نظام استبداد الملك والنبلاء والكنيسة، وصولاً إلى المرحلة التي تحولت فيها إلى طبقة رأسماليّة متوحشة في ظل النظام العالمي الجديد، الذي  تخلت فيه عن كل قيمها ومبادئها التي قاتلت ومفكروها من فلاسفة عصر التنوير من أجلها في القرن الثامن عشر، ليظل السوق الحر وقيمه ومبادئه، هو المشروع الأول والأخير في اهتماماتها. هذه السوق التي راحت تعمل من خلالها على تسليع الإنسان نفسه وتنميطه بما يتفق ومصالحها الأنانيّة الضيقة.

كيف حققت الطبقة الرأسماليّة المتوحشة نمذجة الإنسان وتذريره؟

عندما قامت الحركة الشارتيّة العماليّة (١٨٣٨-١٨٥٠) في بريطانيا، وكومونة باريس (1871) في فرنسة من قبل الطبقة العماليّة، التي راحت تعاني من ظلم الطبقة الرأسمالية لها وهي التي وقفت معها ضد نظام الاقطاع ممثلاً كما قلنا بالملك والنبلاء والكنيسة، أخذت الطبقة الرأسماليّة وبكل ما تمتلك من قوى ماديّة ومعنويّة تعمل على تغرب وتجهيل الطبقة العاملة والمستهلكة معاً عن التفكير في أسباب معاناتهم وقهرهم وغربتهم وتشيئهم، حتى لا يفكر بالقيام بأي ثورة ضد النظام الرأسمالي وطبقته المالكة. وعلى هذا الأساس سخرت الكثير من الفلاسفة والمفكرين للعمل من أجل تحقيق هذه المهمة من جهة، ومن جهة أخرى تشويه الفكر التقدمي الذي تبنته الطبقة العماليّة بعد أن أصبح لها مفكروها وأحزابها. وعلى هذا الأساس جاءت قيم ما بعد الحداثة، التي مثلها ورسم خرائطها ممثلو اقتصاد السوق الرأسماليّة المتوحشة، ممثلاً بحوامله الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، حيث  راحت هذه الحوامل تشتغل وبكل قدرة ودراية، وبما امتلكته من وسائل التأثير على المتلقي، إن كان امتلاكها للمال وتسخيره في كل ما يساهم في تحقيق أهدافها، كاستخدام وسائل الإعلام الموجه، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو شراء وتسخير الكتاب والمفكرين والأدباء والفنانين، أو استخدام السلطات التي أصبحت بيدهم وفي مقدمتها سلطة الدولة وقانونها وقضائها وعسكرها، لفرض منطق ونمط الاستهلاك أولاً، أي الاستهلاك المنتزع من صلته العضويّه بالمجتمع، على اعتباره استهلاكاً من أجل الاستهلاك، وليس استهلاكاً يهدف إلى تأمين حاجات المجتمع الماديّة والروحيّة، بقدر ما همه في ظل عصر الرأسماليّة المتوحشة تحقيق الربح المفتوح على المطلق، والمستعد أن يعلق المشانق لكل من لا يستطيع الاستهلاك، كما راحت الطبقة الرأسماليّة ذاتها تعمل عبر وسائلها ثانياً، على تذرير الإنسان وتشيئه وتنميطه، من خلال إبعاد تفكيره عن أي كتلة اجتماعيّة تحيط به أو نشأ فيها، وفي مقدمتها الأسرة والدولة، بل ومجتمعه الذي ينشط فيه، والنظر إلى نفسه وقدراته الذاتيّة فقط من أجل تحقيق ذاته. وبناءً على هذا التوجه ها هي  "مارغريت تاتشر" عندما كانت رئيسة للحكومة البريطانيّة في ثمانينيات القرن الماضي تدعوا (الفرد) قائلة: (لا تنظر إلى فوقك أو تحتك أو إلى جانبيك، بل أنظر إلى داخلك، إلى أعماقك، حيث يكمن دهاؤك وقوتك وإرادتك والأدوات كلها اللازمة لتقدم الحياة. لن يوجد بعد اليوم قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحونك من المسؤوليّة المتعلقة بتبعات أفعالك.. هناك أفراد فقط يحيطون بك كباراً وصغاراً عليك ان تتعلم منهم وفقاً لمهاراتك وقدراتك الذاتيّة، وأنت وحدك من يتحمل نتائج ثقته بأعماله وما تختاره في هذه الحياة. إنه "مجتمع الأفراد").(1).

إن الهويّة بشكل عام تتحول وفق هذا التوجه هنا من (قيمة وجوديّة) إلى (مهمة). أي لم تعد انتماءً وتضحية وارتباطاً بالمجتمع والوطن، بل تحولت إلى وسيلة تشكل فرديّة أعضائه، والأعضاء يشكلون مجتمع التفرد وموقفهم من أعمالهم في هذا المجتمع.

هذا ونجد كاتبا وعالم اجتماع بريطاني يراقب عن كثب ما يجري في ظل النظام العالمي الجديد، وهو"أوليرش بيك"  واصفاً المجتمع الصناعي في مقال له بعنوان (فناء المجتمع الصناعي) قائلاً: (يصدر عن القواعد الاجتماعيّة في أفولها (أنا) عدوانيّة مرعوبة عارية تبحث عن الحب والمساعدة. وفي بحثها عن نفسها وعن تئام اجتماعيّ حنون تتوه بسهولة في غابة الذات.. ومن يفتش في غابة الذات لم يعد بمقدوره أن يدرك أن هذا الانعزال ... هذا الحبس الانفرادي للأنا، هو حكم جماعي أيضاً.) (2) .

إن الفرد الحقيقيّ أصبح في مجتمع النظام العاملي الجديد، أو عالم ما بعد الحداثة، هو الذي لا يلوم أحداً على ما يعانيّه من بؤس  وشقاء، ولا يبحث عن أسباب فشله إلا في كسله وبلادته، ولا يبحث عن حل إلا في الجد والاجتهاد. أي بالاعتماد على ذاته، لأنه لن يتوقع أن يساعده أحد، ولكنه يستطيع أن يتعلم - هذا إذا استطاع أن يتعلم في شريعة الغاب هذه، من تجارب الاخرين، دون أن ينتظر مساعدتهم. إنه عالم (قلع شوكاتك بيدك) كما يقول المثل العربي. وهنا يأتي الفرق بين المواطن والفرد:

التفريد المطلق للفرد وفقدانه جوهره الإنساني:

في ندوة عقدت مؤخرا في أحد الدول الأوربيّة تناولت مسألة عالم ما بعد الحداثة وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع ليس في أوربا فحسب، بل والعالم الذي قد طاله النظام العالمي الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، ومهندسة خرائط هذا النظام حاضراً ومستقبلاً. ونظراً لخطورة وأهميّة ما طرحته هذه الندوة من قضايا تهم مصير الإنسان، عملت على تلخيص أبرز ما جاء في أحد المداخلات الجادة التي تناولت طبيعة وآليّة النظام العالمي الجديد.

تعتبر الهندسة الوراثيّة اليوم، وتكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونيّة في الإنسان، أو التعامل مع الذكاء الاصطناعي، أو ما يسمى تكنولوجيا (النانو)، أو (علم التحكم الذاتي، من أهم القضايا التي يشتغل عليها قادة النظام العالمي الجديد، وعلينا أن نميز هنا بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان ذو الاحتياجات الخاصة ليعيش حياة طبيعيّة، وبين هذه التكنولوجيّا التي تهدف إلى تحويلنا كليّاً إلى ريبورتات بشريّة. إن الإنسان الذي سيتجاوز (البيولوجيا) التي أعطته إياها الطبيعة أو جبل عليها، وبعد الوصول إلى مرحلة التفرد المنمذج، لن يكون هناك أي فرق بين الإنسان والآلة، أو بين الواقع والواقع الافتراضي.

إن من المهم أن نفهم مشروع ما بعد الإنسان، كونه مرحلة انتقاليّة ما بين الإنسان وما بعد الإنسان، فالهدف النهائي هو التخلص تماماً من الإنسان كما نعرفه اليوم، وحينما نعرف السبب الرئيس وراء هذا التوجه وهو (العبث البيولوجي)، والانحراف الاجتماعي، وتذرير المجتمع، وفردنة الإنسان ونمذجته، من خلال الإعداد التربوي والبث الإعلامي الموجه لتحقيق هذا الإنسان ذي البعد الواحد كما يصفه "هربرت ماركوز" ولكل ما تعرض ولم يزل يتعرض  له خلال عشرات السنين يأتي تحضيراً لتقبله حياة ما بعد الإنسان لاحقاً،. فالأمر يتطلب الكثير من الإساءة الجسديّة والنفسيّة والأخلاقيّة لإرغام كائنات ذكيّة مثلنا تتقبل الانقراض، أو التحول الجنسي.

إن أغلب إن لم نقل كل الأحداث في النصف الثاني من القرن الماضي كانت مصممة من أجل تقريبنا لقبول هذا الواقع الفاسد. فسواء تقبلت هذا الأمر أم لا، فنحن نعيش داخل منظومة فائقة التحكم.

نعم.. وعينا بالواقع قد تم التخطيط له، وتسييره وتنفيذه بعناية تامة من أجل التحكم فينا وأخذنا إلى أية جهة يرغبون بها، وهذه الوجهة هي (ما بعد الإنسان). ولتحقيق ذلك كان عليهم العمل على:

أولاً: زعزعة ثقة الإنسان بنفسه وتجريده من إنسانيته، وزرع اليأس في نفسيته عبر كل الوسائل الماديّة والمعنويّة المتاحة.

ثانياً: تحطيم نواة العائلة من خلال تربية أفرادها عبر مؤسسات الدولة التربويّة والإعلاميّة والثقافيّة، كالتربيّة التي تقوم على تشجيع الاجهاض، والمثلية والتحول الجنسي، وتحييد القضاء، والايمان بالله والروحانيات.

ثالثاً: تشجيع الناس للعيش في المدن الكبيرة، بعيداً عن الأرياف والطبيعة، وتسميم الغذاء من خلال الصناعات الغذائية المعلبة، وتسميم حتى المياه والهواء، ونشر الأمراض بين أفراد المجتمع. أي العمل على تطبيق النظرية المالتوسيّة الجديدة.

رابعاً: نشر مواقع التواصل الاجتماعي بدل التواصل والتفاعل الحقيقين المباشرين بين الأفراد، ومن ثم تقديم كل ما يحرك أهواء وغرائز الناس، كالإباحيّة الجنسيّة والمثليّة والتحول الجنسي، والأكثر اهتماماً عندهم هو دفع الناس لممارسة الجنس بعيداً عن أية سلطة قانونيّة أو أخلاقيّة حتى ولو كانت  ممارسته مع الحيوانات.

خامساً: صنع الأزمات الماليّة والزيادات المستمرة بالضرائب ورفع الأسعار وخلق الأزمات المعيشيّة، وصنع الحروب، وتشجيع الهجرة الجماعيّة، ونشر القلق والاكتئاب والمخدرات والكحول، والخوف الدائم من الناس والمستقبل، وانعدام الأخلاق كدين جديد.

هذا ويمكن المواصلة بدون توقف في شرح كيف يتم التأثير في إبعاد الإنسان عن إنسانيته، من خلال نشر وتعميم وتجسيد أي شيء يبعد الإنسان عن مصادر قوته وأمانه واستقراره، أو تحقيق أي هدف إيجابي في هذه الحياة، أو أي معنى للحياة. والهدف الأكثر أهميّة عندهم هو إيجاد مجتمع ضعيف في وحدته وأخلاقه واتصالاته وصحته وعلمه أو معرفته الايجابيّة عن نفسه وعن واقعه ومن يتحكم به.

إذاً إن الهدف هو صنع جيل كامل من الكائنات البشريّة الهجينة أو المهجنة. فالذكورة هنا يجب أن تبقى محط هجوم نفسي وأخلاقي وثقافي وبيولوجي، ودفع هذا الإنسان المراد نمذجته وتهجينه باتجاه الرياضة والترفيه والتخنيث من خلال رجال يميلون إلى تقليد النساء في مظاهرهنَ، وكذلك تعليم الأطفال في المدارس بأن الجنس (ذكر وأنثى) هو خيار يمكن تحقيقه بالتحول الجنسي.

إن كل ما جئنا عليه هنا ليس حركة طبيعيّة، بل وجدت بأوامر فوقيّة ليس لها أي دخل بحريّة الإنسان في التعبير عن جنسه، أو حقوقه المدنيّة، بل هي أجندة مدروسة وبعناية شديدة ذات بعد شرير وفاسد لتغريبنا وتُصالنا إلى مرحلة ما بعد الإنسان، وجعلنا نتساءل عن أهم شيء في هويّة الإنسان هو جنسنا البشري.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

............................

الحداثة السائلة، "زيجمونت باومان" – ترجمة حجاج أبو حبر- مكتبة بغداة- الشبكة العربيّة للبحاث والنشر- 2016. ص7و8.

1-  الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص75.

2- الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص85

أبدأ من حيث انتهى أستاذنا د.محمد الرميحي، حين قال إنه «لا يمكن الاحتفاظ بالتفاحة وأكلها في الوقت نفسه». وقد سألت نفسي وأنا أقرأ مقاله البديع (البيان، 19 فبراير - شباط): هل هناك حقاً من يريد الاحتفاظ بأي شيء وأكله في الوقت نفسه؟ والحق أن المسألة لم تخطر على بالي ولا تخيَّلتها، قبل هذا اليوم. لكنّ الرميحي يعتقد أن الذين يريدون الانضمام إلى قطار الحداثة، ويريدون –في الوقت نفسه- الاحتفاظ بهوياتهم القديمة، هم من هذا النوع. والسبب واضح: التقاليد والحداثة ليستا مجرد أوصاف نُطلقها على نمط المعيشة، ولا هي وظائف نضيفها إلى هذا النمط أو ذاك، كي يعمل بطريقة محددة. بل هي أنساق متعارضة، أو «بارادايم» حسب التعريف الذي اقترحه المفكر الأميركي المعاصر توماس كون. البارادايم نمط من العيش متفرد، إذا وُجد في مكان فهو يزاحم أي نمط آخر، حتى يُلغيَه أو يتلاشى أمامه، فكأنَّه يحتذي سيرة الشاعر الشهير أبي فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسُّطَ عندنَا

لنا الصدرُ دونَ العالمين أو القبرُ

حسب التصوير السابق، فإنَّ الحداثة ليست مجرد تنويع على نمط معيشة قائم، ولا هي منظومة وظائف أكثر تطوراً، تضيفها على النمط القديم، مثلما تُغيِّر بطارية السيارة مثلاً أو عجلاتها أو حتى محركها، بأخرى أحدث وأفضل أداءً. إنَّ وجود الحداثة يعني –بالضرورة– زوالَ التقاليد. لا يمكنك رؤية العناصر التي تشكّل نمطَ العيش الحديث، إلا إذا زالت نظائرها التقليدية. إنه كرسيٌّ واحد، يحتله واحد من النمطين، إما التقليد وإما الحداثة.

لكن ما علاقة هذا التعارض بأكل التفاح أو الاحتفاظ به؟

يقول الرميحي إنَّ شريحة واسعة من قومنا تريد الحداثة، لكنَّها في الوقت نفسه خائفة من هجر التقاليد. فهم مقتنعون تماماً بضرورة الانتقال إلى الحداثة، بل إن كثيراً منهم يعيشون في ظلها، بل ربما شاركوا في بناء أركانها، لكنَّهم –في موازاة ذلك– يشعرون بالقلق من احتمال خسارتهم ما اعتادوه في عصر التقاليد. ولهذا فإنَّ مشاركتهم في الحياة الحديثة أقربُ إلى أن تكون وظيفية براغماتية، بينما تبقى نفوسُهم مغروسة في بستان التقاليد، لا تستطيع مغادرته.

يمكن للإنسان أن يعيش على هذا النحو عمره كله: يمارس قناعاته التقليدية الخالصة في وقته الشخصي، بينما يلتزم متطلباتِ العيش الحديث في وقت الدراسة أو العمل. وكان المرحوم د.سعد الدين إبراهيم قد لاحظ منذ وقت مبكر أنَّ الرغبة في الحفاظ على ما يعتقد الناس أنَّه مظهر ديني قد تَحوَّل إلى نوع من الحياة المزدوجة: نسق حداثي في الصباح (وقت العمل) ونسق تقليدي في المساء (الوقت الاجتماعي). لا نتحدَّث هنا عن اللباس أو السلوكيات التي لها طابع شكليّ تظاهريّ، بل عن تلك التي تنمّ عن قناعات عميقة في نفس الإنسان، قناعة بقيم الحداثة أو التقاليد. وقد لاحظ د.سعد الدين محاولات حثيثة من جانب الطبقات الوسطى الحديثة، لإنشاء نوعٍ من تبادل أدوار بين النسقين، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الأعراف والتقاليد الموروثة، لكنَّهم في الوقت نفسه يتخلّون عن مصادر الإنتاج وأساليب العيش المرتبطة بتلك الأعراف.

وأشار د.الرميحي في مقاله آنف الذكر، إلى أنَّ كثيراً من العرب يستشهدون بقول من قال إن الصين واليابان حافظتا على تقاليدهما الثقافية والاجتماعية، في الوقت الذي ذهبتا بعيداً في تحديث المجتمع والاقتصاد، أي إنَّهما –خلافاً لرأي الرميحي– أكلتا التفاحة واحتفظتا بها في الوقت نفسه. لكنَّه يؤكد أنَّ هذا القولَ ليس سوى محاولة لتبرير الوقوف عند أطلال الماضي. فيابان اليوم مثل صين اليوم، تختلف عن ماضيها اختلاف الليل عن النهار.

المزاوجة بين التقاليد والحداثة مستحيلة في رأي الرميحي، وهي محاولة عبثية في رأي د.سعد الدين، وهذا رأيي أيضاً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

طُرحت موضوعة التَّقدم في المؤتمر الدوليّ الثاني للفلسفة، الذي عُقد بعنوان «الفلسفة ورهان التقدم النّظريّ والاجتماعيّ»- جامعة محمَّد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة، خلال يومي 6 و7 فبراير 2024، أشار أحد المتحدثين إلى عدم وجود مصطلح «التّقدم» في التّراث، ووجدتُها بداهة كبداهة عدم وجود اسم التلفزيون أو الإنترنيت مثلاً قبل القرن العشرين، وهذا شامل لكلّ الأمم والثقافات، لم تكن هنالك انقلابات حادة، كالثورة الصناعية مثلاً، كي تأخذ مفردة التّقدم معناها المتعارف عليه اليوم، ويعني الازدهار والرقي، قياساً بالماضي، والكلام ليس لي. أجده لأديب لُبنانيّ، وربّما كان الأقدم: «مِن الثّابت أنّ الانقلابات السّريعة، التي نشأت على أثر الحركات الصّناعيّة والاقتصادية، وما تبعها مِن عقائد سياسيّة واجتماعيّة، قد فتحت أبواباً كانت مقفلة مِن قبل، ووضعت على بساط البحث، تحت أنظار رجال الحكم والفِكر» (نسيم يزبك، التّقدم والثّقافة، مجلة الأديب 1/10/1943).

كان صوت الماضي صاخباً، وكأنه هو «التّقدم»، لكثرة الانكسارات، والقول يروى ليونس بن مسيرة الزَّاهد(ت: 132هجرية) «ما لنا لا يأتي علينا زمانٌ إلا بكينا منه، ولا ولَّى زمانٌ إلا بكينا عليه» (الزَّمخشري، ربيع الأبرار).

هذا، وفي عصرنا يأتي مَن يؤيد الزّاهد: «وقائلةٍ أما لك مِن جديدٍ/ أقول لها القديمُ هو الجديدُ» (الجواهري، قصيدة «أفتيان الخليج» 1979). مع أنّ التطلع إلى الأمام، في الشّأن الثّقافيّ، وما يُعرف بالحداثة، كان موجوداً، دون الإشارة إليه بالتّقدم، فما طلبه، على سبيل المثال، أبو نواس (ت: 195هجرية)، كان تقدماً، عندما انتقد الانكسار أمام الماضي: «قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَسْ»، فهذا تقدم غير مسبوق، وعندما يكتشف إخوان الصّفا (القرن الرَّابع الهجريّ)، الدَّورة الدَّموية الصُّغرى، فهذا تقدم.

سمى إخوان الصَّفا الرّئة «بيت الرّيح»، وقالوا عن مرور الدّم عبرها: «ويصل إلى الرّئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب، ويروح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ من القلب إلى العروق الضّوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذّي يسمى النّبض، ويخرج من القلب إلى الرّئة الهواء المحترق» (الرِّسالة الثامنة من الجسميات). ثم جاء بعدهم بثلاثمئة عام الطّبيب ابن النّفيس عليّ بن المحرم (ت: 687هجرية)، وشاعت له، بينما في التّراث الإسلاميّ لإخوان الصّفا، ومن مادة الرّسالة نفهم أنَّ كاتبها كان طبيباً.

طرح الأولون مصطلح التّقدم، لكنهم أشاروا إليه بالزّمن، فقال أبو القاسم الزَّجاجيّ (ت: 377ه) معرفاً التّقدم: «اعلم أنَّ أسبق الأفعال في التقدم للفعل المستقبل، لأنَّ الشَّيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق للوجود، فهو في التقدم منتظر، ثم يصير في الحال ثم ماضياً، فيخبر عنه بالمضي، فأسبق الأفعال في المرتبة المستقبل، ثم فعل الحال، ثم الماضي» (الإيضاح في عِلم النَّحو). فاللفظ موجود «التّقدم»، ويعطي المعنى المراد نفسه، لكنّه لا يُعبر عن معنى التّطور، وإن كان اللفظ الأخير نفسه، يستخدم للأحسن والأسوأ، عندما يُقال تطورت الحرب، أو المرض، ويشار إلى ذلك أيضاً بالتّقدم.

صحيح، أنّ الثورة الصّناعية سرعت بالتّقدم، حتى صار يحدث يوميّاً، لكن ليس معنى هذا أنّ الماضي، قبلها، كان ساكناً لا حراك فيه، إذا كان ذلك كذلك لظلت الكتابة على الجلود حتى آتت الثورة الصّناعية ثمارها، وكأنَّ الورق لم يُخترع مِن قَبل، ولا ندري بماذا نفسر ظهور الشِّراع، وما لعبه مِن دور في التّجارة، والعجلة ودورها في النّقل، عند العراقيين القدماء، هل هي غير موجودة لأنهم لم يعرفوا لفظ «تقدم» بمعناه «الازدهار والرُّقي» في لغتهم؟! فصاحبنا، الذي نفى وجود التَّقدم، كأنه أنكرها لفظاً ومعنىً، مع أنَّ الاثنين موجودان في التّراث الإسلاميّ، مِن تعبير لفظ «التّقدم»، وكذلك الحال بالنسبة لنقيضه «التَّأخر»، مع اختلاف دلالتهما بين زمانين.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

المقدمة: يعتبر الإسلام من الديانات الكبرى في العالم، وهو يتضمن جوانب دينية وتاريخية وقانونية وثقافية تميزه عن غيره من الديانات الأخرى، وعلى مر العصور، تطورت تيارات وتوجهات مختلفة داخل الإسلام، منها الإسلام التقليدي والإسلام التراثي والإسلام العلماني والإسلام السياسي.

والعولمة والحروب القائمة تعتبران من أكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم، وتؤثران بشكل كبير على التنوع الثقافي والديني في المجتمعات حول العالم. ومن بين الأديان التي تأثر بالعولمة والحروب هو الإسلام، أذ يثار تساؤل كبير حول مدى توحد الإسلام بوجه عام، أو هل هناك إسلام واحد أم إسلامات متعددة ؟.

وبالرغم من أن العلماء كانوا حراس الشريعة والمتحدثين باسم الدين، لم يعرف الإسلام السني فكرة المرجعية الواحدة المعروفة في الكنيسة الكاثوليكية أو التي تطورت لدى المسلمين الشيعة الإثني عشرية منذ نهاية القرن الثامن عشر.

أولاً: الإسلام التقليدي

تعتبر العقلية الدينية التقليدية من العوامل المهمة التي تؤثر على واقع المجتمعات المختلفة، وتلعب دوراً حيوياً في تحديد السلوكيات والقيم الاجتماعية للأفراد، في العراق مثلاً، يشهد المجتمع تداعيات كبيرة نتيجة لتأثير العقل الديني التقليدي الذي يحاصر الأفراد ويؤثر على تطورهم وتقدمهم الاجتماعي والثقافي.

أغلب الذين تصدوا للحديث باسم الإسلام في القرن العشرين من كتاب وقادة رأي عام وزعماء قوى إسلامية سياسية، لم يكونوا علماء بالمعنى الحرفي.

 كان تقي الدين النبهاني أزهرياً، كما تلقى حسن البنا وأبو الأعلى المودودي تعليماً إسلامياً أساسياً، أثروه فيما بعد بالجهد الشخصي، ولكن أغلب قيادات الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الإسلامية ناهيك عن عشرات الجماعات الصغيرة الجديدة، لم يكونوا من العلماء.

وفي الغالب المسلمون التقليديون متأثرين بالإسلاميين المتطرفين، لكنهم على الرغم من جهلهم بالكثير من الأمور الدينية، لا يتورعون بالدفاع بشراسة عن معتقداتهم والطقوس المختلفة كالصيام والطواف والسعي ورمي الجمرات والاستناد إلى معلومات اجتهادية، لإثبات الفوائد الصحية للصيام مثلا أو لتبرئة الإسلام من تهمة احتقار المرأة وهضمه لحقوقها،أو لنفي علاقة الحركات الجهادية بالإسلام.

وإن الاعتراف النوعي والهام جدا للداعية السعودي الشيخ (عائض القرني 1959) والذي قدمه من خلال اعتذاره للشعب السعودي عن "الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين"، هي في الحقيقة تجسيد لنهج الأصالة والمعاصرة في الإسلام من حيث وسطيته وسماحته وتيسيره وانفتاحه ورفضه للتقوقع على نفسه والانغلاق على مجموعة رؤى وأفكار محددة واعتبارها هي الاساس.

أتفهم أن مرد هذه المحاولات الحثيثة هو رغبة المسلمين التقليديين التوفيق بين الشعائر الدينية والعلم والعقل والترويج لما يعتقدون بأسلوب عصري، كما يفعل أرباب فكرة الإعجاز العلمي القرآني في مساعيهم لتحويل القرآن إلى كتاب علمي، ونسبة الاكتشافات العلمية إليه مسيئين بذلك إلى القرآن من حيث لا يشعرون.

ومما لاحظت من خلال نقاشاتي المتواصلة على مواقع التواصل الاجتماعي في المواضيع الدينية المثيرة للجدل، أو في كل انتقاد يوجه للتدين الشكلي أو سب الصحابة أو ما يتعلق بالشعائر والطقوس، هو أنهم يتسرعون في المهاجمة والسب والشتم واتهام الأخرين بالكفر والألحاد.

لذلك، يعد هذا الموضوع محور اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين الذين يسعون إلى فهم السبب وراء تلك التداعيات وتأثيرها على عموم المجتمع.

1- تعريف تداعيات العقل الديني- التقليدي:

تعني تداعيات العقل الديني- التقليدي الآثار المترتبة عن اعتماد الأفراد على المفاهيم والقيم الدينية التقليدية في اتخاذ القرارات وتوجيه سلوكياتهم، وتنسب تلك التداعيات إلى تقديس النصوص الدينية وتطبيقها على نحو حرفي دون تفكير نقدي أو تحليل للسياق الاجتماعي والثقافي السائد.

2- تأثيرات العقل الديني- التقليدي في الواقع المعاصر:

* الانقسام الطائفي: تعتبر العقلية الدينية التقليدية أحد العوامل الرئيسية وراء الانقسامات الطائفية المستشرية في بعض المجتمعات الإسلامية، فهذه العقلية تعزز التمييز بين الأديان وتثير الصراعات والتناحرات الدينية بين الطوائف المختلفة.

* قمع الحريات الفردية: يغلب في المجتمعات التي تسيطر عليها العقلية الدينية التقليدية تقييد الحريات الفردية وتقديم النصوص الدينية كسلطة مطلقة دون إعطاء مساحة للتفكير الحر والاختلاف في الآراء.

* تأثيرها على السياسة: قد يكون للعقلية الدينية التقليدية تأثير كبير على عملية صنع القرارات السياسية وعلى سير العمل السياسي بشكل عام، كما نراه اليوم في العراق.

ثانياً: الإسلام التراثي:

يعتبر الإسلام التراثي من التيارات المحافظة داخل الإسلام، ويتميز بالتمسك بالتقاليد الدينية والثقافية التي انتقلت من جيل إلى آخر، ويعتبر الإسلام التراثي القوانين الشرعية والفقه والسنة النبوية والتفاسير القرآنية والتراث الثقافي جزءاً لا يتجزأ من الدين الإسلامي، كما وتُّعتبر السلطة الدينية هامة في هذا التيار، أذ يعتمد الأتباع على العلماء والمشايخ في فهم الدين وتطبيقاته.

وهكذا نرى مثلا أن عالم الدين اللبناني السيد (محمد حسين فضل الله 1935- 2010) أكد وجوب اتصاف المرجع "بالرشد الفقهي والرشد الاجتماعي والرشد السياسي والرشد الحركي مع الاستقامة الأخلاقية والقوة الروحية".

في حين نجد أن السيد (علي السيستاني) وهو المرجع الشيعي الأكثر تقليدا بين الشيعة - في كافة أنحاء العالم- قد احتفظ فعلا "بالرشد الفقهي.. مع الاستقامة الأخلاقية والقوة الروحية"، لكنه لم يوافق على ممارسة أي نوع من "الرشد السياسي او الرشد الحركي" في مواجهة نظام صدام حسين أو النظام القائم في العراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين عام/ 2003.

أضف الى ذلك السيد (كمال الحيدري1956)، وهو مرجع شيعي عراقي وفيلسوف معاصر مقيم الآن بمدينة قم الإيرانية، وهو من أعلام حركة إصلاح التراث الإسلامي اشتهر بمناظراته العقائدية مع المذاهب والفرق الأخرى عبر برامجه التلفزيونية، يتعرض دوماً للمضايقات والنقد من قبل الكثرين.

وهناك الكثير من الناس يقلدون كبار رجال الدين ممن وصلوا الى الأعلمية، وتعتبر رسائلهم الدينية وطروحاتهم الفكرية مقدسة عندهم والخروج عنها هو خروج عن القرآن والسنة النبوية، ونتيجة لهذ التقليد الأعمى تولدت عندنا زيارات مليونيه لأضرحة أئمة ال البيت في العراق وأيران وسوريا وكذلك السعودية، التي قد لا تسمح بزيارة مقبرة البقيع إلا في أوقات محددة، مع منع النساء من دخولها.

1- الزيارات المليونية:

السؤال الذي يتقصى عن جواب هو: لماذا يعد الشيعة – الإمامية زيارة الأربعين الحسينية باعتبارها زيارة مقدسة وواجبة المقام ؟ ولماذا يولون الاهتمام بالسير مشياً على الأقدام والنذورات ومراسيم الحداد والعزاء؟.

الإجابة تندرج في الحكايات الشيعية - الروائية التي تحكي زيارة عائلة الإمام الحسين (ع) لقبره في ذلك اليوم، أثناء عودتهم من الشام، إذ كانت السيدات من بينهم سبايا، والرجال مكبلين من خلال قوة مسلحة مرافقة لهم.

"وفقًا لرواية أخرى، زار جابر بن عبد الله الأنصاري، الصحابي للنبي محمد (ص)، كربلاء وزار قبر الإمام الشهيد بعد مرور أربعين يوماً على استشهاده، ويُعتبر (جابر بن عبد الله الأنصاري) أحد الصحابة الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية، وهو معروف بحفظه وتعدده في الحديث، ومن بين رواياته الشهيرة "حديث اللوح" الذي ذكر فيه الرسول أسماء "أئمة الشيعة." قبل ولادتهم.

يقول المؤرخ العراقي الكبير/ علي النشمي 1956: يوجد قبر في منطقة الدورة ببغداد لحاخام يهودي اسمه اسحاق.. جاء شخص منافق ووضع قطعة قماش خضراء على القبر وكتب عليه الامام (اسحاق أبن الامام الكاظم) وصار مزاراً شيعياً !.

2- الطقوس المتوارثة:

تعد الطقوس الدينية التقليدية وسيلة للتعبير الاجتماعي والروحي للمجتمعات في العالم العربي والإسلامي منذ بزوغ الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، أذ تساهم في توحيد الانتماء الاجتماعي وبناء العلاقات القوية بين أفراد المجتمع ونشر قيم الخير والمحبة والتواصل.

بالإضافة إلى ذلك، تساعد في استيعاب العبر والدروس التي تحتاج إلى فهمها وتوضيحها بعيداً عن الخطابيات الفارغة.

والمقدسات جزء من تاريخنا العربي – الإسلامي، لكن انشغال الناس الدائم بتك المقدسات على طوال السنة سوف يؤدي الى عدم الاهتمام بالعلم والحضارة الحديثة، سوف نبقى نعيش بالخدر الدائم وبعدها نندثر ونموت كشعب حي صاحب أقدم الحضارات ومهبط الأنبياء.

 وللأسف الشديد، يتم رؤية بعض التبذير والمبالغة في تلك الطقوس من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تقديم وجبات ضخمة من اللحوم للضيوف، أذ يتم تنظيم المأدبات الكبيرة للزوار في العراق بمئات الملايين من الدولارات مجاناً، دون أن نعرف من هم المنظمون الفعليون لهذه الولائم.

وعلى الرغم من أن معظم سكان مدينتي / محافظة ميسان ينتمون إلى ذوي الدخل المنخفض أو الخريجين الباحثين عن وظائف حكومية، إلا أن العديد من متظاهريهم تعرضوا للقتل والاغتيالات الغامضة أو للإصابات العنيفة من قبل قوات مكافحة الشغب، وهم يعيشون في مجتمع يعاني من انتشار البطالة والتسول والفساد الواسع، وضعف الخدمات المقدمة لهم.

واليوم معظم نساء مدينتي مشغولة بـ ( الملاية) التي تجمع النساء في البيوت من أجل البكاء والعويل وترديد القصائد الحماسية التي تذم الامويين من أولهم الى أخرهم، والاول والثاني والثالث.. بعدها تقبض أجرها والاجر على قدر المشقة بالدولار الامريكي أذا كان صوتها شجي وجسمها ممشوق القوام.

وما إن حلت وسائل الاتصال الحديثة، حتى ازدحمت شاشات التلفزة ومواقع الإنترنت بدعاة جدد من كل الخلفيات والمستويات يشرحون للملايين المتعطشة شؤون دينهم، وفق اجتهاداتهم الشخصية التي لا تخلوا أحياناً من الخرافات والتطرف المقيت.

ثالثاً: الإسلام العلماني

يعتبر الإسلام العلماني التيار الذي يرى أن الدين يجب أن يكون منفصلاً عن الدولة والسياسة والقانون، ويعتمد هذا التيار على المنطق والعلم ويروج لفصل الدين عن السياسة وتجديد أفكار الدين لتتناسب مع التقدم العلمي والثقافي الحديث.

وكان أحد أسباب صعود المحدثين الجدد في الساحة الإسلامية كان بالتأكيد الفراغ المتسع الذي تركه تقلص وضعف مؤسسة العلماء التقليدية، والقوة المتسعة للدولة الحديثة، وسعيها إلى السيطرة على ما تبقى من مؤسسة العلماء.

لقد تأثر العديد من البلدان الإسلامية بالتيار العلماني الذي تبنى مبادئ الفصل بين الدين والدولة والقانون، وأدى هذا التأثير إلى الصراعات والاضطرابات في البلدان التي تسعى لتحقيق التوازن بين الدين والدولة والعلم، وعلى جانب آخر، يظل الإسلام التراثي حاضراً بشكل قوي في البلدان التي تحتفظ بالتقاليد الإسلامية وتسعى للحفاظ عليها.

يذهب المفكر الجزائري( محمد أركون 1928 -2010 ) إلى أنّ المُجتمع الإسلامي عرف العلمانية قبل المعتزلة عندما استولى الخليفة الأموي (معاوية بن أبى سفيان41-60هـ) على السلطة السياسية، ونصّب نفسه خليفة أو "أميرًا للمؤمنين".

واليوم علمانية تركيا بزعامة (رجب طيب أردوغان 1954م ) شكلا أخر من أشكال العلمانية الأسلامية، فهو ينادي بها بكل خطاباته منذ تعيينه رئيسا للوزراء في عام/ 2014، ألا وهي - العلمانية المحايدة - أذ تنظر إلى الدين على أنه أحد الحريات التي يتمتع بها الإنسان، وترى هذه العلمانية أنه من حق الإنسان أن لا يعتنق أي دين أو يعتنق أي مذهب، فيترك الناس أحرارا في اختيار الدين.

 ولكن لا شأن لذلك الدين في الدولة، أي يكون ذلك على نهج الأنظمة التي تتبنى العلمانية في العصور الحالية كما هو موجود في دول أوروبا أو أمريكا، أذ أن حرية التدين ومظاهرها الشخصية هي من أحد ما تقدسه الأنظمة الرأسمالية.

لقد قام - أردوغان - بالسماح بلبس الحجاب، ودعم بناء المساجد، وأن في هذه العلمانية لخطر أكبر من علمانية أول رئيس لتركيا (مصطفى كمال أتوترك1881- 1938)، أذ أن علمانية مصطفى كمال يدرك خطرها كل مسلم لأنها معادية علنيا لكل مظاهر الدين، أما علمانية أردوغان فقد يفتن بها المسلم لما لها من مظاهر إسلاميه على الفرد بسبب حرية التدين.

رابعاً: الإسلام السياسي

يعد الأسلام السياسي من الظواهر السياسية التي تحظى بشعبية كبيرة، وتقوم على فكرة أن الدين الإسلامي لا يقتصر فقط على الجانب الروحي والعبادي، بل يشمل أيضاً الجانب السياسي والاجتماعي، ومن هنا يعتبر الأسلام السياسي أحد التيارات الدينية التي تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بكافة أصولها في حكم الدولة، وكما قال المرشد الاعلى للثورة الاسلامية في ايران (علي الخامنئي 1939)..  (عدم البراءة من المشركين يلوث طهر البشرية ونقاء فطرتها، فالبراءة هي من اجل سمو الحركة الانسانية).

- أصول الأسلام السياسي:

تعتبر الشريعة الإسلامية الأساس الذي يستند إليه الأسلام السياسي، وهي تشمل مجموعة من القوانين والتوجيهات التي تنظم حياة المسلمين في كافة المجالات، وتعتبر الشريعة مقياساً للعدل والمساواة بين الناس، وتحدد الحقوق والواجبات التي يجب على المسلمين الالتزام بها.

- تاريخ الإسلام السياسي:

يعود تاريخ الأسلام السياسي إلى بداية الدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين، أذ كانت الشريعة تطبق بكل صرامة والقضاء مستقلاً عن الحاكم، ومع مرور الزمن، تغيرت الظروف وتبدلت الأنظمة السياسية، وانقسمت الدولة الإسلامية إلى عدة دول وإمارات صغيرة، مما أدى إلى ضعف الأسلام السياسي ودخوله في أزمة حادة.

- تجدد الإسلام السياسي:

مع بداية القرن العشرين، بدأت حركات الإصلاح الإسلامية في التنامي، وتجدد دعوات الأسلام السياسي، وظهرت جماعات إسلامية تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية، وباتت تشكل تحديات كبيرة للأنظمة السياسية القائمة.

- أستلام الإسلام السياسي للسلطات:

منذ الثمانينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، تمكنت بعض الحركات الإسلامية من الوصول للسلطة أو المشاركة في الحكم بشكل مباشر، مما أدى إلى تحقيق أهدافها السياسية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفق أفكار الطائفة الناجية، كما هو الأن في أيران، أو حكم السلف الصالح كما في أفغانستان.

أضف الى ذلك، محاولة) التحالف الإسلامي الكردستاني في العراق) لها ميزة تجعلها مميزة في  أداء الجهد السياسي الاسلامي، اعتبارا لمقدار الرشادة والوعي والاتقان، والاخذ بأسباب العصر وأساسيات الفترة الانسانية التي استلزمت ان يتحول الانسان فهماً ووعياً مع تغيرات العصر، التكنولوجية والتكنلوجية والثقافية، والتحول الى العولمة الثقافية التي جاءت بها ثورة الاتصالات والمعلومات.

وفي الطرف الأخر نجد هزيمة - التيار الجهادي - الأكثر غلوا وتطرفا والممتد من الجزائر إلى دولة الخلافة التي نادت بها القاعدة وداعش،  والذي وجد نفسه في حالة حصار سد عليه كل المنافذ على مدى عدة عقود قادمة.

خامساً: التجديد بالمذاهب الإسلامية مهمة ثقافية

منذ نهايات القرن التاسع عشر، ولد في مؤسسة العلماء المسلمين تيار إصلاحي بالغ التأثير، كان الإصلاحيون علماء على درجة عالية من المسؤولية حاولوا الاستجابة لتيارات التحديث والمحافظة على مرجعية الإسلام والشريعة.

وأمام عجز العلماء التقليديين عن الصمود أمام العاصفة التحديثية، شن الإصلاحيون هجوماً حاداً على الميراث الإسلامي التقليدي ورجالاته، وقد استلهم الإصلاحيون من أمثال محمد عبده، ورشيد رضا، وصديق حسن خان، وجمال الدين القاسمي، وطاهر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس، ومحمود شكري الألوسي، وعلال الفاسي، لفهم الميراث السلفي في شكل جديد ومعقد، ومن هنا عرفوا باسم السلفيين الجدد.

لذا يعتبر التجديد بالمذاهب الإسلامية مهمة ثقافية تتماشى مع روح العصر وتطلعات الجماهير بالدرجة الأولى لأنه يسهم في تحديث الفكر الديني والثقافي، ويسهم أيضا في التواصل مع العالم الغربي ودمج القيم الإسلامية مع القيم الحديثة.

ويعتبر التجديد في الدين الإسلامي محاولة لتحقيق التوافق بين القيم الدينية والثقافية والاجتماعية الحديثة، مما يسهم في بناء مجتمعات متقدمة ومتطورة.. وتكمن أهمية التجديد بالمذاهب الإسلامية بالاتي:

1- تعزيز الهوية الإسلامية: من خلال التجديد في المذاهب الإسلامية، يمكن تعزيز الهوية الإسلامية لدى المسلمين وتعزيز الشعور بالانتماء إلى الدين والمجتمع الإسلامي.

2- مواكبة التطورات الحديثة: يعتبر التجديد بالمذاهب الإسلامية وسيلة لمواكبة التطورات الحديثة في مجالات العلم والتكنولوجيا والثقافة، مما يسهم في تحديث المجتمع الإسلامي وإثراء حياتهم الدينية.

3- تحقيق التقريب الديني: يعمل التجديد بالمذاهب الإسلامية على تحقيق التقريب بين العقائد والمذاهب الإسلامية المختلفة، وبين الإسلام والأديان الأخرى، مما يساهم في تعزيز السلم والتعايش بين الشعوب.

4- تطوير المجتمعات: يساهم التجديد بالمذاهب الإسلامية في تطوير المجتمعات الإسلامية وتعزيز الاقتصاد والتعليم والصحة والبيئة، مما يعزز التنمية المستدامة.

5- محاربة التطرف والتشدد: يساهم التجديد بالمذاهب الإسلامية في محاربة التطرف والتشدد الديني عن طريق تبني نهج معتدل ومتسامح ومواكبة التحديات الحديثة.

وهناك وصف دقيق ومُبهر للحياة الدنيا من الأديب الروسي (فيودور دوستويفسكي1821-1881).

(لعلني سأموت عما قريب، حينها لن يتذكرني أحد ولن يقف عند قبري أي إنسان، سيقول بعض من كان يعرفني: كان شهماً طيباً، وسيقول البعض الآخر: كان وغداً حقيراً.

سوف تُطوى صفحتي من سجل الحياة ولن يبقى هناك أي أثر يدل على مجيئي، وستكون الحياة من بعدي كسابق عهدها لن يتغير فيها شيء، وستبقى الشمس تشرق كل صباح وتغيب كل مساء، الشيء الوحيد الذي تغير هو عدم وجودي).

سادساً: النتائج والتوصيات

أولًا: النتائج:

لاشك ان دين الاسلام هو الرسالة الخاتمة الى قيام الساعة، وهو اكثر دين في سرعة انتشاره على صعيد العالم.. والغالبية من المسلمين يتبعون دين الاسلام مثلما اُّنزل.. اما من شذ عنهم فلا اعتبار لهم.. العبرة باتباع الحق ولو خالف معتنق الاباء والاجداد.

لقد مرت فرق تفرقت عن الدين الحق واندثر الكثير منها، والان يعود اليه من الفرق الاخرى من عقل وابتغى الحق.. فالقران كلام بين واضح في اغلبه، وفي امور تفسر من قبل العلماء بالقران نفسه واخرى بالسنة النبوية المتفق عليها.

نعم إن تجديد الخطاب الديني أصبح ضرورة لكل عصر، ولكن ليس بالطرق القتالية، وإنما بالطرق الحضارية الصافية النقية من شوائب الماضي، والدعوات المشبوهة من المتطرفين.

ثانيًا: التوصيات:

1-  تكثيف جهود علماء الدين العقلاء في بيان الموقف من دعوات التكفير المخالفة للإسلام، من خلال إقامة الندوات، واللقاءات المتتالية  لبيان زيف هذه الدعوات الضالة.

2-  تفريغ بعض الباحثين لدراسة الأفكار المتطرفة، وخلق دراسة نقدية مبنية على أصول متينة من أجل أن يكونوا سدًّا أمام نشر الأفكار المنحرفة، والعمل على إنشاء مراكز ومعاهد تُعني بدراسة الفكر الإسلامي المعتدل، ووضع النظريَّات والرؤى الإسلامية المستقلة من جميع المتغيرات في الواقع العربي والإسلامي والعالمي.

3- تصحيح المسار الإعلامي للدعوة الإسلامية، بأنْ لا يتصدر للإعلام إلا من كان مؤهلًا لمواجهة الجمهور ثقافياً، فمن تصدَّر في غير محله كان وسيلة يمتطيها أصحاب الفكر الهدَّام للإساءة للإسلام.

4- عدم إبراز دور الحِقب التاريخية الإسلامية السابقة بصورتها السوداء للناس، وبيان كيف كان تمسكهم بدينهم وسيلة النهوض بين الأمم وليس العكس.

5-  نشر الثقافة الإسلامية الواعية في المراحل الدراسية الأساسية والعليا، كي يتكون لدى الجيل مناعة فكرية من الأفكار التخريبية.

6- إنشاء وسائل مرئية ومسموعة تعني بدراسة وعرض الرؤية الإسلامية الصحيحة من القضايا المستجدة، لتسدَّ الفراغ الفكري الذي يستغله أصحاب الفكر المنحرف.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

.....................

المصادر:

- علي بنيامين، "العقل الديني التقليدي: ما بين التقديس والتحسيس"، المجلة العراقية للعلوم الاجتماعية/ لورنس هار.

- كتاب / مشروع الفكر الاسلامي في القرآن/ علي الخامنئي / ترجمة محمد علي اذرشب / مؤسسة صهبا 2017 – مشهد،ص 260.

- كتاب/ النظم الإسلامية / حسين علي الساعدي/ الناشر دار الهدى للطباعة والنشر، 2017، ط1/ مطبعة الثقلين – النجف الأشرف.

- موقع الحرة/ رسالة الى المسلمين التقليديين/ منصور الحاج/ 29 أغسطس/ 2018.

- موقع الجزيرة/ كيف تحولت تركيا من العثمانية الى العلمانية؟ / د. فوزي أبو خليل/ 28 أيلول / 2018.

 

تُعد عضوية أيّ مجمع علمي ركيزة أساسية لنجاحه، ولذلك يُنتخب كأعضاء فيه نخبة من العلماء الذين أثروا المعرفة الإنسانية بمساهماتهم البارزة. ويعتبر المجمع العلمي مستودعا لأعلى المواهب العلمية المتاحة في الدولة ويتم دعمها واستشارتها بشكل عام في جميع الأمور المتعلقة بالتعليم والتربية والبحث والتطوير العلمي والتكنولوجي.

منذ فترة طويلة، أبديت اهتماماً كبيراً بإصلاح المجمع العلمي العراقي، وشاركت في تقديم الاستشارة لتعديل قانونه، وكتبت العديد من المقالات حول هذا الموضوع، بهدف أن يصبح المجمع ممثلاً حقيقياً لنخبة العلماء العراقيين، ولم يتوقف اهتمامي بالمجمع وبما يتعلق بعملية اختيار أعضائه ليومنا هذا.

ولقد علمت مؤخراً أن مجلس الوزراء شكل لجنة لإعادة النظر في القائمة القصيرة التي تضم المرشحين للعضوية، ولتقديم اقتراحاتها بشأن تشكيلة المجمع بأكمله. واستناداعلى ما اقترحته وكتبته سابقاً حول خصائص وأهداف وواجبات الأكاديميات أو المجامع العلمية الدولية، وحول التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي، وحول السبل التي تساعد على رفع مستواه كمرجعية علمية موثوقة، وامتدادا لها سأحاول في هذا المقال التركيز على شروط العضوية في المجمع كما أرى أنها مناسبة للعراق، متوخيا منها ان تكون مرجعا مفيدا للجنة في اختيارها للاعضاء.

ملاحظات حول القانون الحالي

يواجه القانون الحالي للمجمع بعض التحديات التي تُعيق قدرته على مواكبة التطورات العالمية مع ان هذا لا ينفي أهمية ودور المجمع في تعزيز العلم والثقافة في العراق، ونذكر منها:

1. عدم التوافق مع المعايير العالمية: لا يتماشى القانون الحالي كثيرا مع صيغ المجامع العلمية العالمية، مما يُعيق مشاركة المجمع في المحافل الدولية بشكل فعال. هناك نقص في الاستقلالية والحيادية للمجمع العلمي العراقي، حيث يرتبط إدارياً ومالياً بمجلس الوزراء، ويعين رئيسه وأعضائه بمرسوم جمهوري. هذا قد يؤثر على حرية البحث والتعبير والنقد العلمي، ويقيّد الفرص للتعاون مع المجامع الأخرى التي تتمتع بمزيد من الاستقلالية، حيث يركز القانون على اللغات والتراث والعلوم الإنسانية والاجتماعية، دون الاهتمام اللائق بالعلوم الطبيعية والتطبيقية والتقنية. هذا قد يحد من قدرة المجمع على مواكبة التطورات العلمية الحديثة والمساهمة في حل المشكلات الوطنية والعالمية.

2. التركيز على الوظائف الإدارية: يهتم القانون الحالي بالجانب الإداري أكثر من الجوهر العلمي، مما يُفقد المجمع دوره كمرجعية علمية شرفية. فمن  الملاحظ أن القانون الحالي يحدد تشكيلاته ومهامه بشكل مفصل ومعقد، وينظم العديد من الأمور الإدارية والمالية والخدمية والتنظيمية. وهذا قد يشير إلى تركيز المجمع على الوظائف الإدارية على حساب الوظائف العلمية والتي لا تختلف ولا تزيد عن مهمات جامعة او كلية، وقد يعكس عدم وجود رؤية واضحة ومتكاملة لأهدافه ومهامه العلمية. مثلاً، ينص القانون على أن المجمع يتولى تحقيق أهدافه بالوسائل المنصوص عليها في المادة (3) منه، ولكنه لا يحدد ما هي هذه الوسائل بشكل محدد ومنهجي، ويترك ذلك لتقرير هيئة الرئاسة والهيئة العامة. هذا قد يؤدي إلى عدم وجود استراتيجية علمية موحدة ومتسقة للمجمع، وقد يفتح المجال للتأثيرات السياسية والشخصية على اتخاذ القرارات العلمية. وبالتالي، قد يفقد المجمع دوره كمرجعية علمية شرفية، وقد ينحصر عمله في الجوانب الإدارية والتشريفية، دون أن يسهم بشكل فعال في تطوير ونشر المعرفة العلمية والثقافية في العراق والعالم.

