قضايا

ساهمت الثقافات من جميع أنحاء العالم في تشكيل المجتمعات بشكلها الحالي. ولا تعكس الثقافة ظلالها على القيم والمعتقدات فحسب، بل وتؤثر أيضًا على السلوك الفردي والجماعي. وهناك انعكاسات مختلفة للثقافة على المجتمع، فضلا عن تعددية وجهات النظر في فهم وتقدير التنوع الثقافي. والثقافة ركيزة أساسية للمجتمع، تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة، من الاقتصاد إلى التعليم وسوق العمل. ومن خلال الاعتراف بالتنوع الثقافي وتقديره، يمكن للمجتمعات الاستفادة من رؤى جديدة ومبتكرة، مما يعزز تنميتها وقدرتها للبقاء على قيد الحياة.

إن النشاط الحياتي للمجتمع متعدد المجالات من بينها العمل، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والقيم الجمالية، والقانون، والأسرة، والدين، إلخ، وكل مجال من مجالات حياة المجتمع يتناسب مع مستوى معين من الثقافة التي حققها المجتمع كميزة نوعية لنشاطه الحياتي. ويتمثل ذلك، قبل كل شيء، في أن الثقافة تعمل كوسيلة لتراكم وتخزين ونقل الخبرة الإنسانية. وكما أشار اندرييف في كتابه" الشخصية والثقافة": إن الثقافة هي التي تجعل الإنسان شخصية. ويغدو الفرد عضوًا في المجتمع، شخصية، بقدر ما يكون اجتماعيا، أي يتقن المعرفة واللغة والرموز والقيم والمعايير والعادات والتقاليد الخاصة بشعبه ومجموعته الاجتماعية وكل البشرية. ويُحدد مستوى ثقافة الفرد من خلال التربية الاجتماعية –  وامتلاكه لناصية التراث الثقافي، فضلاً عن درجة تطور قدراته الفردية. وترتبط الثقافة الشخصية عادة بالقدرات الإبداعية المتطورة، والمعرفة، وفهم الأعمال الفنية، والطلاقة في اللغات الأصلية والأجنبية، والأناقة، واللباقة، وضبط النفس، والأخلاق العالية، وما إلى ذلك. ويتحقق كل هذا في عملية التربية والتعليم

والثقافة ترص صفوف أعضاء المجتمع وتدمجهم وتضمن وحدة المجتمع. ولكن من خلال توحيدها بعض الناس على أساس بعض الثقافات الفرعية، فإنها تضعهم في معارضة مع الآخرين، وتقسم المجتمعات والطوائف. وقد تنشأ داخل هذه المجتمعات والطوائف نزاعات ثقافية. وعلى هذا النحو، يمكن للثقافة أن تؤدي أيضا وظيفة تفكيكية، وغالبًا ما تؤدي هذه الوظيفة بالفعل في سياق إضفاء الصفة الاجتماعية على القيم.

ويرى ارنولد ارنولدوف في دراسته عن علم الثقافة إن المُثُل والمعايير وأنماط السلوك تغدو جزءًا من الوعي الذاتي للشخصية. فهي تصوغ سلوكها وتنظمه. وبميسورنا القول أن الثقافة عموما تحدد تلك الأطر التي يمكن للشخص أن يتحرك ضمنها. فالثقافة تنظم سلوك الإنسان في الأسرة والمدرسة والعمل والحياة اليومية وما إلى ذلك عن طريق وضع نظام من التوجيهات والمحظورات. ويؤدي انتهاك هذه التوجيهات والمحظورات إلى فرض عقوبات يضعها المجتمع وتدعمها قوة الرأي العام وأشكال مختلفة من الإكراه المؤسسي. والثقافة، كنظام إشارات معقد، تنقل الخبرة الاجتماعية من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر. وبصرف النظر عن الثقافة، ليس لدى المجتمع آليات أخرى لتركيز ثروة الخبرة التي راكمها الناس. لذلك، ليس من قبيل المصادفة أن الثقافة تعتبر الذاكرة الاجتماعية للبشرية.

إن الثقافة، التي تركز على أفضل الخبرات الاجتماعية لأجيال عديدة من الناس، تكتسب القدرة على تجميع أغنى المعارف حول العالم وبالتالي خلق فرص مواتية لاستكشافها وتطويرها. يمكن القول إن المجتمع يكون مثقفًا إلى الحد الذي يتمكن فيه من الاستفادة الكاملة من أغنى المعارف الموجودة في الجينات الثقافية للبشرية. وتختلف أنماط المجتمعات التي تعيش على الأرض اليوم بشكل كبير، أولاً وقبل كل شيء، على هذا الأساس. وتؤثر الثقافة في مجال العمل، والحياة اليومية، والعلاقات الشخصية، والثقافة، بطريقة أو بأخرى، على سلوك الناس وتنظم تصرفاتهم، وحتى اختيار بعض القيم المادية والروحية. إن الوظيفة التنظيمية للثقافة مدعومة بأنظمة معيارية مثل الأخلاق والقانون. وكما أوضحت آنّا ماركوفا في دراساتها فإن الثقافة، باعتبارها تمثل نظامًا إشاريًا معينًا، تفترض المعرفة بهذا النظام وإتقانه. ومن دون دراسة أنظمة العلامات المتقابلة، فمن المستحيل إتقان إنجازات الثقافة. فاللغة (الشفوية أو المكتوبة) هي وسيلة للتواصل بين الناس. وتعتبر اللغة الفصحى بكل تجلياتها ومجالات استعمالها الوسيلة الأهم لإتقان الثقافة الوطنية. إن فهم عالم الموسيقى والرسم والمسرح يتطلب لغات محددة. للعلوم الطبيعية لديها أيضا أنظمة علامات خاصة بها. إن الثقافة كنظام معين من القيم تشكل احتياجات وتوجهات قيمية محددة للغاية لدى الإنسان. وفي أغلب الأحيان، يحكم الناس على درجة ثقافة شخص معين بمستواه ونوعيته. ويشكل المضمون الأخلاقي والفكري، كقاعدة عامة، معيارًا للقيم المتقابلة. ونستنتج من كل ذلك إن النظام الثقافي ليس معقدًا ومتنوعًا فحسب، بل إنه أيضًا متحرك للغاية. إنه عملية حية، ومصير حي للشعوب، في حركة دائمة، وتطور، وتغير. الثقافة جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع ككل وموضوعاته مترابطة بشكل وثيق: الأفراد والمجتمعات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية.