3. غياب التخصصية: لا يُركز القانون على تنوع تخصصات الأعضاء، مما يُعيق قدرة المجمع على تغطية جميع مجالات المعرفة. ولا يعكس تقسيم التخصصات التنوع العلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم، ولا يشمل العديد من التخصصات الحديثة والمهمة في مجالات العلوم الطبيعية والطب والهندسة والطاقة والبيئة والفنون والإعلام والاجتماع… إلخ.

الهدف من إعادة النظر في العضوية

إعادة النظر في شروط العضوية في المجمع العلمي العراقي له هدف رئيسي وهو تطوير دور المجمع وتعزيز مكانته في المجتمع العلمي المحلي والدولي. من خلال هذه الخطوة ، يسعى المجمع إلى أن يصبح مركزاً يحفز الابتكار ويؤثر على صياغة القرار في مختلف حقول المعرفة والتكنولوجيا ، بما يخدم مصالح العراق ويحقق تنميته المستدامة. كما يهدف المجمع إلى تنشيط العلوم والآداب في العراق، وزيادة فرص حصوله على أفضل الخبرات العلمية عالميا، وتحويله إلى مركز يلهم العلماء ويثير رغبتهم في الاكتشافات العلمية.

مقترحات لإعادة النظر في العضوية

من بين المقترحات التي تم طرحها لإعادة النظر في عضوية المجمع العلمي العراقي، تبرز في المقدمة المقترحات التالية:

1. الاستعانة بعلماء من أكاديمية العلوم الأمريكية والجمعية الملكية البريطانية والمجامع العلمية العربية للاستفادة من خبراتهم ورؤاهم.

2. التركيز على الجوهر العلمي الشرفي والتقديري لعضوية المجمع ، بحيث تكون مرتبطة بالمساهمة الفعلية في تطوير العلوم والمعرفة.

3. تحديد شروط صارمة للعضوية تُركز على عدة معايير، منها: الإنجازات العلمية والخبرة العملية والسمعة العلمية والنشاطات العلمية والمساهمات في خدمة المجتمع والنزاهة والقابلية الفكرية والقدرة على تقديم خدمات للمجتمع العراقي وعلى تمثيله في المحافل الدولية.

4. تحديد عدد الأعضاء بما يتناسب مع احتياجات العراق وطموحاته في التقدم العلمي والتنمية المستدامة.

5. تنوع تخصصات الأعضاء ليشمل جميع مجالات المعرفة وخصوصا العلمية والهندسية والطبية، التي تعتبر أساسية لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

6. تحديد آلية شفافة لاختيار الأعضاء، تضمن العدالة والنزاهة والمساءلة وحق الاعتراض.

7. توفير الدعم المالي للمجمع لتمكينه من أداء مهامه وتحقيق أهدافه.

اخيرا، تعتبر إعادة النظر في شروط عضوية المجمع العلمي العراقي عملية ضرورية لجعله مُؤسسة علمية فعّالة تُساهم في نهضة العراق العلمية وتُعزز مكانته على الساحة الدولية. وبما يضمن تحقيق رؤية واضحة ومتكاملة للمجمع العلمي العراقي كمؤسسة علمية شرفية وفعالة ومؤثرة، للعضوية دور حيوي في تحقيق هذه الرؤية، فهي تمثل النخبة العلمية والثقافية في العراق، وتساهم في إثراء المعرفة والابتكار والتنمية في مختلف المجالات، وتعزز التواصل والتعاون مع المجامع العلمية العالمية، وتشارك في صياغة السياسات العامة المتعلقة بالشؤون العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ولذلك، فإن اختيار العضوية يجب أن يكون على أساس المعايير العلمية والأخلاقية والمهنية العالية، وأن يعكس التنوع والتخصصية والتميز في مختلف التخصصات العلمية والتقنية والإنسانية والاجتماعية.

***

ا. د. محمد الربيعي

مع تزايد الخطاب المناهض للمسلمين في الغرب، أصبح المزيد من الأوروبيين ينظرون إلى المسلمين على أنهم أقل من البشر. فيما يعترف العديد من الأميركيين عن طيب خاطر بأنهم يعتقدون أن المجموعات الأخرى من الناس "أقل تطوراً".

يمكن التفكير في علم النفس البشري كسلسلة من البرامج العقلية المتداخلة. يقوم أحد البرامج بتعريف الوجوه كأفراد نتعرف عليهم. والأخر هو الذاكرة العاملة، التي تسمح لنا بإجراء حسابات سريعة في رؤوسنا. تم ترميز هذه البرامج بواسطة التطور وتساعدنا على البقاء على قيد الحياة كل يوم. إنها مصادر براعتنا وتعاطفنا، وكل ما نحن عليه. هذه البرامج العقلية - المحفورة فينا جميعاً - هي أيضاً مصادر الرعب والألم.

تدور أبحاث "نور كتيلي" Nour Kteily أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة نورث وسترن Northwestern University "حول فهم واحد من أحلك البرامج العقلية وأقدمها وأكثرها إزعاجاً والمشفرة في عقولنا: التجريد من الإنسانية، والقدرة على رؤية إخواننا من الرجال والنساء على أنهم أقل من البشر. إن علماء النفس ليسوا غرباء على هذا الموضوع. لكن العرف السائد هي أن أغلب الناس ليسوا على استعداد للاعتراف بالتحيز ضد الآخرين.

ابتكر كتيلي وزملاؤه طريقة جديدة لقياس مستويات التجريد الصارخ من الإنسانية للمجموعات الأخرى. تم عرض صورة على المشاركين - وهم عادة مجموعات من الأميركيين البيض - لسلف الإنسان وهو يتعلم ببطء كيفية الوقوف على قدمين ويصبح إنسانا كاملا. ثم يُطلب منهم تقييم أعضاء المجموعات المختلفة - مثل المسلمين والأمريكيين والسويديين - بناءً على مدى تطورهم على مقياس من 0 إلى 100.

كثير من الناس في هذه الدراسات يمنحون أعضاء المجموعات الأخرى درجة كاملة، 100، بشرية بالكامل. لكن كثيرين آخرين يعطون درجات أدنى مما يجعلهم أقرب إلى الحيوانات. يقول كتيلي "لدينا هذه القدرة المذهلة على التعاون، هذا ما يجعلنا بشراً في نواحٍ عديدة. ومع ذلك، لدينا هذه القدرة على تجريد الآخرين".

ويفتح هذا الاستنتاج "صندوق باندورا" من الاكتشافات حول الموجة الجديدة من التعصب تجاه المسلمين والمهاجرين في الغرب وأمريكا، وما يمكن أن تجلبه.

يقول "نيك هاسلام" Nick Haslam عالم النفس البريطاني والخبير الرائد حالياً في العالم في هذا الموضوع: "لا يحدث التجريد من الإنسانية في زمن الحرب فقط. إنه يحدث هنا الآن، وفي كل يوم، يقع الأشخاص الطيبون الذين لا يعتبرون أنفسهم متعصبين متحيزين فريسة لها".

قياس التجريد من الإنسانية مع "صعود" الأمم

في سلسلة من سبع دراسات، استخدم كتيلي وزملاؤه "آدم وايتز" Adam Waytz الأستاذ المساعد في الإدارة والمنظمات، و"إميل برونو" Emile Bruneau من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology، و"سارة كوتريل" Sarah Cotterill من جامعة هارفارد Harvard University، مخطط "صعود الإنسان" Ascent of Man الشهير. لتحديد استعداد المشاركين لتجريد الآخرين من إنسانيتهم بشكل صارخ. يعود تاريخ الرسم التخطيطي، الذي تم تغييره وحتى السخرية منه على مر السنين، إلى رسم توضيحي للكتب التي نشرتها الشركة الأمريكية "الحياة الزمنية" Time-Life من ستينيات القرن الماضي. تُظهر اللوحة خمس شخصيات في صورة ظلّية تم تصويرها على أنها في مراحل مختلفة من التطور - من كائن منحني رباعي الأرجل في أقصى اليسار، يتطور ليصبح إنسان منتصب القامة في أقصى اليمين.

في دراستهم، طلب الباحثون من المشاركين ترتيب المجموعات المختلفة التي تقع على طيف قياس الجدول التطوري.

يقول كتيلي: "إنه بالتأكيد مقياس استفزازي" لكننا أردنا تصوير عملية التجريد من الإنسانية بأكثر العبارات الصارخة والواضحة قدر الإمكان. أردنا التأكد من عدم وجود طريقتين بشأن ما يحدث هنا.

شملت الدراسة الأولى 201 أمريكياً تم تجنيدهم من خلال شركة Amazon Mechanical Turk. عُرض على هؤلاء المشاركين مخطط صعود الإنسان على جهاز الحاسوب يضم ثلاث عشرة جنسية، أو مجموعة عرقية، ودينية مختلفة مدرجة أدناه، وطُلب منهم الإشارة إلى "مدى التطور الذي يعتبرونه العضو العادي في كل مجموعة".

قام المشاركون بذلك عن طريق تحريك شريط التمرير الموجود بجوار كل مجموعة إلى أي نقطة على مقياس صعود الإنسان. وقام الباحثون بتحويل الإجابات إلى ترتيب رقمي من 0 إلى 100، حيث تمثل 100 أعلى نقطة في التطور، وهي الصورة الظّلية المقابلة للإنسان "الكامل".

في النتيجة، احتل الأوروبيون والأمريكيون المركزين الأول والثاني برصيد 91.9 و91.5 على التوالي. وكانت ست مجموعات أخرى على بعد نقطتين من ذلك، وبالتالي لا يمكن تمييزها إحصائيا عن الأمريكيين: السويسريين، واليابانيين، والفرنسيين، والأستراليين، والنمساويين، والأيسلنديين. وسجلت خمس مجموعات درجات أقل بشكل ملحوظ: الصينيون (88.4)، والكوريون الجنوبيون (86.9)، والمهاجرون المكسيكيون (83.7)، والعرب (80.9)، والمسلمون (77.6).

يقول كتيلي: "هذه التصورات متطرفة، ولا تقتصر على الهامش، حيث يكون التأثير لشخص أو لشخصان. يوجد أعداد كبيرة جداً من الناس على استعداد لتجريد المجموعات الأخرى من إنسانيتها"

دراسة أخرى

لعب التوقيت خارج المختبر دوراً رئيسياً في دراسة أخرى. كان المؤلفون يجمعون بيانات حول تجريد الأمريكيين من إنسانيتهم للعرب باستخدام ميكانيكال تورك من أمازون Amazon’s Mechanical Turk  لبعض الوقت. ـ هو موقع ويب للتعهد الجماعي يمكن للشركات من خلاله توظيف عمال موجودين عن بعد لأداء مهام منفصلة عند الطلب وهو مملوك لشركة أمازون.

لذلك، عندما وقعت بعض الأحداث الإرهابية في الولايات المتحدة عام 2013 أتاح ذلك للباحثين الفرصة لجمع بيانات جديدة بسرعة لإجراء دراسة قبل وبعد والسؤال: كيف أثرت التفجيرات على هذه التصورات؟

وفي أعقاب تفجيرات بوسطن، تناقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع أن الإخوة الذين نفذوا التفجيرات كانوا مسلمين. ولأن المؤلفين لم يكن لديهم سوى بيانات حول تجريد العرب من إنسانيتهم (وليس المسلمين) قبل الهجمات، فقد ركزوا مقارنتهم على العرب. وكما لاحظ الباحثون في ورقتهم، على الرغم من أنه ليس كل العرب مسلمين وليس كل المسلمين عرباً، إلا أن الفئتان ترتبطان ارتباطاً وثيقاً في الولايات المتحدة ويتم التعامل معهما في كثير من الأحيان على أنهما قابلان للتبادل.

وبالنظر إلى هذه البيانات، قرر الباحثون إجراء دراسة مماثلة بعد التفجير مباشرة، ووجدوا ارتفاعًا في تجريد العرب من إنسانيتهم على يد الأمريكيين. قبل شهرين من الهجمات، صنف المشاركون العرب في مرتبة أدنى بنحو 10 نقاط من الأميركيين على مقياس صعود الإنسان. وبعد التفجير مباشرة، وجد الباحثون أن العرب حصلوا على مرتبة أقل بنحو 16 نقطة من الأميركيين. ومع ذلك، بعد ستة أشهر، عاد تجريد الأمريكيين من إنسانيتهم للعرب إلى مستوى ما قبل الهجوم تقريباً. من المؤكد أن الارتفاع المؤقت في التجريد من الإنسانية يشير إلى وجود علاقة سببية بين التفجيرات والمواقف تجاه العرب - على الرغم من أن الباحثين استطلعوا مجموعات مختلفة من الناس قبل الهجوم وبعده، ولا يمكن تحديد ذلك بشكل قاطع.

ويبدو أيضاً أن تجريد العرب من إنسانيتهم يتنبأ بمستوى دعم المشاركين لسياسات عامة محددة تجاه العرب. في أعقاب التفجيرات الماراثونية مباشرة، كان أولئك الذين جردوا العرب من إنسانيتهم إلى حد كبير أقل ميلاً إلى حد كبير إلى دعم الهجرة العربية وأكثر ميلاً إلى دعم ضربات الطائرات بدون طيار في الشرق الأوسط. كما ارتبط الدعم العام لـ "مكافحة الإرهاب العسكري" - تدابير مثل التعذيب واستهداف المدنيين والمقاتلين في المعركة - بالتجريد من الإنسانية، إلى جانب الرغبة في الانتقام. وقد تم قياس هذا الأخير من خلال دعم منشور على تويتر يؤكد أن "المسلمين قصفوا بوسطن. نحن ككوكب بحاجة إلى محوهم من هذا العالم. كل واحد منهم"

من هو الأكثر عرضة للتجريد من الإنسانية؟

ووجد الباحثون أيضاً ارتباطات مثيرة للاهتمام بين رغبة المشاركين في تجريد الآخرين من إنسانيتهم وأنواع شخصياتهم. ولتحقيق ذلك، طُلب من المشاركين إجراء اختبارات تقييم الشخصية المستخدمة على نطاق واسع.

وجدت الدراسات وجود علاقة قوية بين فعل تجريد الآخرين من إنسانيتهم و"توجه الهيمنة الاجتماعية" Social dominance orientation (SDO)، وهو ما يعكس اعتقاد الشخص بالفكرة الهرمية القائلة بأن بعض المجموعات متفوقة بطبيعتها على الآخرين. كان الارتباط الأقوى بين التجريد من الإنسانية والنوع الأكثر عدوانية من SDO، والمعروف باسم SDO-Dominance، مما يشير إلى أن التجريد الصارخ من الإنسانية هو وسيلة علنية لتحقيق رغبات بعض الأفراد في إبقاء مجموعات معينة في أسفل التسلسل الهرمي الاجتماعي.

ووجد الباحثون أيضاً ارتباطاً كبيراً ـ ولكنه أقل وضوحاً ـ بين التجريد من الإنسانية والاستبداد اليميني، والذي يتم تحديده من خلال الاحترام القوي لشخصيات السلطة والتقاليد الراسخة، فضلاً عن الحماس لمعاقبة منتهكي القواعد وأولئك الذين يرفضون الامتثال.

يرى وايتز أحد المشرفين على الدراسة أنه "من الصعب القول بأن ما نقيسه هنا ليس المواقف حول ما إذا كان شخص ما أقل من الإنسان". وتشكل نتائج هذا المشروع تذكيراً عاجلاً بأن التمييز الحقيقي لا يزال قائماً ويساهم في العنف السياسي. على سبيل المثال قيام مشجعي كرة القدم في أوروبا برمي الموز على اللاعبين السود أحياناً. يقول وايتز: "كمواطنين عالميين، يجب أن نشعر بالقلق".

يقول كتيلي: "يمثل هذا دعوة للعمل. لا أستطيع أن أقول إن هناك صلة مباشرة بين ما ندرسه وما سيحدث في عالم الأعمال غدا، ولكن بصرف النظر عن الاهتمام الاجتماعي الأوسع، إلى الحد الذي نحن نعلم أن الحرب وعدم الاستقرار يؤثران سلباً على الأسواق العالمية، ولا يبشر بالخير إذا تزايدت هذه التصورات".

التجريد من الإنسانية هو ثغرة عقلية تسمح لنا بإيذاء الآخرين

منذ آلاف السنين، كان البشر يشعرون بألم من القلق عندما يرون صورة ظلّية لقبيلة أجنبية تسير فوق التل. لا يزال لدينا هذا القلق داخلنا اليوم. تقول "سوزان فيسك" Susan Fiske عالمة نفس في جامعة برينستون وخبيرة بارزة في التحيز، إن "ردود فعل الناس التلقائية والمرتجلة تجاه الآخرين الذين يختلفون عنهم بشكل كبير تكون في كثير من الأحيان سلبية". وينطبق هذا بشكل خاص عندما نتعرض لهم بشكل سريع وبأقل قدر ممكن، كما نفعل اليوم عبر وسائل الإعلام. هذه الشرائح الرقيقة تنشط الصراع بيننا، وتُفعل المشفر في أذهاننا منذ فجر البشرية.

لو نظرنا إلى بعض الأحداث الأكثر مأساوية في تاريخ البشرية، سنجد كلمات وصوراً جردت الناس من سماتهم الإنسانية الأساسية. في الحقبة النازية، صور فيلم اليهودي الأبدي اليهود على أنهم فئران. وأثناء الإبادة الجماعية في رواندا، أطلق المسؤولون من الهوتو على التوتسي وصف "الصراصير" التي يجب إزالتها. وفي الحرب على غزة شبه بعض القادة الإسرائيليون الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية".

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أراد علماء النفس أن يفهموا كيف حدثت الإبادة الجماعية. وحصلنا على تجربة الصدمات الكهربائية سيئة السمعة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي الأمريكي الشهير "ستانلي ميلجرام" Stanley Milgram الذي اشتهر بتجاربه المثيرة للجدل حول الطاعة التي أجراها في ستينيات القرن الماضي في جامعة ييل University of Yale. وأظهرت مدى سرعة استسلام الناس للسلطة. وكانت هناك أيضاً "تجربة السجن" التي أجراها عالم النفس الأمريكي "فيليب زيمباردو" Philip Zimbardo الذي اشتهر بتجربته في سجن ستانفورد  Stanfordعام 1971، كان هدف زيمباردو من دراسة سجن ستانفورد هو تقييم التأثير النفسي على الطالب (المُعين عشوائياً) عندما يصبح سجيناً أو حارساً للسجن. والتي تعرضت لاحقاً لانتقادات شديدة لأسباب أخلاقية وعلمية. وأظهرت مدى سهولة قيام الأشخاص في مناصب السلطة بإساءة معاملة الآخرين.

 في جامعة ستانفورد  University of Stanford، أظهر "ألبرت باندورا" Albert Bandura أنه عندما يسمع المشاركون أحد المجربين يسمي موضوعاً آخر في الدراسة "حيوانًا"، فمن المرجح أن يعطوا هذا الموضوع صدمة مؤلمة. إذا كنت تعتقد أن القتل والتعذيب من المحرمات على مستوى العالم، فإن تجريد "الآخر" من إنسانيته يمثل ثغرة نفسية يمكن أن تبررهما.

ومن هذه التجارب، وتلك التي تلتها، أصبح من الواضح أنه "من السهل للغاية رفض قدرة شخص ما على رؤية شخص آخر بإنسانيته الكاملة"، كما يقول "آدم وايتز" Adam Waytz عالم النفس في جامعة نورث وسترن الذي يدرس كيفية تفكير الناس في العقول وتعاونهم مع زميله كتيلي. حتى الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 5 سنوات يرون العالم من منظور "نحن" مقابل "هم".

فقد أجريت تجربة حديثة على مجموعة من الأطفال بعمر خمس سنوات وأظهرت لهم سلسلة من صور الوجوه. الصور كانت لبشر يتم التلاعب بها رقمياً لتبدو مثل الدمى البلاستيكية، أو في مكان ما بينهما. وعندما قيل للأطفال إنهم ينظرون إلى أشخاص من أرض أجنبية، انخفض عدد الصور التي اعتبروها بشرية.

درست سوزان فيسك في جامعة برينستون Princeton university كيف يتم التمييز بشكل موحد ضد المهاجرين واللاجئين في جميع أنحاء العالم. لقد أجرت بحثًا في علم الأعصاب يظهر أنه عندما نجرد الآخرين من إنسانيتهم، فإن مناطق دماغنا المرتبطة بالاشمئزاز يتم تشغيلها وتتوقف المناطق المرتبطة بالتعاطف. وتقول إن الأمر الصادم في النتائج التي توصلت إليها كتيلي من تجربة "صعود الإنسان" هو أن "الناس على استعداد للاعتراف بأن لديهم مقاييس نسبية للإنسانية في رؤوسهم".

باستخدام أداة "صعود الإنسان"، وجد كتيلي ومعاونوه "إميل برونو" Emile Bruneau، و"آدم وايتز" Adam Waytz، و"سارة كوتريل" Sarah Cotterill أنه في المتوسط، يصنف الأمريكيون العرقيون الأمريكيين الآخرين على أنهم متطورون للغاية، بمتوسط درجات في التسعينيات. لكن ما يثير القلق هو أن كثيرين صنفوا المسلمين والمهاجرين المكسيكيين والعرب على أنهم أقل تطوراً.

يقول كتيلي: "عادةً ما نرى درجات تتراوح في المتوسط بين 75 و76 درجة بالنسبة للمسلمين". وهو ما أعتقد أنه كبير على نطاق متطرف للغاية. قام حوالي ربع المشاركين في الدراسة بتقييم المسلمين بدرجة 60 أو أقل. وهذا يدل على أن تصور "الآخر" يشبه قرصاً في أذهاننا يمكن تشغيله. سيكون هذا مثيراً للقلق بدرجة كافية، حول قدرة التجريد من الإنسانية على جعل العالم مكاناً أكثر عدائية. بالرغم من تمتع المشاركون في الدراسة بخيار تصنيف كل مجموعة على أنها 100 مثالية في الاستطلاع، إلا أن الكثيرون لا يفعلون ذلك.

يرتبط التجريد من الإنسانية بدعم سياسات مثل "حظر المسلمين"

في الأشهر التي تلت انتخاب دونالد ترامب رئيساً، أصبح من الشائع بشكل صادم أن يقوم الأمريكيون بتجريد المسلمين والمهاجرين المكسيكيين من إنسانيتهم بشكل صارخ - ثم استخدام العنف ضدهم. لقد بلغت جرائم الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة أعلى مستوياتها منذ عام 2001. في سبعينيات القرن الماضي، توقع عالم النفس الكندي "ألبرت باندورا" Albert Bandura أن التجريد من الإنسانية يؤدي إلى زيادة العدوان. واليوم، يجد كتيلي وزملاؤه شيئاً مشابهاً: إن الاستعداد للتجريد من الإنسانية على مقياس "صعود الإنسان" ينبئ بمواقف عدوانية تجاه العالم الإسلامي.

من المرجح أن يلوم الأشخاص الذين يجردون من إنسانيتهم المسلمين ككل على تصرفات عدد قليل من الجناة. وهم أكثر ميلاً إلى دعم السياسات التي تقيّد هجرة العرب إلى الغرب. إن الأشخاص الذين يجردون المجموعات ذات المكانة المتدنية أو المهمشة من إنسانيتهم يسجلون درجات أعلى في مقياس يسمى "توجه الهيمنة الاجتماعية"، وهذا يعني أنهم يفضلون عدم المساواة بين المجموعات في المجتمع، ويؤيدون سيطرة بعض المجموعات على مجموعات أخرى.

ويستمر الأمر: الأشخاص الذين يجردون الإنسانية من الأرجح أن يتفقوا مع عبارات مثل: "المسلمون هم سرطان محتمل لأمريكا وأوروبا"، و"الهجمات الإرهابية تثبت ذلك: المسلمون يشكلون تهديداً للناس في هذه البلدان".

في إحدى الدراسات، كان التجريد الصارخ من الإنسانيتة للمسلمين والمهاجرين المكسيكيين مرتبطا بقوة بدعم ترامب - حتى عند مقارنته بدعم المرشحين الجمهوريين الآخرين. وخلص كتيلي وبرونو إلى أن البيانات تتوافق مع فكرة أن الدعم لبعض المرشحين الجمهوريين (وترامب على وجه الخصوص) لا يأتي من خطابهم اللاإنساني، ولكن جزئياً بسببه.

يمكن لسياسات التجريد من الإنسانية أن تؤدي إلى بدء دورة من الانتقام والعداء

خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الجمهوري، قام كتيلي وبرونو باستطلاع آراء 200 مسلم في الولايات المتحدة، وطلبا منهم الرد على عبارات مثل، "دونالد ترامب يرى الأشخاص من خلفيات إسلامية على أنهم أقل من البشر"، ودونالد ترامب يفكر في الأشخاص من المسلمين "الخلفية تشبه الحيوانات."

في المتوسط، شعر المسلمون في العينة "بأنهم مكروهون بشدة ومجردون من إنسانيتهم من قبل كل من ترامب والأميركيين غير المسلمين على نطاق أوسع". على مقياس من 1 إلى 7، حيث تشير 1 إلى أن المسلمين لم يشعروا بالتجريد من إنسانيتهم على الإطلاق، و7 تعني أنهم شعروا بذلك بشكل مكثف، كان متوسط المجموعة 5.66، وهو ما يتجاوز علامة المنتصف بكثير. (تم العثور على نتائج مماثلة في دراسة متزامنة أجريت على الأمريكيين اللاتينيين).

لم يكن هذا الاستطلاع مصمماً ليكون ممثلاً على المستوى الوطني لجميع المسلمين الذين يعيشون في أمريكا. بدلا من ذلك، تم تصميمه لمعرفة ما يحدث داخل عقل شخص يشعر بأنه مجرد من إنسانيته.

يشرح إميل برونو قائلاً: "كانت العواقب وخيمة". كلما شعر المسلمون بتجريد ترامب من إنسانيتهم، كلما جردوا ترامب من إنسانيته. وكلما شعروا بالتجريد من إنسانيتهم، قل احتمال قولهم إنهم سيبلغون عن أنشطة مشبوهة في مجتمعاتهم.

ويتنبأ البحث بحلقة مفرغة. إن سياسة ترامب وخطابه يثيران الخوف ويجردان الأمريكيين المسلمين من إنسانيتهم. وهذا يثير رد فعل أكثر عنفاً من بعض الأفراد في المجتمع المسلم. ترامب يرد. وفجأة أصبحت أمريكا بأكملها مكاناً أكثر عدائية وأقل أماناً للجميع، هذا ما خلص إليه الباحثون في ورقة بحثية نُشرت مؤخراً في مجلة Personality and Social Psychology Bulletin.

يضيف برونو "نريد أن نكون حذرين في القول إن أي رد فعل عنيف قد نتوقعه لا يقتصر على الأقليات. في الواقع، أظهرت بعض أعمالنا السابقة أن الأمريكيين أيضاً، الذين يعتقدون أن المسلمين قد جردوهم من إنسانيتهم، هم أكثر عرضة لتجريد المسلمين من إنسانيتهم. نحن نفكر في أن هذا يعمل في كلا الاتجاهين."

يقول بن "هيرزيج" Ben Herzig عالم النفس السريري في منطقة بوسطن والمتخصص في علاج الأشخاص من المجتمع الإسلامي، إن بعض مرضاه يستجيبون بالانسحاب. "عندما يتم تجريد أفراد مجموعة مهمشة من إنسانيتهم، فإنهم يميلون للتراجع إلى دوائر مألوفة حيث يعرفون أنه سيتم قبولهم من قبل أشخاص مثلهم".

كيف يمكن كسر هذه الدورة؟

جزء من السبب الذي يجعل بعض الغربيين يجردون المسلمين من إنسانيتهم هو أنهم يعتقدون أن المسلمين يجردوهم من إنسانيتهم. لكن هذا الافتراض خاطئ.

في كتاب  "داليا مجاهد" Dalia Mogahed مديرة الأبحاث في معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم مع الأكاديمي الأمريكي وأستاذ دراسات الشرق الأوسط  في جامعة جورج تاون في واشنطن Georgetown University "جون إسبوزيتو" John L. Esposito وصدر عام 2008 بعنوان "من يتحدث باسم الإسلام؟ ما الذي يفكر فيه مليار مسلم حقاً" Who Speaks for Islam?: What a Billion Muslims Really Think تعرض مجاهد بيانات من 50 ألف مقابلة مع مسلمين حول العالم. وتجد أن العالم الإسلامي يكن إعجاباً كبيراً بالقيم الأمريكية. "ليس الأمر أن المسلمين لديهم آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة. لا يفعلون ذلك. لكنهم في الواقع يحبون حريتنا ويعجبون بها".

في إحدى الدراسات، أنشأ كتيلي وبرونو مقالاً مزيفاً في موقع "بوسطن غلوب" Boston Globe سلط الضوء على بحث مجاهد. عندما قرأ المشاركون، ومعظمهم من البيض، أن المسلمين معجبون بالفعل بالأمريكيين، فإنهم لم يجردوهم من إنسانيتهم بنفس القدر على مقياس الصعود. هذا التدخل أيضاً بسيط بشكل ملحوظ. لكنه فعال في تخفيض نسبة التجرد. إذا اقتبست نقطة واحدة من هذا المقال، فاجعلها كما يلي: المسلمون لا يحتقرون أمريكا. في نواح كثيرة، فإنهم معجبون بها. كما أنه يساعد في جعل الأميركيين البيض يفكرون في نفاقهم.

 في دراسة قيد المراجعة، وجد برونو أنه عندما يتم طرح أسئلة على الأشخاص البيض مثل: "هل جميع المسيحيين مسؤولون عن تصرفات الكنيسة المعمدانية ويستبورو؟" Westboro Baptist Church وهي كنيسة معمدانية بدائية أمريكية تشارك في خطاب الكراهية ضد الملحدين واليهود والمسلمين والمتحولين جنسياً والطوائف المسيحية الأخرى.

عند طرح هذا السؤال على بعض الأمريكيين البيض، يبدأ بعضهم يرى حماقة إلقاء اللوم على جميع المسلمين في عمل إرهابي واحد. يشرح برونو قائلاً: "إن النفاق غير واعٍ تماماً بالنسبة للناس". (الهدف ليس وصف الناس بالمنافقين، بل جعلهم يدركون ذلك من تلقاء أنفسهم).

بشكل عام، قال جميع الخبراء الذين تحدثت إليهم إن الطريقة الأولى لمكافحة التجريد من الإنسانية هي أيضاً بشكل محبط، واحدة من أصعب الطرق من حيث الإنجاز: ببساطة التعرف على أشخاص مختلفين عنا.

إنه أمر صعب لأن لدينا العديد من الفرص – عبر الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي – للحصول على شريحة رقيقة من التعرض لمجموعات غير مألوفة والتي تنشط برنامج "نحن ضدهم" في أدمغتنا. ولدينا فرص قليلة جدًا للقيام بالعمل الشاق المتمثل في اختراق تلك الانطباعات الأولى والتعرف على الروح البشرية في الداخل.

يقول كتيلي: "أنا لا أتفق مع فكرة أن المجتمعات المتعددة الثقافات يجب أن تكون برميل بارود". مثلما لدينا القدرة العقلية على تجريد الإنسان من إنسانيته، فإننا مجهزون بالبرامج العقلية التي تبني الثقة والتفاهم. الأمر متروك لنا لتشغيلها.

إن التجريد الصارخ من الإنسانية تجاه مجموعات معينة، والاعتقاد بأن مجموعات معينة من الناس أقل إنسانية من الآخرين  لا يزال قائماً\ن وهو أمر حقيقي ومنتشر على نطاق واسع، يثير للقلق ويحتاج إلى دراسة ومزيد من البحث. ويتطلب منا أن نسأل: كيف يمكننا تجاوز هذه التصورات المزعجة للغاية وتحسين المواقف والسلوكيات بين المجموعات البشرية؟

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

Étienne De la Boétie (1530 – 1563)

إحدى أوائل لوائح الإتهام ضد الحكم المطلق

نص: بيار روبار Pierre Ropert

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

تعد "مقالة في العبودية المختارة " إحدى أهم النصوص في الفلسفة السياسية، إنها تطرح تساؤلا بسيطا: لماذا نختار أن نطيع؟ عودة على نشوء كتاب لا يزال موضوع الساعة بعد خمسة قرون من نشره." لماذا نطيع؟ " هذا سؤال طرحه إيتيان دو لابواسي، لتكن مصمما على أن لا تخضع أبدا وستكون حرا ". في القرن السادس عشر، هذه الكلمات بدو لابواسي تضع الأسس لسؤال ظل منذ ذلك الحين يطارد حقل الفلسفة السياسية: لماذا نطيع؟ فإذا كان عدد المحاولات les essais والمؤلفات les ouvrages التي حاولت الإجابة على هذا السؤال عديدة، فإن "مقالة في العبودية المختارة " لإتيان دي لابواسي الصادرة سنة 1576 م يعد مرجعا لا غنى عنه في الفلسفة السياسية المتصلة بهذا الموضوع. في القرن السادس عشر مثل هذا الخطاب لا يبدو واضحا وإن كان دو لابواسي قد نجا من الرقابة، فلأنه كان حريصا على عدم توجيه نقد مباشر إلى النظام الملكي ولا يحيل من خلال الأمثلة المضروبة إلا إلى الفترة القديمة la période Antique. ، " مقالة في العبودية المختارة " يشتمل على لائحة إتهام حقيقية ضد الحكم المطلق، تطرح علاقات الهيمنة: شرعية السلطة الممارسة على السكان ومدى مقبولية هذا الخضوع للسلطة. الكتاب يفاجئك بجودته بآعتبار أن صاحبه شاب ولد في الفاتح من نوفمبر سنة 1530 بسارلات Sarlat في البيريقور le Périgord وقد نشأ في عائلة من القضاة، فإتيان لا بواسي ألف كتابه الأهم وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشرة من عمره ة قد زاول دراسة الحقوق في أورليون Orléans التي كانت معقلا للبروتستانتية الناشئة حيث تلتقي هناك النخبة المثقفة للمملكة وللولايات المجاورة.

1 – عمل مستوحى من القمع:

ما الذي يدفع شابا من البورجوازية الأورليانية orléanaise ليكتب نصا يعيد النظر في السلطة السياسية؟ " مقالة في العبودية المختارة " كتب على الأرجح حوالي سنة 1548 حسب ما قاله طالب الدكتوراه في الفلسفة السياسية، دافيد ميونيخ David Munnich في الحصة الإذاعية " ثلاثاء الكتاب " في مارس سنة 2010.إنها لحظة ثورة الضرائب la revolte des Gabelles في ألجنوب الغربي لفرنسا في غويان Guyenne والتي كانت ثورة عنيفة قام بها الفلاحون ضد سلطة مركزية كانت بصدد هيكلة نفسها. في تلك الفترة حاول الملك فرانسوا الأول توحيد الضريبة وهي أداء ملكي على الملح، إلا أن مناطق المستنقعات المالحة ومن ضمنها الغويان la Guyenne (التي تغطي الجنوب الغربي لفرنسا وعاصمتها بوردو Bordeaux ) تثور، فما يقارب العشرين ألف رجل ينضمون إلى ثورة الملح التي تم قمعها بشكل دموي سنة 1542 من قبل آن دي مونتمورنسي Anne de Montmorency . قبل هذا بقليل عرفت أوروبا فترة ثورية أخرى أشد عنفا وهي حرب الفلاحين في فرنسا وفي ألمانيا سنة 1525.يوضح دافيد ميونيخ أنه في النهاية كان القرن السادس عشر مضطربا وهو على الأرجح ما أثر في لابواسي أثناء كتابته لمؤلفه.

2- " إنه الشعب الذي يستعبد نفسه " إنقلاب في علاقات الهيمنة.

إن نص دي لا بواسي إنتشر أولا " في الخفاء سرا " في الدوائر الثقافية على إعتبار أنه تمرين أسلوبي أو " مقالا تحليليا لشاب " وهو ما جعله غير مسيء وبالتالي السماح له بالإنتشار. في القرن السادس عشر يأخذ هذا النص النقيض المطلق للتمثل الكلاسيكي للسلطة من خلال قلب مفاهيم الهيمنة والإستعباد،حيث يعتبر،تقليديا، أن الطاغية يسعى للسيطرة على الشعب وإستعباده. فحسب دي لابواسي إن المواطنين، في الواقع، هم من يتخلون عن سلطتهم ويسمحون له بأن يسيطر عليهم ويحرمون أنفسهم من حريتهم ليعطوها إلى الطغاة. " إنه الشعب الذي يستبعد نفسه والذي يقطع حنجرته ويختار أن يكون قنا أو أن يكون حرا ويتخلى عن حريته ويفضل نير الطاغية في حين أنه بإمكانه العيش في ظل قوانين جيدة وتحت حماية الدولة / الدول، لكنه يختار أن يعيش في ظل إنعدام الإنصاف القمع والظلم فقط لإرضاء الطاغية.إنه الشعب الذي يقبل هذا الشر أو بالأحرى يطلبه." "هذا المؤلف مخالف تماما لجميع الأطروحات الكلاسيكية للفلسفة السياسية " كما يؤكد ذلك دافيد مونيخ. لا بواسي هو أول من قام بهذا الإنعكاس cette inversion بطريقة قوية جدا، والذي كانت له نتائج خطيرة جدا لأن ذلك مثلا يعني ببساطة أنه في نهاية المطاف لكي تتحرر، لا حاجة لك للتمرد،يكفيك أن تمتنع عن العمل لأنك عندما تكون نشطا تحرم نفسك من حريتك،ولكي تسترجع حريتك يكفي أن تتوقف عن الرضوخ." إنكم تضعفون أنفسكم حتى يكون [السيد] هو الأقوى، ويمسككم بقسوة شديدة باللجام الأقصر.و يكيل لكم من الإهانات التي لا تتحملها الحيوانات نفسها لو شعرت بها. بإمكانكم أن تتحرروا إذا حاولتم ذلك مجرد محاولة، تكفيكم فقط الإرادة. لتصمموا فقط على عدم الخضوع وستكونون أحرارا. لا أطلب منكم أن تطيحوا به، أن تقوضوا حكمه، فقط أن تتوقفوا على دعمه. وسترون أنه [السيد] مثل عملاق عظيم تحطمت قاعدته وذابت تحت ثقله فآنكسر. " إيتيان دي لا بواسي.

3 – " لأنه كان هو، لأنه كنت أنا " لا معنى لدي لا بواسي بدون مونتانيي Montaigne (1533- 1592)

تبقى " مقالة في العبودية المختارة " الأثر الكبير لدي لابواسي ويكاد يكون ذلك هو الوحيد، لولا أنه يبدو أننا عرفنا له نصا آخر هو " مذكرات بشأن مرسوم جانفي 1562 " إضافة إلى السونوتات les sonnets التي ظلت سرية. إن قائمة مؤلفاته بقيت محدودة لأنه توفي وهو شاب سنة 1563 عن عمر ناهز الثانية والثلاثين عاما، ربما كان ضحية مرض السل. فإذا كنا نعرف الكثير اليوم عن مسيرته، فهذا بفضل صداقة متينة أقيمت مع شخصية كبيرة في تاريخ الأدب الفرنسي: مونتانيي Montaigne. لقد إلتقى الرجلان عندما كان كل منهما قاضيا حوالي عام 1557 وقد تولدت عن هذا اللقاء صداقة عميقة أشاد بها مونتانيي مطولا في في مقالاته ses Essais . يقول الكاتب جون ميشال دو لاكومت Jean- Michel Delacompte في برنامج " ثلاثاء الكاتب ": " أعتقد أنه لولا لم يتحدث مونتانيي عن ديلابواسي لن يتحدث عنه أحد اليوم." وأن مؤلفاته وخاصة أثره الرئيسي " مقالة في العبودية المختارة "،فمن المحتمل أن تظل غير معترف بها، إن لم نقل غير معروفة [...] فوفاة دي لابواسي كان الشرط نفسه لكتابة المقالات les Essais . في إحتفائه بصداقته مع دي لابواسي خصص أفضل جزء من الكتاب الأول، الفصل 28 – " عن الصداقة " والذي يقع في منتصف الكتاب وهو فصل مشهور جدا. يقول مونتانيي: " في الصداقة التي أتحدث عنها، تختلط صداقتنا وتمزج فيما بينها بمزيج كوني لدرجة أنه تختفي الخيوط التي نسجتها فلا نجد لها أثرا. فإذا ما ضغط علي لأقول لم أحببته؟ أشعر أنه لا يمكن التعبير عن هذا إلا من خلال الإجابة التالية: " لأنه كان هو، كنت أنا " المقالات les Essais . كان مونتاني يعتقد أن هذه المقالات هي في الأصل المكان المناسب للعمل الرائع لصديقه العظيم، كما كتب ذلك من كان مكلفا بآستقبال أو بتلقي تحفة chef-d'œuvre صديقه الكبير: النص ذائع الصيت " مقالة في العبودية المختارة " ولكن مونتانيي وقع في عجلة من أمره....منذ سنوات تعرض البروتستانت في فرنسا إلى مزيد من الإنتهاكات التي بلغت ذروتها عام 1572 بمذبحة سانت بارتليمي Saint- Barthélemy . إن تحدي السلطة الملكية أصبح حيويا بشكل متزايد وأساسا من قبل المنارشوماك (مجموعة مناهضة للملك وللنظام الملكي ).les monarchomaques، وهم الكتاب البروستنتانيون الذين شككوا في مفهوم الملكية المطلقة وأدانوا الطغاة.منذ سنوات 1550، مازال مؤلف دي لابواسي مسمترا في الإنتشار تحت العباءة خفية ووجد له جمهورا هنا،ففي سنة 1574 نشر لأول مرة بطريقة مبتورة ومجهولة في صحيفة كالفينية un journal calviniste ثم مكتملا تحت إسم الكونترن "....contr'un " بعد ثلاث سنوات. منذ ذلك الحين لا يمكن لمقالات مونتانيي أن تكون علبة جواهر.l'écrin التي تخيل أنه وضع فيها نص " مقالة في العبودية المختارة ". لقد أصبح من المستحيل عليه نشر نص صديقه دون المخاطرة بأن يتم إعتباره أحد المساندين للبروتستينية. إنه بلا شك من أجل ذلك، يؤكد مونتانيي أن دي لابواسي قد كتب كتابه في سن الثامنة عشرة، أو في سن السادسة عشرة، (في حين هناك عديد المؤشرات تتركنا نعتقد أن دي لابواسي كتبه بعد ذلك بسنوات ) ثم حاول التقليل من أهمية النص بالتأكيد على أنه قد عولج في طفولة لابواسي بآعتباره تمرينا فقط وموضوعا مألوفا ومربكا، حسب المؤرخ يوان فينيست كورتاز قادرا Juan Vincente Cortes- Cuadra بالنسبة إلى مونتانيي يتعلق الأمر بإخراج " المقالة " من حالة كونها رسالة نقد جدلية ضد الحكم الملكي وفصلها عن السياق الذي نشرت فيه وتم له ذلك ببعض النجاح فقد ظلت منسية ولم تذكر إلا بشكل متقطع على إمتداد عقود.

4 – في إستمرار راهنية الأثر:

علينا إنتظار مجيء الثورة الفرنسية حتى يخرج عمل دي لا بواسي من متاهة النسيان دون أن يكون ملهما للكاتب جون بول مارات Jean- Jean-Paul Marat في كتابه " سلاسل العبودية Les chaînes de l'esclavage "  سنة 1774. في القرن التاسع عشر أعيد إكتشاف مقالة النقد un pamphlet  لدي لا بواسي آكتسبت سريعا مكانة العمل الفلسفي بفضل إعادة نشرها سنة 1835 من قبل الكاهن والفيلسوف فيليستي دو لامني Félicité de la Mennais. منذ ذلك الحين، سيفرض مفهوم " العبودية المختارة " بآعتباره أحد التساؤلات المركزية للفلسفة السياسية التي ستلهم العديد من الفلاسفة: بيرغسون Bergson، سيمون ويل Simone weil، فليكس جاتري Félix Guattari وحتى جيل دولوز Gilles Deleuze على وجه الخصوص، إهتموا جميعهم بفكر كاتب القرن السادس عشر. ضمنيا يعد دي لا بواسي واحدا من أوائل المنظرين للإغتراب وأصبح، للمفارقة، بالنسبة إلى ممثل النظام العام، مثقفا ومبشرا بالفوضوية والعصيان المدني. بعد أكثر من أربعمائة وخمسين عاما من كتابته لمؤلفه، مازالت الأسئلة التي طرحها دي لابواسي، مستمرة، بطريقة غريبة، ومن مواضيع الساعة. يعتقد البعض أن المجتمع الرأسمالي لا يمكنه الإشتغال دون آليات الهيمنة التي تمت المحافظة عليها بفضل التواطئ النشيط للمهيمن عليهم." نص مقالة في العبودية المختارة يأخذنا إلى عدة مسارات، كلها في النهاية طرق مسدودة يؤكد ذلك دافيد مونيخ، ليقودنا إلى هذا اللغز وهو أن نقول: لماذا لا تتمرد الأغلبية؟.

***

......................

 * نشر هذا النص في مجلة" فرنسا الثقافية France culture " بتاريخ 04 أفريل 2022، قسم الفلسفة.

إذا رأى ماركس أن تاريخ تطور المجتمعات البشرية هو رد مباشر على الظرف الاقتصادي، يؤكد الجيل التالي من الماركسيين (وعلى وجه الخصوص الألمان، وفي المقدمة مدرسة فرانكفورت وما تشعب منها) أن البنية الفوقية تؤثر أيضا بشكل جدلي على البنية التحتية. ولذلك أي حرب على الأرض تقود لحرب اقتصادية أيضا. بمعنى أن التضخم والورم الاقتصادي ليس هو السبب فقط ولكن يمكن أن يكون نتيجة.

ولنضرب أمثلة من الواقع السوري.

بعد انفتاح عام 2000 على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية اندلعت حرب للتحكم بمقاليد السلطة. وأدت لبث الذعر بين رجال الأعمال فأسرعوا بتهريب أموالهم إلى عدة دوائر منها تركيا والخليج العربي والصين. بمعنى أنها دوائر قريبة من ميدان المعركة أو صديقة للنظام ومتحالفة معه. وهذا يؤكد السيناريو الحقيقي لتدفق رؤوس الأموال وما ترتب على ذلك من نهضة عمرانية، ثم تنشيط للسوق والسباق على التأثير بالقرار السياسي.

وبعد أعوام عشرة من الرخاء والسباحة في بحيرة الرفاهية والاستجمام، عاد السوريون لاقتصاد الطوارئ الذي اختنقوا به ثلاث مرات. بعد انقلاب عام 1966.  ثم بعد اضطرابات عام 1979، وأخيرا مع بوادر الحرب الأهلية وتبعاتها.

ولكن هذا لم يفت بعزيمة عجلة الإنتاج السورية. وأصبحت معلومة تفكيك المعامل وتهريبها إلى تركيا مسألة معروفة. وبدأنا بشراء السلع السورية بالدولار، فقط لأن المضيف تركي بينما الحديد (أدوات الإنتاج ورؤوس الأموال واليد العاملة سورية ووطنية مائة بالمائة). وتوسع ذلك أيضا ليشمل القطاع الثقافي، فقد هاجرت أكثر من نصف دور النشر لتطبع من تركيا أو الشارقة أو ألمانيا.

وكذلك هو شأن البضاعة الصينية. وبالأخص النوع الجيد والمكفول. فهو من إنتاج رؤوس أموال سورية مهاجرة.

ويسمي كريس جايلز (باحث من لندن) ذلك باسم اقتصاد الضغط العالي (ويعتقد أنه أحد اختراعات بايدن ليحد من توسع ظاهرة ترامب). ولكن في الحالة السورية هو نتيجة ذعر وخوف رجال الأعمال من السياسة  والاقتصاد الموجه الذي تحتكره الدولة (تحت عدة مسميات). فالتجارة الحرة تتبع عدة خدع للسيطرة على وجدان المستهلك، لأهداف مالية مباشرة وأهداف سياسية مؤجلة. ومثلها التجارة المقيدة (الاقتصاد الليبرالي الجديد) يتبنى مجموعة من الإجراءات ليضمن لنفسه شيئين اثنين: الغطاء الجماهيري - فلا حاكم بلا محكوم. وليحمي هيكلية النظام - أيضا تتعدد الأسماء من نقابة إلى اتحاد إلى مؤسسة أو دولة ويبقى المسمى نفسه.

وأدناه مقال مقتبس من جريدة الاتحاد الإماراتية عن مشاكل التجارة الحرة. وهو ترجمة لخبر موسع نشرته النيويورك تايمز وتؤكد فيه أن لا أحد بمأمن من اندلاع ثورات محلية قد تعزل الأطراف عن المركز - في الذهن مشكلة ولاية تكساس مع الجدار العازل، وانفجار قطاع غزة بعد سنوات من الحكم الذاتي، وقبل ذلك أزمة إقليم بيافرا في نيجيريا (اقرأ عنه مذكرات ومقالات شيماماندا نغوزي أديشي).

***

صالح الرزوق

...........................

نص مقال النيويورك تايمز

لحظة حصاد محصول القطن، داخل أحد الحقول بولاية «كارولينا الشمالية».. مشهد يذكر الأميركيين بما آل إليه قطاع النسيج في بلادهم، المرتبط بمحصول القطن. الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي أثرت بقوة على قطاع النسيج الأميركي، على سبيل المثال، أدت اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، إلى إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات القادمة من كندا والمكسيك، وبدأت شركات كبرى متخصصة في قطاع النسيج نقل مصانعها من الولايات المتحدة إلى المكسيك، ما أثر سلباً على الإنتاج المحلي، وتفاقمت حالة قطاع النسيج الأميركي بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، حيث توجه تجار التجزئة إلى الصين وغيرها من الدول الآسيوية بغرض الاستفادة من العمالة الرخيصة. وحسب تقرير نشرته «نيويورك تايمز» فإن معدل التوظيف بصناعة الملابس في الولايات المتحدة الأميركية قد انخفض منذ عام 1994 بنسبة 65%. ويبدو أن شركات النسيج الأميركية التي صمدت هي في الغالب مملوكة لبعض العائلات، أو بالأحرى شركات قطاع خاص، وتقوم باستمرار بتوجيه الأموال إلى أعمالها لدفع ثمن المعدات الجديدة الباهظة الثمن والأتمتة لتظل قادرة على المنافسة. وينتج العديد منها سلعًا للجيش الأميركي، الأمر الذي يتطلب أن تكون بعض الملابس أميركية الصنع. وبلغة الأرقام، تشير الجمعية الأميركية للملابس والأحذية إلى أن 2.9% فقط من الملابس المبيعة داخل الولايات المتحدة في عام 2022، تم تصنيعها محلياً.

 

  والجنة والنار.. رمزيات..  دين في وطن؟

اهدموا الأسيجة التي بناها الفقهاء باسم المقدس دون حجج وبراهين، المنسوبة لصاحب الكتاب المنزل.. وتحدوا نظريات العمامة الخائبة في تقدير مقادير الزمن.. فلا تصدقوا حاكما اراد من السياسة مكسباً وطنيا للأخرين، وهو يعضكم بالدين.. فهم والله لا يعتقدون في جنة ولا نار، ولا حساب ولا حسيب.. ولا مهدي منتظر، ولا خضر يحضر،ولا مسيح يقين.. بل همهم قتل العقل لاماتة القانون الذي به تفرض على الناس الاستقامة وحكم العدل والقانون.. ومن حكم العدل وصل.. هكذا قالها حمورابي صاحب القانون الأزل.. وهكذا قالها الامام موسى بن جعفر الصادق لهارون الرشيد.. ومن كتب الماكنا كارتا البريطنية الخالدة الأول.. وقالها جفرسن كاتب الدستور والقانون الامريكي.. وغيرهم.. كثير.. أما نحن فالى الوراء در.

 أخترع الفقهاء المسلمون كذبة التاريخ حينما فسروا فلسفة الحياة والموت في العصر العباسي في النص المقدس وحولوه الى حقيقة اعتقادية عند المسلمين ورغبوا وأخافوا الناس بالجنة والنارلينعموا بالعيش الاخروي الرغيد،وعالم أخرللاشرار يعاقبون فيه على نارٍ وقودها الناس والحجارة وما هي الااساطير سومرية من ارض دلمون،وما عقيدة الموت والحياة سوى تصورات دينية فرعونية حولوها الى موازين للعدل الديني في الكون،وفي المسيحية كانت الابدية.. وكلمة جنة كان يرمز اليها بكلمة (يارو)،والنار بكلمة (سج).

وفي العصر العباسي الأول "132-232 للهجرة" خلدوا سلطة الخليفة المنصور العباسي الذي قال: "انما اناسلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده أطيعوني ما اطعتم الله"ليصبح الخليفة الحاكم الباقي بامر الله.. حتى ترسخت خلافته في الاذهان لتصبح عقيدة حينما حولها البويهيون والسلاجقة "334-447 للهجرة" الى قوانين فآماتوا فلسفة الدين...ثم اضافوا للآية الكريمة "اطيعوا الله والرسول.. آلوا الأمر منكم" وكلمة آلوا ليست من ولي بل عامة الناس وضعوها في المقدس ونادوا :" ان الاموات سوف يحاسبون غداً ان لم يطيعوا ولي الأمر الحاكم بأمر الله".. تحذيرا للعامة من السكوت على الخطأ واللاقانون لتصبح الدولة والسلطة ملكاً لهم دون قانون.. وضافوا اليها الجنة ومغرياتها من الرفاهية والجنس وتدمير حقوق المرأة،والنار وما فيها من عذابات السعير.. وما هما الا رموزا لا حقيقة لتخدير الانسان في العقيدة.. فأنشأوا لنا عقيدة أتكالية الدعاء والوهم ،حين ربطوا الحقوق والواجبات بأمر ولي الأمر.. حتى أصبحنا بمرور الزمن خارج التاريخ ولا زلنا.. نعتقد بولي الفقيه والمهدي المنتظر ليملأ الأرض عدلا ولا ندري اصحابه اليوم هم الحاكمون ولماذا لا يعدلون...

ونحن نسأل هل عاد واحد من الاموات منذ ملايين السنين لنراه بأعيننا في حياة الأدميين حياً في وطن "الحجة بالدليل كما قالها علي(ع) أمير المؤمنين ".. وهل شاهدنا ميتا يحاسب ويعذب في القبور والغيب لا يعلمه الا رب العالمين.. (لوكنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء،الأعراف188)...كم هو التحدي منه ومن الفقهاء على الله والدين والناس معاً.من هنا بدأت نكبة العرب والمسلمين حين حرفت مبادىء الدين القويم صاحب الوصايا العشر (151-153 سورة الانعام) الى تخريف.وكل من آمن بهم من المغفلين.. دون اعتراض من الاخرين لورودها بنص مقدس مكين كما يدعون باطلاً دون برهان حي او دليل...

الادبيات الاسلامية منذ البداية طرحت الاسلام عقيدة وسلوكا دون ان تدخل في العمق الفلسفي للعقيدة الاسلامية عندما أستبعدت التأويل العلمي واحلت محله التفسيرالفقهي الناقص المترادف لغةً وتثبيتاً في المعنى.. من غير المؤهلين له ممن سموا أنفسهم بالفقهاء الدينيين.. الذين جاءؤا بعصرٍ لم تكن فيه التسميات الحسية قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات لغوية ثابتة فأحلوا المترادفات اللغوية على انها ذات معنى واحد.. لتهذيب النفوس الدنيوية وليست للتهديد والوعيد بنار حامية يتلاقها الميت في البعيد.. واخافوه بعذابات القبر الكاذب الرجيم.ونحن نسأل من منهم دخل القبر وشاهد التعذيب..؟

نحن نقول ان هذه المسلمات بحاجة الى اعادة نظر وفق القانون، لانها عبارات فارغة من محتواها الواقعي ولم تصل الى حل المعضلات الاساسية للفكر الاسلامي التقليدي الذي أوقعنا بنظريات الخطأ والوهم.. مثل القضاء والقدر، والحق والعدل، وتفسير التاريخ دون معرفة فلسفة النص في التآويل.. لذا لم ينتج عن هذا المعتقد فكرا اسلاميا معاصرا يحل مقومات المعاصرة الحديثة شكلا ومضمونا.. فظل الفكر الاسلامي يعاني من اشكاليات تاويل النص لغير صالح الانسان المسلم حتى ادخلوه في الجهالات.. ولا زلنا نعاني التخلف واستغلال الدين تساندهم حكومات السلطة المنتفعة من تجميد العقل.. دون الأخرين..

واليوم تظهر لنا موضة جديدة وهي الأدعية والمزارات والصلوات على النبي في الخالي والبطال، ودعاء يوم الجمعة وما فيه من تخريفات حتى اقعدت الناس عن الهمة والتفكير حين أدخلوها في اليانصيبات والفزورات ومهازل المتقولين "من المرتدين "، ونسوا ان الصلاة في القلوب وليست في مظهرية المتقولين من الخونة والمارقين.الذي أستساغوا أكل الحقوق والتعامل مع الاخرالأجنبي اللامعتقد بدين ضد الشعوب وقتل المناضلين من العلماء والمفكرين اصحاب الحقوق.. ونقل اموال الوطن ووظائفه باسماء أبنائهم والمقربين من اجل التخريب.. لاما هكذا يستحق الرسول ودينه القويم.. التشويه وما جاءت هذه الهجمة المتخلفة الا كرد فعل لحركة نقد الاديان التي عرت المتدينيين من خرافاتهم الذين يغرون الناس بالمال وسلطة القتلة والمجرمين.

الدولة الاسلامية منذ بدايتها عام 11 للهجرة وحتى سقوطها عام656 للهجرة.لم تعرف القانون وسلطة التشريع ومن يخالفها يعتبر مرتدا على الدين مصيره السيف ولاغير.. بل اعتمدت سلطة القبيلة والقوة بلا قانون.. والفتوحات الباطلة ضد البلدان الاخرى بحجة نشر الدين بالقوة والقرآن يقول "لكم دينكم ولي دين" حتى ظلت الشعوب تكره العرب والاسلام كراهية التحريم ، وتقف شعوب بلاد ماوراء النهروالسند وايران في المقدمة، لذا سقطت تلقائيا ولم تنفعها ابدا،الاحاديث المزورة والاقوال الموضوعة لأنها ظلت بلا قانون يحمي الحق للمواطنين.. وهكذا سيسقط كل من يستبعد الحق والعدل والقانون.

بمجيء البويهيين عام 334 للهجرة ومن بعدهم السلجووقيين عام 447 للهجرة.. دخل الاسلام في معترك الوهم التام حين تحولت العقيدة الى مذاهب متناحرة من الفقهاء المتقولين. ومن خلال هذه المستويات ظهر لنا منهج الازدواجية بين السياسة والدين، وبين السلطان والفقيه، متمثلا في التعارض والتقارب بين الاثنين كما نرى عند الكليني 329 للهجرة " في المذاهب في كتابه الكافي المنتحل للأحاديث،وعند الماوردي 450 للهجرة صاحب المذهب المشجع على الاستبداد المتمثل بأهل (الحل والعقد) اذ لا يجوز لغير اتباعة من استلام السلطة دون رأي العامة.وما جر ذلك من انقسام المسلمين حتى أفرغ الدين من محتواه ونقله الى تخريف.. وحين الاعتراض قالوا:"وما تشاؤون الا ان يشاء الله" وكأنهم خلفائه دون الناس في الحقوق.

وتوالت نظريات الاختلاف وشق الصفوف بين المسلمين علناً عند الشيخ المفيد431 للهجرة والشيخ الطوسي (460 للهجرة) من جهة.. وبين الغزالي (505 للهجرة) وابن تيمية من جهة اخرى.. في شرعية الحكم حين ركز المفيد والطوسي على الفكر الامامي الاثنا عشري بينما يركز الفكر الاخر على الضرورات تبيح المحظورات ولا يجوز فصل الدين عن الدولة لانه يعني الفوضى.. وهنا ظهر التحدي بين الرأيين الفقهيين تحديا علميا وفكريا للمذاهب المخترعة منهما، والمقالة والمدرسة التي يجب اتباعها.. فضاع المسلم بين الاراء وتمزقت الوحدة الاسلامية واصبح الوفاق بين العقيدتين اساسيا ساق مجتمع المذاهب الباطلة الى ظهور تيارات الارجاء، والحكم العضوض وما تشاؤون الا ان يشاء الله حكما مبهما دون سند شرعي في التطبيق، حتى اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.فأستبد الضعف في المسلمين واصبحوا لايتمتعون بثقة المذهب المخترع منهم والدين معاً.. فكانت النهاية كما نراها اليوم.

فكيف نستطيع استعادة العلاقة بين السياسة والدين شرعا وتطبيقاً.. وهو يحمل الكثير من التعقيدات الفكرية والفقهية والسياسية التي اصبحت عقيدة عند الأكثرية من المسلمين تساندها سلطة المال والقوة ضد غالبية المسلمين.. لا يمكننا توضيح الصورة المبهمة والمظلمة بين الرأيين الا بتقديم منهج تاريخي علمي حديث لدراسة انماط العلاقة كما في التجربة الصفوية والتجربة العثمانية المتضادة فيما بينهما حين ثبتوا الدين بعقيدتين لا تلتقيان في المبادىء وقيم الدين أبداً.. هذه التجارب التي وضعت سدا عاليا وقويا بين الفكر العلمي،والرأي الفقهي الناقص في التطبيق.

لا نريد ان نوجه سهام الاتهامات المقصودة لأحد لكننا نقول وبكل تأكيد ان الحوزات الفقهية والازهروالزيتونة وفقهاء السلطة ومرجعيات الدين والمنهج الدراسي.. كلهم ساهموا بنكبة العرب الدينية حين حولوا المنهج الصحيح الى مناهج التخريف.. ويقف التفسير القرآني القديم والاقلام التي تلهج به ليل نهار خلف هؤلاء هي التي حولتنا الى كارثة التخلف الحديث.سنكتب آية واحدة أقرأها ايها القارىء ستجد قصدهم في التحريف من اجل السلطة لا الدين.

يؤمن المسلمون ان الدين عند الله هو الاسلام.. ولم تتعدد سوى الشرائع عبر الازمان.اذن لماذا الاختلاف بين الاديان وفي الدين الواحد دون بيان.. الم يكن ذلك مقصودا من السلطة والتابعين لها من الكهان.يقول الحق: وشرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا أليك وما وصينا به أبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتنى اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب،الشورى 13.

كفاية تغليف بالباطل الفقهي المقيت.. نحن بحاجة الى نشاط الاذهان من عقالها،وبداية التفكير في شئون الكون والانسان على اساس من الفكرغير المقيد،والعقل المتعطش الى المعرفة ايضا،على اساس من البحث العلمي لتفسير النص الذي هو اصل كل كشف صحيح.والابتعاد عما دعا الية فقهاؤنا دون تمييز من ان دراسة النص يجب ان لا تخرج عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير وحديث وفقه ولغة، وما الى ذلك ،ظناً منهم ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك هو مضيعة للوقت وصرف الانسان عن عبادة الله.. كل هذه الامور هي التي ادت الى الاستبداد السياسي حين وظف رجل الدين في خدمة السلطة فغاب النقد الحقيقي لواقع التغيير.

ان كل ما يطبع من مدارس الدين من التفسير وعلوم الفقه ومدارس الدين اليوم ومرجعياته الجالسة على الحصير... هو سبب نكبة المسلمين.

هنا العلة في تخلفنا الحضاري عن الأخرين.

***

د. عبد الجبار العبيدي

(والذينَ يَصلون ماأمرَ الله بهِ أن يُوصل ويَخشون ربّهم وَيخافون سوء العذاب) الرعد21

يُعرف الخوف على إنه اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف وهو إجهاد القلب بانتظار ماهو مكروه، وهو عاطفة إنسانية طبيعية وقوية وتأتي كاستجابة حيوية عاطفية عالية وكرد فعل لأمر ما استدعى وجود خطر أو تهديد.

والخوف موضوع البحث هو الخوف من الله الذي يحمل المؤمن على ترك المعاصي، فهو خوف مقترن بحب، فمثلا أنا أحب والدي وأخافُ من زعلهِ، لذا فهذا الخوف يجعلني أبتعد عن كل مامن شأنه أن يُغضب أبي، وهو الحال نفسه فأنا أحب الله وأخاف من غضبه هذا الخوف الذي يجعلني أبتعد عن كل مايُغضبه جلّ وعلا، فهو إذن خوف مقترن بحب وليس خوفا لاجل الخوف، فهذا النوع من الخوف لاتؤدي فلسفته إلى أنجاز بل هو خوف لاطائل منه سوى إقناع المرء لنفسه بإنّه أدى فريضة معينة ليجتنب العقاب وهذا مانسميه بلغتنا الدارجة (إسقاط فرض) .

وقد ورد الخوف بالقرآن الكريم في عدة مواضع وجاء بمعانٍ مختلفة فهناك جملة من الالفاظ تدل على حالة نفسية تعتري الانسان جرّاء سلوك إيجابي أو سلبي، ومن يتبحّر في كلام الله يجد إن الخوف قد ورد بمعناه اللغوي وألفاظه التي تدل كل واحدة منه على حالة معينة، وإن كان بينها قاسما مشتركا إلا إنها تحمل بعض الفروق الدلالية التي يقتضيها السياق القرآني، ونحن في بحثنا هذا إنما أردنا تسليط الضوء على بعض معاني الخوف كما جاءت في القران الكريم، ولعل أبرزها لفظ الخوف بذاته، ولفظ الخشيّة، فاللفظان ليسا مترادفين بل كل لفظ إختص بمعنىً مستقل وسنتناوله بشئ من التفصيل:

أولا (الخوف): وهو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده (الأمن) كما إن الرجاء توقع محبوب عن أمارة مظنونة ومعلومة قال تعالى (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) الاسراء57

ففي هذه الاية ورد الخوف كرجاء لبلوغ الرحمة وهذا الخوف إنما يقوّم به الله من شذَّ وابتعد عن السراط، فهو تخويف للحث على التحرز، قال تعالى (ذلك يخوّف الله به عباده) الزمر 16

فالخوف إذن لفظ واسع الطيف يحتمل الكثير من المعاني والدلالات التي بعضها يأخذ صفته المجازية فيما يأخذ البعض الاخر صفته الوضعية، وتحت بند الخوف تأتي عدة معان وإن ضمنت المعنى نفسه لكنها أخذت مناح شتى مثل:

- الحذر: وهو احتراز عن مخيف، يقال حذر وحذرا وحذرته وحذار: أي: إحذر وهذا اللفظ ورد في القرآن في سبعة عشر موضعا جاء أكثرها بصيغة الفعل كقوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) عمران 28

- الرعب: وهو الانقطاع من امتلاء الخوف، فيقال رعبته رعبا فهو رعب وهو شدة الخوف والفزع، وقد ورد هذا اللفظ في خمسة مواضع كقوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) آل عمران 151.

- الرهبة: يقال رهبت الشئ رهبا ورهبة وهي مخافة مع تحرز واظطراب ، وقد ورد هذا اللفظ في ثمانية مواضع منها خمسة بصيغة الاسم وثلاثة بصيغة الفعل كقوله تعالى (هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) الأعراف 154

- الروع: ويقال أصابه الروع (القلب) ورعته وروعته، وريع فلان أي فزع والاروع الذي يروع بحسنه كأنه يفزع، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بقوله تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) 74

- الفرق: وهو الفزع وشدة الخوف، فيقال فرق فلان إذا جزع واشتد خوفه، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الفعل وذلك بقوله سبحانه بوصف المنافقين (ولكنهم قوم يفرقون) أي يخافون التوبة 56

- الفزع: وهو انقباض ونفار يعتري الانسان من الشئ المخيف، وهو من جنس الجزع، والفزع مفاجأة الخوف عن حدزأو هجوم أو عارة أو ماشابه ذلك، وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه وقد ورد في القران الكريم في ستة مواضع (لايحزنهم الفزع الأكبر) الأنبياء 103

- الهلع: وهذا اللفظ أسوء واشد من الجزع، ولم يرد إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى (إن الانسان خلق هلوعا) المعارج19

- الوجل: وهو استشعار الخوف والتهيّب منه، فيقال وجل يوجل وجلا أي خاف وفزع كقوله تعالى (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الحج 35

- الوجف: وهو الاضطراب، ووجف القلب أي حفق ووجف فلان أي سقط من الخوف فهو واجف، وقد ورد هذا اللفظ في القران إالا مرة واحدة (قلوب يومئذ واجفة) النازعات 8

- الرهبة: وهي انصباب الى وجهة الهرب، وقد تكون هناك علاقة بين الرهب والهرب فصاحبها يهرب لتوقع العقوبة، ومن علامتها حركة القلب انقباضا وانبساطا (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) الأعراف 116

وبعد أن تعرفنا الى الفاظ ومعاني الخوف نأتي اللى لفظ آخر وهو موضوع البحث (الخشية) فما هي الخشيّة؟

إن المعنى الوضعي ل (خشي) هو الخوف فالخشية هي الخوف الذي يشوبه تعظيم وعلم ومعرفة ولذلك خصّ به الله العلماء والعارفين (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فالانسان لايتخلّق بالخشية إلا إذا كان عالما، فالعالم يعلم جيدا قدرات الله سبحانه وتعالى في إدارة الكون، وتفرده بالوحدانية دليل عرفان وامتنان المؤمن حقّا، ولذا نجد أغلب العلماء يتحلون بالايمان والخشية لان الثمرة من العلم الحق هي خشية الله جل وعلا والاقرار بربوبيته، وترتبط الخشية في الكثير من السياقات القرآنية بالتذكر والاعتبار باعتبارها أجمل ميزات الانسان، والتذكير نوعان:

 1- تذكير بمالم يُعرف تفصيله، بل جاء بالفطرة فقد فطر الله الناس على حب الخير ونبذ الشر، فمن جميل التذكير أن يذكرالخير في المأمور به وينهى عن الشر (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55

2- تذكير بما هو معلوم، لكن انسحبت عليه الغفلة والذهول فاستوجب التذكير والتكرار ليرسخ في العقول (فذكّر إن نفعت الذكرى سيذّكّر من يخشى ويتجنبها الاشقى) الاعلى9

وهذاالنوع من التذكير إنما يخصّ به الله من اعتمر قلبه بالايمان وحب الله فاستوجب المتابعة من الله جلّ وعلا بذاته ليذكره من خلال آياته القرانية الكريمة، أمامن ليس لديه أدنى استعداد لقبول التذكير، فهذا لاتنفع الذكرى معه، فمثله كمثل الأرض البور التي لاتُحسن الانبات!

إن التبحر في البيان القرآني يأخذنا إلى آفاقا أكثر رحابة وأغنى معنى وأدق تفصيلا، و لابد لكل منا أن يتفقه في الدين ليعرف مايحلّ له ومايحرّم، إن كان أكلا، شربا، لبسا، تصرفا، معاملة أو اعتقادا، وقد روي عن نبي الله عيسى بن مريم صلاة الله عليه وتسليمه إنّه امتدح أمة محمد فقال (علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء) فلم يقل من العبادة أنبياء لكثرة التهجّد، بل قال من الفقه وهذا مانحتاج إليه بالضبط التفقه بالدين (ليتَفقَهوا في الدّين وليُنذروا قَومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يَحذرونَ) التوبة 122

وإذا تأملنا الآية القرآنية الرائعة (ولمن خافَ مقام ربهِ جنتان)

وقد تعددت الروايات في سبب نزولها، لكن مايهمنا في البحث هو التفسير، فلماذا ذُكر الخوف وليس الخشيّة في هذه الاية الكريمة؟

والحقيقة فبما أن الخشيّة تخص العارفين والراسخين بالعلم، فالخوف هنا جاء ليشمل العامة من الناس العارف وغير العارف، وهذا المفهوم الشمولي للخوف إنما يخص عموم الناس، والخوف إذا عظم واشتد أوجب على الخائف إداء الفرائض، والالتزام بتعاليم الله، وترك المعاصي، والمسارعة الى كل خير ولهذا يكون الفوز والمكافأة جنتان، ومن يدعي إن الافراط بالخوف يأخذ إتجاها آخرا فقد كذب وهذا النوع من الاعتقاد سنده ضعيف وباطنه أوضح من ظاهره وهو التشكيك المغرض والضلالة المبينة والخوف من مقام الله يكون على نوعين:

أولا: الخوف الاعتقادي وهو الخوف الذي قصدته الاية (ولمن خاف مقام ربّه جنتان) فهو خوف التعظيم لله تعالى، والخوف من الوقوف والقيام بين يديه سبحانه جلّ وعلا وهذا ماتجسد في لفظ (مقام) والذي يأتي من القيام بين يدي الله جلّ وعلا، ويسمى هذا الخوف (خوف السرّ) لانه يمثل حالة الاختلاء بين العبد وربّه، وهو الخوف الذي يجعل العبد أوابا إلى الله عند وقوع الشدائد (وزكريّا إذ نادى ربّه رب لاتذرني فردا وأنتَ خير الوارثين) الانبياء89

وتحتمل كلمة (مقام) معنين إثنين في الاية الكريمة:

أولهما يتمثل بمقام الله سبحانه وتعالى في نفس المؤمن ودرجة إيمانه

وثانيهما: يتمثل بمقام المؤمن بين يدي الله جلّ وعلا يوم القيامة عند الحساب وكلا المعنيين يضفي نورانية على الاخر.

ثانيا: خوف الوعيد وهو الخوف من عقاب الله يوم القيامة، قال تعالى (ويخافون يوما كان شرّه مستطيرا) الانسان 7وهو أعظم أنواع الخوف واقواها تهيبا .

وكلا الخوفين يتجسدان في قول الله جلّ وعلا (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) ابراهيم14 فهذان النوعان من الخوف محمودين إذا لم يؤديا إلى القنوط واليأس، لان هذا الخوف دافعا للإنسان للعمل الصالح وجهاد النفس والابتعاد عن نواهي الله، قال تعالى (وأما من خاف مقام ربّهِ ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى) النازعات 40فشرط خوف الله كما بينتها هذه الايات الكريمة هو مخالفة هوى النفس ليكون المصيربعد ذلك جنة المأوى.

ولعل من أسباب الخوف من الله مايلي:

- الخوف من عذاب القب

- الخوف من الناروأهوال يوم القيامة

- الخوف من سكرات الموت

- الخوف من الحرمان من الجنّة

- الخوف من ظلم الانسان لاخيه الانسان

- الخوف من التقصير في ‘داء العبادات

- الخوف من الانجرار وراء ملذات الدنيا

- الخوف من الانشغال عن عبادة الله

- الخوف من زوال النعم

- الخوف من نكث العهود

- الخوف من الموت قبل التوبة

ولذا فإن الخوف من الله بمفهومه العام والخاص إنما يجعل الانسان محددا في تصرفاته وسلوكياته عارفا حدوده الدينية والدنيوية، فتتهذب جوارحه ويستكين قلبه، ويفارقه الحقد والحسد والرياء والنفاق من خلال استيعابه لعاقبة الأمور، ويظهر الخوف من الله جليا في كل جوارح الانسان مثل

- اللسان، بابتعاده عن الكذب والسب واللعن والنميمة.

- القلب، بتطهيره من البغضاء والعداوة والشر والحقد والحسد والكراهية

- الاكل، من خلال اختياره للحلال الطيب

- البصر، من خلال غض البصر وعدم النظر الى ماحرم الله.

- الاقدام، من خلال إختيار الطريق الصحيح وعدم المضي في المعاصي وهذا يدخل تحت بند جهاد النفس، فالعاصي تسوقه قدماه الى المعصية سوقا وكأنما سُلبت إرادته.

اليدين، وهي الابتعاد عن المال الحرام، كأكل مال اليتيم، ومال الغصب، والربا، والمال المسروق، والرشوة، والاختلاس، والسحت بكل أنواعه.

وهكذا نصل الى حقيقة مفادها إن الخوف والخشية من الله من أجمل الفضائل لأن رأس الحكمة مخافة الله، وهي من أجمل منازل القلب المفعم بالايمان والرضا، والخوف المحمود هو ماحل بين الانسان ومحارم الله فالخوف والخشيّة من الفضائل والاثار الإيجابية التي تأتي أ’كلها مرتين مرة بالاستقامة الدنيوية والأخرى بالسعادة الأبدية في رياض الجنان (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 112

***

مريم لطفي الالوسي

 

المقدمة: يعد العراق من البلدان التي تتميز بتعدد ثقافاتها وتشابك مكوناتها السياسية والدينية والعشائرية، وتعود هذه المكونات إلى عدة قرون من التاريخ، إذ تمتزج فيها القوى السياسية والدينية والاجتماعية لتشكل صورة معقدة للغاية، وتلعب المرجعيات الثلاث دورًا رئيسيًا في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، وتتأثر بدورها بتفاعلات داخلية وخارجية متعددة.

وتعتبر المرجعيات الثلاث في العراق، أي السياسية والدينية والعشائرية، من العوامل الأساسية التي تؤثر على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، فهذه المرجعيات تمتلك تأثيرًا كبيرًا في صنع القرارات السياسية وتنظيم المجتمعات والعلاقات الاجتماعية في العراق.

هدف البحث:

يهدف هذا البحث إلى دراسة تاريخ المرجعيات الثلاث في العراق، بدءًا من نشأتها وتطورها وحتى أيامنا هذه، ولو بشكل مختصر، مع التركيز على أثرها في الشأن السياسي والاجتماعي في البلاد.

كما تهدف هذه الورقة إلى دراسة تلك المرجعيات المؤثرة، وتحليل دور كل منها وتأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، مع ذكر استخدام المصادر لتقديم دلائل تدعم الأفكار المطروحة ولتوجيه القارئ نحو دراسات أخرى متعلقة بهذا الموضوع المعقد.

الجزء الأول: المرجعيات السياسية

من المعروف للجميع أن سياسة العراق الحالية تجري في إطار جمهورية برلمانية ديمقراطية فيدرالية ممثلة لكافة قوميات وديانات وطوائف العراق من خلال نظام التعددية الحزبية، أذ تمارس السلطة التنفيذية من قبل رئيس الوزراء لمجلس الوزراء (الشيعي) بصفته رئيس الحكومة، فضلا عن رئيس جمهورية العراق (كردي)، وتناط السلطة التشريعية في مجلس النواب العراقي، ورئيسه (سني).

إذ تلعب المرجعيات السياسية دورًا هامًا في الحياة السياسية في العراق، فهذه المرجعيات تتمثل في الأحزاب السياسية والتي تسعى للحصول على السلطة وتشكيل الحكومة الاتحادية من خلال الانتخابات البرلمانية التي تجري كل أربع سنوات.

 ويشهد العراق منذ سقوط نظام (صدام حسين المجيد 1937- 2006) في أبريل، نيسان/عام 2003 تشكيلًا متعددًا للأحزاب السياسية وتنافسًا شديدًا بينهم، ومن أبرز المرجعيات السياسية في العراق يمكن ذكر كتلة العراقية والتيار الصدري سابقاً، والإطار التنسيقي، تحالف تقدم، تحالف عزم، حركة امتداد، التحالف الكردي (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) حالياً.

وهناك مجالس المحافظات في العراق التي تعد بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، ولهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين الاتحادية التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات.

وتمتد الدورة الانتخابية لمجالس المحافظات العراقية لمدة أربع سنوات تبدأ مع أول جلسة لها، وفقا لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصادر عام /2008.

ويتكون مجلس المحافظة الواحد من عشرة أعضاء، يضاف إليه مقعد واحد لكل مائتي ألف نسمة لما زاد على مليون نسمة، وفقا لآخر إحصائية سكانية تم وضع من خلالها سجل الناخبين، على ألا يزيد إجمالي الأعضاء على35عضواً.

كما أن هناك فروعا أخرى تسمى (مجالس الأقضية) التابعة لكل محافظة، إذ تجرى انتخابات مجالس الأقضية في مرحلة ثانية خلال ستة أشهر من تاريخ إجراء انتخابات مجالس المحافظات.

الجزء الثاني: المرجعيات الدينية

-1 المرجعية الدينية الشيعية:

مصطلح يطلق على القيادة الدينية عند الشيعة الجعفرية - الإمامية / الاثنا عشرية في زمن غيبة الإمام الثاني عشر(المهدي المنتظر)، والمرجع هو عالم مجتهد يتولى أمور المؤمنين ويتصدى لرعاية مصالحهم الدينية والدنيوية كالقضاء وإقامة الحدود وغيرها نيابة عن الإمام المعصوم في زمن الغيبة الكبرى، ولا يتصدى لهذا المقام إلا من قضى عمره في خدمة العلم حتى نال المراتب العالية منه، وقطع شوطا طويلا في الساحات المعرفية المختلفة.

يعتقد الشيعة أن المرجعية في عصر الغيبة الكبرى تكون للفقهاء ولا يجوز لأحد غيرهم تولي ذلك.. بمعني أن على الشيعة مراجعة الفقهاء في المسائل الدينية والقضاء وإقامة الحدود وغير ذلك.

وعوداً على حالة التغيير بعد عام / 2003م، وما فرضه الظروف على المرجعية الدينية من مسؤوليات كبيرة، منها مراقبة العملية السياسية والعمل على رعاية النسيج العراقي، وهذا تطلب توازناً كبيراً في النظر إلى ذلك، إذ ان المسؤولية تحولت إلى قضية قلق من ردات الفعل الانتقامية، والحذر من استغلال صمت وصبر الأكثرية، فتحملت المرجعية ثقل المسؤولية وبدأت بتوجيه التوصيات المستمرة لرعاية العملية الديمقراطية التي ترعى جميع المكونات، بدءاً من إقامة دولة مدنية تُّحفظ فيها الحقوق من خلال الصندوق الانتخابي إلى عملية المحافظة على القرار المشترك وعدم تهميش الأخرين .

وعندما سُئل سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني عن شكل نظام الحكم أجاب: (النظام الذي يعتمد مبدأ الشورى والتعددية واحترام حقوق جميع المواطنين)، وأجاب في مورد اخر: (شكل العراق الجديد يحدده الشعب العراقي بجميع قومياته ومذاهبه والية ذلك هي الانتخابات الحرة المباشرة) .

2- المرجعية الدينية السنية:

لم تكن هي المرة الأولى التي يتم فيها محاولة إنشاء مرجعية دينية سنية في العراق، كانت أحدث تلك المحاولات في عشرينيات القرن العشرين، حينما حاول الإنكليز جمع أتباع السنة في العراق تحت قيادة (عبد الرحمن النقيب1841- 1927) رئيس المجلس التّأسيسيّ الملكيّ العراقيّ ورئيس أوّل حكومة عراقيّة في العصر الحديث ونقيب أشراف بغداد.

تواصلت تلك المحاولات في الفترات السياسية التالية، أذ استمرت الجهات الحاكمة في البحث عن شخص قريب منها لتكليفه بهذه المهمة، قد يكون السبب وراء ذلك هو أن هذه الفئة غير مهتمة بمسألة السلطة الدينية، أذ يعتبرون النصوص الدينية المنزلة والسنة النبوية كافية لفهم تعاليم الدين الإسلامي .

بالإضافة إلى ذلك، لم يكن لإنشاء مرجعية دينية لأهل السنة من قبل السلطات موافقة الغالبية العامة، نظرًا لعدم وجود حاجز نفسي أو شرعي بينهم وبين السلطات الحاكمة، وكانوا يرون أن الدولة العراقية ليست دولة دينية، وبالتالي فإن السلطات غير مرتبطة بهذه الفئة أو تلك.

على العكس من الشيعة الذين منعوا حكم مرجعيتهم الدينية من المشاركة في السلطة، إلا إذا تولوا الحكم ووجدوا قائداً شيعياُ.. لذا، كان موقف جمهورهم وعلمائهم معارضًا تمامًا لأي رجل دين يقترب من السلطة، حتى لو كان مدعومًا من السلطة نفسها، فهم يستبعدونه ويحاربونه ويطيحون به دينيًا واجتماعيًا، بالإضافة إلى أن اختيار مرجعيتهم الدينية يتم وفقًا لضوابط محددة.

بعد العام / 2003، حدث تغير كبير في الوضع السياسي في العراق، سواء لأتباع السنة أو الشيعة، لقد ظهر العنصر الطائفي بشكل حاسم في الحياة السياسية والاجتماعية، إذا كان لديك مرجعية دينية، فأنت مهم، رغم أن زعامات القبائل أصبحت معروفة لدى السنة أكثر من أي وقت مضى، وحاولت دمج العمل السياسي مع الزعامة القبلية.

 إلا أن العمل السياسي في العراق بعد هذه الفترة أصبح مطلوبًا أن يكون معتمدًا من الناحية الدينية، لكي يحصل على قبول من الجانب الآخر، نظرًا لتعدد المجتمعات والمكونات الموجودة، وليس وجود مجتمع واحد.

مع استمرار الفشل في تشكيل سلطة دينية للسنة بنفس طريقة الشيعة الدينية، أصبحت هناك العديد من الهيئات والشخصيات السنية التي تدعي أنها السلطة الدينية، مثل (المجمع الفقهي العراقي) و(دار الإفتاء لأهل السنة والجماعة)، و(جماعة علماء العراق)، و(دار الإفتاء في العراق) .

 أختار البعض من هؤلاء أن يكونوا تابعين لرئيس الوزراء العراقي الأسبق، مثل (الشيخ مهدي الصميدعي) و(خالد الملا)، اللذين لم تكن لديهم أي مشكلة في تأييد العملية السياسية ودعم كل خطوة تؤدي الى الوحدة الوطنية وللم الشمل العراقي، ويعتقد أن (عبد اللطيف هميم)، الذي تم منحه هذا المنصب سابقًا، قد حاز على استحسان السلطات والثناء عليها، كذلك عبد الغفار العباسي السلفي المعتدل والذي تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة، وأخيرا مشعان الخزرجي.

وتشكل تلك المرجعيات الدينية جزءًا هامًا من الهوية والتشكيل السياسي في العراق، فالعراق يعتبر مرجعية كبيرة للطائفة الشيعية الجعفرية، تعمل على توجيه المؤمنين وحماية حقوقهم، كما يتواجد في العراق أيضًا مرجعيات دينية سنية تمثل طائفة الإسلام السني، وتقوم بممارسة الأنشطة الدينية والقانونية وتلعب دورًا هامًا في توجيه المجتمع السني في العراق.

3- المرجعيات الدينية الأخرى:

تحتل المسيحية المرتبة الثانية في العراق بعد الإسلام من حيث عدد معتنقيها، وتليها ديانات أخرى مثل الصابئة والشبك واليزيدية والكاكائية والبهائية والشيخية والزرادشتية، ووفقًا للدستور العراقي، تعتبر المسيحية دينًا معترفًا به وهناك 14 طائفة مسيحية معترف بها ويسمح لها بممارسة شعائرها في العراق.

ويعبر المسيحيون العراقيون هم أقدم طائفة مسيحية في العالم، وغالبيتهم من الآشوريين الشرقيين الناطقين باللغة الآرامية، وهناك أيضًا أعداد صغيرة من المسيحيين الأرمن والتركمان والأكراد والعرب، يعيش هؤلاء اليوم بشكل رئيسي في المدن والمناطق الآشورية مثل بغداد والموصل والبصرة وأربيل ودهوك ودهوك وزاخو وكركوك وسهل نينوى في الشمال.

ويتلخص عمل تلك المرجعيات بالاتي:

- تعزيز الحوار والتفاهم: المرجعيات الدينية تقوم بتعزيز الحوار والتفاهم المعرفي والثقافي بينها، من خلال تنظيم المنتديات الحوارية والندوات التي تجمع بين الأئمة والعلماء من مختلف المرجعيات الدينية لمناقشة القضايا المشتركة وبناء الثقة وتعزيز التعاون المشترك.

- التصدي للتطرف: يجب على المرجعيات الدينية أن تبتعد عن التأثير السياسي والمساهمة في نشر الفكر المتطرف والتطرف الديني، ويُفضل أن يلتزم المرجعيات بتوجيهات الدين الحنيف والتعاليم الوسطية التي تدعو للسلام والتسامح وتجنب العنف الديني، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تدريب المشايخ والعلماء على القضايا المصيرية ومواكبة المستجدات العالمية.

- نشر ثقافة الوسطية والتسامح: يجب على المرجعيات الدينية أن تعزز ثقافة الوسطية والتسامح ونشرها بين الناس، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق توفير الخطب والمحاضرات التوعوية والتثقيفية التي تعزز التلاحم والوحدة والتآخي .

الجزء الثالث: المرجعيات العشائرية

واجه المجتمع العراقي تراكمات من التراث التقليدي تتنوع في أشكالها ما بين الأسرية والقبلية والعشائرية والطائفية والعرقية، وقد أثرت هذه التراكمات في أنماط الحياة والسلوك المجتمعي في البلاد على مدار سنوات عديدة على الرغم من جهود المجتمع المدني والثقافي في تحويل تمسك الشعب بفكرة الدولة بدلاً من الانتماء العشائري خلال مئة عام من تاريخ العراق الحديث.

واقع القبائل التي أصبحت بديلاً عن الدولة هو نتاج تحكم قوى غير مؤسسية في البلاد، وقد تشكل ظاهرة يصفها الباحث العراقي الدكتور (سلمان رشيد محمد لهلالي) بـ "ظاهرة التمركز الإثني والمذهبي والقبلي" والتي تتمثل في امتلاك الأشخاص الميل لتفضيل جماعتهم على باقي الجماعات دون سبب منطقي أو موضوعي، وبمعنى آخر، فإن الأفراد ينظرون باستعلاء ودونية إلى الجماعات والقبائل التي تتناقض معهم، معتبرين قيمها وتاريخها ورموزها وأنماط حياتها نمطًا من البدائية والتخلف والسذاجة.

في العراق، تعتبر القبائل وتفرعاتها العشائرية من أهم القوى التقليدية التي تعيق مشروع تحديث الدولة، أذ تحاول الطبقة الحاكمة المكونة من المثقفين والمفكرين التنويريين، والسياسيين المثقفين، والحركات الفكرية، وقوى المجتمع المدني، والأحزاب، فرض نموذج حديث للدولة.

ويوافق العديد من الباحثين العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية والعشائرية، على أن الطبقات الحاكمة في بداية تأسيس النظام الملكي وحتى العهد الجمهوري الأول (1921 -1963) تجاوزت خصوصية المجتمع العراقي وتحكمه، الذي كان يعتمد على القيم العشائرية والنسبية والمناطقية.

فقد سعت هذه الطبقات إلى تحديث الدولة وتمكينها على أساس التنظيم المؤسسي، على غرار المجتمعات الغربية التي لا تولي اهتمامًا للعشيرة والقبيلة، وبذلك، فإنها تحقق تمثيل حكومي أو تبدأ بالمشاركة في الحكم.

ويشير البعض إلى تجربة (مجلس الأعيان) في العهد الملكي السابق(1921-1958)، أذ تم إنشاء هيئة تمثيلية رمزية للمجتمع العشائري بناءً على طلب من البريطانيين الذين كانت لديهم وكيل سام على السلطة الملكية.

وحتى ثورة يوليو (تموز) 1958، وهي المرحلة التي شهدت نشأة العراق الحديث وانتقال السلطة من العثمانيين إلى العراقيين بدعم من بريطانيا، واكتشاف ثروات النفط، ونمو الدولة وتطور مؤسساتها.، ثم تلاها الفترة الجمهورية التي شهدت تصاعد الصراع على السلطة وظهور ظاهرة الانقلابات العسكرية والاغتيالات التي شاركت فيها الأحزاب القومية والعشائر على حد سواء.

أن العشائرية كانت مسيطرة على المجتمع العراقي في بداية القرن العشرين، أذ كان أكثر من 70 في المئة من السكان هم أبناء الريف وعشائرهم، بينما كانت نسبة سكان المدن لا تتجاوز بين20 و25 في المئة، ولا توجد فئة واحدة لأداره الدولة أو حزب واحد أو قائد ضرورة من أبناء المدن في ذلك الوقت.. وقد ظهر ذلك لأحقاً حينما سيطر أبن قرية العوجة / صدام حسين على دفة الحكم في بغداد مع أبناء عمومته عام/ 1980، وازاح رفاقه من الساحة السياسية، فأصبح العراق تديره القرية مرة أخرى .

وقبل ذلك كانت الجالية اليهودية أكبر جالية في بغداد مقارنة بالشيعة والسنة والمسيحيين. وقد كانت المدينة في عهد الدولة العثمانية تحتمي بالدولة وتحميها من سطوة العشائر المتنفذة، ولكن مع وصول البريطانيين، تحول دور المدينة إلى قاعدة رئيسية للحكومة البريطانية، وكان العديد من أبناء المدن هم الذين يشغلون المناصب الحكومية في بغداد والحكومة المؤقتة، بينما لم تكن للعشائر دور كبير في ذلك الوقت.

الجزء الرابع: الفقه المقدس

يتوجب علينا أن نفهم أزمة الفقه المقدس الموروث والتفسير الذي أصبح يشكل عبئًا علينا، وكذلك على العالم الإسلامي بأكمله، لأن البعض منه أصبح غير مناسب لثقافتنا وظروفنا الحالية.

 وتبدأ أزمة الفقه الإسلامي من خلل في المنهج، أذ ارتكب بعض الفقهاء خطأً عندما فهموا السنة النبوية على أنها مجرد حديث نبوي فقط، ففتحوا لنا الباب لنسلك فيه وأعطونا مفتاح الاجتهاد لكي نتحرك ضمن حدود وزمان بدايات الدعوة الإسلامية، بعيداً عن الظروف الموضوعية التي نعيشها.

ومن المعروف أن التشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله، وأعطانا الله هذه الحدود لنعمل ضمنها، إذا أردنا الخروج من هذه المشكلة، يجب أن نتفاعل بشكل جديد مع طروحات القرآن والسنة النبوية باستخدام معرفتنا الحالية.

ويجب أن نفهم بأنفسنا ولا نحتاج إلى أشخاص يفهمون عنا، وأي محاولة لتطبيق الفقه وأحكام الشريعة على أساس أن الإسلام هو مجرد موروث من كتب الفقه والتفسير وأن حدود الله تشريع ثابت، فإن هذا الاعتقاد فوضى وخداع وضياع للوقت والجهد.

وهذا الاعتقاد يعطي الانطباع أن الإسلام لا يناسب كل زمان ومكان، والاستمرار في هذا الاعتقاد سيؤدي إلى ضياع الأشخاص الذين يتبنونه على المدى القريب أو البعيد، لأن الحياة لا تنتظر أحد ولا تتعاطف مع أحد.

الإسلام هو دين عالمي يناسب كل زمان ومكان بغض النظر عن آراء الناس وجهلهم، إنه يصلح بمفهومه الحقيقي وليس بمفهومهم الخاطئ. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" وأن أكثر الفقهاء لا يفهمون، وأغلب رجال الدين لا يدركون.

وبعد عصور تجنب الفقهاء ذكر كل ما تعلق بذاك الوقت تجنباً للفتنة بين المسلمين فسقطت حقبة نفسية بأكملها في ضمير التاريخ تاركة حزناً عظيماً مبهم القسمات لا يحتمل أحد التفكير بفتح الباب له خوف الغرق.

وبعد زمن مضى، تجنب العلماء ذكر كل ما يتعلق بتلك الحقبة، حتى لا تحدث فتنة بين المسلمين، تقطعت نفسية تلك الفترة من ذاكرة التاريخ، وتركت حزناً كبيراً وغامض الأطوار لا يمكن أن يتحمل أحد فتح النقاش فيه خوفاً من الغرق في المشاكل.

وكانت هناك تحفظات في التحدث بين الناس عن علي والحسين وآل البيت الأطهار، حتى يتجنبوا اتهام الناس بالتشيع، أو اتهامات بإثارة الانقسام والفتنة وغير ذلك من الجوانب، ولنكن أذكياءً ونترك القرن الرابع والخامس الهجريين وشأنهما ونعيش الآن في سلام دائم آمنين .

وكما قال المفكر الروسي (لينين 1870- 1924 م) قولته المشهورة: "المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثر قدرة على تبريرها".

الجزء الخامس: الاستنتاجات

تعتبر المرجعيات الثلاث /السياسية والدينية والعشائرية / أحد العوامل المؤثرة في حياة المجتمع العراقي، فالعراق يتمتع بتنوع ثقافي وديني وعرقي، وتاريخه مليء بالصراعات والانقسامات السياسية التي أثرت على تشكيل الهوية العراقية والقوى الحاكمة في البلاد.

وفهم دور المرجعيات الثلاث في الحياة السياسية العراقية يساهم في فهم ديناميكية القوى وأطراف النزاعات في البلاد، وتُعتبر المرجعيات الدينية في العراق واحدة من أهم القوى التي تؤثر في السياسة العراقية والقرارات الحكومية.

 فهناك حاجة لاستخلاص استنتاجات مطلوبة من هذه المرجعيات بغية تعزيز الوحدة والاستقرار في العراق، وتعتبر هي عناصر أساسية في بناء وتشكيل الهوية العراقية، وتمثل مكونات مترابطة ومتلازمة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للعراق.

والدين الاسلامي ليس ديناً وراثياً تتناوبه قبيلة قريش الإسلامية عائلة بعد عائلة الى يوم الدين كما جرى أرض الواقع من (عام 11 هـ تاريخ أستلام الخليفة أبو بكر الصديق- رض - الحكم / حتى عام 656 هـ تاريخ سقوط الخلافة العباسية في بغداد) .

ولو افترضنا أن هولاكو لم يزحف على بغداد وصالح الخليفة العباسي المستعصم بالله (640-656هـ) هـ لأستمر حكم بني العباس الى عصرنا الحاضر، ولشاهدنا من خلال القنوات الفضائية الخليفة العباسي يتجول في مولات بغداد وخرسان ومرو وبيده موبايل i.ph 15.

والنقطة المهمة التي يجب أن نشير لها، هو ان الآيات القرآنية "ثابتة المحتوى ومتغيرة في تأويلها مع الزمن عبر الاجيال"، ولذلك ان الرسول الأكرم محمد (ص) لم يؤوله لأنه لا يعلم ما في الغيب، قال "ما يعلم تأويله الاّ الله"، وان النقطة الاخرى يجب ان نميّز بين الانتاج البشري وآيات رسالة السماء، اي بين الانتاج الفقهي والآيات القرآنية.

اذاً المشكلة في هؤلاء الذين يسمون انفسهم رجال دين هم الذين يرفضون كل شيء علمي وعقلي يتطابق مع رسالة السماء.

انهم يعتمدون على "النقل" بدلاً عن "العقل" ولذلك نحن نراوح في مكاننا وسنبقى على هذا المنوال الى يوم الدين إلاّ اذا حدثت معجزة.!! .

والمعجزة التي ينتظرها المسلمون هي ظهور (المخلص) القادم من السماء أي ظهور الإمام المنتظر الذي يملْ الأرض عدلا وقسطا بعد أن ملئت ظلماً وجورا.. كما يثقف عليها الكثيرون .

وكما قال الباحث والمفكر العراقي الأستاذ (ماجد الغرباوي 1954) في كتابه (مدارات عقائدية ساخنة) .. (إن انتظار الأنسان لمن يخلصه تعبيرأخرعن عجزه وضعفه، وتكاد القناعة بالمخلص لدى بعض الناس أقوى من أي قناعة أخرى).

 أن المذاهب الإسلامية قبل عصر (الإمام جعفر الصادق) وبعده كانت أكثر من مائة وخمسين مذهباُ سنياً يقابله نفس العدد أو يزيد شيعياً، ولكنها أضمحلت وتقلصت الى ما هو عليه نتيجة ضغط الحكام وأهوائهم ومصالح الدولة الحاكمة، حتى أصبح عدد مذاهب المسلمين الموجودة في الوقت الحالي والتي لها انتشار واسع في المجتمع الإسلامي سبعة مذاهب كبرى فقط، منها خمسة مذاهب سنية واثنتان شيعية، وسوف نقوم باستعراض أسماء هذه المذاهب على النحو الاتي:

المذهب المالكي: وسمي بهذا الاسم نسبة الى مالك بن انس.

المذهب الحنفي: نسبة إلى ابو حنيفة النعمان.

المذهب الشافعي: نسبة إلى محمد بن إدريس الشافعي.

المذهب الحنبلي: نسبة لأحمد بن حنبل.

المذهب الظاهري: نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي.

المذهب الجعفري: نسبة الى الإمام جعفر الصادق.

المذهب الزيدي: نسبة الى زيد بن علي .

وأنا أتساءل متى تتوحد هذه المذاهب وتندمج مع بعضها البعض، لتكون مذهب أسلامي واحد أساسه القرآن والسنة النبوية المعتبرة والذكاء الاصطناعي، بعيداً عن طروحات الموتى/ الترمذي وأبن ماجه والبخاري ومسلم والكليني والصدوق والطوسي والمفيد وغيرهم من منظري ومحدثي الدين.

حتى نتخلص من شرور أفكار المؤرخ البريطاني، صاحب - نظرية تفتيت العالم العربي والإسلامي - (برنارد لويس 1916- 2018) القائل: (إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضرهم....ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية).

***

شاكر عبد موسى/ العراق

...........................

المصادر

- كتاب/ مدارات عقائدية ساخنة.. حوار في منحنيات الأسطرة واللامعقول الديني / ماجد الغرباوي وطارق الكناني/ أصدار: مؤسسة المثقف العربي، سدني- أستراليا / نشر وتوزيع دار أمل الجديدة، دمشق- سوريا، الطبعة الثانية.

- ابن القيم الجوزيّة – كتاب/ الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة – تحقيق محمد جميل غازي- مكتبة المدني – 1977- ص 17.

- د. عدنان عويّد، كاتب وباحث من سوريّة/ الإرهاصات الأولية للمشروع السياسي في الخلافة الإسلاميّة/ صحيفة المثقف الصادرة في سدني/ أستراليا 27 نيسان 2023. https://www.almothaqaf.com/inde.

- صحيفة القدس العربي/ تشكيل مرجعية للسنة في العراق.. محاولات فاشلة/ د. مثنى عبد الله، 18 يوليو، تموز/

 2016. https://www.alquds.co.uk/writers/%D9%85.

- موقع ويكي شيعة/ المرجعية الدينية

/https://ar.wikishia.net/view/.

Independent*عربية/ قصة نفوز العشائر ونظام الحكم في العراق/ صباح ناهي/ 6 مارس، أذار/ 2023.

https://www.independentarabia.com/.

- موقع الحرة/ قبل أسبوع من الانتخابات .. ماذا تعرف عن مجالس المحافظات في العراق/ 12 ديسمبر كانون الأول/ 2023.

https://www.alhurra.com/iraq/2023/12/12.