إذا لم يكن لدى الشعوب التي تسكن منطقة جغرافية معينة ماضيها الثقافي والتاريخي المتكامل، أو حياتها الثقافية التقليدية، أو مقدساتها الثقافية الخاصة، فإنهم (أو حكامهم) يواجهون حتمًا إغراء تبرير وحدة دولتهم بكل أنواع المفاهيم الشمولية، والتي تصبح أكثر قسوة ولاإنسانية كلما قل تحديد سلامة الدولة بالمعايير الثقافية. الثقافة هي الشيء المقدس للشعب، والشيء المقدس للأمة.

إن قيم أي مجتمع متجذرة بعمق في ثقافته، وهي تُشكل الأساس الذي تُبنى عليه المعايير والسلوكيات المقبولة. على سبيل المثال، تُقدّر العديد من المجتمعات الغربية الفردية والحرية الشخصية، مما يؤثر على جوانب مثل التشريع والتعليم، وحتى سوق العمل. في المقابل، تُركز الثقافات الجماعية على الانسجام والتضامن الاجتماعي، مما يُوجه التفاعلات الشخصية وهياكل المجتمع.

وتلعب الثقافة دورًا محوريًا في التنمية الاقتصادية للمجتمعات. فالشركات التي تُدرك الممارسات الثقافية المتنوعة وتُدمجها تميل إلى أن تكون أكثر ابتكارًا ومرونة. بل إن التنوع الثقافي داخل فرق العمل يُعزز الإبداع وتبادل الأفكار، مما يؤدي إلى حلول أكثر ابتكارًا وأداء مؤسسي أفضل إن ثقافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص هي أساس النجاح وتحاج دائما إلى تعزيز ثقافة الشمول والاحترام، مما يحفز النمو والتنمية المستدامة.

وفي محاضراته عن البعد الثقافي في أنشطة المجتمع يعتبر سكلوف إن التعليم هو المجال الذي يتجلى فيه تأثير الثقافة بشكل واضح. فكثيراً ما تعكس أنظمة التعليم القيم والأولويات الثقافية للمجتمع. على سبيل المثال، في البلدان التي يُركّز فيها التركيز على المنافسة والنجاح الفردي، يميل النظام التعليمي إلى تقدير الأداء الأكاديمي والتصنيفات. من ناحية أخرى، في الثقافات التي يُعدّ فيها التعاون والمساعدة المتبادلة أمرين أساسيين، تُعطى الأولوية لأساليب التدريس الشاملة والتعاونية.

الثقافة في مكان العمل. وفي عصر العولمة، تتزايد تعدد الثقافات في المجتمعات. ويمثل هذا التنوع تحديًا وفرصة في آنٍ واحد. ولجني ثمار هذا التنوع، من الضروري تعزيز ثقافة الشمول التي يشعر فيها كل فرد بالتقدير والاحترام. وعلى الشركات والمؤسسات التعليمية والحكومات جميعًا دورٌ في بناء مجتمعات شاملة وعادلة.

وينغي على الدولة أيضا دعم كافة أشكال المؤسسات في مسيرتها نحو الشمول. وتعاون خبراءها في مجال الموارد البشرية بشكل وثيق مع الإدارات لتطوير استراتيجيات إدارية تعزز التنوع والشمول، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً وازدهاراً.

***

د. فالح الحمــراني

أرى أن تبلور مفهوم «الفردية» ولاحقاً مبدأ «الفردانية» هو الحجر الأساس لمبدأ «حقوق الإنسان» الذي يعرفه عالم اليوم. لا ينبغي – طبعاً – تناسي الخلافات الواسعة حول مبدأ «الفردانية» في المجتمعات الليبرالية والتقليدية على السواء، لا سيما مع ربطه - إنصافاً أو تكلفاً – بالميل الطبيعي عند بني آدم للاستئثار بالمنافع قدر إمكانهم. ونعرف أن المجتمعات قد تعارفت منذ نشأتها، على مراعاة الجماعة، والتضامن بين أعضائها، واعتبروا هذه من الأخلاقيات الضرورية للعيش السليم.

عموماً، فإن الموازنة بين الفرد والمجتمع في الحقوق والتكاليف، كانت موضع جدل على امتداد التاريخ. في مختلف الأزمان، كان الفرد مطالَباً بغض الطرف عن حقوقه ورغباته، وبالاندماج في الكتلة الاجتماعية؛ كي يكسب لونها وهويتها. وفي المقابل، كانت ثمة محاولات لأفراد، أرادوا الانعتاق مما اعتبروه قيداً متكلفاً على حياتهم أو تطلعاتهم.

إنني مقتنع تماماً برؤية الفيلسوف المعاصر جون رولز، التي تدعو إلى موازنة حاسمة بين حقوق الفرد والجماعة. لكنني أعتقد أيضاً أن الفردانية بصفتها مبدأً وفلسفة، ضرورة للتقدم والحياة الكريمة، لا يمكن الاستغناء عنها، وأن مكانتها وأهميتها لا تقلان عن الحرية والمساواة، لا سيما في المستويين السياسي والتطبيقي.

كان آدم سميث، الاقتصادي الاسكوتلندي المعروف (1723 - 1790) قد تحدث في كتابه المرجعي «ثروة الأمم» عما أسماه «اليد الخفية». هذه الفكرة تعالج مسألة في عمق الجدل السابق الذكر، أعني بها الدوافع الشخصية، الأنانية في بعض الأحيان، وتأثيرها على الاقتصاد المحلي، وقدَّم رؤية عميقة جداً رغم بساطة عرضها، في بيان أن المبادرات المنبعثة من مصلحة شخصية، ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد.