- موقع الحوار المتمدن/ الطقوس الحسينية والهوية الشيعية في العراق/ د. سلمان رشيد محمد الهلالي/ العدد 7027، 22 أيلول/ 2021.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?a.

 

إنَّ من أهمّ الخصائص التي ينبغي أن يتميّز بها المثقّف عن غيره، أنّه كائنٌ مُتَمرّدٌ على السُّلطات في أغلبِ الأحيان، وهذه الخاصيّة متأتية من كونه يمتلك هوساً نقديّاً كبيراً يجبره دائماً إلى أن يكون توّاقاً إلى بلوغ الحقّيقة من جهة، ومن جهةٍ أخرى النّظرة الإزدرائيّة التي ينظر من خلالها أصحاب السُّلطة إلى المثقّف في أغلب الأحيان، ومن هنا فلا يُمكن له - أيّ المثقّف - الانصياع أو الانحياز لغير سلطة المعرفة والإصلاح والتّغيير نحو الأفضل.

فهل هناك نهاية لهذه القطيعة الجدليّة وردم هذه الهوّة بین المثقّف والسُّلطة، وإمكانيّة البحث عن منطقة اشتغال مشتركة؟ وكيف يتأتّى ذلك؟

فالمثقّف يعتبر نفسه مجبولاً على الانفلات من كلّ قيود السُّلطة وسلوكيّاتها ومناطق فاعليّتها، معتقداً أنّ الحِسّ النّقديّ الذي ينماز به لا يسمح له مُطلقاُ بالمواءمة والتّحالف معها. والسُّلطات من جانبها تستشعر فوقيّة كبيرة - ومقيتة - وهي تتناول الشّأن الثّقافيّ، تجبرها على عدم الظّهور إلّا بصورة السّلطان الذي ينبغي أن ينصاع الجميع لأوامره ويؤدّي فروض الولاء والطّاعة أمام هيبته وسطوته، وأنّ محاولة تجسير العلاقة مع المثقّف قد تُفَسّر على أنّها شكلٌ من أشكال التّنازل والانهزام!!

وتأسيساً على ما تقدَّم، ينبغي الخلوص إلى منطقةٍ وسطی تجمع الطّرفين وتحثّهم على العمل المشترك، من أجل تحقيق الكثير من الغايات النّبيلة، وذلك من خلال إصغاء السُّلطات إلى صوت المثقّف والاكتراث بمشاريعه وتطلّعاته، فضلاً عن التّركيز على أهمّيّة حضوره النّقديّ بعيداً عن ممارسات الاحتواء والالتفاف البغيضة، التي تُمارسها بعض الجهات وهي تستهدف تجيير المثقّف وأدلجته، بل وتسييره للعمل في مناطقٍ محدّدة سلفاً بما يتوافق مع مصالحها.

لذا، فمن الضّروريّ جداً أن ينتبه المثقّف إلى أهمّيّة احتفاظه بميّزاته النّقديّة المُتمرّدة أثناء تعاطيه مع السُّلطة، وهذا ما يُحتّمهُ عليه الضّابط الأخلاقيّ والثّقافيّ. ومن الضّروريّ أيضاً أن تعمل السّلطة جاهدة على أن يحتفظ المثقّف بكلّ خصائصه ومَلَكاته ونَزَعاته، وأن تدرك جيّداً بأنَّ الحاجة إلى المثقّف لا تستقيم في حالة تجريده من نزعة النّقد والتّمرُّد، لأنّها محور الأداء والعطاء فيه.

وكذلك لا بدّ أن يُدرك المثقّف بأنّ من أهمّ مصاديق الفكر، أو لنقل تَمَثّلاته، هو أنّه من أهمّ الفنون التي تُسهم في صناعة العقل، وهنا سيكون المُفَكّر ممن يَتَحكّمون بالمصائر، شَريطة أن لا يُمارس التّفكير نيابةً عن الآخرين ولا يؤمن بذلك أبداً..

بمعنى آخر، عليه عدم الإيمان بأنّ النّاس مُجرّد أدوات استهلاكيّة لأفكاره أو للأفكار التي يطرحها عليهم بُغية التّرويج لها، ويجب على المُفكّر الخروج من عُقدة التّعالي على النّاس، وأن يزرع الثّقة فيهم، ولا بدّ أن يؤمن ويُدرك بأنّهم ليسوا الأتباع الذين عليهم السّمع والطّاعة دائماً، وأنّ مَن يودّ أن يكون مُفكّراً بين النّاس، عليه أن يهبهم القدرة ليس فقط على تقبُّل أفكاره وتداولها، بل لا بدّ أن يسمح لهم بالتمرُّد عليها، فضلاً عن مناقشتها وتصويبها، وكذلك من يسعى لتحرير النّاس فكريّاً، عليه أن يؤمن بضرورة أنّهم قد يكونوا يوماً ما، ندّاً له ولأفكاره.

***

علاء البغدادي - باحثٌ وكاتبٌ عراقيّ

ثمة مؤشرات واضحة تشيرُ إلى إن إنشاء المجموعات سببه الخوف، مثل إنشاء المدن، والإتحادات غير بعيدٍ عن إنشاء الأحزاب والمنظمات، وربما الأُسر، وحتى الصداقات.

الخوف من الوحدة والمجهول، وهرباً منهما إلى دفء القطيع، والركون إلى الآخر أياً كان، ليستمر الوجود.

مواجهة القدر مستقلين هي درجة من درجات النضج الروحي، لم نتحصل عليها بعد، نحن لازلنا نحبو، لازلنا أطفالاً، تكسرنا عواطفنا الهشة، تكسرنا الطبيعة بتقلباتها الجبارة من عواصف وزلازل، وتغيراتها العادية من رياح وأمطار، تكسرنا أجسادنا برقتها أمام أي مرضٍ تافه، لذا نقترب من بعضنا ونشيد حضارتنا التي تؤمننا من الخارج الغاشم والوحشيّ.

لم تعد التجمعات تتشكّل بدافع الحصول على الأمان النفسي فحسب، لأنها ما عادت فطرية ساذجة، عاطفية بدائية، مع تعقد الحياة أخذت التجمعات منحىً جديداً يتسم بالتماثل، قومي، عرقي، ديني، قبائلي، مذهبي، ثقافي….

أقف قليلا هنا عند التجمعات الثقافية، الواقعية منها والألكترونية، حيث تم تشكيل العشرات منها، وشهدت إنضمام عدد هائل من الكتاب والأدباء، من أصحاب المواهب ومن أنصاف الموهوبين وحتى من عديمي الموهبة. لكن ما المشكلة؟ هل يثقلون كاهل الدولة براتب شهري مثلاً؟

لماذا لاندعهم يحاولون جعل العالم مكاناً أفضل برؤاهم العميقة أحياناً، والساذجة أحياناً أخرى، هكذا يقول البعض، رداً على القول بترهل التجمعات الثقافية على حساب إنتاج المعنى، وإحداث التغيير المطلوب على المستويين الثقافي والإجتماعي، لكن إجابةً من هذا النوع تبدو متهافتة أمام ما يتم توقعه من التجمعات الثقافية، لاسيما وهي بهذا الحجم، وإذا أخذنا بنظر الإعتبار الإقبال الكبير على الإنضمام لاتحاد الأدباء، فضلا عن تجمعات أخرى، فما هو المنتظر من هذا العدد الكبير من الشعراء والقصاصين والكتاب ضمن تجمع واحد، غير عقد الجلسات وإقامة المهرجانات، وهل تعد الجلسات والمهرجانات غاية بذاتها؟

إن نظرة سريعة على الجلسات التي تُعقد هنا وهناك تعطينا انطباعاً واضحا عن قلة الأعداد التي تحضر، ناهيك عن متوسط الأعمار الذي يشير بوضوح إلى أن أعمار الحاضرين غالباً بين٤٥-٧٥، أما المهرجانات فيمكن ملاحظة بوضوح تلك الفوضى المصاحبة لها من انتقادات ولغط حول توجيه الدعوات، وأمور أخرى تؤثر على رصانة المهرجان وتحقيق جدواه.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال وهو ماذا على الإتحادات الأدبية والثقافية أن تفعل لكي نحصل في الجلسة على حاضرين يشغلون نصف عدد المقاعد على الأقل بمتوسط أعمار من ٢٥- ٧٥، وكم من جهد ومهنية نحتاج كي تكون مهرجاناتنا فاعلة مؤثرة، دون أن يكون همُّ الأديب الوحيد وشغله الشاغل هو توجيه دعوة إلى فلان دون فلان، ثم إلى أي حد نحن قادرون على غرس ثقافة التفكير بالتجمعات الثقافية كمؤسسة هدفها إنتاج معنى وصناعة وعي؟

إنها تحديات كبيرة تواجه المؤسسة الثقافية برمتها، كوزارة واتحاد أدباء، وتجمعات أخرى تمتد على طول البلاد وعرضها.

برأيي أن الخطوة الأولى في صناعة الوعي، وتحفيز الشباب على القراءة ومتابعة الحركة النقدية، وبالتالي حضور الجلسات، وإبداء الرأي، والتفاعل مع المنتج الأدبي يتم أولاً عبر التنسيق بين وزارتي الثقافة والتربية، حيث سيكون على الوزارتين وضع خطة سنوية لتكثيف النشاطات التي تشجع الأطفال والناشئة على القراءة، مسابقات، دروس تدريبية، رحلات، مبادرات جديدة، وأفكار مثل استحداث فكرة الطفل القارئ، ولابأس بالإفادة من الممارسات المشابهة في الدول المجاورة أو البلاد الغربية التي عُرف عنها اهتمامها بخلق جو ثقافي مجتمعي عام.

إن الترهل في المؤسسة الثقافية من حيث عدد الأعضاء، يقابله ضعف عام في لإقبال على القراءة، وتدنٍ في الذائقة، ففي حين يتم إصدار عشرات الهويات لأعضاء جدد، لتكون صفة الأديب رسمية، يتراجع في الوقت ذاته محتوى المؤسسة بمعناه الأعمق والأشمل، لكن هل هي دعوة لتقليص الأعداد، عبر تعقيد عملية القبول؟ بالطبع لا، لكن ماذا لو لم تكن هناك صفة رسمية للأديب؟ هل سيظل قادراً على مواصلة الإبداع، وإحداث فارق؟ أظن نعم.

في بغداد وحدها عشرات التجمعات الثقافية، وهي بمثابة قناديل تضيء ما أفرزه تاريخ بغداد المتخم بالقهر  والحروب من عتمة، لكن هذه التجمعات، وعلى رأسها الإتحاد العام في خطرٍ داهم من أن تتحول إلى دوائر رسمية يفتك بها الروتين، روتين الجلسات والمهرجانات الخالية من المعنى، والبعيدة عن الهدف الرئيس في بناء الإنسان ثقافياً وإنسانياً.

***

تماضر كريم – أديبة وكاتبة عراقية

 

كنتُ سألتُ (ذا القُروح)، في اللقاء السابق، سؤالًا لُغويًّا، لأُخفِّف عنه وطأة المعمعة الجدليَّة في تاريخ الأديان: أنقول: «كما تَدين تُدان»؟ أم «كما تُدين تُدان»؟ فانتهرني كعادته، وأرجأني إلى هذا اللقاء. ثمَّ قال، بعد أن حكَّ رأسه وأُذنيه:

- العَرَب نطقوا الكلمة بفتح التاء.

- وكأنَّ المعنى كما يكون دِينك؟

- تقريبًا. والدِّين هنا بمعنى الفعل السُّلوكي. وهذا أبلغ. كأنَّ السلوك قد أصبح دِينًا. هذا وجه. أو قل: إنَّه بمعنى الجزاء، ومنه يوم الدِّين، أي الجزاء. ولعبارة «تُدين»، من أدان، وجهٌ أيضًا. أي كما تُدين الآخَرين وتشجب فعلهم وتستنكر- كعادة العَرَب- سيُدينونك ويشجبونك ويستنكرون عليك، والبادئ أظلم. أو هو تعبيرٌ مجازيٌّ من أدان بمعنى: أقرض، أو باع بالدَّين. فما تسمعه من بعض الناطقين المعاصرين، حين يقولون: «كما تُدين»، ليس بغلطٍ لُغويٍّ، كما اعتدنا على تسفيههم وتخطيئهم، لكنه غلطٌ معنوي، أي أنهم لم يصيبوا التعبير البليغ، المتعلِّق بالدِّين. ثُمَّ إنَّ هذا مَثَلٌ قديم، والأمثال تُروَى كما وردت ولا تُغيَّر، وإنْ كان فيها خطأٌ لُغوي. قال (ابن منظور)(1):

«وفي المَـثَل: كما تَدِينُ تُدانُ، أي كما تُجازِي تُجازَى، أي تُجازَى بفِعلكَ وبحَسَبِ ما عَمِلْتَ. وقيل: كما تَفْعَلُ يُفْعَلُ بِكَ. قال (خُوَيْلِدُ بنُ نَوْفَل الكِلابيُّ) (للحارثِ بن أبي شَمِر الغَسَّانيِّ)، وكان اغتصبَه ابنتَه:

يا أيُّهـا المَـلِكُ المَخُوفُ، أَما تَرَى ::: لَيْلًا وصُــبْحًا كيــفَ يَخْتَلِفــانِ؟

هل تَستطيعُ الشَّمْسَ أَنْ تَأْتِي بها ::: لَيْلًا؟ وهـل لَــكَ بالمَلِيْـكَ يَـدانِ؟

يــا حارِ، أَيْقِـنْ أَنَّ مُلْكَكَ زائلٌ ::: واعْلَــمْ بـأنَّ كمـا تَـدِيْنُ تُـدانِ!(2)

أي تُجْزَى بما تَفْعَل، ودانَه دَيْنًا أي جازاه. وقولُه تعالى: ﴿إنَّا لمَدِيْنُوْنَ﴾، أي مَجْزِيُّونَ مُحاسَبُون، ومِنْهُ الدَّيَّان في صِفَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. وفي حديثِ سلمان: إنَّ اللهَ ليَدينُ للجَمَّاءِ من ذاتِ القَرْن، أي يَقْتَصُّ ويَجْزِي. والدِّينُ: الجَزاء. وفي حديث ابن عمرو: «لا تَسُبُّوا السُّلطان؛ فإنْ كان لا بُدَّ فقُولوا: اللُّهم دِنْهم كما يَدينونا»، أي اجزِهم بما يُعاملونا به. والدِّين الحِساب، ومنه قوله تعالى: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾، وقيل: معناهُ مالِكِ يوم الجَزاء. وقوله تعالى: ﴿ذلك الدِّينُ القَيِّمُ﴾، أي ذلك الحِساب الصَّحيح والعَدَد المُستوِي(3). والدِّين: الطاعة. وقد دِنْتُه ودِنْتُ له، أي: أطعتُه...».

- حَسْبُك.. حَسْبُك! لنَعُد إلى محور حديثنا، يا (ذا القُروح)!

- سَم، طال عمرك! وبالفعل ليس الأوان بأوان المناكشات اللُّغويَّة، ونحن نشهد انهيار المنظومات الدِّينية والأخلاقيَّة في العالم.

- صدقت.. كنَّا بالأمس نقشعر أبدانًا حين نسمع بأن ثمَّة على هذا الكوكب أكلة لحوم بَشَر، وها نحن هؤلاء نكتشف، في عامي 2023 و2024 بخاصة، أنَّ الأنظمة الغربيَّة برُمَّتها- مع وكيلها الطفيلي المحتل المختل في الشرق الأوسط- يأكلون لحوم البَشر نيئةً ويمتصُّون دماءهم، بعد انتهاك أبسط حقوقهم، لا أقول الإنسانيَّة، بل الحيوانيَّة!

- إنَّها قِشرة الحضارة، كما وصفتُها في لقاء سابق، ودِيدان الشياطين تنخر ثمار الشجرة الملعونة.  وهذا لا ينفصل عمَّا كنتُ أصفه، على مستوى الخطاب الأيديولوجي، من ذلك الجهاد المقدَّس، وإنْ بالمغالطات والافتراءات، وكما تَدين تُدان. مغالطاتٌ تتجاوز (المغالطة المكارثيَّة) المشهورة- الذاهبة إلى أنَّ البريء متَّهمٌ حتى تثبت براءته- إلى الذهاب إلى أنَّ البريء متَّهمٌ أصلًا وفصلًا، ولا بُدَّ أن تُثبَت تهمته، بعد اللُّتيَّا واللَّتيَّا والَّتي. حتى لتصل إلى درجة التماس الطُّعون من خلال القول- وبكل ثقة الحمقى- إن (محمَّدًا، عليه الصلاة والسَّلام) كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها! مع أن العَرَبيَّة كانت لُغة الأُمِّ لديه، وفرقٌ بين (لُغة الأُم Mother Language)، و(اللُّغة الأُم)!

- كيف؟

- لُغة الأُم: هي اللُّغة التي تربَّى عليها الطفل، وتلقَّاها من أُمِّه. على حين أن (اللُّغة الأُم): هي اللُّغة الأصليَّة، أو القوميَّة، وللإنسان لُغات أخرى ثانويَّة، وذلك كالعَرَبيَّة الفصحى في العصر الحديث، التي إنَّما يتعلَّمها العَرَبيُّ تعلُّمًا؛ فهي لغته الأُم، أمَّا لُغة أُمِّه، فالدارجة العامِّيَّة. ويقع الخلط بين هذين المصطلحَين في الثقافة العَرَبيَّة.

- ومَن ذا قال: إن محمَّدًا كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها؟

- تلك مهزلةٌ معاصرةٌ كبرى، حين جعل يتصدَّى (قُدس أبوهم/ زكريا بطرس)، في متلفزاته- بوصفه النموذج المعاصر على هذا التيَّار الآخذ بسياسة: خير وسيلةٍ للدفاع الهجوم، وليبرهن على أقواله- بحُجَّةٍ قويَّةٍ جِدًّا، هي كما يقول: «أخطاء في الكلمات الأجنبيَّة التي أُدخِلَت في القرآن»! وهو يقصد هنا- وإنْ في عِيٍّ تعبيريٍّ- وجود كلمات أعجميَّة في «القرآن». ليصيح: «إزَّاي يِتآل عنه إنَّه بلسانٍ عربيٍّ مُبين؟! إزاااااااي؟!» ولسان حال قداسته: «يا انهار اسوح! دا محمَّد مش بس طلع ما يعرفش نحو سيبويه، دا طلع مش عَرَبي أصلًا!» وقداسته، كما يُظهِر نفسه بهذا اللفِّ والدَّوَران، لا يعرف شيئًا اسمه لغات ساميَّة، ذات أصلٍ واحد، أو لغات غير ساميَّة، كان في العَرَبيَّة منها من المعرَّب ما هو معروف لدَى صغار الطلبة في هذا الموضوع- هذا على فرض أن العَرَبيَّة هي المقترِضة لتلك الألفاظ من غيرها لا المُقْرِضة- وفوق هذا وذاك هو لا يفقه أنَّ عروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها تنزَّلت على العَرَب هكذا من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة.

- ليس صاحبك بِدعًا في مثل هذا.

- أدري أنَّ ثمَّة تيارين متطرِّفين في هذا السياق، تيَّارًا يُحِبُّ نفي علاقة العَرَبيَّة بغيرها، ولاسيما حين يتعلَّق الأمر بـ«القرآن»؛ لأنَّه يفهم أنَّ الآية التي تشير إلى أنَّه بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ تقتضي أنَّه بلسان العَرَب الذي لا علاقة له بألسنة البَشر الأخرى. وهذا فهمٌ ساذج، وجاهلٌ باللُّغات، وإنَّما تعني الآية أنه جاء بلسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه، ولسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه لسانٌ بَشريٌّ، أثَّر وتأثَّر، وهو سلالةٌ تطوُّريةٌ من لُغاتٍ أقدم. والتيَّار الآخَر: شغوفٌ في المقابل بعزو المفردات إلى أصولٍ غير عَرَبيَّة، لأتفه شبه. إلى درجة أنَّ أحدهم، مثلًا، طلع على الناس ليدَّعي أن كلمة «أُمنيَّة» القرآنيَّة غير عَرَبيَّة، استعملها «القرآن» لأوَّل مرَّة!

- يا سلام!

- كأنَّه لم يسمع الشاعر الجاهلي (الحارث بن حِلِّزة)(4) يقول:

إِذْ تَـمَنَّونَهُمْ غُرورًا فَساقَتْـ ::: ـهُمْ إِلَيكُمْ أُمْنِيَّةٌ أَشْراءُ

و(الفِنْد الزِّمَّاني)(5) يقول كذلك:

قَد تَـمَنَّتْ تَغلِبٌ أُمْنِيَةً ::: فهْيَ مِنها حيثُ بَيضاتُ الأَنُوْقِ

كما رَكِبَ ذلك المدَّعي أَتانًا أخرى، ذات مرَّة، زاعمًا أنَّ مادة «زخرف» في «القرآن» من أصولٍ أجنبيَّة مستوردة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. على حين يصفعه (طَرَفةُ بن العَبْد)(6) ببيته:

أَتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ ::: كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ

فاستعملها فعلًا، مشتقًّا. عِلمًا بأنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرهم، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم به لعدم عثوره على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحُمْقَى والمغفَّلين؟! وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَربيَّة من اللُّغات- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه. لأنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) لسان العَرَب، (دين).

(2) زعموا أنَّ الشاعر يقول هنا «تُدانُ»؛ فيُقْوِي! وهذا مستحيل. فإنْ كان من خطأ ففي مخالفة القاعدة النحويَّة، التي قُنِّنت بعد الإسلام. أمَّا أن يخطئ الشاعر في أنغام قوافيه، فوهمٌ قديم، لا يُعقَل، وإنْ كان الشاعر أصمَّ أو مجنونًا أو كليهما! لكنَّ العَرَب قبل الإسلام لم يكونوا يَدينون بقواعد (الخليل) و(سيبويه)، هكذا ضربة لازب. وهو ما لم يُرِد القدماء أن يعترفوا به.

(3) بسبب الياء المِصْريَّة، التي يُصِرُّ أصحابها على كتابتها ألفًا مقصورة غير منقوطة (كالياء الفارسيَّة)، فقد وردت عبارة (ابن منظور) في طبعة (دار المعارف بالقاهرة)- المنعوتة بأنها «طبعة جديدة محقَّقة ومشكولة شكلًا كاملًا»- هكذا: «العَدَد المُستوَى»، بألف مقصورة، أُكِّدت هويَّتها بفتحةٍ على الواو قبلها! والصواب: «العَدَد المُستوِي»، بالياء. وهو ما وردَ في طبعة (دار صادر ببيروت). وكم في الطِّباعة المِصْريَّة من أخطاء، وتلبيس على القارئ، حتى في معجمات اللُّغة المحقَّقة، بسبب هذا الاستمرار المتوارث في كتابة حرفين هجائيَّين برسمٍ واحد، دون سائر العَرَب!

(4) (1991)، ديوان الحارث بن حِلِّزة، تحقيق: أميل بديع يعقوب، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 31/ 48.

(5) (1962)، الزمخشري، المستقصَى في أمثال العَرَب، عناية: محمَّد عبدالمعيد خان، (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 1: 25.

ولم يُدرجه (حاتم الضامن) في (شِعر الفِنْد الزِّمَّاني)، الذي جمعَه. وهو من القصيدة ذات المطلع:

لَيْـسَ يُغْنِــي القَــوْلُ إِلَّا لِامْـرِئٍ ::: صــادِقٍ بِـالْقَوْلِ يَوْمًـا أَو مُطِيـقِ

(6) (2000). ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.

في الديوان: «منازلهُ»، بضم الهاء. والصواب ما أثبتناه.

دراسة في الواقع الشيعي المعاصر

توطئة: الخرافة هي تصور غير منطقي أو تقاليدي يؤمن به الأفراد أو الجماعات، ويعتقد لا صحة له علميةً أو واقعيةً، وقد تكون مرتبطة بمعتقدات دينية أو ثقافية أو سياسية، وتقوم الخرافات في العادة على التكرار العقلي والتحجج بالتقاليد والمعتقدات القديمة.

يعتبر الواقع الشيعي المعاصر أحد الواقعين الكبيرين في العالم الإسلامي، ويتسم بمجموعة من الخرافات والتصورات اللا عقلية والتقاليد غير المدعومة بالأدلة الواضحة والمنطقية، ومن المهم دراسة هذا الواقع الشيعي المعاصر وفهم الخرافات المتجذرة فيه وتأثيرها على المجتمع والفرد.

وما يهمنا كذلكً هو الكيانات الشيعية الحاكمة، فهذه الكتل والكيانات هي ما ترفع عناوين الدين، وتحتمي بشعار الإسلام، وتتحرك في المجال الاجتماعي والوسط السياسي بمظهرها الشيعي، الأمر الذي يجعل من أفعالها في المجال أكثر ضرراً وأمضى تأثيراً، لأنه إفساد الشكل النوعي للإسلام والإسلاميين وللشيعة والتشيع، أي أن الضرر يلحق الغالبية المضطهد من الشعب العراقي عبر قرون الدهر نتيجة لـ فساد القلائل منها، مثلما أنه يمس في الحال الفكرة الإسلامية برموزها التاريخيين وروادها الحركيين وتضحياتها الكبرى.

نقطة البداية

تاريخ الشيعة يعود إلى القرون الأولى بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بدأت الخلافة الإسلامية بين  الشيعة ومناوئيهم، ومنذ ذلك الحين، وقع الشيعة في أزمة طويلة وصعبة تخللتها محن ومآسي عدة ولذلك، فإن الشيعة باتوا يعيشون في ظروف قاسية وظلم مستمر على يد السلطات الحاكمة.

حتى أن الخرافة أصبحت تشكل جزءًا كبيرًا من حياتهم، أذ تمتلك الطوائف الشيعية عددًا كبيرًا من الشعائر والتقاليد التي تبدو غريبة على الأخرين، فكانت محل سخرية واستهزاء من قِبَل البعض، وقد استغل أعدائهم هذه الخرافات لإظهار الشيعة على أنهم طائفة ضالة وغير صالحة للحكم والإدارة، مما جعلهم يعيشون في حالة من الاقتصاد السياسي والاجتماعي.

ومع مرور الوقت، بدأ الشيعة في العمل على تطوير وتحسين أوضاعهم، فقد دخلوا في مرحلة الوعي والبحث والعلم، وتعلموا كيفية التفاعل والتأثير في البيئة المحيطة بهم.

 تمتد أهمية هذا التحول إلى مجموعة من الأسباب:

1 - التعليم والعلم: قام الشيعة بالاستفادة من التعليم غير المتاح لهم في العصور القديمة، حيث بدأ الشيعة في تأسيس مراكز تعليمية وجامعات ومدارس لنشر المعرفة بين أفرادهم،  وتطور الشيعة في أنحاء العالم العربي والإسلامي، مثل إيران ولبنان وباكستان والبحرين والعراق وأذربيجان، ودعم هؤلاء المشروعات التعليمية بالأموال والجهود.

 2- السياسة والمشاركة: بدأ الشيعة في المشاركة السياسية وتطوير نمط القيادة الشيعية، مما أدى ذلك إلى تحسين الحكم الشيعي وتقديم خدمات أفضل لأتباعهم، فقد شجع الشيعة على الاندماج في الحياة السياسية للدول التي يعيشون فيها والتأثير في صنع القرار، كما نرى ذلك في أيران والعراق.

3- الاقتصاد والتجارة: عمل الشيعة على تعزيز الاقتصاد في مناطقهم من خلال خطط التنمية الوطنية وتشجيع البناء والاستثمار في بلدانهم رغم الحصارات المفروضة عليهم من قبل أمريكا وحلفائها في المنطقة العربية، وإشعالهم الحروب في العراق واليمن ولبنان وسوريا.

أولاً: التعريف بالخرافات وصلتها بالماضي

الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر قد تشمل مجموعة متنوعة من المعتقدات غير المثبتة علمياً، والتي قد تكون مأخوذة من تفسيرات تاريخية أو تقاليد، من الأمثلة على ذلك قد تكون القصص والتفاصيل الخرافية التي تتعلق بشخصيات دينية أو وقائع تاريخية، والتي لا يمكن التحقق من صحتها بشكل علمي، وقد تشمل الخرافات أيضًا الاعتقادات الخارقة للطبيعة أو الأحداث التي لا تمت للواقع بصلة.

أما مسألة الصلة بالماضي ” فلا تبحث من زاوية الرفض أو القبول، بل من زاوية فهم هذه الصلة ووجهة النظر في تحديد طبيعة هذه الصلة، وتحديد ما نتصل به وما لا نتصل به “.

أن تجاوز الموروث لا يعني نبذه وقطع كل الصلات معه، إنما يعني تجاوز القيم والمواقف التي نشأت في خضم ظروف تاريخية معينة للتعبير عن تلك الأوضاع التي أنشأتها، ونظرا لتغير هذه الأوضاع الثقافية والإنسانية وزوال الظروف التي أدت إليها، يلزم تغيير هذه المواقف والأشكال لأنه لم يعد بإمكانها استيعاب ما استحدث من مفاهيم وقيم .

من هذا المنظور ندعو إلى رفض الجانب التقليدي في التراث وتحطيم المقدس فيه، والإفادة منه بقدر ما يلقي الأضواء على عتمة الحاضر.

فالإعجاب بالقديم لا ينطلق من عظمة الموروث وغناه لأنه قديم وبالي، ولأن عظمة العمل الفني لا تأتي من قدمه أو حداثته، بل من إبداعيته، وقد يكون النتاج الحديث أشمل وأهم بالضرورة من القديم لأنه يستوعبه ويقربه إلينا “تحت ضوء  من الحداثة ” ولأن الظروف الراهنة تصافح كل العصور والأزمنة، من هنا لا يصبح الدين خاضعا للتراث بل التراث هو الذي يخضع للدين .

ثانياً: أمثلة على الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر

الواقع الشيعي المعاصر يشمل مجموعة واسعة من الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تميز المجتمعات الشيعية حول العالم، حيث يتميز الواقع الشيعي بتنوعه الثقافي والفكري، وتعدد الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية داخله.

ويتمتع الشيعة بنسبة كبيرة من المؤمنين في العراق وإيران ولبنان وباكستان وأذربيجان وبعض الدول الأخرى، ويُعتبر الاهتمام بالشؤون الدينية والممارسات الشيعية والتنظيمات الشيعية من أبرز السمات في الواقع المعاصر.

أضف لذلك الواقع الشيعي المعاصر يتسم أيضًا بتنوع الحركات السياسية الشيعية، أذ تشارك بعض هذه الحركات في الحياة السياسية وتتمتع بتأثير وجودة في الساحة السياسية المحلية والإقليمية.

من جانب أخر، يتميز الواقع الشيعي المعاصر بالتركيز على التعليم والثقافة، حيث يوجد عدد كبير من المؤسسات التعليمية والثقافية الشيعية التي تسعى إلى نشر المعرفة والثقافة بين المجتمعات الشيعية.

مع ذلك، يجب ملاحظة أن هذه القراءة هي نظرة عامة وقد تختلف الواقعيات الفردية والمحلية داخل الواقع الشيعي المعاصر.. رغم التوعية التي يمارسها بعض رجال الدين المتنورين أمثال السيد كمال الحيدري وبعض المؤسسات الدينية في العراق وأيران ولبنان، إلا انه هناك مجموعة كبيرة من الخرافات المنتشرة في المجتمعات الشيعية ومنها:

- الخرافات المتعلقة بالأئمة والمعصومين.

- الخرافات المتعلقة بالطقوس والشعائر.

- الخرافات المتعلقة بالتوقعات والتنبؤات المستقبلية.

ثالثاً: أسباب الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر

هناك عدة أسباب لانتشار الخرافات في الواقع الشيعي المعاصر، ومن بينها:

1. النقص في المعرفة والتثقيف: قد يكون بعض الناس غير ملمين بالمعلومات العلمية والمنطقية، مما يجعلهم عرضة لتصديق الأفكار الخاطئة والخرافات، ففي عالم اليوم السريع الخُطى، نقع في الحيرة والضياع أمام ازدحام المهمات والمسؤوليات والمعلومات، لذا فإن تصفية الذهن هي وسيلتنا لمواكبة عجلة الحياة السريعة وإيجاد السلام الداخلي والفكر العلمي.

2. الحاجة للتفسير: في بعض الحالات، يكون للناس حاجة قوية لتفسير الظواهر الغامضة أو الأحداث التي يصعب عليهم فهمها، قد يلجأ البعض إلى الخرافات كوسيلة لتوفير تفسيرات سهلة ومفهومة، وخاصة مفهوم المنقذ الغائب عن العيون .

3. العوامل النفسية: تلعب العوامل النفسية دورًا كبيرًا في اعتماد الناس على الخرافات، فقد يبحث البعض عن الأمان والاطمئنان والتفاؤل من خلال تصديق الخرافات والأساطير.

4. الانتشار السريع للمعلومات: في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن للخرافات أن تنتشر بسرعة كبيرة وأن تصبح متاحة لجميع الناس، قد يكون من الصعب على البعض تمييز الحقائق من الأكاذيب في هذا السياق، ومن خلال صغار رجال الدين وبالمناسبات الشخصية والدينية .

5. الاحتياجات النفسية والروحية: بعض الخرافات تلبي احتياجات نفسية وروحية للأفراد، مثل الأمل والإيمان والاستقرار العاطفي، قد يجد البعض الراحة والقوة في تصديق هذه الخرافات، لذلك أتجه البعض من قليلي الدراية الى السحرة والمشعوذين للتخلص من مشاكل الأنجاب مثلا، أو طرد الجن من البيوت، والحصول على الشفاء من الأمراض، لأن هذا المشعوذ درس كتب طب الأمام علي وطب جعفر الصادق وطب الكاظم وطب الرضا وطب الصادقين، وأخرها كتاب (الغذاء والدواء عند أهل البيت) حسب ما يرجون لها.

 أن العقل الشيعي عموماً مقيد بالنص التراثي.. لذلك في أي سؤال يعود إلى ألف وأربعمائة عام مضت يسأل أشخاص ماتوا، أو يسأل رجل دين حصل على الأعلمية.. بينما القرآن الكريم نص قابل للفهم حسب القاعدة المعرفية وليس نص جامد، كما جاء في سورة العنكبوت (سيروا في الأرض وانظروا كيف بدأ الخلق) نص تفهمه حسب الأدوات المعرفية لزمانك لا لزمان من سبقك... لذلك الرسول الأعظم(ص) لم يفسر القرآن الكريم قط... بل تدبره حسب قاعدة زمانه المعرفية، وحسب الإدراك المعرفي للناس في زمانه.

مع ذلك، يجب أن نؤكد على أهمية التثقيف والبحث عن الحقائق العلمية والموثوقة قبل تصديق أي خرافة، من خلال:

- تحليل الأسباب الاجتماعية والثقافية التي تدعم الخرافات.

- التأثير الإعلامي والسياسي على تشكيل الخرافات.

رابعاً: آثار الخرافات على المجتمع

تأثير الخرافات على المجتمع الشيعي المعاصر يمكن أن يكون سلبيًا في بعض الحالات، فمن الممكن أن تؤدي الخرافات إلى تعزيز الجهل وعدم التقدم، وتعطيل العقلانية والتفكير النقدي، وقد تؤثر الخرافات أيضًا على المشاركة السياسية واتخاذ القرارات الصحيحة بناءً على الحقائق والمعرفة.

 ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن بعض الخرافات يمكن أن تكون ذات سلبية ثقافية وتاريخية بالنسبة لبعض المجتمعات، لذا، من المهم أن نشجع على التعليم والتوعية للتخلص من التأثيرات السلبية للخرافات وتعزيز العقلانية والتفكير النقدي في المجتمع المعاصر.. والتي يمكن تداركها من خلال:

- تحليل تأثير الخرافات على الثقافة والتطور الاجتماعي.

- تأثير الخرافات على العقلية الفردية والحياة الشخصية.

- ضرورة توعية المجتمع وتثقيفه بالمنهج العلمي والمنطقي.

- دور القادة الدينية والفكرية في إصلاح الواقع الشيعي المعاصر.

وقد يعمدُ أهل الخرافة في كل زمن ومكان وبجميع الطوائف إلى تجهيلِ الناس بكراماتٍ مصطنعة وأكاذيب مخترعة، بحيث لو واجهها العقلاء لأخرجوهم عن الدين لأنهم أضفوا عليها لباس القداسة وألصقوها بأهل البيت حتى لا يجرؤ أحد على المواجهة.

 كما قال الإمام الرابع للشيعة الجعفرية- الإمامية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب /الملقب بزين العابدين: "إنا بلينا بشيعةٍ لا يتعلمون بعلومنا ولا يلجؤون الى ركنٍ وثيق".

 وقوله: "ما برح حبكم لنا حتى أصبح علينا عاراً لقد بغضتمونا إلى الناس بما قلتموه فينا".

إن أمة تنتشر فيها الخرافة والبدع كانتشار النار في الهشيم ليست جديرة بحمل أمانة الإسلام و لواء أهل البيت بل هي أمة الخنوع وتعطيل العقول وتقديس الخرافة وتعظيم الجنون .

خامساً: الاستنتاجات

يجب أن ندرك أن الخرافات المتجذرة في الواقع الشيعي المعاصر تؤثر سلبًا على عموم المجتمع والأفراد، وتعيق التطور والتقدم، لذلك المشروع الشيعي التنويري .

أذن كيف تحولت الخرافة إلى واقع معاش حتى يومنا هذا؟!

الخرافة عادة ما تحولت إلى واقع نتيجة لعدة عوامل، منها:

1 - تكرار الروايات والقصص: عندما تروى قصص معينة بشكل متكرر، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تأصيلها في الوعي الجمعي وتحويلها إلى جزء من التاريخ أو الثقافة الشعبية، وبمرور الزمن تتحول الى أسطورة مقدسة يضاف اليها قوة اللاهية جبارة، وتصبح مقبولة من قبل الجميع لتكرارها عبر السنين ولكن بنغمات حزينة جديدة قابلة للاجتهاد والإضافة مثل رواية مقتل الإمام الحسين(ع).. والتي تؤدى كل عام بنغمة جديدة.. حتى وصلت الى مرحلة التمثيل في الساحات العامة وأزقة الشوارع.. كذلك ( ركضة أطويرج) التي انتشرت في جميع المدن العراقية الشيعية رغم أنها كانت مختصرة على قضاء طويرج في مدينة كربلاء.

2- تأثير السلطة: في بعض الأحيان، يمكن للسلطات الدينية أو السياسية دفع الناس إلى قبول معتقدات معينة كواقع، سواء بالقوة أو بالضغط الاجتماعي، ومن خلال الدعم اللوجستي المقدم من قبل بعض مسئولي الدولة أثناء الزيارات المليونية لأضرحة ال البيت الأطهار في العراق من ماء ووقود ومواد غذائية .

 3- النقص وعدم اليقين: في حالات من عدم اليقين أو النقص، يمكن للأفراد أو المجتمعات أن يتجهوا إلى الخرافات كوسيلة للتغلب على القلق والخوف من المستقبل.. ومن خلال أشغال الشعب بشعائره الدينية طوال السنة ودفعه بهذا الاتجاه لغرض التخلص من مطالبه المشروعة، لذلك تتعمد الدولة أحياناً الى دعم أصحاب المواكب الحسينية معنوياً ومادياً من خلال رجالاتها المتنفذين أصحاب السلطة والمال، تحت شعار (كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء).

وهذا يتم من خلال تقسيم المجتمع الى مجموعات منضوية تحت أمرة شخص واحد أو مجموعة أشخاص (مواكب) يكون من السهل السيطرة عليهم وتوجيهم وفق أرادات معينة وأجندة شخصية وحزبية، وبالتالي الاستفادة منها في الانتخابات المحلية والبرلمانية باعتبار الشخص الداعم لهم (حسيني) المبدأ والاعتقاد الفكري.

4 -الاضطهاد الدائم: لقد تعرضوا للقتل على مدى قرون طويلة، وكان السلاطين يوصون أولياء العهد من ورائهم، أن الحكم لا يدوم إلا بقتلهم وتهجيرهم في بقاع الأرض الواسعة، كونهم امتداد تاريخي ليعسوب الدين وسيد الشهداء، و لديهم شعارات لو عرفتم معانيها فلن يدوم لكم بعد اليوم عرش ولا صولجان، فحيلوا بينهم وبين معانيها، ولا توقفوا القتل فيهم أبدا.. لذا أتخذوا من قصيدة ( يحسين بضمائرنا) سمفونية دائمة التواصل مع تاريخهم السري والعلني، القديم والمعاش .

لقد أجمع السلاطين على مر العصور، إن أرض ما بين النهرين موطنهم الأقوى، ففيها الأضرحة المقدسة، ومنبع علمهم، منها يجددون قوتهم، يظهر بين عقد وآخر رجل يوحد صفوفهم، ينفخ فيهم القوة، يشدّهم للشعارات، يفك معانيها، فيوشكون أن يمسكوا الأمور بثورة أو انتفاضة، فإنْ ظهر فيهم أحد من هؤلاء فاقتلوه غيلة أو اصلبوه على خشبة، ليدوم لكم الملك.

وكما قال الأديب والناقد المصري الدكتور (طه حسين 1889- 1973) .. ] في الغرب لا يوجد مقدس سوى الانسان وعند المسلمين كل شيء مقدس ما عدا الانسان].

***

شاكر عبد موسى/ العراق

....................

المصادر

- كتاب /الرسالة الذهبية المعروفة بـ (طب الإمام الرضا ع) / تحقيق محمد مهدي نجف / منشورات مكتبة الإمام الحكيم العامة – النجف.

- كتاب / الخرافات عند الشيعة / أبو عبد الله هاني المصري/ مكتبة سلسبيل- القاهرة 2008.

- كتاب/ خرافات الشيعة في عاشوراء/ الشيخ الدكتور محمد سعيد رسلان/ أغسطس، أب/2021.

- مجلة البيان / المشروع الشيعي .. كيف تحولت الخرافة الى واقع؟/ د. عبد العزيز التركي/ العدد 341، 14 أكتوبر، تشرين الأول/ 2015.

https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=467.

- معهد أبرار معاصر طهران/ قراءة في كتاب الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن/ محمد علي السعيدي/ 13 أوغسطس، أب/ 2022.

https://tisri.org/?id=kg7hk8ln.

- موقع أوراق/ قوة الخرافة في الواقع الشيعي/ سليم الحسني

/ 6 أب 2016. https://www.marefa.org.

- موقع ألوان / أدونيس والموقف من التراث / د. فاطمة عدلي/ 14 نوفمبر، تشرين الثاني/ 2023.alwanne.com .

بعض الذين قرأوا مقالَ الأسبوع الماضي، رأوه مغالياً في القول بإمكانية التخلي عن إرثنا الثقافي لتجاوز حالة التخلف. وتساءل بعضهم صراحةً: هل يُعقل أن نتخلَّى عن ذاكرتنا الثقافية، لمجرد أنَّ المجتمعات الأخرى تجاوزتنا في الصناعة والتقنية والاقتصاد؟ فماذا لو لقيت شخصاً أغنى منّي أو أعلم، هل أتخلَّى عن ثقافتي كي ألحق به أو أصيرَ مثله؟ ولنفترض أنَّنا تخلّينا عنها، هل سيتبدل حالنا فنصبح مثل المتقدمين ونخرج فوراً من مستنقع التخلف؟.

على أن السؤال الأكثر حرجاً هو سؤال التزام الدين أو التخلي عنه؛ فالمفهوم عند السواد الأعظم من الناس أن الدعوة للتخلي عن التراث أو القطيعة معه ستؤدي بقصد أو من دون قصد إلى انفصال المؤمنين عن ثقافتهم الدينية، الضرورية للحفاظ على الدين نفسه.

دعْني أُجِب عن هذه المخاوف التي أتفهمها وأحترمها، رغم مخالفتي لأصحابها. أتفهَّم أنْ لا أحد سيقبل دعوة كهذه من دون توقف طويل. ولذا فقد يكون مفيداً شرح اثنين من العوامل التي تولِّد تلك الأسئلة القلقة، وهما الخوف على الهوية والخوف من خسارة الذات.

إنَّ أبرز العوامل التي تُبرر الانعزال الثقافي ورفض النقد الذاتي، هو الاعتقاد أنَّ الانفتاح على المخالفين سيثير الشك في صلابة الهوية والأرضية التي تقوم عليها. الهوية هي الخيط الذي يربط أعضاء المجتمع أو الأمة بعضهم إلى بعض، فتضفي عليهم لونهم الثقافي الخاص، أي شخصيتهم المتمايزة عن الآخرين، كما تضفي الشرعية-القبول على طائفة من الأفعال والممارسات الاجتماعية، وتنزعها عن طائفة أخرى، فتجعلها مدانة أو مرفوضة.

ومن هنا فإنَّ التشكيك في الهوية ومصادرها (الدين - التجربة التاريخية - الإرث الثقافي – اللغة - سلاسل النسب) سيؤدي ليس فقط إلى تغيير الثقافة العامة، بل قد يصل أثرها إلى تفكيك أو إضعاف النظام الاجتماعي ومجموعة الأعراف المنظمة لسلوك الأفراد.

أما الخوف من خسارة الذات، فهو يشبه –في وجوه كثيرة– تجريد الشخص من جنسيته، أي انتمائه القانوني إلى بلد بعينه. فمع أن هذا الإجراء لا يغيِّر شيئاً في ذات صاحبه، فإنه يفصله عن دائرة مصالح-انتماء تشكل محوراً لتعريف نفسه، ومن دونها سيشعر بالغربة وربما الضياع، وإذا كان ذا مكانة في قومه، فإن هذا التحول سيطيح تلك المكانة أو يُضعفها كثيراً.

لهذين السببين، فليس من السهل أن يقْدم الإنسان على حوار مع مخالفيه، يؤدي –ولو من باب الاحتمال– إلى استبدال ثقافة المخالف بثقافته، أو خروجه من دائرة المصالح-الانتماء التي وُلد فيها وتربى في أحضانها. هذا هو الذي يجعل نموذج السوبرماركت، أي الانتقاء من ثقافة الآخرين بناءً على معايير ثقافتنا الخاصة، يجعله الخيار الممكن لغالب الناس.

لكنّي أدعو إلى خيار مختلف، محوره هو تحكم الإنسان في مكونات ذهنه، أي أنْ يجعل عقله حاكماً على ذاكرته، فيمارس نقده لتلك المكونات بناءً على معايير الآخر المختلف. في هذه الحالة نضع الآخر معياراً، وننقد الذات، بخلاف نموذج «السوبرماركت» الذي يضع الذات معياراً ويمارس نقده على الآخر.

ممارسة هذه العملية تُحرِّرك من قيود التاريخ والهوية، تجعلك متحكماً –إلى حد ما– في الذي تقبله والذي ترفضه. لكنك مع ذلك ستبقى ضمن موقعك الثقافي القديم، فتتحول إلى متخارج عنه، أي متفاعل معه من خارجه. في هذه الحالة ستنظر إلى هذا التراث وتلك الثقافة من خارجها، رغم أنك –واقعياً– داخلها، أي ستعمل على وضح خط فاصل بين قناعاتك ومعاييرك وبينها، فتختار منها ولا تُغرق فيها. إذا نجحت في هذه المرحلة، فسوف تكون كذلك بالنسبة لثقافة الآخر، متداخلاً معها، لكنك لست داخلها.

ولنا عودة للموضوع إن شاء الله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

جاء منذ سنوات في منشور صاحبة صفحة على الإفتراضي جزائرية وطالبة دكتوراه تعكس حال الفلسفة في الجامعة الجزائرية إن لم اقل العربية والإسلامية ما يلي:

تقاس قوة العقل بقدرته على تحمل الحقيقة !

فردريك نيتشه .

فكانت إشاراتي في تعليقي كما يلي:

العقل كأداة والية اشتغال تتعلق بشق إجرائي تقني وميكانيكي بل حتى برمج-عصبي لا تنفصل وظيفته عن العقل كمحتوى (و هو التقسيم الذي اعتمده الجابري في اعماله ومشروعه " نقد العقل" توظيفا لتقسيمات لالاند في معجمه وقاموسه)..

 وهنا وجب استحضار كلام "لالاند" العقل المكون بكسر الواو مع الشدة والعقل المكون بفتح الواو مع الشدة ...

فالأول يتعلق بالمحتوى أي العقل كسبا وتثاقفا ومعرفة وتحصيلا اي في جزء منه " العقل العالم " والعقل المرتبط بالكسب الاجتماعي لتتحدد طبيعة العقل بالنسبة لقوته..

 ليس فحسب تحمل الحقيقة بل تمثلها ومناقضتها عندما تتأسس على بنيان مهترئ ومضطرب وأسس عقلية في ظاهرها وغير سليمة في جوهرها...

 ولا أحسب نيتشه أخذ بالحسبان موضوع الحقيقة وإلتباساتها وتشوهاتها بعد تناولها من جهة النوع اي انواع الحقائق وأيضا الحقيقة وعلاقتها بالواقع وهل الحقائق قارة وثابتة أم متحركة ومتغيرة وكيف ولماذا  ...

هل العقل الذي يعنيه نيتشه عقل مادي عدمي أم عقل مثالي هيجلي طبعا وهو بنفيه المطلق لا يؤمن بالعقل اللاهوتي...

لا تنفصل الحقائق تمثلا وتجريدا عقليا ونظريا ومفهوميا وحتى واقعا عن وظيفة وبنية العقل وعن الإبيستيمي-المناخ والنظام المعرفي الذي تأسس فيه العقل ونهل منه  ومنحه أي تفاعل معه  ...

إن الذين يعتبرون نيتشه قلب طاولة القيم وقلب النسق وقطع مع النظم المعرفية السابقة ومنح للفلسفة مهمة اخرى للأسف هم جلهم في عالمنا العربي الإسلامي خاصة والعالم الغربي أيضا ببغاوات النقل والإنتحال والإنتظام في القطيع والسرب لا أجدهم اكثر من أنهم أساؤوا فهم نيتشه في سياق سيرورة وبنية المنظومة المعرفية والفلسفية الغربية ونسقها...

إنه لا يمثل قطيعة مع النظام الذي انقلب عليه ظاهرا وقد ارتبط به " حقيقة " و" واقعا" من حيث بناء مفاهيمه وقاموسه الإصطلاحي وجهازه المفهومي على أنقاضه...

إنهم فئة غالبة منتظمة تكرر المتن الغربي للفلسفة بلا إضافة وتحليل ونقد لأن كسبها محدود وتسكنها لغة التمجيد والإنبهار ولا تمارس فعل التفلسف بل فعل التلخيص والإقتباس وشبه " الشرح " المنتظم ولا تعجب أن ينتطم معهم سرب من الذين يتحدثون عن الأصالة والفلسفة العربية الإسلامية أذناب من الباحثين عن موقع في الفضاء العام  خوفا من الإقصاء وإغضاب دجالي الفلسفة والمزيفين من أصحاب منابر التفلسف الحصري وشيوخ صكوك الغفران للفلسفة في عالمنا العربي الاسلامي...

إنهم الوجلون الخوافون من الاخر وبضاعته بسبب بضاعتهم المزجاة البائسة وعقلهم المدمر ونزوعهم الى الإنخراط في التيار العام وكسب مرضاته...

يمجدون ويقدسون القراءات الغربية الشائعة لنيتشه وما أقل الناقد فيهم وبينهم وفي الغرب المتفلسف نقدا جذريا للفهم الشائع والطاغي طغيانا بنسقه المهيمن والقالب لمفاهيم النص النيتشوي والفهوم الغالبة ليقف على كساد بضاعته وهشاشة مرتكزاته  وإنتظاماته الوديعة القابضة على نصف وربع الحقيقة بدل قلبه وتفكيك ما يسمى قطائعه ...