وفقاً لهذه الرؤية، فإن المصلحة الشخصية هي الباعث وراء الغالبية الساحقة من تعاملاتنا مع الآخرين، في الأعمال والسوق وغيرها. ولو أردنا مراقبة النوايا، فإن غالبية الأفراد ينطلقون من نظرة ضيقة، أنانية نوعاً ما. لكن هذا التعامل، أياً كان دافعه، يؤدي بالضرورة إلى منفعة عامة. خذ على سبيل المثال شخصاً دخل المتجر لشراء معطف يقيه البرد. سوف يختار هذا الشخص المعطف الأنسب لحاجته وقدرته الشرائية، بغض النظر عن حاجات البائع أو ميول الجماعة. لكن البائع سينتفع من هذا التبادل، حتى لو لم يكن مقصوداً من جانب الشخص الذي أنشأ المعاملة. لا يقتصر الأمر على البائع، فالخياط الذي صنع المعطف والفلاح الذي أنتج المواد الخام، وعامل النقل الذي جلب هذه المواد، ثم جلب المعطف إلى المتجر، والحكومة التي تفرض ضرائب على المشتريات والدخل، سينتفعون جميعاً، بقدر قليل أو كثير، مع أنهم لم يكونوا مقصودين بالمنفعة، بل لم يكونوا أصلاً في ذهن الشخص الأول أو الثاني اللذين اشتركا في تلك المعاملة.

«اليد الخفية» ببساطة، أشبه بالحجر الصغير الذي ترميه في بركة كبيرة، فيحرك موجة تتسع كلما ابتعدت عن نقطة البداية. ذلك الحجر هو المبادرة الشخصية المدفوعة بمصلحة خاصة لفرد واحد، أما البركة فهي الاقتصاد الوطني، والموجات هي مجموع التبادلات التي تتولد نتيجة لتلك المعاملة الصغيرة. إنها خفية لأن أحداً لم يقصدها، مع أن المخططين وقادة الاقتصاد، يعلمون تماماً أنها ستحدث على هذا النحو، بل ويستطيعون تقدير حجمها وأثرها.

الواقع أن هذا يشبه تماماً دور الفرد الذي يحاول أن يصنع شيئاً لنفسه، لإشباع فضول أو صناعة ثروة أو مجد. لكنه – من وراء هذا – يضع لبنة جديدة في عمارة التقدم وعمران العالم. لو نظرنا إلى أبرز التطورات التي عرفها البشر، سنجد أنها نتاج مبادرات أفراد أرادوا منفعة أنفسهم، لكنهم أغنوا حياة البشر جميعاً.

الفردانية، رغم وصمها بالأنانية، قد لا تكون سيئة دائماً، بل لعلي لا أبالغ لو قلت إن قتلها وتحجيمها كان طالع سوء في أغلب الأحيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

"الطفل يعرف الأشياء ولا يعرفها مادام يجهل الحكاية".. رضوى عاشور

تمهيد:

ـ بلغني أيها الأمير السعيد...

وماذا بعد؟

أين اختفت الحكاية؟

استوقفني الطفل الذي يسكنني متسائلا، لماذا لم تعُد الجدات والأمهات اليوم، يجلسن في حلقات مع أولادهن وأحفادهن للحكي وغزل جميل الكلام ونسج عوالم الأسرار؟

هل في زحمة الحياة وبهرجتها الكاذبة، ضاعت الحكايات وانقضى زمنها؟

هل شَحَّ خيال الجدات والأمهات، بعد أن كُنّ حكّاءاتٍ بارعات يعرفن كيف تُنسج خيوط الحكايات والأحاديث اللذيذة وحلو الكلام؟

هل حين تخلّت الجدات والأمهات، والحكواتيون، والمؤسسات التربوية عن دورهم، هؤلاء بالتهافت على العمل والبحث عن لقمة العيْش المُرّة، وأولئك بتمرير الممجوج والمعطوب من البرامج الرخيصة التي لا تصنع رجالا أسوياء لمستقبلٍ ينهضُ على المغامرة والحلم والإبداع، فُتِحَ البابُ على مصراعيه أمام تُجّار الصورة والعنف والقتل، الباحثين عن الربح، لصُنع حكايات من صور وألوان تُمَجِّدُ القتل والغش والإرهاب؟

هل، لم تعد حكايات الجدات والأمهات مُقْنِعة في زمنِ هجْمةِ الوسائط التكنولوجية وسلطان الصورة؟

كيف يمكن ردُّ الاعتبار للحكي والحكايات التي توارت من حياتنا خلف جدار النسيان والإهمال، وسكنتْ ظِلاّ باردا بنت عليه العنكبوت عشها؟[1]

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة انطلاقا من المحاور الآتية:

أولا: الطفل ذلك الأمير السعيد

الطفل، هذا الكائن الصغير البريء، القوي الضعيف، الغِرُّ الذّكي، الباكي المُبْتسم، السّاكنُ دفء الجوانح، القِطْعةُ من الكَبِد...

الطفل، هذا الذي يحْضُن العالم في بسمة، ويختزله في لُعبة، هذا الذي يُلوّن الوجود بضحكاته العذْبة الرائعة، هذا الذي حين نُناديه يبتسم فيخضرُّ أديم الأرض ويسْعد...

الطفل عالَمٌ وحده، على امتداد طفولته يصنع الوجود ويُشكّلُ الموجودات بخياله الجامح الذي لا تحُدّه الحدود ولا توقفُه الحواجز والعوائق، يُحيل الخيال مطِيَّةً للسفر البعيد والقريب، «فيجعل من العصا حصانا يسابق به الريح، ومن قطعةِ خشبٍ مُهْملَةٍ مُسدّسا أو سيفا يُحاربُ به عدوّاً يتربّص به الأماكن المظلمة والزوايا المنسية في غرفة نومه أو في أزقة الحي وردهاته، ومن سِلكٍ سيّارةً أو دراجةً يُسْمع أزيزها من بعيد وهي تقطع المسافات جيئة وذهابا، ومن وسادته صديقا يتجاذبُ معه أطراف الحديث، فيبُثُّه أحزانه وهمومه الصغيرة وأمنياته»[2]..

الطفل عالَمٌ وحده، معقَّد، مليءٌ بالأسرار والعجائب والأمنيات التي لا تنقضي، هو بكلِّ بساطةِ العالمِ وعفويته، حكايةٌ تتعددُ حِبْكاتُها.

الطفل.. هذا الذي قيل عنه أنه "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، والذي أقام الفكر ولم يقعده لحد الآن،  والذي دفع ببعض المهتمين به إلى الكلام عن "عقيدة جديدة هي عقيدة الطفولة"، هذا الذي يُحْتفى به وبأعياده على امتداد السنة، هذا الذي تُنَظّمُ من أجله الأيام والأسابيع والمهرجانات..

أين هو؟

إنّه "يريد الوصول إلى القصر المسحور الزاخر بالأمنيات والأحلام الوردية المُفعمة سعادة ونشوة ودهشة، يسمع وقع خطاه على الحصى، يلفُّه ظلام الليل البهيم، والصمْت المُخيف فيُسلم قلبه الصغير للوساوس والخيالات.. هنا سيطل العفريت بوجهه البشع المخيف، وهنا سيخرج المارد الجبّار يحيل الوجود جمادا... هنا وهنا...

تتزاحم الصور في رأسه الصغير، يتشجَّع، يستجمعُ قواه ويُسرع الخطى نحو باب القصر الكبير، يقف عند عتبته، يرفع عينيه إلى الرقم الكبير، هو ذا باب القصر المسحور.. يدق...

يسمع صدى دقاته كأنها تطلع من بئر عميقة لا قرار لها، يُفتَح الباب.. يدخل..

يجد في استقباله شخصيات حكاياته القديمة والجديدة التي كانت جدته ترويها له وهو في فراش النوم، شهرزاد، شهريار، جحا، سندباد، احديدان، الشاطر حسن، علي بابا وآخرون، شخصيات يعرفها جيدا ويُحبّها.

تحضُنه شهرزاد أميرة الحكي، تُقبله وتسرد له الحكاية..

ـ بلغني أيها الأمير السعيد..."[3]

السؤال الآن، أين اختفى هذا الأمير السعيد وأين اختفت حكاياته؟

إن الدخول إلى العالم المعقد والسحري والعجائبي والفانتازي للطفل، يفرض علينا* أن نطرح سؤالا على أنفسنا، أين الطفل الذي يسكننا؟ هل ذاك الطفل المتواري فينا ما يزال حيا فينا ينبض بالحياة؟ وهل يمكننا التعامل مع الطفل في غياب طفل يسكننا؟

ثانيا: الطفل الذي يسكننا

إن دخول هذا العالم البسيط والمعقد في نفس الآن، يحتم علينا وبالضرورة، أن نُحرّر الطفل الذي بداخلنا، ونمدّه بأسباب الحياة لأنه الشرارة والجذوة التي تُبقينا على اتصال دائم بهذا العالم الشفاف العامر بالأسرار، وغياب هذا الطفل أو تغْييبُه أو إلْباسُه لبوس الراشد العاقل المتعقّل، يجعل أحكامنا وتعاملنا لا ينطلق من أرضية صلبة متماسكة تنهض على الوعي بالطفل وعالمه المحيط بالهموم الصغيرة والأمنيات الكثيرة، وتأخذ من كل جوانب المحيط لتحقيق الهدف للوصول به إلى الغايات المنشودة والكفيلة بصناعة المستقبل.

كيف لمن لا يدري عن الطفل الذي يسكنه شيئا، أن يفتح للآتي نوافذ يدخل منها النور والدفء، ومدارج السمو نحو الجمال والبحث والاكتشاف والمغامرة والسؤال؟ وكيف يبني طريقاً من لا يملك خريطة طريق واضحة المعالم والحسابات؟ وكيف يُرشِد من أضاع خريطته ومعالمه؟

عالم الطفل عالم رفيف شفّاف، لا يدخله إلا من ملك مفاتيحه، وإلا من نظر إلى داخله وجسَّ نبط الطفل الذي يسكنه، وإلاّ جاء ما يقدمه للطفل أعرجا كسيحا لا يستند إلى سر من أسرار الطفولة ولو مَلَكَ من المعرفة وزُخرُف الكلام ما يمْلأ الكتب والمصنّفات، لأن الطفل قبلاً، روحٌ شفيفةٌ تسكن شِغاف القلب وسُوَيداء الكبد، تبني عالما بالحب أولا ثم تُشَكِّل خاناته لبِنَة لبنة نحو المستقبل.

وبما أن "الطفل مشروع وجودي يسعى لأن يتحقق من خلال نمو إمكاناته وطاقاته ضمن الفرص التي يوفرها المجتمع"[4] ولحظات الدهشة الهاربة التي يسعى للقبض عليها والتي توفرها الحكايات وأدب الطفل عموما، كانت الحكايات حِرْزا وتميمةَ حِمايةٍ للطفل من كل اغتراب علني أو مبطّن بالألوان والإيقاعات والحركات التي تُغريه وتُزين له عالما ليس عالمه، وفي نفس الوقت تهدده وتهدد مستقبله في غياب شبه تام للحكايات  ـ ولأدبه بصفة عامة من مسرح ومجلات وألعاب وإذاعة...ـ التي تؤسس لأرضية صلبة متينة، تمنحه الثقة والمناعة والانطلاقة الواثقة، لكن في غفلة منا ومؤسساتنا الموكول لها حماية المستقبل ـ لأن الطفل هو المستقبل ـ وهذا ما فطن له "الآخر" الذي يعلم يقينا ما للحكايات من تأثير على حياة ومستقبل الأطفال، فتصدّى لها بِفيْضٍ من حكايات مضادة أكثر إثارة وجذباً، لتغريب عقليتهم وإبعادهم عن ثقافتهم وهويتهم ولغتهم ودينهم، وهنا نطرح السؤال، هل أطفال الوطن العربي محصّنون من الحكايات التي تبثّها الأجهزة الإلكترونية والحاملة للكراهية والغضب والتعصب..؟

نحن أمام هجمة شرسة تفرض الوعي بأهمية الحكايات ودورها في صناعة جيل سليم أولا، وثانيا إحياء ورَدِّ الاعتبار للحكايات إذا نحن أردنا "للمجتمع وللمستقبل أن يُحافظ على تماسكه الذهني والعاطفي والقيمي وتوجهه الوجودي"[5]، لأن الحكايات هدفها "تقديم نماذج من السلوك والمثل العليا المرغوب تمَثُّلُها ومحاكاتها لإشباع حاجات (الطفل) والإجابة على تساؤلاته، وتقديم الحلول لمآزم وتحديات الحياة، كما تُقدم للطفل النماذج المُفضّلة من السلوك والقيم مُجَسّدةً في أشخاص/أبطال، يشكلون في خصائصهم وتصرفاتهم وأدْوارِهم، المُثل العُليا المطلوب تعزيزها من ناحية، وأشخاص آخرون يمثلون على النقيض من ذلك الاستجابات المطلوب إطفاؤها أو صدُّها، أي يُمثّلون القيم المضادّة"[6]، وهي بالتالي ، كما تقول جوليا كريستيفا، تأخذنا إلى حافة الوجود، حيت تدعو مَشاهدها المُتخيّلة، القارئ والسامع، إلى أن يُصبح مسافرا مملوءا بالدهشة، بما فيها من مشاهد عجيبة، تُذكي الخيال وتُحرّك السؤال.