أو بلغة أخرى إن معارضة التيار العام لفهم النص النيتشوي او نصوص غيره من المنجز الغربي مكلفة وباهظة الكلفة ومربكة باعتبارها أولا تجعل ما تعود " جمهور " القراء والمشتغلين على نصه من متون مختلفة وكثيرة حفظا وترديدا متهافتة ومتساقطة أمام كل نزعة منهجية تقطع مع سطوة وطغيان واستلاب النسق الفهمي السائد...

اي أنهم اتخذوا نيتشه " قدس الأقداس " ومنجزه " ثورة الثورات" مرجعا على أساس نقضه للمفاهيم الحداثية الفلسفية وقيمها الناظمة فقام بقلبها كما يقولون وعلى أنقاضها مع التحفظ قام نيتشه كما يزعمون بتأسيس أدوات ان كانت له أدوات حقا فتحت غطاء الكتابة الشذرية واللانسقية ضلل نيتشه قراء الغرب والشرق من الحدثاويين والاسلامويين مع تحفظي على هذه النعوت التي دعت اليها الضرورة ...

كما يطرح موضوع تحديد المفهوم ما العقل عند نيتشه هل هو كل العقل واللوغوس الغربي والمادي بكل طيفه بما فيه العقل الكانطي مثلا والديكارتي الشكي والهيجلي ..الخ كما سبقت إشارتي ...

إنهم تركوا نصوص نيتشه ومنجزه واشتغلوا بنيتشه الصنم ونيتشه حقيقة الحقائق وقوة القوة وعدم العدميات  ..

اشتغلوا بالعجل فعبدوه واشرئبت أعناقهم لا ترى في الأعلى سوى العجل أو نيتشه الإله بدل الإله الذي قتله نيتشه...

و دعك من القراءات التبريرية ومزاعم البعض التي تصف لك نيتشه خطأ بأنه غير عدمي ولم يفهمه " بسطاء التفلسف والغرباء عليه " بأنه كان يعني بالدين المسيحية الزائغة وانه لا يعني موت الإله إلا  في ذلك السياق ولا يستطيع مناقشة أطاريحه إلا فلتات مثله وأنه  فلتة فلسفية  بل منهم من ألبسه " قبعة إسلامية " وجعل من ذكره من طرف مالك بن نبي ما يؤكد انه صاحب نزوع تبجيلي للإسلام...

و أنه لم ينتظم بل قطع قطائع فلسفية وهي في منطلقها كانت فللولوجية العمق لغوية الأساس وفي جذورها انتظامات " أبيقورية " وبعدها " شوبنهاورية " تتحرك في فضاء الموروث نفسه يغذيها بعض الجنون والفصام النيتشوي لتصفها صفا وترتبها العقول المقلدة المستقبلة والمنبهرة والملتهمة والمستلبة كأنها الفرادة والعبقرية إنبهارا لا حفرا وفهما وتأويلا وأيضا فهما سياقيا...

إنها السلفية والماضوية والتقليدية الغربية الحداثية والما بعد حداثية التي تتمنع على السؤال الفلسفي النقدي العربي الغائب فاكتفوا بترديد متنها واتخاذها عجلا وصاحبها صاحب العجل ...

نيتشه ينادي بأفول الأصنام وهم يبدعون في تقديسها وعبادتها...

" رحم الله نيتشه " ورحم الله التفلسف العميق المتحرر من هيمنات الأنساق وثقلها ومن الإنبهارات الفجة في عالمنا العربي الإسلامي ولا نستثني الغرب ...

***

حمزة بلحاج صالح

دراسة متواضعة في التوتر بين العقل والدين

المقدمة: تعتبر علاقة العقل بالدين من أبرز القضايا التي شغلت الفكر الانساني. العقل يمثل القدرة على التفكير والاستنتاج وتحليل الأفكار والمفاهيم، في حين يمثل الدين الجانب الروحاني والمقدس في حياة الفرد والمجتمع.

 في هذا السياق، يمكن القول إن العقل الديني يمثل توازنًا ضروريًا للنجاح الروحي والمعنوي للإنسان، مع ذلك، فإن هناك توترًا مستمرًا بين العقل والدين، حيث يبدو أن العقل غالباً محاصر بالنص الديني المقدس.

تبدأ المشكلة في تعريف العقل والدين وعلاقتهما المتضاربة، إذ يمكن اعتبار العقل كأداة للتفكير والاستدلال، بينما الدين يعتبر إطار قاعدي وثابت للقيم والمعتقدات، وبالتالي، فإن العقلية الدينية تعتمد على قبول النصوص الدينية وسلطتها حتى وإن تعارضت بعض المفاهيم فيها مع المنطق والأدلة العقلية.

هنا ينشأ التوتر بين العقل والدين، أذ يجد الفرد نفسه في حاجة إلى قبول المعتقدات الدينية دون التشكيك فيها ولا التحليل العقلي لها، ما يعطي انطباعًا بأن العقل البشري محاصر بالنص الديني.

لذلك تلتزم الأديان بشرائع وقوانين تقديم حلول لمجموعة من القضايا الشخصية والاجتماعية والروحية.. وعلى الرغم من أن هذه القوانين تحمل بعض القيم الإنسانية الجوهرية، إلا أنها في الوقت نفسه قابلة للتفسير والتأويل بطرق مختلفة.

وهنا تظهر المشكلة المحورية للعقل الديني، فقد لا يملك الفرد حرية كاملة في فهم النصوص الدينية حسب تقديره الشخصي وتجربته الحياتية، بل عليه اتباع الفهم التقليدي والتأويل المعروف.

يشير البعض إلى أن العقل الديني يمكن أن يكون مفيدًا في توجيه الإنسان وتأطيره في سلوكيات صالحة وحسنة، ولكن، يعبر آخرون عن قلقهم إزاء تقييد العقل بالنص كما هو.

أولاً: التراث وحرب التأويل

يُعد التراث الديني جزءًا هامًا في حياة الشعوب، فهو يمثل الجانب الثقافي والتاريخي والاجتماعي للأجيال السابقة، ويساعد على تعزيز الانتماء والهوية الوطنية، ولكن في بعض الأحيان، يتعارض تفسير التراث والأفكار المختلفة حوله، مما يتسبب في حرب التأويل.

وتُعرف حرب التأويل بأنها الصراع الفكري الذي ينشأ بين الأفراد والمجتمعات حول تفسير التراث الديني كما هو وبين تأول النص من قبل الطرف الأخر، ويُرجع سبب حدوث هذا الصراع إلى عدة عوامل، منها الاختلاف في البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وأيضًا الاختلافات الشخصية والفكرية للأفراد.

وتعد حرب التأويل مسألة حساسة، فقد يؤدي الصراع بين التفسيرات المختلفة إلى الخلاف والانقسام في المجتمع، وحتى إلى النزاعات والصراعات العنيفة، قد يشعر البعض بالتهديد عندما يعارض تفسير التراث لما كانوا يعتقدون صحيحًا وصوابًا، وهنا تبرز أهمية التسامح والاحترام المتبادل للأفكار المختلفة والمواقف والرأي الأخر.

واحدة من أمثلة حرب التأويل الشهيرة هي صراع فهم الدين والتدين، فعلى الرغم من أن الديانات تحمل مفاهيم ومعتقدات مشتركة إلى حد كبير، ولكن تختلف التفاسير والمنظور من شخص إلى آخر، فقد يصر كل جانب على تفسيره الخاص، ويروج له كالحقيقة المطلقة، مما يؤدي إلى تبني وجهات نظر متطرفة وتصعيد الصراع.

وهذ ما قاله الصحابي الجليل (عمار بن ياسر570- 657 م) في حرب صفين أثناء القتال بين جيش الإمام علي بن أبي طالب (رض) وجيش معاوية بن أبي سفيان ما نصه (بالأمس قاتلناكم على تنزيله، والأن نقاتلكم على تأويله).

تؤثر حرب التأويل أيضًا في المستقبل، حيث تعمل على تقييد الإبداع والابتكار وتعطيل التطور والتقدم، فعندما يتم تعيين تفسير واحد فقط كالصحيح، فإن ذلك يمحو التنوع والتعددية في الأفكار ويخلق بيئة تُكبح المبدعين وتربط أيديهم. فالأفكار المبتكرة تكون غالبًا هي نتيجة لمزج أفكار مختلفة وتفسيرات متعددة للتراث... لذلك لا بد من إيجاد حلول لحرب التأويل التي زالت قائمة حتى يومنا الحاضر.

ثانياً: العقل الديني محاصر بالنص

هو مصطلح يُشير إلى الظاهرة التي تعني انحصار العقل البشري داخل نص ديني محدد، مع عدم القدرة على التفكير بمستوى عالٍ والنظر بعقلانية وحرية، فهو مفهوم يتعارض مع فلسفة الحرية الفكرية التي تؤمن بقدرة العقل على التحليل والاستنتاج والتفكير بشكل مستقل وخارج الضوابط المفروضة عليه.

العقل الديني محاصر بالنص قد يكون نتيجة لعدة عوامل، منها التربية والثقافة والتقاليد الدينية المتوارثة في المجتمع، أذ يتعلم الأفراد منذ صغرهم القيم والمعتقدات الدينية، ويتم تعليمهم بتوجيهات صارمة حول كيفية فهم وتفسير النص الديني، ويتم وصف هذا النص بأنه المصدر الأصلي والثابت للمعرفة الدينية، وبالتالي فإن تفسير النص يكون مقدسًا ولا يقبل الجدل أو التحليل النقدي.

نتيجةً لهذا الانحصار، يكون العقل الديني مقتصرًا على استيعاب ما جاء في النص الديني، دون التفكير بما وراءه أو البحث عن معانٍ أعمق، لذلك يكون النص هو الإجابة الوحيدة على جميع الأسئلة الدينية، ولا يُسمح للعقل بالتعمق في سؤال صحة أو منطقية تلك الإجابات، وبالتالي، يفتقر العقل الديني المحاصر بالنص إلى القدرة على التقاط تباينات الآراء والتعبيرعن الشكوك والاعتراضات.

علاوة على ذلك، قد يكون العقل الديني محاصر بالنص أيضًا نتيجة للتفسير الحرفي والحرقفي للنصوص الدينية، أذ يعتقد بعض الناس أن كل كلمة وجملة في النص الديني تحمل دلالات صرفة ودقيقة، وأن أي تشكيك أو تفسير حر يقوض القيمة الدينية للنص، وهذا يحد من قدرة العقل على التفكير بإبداع وابتكار، ويصد الفرد عن تجربة فهم شخصي للدين والعمق الروحي.

ثالثاً: صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة

يعتبر العراق من الدول التي تشتهر بتطورها الحضاري العريق وتاريخها الثري، حيث تمتلك الكثير من المدن القديمة والمعابد الذي يتجسد فيها التراث العراقي الديني والحضاري، ومع ذلك، يعاني المجتمع العراقي من صراع دائم بين التراث الديني السلبي والحضارة الحديثة، والذي يؤثر في تنمية المجتمع وتطوره.

ويعود التاريخ الديني في العراق إلى فترة ما قبل الإسلام، أذ كان الدين يمثل قوة رئيسية في حياة الناس ومؤسسات المجتمع، ومع التطور الثقافي والحضاري للعراق، برزت العديد من المذاهب الدينية والطوائف، مما أدى إلى زيادة صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة في المجتمع العراقي.

يتمتع التراث الديني بأهمية كبيرة في العراق، حيث يعتبر جزءًا لا يتجزأ من هوية الشعب العراقي المبنية على:

- الفكر الشيعي الجعفري – الاثني عشري: أذ ينحدر جميع شيعة العراق في الغالب من أصول عربية ويشكلون ثلثي سكان العراق مع وجود تركمان وأكراد فيلية شيعة بينهم، فالأكراد العراقيون كقومية يشكلون حوالي 20 بالمائة، بينما لا يتجاوز العرب السنة 20 بالمائة أيضاً من السكان ويعني هذا أن نسبة الشيعة تقدر بحدود 60 بالمائة أو أكثر من السكان في العراق.. المبنية أفكارهم على طروحات / الكليني والصدوق والمفيد والطوسي والحلي والمجلسي.

- الفكر السني: أذ يتوزع الشافعية على مناطق بغداد والأنبار، أما إقليم كردستان، فهم قاطبة تقريبا على المذهب الشافعي، أما الموصل فالأغلبية على المذهب الحنفي، بينما سُنة مدينة البصرة / جنوبي العراق على المذهب الشافعي، وبطبيعة الحال التجاور بين المذهبين صار ملموسا، وأية منطقة سُنية من العراق تجدها خليطا من شافعية وحنفية.. وهم مقيدون بطروحات البخاري وابو داود ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي والفقهاء الأربعة.

ومن خلال التراث الديني الموروث، يتم تمرير العقائد والقيم الدينية من جيل إلى جيل، وتعزيز الهوية الثقافية للشعب، ويمثل التراث الديني أرضية مشتركة للمجتمع العراقي، أذ يلتقي الجميع مهما كانت انتماؤهم المذهبي أو الثقافي تحت راية الدين الإسلامي.

ومع ذلك، يعتبر التراث الديني السلبي بحجمه الكبير خطرًا على التطور الحضاري للعراق، أذ يحد من الابتكار والتغيير في المجتمع، فعندما يكون للتراث الديني السلطة في توجيه الناس واتخاذ القرارات الحياتية، يتكون صراع بين الشرعية الدينية والحضارة الحديثة.

ويعاني المجتمع العراقي اليوم من شرخ عميق بسبب صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة، فعلى سبيل المثال، تواجه النساء في العراق صعوبة في المشاركة السياسية والاجتماعية بسبب الزامات الشرع الديني التي تحد من حقوقهن.

كما أن التراث الديني يؤثر على الحرية الفكرية والتعايش بين الطوائف المختلفة في العراق، مما يؤدي إلى تصاعد التوترات الدينية.

أضافة الى الشعائر التي يمارسها شيعة العراق على طوال السنة من ممارسة المشي لزيارة الأئمة الأطهار من ال بيت النبوة، وقيام مئات الألوف من الزوار بممارسة اللطم والضرب بالسلاسل تزامنا مع أناشيد تحكي قصة الإمام الشهيد وصحبه الأبرار، حول المرقد.

وعند الصباح تبدأ مجاميع من الزوار بممارسة الضرب بالسيف على الرؤوس، فيما تجلس حشود هائلة بينهم نساء وأطفال منذ الصباح الباكر، حول مرقد الإمام  في مدينة كربلاء للاستماع إلى قصة واقعة الطف عبر مكبرات صوت نشرت حول المرقد.

ويقوم أغلب الزوار الذين يرتدون ملابس سوداء باللطم على الصدور وضرب الرؤوس والبكاء خلال سماعهم القصة، ورفع رايات إسلامية أغلبها سوداء فوق المباني تعبيرا عن الحزن في هذه الذكرى.

والتي عارضها الكثير من كبار علماء الشيعة ومنهم عالم الدين اللبناني الراحل (محمد جواد مغنية 1904- 1979) بقوله] كما تعلمون، فإنّه تُمارس أعمال كالتطبير وشدّ الأقفال على البدن وتخديش وإسالة الدماء من الرأس والوجه، والزحف في الزيارة وما شابهها والتي تبعث على وهن الإسلام وتضعيف المذهب قطعاً وقهراً).

في حين بارك هذه الشعائر وشجع عليها الكثير من علماء وخطباء الشيعة المتزمتين من خلال وسائل أعلامهم الواسعة ومنها القنوات الفضائية التي تنقل تلك الشعائر وتبثها عبر تلك الفضائيات.

والكثير من ميسوري الحال من الشيعة قاموا ببناء أماكن عبادة (حسينيات) لأقامت تلك الشعائر والتباهي بها وصرف أموال طائلة عليها، قد تمتد لمدة عشرة أيام وأحياناً شهر بالكامل، والتي لا تخلو من وجود شاعر(رادود) يقدم قصيدة شعرية حزينة (لطميه)، قد يتطاول من خلالها على الخلافة الراشدة كما فعل الرادود/ باسم الكربلائي مؤخراً.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو/ لماذا أقليم كردستان العراق يتقدم خطوات واسعة نحو البناء والتنمية والاستثمار في كافة المجالات، وبالمقابل جنوب العراق يتراجع خطوات واسعة نحو الخلف رغم وجود النفط والغاز في أرضه التي كانت خصبة وموطن سكن سابق للسومريين والبابليين.

الجواب: تعد دولة العراق من الدول العربية التي يتمتع فيها إقليم كردستان بمستوى تقدم أعلى بالمقارنة مع جنوب العراق، وفي السنوات الأخيرة، زادت الانقسامات والتوترات بين الإقليم والحكومة الاتحادية من جهة، وبين الإقليم ودول الجوار العراقي (أيران وتركيا)، مما أثار العديد من الأسئلة حول أسباب هذا الاختلاف في مستوى التقدم والتخلف بينهما، وتفسير الأسباب التي تؤدي إلى تقدم إقليم كردستان وتخلف جنوب العراق.

نعم الكردستاني تحرر من عبْ الطائفة وأبتعد عن السلف الصالح والطائفة الناجية وراح يبحث عن مصالحه القومية والتنموية التي تتعرض للتهديد من قبل أيران وتركيا وحتى من قبل الحكومة الاتحادية أحياناً.

أما أبن الجنوب، فهو قابع تحت تأثير التراث الديني الطقوسي المتوارث من أفكار وشريعة (الدولة الصفوية 1501-1722)، وما أضافه رجال الدين الحاليين من طقوس وشعائر جديدة، قد لا نجد من يمارسها في دولة أيران التي قامت مؤخراً  بتشذيب تلك الشعار ووضعها ضمن سياقها الحضاري.

وعلى عكس مما تشهده البلدان من عائدات ضخمة نتيجة لتنشيط السياحة، فإن العراق البلد الذي يزخر بمعالم سياحية ودينية، ربما يكاد يكون الوحيد، الذي يتحمل أعباء استقبال الملايين من دون فائدة حقيقة، سوى ممارسة الشعائر التراثية من قبل الزائرين.

رابعاً: التراث والتجديد

تمثل مهمة "التراث والتجديد" في إعادة استكشاف الاحتمالات القديمة واستحضار احتمالات جديدة، واختيار الأنسب لتلبية احتياجات العصر الحالي، لا يوجد مقياس تجريبي لتقييم مدى صواب أو خطأ هذه الاحتمالات، بل يعتمد الاختيار على نتائجه العملية.

يعني اختيار المنتج الفعّال والملائم لمتطلبات العصر هو الاختيار الصحيح، ولكن ذلك لا يعني أن الاختيارات الأخرغير صحيحة، بل تظل تفسيرات محتملة لوضع زمن آخر.

نعم أصول الدين ثابتة على مر الزمان والمكان، إلا أن الفهم الذي نتبناه لها يختلف وفقًا لاحتياجات العصر المعين، كذلك، تظل حرية الإنسان وعقله ومسؤوليته ثابتة، ولكن طرق ممارستها تختلف من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى.

ومن الضروري أن يكون هناك تصور ديناميكي للأصول ومقتضياتها، وتصورات عملية للعقائد ومختلف النظريات المتاحة، فاتهام حضارتنا بأنها وحدة وغير متعددة أو أنها مبنية على الاجتماع المتفق عليه فقط، هو اتهام خاطئ.

أحد الأشياء الرئيسية التي تميز تراثنا القديم هو توفير مجموعة متنوعة من الاحتمالات للاختيار، واعتبار الاجتهاد ليس فقط في أصول الفقه، ولكن أيضًا في أصول الدين الذي وظيفته ليست فقط في تطبيق الأحكام والأفعال، ولكنها تمتد أيضًا إلى اختيار النظريات المناسبة وتطبيقها وفقًا لاحتياجات العصر.

لذا تكون مهمة "التراث والتجديد" هي حل الألغاز التي تحيط بالماضي، وكذلك إزالة العوائق التي تمنع التحرر واستئصالها من جذورها، وإذا لم يتم تغيير جذور التخلف النفسي، مثل الخرافة والأسطورة والانفعال المذهبي والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخضوع، فإن الواقع لن يتغير.

لقد كانت الخلافات بين السلطات السياسية والدينية خلال فترات الحكم الوراثي الإسلامي في ذاك الدهر جلية، ليس حصرا في حياة العلماء الشيعة فقط، وإنما عند علماء السنة البارزين أمثال مؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة، جراء رفضهم لمطالب الحكام الساسة أنذاك.

خامسا: الاستنتاجات

في الدول الأوربية وقليل من الدول الإسلامية قاموا بفصل الدين عن السياسية وفصل الدين عن الدولة، وكثير ما يُّستغل الدين من طرف الحكام والذين يدورون في فلكهم لربح الشرعية وتبرير عدد محدود من الاعمال والافعال لحماية وحفظ وجودهم واستمرار العبودية والديكتاتورية والفساد والاستبداد ومختلف اشكال الريع والنهب والافتراس لحقوق وممتلكات المستضعفين.

وذلك ما يحدث في بلدانا، الدين يٌّستغل لتخدير الشعب والتعامل معه كالقطيع المساق الى المذبحة، وليس بالغريب حينما، وصف المفكر الألماني (كارل ماركس 1818 -1883) الدين بأفيون الأمم لان في جل الحروب والحروب الاهلية يوظف الدين للتعبئة السلبية والاستعداد للجهاد الموهوم والقتل والسبي والارهاب.

ومن أجل إنقاذ الإنسان وإعادة اكتشافه لنفسه، يجب علينا التخلي عن العقل الديني المحاصر بالنص والمذهبية المقيتة التي أصيبت بالعقم التراثي المشلول، و يجب تجاوز الميثولوجيا السياسية التي اختفت وراء قناع الدين والانتقال إلى السياسة المدنية، حيث يكون العقل الشفاف هو العامل المحدد، بدلاً من التمسك بثقافة الفقهاء والتركيز على ثنائية الحياة والموت.

من الضروري اليوم التركيز على الأبحاث النظرية حول الأصولية والربط بينها وبين الظاهرة الدينية، بدلاً من تحويل الحوار إلى معركة طويلة لا تُّحمد عقباها، أذ لم يكن من الضروري إصلاح الفكر الديني، بل دفعه إلى الانفجار على نفسه مثلما حدث مع "داعش" والحركات المتطرفة.

للأسف، المفكر والمؤرخ وعالم الدراسات الإسلامية والفيلسوف والباحث الأكاديمي الجزائري (محمد أركون 1928- 2010) لم يكن محظوظًا بمشاهدة انفجار التطرف الكبير الذي شهده العالم، فعندما يكون لدينا ابتكارات في الفكر، فإن النهايات تأتي على يد المبدعين وليس من قبل الذين يتمتعون بها.

وكما قال المفكر المغربي (محمد عابد الجابري 1935- 2010)..} أن الموروث الإسلامي الخالص- الحديث – مخترق من قبل القيم الكسروية [.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

......................

المصادر

- كتاب، المسألة الشيعية.. رؤية فرنسية / أعداد وتحرير وترجمة د. جواد بشارة / دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر، بغداد - شارع المتنبي، 2015م.

- كتاب، الإسلام والتشيع.. قراءة مغايرة للسائد الديني/ الشيخ طالب السنجري/ دار جدل للنشر والتوزيع – بغداد، 2022م.

- كراس، شيعة العراق.. التأسيس، التاريخ، المشروع السياسي/ السيد سامي البدري / دار الفقه للطباعة والنشر – أيران، 1424هـ ق.

- صحيفة القدس العربي/ أركون ونقد الفكر الديني/ عزيز الحدادي – كاتب مغربي/ 29 يناير، كانون الثاني / 2020.

https://www.alquds.co.uk/%D8%A3.

- موقع الجزيرة نت/ التأويل الحداثي للتراث الإسلامي.. كيف خلعوه عن سياقه/ سامح عودة / 8 يناير،كانون الأول / 2018.

https://www.aljazeera.net/midan/int.

طُرحت المصالحة بين الدّين والفلسفة، في المؤتمر الدُّوليّ الثَّاني للفلسفة (6- 7 فبراير 2024، الذي عقدته «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة» بأبوظبي، وكان عنوانه «الفلسفة ورهان التَقدم النظريّ والاجتماعي»، كي لا تبق «العلاقة شقية سلبية بين الفلسفة والدِّين»، حسب كلمة الافتتاح لمدير الجامعة الأكاديميّ خليفة مبارك الظّاهري.

أقول: مَن يقرأ تاريخ الفلسفة الإسلامية، سيجد أن المشكلة ليست بالفلسفة والفلاسفة، إنما بالأصولية الدينية، فهي التي حَرّمت الفلسفة، وحذرت مِن تعليمها، مع أنّ مجالها الوجود، والأخلاق، والفن، والعِلم، وكلّ ما يتعلق بالحياة، فلم يفرض الفيلسوف نفسه وكيلاً عن الله، ولا فقيهاً، إلا أنَّ الأصوليّة لا تريد تفكيراً خارج مسلماتها، وإذا أريد تحقيق مصالحة فلا تعني إذابة أحد المجالين في الآخر.

لا أجد أبا هلال العسكريّ(ت: 395 هـ) دقيقاً في كتابه «الأوائل»، لا متقدماً إلا غرف مِن متقدمٍ عليه، لذا عندما أذكرُ أنَّ للمعتزلة(ظهرت 110هجرية) السّبقَ في طرح المصالحة بين الدين والفلسفة، أذكرها على قلقٍ. تسلح المعتزلة بالفلسفة اليونانية، دفاعاً عن الدّين، وهناك مَن اعتبرهم فلاسفة الإسلام الأوائل(ألبير نصري نادر مثلاً)، وبينهم المفسرون والفقهاء.

شبك المعتزلة الفلسفة بمقالات الدِّين، فتحدثوا عن الوجود والعدم، والاختيار والإجبار، العقل في تقييم النص الدينيّ، حتى نجحوا بإثارة فكرة المصالحة بين المجالين، فعندما يجادل المعتزلة في المادة والحركة، وسقوط الأجسام، وقوانين الطبيّعة، لم يجر هذا إلا بعد التشبع بالفلسفة والعقيدة الدّينيَّة معاً، غير أنَّ التّجربة انتهت إلى مماظة(ذروة المخاصمة) بينهم وأصحاب الحديث، مع أنَّ أكثر مِن معتزلٍ فسر القرآن، مثل أبي عليّ الجبائي(ت: 303 هجرية)، وأن الفخر الرّازي(ت: 606 هجرية)، وهو أحد الأشاعرة، أعتمد في كتابه «المحصول» على فِكر المعتزلي أبي الحسين البصري(ت: 436 هجرية) وكتابه «المعتمد»(الصّفدي، الوافي بالوفيات).

كان أروع مَن كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية، مِن المعاصرين، حسين مروة(اغتيل: 1987) «النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيَّة الإسلاميّة»، والطَّيب تزيني(ت: 2019) «مِن التّراث إلى الثورة»، وحسام الدِّين الآلوسيّ(ت: 2013) «حوار بين الفلاسفة والمتكلمين»، ومحمد عابد الجابريّ(ت: 2010) «بُنية العقل العربيّ»، وجورج طرابيشيّ(ت: 2016) «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، وغيرهم مِن الرَّاحلين، ناهيك عما صنفه الأحياء مِن المشتغلين في الفلسفة، وهم كثرٌ.

نجد في تاريخ الفلسفة، الذي درسه المذكورون، تجاربَ من المصالحة، والمماظة أيضاً، فهذا أبو نصر الفارابيّ(ت: 339 هجرية)، يشترط بطالب الفلسفة معرفة الشَّريعة: «تعلُم القرآن واللغة وعلم الشرَّع، غير مخل بركن مِن أركان الشَّريعة»(البيهقي، تتمة صوان الحكمة).

كذلك طرح «إخوان الصّفا»(القرن الرَّابع الهجري) المصالحة بين الفلسفة والدّين، فدولتهم «دولة الخير» تقوم على مزج الشَّريعة والفلسفة، بين الأنبياء والحكماء، فقالوا: «فأما من تعلّم علم الشّريعة، وعرف أحكام الدّين، وتحقق أمر النّاموس، فإنَّ نظره في علم الفلسفة لا يضره، بل يزيد في علم الدّين محققاً»(الرِّسالة الثَّالثة/القسم الرَّياضي).

غير أنّ التجارب كافة كانت تُفشلها محاولات رجال الدين بالتفرد في التفكير، عندما يتعلق الأمر بتحكيم العقائد الدينية في السياسة، واحتكار التعليم. فكم فقيه تفلسف وكُفّر مِن قِبل أصحابه الفقهاء، وكم فيلسوف حاول النّظر في الوجود، بمعزل عن المذهب السّائد، فوجهت له تهمة الزندقة!

لهذا أرى إبقاء كلّ في مجاله، لأنَّ النظر بالموجودات يتعارض مع الدّين، إذا أخذت الأفكار مسلمات لا جدال فيها، والفلسفة، عند البحث في الوجود، لا تقبل المسلمات، لأنها أفكار تتوافق وتتعارض، وهذا دَيْدن العِلم، وتبقى هكذا، ومِن يريد الاستزادة يُقابل «تهافت الفلاسفة» بمضاده «تهافت التّهافت». أقول: لا مصالحة تفرض التّداخل، ولا اختلاف إلى حد المماظة، فعندها تتحرر الفلسفة، وتدخل مناهج التّعليم، تساهم في التَّقدم الاجتماعيّ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

أنت تتصفح في وقت متأخر من الليل عبر انستغرام أو تك توك، وفجأة، تشاهد سلسلة من الصور أو مقاطع الفيديو لأصدقائك أو عائلتك وهم يستمتعون بدونك. تسأل نفسك: لماذا لم يدعوني؟ هل نسوا دعوتي؟

وبعد ذلك، بنفس السرعة، تسقط في حفرة من الحيرة تحاول فهم كل شيء، تتساءل عن الخطأ الذي ارتكبته، وتتمنى لو تم دعوتك، وتقوم بأستعراض ملفاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي للعثور على أدلة على ما جعلهم يتركونك ويقومون بالنشاط وحدهم. في النهاية، تترك في حالة من الحزن أو الشعور بالذنب أو الخجل لأنك تعاني من (الخوف من الضياع او من أن تنسى او fear of missing out).

أصبح FOMO، أو الخوف من الضياع، سائدا للغاية على مدى العقدين الماضيين. إنها تجربة يعرفها الكثير منا. وعلى الرغم من أنه يرتبط ارتباطا مباشرا باحترامنا وتقديرنا لذاتنا، إلا أن له أيضا تأثير مباشر على صحتنا الجسدية والعقلية والعاطفية، كيف؟ عندما يستمتع الآخرون من حولك بدونك، ما الذي يمكنك فعله لتشعر بالرضا عن مكانك وما تفعله.

يشير FOMO، أو الخوف من الضياع، إلى الشعور أو التصور بأن الآخرين يستمتعون أو يختبرون أشياء جديدة أو يعيشون حياة أفضل منك. وعلى الرغم من أنها غالبا ما تنبثق عندما ترى أو تدرك هذه الخصائص في الأشخاص الذين تحبهم وأنت قريب منهم، إلا أنها يمكن أن تحدث أيضا مع العلاقات شبه الاجتماعية. عندما ترى أشخاصا لا تعرفهم ولكنك تتابعهم على وسائل التواصل الاجتماعي يقومون بأشياء رائعة تتمنى أن تفعلها، يمكن أن يكون لها تأثير دائم على شعورك تجاه نفسك.

مع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي، يشعر الناس أنهم لا يستطيعون الهروب من FOMO. لدينا إمكانية الوصول إلى كل شيء على مدار 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، ومعظم الناس مسجلون على منصات متعددة. لهذا السبب، يشعر الناس أنهم إما يفوتون أو أنهم لا يفعلون ما يكفي للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة. لا يعتمد FOMO كليا على وسائل التواصل الاجتماعي (على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي ربما تكون الجاني الأكبر ل FOMO). يمكن أن يحدث FOMO لأي شخص في أي مكان وفي أي وقت.

قد يعاني الرياضي الذي يرى بشكل متكرر شخصا يقوم بممارسة التمارين الرياضية في صالة الألعاب الرياضية من أربعة إلى خمسة أيام في الأسبوع من الإجهاد المرتبط بالاعتقاد بأنه غير قادر على الالتزام بالوقت أو مواكبة هذه المعايير العالية. قد يصبح الشخص الذي يستمتع بالقراءة مدفوعا بقائمة طويلة من الكتب التي قرأها شخص آخر على مدار عام وقد يشعر كما لو أنه ليس ذكيا بما فيه الكفاية أو متعلما بما فيه الكفاية أو قادرا على الحفاظ على هذا المستوى من الفهم.

قد يشعر الشخص الذي يرغب في أن يكون أكثر انخراطا أو نشاطا اجتماعيا بالإهمال أو القلق أو أنه لا يفعل ما يكفي كلما رأى أو سمع عن أشخاص آخرين يسافرون ويذهبون في مغامرات ويختبرون أشياء لم يختبروها في حياتهم الخاصة. من نواح كثيرة، يشبه FOMO الحديث الظاهرة القديمة المعروفة باسم "مواكبة جونز" او ضغط الاضطرار إلى تلبية أو تجاوز الوضع الاجتماعي لجارك وثروته وشعبيته.

لماذا يحدث FOMO؟

يمكن أن يؤثر FOMO على أي شخص، ولكن بعض الأشخاص معرضون لخطر أكبر للإصابة ب FOMO إذا كان لديهم حالة صحية عقلية معينة أو لديهم مستوى منخفض من احترام الذات. بالطبع، وسائل التواصل الاجتماعي ليست كلها سيئة، ولكنها قد تكون ضارة بشكل خاص إذا كانت علاقتك الشخصية مع صورة جسمك في حالة من الفوضى. وعلى وجه الخصوص، فإن اضطراب القلق والاكتئاب يفسحان المجال لتجربة FOMO بشكل متكرر وله آثار طويلة الأمد.

ما يهمنا هو أن الأشخاص الذين لديهم استعداد للاضطرابات العاطفية مثل القلق أو الاكتئاب عادة ما ينسحبون أو يتجنبون المواقف، وقد تكون طريقتهم في التواصل مع الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. التجربة الإنسانية تدور حول الاتصال، لذلك لدينا حاجة فطرية للتواصل. ولكن في حالة الشخص المصاب بالقلق أو الاكتئاب، قد يكون معظم اتصاله من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

ربطت دراسة أجريت عام 2017 بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليومية وفرصة أكبر للإصابة باضطراب القلق. بينما تشير دراسة أجريت عام 2022 إلى أن أعراض الاكتئاب والقلق تزداد سوءا كلما قضينا وقتا أطول على وسائل التواصل الاجتماعي. أن وسائل التواصل الاجتماعي و كيفية استخدامها وعدد المرات التي نستخدمها لها بالتأكيد تأثير مباشر على قدرتنا على تجربة FOMO.

عندما تكون لدينا احتياجات أساسية لم تتم تلبيتها ونعتمد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتلبية تلك الاحتياجات، فمن المحتمل أن يضاعف ذلك من شدة الأعراض التي نعاني منها. تشير الدراسات أيضا إلى أن FOMO هي حالة عاطفية سلبية ناتجة عن احتياجات الارتباط الاجتماعي غير الملباة. من المحتمل أن يكون FOMO هو الأكثر إيذاءا لدى المراهقين أو البالغين الأصغر سنا، خاصة لأنهم يحاولون معرفة المكان المناسب لهم في الحياة والمجموعات التي يناسبونها.

كيف يؤثر FOMO على صحتك؟

يمكن أن يكون للخوف من الضياع تأثير مباشر على صحتك الجسدية والعقلية والعاطفية. قد تواجه جسديا بعض الأعراض المرتبطة بالقلق والتي تشمل:توتر المعدة والغثيان، الصداع، آلام الجسم، خفقان القلب وزيادة معدل ضربات القلب، مشاعر الاضطراب العاطفي. عقليا وعاطفيا، قد تواجه زيادة في الأفكار المتطفلة. قد تستهلكك دورة الحديث السلبي عن النفس، مما يجعل من الصعب إدارتها والإيمان بإحساسك بقيمة الذات واحترام الذات. إذا أصبح أي من هذه الأعراض في أي وقت مزعجا بشكل متزايد، فمن المهم أن تطلب المساعدة.

من وجهة نظر نفسية، عندما يبدأ في التأثير على حياتك اليومية، نعلم أن هناك مشكلة. وهذا هو في أي مجال من مجالات الحياة، التفاعلات الاجتماعية، التمارين الرياضية، والمدرسة، والعلاقات. مهما كان الأمر، إذا تعطل أي جانب من جوانب حياتك، فنحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على تحديد جذر المشكلة وأي حلول محتملة يمكن أن تساعد.

نصائح للمساعدة في التغلب على FOMO والتعامل معه

إذن، هل أن حل FOMO بسيط مثل أخذ استراحة من وسائل التواصل الاجتماعي؟ أم أن هناك طرقا أخرى يمكنك من خلالها تعلم كيفية التعامل مع التوتر المرتبط بالاستخدام عبر الإنترنت؟

ما يتعين علينا القيام به هو وضع حدود مناسبة وإجراء تقييم قائم على القيمة لأهدافنا وما يساعدنا على تحقيق تلك الأهداف، بما في ذلك استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي. تتضمن بعض الحلول المفيدة لتجنب وإدارة FOMO ما يلي:

-التعرف على مشاعرك ووضع الحدود , عندما نبدأ في الشعور بالأعراض الجسدية أو النفسية، نعلم أن الوقت قد حان للوقوف وأخذ قسط من الراحة. علينا أن نضع حدودا.

-يمكن أن يبدو هذا مثل إلغاء تنشيط حسابات الوسائط الاجتماعية الخاصة بك، أو حفظ مشاركة وسائل التواصل الاجتماعي لعطلات نهاية الأسبوع عندما لا تعطل عملك، أو فرض حدود زمنية على هاتفك الذكي حتى تتمكن فقط من الوصول إلى تطبيقات معينة لفترة محدودة من الوقت خلال فترة 24 ساعة. إذا كان لديك طفل في المنزل وكنت قد بدأت للتو في تعريفه بوسائل التواصل الاجتماعي، فمن المهم جدا كوالد أن تضع هذه الحدود للطفل.

تحديد المحفزات

في بعض الأحيان، يمكن أن يكون FOMO شالا. إنه يسحبك إلى حفرة الضياع ويشلك. لهذا السبب، إذا حددت ما هي محفزاتك، فيمكنك العمل على تجنب تلك المحفزات أو إعداد نفسك لكيفية التصرف عند حدوث هذه المحفزات. على سبيل المثال، إذا رأيت شخصا تعرفه في مجموعة أصدقائك ويتسكع مع شخص آخر، وتعلم أن هذا سيثيرك، فأنت بحاجة إلى التأكد من أنك لا تبحث عن هذه الأنواع من الأشياء على وسائل التواصل الاجتماعي، وأنك تتواصل مع هؤلاء الأصدقاء لمعالجة مخاوفك كلما ظهرت.

بشكل عام، حاول ألا تشعر بالغيرة، وبدلا من ذلك، كن ممتنا لأن أصدقائك لديهم أشخاص يهتمون بهم، واعلم أن الشيء نفسه ينطبق عليك. طور إحساسك بالذات،إن تطوير إحساسك بالذات أمر بالغ الأهمية في جميع مراحل حياتك.عندما نبدأ في النظر إلى أنفسنا، فإننا ندرك ما نقدمه للعالم وعلاقاتنا، وندرك قيمتنا. من المهم أيضا أن ندرك ما هي قيمنا وما هي مصالحنا. وفي بعض الأحيان، لا بأس إذا كانت هذه القيم لا تتوافق مع الآخرين، خاصة إذا كانت مهمة بالنسبة لنا.

يمكنك القيام بذلك عن طريق جرد قيمك عن طريق إجراء تقييم قائم على القيمة. قم بعمل قائمة بكل الأشياء التي تجلب لك السعادة، والتي تجعلك تشعر بالثقة، والتي تجعلك تشعر بالرضا عن نفسك والطريقة التي تتحرك بها عبر العالم من حولك. بعد ذلك، قم بعمل قائمة بجميع الأشياء التي لا تخدمك، والأشياء التي تجعلك تشعر بالسوء تجاه نفسك، أو تؤذيك أو تجعلك تشعر أنك لست جيدا بما فيه الكفاية.

من خلال القيام بذلك، يمكنك اكتشاف كل الأشياء التي يجب عليك التمسك بها وربما التفاعل معها أكثر قليلا وجميع الأشياء التي قد تحتاج إلى قطعها من حياتك أو ضبط طريقة تفاعلك معها. نحن بحاجة إلى التأكد من أن الشباب يفهمون قيمتهم بشكل خاص، ويفهمون ما يملأ دلوهم، ويفهمون ما يجعلهم ما هم عليه، وما الذي يجلب القيمة، وما الذي يجلب الفرح وما الذي يحفزهم، حتى يعرفوا أنفسهم بعمق ولا يقضون الوقت في مقارنة أنفسهم بالآخرين، وبالتالي يقلل من قيمتهم الذاتية.

تقييم واقع وسائل التواصل الاجتماعي

من FOMO تأتي أشياء أخرى مثل JOMO (فرحة الضياع) و ROMO (حقيقة الضياع). وهذا الجزء الواقعي هو جزء مهم يجب تذكره، ما تراه على الإنترنت هو مجرد شظية مما يحدث بالفعل وراء الكواليس. في معظم الأوقات، لا نرى سوى نصف الصورة. نحن لا نرى دائما حقيقة ما يحدث وراء الكواليس، ولدينا جميعا صراعات وتحديات نواجهها. علينا أن نسأل أنفسنا، هل نقوم بتقييم وضع حقيقي أم أن هذا مجرد نصف الصورة؟.

اطلب المساعدة من طبيب نفساني, يمكنك تبني الكثير من أدوات الإدارة هذه بنفسك، ولكن في بعض الأحيان، قد تكون المواقف أكثر تعقيدا بعض الشيء، خاصة إذا لم تكن متأكدا من أين تبدأ. يمكن أن يكون الطبيب النفسي المتخصص في العلاج الشخصي أو العلاج السلوكي المعرفي مفيدا في إدارة FOMO والتأكد من أنك تطارد أحلامك في الواقع وليس عبر الإنترنت. بعد كل شيء، عندما تخشى أن تفوتك الفرصة، فمن الجيد معرفة أن لديك شخصا في فريقك يفهم تجربتك.

إن طلب المساعدة من شخص متخصص في علاج الصحة العقلية هو دائما فكرة جيدة. العلاج الشخصي هو وسيلة استثنائية لفهمك كفرد وكيفية ارتباطك بالعالم. العلاج السلوكي المعرفي مفيد أيضا لمزيد من الأعراض الفسيولوجية وتعلم إدارة التشوهات المعرفية واجترار الأفكار.

***

د. احمد المغير

عن / مايوكلنك

 

على رقعة صغيرة من الارض في ريف شرق المانيا، وفي مدينة صغيرة تقع على ضفاف نهر البريغل، عاش مواطن الماني حياة رتيبة، حيث ظل لأكثر من نصف قرن يستيقظ  كل يوم في الخامسة صباحا، كان ينام كل ليلة لمدة سبع ساعات بالتمام والكمال، وعند الساعة الخامسة إلا خمس دقائق، كان " لامب " الرجل الذي يقوم على خدمته يسير الى غرفة الفيلسوف وقد تملكه شعور بانه يؤدي واجباً، ثم يصيح بنبرة عسكرية: " السيد الاستاذ لقد حان الوقت ".

ومن الطريف انه طلب ذات يوم من " لامب " أن يتركه ينام نصف ساعة زيادة، فرفض الرجل رفضا قاطعا وهو يقول:" تريد مني ان اخالف التعاليم ". بعد ان يستيقظ يجلس على منضدة في زاوية من المطبخ ليكتب لمدة ثلاث ساعات لا تزيد دقيقة ولا تنقص دقيقة واحدة، يتناول خلالها قدحا من الشاي. في الثامنة صباحا يرتدي ملابسه التي كان ينسقها حسب فصول السنة، فقد كان يهتم كثيرا باناقته، ويصر على أن تتناغم سترته الطويلة مع جواربه، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته: " من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة، على ان تكون الموضة خارج حساباتك". كان صاحبنا متوسط الطول، قامته معتدلة، غير انه يعاني من ارتفاع طفيف في كتفه الايمن.. عيناه زرقوين إلا ان اليسرى كانت تعاني من الضعف بسبب القراءة المتواصلة. يكتب عن نفسه:" إنني ضئيل قليل الاهمية إلى حد ان الرياح تمر فوق رأسي فلا تقتلعني كما تفعل بالنباتات التي تعلوني طولا ". يفلسف اهمية الرياضة في حياة الانسان، ويرى أن المشي لمسافات طويله يجب ان يتحول إلى قانون يومي يرافق الانسان، بشرط أن تسير لوحدك دون ان يجهدك صديق او تلميذ في حديث غير مجدي، ولهذا كان يقول أن اولى شروط المشي أن يبقى الفم مغلقا،

في مدينة كونيغسبرغ التي ولد فيها في الثاني والعشرين من نيسان 1724 وعاش فيها اقل من ثمانين عاما باسابيع – توفي في الثاني عشر من شباط عام 1804، لم يغادرها، لكنه تنقل في عدد من البيوت وكان السبب ضوضاء الجيران، حتى انه اشتكى يوما من ديك كان يربيه جاره، واضطر ان ينتقل الى مسكن جديد، الامر الذي دفع الجار ان يقول:" هل يعقل ان ديكا بسيطا، يمكن ان يزعج فيلسوفا عظيما ". لم تربك حياته علاقات نسائية، في شبابه كان يصربعد الانتهاء من القاء محاضراته، على الذهاب الى المقهى للعب البليارد، لأنه كان يعتقد ان في ذلك تنشيطاً للذهن. يحب الهدوء، ويكره السفر، يجد ان حياته مرتبطة ببلدته التي كتب عنها:" ان مدينة مثل  كونيغسبرغ، يمكن ان تجد فيها مكانا مناسبا لتوسيع المعرفة بالانسان والمعرفة بالعالم سواء بسواء، ويمكن ان تكتسب هذه المعرفة دون سفر "- إيمانويل كانط (الانثربولوجيا ) ترجمة فتحي إنقزو -. كانت الناس لاترى فيه سوى استاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم يحيونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه، ولكنهم لم يدركو ان هذا الرجل يمارس بصمت عملية "تهديم" لأفكار قرون مضت "  كانت احواله المادية تتقدم ببطأ، فقد بدأ حياته المهنية  محاضرا في الجامعة عام 1755 براتب ضئيل، كما كانت اثنتان من شقيقاته تعملان خادمتان، وظل يعمل اربعة عشر سنة قبل أن يحصل على وظيفة استاذ.. عاش إيمانويل كانط حياته يمارس عاداته اليومية بانتظام، حتى ان جيرانه كانوا يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه من بيته وعودته، وبرغم نمط حياته الذي يعتبره البعض ميكانيكيا إلا ان كانط كان متشددا لا يهادن في المسائل التي تتعلق بالعالم من حوله. كان يرى ان الحق واضح والباطل واضح، ولا يجوز الخلط بينهما، ولهذا يسجل له تاريخ الفكر انه من ابرز الذين واجهوا بشجاعة الاكاذيب وظل يؤمن ان الوعي هو الشيء الثمبن  في حياة الانسان، وان قدرتنا على المناقشة المنطقية هي الشيء الوحيد الذي يميزنا عن باقي المخلوقات في الكون. نحن قادرون على تطوير العالم الذي حولنا باستخدام التفكير والارادة. نحن الوحيدون القادرون على توجيه قدرنا. نحن الوحيدون الذين لدينا إدراك لذاتنا. ان تغيير العالم حسب مفهوم كانط لا يتم من خلال ايديولوجية، ولا من خلال تحول جماهيري إلى دين او عقيدة ما، ولا من خلال احلام واهمة عن المستقبل. بل من خلال إحراز النضج والكرامة لكل فرد. ستكون هناك دائما ديانات مختلفة وانظمة وقيم مختلفة قائمة على الثقافة والتجارب، وستكون هناك دائما افكار مختلفة، لكن اصر كانط على ان قضية الكرامة الانسانية واحترام حقوق الانسان، يجب ان تتحول الى قضية عامة وشاملة.

يُصدِر كتابه:" الدين في حدود مجرّد العقل " – ترجمه فتحي المسكيني – بالعبارة التالية:" إنّ دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه ". ونجده يحاول ان يُشدد على الناحية الاخلاقية في كل دين، وبالتالي فأن أي تقرب من الله خارج العمل الانساني الصالح، هو مجرد جري وراء سراب:" كل ما يظن الانسان انه يستطيع ان يفعله من اجل نيل رضا الله خارج التصرف الحسن والعمل الجيد ليس سوى وهم وعبادة خاطئة " - الدين في حدود مجرّد العقل -

كان والد كانط  " يوهان جورج " يعمل سراجا، مات عندما كان كانط في الثانية والعشرين من عمره، اما امه " حنا ريجينا " فقد توفيت وهو في الثالثة عشر من عمره، كان الابن الرابع لعائلة تتكون من تسعة اطفال، مات ثلاثة منهم وهم اطفال، عاشت العائلة في جو ديني متشدد.

بين كانط ومدينته التي كانت جزءً من المانيا، علاقة خاصة جدا، اطلق عليها اسم " مدينة السلام "، وقد تاسست المدينة في نفس السنة التي ولد فيها كانط من تجمع ثلاث مناطق سكنية، عاش في مدينته كونيغسبرغ حياة هادئة، ولم يكن يتوقع يوما ان هذه المدينة الصغيرة ستهب عليها ويلات الحروب التي كان يحذر منها،، وانها ستتصدر مشهد الصراع العسكري بين روسيا والتحالف الغربي، وتتحول الى  قاعدة عسكرية روسية عائمة وسط القارة الأوروبية. وانها ستكون عنوان من عناوين الحروب الاوربية خلا القرون الاخيرة. فهذه البقعة التي لا تزيد مساحتها عن 215 كلم مربع، ويسكنها أقل من نصف مليون انسان، كانت تخضع للسيادة الألمانية، لتنتهي سنة 1945 تحت السيطرة الروسية، ويتغير اسمها من  كونيغسبرغ  الى كالينينغراد حيث قامت روسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باخلاء المدينة من السكان الالمان، ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية واكتسبت أهمية كونها تخترق اوربا. حاول الغرب إقناع روسيا بالتخلي عنها،  ومنحها الاستقلال  مثل باقي دول المنطقة الصغيرة مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، وقدمت المانيا عرضا مغريا عام 2001 بشراء مسقط راس اعظم فلاسفتها، مقابل، إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، التي تجاوزت 25 مليار يورو، لكن روسيا رفضت فالروس يؤمنون ان كونيغسبرغ التي تقع في قلب البلطيق،  قادرة على خلق " مفاجأة استراتيجية"، وان بامكانها ان تزرع الرعب في المنطقة وهذا ما قام به الكرملين عشية الحرب في اوكرونيا، حيث صدرت الاوامر بتعزيز القوة العسكرية الروسية وتوجيه الرؤوس  النووية باتجاه اوربا.

في صباح يوم الحادي والعشرين من كانون الاول عام 1794 كتب ايمانويل كانط الجملة الاولى من كتابه الذي سيختار له اسم " مشروع للسلام الدائم "، وقد اراد كانط لكتابه الصغير الحجم أن يكون بمثابة التطبيق العملي لنظريته السياسية والتي سيضع اسسها فيما بعد في  كتابه " الاصول الميتافيزيقية لفلسفة الحق " والذي صدر عام 1797 اي بعد عامين من صدور " مشروع للسلام الدائم " وسيكتب في مقدمته:" المسألة لم تعد مسألة معرفة ما إذا كان السلام الدائم واقعا حقيقيا او تصورا فارغا، وما إذا كنا لسنا على خطأ في حكمنا النظري.. إنما ينبغي أن نعمل كما لو كان السلام، الذي ربما لن يتحقق، قابلا للتنفيذ، وأن نعمد، سعيا وراء هذه الغاية ".