ثالثا: لماذا الحكاية في زمن الصورة؟

في زمن الصورة، وهجمة الصورة، وخبث الصورة، وعلى مرأى ومسمع من العالم، تتعرّض حكايات الأطفال لمحاولات مسخٍ صادمة وهدّامة تروم أولا وأخيرا، الهيمنة لطمس أثرها، وتفتيت صروحها، وتعطيل آليات بنائها، وتقويض أسباب الحماية التي تمنحها بالضرب في الأصل، لتبني على أنقاض غيابها وتراجعها، حالات من التبعية البليدة، مُستخدمة أكثر الأسلحة فتكا وخطورة، الصورة، لأنها السُّمّ في العسل، وما تحمله من إمكانات هائلة تعتمد على تقنيات تتطور كل يوم، بل كل ساعة، وتتسارع لضرب الأهداف النبيلة التي تبنيها الحكايات، مانحة الغلبة للصورة وسلطانها على المحكي والمكتوب، وبما أن الطفل "مستهلك لكل ما يقدمه له المحيط من إمكانيات، وباحثٌ نشِطٌ عنها"[7]، وفي غياب الحكاية، تنبعث الصورة من رمادها كمارد يعرف كيف يستميل ضحاياه، وكَسَهْم لا يُخطئ ضرْبته، ويتفنن الآخر، مالك الصورة وسلطانها، في شد انتباه الطفل، بل الدفع به إلى الإدمان المرضي للصورة، عبر الحركات والإيقاعات والألوان، بدون تسرع، وبتخطيط يعرف مكامن الإصابة، وينتظر بصبر، حين تشرئب  نفس الطفل التّوّاقة للحكاية، للتعلم وبناء الذات، وتثبيت قدمه لينطلق قويا إلى الأمام، فينْبري له هاجما، مانحا إياه أسباب الانكفاء والسقوط والدمار فيُخرّب ذاته وعوالمه البكر البريئة بيديه، ويصنع له حكايا جديدة تخزن في طياتها سمّاً قاتلا.

خاتمة كإطلالة على الآتي المُرتجى

تأسيسا على ما تقدّم، نعتبر الحكاية، بل أدب الطفل عموما، وبكل تنويعاته، ـ إذا أعطيناه الاهتمام اللازم ـ الوسيلة الفعالة والضامنة لحماية الطفل من كل تدخل تغريبي وتخريبي يروم تشويه ذاته وهويته، وطمس معالمها البريئة التوّاقة إلى التفتّح الدائم لاحتضان العالم. كما نعتبر الحكاية ورشة بنائية تظهر نتائجها بعد وقت يطول، وقد تصاحبه العمر كله، لأنها لا تحمل إليه المعرفة فقط، بل "تساعده على المران في تنمية قدراته، وتتيح له المتعة والترفيه، كما تحمل إليه إجابات على تساؤلاته وتوضيحا للألغاز الوجودية التي تجابهه، وحلولا للمآزم التي يمر بها على صعيد حياته".[8]

لا نريد لزمن الحكايات أن يختفي ويندثر أو ينقضي، ولا أن ينقطع أثرها، بل نريدها أن تحيى في صدور الجدّات والأمهات وكتب المدارس، وعلى ألسنة الحكواتيين، نريدها شُعلة تتّقد ولا تنطفئ جذوتها، ولا يخبو أوارها، وحصنا يدفع عن حمى الطفولة براثن التغريب والتشويه والتبعيّة والتفتيت.

لا نريد لجدار الصّمت أن يعلو شاهقا بالخوف والاستسلام والخنوع للصورة وجبروتها، ولا صيدا سهلا مسْتساغا لتُجّار الصورة وفتنتها.

نعم، في زمن العولمة والانترنيت والتواصل الاجتماعي، نريد أن تحضُر الحكاية قوية، تأخذ من الصورة فتنتها، ومن الكلام والحكي قوته، ومن لَمَّة ليالي السمر حمايته وأمْنَه، لأنها دفءٌ عائلي، وتَتَبُّعٌ للطفل من الزوغان والتلاشي والذوبان في ذات الآخر، ـ لأنه بهذه اللَّمّة ـ يكون تحت نظر وحراسة الحكواتي أو الجدة أو الأم أو المربي، ومن المغامرة أجوبة يبني بها عوالم قوية تتساوق والتي يعيشونها فاعلين ومؤثّرين، لا متفرّجين يُحسنون الضحك والتصفيق وإحصاء الخسارات والإحباطات بل منتبهين ومحصّنين.. وهنا لابد من تقديم تحية إكبار وإجلال للحكواتين المرابطين على خط السرد والقص، ماسكين على جمْر المواجهة يحْمون ثغر الحكايات، وللجدات والأمهات حارسات الحكايات اللواتي ما زِلْن يُحْيين فينا، جمال وعشق الحكايات بسردها وتوثيقها وتحصينها، رغما عن الهجوم القوي لسلطان الصورة، يحاربْن إلى جانب الحكواتيين والمهتمين بالشأن الحكائي والثقافة الشعبية، الطواحين التي تدهس وتطحن الأخضر واليابس، حيث لا تُبقي ولا تذر..

***

عبد الهادي عبد المطلب / المغرب

.....................

[1] عبد الهادي عبد المطلب ـ ساحة الكلام، نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الثاني) الناشر صوماكرام 2018 بدعم من وزارة الثقافة (ص 10)

[2] نفس المرجع ـ ص 9.

[3] عبد الهادي عبد المطلب ـ المرآة ـ نصوص مسرحية للأطفال (الجزء الأول) ـ دار النشر المغربية 2005 (ص 15).

* على المهتمين بعالم الطفل: اسرة، مربون بالمؤسسات التربوية والمخيمات، صحافة، تلفزة...

[4] مصطفى حجازي مع مجموعة من الاختصاصيين. ثقافة الطفل العربي بين التغريب والأصالة. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية 1990 ـ ص 46.

[5] نفس المرجع.

[6] نفس المرجع. ص 46

[7] نفس المرجع

[8] نفس المرجع ص 168

 

في رواية "سدهارتا" للألماني هرمان هسه، يصل راهب في مظهر متسول الى المدينة ويقع في حب فتاة جميلة، وعندما حاول استمالتها سألته: ماذا يمكنك أن تفعل؟ فأجاب: أنا اعرف اصوم وأتامل وانتظر. ولكن ما فائدة التفكير والانتظار والصيام، إن لم تكن حياتك سعيدة؟ يتأمل " سدهارتا " في سؤال الجميلة " كاملا " ويتساءل: هل حقا فقد سعادته؟. يكتب عالم النفس فيكتور فرانكل في كتابه " الإنسان والبحث عن المعنى " ان القوة التحفيزية الاولى للبشر هي النضال لإيجاد معنى لحياتهم: " لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن معنى حياته، بل عليه أن يدرك أنه لا يمكنه أن يرد على الحياة إلا من خلال الإجابة عن حياته الخاصة " – الإنسان والبحث عن المعنى ترجمة عبد المقصود عبد الكريم -

وصل فكتور فرانكل إلى فلسفة معنى الحياة نتيجة لتجارب حياتية مرعبة، فقد كان سجيناً في معسكرات الاعتقال النازية، فقد زوجته ووالديه، هناك وجد نفسه مجرد رقم في معسكر يسير الناس فيه بأجساد تغطيها خِرق بالية، يعيش الواحد منهم على رغيف يابس: " لم أكن سوى الرقم 119 و104، ولم نكن نحمل أي وثائق، فيكفي كل فرد أن يملك جسده ورقمه " – سؤال الحياة ترجمة احمد الزناتي - عام 1945 يتم تحرير فرانكل من معسكر الاعتقال ليعود الى مدينته فينا وهو يحمل معه سؤال طارده اثناء فترة اعتقاله: " لماذا لم ينتحر برغم كل ما تعرض له من مآسي والآلام، فقد جميع افراد عائلته، تعرض لشتى صنوف التعذيب والمهانة؟. في البيت الذي ولد فيه، وشهد شغفه بالقراءة، جلس السجين السابق فكتور فرانكل وقد بلغ من العمر الآن " 40 " عاما، ليكتب تجربته عن النجاة والبقاء على قيد الحياة، وعن المعاناة التي تعرض لها، وعن مصادر قوته من أجل البقاء على قيد الحياة، ونجده وهو يتحدث عن تجربته في كتابه الشهير " الإنسان والبحث عن المعنى " يستشهد بكلمات نيتشه التي يقول فيها: " من لديه سبب للحياة يمكن أن يتحمل أي شيء تقريبا مهما يكن ". يرى فرانكل ان اعظم مهمة لأي شخص في الحياة تتمثل في أن يجد معنى في حياته. وقد رأى فرانكل ثلاثة مصادر لمعنى الحياة: في القيام بعملك باخلاص وتفاني، في الحب والاهتمام بالآخرين، في الشجاعة اثناء الاوقات العصيبة، وهذه المصادرة الثلاثة هي التي تمنحنا السعادة. يكتب سينيكا: " حتى العيش يمكن أن يكون تصرفاً شجاعاً ". اعتاد علماء النفس جعل السعي وراء السعادة محور نظرياتهم التي تتعلق بالسلول الإنساني. كتب سيجموند فرويد: " لقد طرحت مسألة الغاية من حياة الإنسان مرات لا تحصى ولا تعد. غير انها لم تصل إلى اجابة شافية.. لهذا دعونا ننتقل إذن الى السؤال الأقل طموحاً والمتعلق بما يظهره البشر من سلوك يعكس هدفهم وغايتهم من الحياة ويتمنون تحقيقه؟ إن الإجابة عن هذا لا جدال فيه، إنهم يسعون وراء السعادة، ويرغبون أن يصبحوا سعداء دائما " – الموجز في التحليل النفسي ترجمة سامي محمد علي –

بعدما خرج فيكتور فرانكل من المعتقل، ظل يطرح على طلبته سؤال: " لماذا يتمكن البعض من النجاة ؟ ولماذا يعجز آخرون عن ذلك؟، ما الذي حدث في داخلي كي اخوض هذه الرحلة الطويلة للخروج من الجحيم؟. يجيب فرانكل: " كل يوم كل ساعة تتاح لك فرصة لاتخاذ قرار، قرار يحدد ما إذا كنت ستخضع أو لا لتلك السلطات التي تهدد بسلب ذاتك، حريتك، قرار يحدد ما إذا كنت ستصبح العوبة في يد الظروف ام لا، متخلياً عن الحرية والكرامة.. يبقى لديك خيار واحد ان يتحكم في موقفك الداخلي تجاه الحياة. قد نجد معنى في مجرد وجودنا، وتلك سعادة لا يمكن لأحد أن يسلبنا إياها " – صرخة من اجل المعنى ترجمة عبد الكريم عبد المقصود -.

نميل، عموما إلى الاعتقاد أنه ينبغي علينا، لكي نكون سعداء، ان نتجنب المعاناة، لكن يبدو ذلك حلماً غير قابل للتحقيق. من المستحيل أن نكون بمنأى عن المعاناة، بيد انه يمكننا تحرير إدراكنا لها. يؤكد فيكتور فرانكل انه اكتشف سعادته الحقيقية من خلال البحث عن معتى لمعاناته. يحاجج بأن البشر يمكنهم تحمل المعاناة مهما بلغت، إذا كانت هذه المعاناة تحمل معنى، أو بالأحرى إذا استطعنا أن نضفي عليها معنى. من السهل رؤية المعاناة على انها عائق امام حياة سعيدة ومزدهرة، ولكن كما يقول فرانكل: " من دون معاناة، لا يمكن للحياة البشرية أن تكتمل ". فالكفاح في الحياة هو الذي يصوغ لنا سعادتنا الشخصية.