ربما يقول البعض لماذا نعود بانظارنا الى هذا الفيلسوف الذي عاش قبل ما يقارب الثلثمائة عام، ولماذا  لا نلجأ الى احد معاصرينا من الفلاسفة، يقول برتراند رسل وهو يتحدث عن دور كانط في ترسيخ مفهوم السلام ان هناك اجابة واحدة  تتلخص في الدور المحوري الذي يلعبه مفهوم كانط في كل نقاش عن السلام. ان كتابات كانط كما يقول شوبنهاور:" لا تزال فتية جدا"، ولهذا اذا كنا نعيش في مجتمع ديمقراطي فعلينا ان نتذكر كانط، حيث كان من اوائل الذين اكدوا على ان لكل انسان كرامة اصلية ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها – كانط تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ترجمة عبد الغفار مكاوي – وقد كان اول فيلسوف يطالب بانشاء هيئة عالمية قادرة على ضمان السلام في العالم، كما كان متصلبا وغير مهادنا في موضوعة الاستبداد. وربما كان الفيلسوف الاكثر اهمية الذي تمعن في مفهوم الاخلاق والخير، واصر على ان إرادة الخير "  لا تكون خيرة بما تُحدِثه من أَثر أو تُحرزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده أعني أنها خيِّرة في ذاتها" - تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق -

بعد الحرب العالمية الثانية قررت المانيا ان تلتفت الى فيلسوفها الكبير، ورغم ان قبره تحول الى ارض روسية، فقد بدأت المطابع باخراج طبعات جديدة من كتاب " مشروع للسلام الدائم " بلغت في عام واحد " 14 " طبعة كتبت لها مقدمات مختلفة، فيما اصدرت مطابع نيويورك ولندن وباريس طبعات لكتاب كانط الذي تم اعتباره اشبه بدستور ينظم حياة البشرية، وهو ما تحقق بمشروع الامم المتحدة الذي يقترب من مقترح كانط في تكوين رابطة تجتمع بها الأمم للتحاكم في النزاعات بغية تعزيز المجتمع السلمي في أنحاء العالم.

في مقدمة كتابه " مشروع للسلام الدائم " يضع كانت هذه العبارة:" لقد وضع احد اصحاب الفنادق من الهولنديين ذات يوم لافته وكتب فوقها عبارة (الى السلام الابدي). ترى أكان مقصودا من ذلك النقش الساخر أن يوجه اللوم الى الناس عامة ام الى رؤساء الدول الذين لا يشبعون من الحرب ابداً، ام الى الفلاسفة الذين الذين يستمرئون حلم السلام اللذيذ ".

لعله منظر بالغ الاهمية والجمال عندما نتخيل ان ايمانويل كانط، الاستاذ الجامعي، الوديع، الذي يعيش حياة منتظمة انتظاما آليا مثل ساعة دقيقة ومحكمة، يجلس ذات يوم بعد ان ينتهي من شرب قدح الشاي الصباحي ليفكر في احوال العالم ويكتب:" لا يجوز الاستيلاء على دولة مستقلة، كبيرة كانت ام صغيرة ". ويكملها بعبارة ستعتبر دستورا يحكم العلاقات بين الدول قائلا:" لا يجوز لدولة ان تتدخل بالقوة في نظام الحكم القائم في دولة اخرى " وفي خضم شرحه لفكرة الوصول إلى الذروة المفترضة من الحرية، يطرح فكرة العلاقات الدولية بين الدول القومية في العالم. حيث اعتبر كانط الدولة القومية ضرورية، للوصول إلى الحرية وبلوغ السلام العالمي. واعتبر التوازن بين هذه الدول، شرطاً أساسياً في الحفاظ على السلم والحرية. وفي المقابل، اعتبر كانط الدولة أو الحكومة العالمية (أي دولة القطب الواحد التي تحكم جميع البشرية) دولة استبدادية تناقض النضال العالمي من أجل بلوغ الحرية. الدولة ليس متاعا يباع ويشترى، بل هي جماعة انسانية لا يجوز لاحد ان يحكمها او يتصرف فيها إلا هي نفسها، وادماج دولة في دولة اخرى يعني القضاء على شخصيتها المعنوية واعتبارها مجرد سلعة، وفي هذا اهدار لها بوصفها كائنا معنويا. ان الحاكم، مهما يكن شأنه لا يحق له ابدا ان ينظر الى أية دولة اخرى مستقلة على انها مجرد عقار يخضع للملكية. ان الحرب وسيلة للدفاع عن الحق، وليست وسيلة للتدمير الشامل، مهما كانت الحجج العسكرية التي يمكن التذرع بها. فهناك فوق اعتبارات الحرب، اعتبارات انسانية تعلوا على كل اعتبار. يرفض كانط في تصويره للدولة وجود عقد سياسي بين الحاكم والمحكومين، لانه بموجب هذا العقد يتنازل الشعب عن كامل حقوقه للحاكم. بحيث يصبح لهذا الاخير السيادة المطلقة على شعبه، لأن الاساس القانوني للدولة عند كانط هو سيادة الإرادة العامة او ارادة الشعب التي لا يوجد سيد غيرها بموجب قوانين الحربة. وكانط هو صاحب الرأي الذي يقول ان الشعب هو صاحب الحق في التشريع وليس الحاكم، وليس للحاكم اي سلطة سوى السلطة التنفيذية التي تخضع لتشريع الشعب. وحتى السلطة القضائية ايضا تخضع لإرادة الشعب من خلال اختيار السلطة القضائية اختيارا حرا. ويؤمن كانط بسن قانون اسماه قانون الشعوب:" ينبغي ان يقوم قانون الشعوب على اساس نظام اتحادي بين دول حرة. ان الشعوب – مثلها مثل الافراد – لكي تخرج من حالة الحرب التي غالبا ما تنشب بسبب انعدام القوانين إلا ان تتخلى كالافراد عن حريتها الجامحة الهوجاء وان تذعن لإلزام القوانين العامة " – مشروع للسلام الدائم  -.

هل تحن بحاجة الى كانط هذه الايام ؟ سيكون الجواب من خلال ثلاثيته النقدية الشهيرة " نقد العقل الخالص "  و" نقد العقل العملي"  و" نقد ملكة الحكم ".حيث يؤكد لنا نحن ابناء القرن الحادي والعشرين ان العقل مفتاح لما نجربه ونختبره  وما نعرفه، وان اي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه، وان الانسان قادر بقوة عقله على فهم الحقيقة.وان علينا ان ندرك ان كل شيء يتحقق في هذا العالم - السعادة والطمانينة والرفاهية -  حين يحترم كل منا حقوق الآخر، ونسمع صوت الحياة الذي يقول لنا على لسان كانط اننا قادرون على وقف المجازر بيننا، لو اصغينا الى صوت العقل، واننا جميعا نملك في اعماقنا بحراً يفيض بالخير.

في وصيته التي سلمها لاحد تلامذته طلب كانط ان يكتب على شاهدة قبره:  " شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي".

ونحن نعيد قراءة كانط والتمعن في كتاباته سنكتشف ان الرجل الانيق كان ينظر إلى الفلسفة بوصفها شيئاً  لا ينفصل  عن التجربة الفكرية للحياة، بل وانها جزءاً حيويا من هذه التجربة الحياتية..يكتب كارل ياسبرز ان إيمانويل كانط يريد منا جميعا ان نحمل لقب " مخلوق اخلاقي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

لا ريب في أن أطروحات عالم الاجتماع العراقي الراحل (علي الوردي) وفرضياته الإشكالية بشأن طبيعة المجتمع العراقي وأنماط شخصيته الملتبسة، ستبقى محور نقاشات ومساجلات بين العامة والخاصة على حدّ سواء، مثلما ستبقى فاعلة ومؤثرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية التي لامستها تلك الطروحات والفرضيات . ولعل أطروحة (ازدواج الشخصية) تعد في ترسانة فكريات هذا العالم من أبرز تلك الطروحات والفرضيات التي برع في صياغتها، حيث استطاع من خلالها إماطة اللثام عن العديد من الظواهر السلوكية الشاذة التي تتميز بها الشخصية العراقية، دون سائر أنماط شخصيات أقرانه الأخرى من أقوام العرب والمسلمين .

وعلى الرغم من حقيقة تأثر (علي الوردي) بأفكار وآراء (ابن خلدون) وانتهاج نهجه في تحليل ظاهرة (البداوة) في المجتمعين العربي – العراقي، للحدّ الذي أفرد له كتاب خاص تحدث فيه عن أصول ومضامين (فلسفته الاجتماعية)، إلاّ أنه لم يعدم الاستفادة من النظريات السوسيولوجية والفرضيات الانثروبولوجية التي صادفها أثناء دراسته في أمريكا، وخصوصا"تلك التي وضعها كل من عالما الاجتماع الأمريكيان (روبرت ماكيفر) و(وليم اغبورن)، والتي لاحظ ان ما تطرقت إليه تلك الفرضيات والنظريات يمكن – بعد تشذيبها وإعادة ترتيب مضامينها - توظيفها في المجالين العربي والإسلامي، ومن ثم استخلاص بعض الطروحات التي تفيد في تحليل الواقع التاريخي والاجتماعي للعراق .

وبصرف النظر عن حقيقة كون هذا العالم قد استمد أطروحات (التناشز الاجتماعي) و(صراع البداوة والحضارة) و(الشخصية الحلفائية) وغيرها من الأطروحات التي شاعت في أوساطنا الاجتماعية الثقافية . بيد ان هذه المعلومة لا تجرح في قدراته الفكرية وإمكانياته الثقافية بقدر ما تضيف الى رصيده العلمي وترفع من شأنه الاجتماعي، حيث استطاع – وقد نجح في ذلك - من خلالها وبالاعتماد عليها تبيئة وتوظيف تلك الفرضيات، بما ينسجم وطبيعة المجتمع العراقي الموصوف بالتقلب والمزاجية، وبما يتلائم مع خصائص جماعاته ومكوناته الموسومة بالتعصب والتطرف .

ولعل من أشهر وأبرز تلك الفرضيات التي اجترحها كأداة منهجية لتحليل طبيعة المجتمع العراقي وإماطة اللثام عن خصائص شخصيته، ومن ثم الكشف عن بنى تفكيرها ومضمرات سيكولوجيتها وأنماط سلوكها، هي (صراع البداوة والحضارة) التي اعتقد أنها من نتاج عوامل المدّ والجزر بين الأولى والثانية . حيث تسود الحضارة وتنتشر مظاهرها في حالة (المدّ)، في حين تطغى البداوة وتستشري مظاهرها في حالة (الجزر)، هذا دون أن يشير – لا تصريحا"ولا تلميحا"- لأمر حسم الغلبة لأي منها في مضمار هذا التصارع الحضاري المتناوب، تاركا"أمر استخلاص النتيجة لعوامل التطور الاجتماعي التي لا يمكن البت في مسارها المتعرج وسيرورتها المتقطعة .

وعلى قدر ما نمحض تأييدنا ونبدي إعجابنا بهذه الفرضية الانثروبولوجية التي تفسّر لنا الكثير من غوامض وشواذ طبيعة المجتمع العراقي المركبة، إلاّ أننا – بالمقابل – لا نميل الى التفسير الذي اقترحته علينا بشأن ديناميات ومئآلات هذا الصراع . ذلك لأن عوامل كل من (البداوة) و(الحضارة) لا توجد على النحو الذي يفهم منه أن عناصر الأولى تعمل بصورة (مستقلة) عن عناصر الثانية، وأنه لا رابط جدلي ولا صلة وظيفية بين كينونتيهما في إطار صيرورة المجتمع وسيرورة تطوره . بحيث يمكننا العثور على (نقاء) الأولى في القرى والأرياف، مثلما يمكننا اكتشاف (نقاء) الثانية في المدن والحواضر .

وبضوء تطور العلوم الاجتماعية وارتقاء المعارف الإنسانية، بات من المتعذر الركون الى الأفكار والآراء التي تتبنى مقاربات تقليدية تنظر الى الواقع المفعم بالتداخل والتفاعل نظرة استاتيكية ساكنة، مثلما تتعامل مع ظواهره من منطلق (الانفصال) بينها و(الانعزال) عن بعضها، كما لو كانت أشياء جامدة وكيانات ثابتة لا شأن للإرادة الإنسانية في تكوينها أو التأثير والتأثر بها . ولذلك فان ما نراه ونعتقد به هو أن ظاهرة (صراع البداوة والحضارة) في العراق، ناجمة ليس من جراء عمليات (المد) و(الجزر) التي يعتقد أنها تتناوب فيما بينها للفوز بسيادة الانتشار الجغرافي / المكاني والاستئثار الاجتماعي / القيمي، وفقا"لأواليات من الصعود تارة والهبوط تارة ثانية تعتمد على دافع خارجي لا يمكن تحديده بدقة . بل ان ما نرجحه من أسباب ودوافع لحصول تلك الظاهرة قائم على أساس ان بنية الوعي الاجتماعي للإنسان العراقي، فضلا"عن بواطن سيكولوجيته ومكنون مخياله، لا تزال – وستبقى الى أجل غير معلوم - تستنبت في مطمورها اللاوعي جذور (البداوة) وبذور قيمها وأعرافها وتقاليدها في حالة من الكمون، طالما انه لا يشعر بوجود ما يهدد مصالحه الشخصية أو يتعرض لانتماءاته الفئوية بسوء . هذا في حين نجده، على العكس من ذلك، يسارع الى استدعاء واستثمار كل ما في مخزونه الذهني والنفسي والتاريخي من مواريث بدائية، حالما يستشعر اقتراب الخطر من حدود عرين أناه الذاتي والجماعاتي . أي بمعنى ان نوازع البداوة وسلوكيات التبدون لم تغادر شخصية الإنسان العراقي أو تغيب عن أفق تفكيره، بحيث يخطر لنا انه تغلب عليها وتطهّر منها وتحرر من سطوتها، لمجرد انه هجر مرابض قريته وتخلى عن حقول ريفه مفضلا"عليها السكن في المدينة واختيار حياة الاستقرار والسكينة . وإنما هي بالنسبة له بمثابة رفيقه الدائم وحارسه الأمين الذي يحتكم إليه ويستنجد به لحظة الوقوع في مأزق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي .

وبناء على ذلك، فان الحالة التي يكون فيها حضور الدولة طاغ وظهور قوة السلطة رادع على صعيد المجتمع ككل، فضلا"عما يترتب عليهما من خضوع عام لمؤسسات الأولى وإذعان شامل لتشريعات الثانية، هو ما يجعل ساكن المدينة يتجلبب بجلباب (الحضرية) ويتمظهر بمظاهر قيمها ويتقنع بقناع أعرافها . وليس ما يشاع عن خاصية استعداده الفطري واستجابته الطبيعية للانخراط في ديناميات (المدّ) الحضاري، حالما يصادف ان مقدمات الدور التاريخي لهذا الأخير ضمن سيرورة التطور باتت لها الغلبة على نقيضه (المدّ) البدوي الذي سوف تشهد مكوناته وتكويناته لحظة الاستسلام لعوامل التراجع المديني والأفول الحضاري . والحال سوف نلاحظ حصول العكس عندما تتوقف وتصاب بالجمود، أو حين ترتد وتنتكص أواليات التطور – بصرف النظر عن الأسباب – حينها سنكون أمام حالة من انحسار (المدّ) الحضري وتآكل قيمه من جهة، وانتشار (المدّ) البدوي وتطاول قيمه من جهة أخرى .

والخلاصة، ان فرضية (صراع البداوة والحضارة) في المجتمع العراقي تقوم – من وجهة نظرنا - على ركيزتين أساسيتين ؛ (ذاتية) و(موضوعية) . ففيما يتصل بمضمون الأولى ؛ نعتقد ان جذور (البداوة) وبذور (التبدون) موجودة وقارة في كينونة كل إنسان عراقي – مهما حاول إثبات العكس – حتى دون أن يشعر بها خلال لحظات وعيه أو يستدل عليها عبر معطيات سلوكه . ذلك لأنها رابضة بين طبقات لا- شعوره ومطمورة في رواسب مخياله . وان مسألة طغيان مظاهر (البداوة) و(البدونة) على مظاهر (التمدن) و(التحضرن)، أو بالعكس انكماش واضمحلال الأولى لصالح الثانية ، مرهون بمضمون الركيزة الثانية التي تتمثل بحضور طاغ لمؤسسات (الدولة) وإشهار رادع تشريعات (السلطة)، بحيث يمكننا صياغة المعادلة التالية : دولة (قوية) + سلطة (رادعة) = حضارة، دولة (ضعيفة) + سلطة (عنينة) = (بداوة) ! .

وهكذا فحالما تظهر بوادر الضعف على كيان الدولة ومعالم التراخي على هيكل السلطة، سرعان ما يرتد ذلك الكائن (المتمدن) و(المتحضرن) - شكلا"لا مضمونا"- الى مرابض (قبيلته) وحواضن (تبدونه)، ينشد عندها مقومات الحماية الاجتماعية والرعاية الاقتصادية والمساندة النفسية، على إيقاع انفلات العصبيات وصدام الإرادات وتصارع الجماعات،  التي سرعان ما يجد نفسه وقد انخرط في عواء قطعانها المفترسة ! .

***

ثامر عباس

             

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ في تراثنا القديم الكثير من الهَرْف بغير عِلم، ومن الاستخفاف بالعقول، بل من فقدان العقل النقدي الفِطري، وعدم التساؤل عن مصادر المعلومات.  فكثيرًا ما تَجِد الراوي يتعالم بما شاء، ثمَّ لا يضع بين يديك شيئًا تركن إليه، من عزوٍ، أو إسنادٍ، سِوَى سرد العنعنات الفارغة.  واللافت أن يأتي هذا في تفسير «القرآن الكريم»، الذي هو في غنًى عن بعض التفاسير؛ ليصبح ما يُدلِـي به المفسِّر أحرى بالتفسير من النصِّ المفسَّر نفسه.  ومن ثَمَّ يتحوَّل كتاب التفسير إلى معرض رواياتٍ متضاربة، و«سوالف» خياليَّة غريبة، وأقاصيص شعبيَّة متوارثة، ما أنزل الله بها من سلطان.  وربما عُتِّقت أيضًا، وكثيرًا ما تعتَّق، بروايات إضافيَّة، وأقاصيص أخرى عن أهل الكِتاب، في إسرائيليَّات شتَّى، يُنظَر إليها على أنها نبع النور الَّدُنِّيِّ، وأنَّ فيها من الأسرار ما لا غِنى عنه للمفسِّر.  ليتمخَّض هذا كلُّه عن ركامٍ عجيب، ينمُّ عن فطناتٍ مغيَّبة، وعن منهجيَّاتٍ صِفريَّة؛ فإذا هذه القافلة تمتدُّ فينا وتستشري عبر الأجيال، تلقِّيًا، وتسليمًا، وترديدًا، وأحاديث خرافة. 

ولقد حاول (ابن كثير)، مثلًا، نقد الروايات عن عُمْر (نُوح)، التي ناقشناها في المقال السابق، وهو ما يُحسَب له.  لولا أنه بدوره قد وقع في ميلٍ عاطفي، لا أساس موضوعيًا له؛ إذ رجَّح ما رُوِي عن (ابن عبَّاس)؛ لا لشيء، سوى أنها رواية عن الموصوف بـ«حَبْر هذه الأُمَّة»!  ولئن كان حَبْرًا، فهو ليس بنبيٍّ، يُوحَى إليه ما لم يَرِد في كتابٍ ولا جاء في أثر! فقال بعد أن استغرب الأقوال المشار إليها: «وقول ابن عباس أقرب»!  لماذا هو أقرب، يا ابن كثير؟  أ لأنه الأقل مبالغة في الإشارة إلى عُمر نُوح؟  أم لأنه عن ابن عباس، لا أكثر؟ 

أمَّا القول المطابق لما ورد في «القرآن» وفي «التناخ»، أو ما يُسمَّى «العهد القديم»، فهو ما جاء عن (قتادة)، الذي قال: «يقال: إنَّ عُمْره كلَّه كان ألف سنةٍ إلَّا خمسين عامًا ، لَبِث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاث مئة، ولَبِث بعد الطُّوْفان ثلاث مئة وخمسين سنة.» (1) فهو هنا لم يَعْدُ النصَّ، وإنْ أضاف التفصيل حول تقسيم عُمْره، إلى: ما قبل الدعوة، وبعد الدعوة، وبعد الطُّوْفان.  صحيح أنه اجتهادٌ تفصيليٌّ لا أصل له، سِوَى التخمين، ولا قيمة معرفيَّة فيه، غير أنَّ هذا كان الأحرى بالترجيح. 

ولئن لم يكن للمؤمن من سبيلٍ غير التسليم بما نُصَّ عليه في الكتب المقدَّسة، فلقد نجد أن هذا الضرب من التخيُّل حول أعمار القدماء، وأنَّها كانت تمتدُّ إلى قرونٍ، قد ظلَّ ساريًا في الثقافة الإسلاميَّة!  من شواهد ذلك ما زُعِم حول عُمْر (سلمان الفارسي)، على سبيل المثال.  جاء لدَى (ابن حجر العسقلاني)(2): «يقال: إنَّه أدرك (عيسى بن مريم)! وقيل: بل أدرك وصيَّ عيسى!»  فيُصدَم القارئ حين يقرأ هذا، ظانًّا، أوَّل وهلة، أنَّ في النصِّ لبسًا، قبل أن يتبيَّن أنَّ عقل ابن حجر لم يكن ببعيدٍ عن تصديق هذا: أنَّ سلمان الفارسي أدرك المسيح أو وصيَّه!  ولذا لم يُعجِبه تعقُّلُ (الذهبي) في هذه المسألة، فتعقَّبه ليردَّه على عقبيه إلى الخرافة التي يؤمن بها هو، فقال:

«قال الذهبي: وجدتُ الأقوال في سِنِّه كلَّها دالةً على أنه جاوز المئتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد، قال: ثمَّ رجعتُ عن ذلك، وظهرَ لي أنه ما زاد على الثمانين.  قلتُ: لم يَذكُر مستنده في ذلك، وأظنُّه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النبيِّ، صلى الله عليه وسلَّم، وتزوُّجِه امرأة من كندة، وغير ذلك ممَّا يدلُّ على بقاء بعض النشاط، لكن إنْ ثبت ما ذكروه، يكون ذلك من خوارق العادات في حقِّه. وما المانع من ذلك؟ فقد روى أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيين»، من طريق العباس بن يزيد، قال: أهل العِلم يقولون: عاش سلمان ثلاث مئة وخمسين سنة، فأمَّا مِئتان وخمسون، فلا يشكُّون»! 

قلتُ: بل إنَّ (ابن حجر) نفسه لم يَذكُر مستنده في أنَّ سلمان عاش ثلاث مئة وخمسين سنة، أو مئتين وخمسين، غير ثقته العمياء بما رواه «أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيين»، من طريق العباس بن يزيد، قال: أهل العِلم يقولون:....»! إنْ هو، إذن، إلَّا اتِّباع الظَّن، في الوقت الذي عاب على (الذهبي) أنَّه لم يَذكُر مستنده.  وإنَّما مستند الذهبي، في رجوعه عن تلك المبالغات، العقلُ، ثمَّ أخبار (سلمان) الواقعيَّة، التي لا ترقى قبل الإسلام إلَّا إلى بضعة عقود من السنين، لا إلى قرون!  وما خوارق العادات تلك في حقِّ سلمان التي اختصَّه الله بها؟! ليعيش مدرِكًا (المسيح) و(محمَّدًا)، هكذا دون العالمين!  إنَّ المانع من تصديق ذلك لا يحتاج إلى جدال مع (ابن حجر).  وما جاء تصديق هذه الخوارق، أوَّلًا، إلَّا من قبيل تبجيل سلمان الفارسي، ما جعله يتقبَّل خارقة عُمْرٍ استثنائيٍّ طويل، لم يَقُل بمثله قائل، لا في جاهليةٍ ولا في إسلام.  والسبب الآخر، في ما يبدو، ما ورد في أخبار سلمان قبل الإسلام من أنَّه- في رحلته الطويلة للبحث عن الدِّين الحق- قد التقى بعددٍ من أحبار النصارى، وصَحِبَهم، معتنقًا ديانتهم.  فقفز الخيال بالقافزين لتَصوُّر أنَّ الرَّجل قد أدرك المسيح نفسه، أو أدرك وصيَّه! 

وهكذا يتضح لنا كم في كتب التراث من عناكب الأباطيل، الحريَّة بالمكافحة، عبر التحقيق والنقد، حفاظًا على سويَّة العقل والعِلم!  بيد أنَّ محقِّقي التراث المحدثين ودارسيه قلَّما يولون هذا الجانب اهتمامهم، هذا إنْ لم يكونوا عنه أصلًا غافلين، أو كانوا به مسلِّمين تابعين، كأسلافهم.

-2-

أمَّا ما سُمِّي «الكتاب المقدَّس»، بعهدَيه القديم والجديد- الذي كثيرًا ما نجد تسرُّب ما ورد فيه إلى كتب التاريخ الإسلاميَّة والتفسير- فلم يجتمع بين دفَّتَي كتاب قبل منتصف القرن الرابع الميلادي، أي بعد أكثر من 300 سنة من قِصَّة صلب (المسيح)!  وهي نسخة «كودكس فاتيكانوس»، الموجودة في (الفاتيكان).  وما تزال تُكتَشف الأناجيل- عدا الأربعة: (متَّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا)- حتى اليوم، في رسائل، ورؤى، وروايات شتَّى، يَقبلون منها ويرفضون، يُثبِتون وينفون.  لعلَّ من آخِرها (إنجيل توما)، المكتشَف في (مِصْر)، لدَى منتصف القرن العشرين. وهي، في ما يظهر، مرويَّات قصصيَّة متعدِّدة، تدور حول السِّيرة الذاتية للمسيح، من خلال نُسَخٍ متناثرةٍ متضاربة، لأتباع مجهولين أو معروفين، ممثِّلةً ما ثقفوه، أو سمعوه، أو وعوه، أو حتى تخيَّلوه فاختلقوه، على أزمان وأماكن متباعدة، من المستحيل تحقيق مرجعيَّة ما يصحُّ منها إلى عصر المسيح، على نحوٍ عِلميٍّ يُعتدُّ به؛ ليس لانقطاع الأسانيد فحسب، كما يقال في عِلم الحديث، ولكن للجهل بها أصلًا، أو عدم وجودها أساسًا.  على أنَّ نسبة ذلك إلى المسيح نفسه منتفٍ موضوعيًّا، فالأناجيل إنما تحكي في معظمها عن المسيح، وتروي عن سيرته وأخباره، من قِبَل آخَرين- بطبيعة الحال- لا من قِبَله هو، ثمَّ تُورِد خلال السَّرد شواهد واقتباسات من مواعظه وكلامه.  ويظلُّ الإشكال في توثيق المخطوط أكبر من الإشكال في توثيق المرويِّ شفويًّا، لا كما يُتصوَّر عادة؛ لأن المرويَّ الشفويَّ يكون مشهورًا غالبًا، ويتوارد من أكثر من طريق، ممَّا يرجِّع صِحَّة نسبته إلى قائله، بخلاف مخطوطٍ مجهولٍ يُعثَر عليه في بلدٍ ما بعد مئات السنين، لا سبيل إلى التوثُّق من صحَّته، ما لم يكن متداوَلًا مشهورًا متفَّقًا على صحَّته، أو وقفتَ في نصِّه على ما يمكن، بنقدٍ نصيٍّ داخليٍّ وقرائن تاريخيَّة، الاطمئنان إلى عَزْوِه.  وهي مجاهل لا أوَّل لها ولا آخِر، كما ترى.  وكذا لم ينشأ الخلاف بين أتباع المسيح حول ماهيَّة المسيح، أهو بشرٌ أم إله، إلَّا في وقتٍ متأخِّر، وذلك في القرن الثالث الميلادي، فانقسموا على أنفسهم: منهم من عدَّه: (الله)، لا غير! ومنهم من تنازل، فعَدَّه: (ابن الله)! ومنهم من رفض هذا وذاك، واعتقد أنه بَشَرٌ رسولٌ جاء بالبشارة.  وقد صنَّفت الكنيسةُ الأرثوذوكسيَّة، بعد حين، هؤلاء الأخيرين، الذين لا يؤلِّهون المسيح، على أنهم «كَفَرَة فَجَرَة»، أو محض هراطقة، وليسوا على شيء!(3)  وما في هذا من  طعنٍ أو تخرُّص، بل هو ما يقرِّره علماء الكتاب أنفسهم، ومؤرِّخوه، وهم من أتباعه، وما من إنسانٍ يملك إثبات خلافه.(4)  غير أنَّ ما يعترفون به في خاصَّتهم درجوا عادةً على أن لا يصرِّحوا به لعامَّتهم، وإنْ كان الخَرْق المعرفيُّ اليوم قد اتسع على الراقع اللاهوتي، وما كان قديمًا يتسنَّى جعله في قَراطيسَ، يبديها أصحابها ويُخفون كثيرًا، ما عادت القراطيس اليوم تُخفي منه شيئًا، هذا إنْ بقيت القراطيس وعاء معلوماتٍ أصلًا في عصرنا هذا!  ولكن لكي يتمَّ الذَّبُّ عن ذلك الواقع، الذي لم يَعُد في الوُسع ردُّه أو ترقيعه، لا بدَّ من الاحتيال، وبأيِّ ثمن، والهجوم، كما يقال، خير وسيلةٍ للدِّفاع، فلتُنسَب، إذن، إلى نصِّ «القرآن» شُبهات من الخَلل، بالغلط، أو التحريف- ذلك الكتاب الذي سبق الباحثين المحدثين إلى تشخيص الحالة التي يعاني منها نَصَّا التَّوراة والإنجيل بسبب تحريف الكَلِم عن مواضعه- وواحدة بواحدة.. وكما تَدين تُدان!

- تَدين أم تُدين؟ [سألتُ مولانا ذا القُروح].

- سؤال غير مهمٍّ هاهنا!  ولكن سوف نناقشه لك في المقال المقبل.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................

(1)  ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السلامة، (الرياض: دار طيبة)، 6: 268.

(2)  (1995)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكُتب العلميَّة)، 3: 119.

(3)  حول هذه النقطة، يمكن العودة مثلًا إلى: (زيدان، يوسف، (2010)، اللَّاهوت العَرَبي وأصول العُنف الدِّيني، (القاهرة: دار الشروق)، 73- 76، وغيرها).

(4)  يُنظَر مثلًا: عزيز، (القس) فهيم، (1980)، المدخل إلى العهد الجديد، (القاهرة: دار الثقافة المسيحيَّة)، 111- 112.

 

أعادت الحرب العدوانية على غزة مسلمي أوروبا، الذين يبلغ عددهم خمس وعشرون مليون نسمة، إلى دائرة الضوء من جديد. إن المناقشات المرتبطة بالمسلمين باعتبارهم خطراً أمنياً تصل دائماً إلى درجة عالية من الضجيج بعد وقوع عمل إرهابي مستوحى من الفكر الإسلامي في إحدى البلدان الأوروبية، أو إن شهدت منطقة الشرق الأوسط تداعيات نتيجة الحروب.

يرى بعض مسؤولو الأمن الأوروبيون خطراً متزايداً لشن هجمات يشنها إسلاميون تحولوا إلى التطرف بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس. ومن المرجح أن يأتي التهديد الأكبر من مهاجمين "ذئاب منفردة" يصعب تعقبها. في ذات الوقت الذي تُوجه فيه اتهامات للمسلمين في أوروبا أنهم يتطلعون إلى أسلمة المجتمع.

فيما يبدي الزعماء المسلمون في أوروبا قلقهم من الزيادة في الهجمات على المسلمين والمساجد منذ غارة حماس في السابع من أكتوبر، ويصفون مناخ الخوف بأنه مؤسف مع انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت. ويشعر الكثير من المسلمين بالغضب من ضراوة الهجوم الإسرائيلي، حيث يعتبرون أن على الحكومات الأوروبية أن تفعل المزيد لكبح جماح إسرائيل. وأثارت زيارات الزعماء البريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من قادة أوروبا لإسرائيل، غضب المسلمين المقيمين في أوروبا، من انحياز أوروبا للموقف الإسرائيلي، ومن اللغة المستخدمة في الخطاب، التي تخلق شعوراً بـ"نحن وهم".

اتهامات زائفة

إن المناقشات المتوترة حول مكانة الإسلام في أوروبا والادعاءات بأن المسلمين الأوروبيين هم جنود في مواجهة وجودية بين أوروبا والإسلام، ويمثلون "آخر" من المستحيل اندماجه، كانت تلاحق المسلمين في جميع أنحاء القارة لعقود من الزمن.

فالخطاب حول "أسلمة" أوروبا المزعومة يتم تأجيجه من قبل الأحزاب اليمينية الشعبوية الكارهة للأجانب، وتم تبنيه من قبل العديد من الساسة الأوروبيين الرئيسيين أيضاً.

ويناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم "الأوروبية"، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين. إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. إن مناخ الشك المتبادل يشكل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب.

إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين "غير حقيقيين" إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.

في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في - وفي بعض الحالات تغذيتها - آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.

أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل "فيدس" في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا. أصبحت هذه الأحزاب في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.

مشكلة الإسلام في أوروبا

يرى الأوروبيون أن قضيتي اللاجئون وعضوية تركيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي تشكلان مشكلتان حاسمتان تعوقان تطور هوية الاتحاد الأوروبي. ــويمكن إرجاعهما إلى التصورات السلبية للإسلام. لماذا يعتبر الإسلام مشكلة؟ ماذا نعني عندما نتحدث عن القضايا المتعلقة بالإسلام؟ هذا النقاش يخلق مشاكل في معظم دول الاتحاد الأوروبي. ويكمن وراء كلا النقاشين السؤال المركزي للغاية المتعلق بالهوية الأوروبية وعلاقتها بالإسلام.

 تنظر عدة مجموعات مختلفة في أوروبا إلى الإسلام باعتباره مشكلة تثير قلقاً بالغاً. ويشعر آخرون بعدم الارتياح الشديد عند الربط المباشر بين كلمتي "الإسلام" و"المشكلة" لأنهم يخشون إصدار تعميم غير عادل يؤدي إلى نفور فئة في المجتمع يعتبرونها ضعيفة بالفعل.

لكن إخفاء المشكلة لا يحلها. إن التردد المستمر لبعض للسياسيين الأوروبيين لا يساعد على إيجاد حلول لكثير من المشاكل في بلدانهم، مثل ضعف المشاركة الاجتماعية، وعدد الشباب الذين يتركون المدارس الثانوية، والعنف، والتعصب الديني المتشدد بين الأشخاص ذوي الخلفية الإسلامية.

هذا لا يعني أن المشاكل المذكورة أعلاه يتم حلها فقط من خلال توضيح كيفية الارتباط بين الإسلام وبعض المشاكل الاجتماعية. يمكن تقسيم الأسباب التي تجعل الإسلام يبدو مزعجاً للبعض إلى ظروف قصيرة المدى وطويلة المدى على التوالي. والأكثر إلحاحاً هو الخوف من أعمال العنف الخالصة التي تُرتكب باسم الإسلام. مصطلح الإرهاب ينشر الشعور بعدم اليقين والخوف بين مجموعات كبيرة من المواطنين الأوروبيين.

إضافة إلى الخوف من العنف الصريح، يبدو أن هناك قلقاً كبيراً لدى الكثير من الأوروبيين بشأن الحركات الاجتماعية والدينية والسياسية الإسلامية في جميع أنحاء أوروبا الغربية. حيث تُوجه لهذه الجمعيات والمنظمات اتهامان بأنها تعمل بالتوازي مع الشبكات الإرهابية وعادة ما تعمل من خلال الدعوة "أئمة الصلاة والدعاة" المكلفين بنشر الرسالة "المتطرفة" للإسلام السياسي.

تشكل هذه الحركات القوى المهيمنة وراء انتشار الأصولية الإسلامية في أوروبا المعاصرة. بشكل عام، هذه المنظمات ليس لديها برنامج يعتمد العنف، لكن يعتبر الأوروبيين أن العديد من الشباب المسلمين يمرون عبر هذه الجماعات في طريقهم إلى التفسير المتطرف والمتشدد للدين الإسلامي.

هذه الجماعات متهمة بأنها توفر أرضاً خصبة للإرهابيين الجدد، لكن أجهزة المخابرات تفشل في اختراقها بشكل كافٍ. تشير التقارير الواردة من أجهزة الاستخبارات في العديد من دول أوروبا الغربية إلى كيفية عمل هذه الشبكات كملاذات آمنة، فداخلها يعيش العداء تجاه المجتمع الغربي بشكل واسع لدرجة أنه يتم التسامح مع الإرهابيين المحتملين ولا يتم توبيخ أفكارهم بأي شكل من الأشكال.

مخاوف مماثلة

وعلى نحو مماثل، هناك مجموعة واسعة من المخاوف الملحوظة طويلة الأجل. أولاً يثير التعليم الإسلامي في المدارس الإسلامية الخاصة في البلدان الأوروبية العديد من المخاوف. تضم هذه المدارس تركيزات عالية من الطلاب المحرومين، سواء بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي أو من حيث المهارات اللغوية. وتشتبه السلطات الأمنية في البلدان الأوروبية أن بعض هذه المدارس على الأقل، وخاصة تلك التي تتمتع بتعاون وثيق مع المساجد القريبة، هي أرض خصبة محتملة لمجموعات كبيرة من الطلاب المتشددين المناهضين للغرب. وفي هذا السياق، غالباً ما يُنظر إلى دور الشخصيات الدينية في مجالس المدارس على أنه مثير للإشكالية.

ويُنظر أيضاً إلى تشكيل الأحياء الفقيرة وأسلمة بعض المناطق الحضرية على أنه مشكلة مثيرة للقلق. تشير الاتجاهات في التركيبة السكانية إلى أن هذا النوع من العزلة التي أدت إلى قيام تجمعات سكانية موازية يقطنها اللاجئين والمهاجرين سيستمر. وهذا الشكل الواضح من الفصل العرقي والثقافي يمثل مشكلة. في البلدات والقرى والمقاطعات التي يهيمن عليها الإسلام، يمكن أن يؤدي ذلك إلى أن تصبح أجزاء من الشريعة الإسلامية جزءًا من الممارسة اليومية للسكان، حتى لو لم يتم سن تشريع رسمي لهذا الشأن.

أصبحت مثل هذه الجيوب ذات الأغلبية المسلمة في أوروبا الغربية، مرئية على مدى العقدين الماضيين، وتحولت إلى مصدر للقلق للسلطات والسكان. يمكن العثور على هذه التجمعات الإسلامية في مدن مثل باريس، ولندن، وبروكسل، وأمستردام، وبرلين، وكوبنهاغن، ومالمو، وغيرها من المدن الأخرى. حيث حدثت/ وتحدث بالفعل عملية أسلمة غير رسمية. توقفت كثير من محلات السوبر ماركت عن بيع لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، وأصبح ذبح الأغنام نشاطاً رسمياً. وتظهر السيطرة الاجتماعية مرتفعة بشكل لا يصدق بين المسلمين، الذين يشكلون ثلثي العدد الإجمالي للسكان في مدينة "إيفري" الفرنسية على سبيل المثال.

وعلى الرغم من عدم إضفاء الطابع المؤسسي عليها رسمياً، إلا أن الشريعة هي السائدة في هذه المناطق، وليس الدستور العلماني. وتشعر فئات كبيرة من المجتمع بالقلق بشكل أساسي من الظهور التدريجي لهذا النوع من التركيز داخل الدولة، حيث تملي قواعد وقيم أخرى غير تلك القيم المتسامحة والديمقراطية السلوك الاجتماعي.

تشكل كراهية الأجانب في مختلف أنحاء أوروبا الغربية أساساً آخر للخوف من الإسلام. وعلى عكس أسباب الخوف الأخرى، فإن هذا النوع ليس له أساس تجريبي. على الرغم من أن أعضاء الجماعات التقليدية التي تكره الأجانب لم يكن لديهم في كثير من الأحيان سوى اتصال ضئيل، أو معدوم بالإسلام، أو المسلمين، أو المهاجرين من أي نوع، إلا أنهم يتخذون مواقف سلبية للغاية تجاه أي مجموعة ذات خلفيات ثقافية أو أصول عرقية مختلفة. وبالإضافة إلى الإسلام، يمكن أيضاً توجيه عدائهم تجاه الأقليات الأخرى مثل الغجر، أو حتى مواطني دولة مجاورة.

من الواضح أن هذه الجماعات تثير الخوف بين السياسيين الراسخين، ويرجع ذلك جزئياً إلى خطابها وأحياناً لأن استخدامها للرموز يثير الارتباط بالفاشية والنازية. وتخلف أفكارهم الدنيئة تأثيراً معطلاً على المناقشة حول المهاجرين والإسلام، وذلك لأن الساسة وصناع الرأي الفاعلين يخشون أن تكون العواقب السلبية المترتبة على الهجرة والإسلام، بمثابة تفضيل للتيارات اليمينية الأوروبية المتطرفة. لذلك يجد عدد من الأوروبيين أنفسهم في طريق مسدود.

إن قضية الهجرة، وانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي هي في الأساس قضية تثير التساؤلات حول الهوية بين شعوب أوروبا. ومع ذلك، فإن التساؤلات حول العلاقة بين الإسلام وأوروبا لم تُثار من قبل النخب التي تخشى أن يؤدي فتح مناقشة عامة حول قضايا الهوية إلى ردود فعل عكسية إسلامية ومحلية. ولكن إذا تم تجاهل المشكلة، فإنهم يخلقون فراغاً كبيراً وخطيراً في الهوية، وهو ما يؤدي إلى تعزيز كافة أشكال التعصب الأصولي. تتطلب الديمقراطية نقاشاً مفتوحاً حول القضايا الحساسة. إن الفشل في مناقشة الهوية الأوروبية والإسلام من شأنه أن يقوض الثقة في استجابة الحكومات ويؤدي إلى عجز خطير في الديمقراطية والهوية، الأمر الذي يهدد بإضعاف الاتحاد الأوروبي في وقت مهم من تاريخه إذا لم يتحرك على هذا النحو.

هل يتحدى الإسلام أوروبا؟

يعتبر كثير من المنظرين الغربيين أن الغرب يخوض معركة ثقافية مع المهاجرين المسلمين، حيث إن للثقافة جذوراً في الدين، وبالتالي يمكن للإسلام أن يخلق فوضى ثقافية في أوروبا.

هل يمكن دمج المسلمين في أوروبا، وهل ينبغي توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل الدول الإسلامية؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان يشكلان أساساً لنقاش العديد من المفكرين الغربيين الذين ينتقدون بشدة سياسات الهجرة الأوروبية.

كتاب "الإسلام كتحدي في الاتحاد الأوروبي: الفوضى الثقافية على الطريق؟" Islam som udfordring i EU : kulturkaos på vej? للكاتب الدنمركي "بول أندرسن" Poul Andersen يشكل مساهمة جدلية ومهمة في المناقشة الدائرة حول الهجرة والتنمية الاجتماعية، لأنه يركز في الأساس على الثقافة باعتبارها شيئاً أساسياً للتماسك في أوروبا. في عصر العولمة والعابر للحدود، حيث أصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان في كثير من الأحيان الأساس المشترك الوحيد لتعاون الاتحاد الأوروبي. تشير العديد من المساهمات إلى أن الثقافة الأوروبية - وبالتالي المسيحية أيضاً- هي قضية مهمة في التنمية لمستقبل أوروبا.

يذكر بول إريك أندرسن في فصله التمهيدي أن مستقبل سكان أوروبا الأصليين مهدد ولا يمكن التنبؤ به إذا لم تأخذ التنمية في الاعتبار حقيقة أن الثقافة الأوروبية متجذرة في المسيحية. ويشير إلى أن الأنثروبولوجيا الثقافية الكلاسيكية نظرت إلى الثقافة باعتبارها بُعداً محدداً يجب فهمه من خلال المجتمع الوطني، الذي تم إنشاؤه من خلال اللغة والتاريخ والدين. اليوم، أصبحت المفاهيم الثقافية الثابتة نسبية، ولهذا السبب ليس من المشروع الادعاء بأن بعض المواقف أو التقاليد أفضل من غيرها. ويشير إلى أن انتقادات الحضارة في الغرب، والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قوضت الثقة وفهم التراث الثقافي الكلاسيكي، مما جعل السكان الأوروبيين غير مستعدين لهجرة المسلمين. "فقط إذا أمكن توحيد هذه القيم في هدف مشترك، ستتمكن أوروبا من حل المشاكل الناجمة عن الهجرة"، كما يعتقد ويشير إلى أنه من الضروري لأوروبا تعزيز هويتها الثقافية.

ومن بين المنظرين وجهات نظر معروفة لمعارضين معروفين للهجرة والاتحاد الأوروبي. مثل الفيلسوف الدنمركي "كاي سورلاندر" Kai Sørlander  الذي يشير في كتاباته المثيرة، إلى الصعوبات التي يواجهها الإسلام مع الديمقراطية من خلال التعمق في جوهر الدين. لقد تم بناء الإسلام، على النقيض من المسيحية، كدين دولة مع فكرة مركزية مفادها أن الدين هو مصدر التشريع. ولذلك، لا يوجد في الإسلام طريق داخلي لعلمنة السياسي، ولهذا السبب تواجه الثقافات الإسلامية مثل هذه الصعوبة في تطوير الديمقراطيات، كما يقول.

وفي كتابه "الدفاع عن العقلانية: الدين والسياسة من منظور فلسفي" Forsvar for rationaliteten: religion og politik i filosofisk perspektiv  يرى "سورلاندر" أن المسيحية لعبت دوراً مهماً في تطوير الديمقراطيات العلمانية وحقوق الإنسان المستقلة عن الدين في العالم الغربي. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن المسيحية - على النقيض من الإسلام - لديها تقليديا فصل واضح بين السياسة والدين "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبالتالي فإن إمكانات العلمنة أكبر داخل المسيحية.

هل هذا هو موت أوروبا؟

يؤكد الكاتب البريطاني المعروف "دوجلاس موراي"Douglas Murray في كتاب "الموت الغريب لأوروبا: الهجرة والهوية والإسلام" The Strange Death of Europe: Immigration, Identity, Islam الذي صدر عام 2017، أن الحضارة الأوروبية كما كانت تاريخياً لن تستمر. ويستكشف عاملين في تفسير ذلك: الأول هو الجمع بين الهجرة الجماعية للشعوب الجديدة إلى أوروبا مع انخفاض معدلات المواليد. والثاني هو ما وصفه موراي بأنه "حقيقة أنه في الوقت نفسه فقدت أوروبا إيمانها بمعتقداتها وتقاليدها وشرعيتها".

عنوان الكتاب مستوحى من كتاب "جورج دانجرفيلد" George Dangerfield الكلاسيكي للتاريخ السياسي "الموت الغريب لإنجلترا الليبرالية"، الذي نُشر عام 1935.

الموضوع الرئيسي للكتاب هو الهجرة واسعة النطاق من الدول الإسلامية إلى أوروبا، وتأثير ذلك على الثقافة الغربية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية. يقدم الكتاب أيضاً تحليلاً شاملاً للمتطلبات الاجتماعية والثقافية للهجرة الجماعية. الكتاب يقدم وجهة نظر محافظة ومنتقدة للهجرة، ويُعتبر كتاب متشائم وكئيب للغاية، وهو ما يشير إليه بالفعل عنوان الكتاب. الرسالة واضحة بالفعل في الجملة الأولى من الكتاب: "أوروبا على وشك الانتحار". والسؤال هو ما إذا كان موراي قادراً بشكل مُرضٍ على تبرير تشخيصه وتوقعاته المجتمعية.

نقطة البداية لتحليلات موراي هي الوضع الديموغرافي في أوروبا. حيث تعاني جميع الدول الأوروبية تقريبًا من شيخوخة سكانية شديدة. والسبب هو ارتفاع أعداد المواليد في العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، وانخفاض معدل المواليد الحالي بين العرقيين الأوروبيين. وإذا أُريد أن يظل حجم السكان مستقراً، يجب أن يكون لدى كل زوجين ما معدله 2.1 طفل.

واليوم، لا توجد دولة أوروبية واحدة يتحقق فيها هذا الأمر. تتمتع الدول الاسكندنافية ـ على سبيل المثال ـ  بواحد من أعلى معدلات الخصوبة في أوروبا حيث يبلغ 1.86، وهو ما لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي يمكن أن يبقي السكان من أصل أوروبي عند مستوى مستقر. وللمقارنة يمكن الإشارة إلى أن المعدل في ألمانيا هو 1.44.

يوجد في أوروبا اليوم ثلاث مجموعات فقط من الناس لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر وهم الأغنياء والفقراء والمهاجرون الجدد. ومع ذلك، فرغم أن هناك زيادة في عدد السكان في العديد من البلدان الأوروبية، فإن ذلك يرجع إلى الهجرة، وأن المهاجرين لديهم أطفال أكثر من الأطفال ذوي الأصل الأوروبي.

تحتل الصومال المركز الثالث كبلد منشأ للمهاجرين في بلد مثل النرويج، بعد بولندا وليتوانيا. في الصومال، يبلغ معدل المواليد 5.99، وهو رابع أعلى معدل في العالم بحسب بيانات عام 2021.

لقد أدى انخفاض معدلات المواليد بين الأوروبيين العرقيين، والهجرة، وارتفاع معدلات المواليد بين المهاجرين في العديد من البلدان الأوروبية إلى وجود نسب عالية من ذوي الخلفيات الأجنبية. تبلغ نسبة المهاجرين في الدنمرك 15.4%، وفي النرويج 17%، وفي السويد حوالي20%.

يذكر موراي في كتابه أن التحليلات الديموغرافية تظهر أن السويديين العرقيين قد يصبحون أقلية في بلدهم في حياة معظم السويديين الذين لا يزالون على قيد الحياة. ويعتقد أن الثقافة والعقلية الأوروبية تتميز بنوع من الضجر والازدراء لثقافة الفرد وقيمه الخاصة، وما يصاحب ذلك من إضفاء جمالية مفرطة على الثقافة والتقاليد الإسلامية.

كما يعتقد موراي أن الإرهاق الذي تعاني منه أوروبا يرجع إلى حد كبير إلى تراجع المسيحية. في بريطانيا، يتراجع الدعم للمسيحية بشكل أسرع من معظم الدول الغربية الأخرى. كان ثلثا السكان تقريباً مسيحيون في عام 2010. وإذا استمرت عملية اجتثاث المسيحية بنفس الوتيرة الحالية، فسوف تنخفض النسبة إلى الثلث في عام 2050. وحقيقة أن أوروبا على وشك أن تفقد دينها وإيمانها بقيمها الخاصة تعني أنها على وشك خسارة تاريخها، لأن المسيحية كانت العمود الفقري لهذا التاريخ كما يرى موراي.

صياغة عقد اجتماعي جديد

يناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم "الأوروبية"، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين.

في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في - وفي بعض الحالات تغذيتها - آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.

أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل "فيدس" في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا، أصبحت في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.

إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. يشكل مناخ الشك المتبادل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب. إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين "غير حقيقيين" إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.

***

د. حسن العاصي

باحث فلسطيني مقيم في الدنمرك

نسمعُ بين الحين والآخر من يتحدث بقضايا التاريخ وبثقة تامة! فنراه "مُحَلّلاً" و"مُفكِّكَاً" لحوادث كبيرة وخطيرة فيه:

كانت ثورة 14 تموز مجرد انقلاب بريطاني ضد النفوذ الأمريكي "الوافد الجديد" الى المنطقة!