في السادس والعشرين من آذار عام 1905 ولد فيكتور إميل فرانكل في العاصمة النمساوية فيينا لعائلة من الطبقة المتوسطة ، الاب كان صارما في طباعه يصفه بانه " يسير وفق مبادئ لا يحيد عنها "، ينتمي لعائلة فقيرة استطاع ان يتفوق في دراسته ليحتل منصبا وظيفيا كبيراً، لكنه سيخسر وظيفته ويموت في احد معسكرات الاعتقال النازيه، ويتذكر فرانكل كيف انه شاهد والده سيادة المدير ياأكل قشور البطاطا التي كان يلتقطها من براميل القمامة في معسكر الاعتقال. اما امه فقد كانت تنتمي الى عائلة ارستقراطية من اصول تشيكية.. يخبرنا فرانكل انه ابصر نور الدنيا في مقهى زيللر الشهير في مدينة فيينا: " إذ جاءت امي آلام المخاض في ظهيرة يوم ربيعي مشرق "، وقد اجبرت الام ابنائها الثلاثة على ممارسة الطقوس الدينية، في المقابل كان الأب يعتنق الفلسفة الرواقية، فلم يكن يغضب بسرعة، يحاور ابناءه في الكثير من القضايا. كان الاب يريد لابنه الكبير ان يصبح رجل قانون، إلا ان شغف فرانكل بكتب الفلسفة منذ صغره جعلته يطمح ان يكون ان يكون رحالاً.

يتذكر الصبي شعور الأمان الذي كان يشعر به وسط عائلته: " لم يكن شعور الأمان الذي طوقني مبعثه التأملات والافكار الفلسفية بالطبع، بل المحيط الذي عشت فيه "، سيجد في مكتبة والده ضالته، كتب في الفلسفة وعلم النفس، وقد اخبره والده ان البيت المقابل لهم كان يسكنه عالم النفس الشهير " الفريد ادلر " مؤسس علم النفس الفردي. في الخامسة عشرة من عمره يلقي محاضرة عن " معنى الحياة " في مركز يهتم بتعليم الكبار، وقد ركزت المحاضرة على فكرتين: الاولى، يحب علينا ألا نسأل عن معنى الحياة: " فالسؤال موجه الينا نحن، ومنوط بنا تقديم جوابنا عن سؤال الحياة، وليست في مقدورنا الاجابة عن اسئلة الحياة إلا أن ناخذ على نفسنا مسؤولية وجودنا في الدنيا "، اما الفكرة الثانية التي طرحها فيكتور فرانكل فيذهب فيها الى أن: " المعنى النهائي للحياة يتجاوز طور مشاركتنا، أو لنقل، لا مناص من أن يتجاوزه وقصارى القول هو (المعنى الأسمى " كما اطلقتُ عليه، لكنه ليس أمراً خارقاً للمألوف، هو معنى لا يسعنا إلا الإيمان بوجوده او يجب علينا الإيمان بوجوده. في نهاية المطاف، إن كل واحدٍ منا يؤمن بوجود هذا المعنى، حتى لو كان إيماناً لا واعياً " – فرانكل سؤال الحياة ترجمة أحمد الزناتي –. اثناء الحرب العالمية الاولى تفرغ لقراءة اعمال الفيلسوف الالماني أوزوالد شبنجلر وخصوصا كتابه " تدهور الحضارة الغربية " واعمال عالم النفس التجريبي غوستاف فيشنر، يملأ دفتراً مدرسياً بالملاحظات وسيختار لما كتبه عنوان طموح " نحن وآلية طموح العالم ". ينهي دراسته الاعدادية، ينظم الى دروس ومحاضرات عن الطب النفسي، في المدرسة الاعدادية يقرر ان يبعث برسائل الى فرويد: " كنت احاول اجتذاب انتباهه، وكان فرويد يجيب على الفور عن كل خطاب أرسله اليوم ". بعد الاعتقال ستتم مصادرة مراسلاته وبعض الكتب بخط فرويد كان قد اهداها اليه. يلتقي فرويد لمرة واحدة عندما كان طالبا في الكلية، لكنه بعد ذلك سيقع تحت تاثير افكار الفريد ادلر الذي ساعده على نشر مقالاته عن علم النفس. بعد ذلك سينشيء مدرسة العلاج بالمعنى وهي المدرسة التي كانت تهدف الى معالجة مرض القرن، وهو شعور الناس بخلو الحياة من المعنى. فقد لا حظ فيكتور فرانكل ان هناك احوال متوهمة ومأزومة للوجود لا يرتبط أصلها باسباب عقلية او عضوية، إنما أسبابها تضرب بجذورها عمقاً في الأبعاد الروحية والفلسفية للفرد: " ان مهمة المعالج النفسي أن يعيد للمريض حب الحياة والنوايا الطيبة لمجتمعه، عبر مناقشات حساسة لقيمة العيش واهمية السعادة " فيكتور فرانكل الشعور بانعدام المعنى ترجمة آراك الشوشان -. عام 1938 السنة ضم فيها هتلر النمسا صدر قرار بابطال جواز سفره واغلقته عيادته الخاصة ، عام ١٩٤١، يتزوج من من تيلي جروسر، التي كانت تعمل ممرضة، يتم اعتقالها بعد تسعة اشهر من الزواج، لتموت في المعسكر. بعد اشهر يتم اعتقاله مع جميع افراد عائلته وينقلون الى معسكر أوشفيتز، يتوفى والده عام 1943 بسبب الجوع، وستلحقه والدته وشقيقه وحماته، وفقد اضافة الى ذلك مخطوطة النسخة الاولى من كتابه " الطبيب والروح ". بعد تحرره من معسكر الاعتقال في السابع والعشرين من شهر نيسان عام 1945 على يد القوات الأمريكية، تم تعينه في المستشفى العسكري المخصص للمهجرين. عمل هناك شهرين، حتى استطاع في صيف عام 1945 العودة الى فينا، ليبدأ باعادة تدوين كتابه " الطبيب والروح "، ويلقي محاضرات عن علم نفس معسكرات الاعتقال، في هذه السنوات يؤسس لمدرسة جديدة في العلاج النفسي وصفت بأنها المدرسة الفينيية الثالثة بعد مدرسة فرويد ومدرسة ادلر. مدرسة فرانكل تضع إرادة المعنى، والحرية، والكرامة، والمسؤولية، وسعادة الإنسان في قلب اهتماماتها: " إذا اردنا إبراز أمكانيات الإنسان في افضل حالاتها، يجب علينا في البداية أن نؤمن بوجودها وحضورها. وإلا فإن الإنسان سوف ينجرف. سوف يتدهور. ويجب ألا ندع إيماننا بالإمكانيات الإنسانية للإنسان يعمينا عن حقيقة ان البشر الإنسانيين أقلية، وربما سوف يظلون أقلية دائماً، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة بالذات هي التي تتحدى كل واحد منا للإنظمام إلى الأقلية " – صرخة من اجل المعنى -.