سرق عبد الكريم قاسم خطط مجلس الإعمار الملكي ونفّذها ثم نسبها لنفسه!

لم يكن النظام الإقطاعي في العراق من صُنع النظام الملكي العراقي، بل كان "تركَةً عثمانية".

وهي كلمة حق يُراد بها باطل بكل تأكيد، اذ يتم التغاضي من خلالها على "الإدامة الملكية العراقية" لهذه التركة!!، والا فهل اطلّع صاحب هذه المقولة على الرؤية السعيدية ـ نسبة لنوري السعيد ـ للوضع الاجتماعي آنذاك؟ فقد ذكر السعيد وبكل صراحة أمام مجلس النواب في عام 1931، بأن المولود من أبٍ فقير سيبقى فقيراً، والمولود من أبٍ غني سيبقى غنياً، وهكذا تجري الأمور!! (1).

أتحدث هنا عن تاريخ العراق المعاصر، باعتباري مهتمٌ ومختصٌ به. لكني اليوم سأنتقل لتاريخ بلد آخر، ألا وهو "تاريخ ايران المعاصر".

يعلم القارىء المتابع لكتاباتي بأني لم أخض في تاريخ ايران أبداً، ويرجع هذا لعدم الاطلاع على تاريخ هذا البلد الكبير. لكن بعد ان بدأت بقراءة هذا التاريخ، سأسمح لنفسي أن أتحدث عن "المتطفلين" عليه، كما تحدثت عن أقرانهم في تاريخ العراق المعاصر.

يتحدثون كثيراً عن ايران البهلوية، وكيف تم التغيير فيها، من خلال ما يلي:

قامت المخابرات الأمريكية بتدريب وتجنيد آية الله الخميني في فرنسا، ثم جاءت به الى طهران وأزاحت النظام الشاهنشاهي!!!

ديباجة في غاية السهولة! فما أسهل أن يتحدث الشخص بعيداً عن التثبّت والتعَقّل! والأنكى من هذا أن هناك من "يقطع" برأي في التاريخ، وعندما تسأله: كيف وصلت لذلك؟ سيقول: من خلال التفكير العقلي!! وهذا يعني "الجهل" بعينه في التاريخ، إذ لا تاريخ بلا وثائق (2)، لكن أنّى لهؤلاء التحدث من خلال الوثائق والمصادر والمراجع! فلو تحدّثوا من خلالها، لما رأيناهم "يقطعون" بالرأي بهذه السهولة واليُسر! لكني لم أستغرب منها ـ هذه الديباجة ـ كثيراً، فقد خبرتها سابقاً في تاريخ العراق وثورة تموز كما أسلفت. وفي اطار الرد على هذا الزعم لا بُدّ من الآتي:

هل اطّلع هؤلاء على تاريخ الخميني؟ هل تعرّفوا على شخصيته؟ هل قرأوا خطابه الذي ألقاه في المدرسة الفيضية يوم 4 / 6 / 1963 عندما وصف الشاه محمد رضا بهلوي صراحة ب"الشقي البائس" (3)؟ هذه الشخصية الحدّية التي لا تعرف غير ما تؤمن به، وتقولها بشجاعة منقطعة النظير.

هل اطّلعوا على ما حدث بين رسول الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ـ وهو زوج ابنة البكر ـ والخميني؟ فقد أرسله البكر في عام 1974 الى الخميني في النجف عندما كانت العلاقات متوترة بين العراق وايران، فطلب البكر تأييد الخميني في حملة يشنها العراق ضد الشاه، فرفض الخميني الطلب، إذ آثر على نفسه ان يختار وقت الهجوم والاّ يتعاون مع أحد (4).

وهل اطّلعوا على المؤتمر الصحفي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر في 12 / 12 / 1978 عندما عَرّض فيه بالخميني ضمنياً واصفاً بياناته بالطائشة مع عدم الإشارة لإسمه؟ فعَلّقت صحيفة نيويورك تايمز قائلة: لقد تَعَمّد كارتر عدم الإشارة الى الاسم الذي كان في ذهنه وهو الخميني (5). وهل عرفوا برَدّ الخميني على كارتر عندما وصفه صراحة: أنت كذّاب؟! وكارتر أفسد شخص على وجه الكرة الأرضية عند الخميني!(6).

وهل يعلمون ب"فوضى" الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأزمة الإيرانية بين: سوليفان وبرجينسكي وهايزر وفانس لدرجة أن يُصاب كارتر بالصداع كما ذكر شابور بختيار آخر رئيس وزراء بهلوي (7). فكلّ يُلقي اللوم على الآخر، برجينسكي يلوم فانس، وفانس يوجّه اللوم الى العسكريين، والعسكريون يوجهون اللوم لوكالة المخابرات المركزية، والوكالة تشكو من عدم اطلاق يديها (8). والنهاية أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الشأن الإيراني (9).

ثم هل سأل هؤلاء أنفسهم سؤالاً قهرياً:

ما الذي ستجنيه الولايات المتحدة من اسقاط رجلها المطيع بل "شرطيها" في المنطقة، والمجيء بنظام اصولي قروسطي لا يعترف بالحداثة؟ فقد بدا الخميني لهيكل آنذاك وكأنه شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام، رجل لا علاقة له بزماننا (10)؟؟

وأخيراً لا بُد من الآتي:

اعترف آية الله الخميني بجميل الولايات المتحدة التي أوصلته الى السلطة، بأن قام بمحاصرة سفارتها، واحتجز الأمريكيين فيها بحادثة الرهائن المشهورة!!!

النتيجة التي نروم لتسليط الضوء عليها:

لا يمكن لمن هَبّ ودَبّ أن يتحدث في التاريخ، فهو علم له أصول وضوابط لا بُد من مراعاتها قبل الدخول اليه والخوض فيه، أما من يَتَطَفّل ويتَدَخّل لمنطقة لا يُجيد السير فيها، فليس أمامه الا أن يكون "سخرية" للتاريخ.

تنبيه: لا بد من التأكيد هنا على أننا نقول بذلك بعيداً عن الاتفاق والاختلاف مع الاتجاه الإسلامي المتمثل بآية الله الخميني، فالفصل بين اتجاه الباحث ـ آيديولوجيته ـ وبين الموضوع الذي يتناوله، أي الفصل بين الذات والموضوع، ضرورة قاهرة للباحث الموضوعي.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

............................

الحواشي:

1ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1، وزارة الثقافة والسياحة والآثار، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64

2ـ المصدر السابق ص12

3ـ غلام رضا نجاتي: التاريخ الإيراني المعاصر ـ ايران في العصر البهلوي، نقله الى العربية: عبد الرحيم الحمراني، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي قُم ط1 2008 ص234

4ـ محمد حسنين هيكل: مدافع آية الله ـ قصة ايران والثورة، دار الشروق القاهرة ط6 2002 ص185

5ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص625 و 626

6ـ المصدر السابق ص627 و 679

7ـ المصدر السابق ص670

8ـ هيكل: المصدر السابق ص220

9ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص747

10ـ هيكل: المصدر السابق ص8

 

الاتّجاهات القرائيّة للنّصّ الدّيني تمايزت بين اتّجاهات مختلفة، منها متداخلة، ومنها متوازية، منهم من مال إلى الاتّجاهات الحرفيّة الظّاهريّة للنّصّ الدّينيّ، ومنهم من توسع في التّعامل معه أصوليّا علليّا ومقاصديّا، وهؤلاء أيضا على درجات، ومنهم من مال إلى القراءات الفلسفيّة له، أي وفق المناهج الفلسفيّة قديما وحديثا، ومنهم من مال إلى القراءات العرفانيّة والرّمزيّة، وهؤلاء أيضا على درجات بين موسع ومضيّق.

في المغرب العربيّ مثلا حدث توسع في القراءات المقاصديّة له، فألف محمّد الطّاهر ابن عاشور (ت 1973م) كتابه الشّهير "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، بينما حدث توسع في إيران في القراءات العرفانيّة والبرهانيّة الفلسفيّة للنّصّ الدّينيّ، وإن كان في جملتها لم تخرج عن إطار النّظريّات القديمة واللّاهوتيّة كنظريّة ابن عربيّ (ت 638هـ) والملّا صدرا (ت 1050هـ) والطّاطبائيّ (ت 1981م)، بينما بدأ يميل العالم العربيّ إلى قراءات أكثر انفتاحا على المناهج الغربيّة كقراءات محمّد أركون (ت 2010م)،  ونصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومنهم من له قراءات لم تبتعد عن القراءات الكلاسيكيّة، ولكنها وفق مراجعات مختلفة معاصرة، كقراءات الجابري (ت 2010م) ومحمّد شحرور (ت 2019م)، وعلى المناهج الغربيّة في الجانب الإيرانيّ عبد الكريم سروش ومليكان، وعلى القراءات النّاقدة وفق القراءات الكلاسيكيّة كمال الحيدريّ.

بيد أنّه في إيران ساد لديهم القراءات العرفانيّة للنّصّ الدّينيّ،  ويعتبر ابن عربيّ من أكثر المؤثرين في العرفان الشّيعيّ، ثم جاء الملّا صدرا (ت 1050هـ) "وعرفان الفلسفة، أي ألبس الفلسفة لباس العرفان، وممكن أن نقول ألبس العرفان لباس الفلسفة، وفلسفته المسماة بالحكمة المتعالية حسب ظاهرها فلسفة، إلّا أنّ باطنها عرفان"، "وفلسفة الملّا صدرا بالتّحديد في القرن الأخير اتّسعت وتعمّقت في المحاضر الفلسفيّة الشّيعيّة، وبعد الثّورة الإسلاميّة وبما أنّ الإمام الخمينيّ (ت 1989م) كان مؤمنا ومتبنيّا لهذه الفلسفة؛ أخذت أكثر انتشارا وشهرة في الحوزات العلميّة، وكذلك في الزّمان نفسه، وبالتّوازي كان لدينا الطّباطبائيّ، والّذي كان معتقدا ومروّجا لهذه الفلسفة أيضا، وكتب كتابين مهمّين وهما بداية ونهاية الحكمة، والّذين صارا يدرّسان في الحوزة العلميّة".

ويرى مهدي نصيري أنّه "إلى القرن العاشر الهجريّ، لم تكن الفلسفة اليونانيّة والعرفان اليونانيّ، والّتي يطلقون عليهما حاليا الفلسفة الإسلاميّة والعرفان الإسلاميّ رائجة ومنتشرة في الحوزات العلميّة الشّيعيّة عموما، وكان حضورها ضعيفا جدّا، وإلى القرن الرّابع الهجريّ، علم الكلام الشّيعيّ، والّذي بدأ مع الشّيخ الطّوسيّ (ت 460هـ)، واستمر مع الخواجة نصير الدّين الطّوسيّ (ت 672هــ)، ومن ثم مع الحلّيّ (ت 726هـ) شارح تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدّين الطّوسيّ، فإنّ علم الكلام العقليّ كانت له الغلبة، وانتشار الفلسفة والعرفان في الحوزات العلميّة الشّيعيّة بدأ منذ القرن العاشر الهجريّ فيما بعد مع الملّا صدرا، حيث جاء وأسّس الحكمة المتعالية، وجمع بين فلسفة ابن سينا (ت 427هـ) وعرفان ابن عربيّ، وقبل ذلك حتّى فلسفة الملّا صدرا إلى مائة سنة سابقة لم يكن لها هذا الانتشار والنّفوذ، وهذا الانتشار والسّعة لفلسفة الملّا صدرا في الحوزات العلميّة، وبالتّحديد في قم يعود إلى الطّباطبائيّ، والّذي بدأ نشاطه، وكرّس درسه الفلسفيّ قبل الثّورة الإسلاميّة، وحصلت هناك بعض المعارضة، فالمرحوم السّيّد البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)، وهو أحد كبار مراجع الشّيعة في قم، وكان لديه اختلاف مع الطّباطبائيّ".

وفق هذا حدث تداخل بين النّصّ الدينيّ والبرهان الفلسفيّ والإشراق العرفانيّ، وبدأت قراءات تدخل في النّصّ الدّينيّ، فولدت في هذا المحيط مدرسة جديدة، قد تكون ذات خصوصيّة إيرانيّة، إلّا أنّها بدأت تتوسع في القراءات الكلاسيكيّة واللّاهوتيّة، وهي مدرسة التّفكيك، أو المدرسة التّفكيكيّة.

والمراد بمدرسة التّفكيك هنا ليس كمراد جاك دريدا (ت 2004م)، وإنّما الاشتراك في المصطلح مع اختلاف المصاديق، فهذه المدرسة تمايز بين ثلاث اتّجاهات: مدرسة الوحي (الدّين والقرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة والبرهان)، ومدرسة الكشف (الرّياضة والعرفان)، أي أنّها تمايز بين الدّين والفلسفة والعرفان، وتفكّك كلّا منهما إلى حدّة، لتخلص أنّ "الحقائق العلميّة والمعرفيّة لا تكون صحيحة إلّا إذا كانت مستقاة عن طريق الوحيّ الإلهيّ، والعلم الرّبانيّ"، لكنّها كما يرى محمد رضا حكيميّ الخراسانيّ ليست ضدّ العلوم الفلسفيّة والعرفانيّة، إلّا أنّ مهمّتها التّفكيك وليس التّعطيل، لأنّه "يجب علينا أن نستخلص العلم الصّحيح، والمعرفة الحقّة الأصيلة من معدن النّور، كلام الله، وكلام المعصوم الّذي هو شرح لكلام الله عزّوجل، ونتمثله في سرائر وجودنا، ولا نمزجه بشيء آخر أبدا".

وإذا كانت مدرسة العرفاء الشّيعيّة ردّة فعل على التصوّف ذات البعد السّنيّ، وأرثدوكسيّة العلماء الشّيعة الّذين جاءوا إلى إيران من جبل عامل بلبنان في بدايات الدّولة الصّفويّة، فمدرسة التّفكيك تقترب من هذه الأرثدوكسيّة، لهذا هي ردّة فعل على المدرسة العرفانيّة الصّدرائيّة والّتي تأثرت بفلسفة ابن عربيّ، وتمثلت في العرفانيّة الخمينيّة بشكل كبير، فهي ترى "أنّ الفلسفة الّتي جاء بها صدر المتألهين جمعت بين المشائيّة والإشراقيّة والرّواقيّة والمسالك الصّوفيّة والعرفانيّة".

 ويرى مهدي نصيري أنّ ما يطلق عليه العرفان الإسلاميّ الّذي وصل إلى ذروته مع ابن عربيّ  متأثر بشدّة بآراء أفلوطين، ونظريّة وحدة الوجود الّتي هي محور البحث العرفانيّ، والتي ينادي بها ابن عربيّ، هي مأخوذة من كتب أفلوطين بشكل دقيق، وما يُعرف بمدرسة التّفكيك، والذي طُرح في زمن الميرزا مهدي الأصفهانيّ (ت 1365هـ) ليست مدرسة جديدة، إنّما صياغة جديدة لهذا النّزاع القديم بين الكلام الشّيعيّ والفلسفة والعرفان اليونانيّ، ثمّ جاء محمّد رضا حكيميّ بعد أربعين سنة من الميرزا مهدي الأصفهانيّ، وصار مروّجا لمدرسة التّفكيك بكتبه وآثاره، وأحيا هذا البحث من جديد بقوّة، ونشره في السّاحة الفكريّة، وصار البحث حيّا ومعاصرا بسببه".

ويرى أنّ "اسم التّفكيك من إبداع الأستاذ الحكيميّ حينما أراد نقد الفلسفة والعرفان، سعى أن لا يكون نقده لاذعا ومثيرا للحساسيّة، خصوصا أنّ المدرسة الفلسفيّة والصّدرائيّة كانت مسيطرة على أجواء الحوزات العلميّة بعد قيام الثّورة الإسلاميّة، وكان الأمر يحتاج إلى جرأة خاصّة، بحيث يأتي شخص وينتقد هذه الفلسفة الّتي يتبناها قائد الثّورة الإسلاميّة أي الامام الخمينيّ، ولأجل أن تكون نبرة ولحن نقده معتدلة، قال: لابدّ أن نفكّك بين الفلسفة الّتي جاءت من اليونان وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبين علم الكلام الاسلاميّ، وأن لا نخلطهما ببعض، وإذا تمّ الخلطّ فسنقع في المشكلات، وستفهم المسائل بشكل خاطئ، وبهذا نكون قد حرّفنا الوحي، ومن هنا تمّ طرح اسم التّفكيك، أي أن نفكّك بين المعارف الوحيانيّة وبين المعارف الفلسفيّة والعرفانيّة".

هذه المدرسة لقت ردّة فعل كبيرة في المشهد الإيرانيّ وحوزاته الدّينيّة كما يرى الباحثّ في التّأريخ الإيرانيّ والفارسيّ محمّد صادق زاده أنّ "مدرسة التّفكيك كانت ردّة فعل للمدرسة الصّدرائيّة والفلسفيّة عموما، وصاروا أقرب إلى حشويّة الشّيعة، حيث يقفون عند ظاهريّة النّصوص، لهذا تلقى مواجهة وحربا كبيرة من الاتّجاهات العرفانيّة في إيران، لكن لها حضورها الكبير في مشهد وخراسان وطهران وقم، ولها أنصارها ومؤسّساتها الضّخمة".

وإن كنتُ أرى أنّه يصعب في الحقيقة فصل النّصّ عن الفلسفة؛ لأنّ الإنسان بذاته متفلسف في تعامله مع النّصّ الدّينيّ وفق الأداة والحالة الزّمكانيّة، إلّا أنّ العرفان في جوهره صورة من صور التّأريخيّة الفلسفيّة في التّعامل مع النّصّ الدّينيّ، كما أنّ العلليّة الأصوليّة هي صورة منها أيضا، فالأول محاولة للبحث عن جوهر النّصّ والغاية منه، والثّانية محاولة لربط النّصّ بظرفيّته الزّمكانيّة من حيث العلّة، وكلاهما استفادا من تراث الأمم الأخرى خارج دائرة الإسلام، ولا يمكن التّعامل مع النّصّ بحرفيّته الأولى الّتي نزل فيها، لأنّ هذه إماتة للنّصّ ذاته، قبل أن يكون إماتة للعقل وتطوّر الاجتماع البشريّ، وهذا لا يعني أنّ مدرسة التّفكيك ترفص الفلسفة أو العرفان بالكليّة، لكنّها تحاول أن لا تجعلها حاكمة على النّصّ الدّينيّ، خصوصا ما لها مرجعيّات خارج الإطار الإسلاميّ في نظرهم، يونانيّة قديما أو غربيّة في العصر الحالي.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

......................

مراجع المقالة: كتاب  المدرسة التّفكيكيّة لمحمّد رضا حكيمي، ولقاءات مع الباحثين في العرفان والتّفكيك والتّأريخ الإيراني: حسن رمضانيّ، ومحمّد سوريّ، ومهدي نصيريّ، ومحمّد صادق زاده.

 

هناك اربعة أساليب للتواصل او الاتصال بالآخرين .هل سبق لك أن حاولت التحدث إلى شخص ما في العمل، لتقابل برد متعالي عليك؟ هل سبق لك أن تم تكليفك بمشروع مع تفاصيل قليلة، ثم ليخبرك المدير أن تكتشف التفاصيل بنفسك؟ يمكن بسهولة أن تعزى هذه السلوكيات المزعجة إلى الاختلافات في أساليب التواصل التي يمكن أن تعيق سير العمل.

يمكن تقسيم التواصل إلى أساليب -  ومثلما يمتلك كل شخص أسلوبا شخصيا مختلفا قد ينعكس في كيفية تقديم نفسه جسديا ، فإن لديه أيضا أسلوبا مختلفا للتواصل يظهر في العلاقات الشخصية وهولا يقتصر فقط على التواصل الشفهي، وأنما يترجم إلى التواصل المرئي مثل لغة الجسد والتواصل الكتابي.

يمكن أن يكون لجميع أنواع التواصل إيجابيات وسلبيات. هناك جوانب من أساليب الاتصال تجعل التواصل فعالا، ولكن أسلوب الاتصال نفسه قد ينفر بعض الأفراد ويخلق انقطاعا. يعد فهم كيفية عمل أنماط الاتصال هذه أمرا حيويا في الأعمال الناجحة.

هناك أربعة أنماط اتصال شائعة:

أسلوب المتحكم / المدير

أسلوب المروج / الاجتماعي

أسلوب المحلل / المفكر

أسلوب الداعم / المواصل

تلعب هذه الأساليب او الأنماط الأربعة المختلفة دورا هاما في ارتباطات الاشخاص مع الآخرين داخل وخارج مكان العمل. على سبيل المثال، أسلوب الاتصال المتحكم هو إلى حد ما عكس أسلوب الاتصال المروج.

ولكن كيف تلعب هذه الأساليب المختلفة مثل هذه الأهمية في مكان العمل؟ ما هي الاختلافات، وكيف تساعد أو تمنع التواصل الفعال؟ هل تسبب الصراع أو تزيد الإنتاجية؟ فيما يلي تفصيل لأنماط الاتصال الأربعة هذه وكيف تبدو في مواقف مكان العمل.

المتحكم / المدير

أسلوب اتصال المتحكم مباشر للغاية -  يطالب بالحقائق بطريقة مباشرة وصريحة للغاية. يميل الأشخاص الذين يتواصلون بهذه الطريقة إلى امتلاك سمات الشخصية التالية.

- يمكن أن يكونوا متحمسين للغاية ومكرسين لمهامهم.

- هم موجهون للغاية نحو الهدف ومصممون على الوفاء بالمواعيد النهائية والأهداف.

- إنهم يتواصلون بالعين وغالبا ما ينظر إليهم على أنهم يظهرون أسلوبا عدوانيا وسلوكا حازما.

- كما ينظر إليهم أحيانا على أنهم متواصلون عدوانيون ومتسلطون في صرامتهم.

- إنهم من النوع الذي عندما يعملون على مشروع فأنهم يقضون الليل وحتى وقت متأخر حتى يفي بمعاييرهم.

- يجب أن تكون المحادثة مع المتحكم قصيرة وبلطف ومباشرة.

في مكان العمل، يميل هؤلاء الأشخاص إلى أن يكونوا قادة يتمتعون بمهارات الاتصال ولكنهم يميلون إلى الظهور على أنهم متسلطون. بشكل صريح ومباشر. إنهم يوجزون الكلمات ويتوقعون نفس الإيجاز في المقابل. إنهم يريدون معرفة العوامل المهمة ولكن ليس لديهم وقت للتفاصيل الصغيرة. لا تضيع وقتهم بمعلومات غير ضرورية، لأنهم لن يبالغوا في الشرح عند إعطاء مشروع لك. عند التواصل مع المتحكم توقع اكتشاف الكثير من الأشياء أثناء النقاش لأنهم لن يقضوا الكثير من الوقت في الشرح.

المروج / الاجتماعي

أسلوب التواصل مع المروج متحمس ومدفوع بالناس. المروج هو الشخص الذي يتمتع بالخصائص التالية.

- سيقضون ساعات في الحديث عن خطط عطلة نهاية الأسبوع الخاصة بهم ولكنهم سيقومون أيضا بتفصيل المشروع من البداية إلى النهاية، مما يوفر التفاصيل الأكثر تعقيدا.

- إنهم متحمسون وجذابون وليسوا قلقين للغاية بشأن أخذ أنفسهم على محمل الجد.

- هم ممتازون في التواصل الفعال بين الأشخاص.

- من السهل استكشافهم لأنهم عادة ما يمثلون الفراشات الاجتماعية في المكتب.

- إنهم يتحدثون دائما عن حياتهم وخططهم وطموحاتهم، ويسارعون إلى سؤالك عن الشيء نفسه.

- إنهم يحبون توصيل رسالة شخصية عند التحدث مع الزملاء وتلبية مشاريعهم ومحادثاتهم مع جمهورهم.

- أساليب التواصل اللفظي وغير اللفظي لديهم مفتوحة وصادقة ومتحمسة. وهذا يجعل من السهل التعامل معهم بالأسئلة أو التعليقات في مكان العمل.

- يسعدهم تقديم شرح إضافي لمشروع أو عميل ويحبون المساعدة حيثما أمكنهم ذلك.

يمكنك الذهاب إليهم بسؤال سريع وستفقد ساعة من الوقت لأنهم سيقفزون إلى مجموعة من الموضوعات المختلفة. هم ليسوا موجهون نحو التفاصيل بقدر ما نحو الناس والخبرة. عند التعامل مع المروج، اطرح عليه أسئلة شخصية وتوقع أن يقوم بطرحها عليك في المقابل.

المحلل / المفكر

- منظم وذكي، يحب المحلل الحقائق والتفاصيل المعقدة. هذا النوع له الخصائص التالية.

- إنهم منظمون للغاية ويجعلون التنظيم وفهم جميع جوانب المشروع أولوية قبل أي شيء آخر.

- هذا النوع من التواصل عميق ومدروس وتحليلي وعادة ما يكون أكثر جدية من المتصلين الآخرين.

- إنهم يريدون الحصول على جميع الحقائق قبل اتخاذ قرار أو تنفيذ فكرة أو مبادرة يمكن أن تكون محبطة لأعضاء الفريق الذين يرغبون في المضي قدما في المشروع.

- تتطلب هذه الأنواع اتصالا عالي السياق ولكنها لا تبدو حازمة أو عدوانية بشكل مفرط ولكنها متهمة بالتشكيك والمضاربة. لكن عقليتهم التحليلية تعني أنهم ينظرون دائما إلى الصورة الكبيرة بناء على مجموعة من التفاصيل المعقدة.

- يمكن أن ينظر إليهم في بعض الأحيان على أنهم متواصلون متشائمون.

- في مكان العمل، تحتاج هذه الأنواع إلى كل الحقائق في أسرع وقت ممكن. إنهم يريدون تحليل المشروع والتحقيق فيه وفهمه من جميع الزوايا.

عند التعامل مع محلل، تأكد من أن لديك كل الحقائق وحددت مشروعا بالتفصيل قبل لفت انتباهه إليك. استعد أيضا للأسئلة — لأنهم سيكثرون منها عليك و قد يكون هذا محبطا. قد يجعلك تشعر ببعض السخافة أو الغباء بسبب ترددهم في تصديقك أو تقبل فكرتك أو رؤيتك تماما -  ولكن هذا فقط لأنهم يحاولون فهمها بأكبر قدر ممكن من الدقة. يتطلب المحللون الصبر، لكن المردود من التعامل معهم يستحق ذلك. وبالمثل، توقع عرضا تقديميا متعمقا عند إعطاء مشروع من قبل محلل.

الداعم / المواصل

- الهدوء والبرود هو طريقة دقيقة نسبيا لوصف الداعم. هذا النوع من الشخصية له الخصائص التالية.

- إنهم محبوبون ومتساهلون في مشاعرهم وطرق العمل والتفاعل مع الزملاء.

- لديهم مهارات اتصال ممتازة مع الأشخاص وهم دائما منفتحون للحديث عن المزيد من الموضوعات الشخصية -  على الرغم من أنهم لا يبحثون عنها بشغف مثل المروج.

- هذا النوع من التواصل هو الأكثر شيوعا الذي يمكن العثور عليه داخل وخارج مكان العمل لأنهم حريصون على النجاح على الرغم من المحتوى والهدوء في سعيهم.

- يتفوق الداعمون في حل النزاعات لأنهم عادة ما يكونون متزنين للغاية. إنهم مستمعون رائعون ويذهب إليهم الكثيرون بمشاكل ومخاوف.

- هم محبوبون من قبل معظم الناس.

عند التفاعل مع أحد الداعمين في مكان العمل، توقع شخصا هادئا ويسهل الاقتراب منه. إنهم منفتحون ومرحبون للغاية، لكن من الجيد ألا تكون متطرفا جدا في نهجك. إنهم يتطلبون نوعا من الاتصال يقع بين الاتصال عالي السياق والاتصال منخفض السياق. ابدأ ببطء عند التعرف عليهم وتوقع اكتساب الثقة خطوة بخطوة. الداعمون موثوقون وفعالون للغاية، لذا لا تبالغ في استكشاف ذكائهم أو محاولة تقويضه. تحدث إليهم كما لو كنت تتحدث إلى صديق جديد ( أن تكون مترددا في القصص الشخصية ولكنك منفتح على المحادثة غير الرسمية).

يتواصل الجميع بشكل مختلف -  وفهم كيفية تواصل الشخص أمر حيوي لفهم كيفية عمله والتعامل معه. كما أنه أمر حيوي لبناء علاقات في مكان العمل ومساعي تجارية ناجحة. والأمر متروك لك لمعرفة كيف تتشابك أنماط الآخرين أو تتعارض مع أسلوبك.

 يمكن أن يكون التواصل لفظيا وغير لفظي و من المهم ملاحظة لغة جسد المقابل، سواء كان التواصل بالعين او اتصال غير مباشر أو مباشر. سيضمن ذلك معرفة كيفية التفاعل في المستقبل وعدم الدخول في موقف تتعارض فيها شخصيتك وأسلوب اتصالك مع شخصيتهم. التواصل في مكان العمل هو شيء يجب تعلمه أثناء التدرج، ولكن الكشف عن هذه الاختلافات والعمل نحو أرضية مشتركة للتواصل مع الأفراد الآخرين أمر حيوي ليس فقط للنجاح في مكان العمل ولكن أيضا للنجاح على المستوى الشخصي.

ما هو أسلوب الاتصال الذي تتميز به انت ؟ هل تغير أسلوبك اعتمادا على الشخص أو الأشخاص الذين تتواجد معهم، أو البيئة (المنزل، العمل، إلخ)، أو الظروف؟ أسئلة عليك أن تجيب عليها بنفسك.

***

د. احمد المغير

 

يعد الذكاء الاصطناعي فرصة هامة لحل العديد من المشاكل والتحديات التي يواجهها العراق في مجالات مختلفة مثل الصحة والتعليم والزراعة والامن والطاقة والبيئة وغيرها لما يهدف الى تطوير انظمة وبرامج قادرة على تقليد وتجسيد القدرات الذهنية والسلوكية للبشر مثل التعلم والاستنتاج والابداع والتفكير النقدي والتواصل والتعاون. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف تطوير مستمر ومتابعة للتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي يحدث في هذه المجالات على مستوى العالم.

وفقا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة، يحتل العراق المرتبة ما قبل الأخيرة في مؤشر الابتكار العالمي. وهذا يشير الى حجم التحديات الهائلة التي يواجهها العراق والعقبات التي تعترض طريق تطوره، الأمر الذي يدعو إلى تغيير شامل. من هذه التحديات والمشاكل:

نقص الدعم الحكومي والخاص للبحث العلمي والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم وجود استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة لتنمية هذا المجال وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

نقص الكفاءات البشرية المؤهلة والمدربة في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم توافر برامج تعليمية وتدريبية متخصصة ومعتمدة في هذا المجال في المؤسسات التعليمية والاكاديمية.

نقص البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لتطوير وتشغيل الانظمة والتطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل الاتصالات السريعة والموثوقة والامنة والمتاحة والميسورة، والحوسبة السحابية والكمية، والمنصات والادوات والمكتبات البرمجية المفتوحة المصدر.

نقص البيانات الكبيرة والمتنوعة والموثوقة والمتاحة والمشاركة، والتي تعتبر مصدرا اساسيا لتغذية وتدريب وتحسين الخوارزميات والنماذج القائمة على الذكاء الاصطناعي، وخاصة البيانات المحلية والمتعلقة باللغة العربية والثقافة والمجتمع العراقي.

نقص الوعي والثقة والقبول والمشاركة من قبل المجتمع والمستخدمين للذكاء الاصطناعي، وعدم توافر اليات ومعايير وقوانين واخلاقيات تضمن الحماية والخصوصية والامن والمساءلة والشفافية والعدالة في استخدام الذكاء الاصطناعي.

وبالتالي، فان العراق بحاجة الى مواجهة هذه المشاكل والتغلب عليها بجهود مشتركة ومتسقة بين جميع الاطراف المعنية، وبالاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية والاقليمية في هذا المجال، وبالتركيز على تحديد الاولويات والاحتياجات والفرص والتحديات الخاصة بالعراق، وبالتوازن بين الجوانب التقنية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية للذكاء الاصطناعي والابتكار.

***

محمد الربيعي

ليس ثمة إنسان، في الوقت الحاضر، يجهل أسباب هيمنة بلدان العالم الغربي على بلدان العالم الشرقي، كما ليس ثمة ما يعتم عليه رؤية العوامل الحقيقة التي بوأت الحضارة الغربية مكان الصدارة في مضامير التنافس البارد والتصارع الساخن بين حضارة الأول وحضارة الثاني . ولكن، مع ذلك، قلما يحسّ هذا الإنسان بوطأة تلك الوقائع والمعطيات لكي يضعها نصب عينيه حين تداهمه الأحداث وتعصف به الوقائع، ويضطر، من ثم، للانغمار في أتون البحث الحلول واستنباط المعالجات .

وعليه، قد يتساءل الإنسان العربي عن سرّ استمرار تفوق العالم الغربي على نظيره العالم الشرقي، ليس فقط في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل وكذلك في الميادين الاجتماعية والثقافية والحضارية والعلمية، حتى بعد أن ظفر هذا الأخير بكل ما كان يعتقد أنها مقومات (الاستقلال) السياسي وبناء دوله (الوطنية) . بالرغم من مرور عشرات العقود من السنين على لحظات (فك الارتباط) ما بين القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن على معظم مجتمعات بلدان هذا العالم من جهة، وبين قوى ما يسمى بالأحزاب والحركات المحلية التي كانت تسوق نفسها (كمنقذ) وحيد و(ممثل) وطني بلا منافس من جهة أخرى . هذا في حين استمرت مؤشرات هذه المجتمعات بالتدني في مضامير البناء والتردي في ميادين الإنتاج، كما لو أنها تستعيد مجددا"سيرة كينونتها الأولى يوم كانت تعيش حياة التوحش الاجتماعي والتبربر الحضاري . 

ولكي لا نذهب بعيدا"، فان ما يعطي لدول الغرب ميزة تفاضلية على دول الشرق هي المحافظة على استدامة متلازمة (الإرادة) و(القوة)، ليس فقط على مستوى التحكم باتجاهات العلاقات الدولية فحسب، وإنما على صعيد افتعال وإدارة الأزمات الإقليمية والدولية، بحيث لا تسمح بتاتا"بانفراط عقد طرفي هذه المتلازمة مهما كانت الأسباب أو مهما استجد من ظروف . وهنا نسارع الى القول ؛ ان التأكيد على تلازم هذه الثنائية من قبل دول العالم الغربي، لا يعني أنها معدومة كليا"لدى نظيرها دول العالم الشرقي كما قد يتبادر الى أذهاننا، إنما الفارق يكمن بالنسبة للأولى في الإبقاء على مستوى عال من الترابط العضوي بين طرفي تلك المتلازمة بما يجعلها في حالة من التفاعل الدائم والفاعلية المستمرة، دون السماح لأي طارئ بتعطيل ديناميتها وتنافر عناصرها . أما الفارق بالنسبة للثانية فيتحدد باستحالة قدرتها على الجمع بين طرفي تلك المتلازمة، أي بمعنى أنها قد تمتلك في فترة من الفترات (الإرادة) دون حيازة (القوة) أو بالعكس، باستثناء حالات نادرة لا يعتد بها كونها ذات طبيعة (طارئة) سرعان ما تفقد أحد القطبين ؛

أولا" - إما لأسباب ذاتية تتعلق بتورط الدولة (= السلطة) المعنية بانتهاج سياسات خاطئة وتعسفية، بحيث تستهلك طاقاتها وتستنزف قدراتها في مواجهات عبثية ضد معارضيها سياسيا"وإيديولوجيا"من جهة، وتفقد، من جهة أخرى، كل ما بحوزتها من أرصدة وطنية سابقة وشرعية مكتسبة يصعب - ان لم يستحيل – تعويضها في الأمدين القصير والمتوسط .

وثانيا"- وإما لأسباب موضوعية ترتبط بانخراط ذات الدول في تكتلات إقليمية وصراعات دولية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وإنما لمجرد التعبير عن التزاماتها الدبلوماسية إزاء شركائها أو حلفائها ممن يتعذر عليها التنصل من املاءاتهم وشروطهم . من هنا، لا تلبث أن تسرّع عمليات استهلاك إمكاناتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية وشرعيتها السيادية، وبالتالي تفقد في كلا الحالتين أحد تينك العنصرين من عناصر المتلازمة المذكورة .

وهكذا نلاحظ على مدى عقود القرنين التاسع عشر والعشرين – يبدو ان المؤشرات ذاتها في القرن الحادي والعشرين -ان مسار متلازمة (الإرادة) و(القوة) وما يستتبعه من رجحان كفة الدول المستعمرة (بالكسر) على الدول المستعمرة (بالفتح)، لم – ولن – ينحرف عن الاتجاه الذي اختطه لنفسه من الغرب الى الشرق، طالما استمرت هذه الأخيرة عاجزة عن حيازة أحد قطبي تلك المتلازمة، ناهيك عن إمكانية الجمع بينهما بحيث يبقى العالم الأول يضع الخطط ويصدر يأمر، ويستمر العالم الثاني بإظهار الطاعة والإذعان لينفذ مضامينها مهما كانت الخسارات والانكسارات ! . 

***

ثامر عباس

"ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إنّ الّذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإنّ اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربيّة وبين ما ألّفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلّا بصعوبة"... (المستشرق الألمانيّ فرنباغ)

يرى الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أنّ اللغة العربيّة كانت في مرحلة الازدهار الحضاريّ أصلاً في العلم، وروحاً في المعرفة، وشغفاً في الثقافة، ومنطلقاً للنهوض الحضاريّ. وفي هذه المرحلة استطاعت العربيّة أن تكون وطناً للعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة في مجالات الهندسة والجبر والفلك والطبّ والفلسفة. وكانت اللغة العربيّة وثيقة الصلة بالوضعيّة الحضاريّة للأمّة، والتعريب كان دائماً هو الوجه الآخر للتعبير عن الحضارة العربيّة حضوراً وانحساراً نهوضاً وانكساراً.

فلكلّ حضارة لسان تعبّر به عن ذاتها ووجودها ولسان الحضارة العربيّة لم يكن سوى العربيّة الّتي ازدهرت في مراحل النموّ الحضاريّ، وامتدّت لتعبّر عن مختلف خلجات الحضارة العربيّة في مختلف العصور. ويقيناً أنّه عندما تضعف الحضارة يضعف لسان حالها، وتذوي لغتها وتنحدر ثمّ تنحسر.

ويمكن أن نميّز حالتين حضاريّتين أساسيّتين في تاريخ التعريب: التعريب في حالة الازدهار الحضاريّ والتعريب في حالة الانحسار الحضاريّ. حيث يأخذ الأوّل صورة المدّ الحضاريّ الشامل، بينما يأخذ الثاني صورة المحافظة على الهويّة الحضاريّة وممانعة الذوبان الحضاريّ في عصر الركود الحضاريّ الّذي تشهده الأمّة العربيّة اليوم.

بدأت حركة التعريب فعليّاً مع بداية الدعوة الإسلاميّة، حيث جمع الإسلام بلغته القرآنيّة لهجات العرب في لغة واحدة سامية هي لغة القرآن الكريم. فانطلق التعريب مع بداية الخلافة الإسلاميّة، وتجسّد ذلك في الاهتمام السياسيّ الّذي أبداه الخلفاء الراشدون باللغة العربيّة، فعملوا على تمكينها في قلوب الناطقين فيها، وفي عقولهم وعلى ألسنتهم. ويرى الباحثون أنّ أولى محاولات التعريب بدأت بـ(تعريب النقود) في عهد الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- إذ ضرب الدراهم على أسماء عربيّة فجعل نقش بعضها (الحمد لله) ونقش بعضها الآخر (محمّد رسول اللّه) أو (لا إله إلّا اللّه وحده) وقد نهج على نهجه الخلفاء الّذي جاؤوا من بعده.

وقاد الخليفة الأمويّ( ) عبد الملك بن مروان أكبر عمليّة تعريب حضاريّة في تاريخ العرب شملت جميع مناحي الحياة الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والعسكريّة، إذ قام بتعريب دواوين الدولة برمّتها، ثمّ عرب عملة الدولة المتداولة بين الناس، وقد أدّت هذه العمليّة إلى نشر اللغة العربيّة في مختلف أصقاع الدولة الإسلاميّة، وأتاحت للعرب فرصة الوصول إلى أرفع المناصب الإداريّة وأهمّها شأناً، بعد أن كان ذلك يقتصر على غير العرب، الأمر الّذي كان يضعف تكوين الدولة القوميّ، ويتناقص مع سياسة الدولة العامّة، ويوهن الثقة بين الدولة والإدارة، ولا يمكن أن تقوى هذه الثقة ما دام موظّفوها ليسوا عرباً، وما دامت لغتها غير عربيّة. لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربيّة، حتّـى غدت اللغة الرئيسيّة بعد أن كانت في عداد اللغات الأجنبيّة كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة. وقد سار على نهجه ابنه الوليد بن عبد الملك وسائر الخلفاء الأمويّين، فعملوا على ترسيخ اللغة العربيّة الواحدة لغة الدولة والثقافة والمعرفة والمصير.

فالحضارة العربيّة الإسلاميّة انطلقت عبر حركة تعريب واسعة في مختلف المدن والمقاطعات والبلدان الّتي فتحها العرب والمسلمون في مختلف أرجاء الأرض. وقد عمل العرب على نشر لغتهم في مختلف أصقاع الدولة حتّى شمل التعريب كلّ مناحي الحياة والوجود. وكان على سكّان البلاد المفتوحة أن يتعلّموا العربيّة وأن يستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتّى اضطرّوا أن يتعلّموا النحو لإصلاح لغتهم. ثمّ أقبل الناس على تعلّم العربيّة، فنقلوا إليها علومهم وحتّى كتبهم المقدّسة وذلك لإظهار تراثهم الحضاريّ والثقافيّ للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للاطّلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أنّ إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادّيّة ومعنويّة. وقد شهدت الحضارة العربيّة الإسلاميّة - كنتيجة طبيعيّة لهذه الفعاليّة التعريبيّة - نشاطاً علميّاً يندر مثيله في تاريخ العصور العلماء؛ إذ ظهرت طائفة من العلماء والمفكّرين والعباقرة في مختلف الميادين العلميّة مثل: البيرونيّ، والكنديّ، والرازيّ، وابن سيناء، والإدريسيّ، وابن باجة، وعمر الخيّام، وابن زهر، وابن طفيل، وابن رشد، وابن حزم الأندلسيّ، وكان عدد العلماء والمفكّرين يفوق التعداد والعصر، ولم تكن هذه الظاهرة حالة خاصّة بل كان هذا هو الحال العامّ في الحضارة الإسلاميّة.

وبقيت هذه الحالة قائمة حتّى مرحلة تراجع الحضارة العربيّة وانحسارها السياسيّ حيث بدأت اللغة العربيّة تتراجع وتنحسر وتذوي وتغيب تدريجيّاً حتّى آلت إلى ما هي عليه من انحدار وتصدّع في مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ومن ثمّ استمرّت حركة التعريب على أشدّها في العهد العبّاسيّ ولاسيّما في القرنين الثامن والتاسع الميلاديّين، أي في مرحلة الازدهار الحضاريّ، أي في عهد هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم باللّه. وكان المأمون الخليفة العبّاسيّ العالم المستنير (ت 833) يتفانى في خدمة العلم والمعرفة ويحثّ العلماء عليّ طلب العلم، ويضع المكافآت الثنيّة لهم، وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديميّة البحث العلميّ ببغداد تحت رعايته الشخصيّة. وأقام به مرصداً ومكتبة ضخمة. كما أقام مرصداً ثانياً في سهل تدمّر بالشام. وجمع المخطوطات من الدنيا كلّها لتترجم علومها.

ويروي المؤرّخون أنّ بيت المال أيّام المأمون كادت تنفّذ خزائنه من كثرة ما كان يدفع أجراً للمترجمين. ويروي الثقات من أهل العلم أنّ حنين بن إسحاق كان يتقاضى وزن ما يترجم ذهباً، ولمّا كان الرجل نحيلاً وحريصاً على نموّ ثروته، فقد كان يكتب بخطّ كبير الحجم، كما كان يكتب على لوحات ثقيلة، ولا غرابة في هذا المسلك فيما وصلت إليه أمّة الإسلام في ذلك العصر من عزّ ومجد حضاريّ وثقافيّ واجتماعيّ كان نتاجاً طبيعيّاً لحصيلة العلم والرغبة في المعرفة

وفي عهد المأمون شهدت الدولة الإسلاميّة أعظم نهضة علميّة حضاريّة في تاريخ الأمّة؛ فظهرت الجامعات الإسلاميّة لأوّل مرّة بالعالم الإسلاميّ قبل أوروبا بقرنين. وكانت جامعة بيت الحكمة أوّل جامعة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثمّ تلاها جامعة القرويّين سنة 859 م في فاس، ثمّ جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وبالمقارنة فإنّ أوّل جامعة في أوروبا أنشئت في "سالرنو" بصقلّيّة سنة 1090م على عهد ملك صقلّيّة روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك. ثمّ تلاها جامعة بادوفا بإيطاليا .

ومع ضعف الدولة العربيّة في بغداد وسقوط الدولة العبّاسيّة عام 1258 بدأت اللغة العربيّة تشهد تراجعاً كبيراً وانحساراً في مختلف مناحي الحياة والوجود ولاسيّما في مجال العلوم والمعارف، ويلاحظ الباحثون أنّ اللغة العربيّة بدأت تأفل مع أفول الحضارة العربيّة وتراجعها.

وفي ظلّ الدولة العثمانيّة (1299-1923) تراجعت اللغة العربيّة، وأصبحت اللغة التركيّة هي لغة الدواوين والإدارة والاقتصاد وبقين هذه الحالة قرابة أربعة قرون عجاف أدّت إلى انحسار كبير في اللغة العربيّة وتراجعها في مختلف الميادين. وكانت الطامّة الكبرى بوصول جمعيّة الاتّحاد والترقّي الطورانيّة إلى السلطة في الدولة العثمانيّة، إذ بدؤوا بعمليّة "تتريك" واسعة شاملة لمختلف مناحي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في البلدان العربيّة أو الناطقة بها. وتعدّ حركة "التتريك" الّتي تعرّضت لها اللغة العربيّة أولى لمحاولات السياسيّة الممنهجة للقضاء على اللغة العربيّة في ديارها وإحلال اللغة التركيّة بديلاً عنها، وحدث ذلك في بداية القرن العشرين، إذ قام الأتراك "بتتريك" الدواوين والجيش والتعليم. ومنع استخدام اللغات غير التركيّة في الإعلام والتدريس كما فرض على جميع سكّان تركيّا تبنّي أسماء تركيّة، وحوّلت أسماء الكثير من المدن (ومنها العربيّة في الجنوب) إلى أسماء تركيّة. كذلك منعت المطبوعات والأنشطة الثقافيّة بغير اللغة التركيّة، وحول الأذان من العربيّة إلى التركيّة.

وبرهنت العربيّة مرّة ثانية في العصر الحديث، بأنّها صنوّ العلم، وحاضن المعرفة، وملهم الثقافة، حتّى أتى يوم من الدهر أصبحت فيه قصيّة مستبعدة، بعدما أخرجت من عرينها الأكاديميّ، فهزمت في عقر دارها وفي فضاء أوطانها. وقد جاء هذا البرهان العظيم على يد محمّد علي باشا، والي مصر، الّذي تسلّم مقاليد السلطة في مصر عام 1805، فأسّس دولة عربيّة حديثة تقوم على العلم والمدنيّة؛ ثمّ أرسل البعثات الدراسيّة إلى أوربا، وفتح عدداً من المدارس العسكريّة والطبّيّة والهندسيّة، واعتمد اللغة العربيّة لغة رسميّة في مختلف مناحي الحياة العلميّة والسياسيّة والأكاديميّة، فعادت اللغة العربيّة مجدّداً لغة الدولة الرسميّة، وغدت لغة التدريس في جميع المدارس الجديدة والمؤسّسات التعليميّة الناهضة.

وفي هذه المرحلة الجديدة، من حكم محمّد علي باشا، استطاعت اللغة العربيّة أن تثبت جدارتها، ولاسيّما عندما أنشأ محمّد علي باشا أوّل كلّيّة للطبّ في أبي زعبل بمصر عام 1826، فجعل من العربيّة لغة التدريس والبحث العلميّ فيها، وكانت هذه الكلّيّة أعظم مؤشّر على مظاهر النهضة العلميّة الّتي انطلقت في عهده حيث برهنت اللغة العربيّة قدرتها الهائلة على احتواء العلوم وقدرتها على أن تكون لغة التدريس والحوار والإبداع طيلة سبعين عاماً برز خلالها الكثير من الأساتذة والمترجمين الّذين خدموا العربيّة خدمات جليلة.

ويروي الثقات أنّ محمّد علي استقدم الأساتذة الأجانب للتدريس في الكلّيّة بداية، وجعل لهم مترجمين يترجمون الدروس في قاعات المحاضرات، وخلال هذه الفترة ألف الأطبّاء والباحثون في الطبّ في هذه الكلّيّة 53 كتاباً مرجعيّاً في الطبّ. وهكذا عمل الاستعمار البريطانيّ على قهر اللغة العربيّة، وأخرجها من عقر دارها ليجعل من اللغة الإنكليزيّة لغة التعليم الطبّيّ في الجامعات والمؤسّسات العلميّة.

وهكذا انطلقت اللغة العربيّة لتأخذ طريقها إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، ولم يكتف محمّد علي بتأسيس كلّيّة الطبّ فحسب، بل أسّس مدارس ومؤسّسات ومعاهد في الطبّ والهندسة والزراعة والعسكريّات، وكانت اللغة العربيّة في كلّ هذه المؤسّسات لغة التعليم والخطابة والتأليف والنشر.

 ومن أعظم ما قدّمه محمّد علي للعربيّة هو افتتاحه مدرسة الألسن عام 1836 الّتي شكّلت معلّماً بارزاً من معالم النهوض باللغة العربيّة الفصحى وتطويعها لاستيعاب العلوم الحديثة واحتواء مصطلحاتها بعد ذلك الانقطاع الطويل بين الفصحى والعلم عصوراً متتابعة. ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الحماسة الّتي كانت تملأ النفوس، والإخلاص الّذي كان يعمّر القلوب لدى أولئك العلماء الّذين عملوا بطريقة عبقريّة فذّة على نقل العلوم الحديثة وترجمتها إلى اللغة العربيّة.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المصلح الكبير رفاعة الطهطاوي الّذي اشتغل بالترجمة في مدرسة الطبّ، فعمل على تطوير مناهج الدراسة بالعربيّة في العلوم الطبيعيّة، وإليه يعود الفضل في افتتاح مدرسة الترجمة عام 1935 الّتي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعيّـن مديراً لها، إلى جانب عمله مدرّساً بها. وفي هذه الفترة تجلّى المشروع الثقافيّ الكبير لرفاعة الطهطاوي؛ ووضع الأساس لحركة النهضة باللغة العربيّة، إذ ساعد فريق من العلماء والمفكّرين بترجمة متون الفلسفة والعلوم والتاريخ الغربيّ، ونصوص العلوم الغربيّة المتقدّمة، إلى اللغة العربيّة.

 وقد أنشأ الطهطاويّ أقساماً متخصّصة للترجمة في مجالات الرياضيّات والطبيعيّات والإنسانيّات، وكان من أعظم ما قدّمه للّغة العربيّة استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربيّة (وهي العلوم والمعارف الّتي تدرس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبيّة)، وكان قد أصدر صحيفة الوقائع المصريّة بالعربيّة بدلاً من التركيّة؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. ويرى الباحثون في هذا السياق أنّ المدارس الطبّيّة والهندسيّة والعلميّة نجحت في التدريس باللغة العربيّة مدّة ستّين عاماً متّصلة، وخرجت لنا أفضل العلماء والباحثين والمفكّرين.

غير أنّ الإنجليز، حين احتلّوا مصر عام 1883، سارعوا إلى جعل التدريس في كلّيّة الطبّ بالإنجليزيّة؛ وكان ذلك انتكاساً أصاب العربيّة وأهلها في عرين العروبة من جديد. وهكذا، وبعد ستّين عاماً من التدريس والبحث العلميّ، اتّخذت الحكومة المصريّة تحت ضغط السلطات الاستعماريّة قراراً بإقصاء العربيّة وتبنّي اللغة الإنكليزيّة فيها عام 1887 بعد أن كانت حركة التعريب للعلوم المختلفة قد سارت بخطى ثابتة، فأبدع عدد من العلماء والمفكّرين، وألّفوا كتباً حيّة أصيلة في مجال علوم النبات والحيوان والفيزياء والجيولوجيا والرياضيّات والصيدلة والنجوم والفلك.

أمّا في بلاد الشام، فقد عملت الإرساليّات التبشيريّة للدول الأجنبيّة في القرن التاسع عشر على تدريس العربيّة، وسعت إلى نشرها؛ مدفوعة بدوافع سياسيّة تهدف إلى تقويض الخلافة العثمانيّة الّتي بالغت في أواخر عهدها في تتريك العرب وإجبارهم على التخلّي عن لغتهم.

وقد تمّ إنشاء الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة في بيروت الّتي سمّيت فيما بعد بالجامعة الأمريكيّة ببيروت عام 1866، وأنشئت بعدها عام 1883 مدرسة الطبّ اليسوعيّة، وكان الطبّ يعلّم فيها باللغة العربيّة حتّى اللحظة الّتي وقعت فيها لبنان وسوريا تحت الاستعمار الفرنسيّ، فتحوّل تعليم الطبّ في هاتين الكليّتين إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة. وشهدت هذه الحركة التعريبيّة نشاطها الكبير في هذه الكلّيّة، فظهرت مؤلّفات المستشرقين الأمريكان، من أمثال: كرفيلوس فانديك، ويوحنّا، وجورج بوست، بمعاونة أساتذتهم العرب من أمثال بطرس البستانيّ، واليازجيّين ومنهم: ناصيف وإبراهيم، ويوسف الأسير، وأحمد فارس الشدياق، تغطّي برامج الدراسة في علوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيّات والفلك وسواها بلغة عربيّة سليمة ومستوى علميّ جيّد، ولم يخطر ببال روّاد النهضة الحديثة، عرباً أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربيّة، تطبيقاً لمنطق علميّ براغماتيّ بسيط ما زال هو المنطق العمليّ الصحيح اليوم.

وفي سوريا أسّست كلّيّة الطبّ في دمشق عام 1919، وكانت تدرس الطبّ باللغة العربيّة، واستمرّت فيه حتّى اليوم، على الرغم من محاولات الانتداب الفرنسيّ لفرض اللغة الفرنسيّة فيها .

ويمكن القول في هذا السياق أنّ الجهود العربيّة في المجال العلميّ، والّتي بدأت في عهد النهضة تعدّ حلقة من سلسلة متواصلة لدعم التراث العلميّ العربيّ وتطويره، "وقد واجهت هجمة استعماريّة شرسة، عصفت بتلك الجهود إثر استعمار الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه، هذا الاستعمار أدّى بدوره إلى قتل روح الإبداع، ومنها البذرة الأولى وهي التدريس باللغة العربيّة في المجالات العلميّة في مناطق الشام ومصر وتونس؛ ممّا أدّى إلى النزوح عن اللغة العربيّة، وهجرها كلغة تدريس، والتدريس بلغة المستعمر الأجنبيّ الإنجليزيّة في المشرق والفرنسيّة في المغرب العربيّ" (خريوش، 1997) .

وكذلك فعلت الجامعة الأمريكيّة في بيروت مدّة ثماني عشرة سنة في مطلع عملها وما فعلته جامعة دمشق في سوريا العربيّة منذ مطلع القرن العشرين، ولا تزال حتّى الآن، حيث قامت هذه الجامعة بتعريب عمليّة التدريس بشكل شبه كامل، وخرج إلى النور عدد لا يستهان به من الكتب الّتي تشكّل قواميساً للموادّ العلميّة الّتي تدرس في الجامعات وخاصّة الطبّيّة منها. (الحمود، 2005).

بدأت حركة التعريب في العالم العربيّ في عصر النهضة العربيّة الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر، وساهمت في إحياء الثقافة العربيّة بعد زمن طويل من الركود اللغويّ والفكريّ، وكان لها إسهامات كبيرة في مسيرة التحرّر من الاستعمار وآثاره اللغويّة وغيرها، إضافة إلى الدور الفاعل لمجامع اللغة العربيّة في بعض الدول العربيّة، والإسهامات الكبيرة لبعض علماء اللغة والعاملين بالترجمة مثل أحمد فارس الشدياق وبطرس البستانيّ.

ولكنّ حركة التعريب في الوقت الحاضر تعاني من ركود، مقارنة بغيرها من دول العالم المتقدّم وغير المتقدّم غير الناطقة باللغة الإنجليزيّة مثل أرمينيا واليونان وتركيّا وكوريا والصين وأندونيسيا واليابان وألمانيا ممّن تستخدم اللغة القوميّة في التعليم الجامعيّ.

مع انحسار الاستعمار الغربيّ في البلدان العربيّة، وظهور ملامح الدولة الوطنيّة القوميّة بادرت الحكومات العربيّة إلى مواجهة قضيّة التعريب من جديد، وبدأت الجهود العربيّة تتعاظم في مجال تعريب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وجاء التعبير عن هذه المرحلة من جديد كبير من القرارات السياسيّة الّتي أرادت للعربيّة أن تعيد للعربيّة أمجادها بوصفها لغة الحياة والوجود. وقد ترافقت هذه الجهود السياسيّة بولادة مجاميع اللغة العربيّة في مختلف الأقطار وتقاطر الجهود والقرارات الّتي أرادت للعربيّة أن تكون لغة الأمّة والدولة والوطن.

خلاصة:

شهدت اللغة العربيّة نهضتها العظيمة ووحدتها الكبرى في التجلّيات القرآنيّة للحضارة الإنسانيّة، فاتّحدت لهجات العرب العديدة في لغة عربيّة فصيحة واحدة هي لغة القرآن الكريم. وشهدت هذه اللغة تأكيداً لحضورها وتفانيا في تأصيل قوّتها ووجودها في العهد الراشديّ العظيم.

ثمّ كان العصر الأمويّ الّذي كان عصر العروبة والتعريب بامتياز. واستمرّت العربيّة في تقدّمها في العصر العبّاسيّ الأوّل عصر الازدهار العظيم، فتحوّلت العربيّة إلى لغة الدنيا والحضارة والناس في مشرق الدنيا وفي مغاربها.

وبدأ عصر الانحسار مع ضعف الدولة العربيّة وانهيارها؛ ومن ثمّ سقوطها على يد المغول والتتار في عام 258 ، فكانت المأساة الّتي تعاظمت مع الخلافة العثمانيّة، واشتدّت مخاطرها مع الهجمة على اللغة العربيّة في العهد الطورانيّ حيث تعرّضت اللغة العربيّة لعمليّة تتريك شاملة. وهكذا بقيت اللغة العربيّة أسيرة الضعف والانحلال والإقصاء على مدى أربعمائة سنة من عهد العثمانيّين والأتراك.

وفي عصر النهضة انتفضت العربيّة من جديد بجهود النهضويّين العرب والمفكّرين،  وكانت مرحلة محمّد علي هي مرحلة النهوض العظيم للّغة العربيّة، ولكنّ هذه المرحلة لم تستمرّ طويلاً فجاء الاستعمار الغربيّ ليقلّب الموازين ليقصي اللغة العربيّة عن التعليم والحياة العلميّة؛ ومن ثمّ لينادي باللغات الأجنبيّة والإنكليزيّة لغات للمعرفة والعلم والتدريس. وما يؤسف عليه أنّ تأثير الاستعمار الغربيّ ما زال قائماً، وما زالت اللغة العربيّة قصّيّة نائية عن مقاصدها الحضاريّة والثقافيّة باستمرار هذا الاستعمار في صورة الاستعمار الخفيّ الّذي يأخذ صورة علميّة جارفة ضاربة لا تقيم للّغة العربيّة وزناً أو أهمّيّة.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

روى هذه القصة الدكتور إبراهيم البعيز، الأستاذ الجامعي والخبير البارز في سياسات التواصل الثقافي. وهي تدور حول لحظة اكتشاف الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن مجتمعات الغرب. يقول إنه انضم إلى فصل يدرس العلاقات الثقافية، مخصص لطلبة الدكتوراه بجامعة ولاية أوهايو الأميركية، سنة 1983. وكان الطلاب ملزمين بكتابة تقرير أسبوعي عن قراءاتهم في الموضوع. واعتاد الأستاذ أن يحدد أفضل تقرير وأسوأ تقرير، كي يلقيه صاحبه على بقية الزملاء. في أحد الأسابيع أراد البعيز أن يكتب عن تجربته الخاصة في التواصل مع الثقافة الأميركية، فكتب ما خلاصته أنه كان حريصاً على مطالعة جوانب الثقافة الأميركية، كي يختار منها ما يلائم ثقافته وقيمه العربية.

سألني الأستاذ -يقول الدكتور إبراهيم-: هل تستطيع حقاً أن تختار؟ وهل هذي هي الطريقة الأفضل في التواصل الثقافي مع العالم؟

تلك الحادثة فتحت عيني على وهم شائع في مجتمعنا، خلاصته أننا نتخيل علاقة مع العالم تشبه رحلة التسوق: تدخل إلى «السوبرماركت»، تختار ما تريد، تضعه في العربة، ثم تدفع قيمته وتخرج. وقد سألت نفسي كثيراً، وسألت الزملاء: هل نستطيع حقاً أن نطبق «موديل السوبرماركت»؟ أن نفكك ثقافة الآخرين إلى أجزاء فنختار هذا الجزء ونترك ذاك؟

يرى الدكتور إبراهيم أن الانفتاح على العالم يتطلب –من حيث المبدأ– استعداداً لتقبل التغيير، أي التخلي عن المخزون الثقافي الذي ورثناه، أو حُشيت به أدمغتنا، أو اخترناه في سياق تجربتنا المعيشية، وأن نستبدل به منظومة جديدة قادرة على إثبات أفضليتها؛ لا سيما قدرتها على استيعاب تحديات الحاضر، والوفاء بحاجات المجتمع الثقافية والحياتية. هذا يعني –إلى حد كبير– تبديل النظام الثقافي نفسه، وليس استبدال عناصر محددة. أجزاء الثقافة الأجنبية التي ربما نفكر في انتقائها ليست قطعاً صلبة قائمة بذاتها.

إنها أشبه بأجزاء رواية أو قصيدة، تصمم ضمن منظور شامل يجمعها بسائر الأجزاء. تخيل أنك أخذت فقرة من رواية فيكتور هيغو «البؤساء» وأقحمتها وسط صفحة من رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، فهل ستندمج وتمسي جزءاً من نسيجها.

نحن نجادل كثيراً في أن الانتقاء هو الخيار الوحيد المتاح، وأننا لا نستطيع الأخذ بعناصر الثقافة والقيم الغربية، إذا تعارضت مع ثقافتنا أو قيمنا. فهل هذا حقاً هو الخيار الوحيد، وهل هو الخيار المفيد؟

قلت لصديقي الدكتور إبراهيم، إني أنظر للمسألة من زاوية أخرى: التواصل مع الشعوب الأخرى ليس من الأمور المحبذة في موروثنا الثقافي. هناك شعور عميق بالخوف من أن يؤدي التواصل إلى خلخلة الالتزام الديني؛ لا سيما إذا كان الطرف الآخر في التواصل أقوى مادياً أو ثقافياً. ونتذكر على سبيل المثال أن السفر للخارج لم يكن موضع ترحيب من جانب الزعماء الدينيين؛ بل ربما تشدد بعضهم فاعتبره حراماً، إن لم يكن لحاجة ماسة. وكذا التواصل مع القادمين إلينا من خارج إطارنا الثقافي؛ لا سيما إن كانوا غير مسلمين.

في وقت لاحق، تراجع هؤلاء؛ لأن الناس لم يطيعوهم، فطُرحت فكرة الانتقاء مما عند الآخرين بوصفها بديلاً معقولاً في تلك الظروف. وفي الوقت الحاضر يتحدث جميع الناس عن هذا النوع من التبادل، أي «موديل السوبرماركت»، باعتباره الخيار الأمثل.

حسناً، إذا كنا سنختار ما يلائم ثقافتنا وأعرافنا، فهذا يعني أن ثقافتنا وأعرافنا هي المعيار والميزان الذي نقيس عليه بضائع الآخرين. فهل نؤمن –حقاً– بأنَّ ثقافتنا وأعرافنا بلغت هذا المستوى؟.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا نأخذ مما عند الآخرين، لماذا لا نكتفي بالذي عندنا؟.

واقع الأمر أنَّنا نأخذ بثقافة الآخرين؛ لأن ثقافتنا متخلفة، عاجزة عن استيعاب تحديات الحياة في عصرنا، فكيف يكون الفاشل معياراً يوزن به الناجحون؟.

***

د. توفيق السيف

 

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) في التفاوض

في عالم المفاوضات، تلعب استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) دورا حاسما في تشكيل التفاعلات وتحقيق نتائج ناجحة. تشير السمات النحوية إلى الجوانب الهيكلية للغة، بما في ذلك ترتيب الكلمات وبنية الجملة والأنماط النحوية. يتم استخدام هذه الميزات في المفاوضات لعدة أسباب، بما في ذلك تعزيز الوضوح، وإدارة ديناميكيات السلطة، وإقامة علاقة، والتأكيد على النقاط الرئيسية، ونقل المعلومات بشكل فعال. سوف يتعمق هذا المقال في أهمية السمات النحوية في المفاوضات ويستكشف كيفية مساهمتها في التواصل الفعال وتحقيق النتائج المرجوة.

أولا، يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لتعزيز الوضوح وتقليل سوء الفهم. غالبا ما تتضمن المفاوضات أفكارا معقدة ووجهات نظر متعددة، واستخدام بنية الجملة المناسبة وترتيب الكلمات يمكن أن يساعد في نقل هذه الأفكار بدقة. ويضمن التواصل الواضح من خلال بناء الجملة الدقيق أن كلا الطرفين يفهمان تمامًا مواقف بعضهما البعض ويتجنبان أي ارتباك أو سوء تفسير غير ضروري. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام توافق الفعل والموضوع المناسب ووضع الكلمات المناسب في التعبير عن النوايا والمطالب بوضوح، دون ترك مجال للغموض.

 تعد استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) ضرورية لإدارة ديناميكيات القوة في المفاوضات. ومن خلال استخدام تركيبات نحوية محددة، يمكن للمفاوضين تأكيد الهيمنة أو التأكيد على المساواة. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام الجمل الآمرة أو الأوامر المباشرة إلى إنشاء السلطة والإشارة إلى موقف قوي، في حين أن استخدام لغة أكثر مؤقتة أو مهذبة يمكن أن يدل على التعاون. يتيح هذا النشر الاستراتيجي للميزات النحوية للمفاوضين تشكيل ديناميكيات المحادثة والتأثير على النتيجة لصالحهم.

 تعتبر السمات النحوية ضرورية لإقامة علاقة وتطوير الاتصالات بين الأشخاص أثناء المفاوضات. يمكن أن تكون المفاوضات في كثير من الأحيان متوترة ومتعارضة، ولكن من خلال استخدام بعض الهياكل اللغوية، يمكن للمفاوضين تعزيز الشعور بالتفاهم والتعاون. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام لغة شاملة مثل "نحن" أو "أنتم" بدلا من "أنا" أو "أنت" إلى إنشاء هوية مشتركة وتعزيز التعاون بين الأطراف المتفاوضة. ومن خلال استخدام هذه الآليات النحوية، يستطيع المفاوضون بناء علاقة، وتسهيل الثقة، وخلق جو أكثر إيجابية يفضي إلى التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات للتأكيد على النقاط الرئيسية وتسليط الضوء على المعلومات المهمة. غالبا ما يكون لدى المفاوضين أهداف محددة أو نتائج مرغوبة، واستخدام الهياكل النحوية المناسبة يمكن أن يساعد في لفت الانتباه إلى هذه العناصر الحاسمة. ومن خلال استخدام تقنيات مثل التوازي أو التكرار، يستطيع المفاوضون التأكيد على حججهم وإحداث تأثير دائم. تجذب هذه السمات النحوية انتباه الطرف الآخر وتعزز أهمية مواقف المفاوض، مما يزيد من احتمالات النجاح.

 تسمح الميزات النحوية للمفاوضين بنقل المعلومات بشكل فعال. غالبا ما تتضمن المفاوضات تبادل الحقائق والأرقام والمقترحات، وباستخدام تراكيب الجمل والأنماط النحوية المناسبة، يضمن المفاوضون النقل الدقيق لهذه المعلومات. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام بناء جملة واضح وموجز في تلخيص البيانات المعقدة أو تقديم المقترحات بدقة. وهذا يسهل التفاهم ويمكّن كلا الطرفين من اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يؤدي إلى مفاوضات أكثر فعالية.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لإثارة الاستجابات العاطفية والتأثير على الحكم. إن الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات من خلال تركيب الجمل واختيار الكلمات يمكن أن تؤثر على الحالة العاطفية للطرف المفاوض الآخر. باستخدام بعض السمات النحوية مثل الأسئلة البلاغية، أو العبارات التعجبية، أو اللغة العاطفية، يمكن للمفاوضين إثارة مشاعر أو ردود أفعال معينة من نظرائهم. يمكن أن تؤثر هذه الاستجابات العاطفية على عملية صنع القرار وترجيح كفة المفاوضات لصالح المفاوض الذي يستخدم هذه التقنيات اللغوية.

وتساهم الميزات النحوية في إقناع الحجج في المفاوضات. ومن خلال استخدام تقنيات مثل استخدام علاقات السبب والنتيجة، أو الجمل الشرطية، أو الأدوات البلاغية المقنعة مثل التكرار أو الاستعارة، يمكن للمفاوضين أن يجعلوا حججهم أكثر إقناعا وإقناعا. تساعد هذه الميزات في بناء الحجج بطريقة منطقية ومتماسكة، مما يجذب العقل ويزيد من احتمال قبول الطرف الآخر للمقترحات المطروحة.

 إن استخدام السمات النحوية يسمح للمفاوضين بتكييف أسلوب تواصلهم مع السياقات الثقافية المختلفة. غالبا ما تتضمن المفاوضات أطرافا من خلفيات متنوعة، كما أن فهم ودمج السمات النحوية الخاصة بالثقافات المختلفة يمكن أن يسهل التواصل الفعال.

استراتيجيات التخاطب اللغوية في اتفاقيات كامب ديفيد (نموذجا)

شكلت اتفاقيات كامب ديفيد، الموقعة بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨ نقطة تحول مهمة في العلاقة بين عدوين. وكانت هذه الاتفاقيات نتيجة لمفاوضات مكثفة بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، بتيسير من الولايات المتحدة بقيادة الرئيس جيمي كارتر. لعبت

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية(السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حاسما في وضوح الاتفاقيات وخصوصيتها. ويعود الفضل في دقة التعابير وخصوصيتها ووضوحها لعلماء اللغة لدى الأطراف المعنية. وهو مالم يتوفر في أي اتفاقيات أخرى مماثلة وقعتها إسرائيل مع دول أخرى.

فأولا وقبل كل شيء، كان استخدام الجمل التصريحية في اتفاقيات كامب ديفيد سببا في ضمان اتباع نهج مباشر ومباشر في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات. سمح هذا النمط من بناء الجملة بالوضوح وأزال أي غموض قد ينشأ عن استخدام أنواع الجمل الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستخدام المكثف للجمل المعقدة في الاتفاقيات مكن من إدراج فقرات وبنود فرعية متعددة، مما يسمح باستكشاف شامل لكل قضية يتم تناولها. سمحت هذه الميزة النحوية بإجراء فحص شامل للتعقيدات التي تنطوي عليها مفاوضات السلام وتأكدت من أخذ الجوانب المختلفة في الاعتبار.

علاوة على ذلك، استخدمت الاتفاقيات استخدام هياكل متوازية في جميع أنحاء الوثائق. وقد عززت هذه الميزة النحوية وضوح الاتفاقيات من خلال عرض الأفكار والمفاهيم بشكل متماسك ومتوازن. كما أنه سهّل الفهم وخلق إحساسا بالتماثل والتناظر بين الفرقاء، مما عزز المساواة الملموسة من الناحية القانونية بين مصر وإسرائيل.

كما استخدمت الاتفاقيات أيضا استخداما استراتيجيا للجمل المشروطة لتحديد عواقب والتزامات كلا الطرفين. ومن خلال ذكر الشروط والنتائج المتوقعة، أتاحت هذه الميزة النحوية فهما واضحا للتداعيات المحتملة إذا فشل أي طرف في الوفاء بالتزاماته.

كما استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد صيغة المبني للمجهول للتأكيد على تصرفات ومسؤوليات كل من مصر وإسرائيل. وباستخدام صيغة المبني للمجهول، تم تحويل التركيز من الفرد (الأفراد) الذي يقوم بالعمل إلى الفعل نفسه، مما يؤكد الطبيعة الجماعية للاتفاقات وتعزيز الشعور بالمسؤولية المشتركة.

الميزة النحوية الأخرى المستخدمة كانت الاستخدام المكثف لأدوات العطف التنسيقية لربط الأفكار والمفاهيم ذات الصلة. وقد كفل هذا التدفق المنطقي للمعلومات وخلق سردا متماسكا، مما يسهل على كلا الطرفين فهم الترابط بين مختلف البنود والأحكام.

و استخدمت الاتفاقيات  الجمل الآمرة لنقل التعليمات والمطالب. وقد مكنت هذه الميزة النحوية المفاوضين من التعبير بوضوح عن توقعاتهم ومتطلباتهم، دون ترك مجال لسوء التفسير أو الغموض.

كما استخدمت الاتفاقيات خاصية التكرار النحوية للتأكيد على النقاط الحاسمة والتأكيد على أهميتها. ومن خلال إعادة صياغة الأفكار والأحكام الرئيسية في جميع أنحاء الوثيقة، عززت الاتفاقيات أهميتها وسعت إلى ضمان عدم إغفال أي جانب أو إساءة فهمه.

وأخيرا، استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد علامات الترقيم بشكل فعال، وخاصة الفواصل المنقوطة والنقطتين، لبناء وتنظيم الجمل المعقدة. وقد مكن ذلك المفاوضين من تقديم أفكار ومفاهيم مفصلة دون التضحية بالتماسك والفهم.

وفي الختام، لعبت استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حيويا في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات بين مصر وإسرائيل. إن استخدام الجمل التصريحية، وهياكل الجملة المعقدة، والتوازي، والجمل الشرطية، والمبني للمعلوم والمبني للمجهول، وأدوات العطف المنسقة، والجمل الأمرية، والتكرار، وعلامات الترقيم المناسبة، كلها ساهمت في وضوح الاتفاقيات ودقتها. وقد أدت هذه الاختيارات اللغوية معا إلى تحسين فهم الوثيقة وسهولة قراءتها، مما سهل المفاوضات الناجحة ومهد الطريق لتحسين العلاقات بين مصر وإسرائيل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يبحث كل إنسان منا عن السعادة، فيكد وقد يشقى كثيراً لينال منها بنصيب وافر، وفي سعيه عنها بكل مرحلة من مراحل حياته يظن إن هذه السعادة الذي يرجونها ، ولكن سرعان ما يتبخر هذا المذاق السريع للسعادة ليعاود البحث عنها مجددا في جوانب أخرى من حياته.

وكل ما أدركته حتى الآن إن مبادرتي بلعبة أو حلوى الشكولاتة لطفل تغمره بالسعادة والانتماء إليك ، وتسري ابتسامته كفلق الصبح في عيني وقلبي وروحي، فتنعشني وتمدني بالطمأنينة والغبطة وطاقة روحية تملأ الكون شرقا ومحبة.

يتزايد هذا الشعور عندما أقدم هذه الهدايا البسيطة للطفل اليتيم، واربط بيدي حانية على شعره، واحتضنه فيشعر بالأمان والاهتمام والحنان، فيرمقني بنظرة امتنان وحب تغسل قلبي من أكدار الحياة، فأصفو صفاء البدر ليلة اكتماله.

قد تتداخل المشاعر عند إنجاز كتاب لي، وأفرغ من همه، فأشعر بالراحة النفسية، أو عند نجاحي في مهمة إنسانية معينة أو رسالة أبثها عبر مقالاتي، واجد رجع الصدى الجيد حولها، فأشعر بالغبطة من وصول رسالتي للناس؛ مما يشجعني على استكمال المشوار.

ولكن فرحتي تتعمق أكثر من الإنجاز عندما يسأل عني من انقطع عني لسنوات، وعاد محملا بذكريات الطفولة وأيام البراءة الأولى ، فأشعر كأنني ولدت مجددا وإني ما زلت طفلة تلهو مع صديقاتها أسفل منزلها تسمع زقزقة العصفور، وتتابع سرب الحمام، وهو يطير بجناحيه في منظومة إبداعية رائعة.

الناس عادة في سنوات العمر الأولى تحصر السعادة في أشياء مادية كالتفوق العلمي والتميز المهني، وتحقيق الذات والشهرة والنجاح المتوالي، ورغد العيش وامتلاك المال والبيوت والسيارة، والزواج الناجح والأبناء وغيرها من متطلبات الحياة الضرورية، ولا ننكر إن إشباع هذه الأهداف يحقق قدرا من السعادة المهمة، لكنها كانت سعادة مؤقتة تنتهي لفترتها بزهو اللحظات التي نعيشها من تفوق وحب وزواج وعمل، فصرنا نبحث عن معاني جديدة للسعادة لم نشرب كاساتها بعد.

وهذا يعني إن رؤيتنا للسعادة قد تتبدل من مرحلة عمرية لأخرى، ومن معطى ثقافي واقتصادي لآخر، ومن بيئة لأخرى، لكنها النهاية تعبير عن الفرح والابتهاج، وكل ما يزرع السرور في النفس البشرية، وتتباين تعريفات السعادة من مجتمع لآخر وفقا لطبيعته الفكرية والاجتماعية والدينية، كما تتباين في مفهومها لدى الفلاسفة والأدباء كل حسب تجربته مع السعادة.

ولكن بالعموم، فإننا كثيرا ما نخلط بين السعادة والمتعة، كما لاحظ سالم العنزي في مدونته، فالمتعة قصيرة الأجل وهي شعور يخص الإنسان وحده، وتكون ردة فعل على العوامل الخارجية كما تكون مؤقتة حيث أنها تؤخذ ولا تعطى المتعة شعور يرتبط بالأخذ، وتعتمد كيميائياً على الدوبامين (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر في كثير من الأحاسيس والسلوكي).

قد تتحقق المتعة بشعور البهجة أو الفرح عند القيام بعمل يسبب المتعة. وتختلف مصادر.

المتعة من شخص لآخر، فمنهم من يشعر بالمتعة عند القراءة، ومنهم من يشعر بالمتعة.

عند الاستماع إلى الموسيقى، ومنهم من يشعر بالمتعة عند ممارسة الرياضة، وغيرها.

بينما السعادة الأطول أجلا فهي شعور يتأثر به من حولك، وقد تكون ردة فعل على إنجازات على المستوى الشخصي.

وتتميز بأنها تعطى ولا تؤخذ

السعادة شعور يرتبط بالعطاء، وتعتمد كيميائياً على السيروتونين (إحدى الناقلات العصبية، وتلعب هذه المادة دورا مهما في تنظيم مزاج الإنسان )

وترتبط السعادة برضى الإنسان عن حياته بمختلف جوانبها الشخصية والعاطفية و.

الاجتماعية والمهنية أيضاً، بما ينعكس على الحالة المزاجية للفرد تجعله أكثر استقرارا.

نفسيا.

تختلف نظرة كبار المفكرين والفلاسفة للسعادة وفقا لخبراتهم الحياتية ومعتقداتهم الدينية والفلسفية للحياة. فمارتن لوثر، يرى إن الأشخاص الذين لا يبحثون عن.

السعادة، هم غالباً ما يجدونها، لأن أفضل طريقة لنسيان السعادة، هي في البحث عنها.

عند الآخرين.

بينما ستيف مارابولي، يعتقد إن السعادة هي ليست غياب المشاكل، وإنّما القدرة على.

التعامل مع هذه المشكلات.

ويعتبر كاري جونز، أن سر السعادة يكمن في الحرية، ويكمن سر الحرية في.

الشجاعة.

ويربط البعض بين السعادة والعطاء، وليس الأخذ، مثل غاندي، الذي يرى أن السعادة تتوقف على ما تستطيع إعطاءه ، لا على ما تستطيع الحصول عليه.

وأيضا، إن فرانك، يذهب إلى اعتبار الأشخاص السعداء، هم الذين يجعلون من حولهم يشعرون بالسعادة والسرور.

هذا التعدد لمفاهيم السعادة لدى المفكرين والمصلحين والفلاسفة إنما تعكس حقيقة اختلاف السعادة من شخص لآخر حسب تركيبته الجينية والميول الوراثية وخبراته.

الحياتية وتربيته ومعتقداته، وطرق التكيف مع الشدائد والمحن.

فقد يجد البعض السعادة في الأشياء البسيطة، بينما يحتاج البعض الآخر إلى تجارب أكثر.

تعقيدًا ليشعروا بالسعادة.

وقد تختلف نظرتنا إلى السعادة بحسب العمر والجنس والاختلافات المعرفية ومستوى القدرات والمهارات العقلية ومع هذا قد يكون متوسطو الذكاء ومحدودي المعارف أكثر سعادة من المفكرين والفلاسفة، لأنهم يتعاملون مع الحياة ببساطة ومع مشكلاتها بتلقائية كأنها سحابة صيف، وتمر بسلام مما يشعرهم بالطمأنينة.

ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأخي الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ.

تتباين النظرة إلى السعادة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، فبينما يعتبر الغرب عناصر الثروة أساسا للسعادة، فإن النظرة الشرقية للسعادة تتداخل فيها مقومات أخرى للسعادة كالعلاقات والاجتماعية والأسرية.

والروابط البشرية القوية والعلاقات الشخصية مهمة لتحقيق السعادة في مناطق أخرى من العالم مثل سويسرا وأيسلندا وأستراليا، تمامًا ودول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

أما في المنظور الصوفي الإسلامي فتحقق السعادة عندما ينجح الإنسان في تحطيم أصنامه الشخصية من غرور وكبر وطمع وجشع وأنانية وتملك، ويتحرر من خوفه ألا من الخالق العظيم، وهنا يحدث له التخلي عن حقارة الدنيا، وحقارة نفسه الأمارة بالسوء، فيدخلا مرحلة التحلي وهي التحلي بالصفات الأخلاقية والروحية ثم مرحلة التجلي حيث يتجلى فيه نور الحق، ويرى الدنيا على حقيقتها لا تساوي جناح بعوضة، فيسلم قيادته لربه، ويشعر بالرضا والطمأنينة والسلام الداخلي مهما كان الوضع الذي يعيشه.

ختاما، فإننا بحاجة إلى تقوية روابطنا الإنسانية والأسرية الدافئة التي كانت وستظل مبعثا على السلام والأمان والسعادة، وأن نتعاون جميعا في خلق حالة جماعية من السعادة، وإن نبث روح الدعابة والفكاهة بيننا لنتجاوز الطاقات السلبية التي قد تصيبنا من جهد العمل والطموح الشاق أو الأمراض والفشل وغيره، ولنتواصل مع أدياننا السماوية والتي كرست لتبادل البشر المحبة فيما بينهم كما يتبادلون المنافع الدنيوية - فلحظة حب صادقة كفيلة بإزالة جبال الأحزان من صدورنا وزرع ياسمين الفرح والسعادة في قلوبنا وقلوب محبينا، فالحب بين البشر كفيل بخلق فردوس السعادة على كوكبنا الأرضي .

متع الله الجميع بنعمة الرضا والعطاء وإدخال السعادة الغامرة على قلب محزون.

وفي وجهة نظري أيضا إن السعادة هي الرضا والقناعة بطريقة لا تعيق الطموح والسعي إنما الرضا مهما كانت نتائج العمل والاجتهاد سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو العام.

والسعادة هي التناغم بين العقل والروح والقلب والجسد، وجعل حالة من التوافق والصداقة بينهم، حتى لا يتنافر كل ما بداخلك، ويدخلك في صراعات تقلق سلامك الداخلي وانسجام أركانك.

كما إن السعادة برأيي هي نابعة من النفس الداخلية فالكثير من الأشخاص يملكون كل مقومات السعادة من نجاح واستقرار مادي وأسرى ولكن لا يشعرون بنعم الله عليهم بسبب الأمراض التي تصيب قلوبهم وأرواحهم فهنا يجب علاج النفس وعقد جلسات صلح بين الروح والجسد الذي يتعامل مع المحيط بحواسه الداخلية والخارجية.

في الفترة التي كنت أعيش بها في بلد أجنبي كانوا دائما يحثونا على تعلم الاعتماد على النفس وتعلم العيش منفردين، حتى لا تكون سعادتنا مرتبطة بأشخاص ومعتمدة عليهم.

ولكن بطبيعة تربيتنا ونشأتنا كشرقيين لا يمكن أبدا فصل أنفسنا عن أهلنا وأسرتنا فنحن كائنات اجتماعية أسرية نفرح باللمة الحلوة، وتجمع الأهل والاصدقاء، ولا نستطيع العيش بمفردنا ونحن أيضا كشعوب تتسم بالعاطفة والإنسانية لا يمكننا أن نشعر بالسعادة إذا أحد أفراد أسرتنا حزين أو مريض، بل نتعاطف ونتأثر بمن حولنا بدليل شعورنا بالحزن على أهلنا في فلسطين واليمن وسوريا والسودان، وقبلها العراق وليبيا ولبنان

نحن شعوب نفقد السعادة إذا رأينا طفلاً يشعر بالبرد أو امرأة مسنة مكسورة القلب على ابنها الشهيد أو رجل جائع أو أسرة بلا مأوى.

نحن شعوب تفقد سعادتها إذا ما رأت تراجعاً في القيم والمبادئ والسلوك والأخلاق والعلم والثقافة.

نحن تعلمنا أن نحمل الهموم، فلم تكن همومنا الشخصية همنا الوحيد إنما نحمل في قلوبنا هموم أمة بأكملها.

نحاول أن نسترق بعض السعادة وبعض الوقت، ونرفه عن أنفسنا ولكن.

أقول كما قال شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار

فبلادكم بلدي وبعض مصابكم همّي وبعض همومكم الأمي

فداركم داري وبعض تلادكم هو طارفي ومناكم أحلامي

وكما لكم هدف فان لمثله سعيي وغايتي وصبوتي وهيامي

***

سارة طالب السهيل

تطنب وتسهب أدبيات العلوم السياسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيما المباحث المتعلقة بالعلاقات والقانون الدوليين، في التشديد على مراعاة مسائل (الشرعية) في العلاقات الدولية من حيث وضعها الموضع الذي يتناسب وأهميتها في قضايا حقوق الإنسان وسيادة الدول، التي يترتب على الأطراف المعنية أخذها بنظر الاعتبار كلما دعت الضرورة الى ذلك. ولعل من أبرز المسائل التي تعنى بها هذه (الشرعية) الدولية كونها تمارس (كبحا") سياسيا" و(تأنيبا") أخلاقيا"، حيال أية بادرة تنم عن نزوع الدول الكبرى التقليدية ليس فقط لتوسيع رقعة نفوذها السياسي وتمدد ذراعها العسكري وبسط سلطانها الاقتصادي فحسب، بل وكذلك للهيمنة على مقدرات شعوب العالم الضعيفة والمغلوبة على أمرها خلافا"لمصالحها وضدا"عن إرادتها.

ولما كانت الدول الكبرى التي خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية منتصرة هي من وضع أسس وشروط هذه (الشرعية)، فقد استمرت المبادئ والقيم والأعراف المقترنة بها مرهونة بأهداف ومصالح تلك الدول، بصرف النظر عن كونها تتعارض أو تتناقض مع أهداف ومصالح بقية الأعضاء والشركاء المنتمين لذات المنظمة الأممية من عدمه. أي بمعنى ان ما تعتبره الدول المنتصرة المؤسسة (شرعيا") بالنسبة لها، ليس مهما"ولا ملزما"أن يكون شرعيا" بالنسبة لباقي دول المنظمة العديمة القوة والضعيفة والإرادة والعكس بالعكس. وعلى هذا الأساس، فقد حملت هذه (الشرعية) المزعومة – منذ ولادتها خاصية (الازدواجية) في التعاطي مع الأحداث الإقليمية والدولية الساخنة، كلما استدعت الضرورات السياسية والعسكرية الملتهبة في أرجاء العالم اللجوء إليها والاحتكام عندها لتجريم المعتدين وإنصاف المعتدى عليهم.

والحقيقة لو قارنا بين دول العالم المختلفة لجهة الاستعانة بما يسمى ب(الشرعية) الدولية لفض المنازعات التي لا تفتأ تتفاقم في جهات العالم الأربع، سنلاحظ ان خطابات الدول الكبرى – القوية قلما تحتوي على هذه المفردة (المطاطة) والملتسبة إلاّ في حالات نادرة، وتكاد تكون مقتصرة على حالة (واحدة) تتمحور حول تبرير سياساتها العدوانية وتسويغ مطامعها الاستعمارية، التي لا تني تتوسع وتتمدد عموديا"وأفقيا"باتجاه جغرافيات بلدان العالم (الثالث) أو (الرابع)، وخصوصا"تلك التي لا تزال شعوبها ترسف في أغلال التخلف الاجتماعي والتأخر الاقتصادي والتراجع الحضاري. هذا في حين نجد ان خطابات الدول الصغرى – الضعيفة لا تكاد تخلو من تلك (العبارة / الملاذ)، حيث ينظر إليها كطوق نجاة من قبل صناع القرار في هذه الدول المستباحة فضلا"عن شعوبها، وذلك لإدراكها استحالة تغيير موازين القوى لصالحها على صعيد العلاقات الدولية نتيجة لعدة أسباب ؛ منها تبعية إرادتها السياسية، وارتهان قرارها السيادي، وانعدام تأثيرها الاستراتيجي. هذا بالإضافة الى استشراء مظاهر تخلفها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية. 

وعلى الرغم من كل الدلائل والمؤشرات التي يكفي الاحتكام الى واحد منها فقط لإقناع كل ذي بصيرة، ان ما يسمى ب(الشرعية) الدولية ليست سوى المرادف لمعنى (القوة) و(الاستطاعة) التي بحوزة الدول الكبرى، حيث توفرها على الإمكانيات الفعلية وليس الافتراضية – كما يتجلى ذلك في سياسات العالم الغربي حيال الهمجية الصهيونية في غزة الآن - لفرض الشروط التي تريد وإملاء القرارات التي ترغب. نقول على الرغم من كل ذلك، فان حكومات الدول العنينة والمخصية قلما تفكر في إيجاد صيغة مناسبة أو وسيلة ملائمة، لا تجنبها فقط الوقوع في دائرة الاستهداف المباشر وغير المباشر من لدن ضواري الاستعمار القدامى والجدد وما ينطوي عليه من احتواء واستتباع فحسب، وإنما يضاعف وزنها الاعتباري في مضمار العلاقات الدولية، حيث التزاحم الجيوبولتيكي والتنافس الاقتصادي والصراع السياسي على أشده !. 

***

ثامر عباس – باحث وكاتب عراقي

 

سارت الرُّكبان بما كتبه ابن خلدون (ت: 808هجرية) بخصوص العرب، ونقل عنه آخرون، وكأن الجميع جعلوا مِن الرّوايتين، التي سأل في إحداهما سُليمان بن عبد الملك (ت: 99هجريَّة)، عن فقهاء الأمصار، ولم يظهر منهم غير عربي إلا واحد، فقال: «كادت تخرج نفسي ولا تقول واحدٌ عربيّ» (ابن العديم، بُغية الطَّلب). أمَّا الأخرى: استفسار الأمير العباسيّ عيسى بن موسى (ت: 167هجريّة)، وكان متعصباً للعرب، عن الفقهاء، ولكثرة ما ذُكر بينهم مِن غير العرب، يقول الرّاوي: «رأيتُ فيه الشَّر، فقلت: إبراهيم، والشّعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه» (ابن عبد ربه، العقد الفريد).

علينا الحذر مِن الرّوايات، إذا أخذنا بالاعتبار تصاعد الشّعوبيّة آنذاك، الحركة الثقافية المعروفة، التي جاءت رداً على التّعصب الأمويّ ضد الموالي، والتعصب المذكور يُبرر بكثرة الثَّورات، التي اشترك الموالي فيها، كحركة ابن الأشعث، التي كادت تُطيح بالأمويين (80هجريّة).

يُعد ناجي معروف (1910-1977) مِن كبار المؤرخين العراقيين العرب، طالما عرفنا اسمه على أغلفة كتب التّاريخ في المدارس، كان مؤرخاً فذاً، لا يلوي أعناق الحقائق مسايرةً لاعتقاده. تجرأتُ عليه في كتابي «المباح واللامباح» (فصل تغييب الألسن)، الذي صنعته في نهاية التسعينيات، ناقداً ناقماً، تحت ضغط معاداة «البعث» بالعراق، ولم أكن معتدلاً ولا علميّاً في ما كتبته. لكن بعد زوال المؤثر، رأيت كتابه «عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميّة في المشرق الإسلاميّ» (ثلاثة أجزاء)، وقارنته بمقدمة ابن خلدون، وجدتُ عنده الإنصاف للعربيّ وغير العربيّ. فكان ابن خلدون قد صنف النَّاس على الألقاب، ومَن تابعه في ذلك، فمثلاً جعلوا أبا فرج الأصفهاني (ت: 356هجرية) صاحب «الأغاني» غير عربي، والرّجل كان أموياً مروانياً.

كتب معروف راداً على ابن خلدون: «زعم العلامة ابن خلدون أنَّ حَملَة العِلم في الملة الإسلاميَّة، أكثرهم العجم، وعقد في مقدمته الشّهيرة فصلاً خاصاً، شرح فيه تلك النَّظرية، وجاء بعده حاجي خليفة، المتوفى 1067(هجرية)، فنقل نظرية ابن خلدون بحذافيرها، وأودعها كتابه «كشف الظنون»، دون أن ينسبها إلى ابن خلدون... بل عدوا كلَّ مَن انتسب إلى مدينة أعجميّة أعجميَّاً» (عروبة العلماء). أرّخ ناجي معروف لأكثر مِن ثلاثمئة عالمٍ وفقيهٍ عربي، اشتهروا بنسبتهم لمدن أعجميّة، لكنهم كانوا عرباً.

ماذا وراء تغييب عروبة العلماء، بعد صعود غير العرب إلى مراكز السُّلطة، في العهد العباسيّ، أو دوافع منع غير العرب، في الزَّمن الأَموي، مِن إمامة الصّلاة مثلاً أو القضاء، مثلما قرر الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت: 95 هجريّة)، غير التّعصب السّياسّي والاجتماعيّ؟! فكلّ تعصب يولد آخر، وإذا لم تؤخذ الإنسانيَّة، أصلاً في المعاملة، «ستبقى طويلاً هذه الأزمات» (الشطر للجواهري). نعم فند معروف ما جاء به ابن خلدون، واعتقده غيره، ببحث مرموق، لكنه جعل الإمام أبا حنيفة النّعمان (ت: 150 هجرية) عربيّاً أيضاً، ربّما رداً لكثرة ما أشيع عن فارسيته، والنُّعمان مع تعظيمه لإمامة قريش (النَّاشئ، الكتاب الأوسط)، لم يكن عربيّاً ولا فارسيّاً، إنما كان عراقيَّاً، مِن نواحي بابل، ويغلب على الظّن مِن العراقيين القدماء كالسريان.

لكننا قد نتلمس لمؤرخنا عذراً، في اعتبار أبي حنيفة عربيَّاً، وهو العذر الذي جعل فيه ابن عساكر (ت: 571هجريَّة)، الإمام الشَّافعيّ (ت: 204هجريّة) دمشقياً، فقال: «اجتاز بدمشق أو بساحلها حين ذهب إلى مصر» (تاريخ مدينة دمشق)، كي يدخله الكِتاب، فأفرد لترجمته مجلداً، والشَّافعيّ لم يصل دمشق ولم يمر بها. كذلك معروف عربيّ المحتد والهوى، ويجلُ أبا حنيفة، فأراد له أن يكون عربيّاً.

أقول: ابن خلدون على ثقله، إلا أنَّ نظريته هذه كانت خفيفة، لم يتحر لها أصول مَن وصفهم بالأعجميّة، على خلاف معروف ظهرَ سمتاً في تأليفه.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

إن الشعبية الهائلة لكرة القدم فرضت عليها أن تكون أكثر من مجرد رياضة ممتعة، فقد أصبحت مجالاً للاستثمار في العديد من المجالات مثل السياسة والاقتصاد والسياحة وغيرها، ومن أهم ما تُستخدم كرة القدم فيه هو اعتبارها وسيلة قوّة ناعمة لتحقيق مصالح الدولة.

يعتبر المفكر الأمريكي جوزيف ناي أول من نادى بمفهوم القوة الناعمة، ويراها بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما ... فقد يتمكن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن بلدانا أخرى معجبة به ... فإن أقنعتك بالرغبة في أن تفعل ما أريد فعندئذٍ لن أضطر لاستخدام الجزر والعصا لأجعلك تفعله."، ويرى ناي أن الدول قادرة على تحسين صورة سياستها الداخلية والخارجية من خلال استخدام القوة الناعمة، إذ أنها تؤثر على السلوك الاجتماعي.

إن الرياضة تلعب دورا مهما في تحقيق أهداف القوة الناعمة، إذ أن الألعاب الرياضية هي استراتيجية توظفها الدول في علاقاتها الدولية لبناء الهوية وإثبات التفوُّق، فقد أدركت الحكومات الأهمية السياسية للنجاح الرياضي في تعزيز جاذبيتها في مختلف المجالات مثل تحسين علاماتها التجارية.

إن الدبلوماسية الرياضية الموجهة نحو الجماهير تختلف عن الدبلوماسية الرسمية التي تركز على السياسات الوطنية وتوجَّه عادةً لصانعي القرارات في الدول الأخرى. على سبيل المثال استثمرت ألمانيا خلال فترة تنظيما لكأس العالم عام 2006م لهذا الحدث العالمي من أجل تصحيح صورتها السلبية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية، وركزت المملكة المتحدة خلال استضافتها لأولمبياد عام 2012م على جذب الأعمال والتجارة وتنشيط منطقة "إيست إند" في لندن.

بذكر كأس العالم، فإن تنظيمه يترتب عليه التقدير الدولي للدولة المضيفة والاهتمام الإعلامي العالمي بها، حيث تصبح الدولة المضيفة محط أنظار العالم الذين يزورون أو يشاهدون مباريات بلدانهم، إلى جانب زيادة الثقة والشعور القومي لدى مواطني الدولة اتجاه حكومتهم، مما يحسّن الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.

ولا يُمكن القول إن الدوافع الاقتصادية هي وحدها من يجعل الدول تسعى لاحتضان المنافسات الرياضية، بل هناك اعتبارات أخرى. إذ أن هذه المناسبات هي أدوات لإثبات المكانة الإقليمية والدولية بالنسبة للبلد المستضيف، ووسيلة لزيادة ظهوره في المجتمع الدولي وتقديم الدولة نفسها على أنها لاعبٌ دوليٌّ له وزنه ومكانته.

في الجانب المقابل، تسعى الدول لاستخدام الألعاب الرياضية الدولية والمشاركة في المنافسات الخارجية لدعم صحة توجهاتها الأيديولوجية والسياسية وتحويل الانتصار في المجال الرياضي إلى انتصار في المجال السياسي، مما يدعم العقيدة السياسية للحكومة. لذا تصوِّر كثيرٌ من الدول نجاحاتها الرياضية كأنه نجاح لمنهجها الأيديولوجي وانعكاس لقوتها السياسية، حتى أصبح المشاركون في المنافسات الرياضية-في بعض الأحيان- أبطالا قوميين يساهمون في دعم المكانة السياسية للدولة.

فعلى سبيل المثال، وظفت قطر كرة القدم أداةً فعّالة باعتبارها قوة ناعمة، وسعت جاهدة للحصول على تنظيم كأس العالم الأخير الذي شهدناه جميعا، وقد زاد النجاح المبهر لهذا التنظيم من ظهور قطر في الساحة الدولية، بالإضافة لمحاولة قطر تمرير بعض الرسائل الأخرى المتعلقة بواجباتها القومية من خلال كأس العالم، مثل تخصيص مساحة في احتفال المباراة النهائية للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ليلقي كلمة فيها مذكِّرًا بالقضية الفلسطينية، وكما يشير بونيفاس في مقاله المنشور على الجزيرة (الدبلوماسية الرياضية لدولة قطر والقوة الناعمة) أن صورة قطر قد تغيرت في فرنسا بعد شرائها نادي "باريس سانجرمان" حيث أصبح اسم قطر يتردد كثيرا في الإعلام الفرنسي.

مثال آخر يُمكن طرحه هو البرازيل التي تعتبر احدى الدول التي تستثمر بشكل كبير في كرة القدم من أجل الرقي بمكانتها الدولية وتطوير قوتها الناعمة على المستوى الدولي، فمن خلال تسويق النموذج البرازيلي القائم على التعدد الاثني المندمج، تحاول البرازيل إظهار نفسها بشكل أكبر، إضافة لذلك فإن اللاعبين العالميين البرازيليين يتصرفون في أحيان كثيرة كأنهم سفراء لدولتهم كما حدث مع بيلي وزيكو ورونالدو ورونالدينيو إذ حاولوا إعطاء صورة عن بلادهم تتعلق بصناعة النجوم العالميين.

إضافة لذلك يقوم الإعلام الرياضي بدور بارز في إظهار مكانة الدولة كذلك، فعلى سبيل المثال، أصبحت قناة بي إن سبورت القطرية منبرا إعلاميا رياضيا كبيرا وبارزا له شعبية إقليمية ودولية، فضلا عن صنع بروباجندا مضادة في حال تم توظيف الرياضة من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية، كما حدث في كأس العالم الأخير عندما حاول المنتخب الألماني تشكيل ضغط من أجل مصالح معينة من خلال إصراره على دعم مجتمع الشواذ عندما وضع اللاعبون أيديهم على أفواههم.

الخلاصة أن كرة القدم تعتبر وسيلة سياسية ناعمة لا يُمكن الاستغناء عنها، لذلك تسعى الحكومات لاستغلالها من أجل دفع مصالحها سواء من خلال إبراز صورتها على الساحة الدولية أو تشكيل ضغط ناعم على الحكومات الأخرى وصناعة بروباجندا سياسية أو بناء وتحسين علاقات مع الدول، لذا فلا معنى لقول القائل أن لا علاقة بين السياسة وكرة القدم، فهذا قول رومانسيٌّ في أحسن الأحوال، والرابح من نظر للواقع وحاول استغلاله.

***

جاسم بني عرابة

 

في المثقف اليوم