واصل فيكتور فرانكل نشر العديد من الكتب التي سجل فيها خبراته الشخصية كما عاشها منذ لحظة اعتقاله حتى تحرره ونجاته، ورصد ما يجري داخل نفس الانسان عندما يتعرض لمحنة: " ينبغي ان لا ننسى ابداً اننا قد نجد أيضاً معنى في الحياة حتى حين نواجه وضعاً ميؤوساً منه، أو حين نواجه مصيراً لا يمكن تغييره. ما يهم إذن أن يكون المرء شاهداً على الإمكانية البشرية الفريدة في افضل حالاتها، أي تحويل ماساة شخصية إلى انتصار، ومأزق الإنسان إلى إنجاز إنساني. حين نكون قادرين على تغيير موقف، يكون أمامنا تحد لتغيير أنفسنا.

باعت كتب فيكتور فرانكل ملايين النسخ، عاش سنواته الاأخيرة في فيينا ورفع شعار المصالخة بدلاً من الانتقام، وقال ذات مرة: " لا أنسى اي عمل صالح قُدم إليَّ، ولا احمل ضغينة على عمل سيئ ". وقد ظل يعمل رئيسا لقسم الاعصاب في مستشفى فيينا حتى تقاعده، قال انه رأى معنى لحياته في ان يساعد الآخرين أن يروا معنى لحياتهم.

 توفي فيكتور فرانكل، نتيجة أزمة قلبية في الثاني من ايلول عام 1997، وعاش حياته التي تحاوزت التسعين عاماً، شغوفاً بفهم بالنفس البشرية والبحث عن عمّا يخفّف من آلامها ويرتقي بسعادتها

تجربة مريرة عاشها فرانكل كان فيها يسير، بشكل يومي، على خيط واهن بين الحياة والموت، وقد أجبره ذلك على البحث بشكل يائس عن مصادر للمعنى من شأنها أن تمنح الإنسان سببا للمواصلة والمضي قدما والاستمرار في المقاومة وقمع الرغبة الملحة في الاستلقاء والاستسلام ببساطة.

قاده بحثه داخل معسكر الاعتقال إلى اكتشاف إن سعادته الإنسان الحقيقية تكمن يمن خلال الحب، وفي الحب: " لقد فهمت كيف لرجلٍ لم يتبقَ له شيء في العالم ما زال يعرف معنى النعيم، حتى وإن كان للحظةٍ وجيزة، من خلال التأمّل في محبوبه " – الإنسان والبحث عن المعنى –

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

تحليل سيكولوجي

آخر حدث: أفاد مصدر أمني، يوم السبت (26 نيسان 2025)، بأن "طالبة في المرحلة الأولى بقسم القانون في جامعة (الإمام الصادق) ضمن محافظة النجف، أقدمت على الانتحار داخل الجامعة، بعدما رمت بنفسها من الطابق العلوي إلى الأرض".

وقبلها:

 اقدمت فتاة من مواليد 2004 على الأنتحار داخل منزلها في قضاء الزبير بمحافظة البصرة بسبب رسوبها في الأمتحان.

 قامت فتاة بعمر الـ 17 عاما بشنق نفسها بشال (قطعة قماش لغطاء الرأس)، كانت قد علقته في سقف حمام منزلها، بمنطقة سبع قصور شرقي العاصمة، بعد رسوبها في الامتحانات. وأكدت الشرطة أن “هذه الحادثة هي الثانية خلال 48 ساعة حيث اقدم طالب في الصف الثالث المتوسط ويسكن وسط قضاء الحويجة (55 كم جنوب غربي كركوك)، على الانتحار من خلال شنق نفسه بحبل داخل المنزل.

 افادت وسائل إعلام محلية أن شاباً تولد 2004 اقدم على شنق نفسه بواسطة حبل معلق بسقف غرفته داخل منزله ضمن قطاع 7 في مدينة الصدر، شرقي العاصمة بغداد، وأن طالباً تولد ٢٠٠٩ أطلق النار على نفسه من سلاح نوع مسدس يعود لوالده في منطقة الحرية.

 اقدم شاب تولد 2007 على الانتحار داخل منزله ضمن منطقة حسينية المعامل بتناوله مادة الزرنيخ لرسوبه سنة ثانية.

 انتحار الطلبة «يتفاقم».. تسجيل 7 حالات خلال الـ 72 ساعة الماضية في بغداد وكركوك (4 تموز 2024 مانشيت العالم الجديد).

وتفيد الأحصاءات بأن 2000 حالة انتحار حدثت في العراق خلال اربعة اعوام.. معظمها طلبة.

فلماذا؟

من عادتي انني استطلع الرأي في ظواهر خطيرة كهذه.. واليكم نماذج من اجابات اكاديميين وأعلاميين:

 الاعلامي جعفر يونس العقاد

الجامعات الأهلية تفقد كل أخلاقيات المهنة امام الاقساط تعامل الطلبة كانهم في سوق تجاري ومن لايملك المال يخرج مهانا.

 د. علا الجلاد

ضعف الروابط الاجتماعية والشعور بالوحدة وعدم الاستقرار السياسي وكذلك ضعف الإيمان قد يجعل الإنسان عرضة أكثر للشعور بالفراغ الوجودي (Existential Emptiness) أو اليأس (Despair)، مما قد يفتح باب التفكير بالانتحار خصوصًا عند تراكم الضغوط.

 أ. د. الكفائي

الطالبة تعرضت الى اهانة كبيرة من قبل رئيس القسم وامام زملائها لعدم دفعها اجور الدراسة وهي تعاني اساسا من الفقر والعوز المادي.

 د. صباح محسن كاظم

كلفة الأقساط الكبيرة بالجامعات لاتمكن العوائل الفقيرة من الدفع، مع التفاوت الطبقي بين الثراء- غير الشرعي- والرواتب المحدودة.. أحد تلك الأسباب.

 المحامي: يحيى الدلي حسين

معظم الجامعات العراقية تفتقر إلى برامج دعم نفسي أو إرشاد أكاديمي فعال ؛ كذلك عدم الاستقرار السياسي والعنف المستمر في العراق يُسبب شعورًا عامًا بعدم الأمان أو انعدام المستقبل.

 جليل الجشعمي

التدمير الممنهج للتعليم من قبل قوى سياسيه ظلاميه ماسكه بالسلطه والتي جعلت من طلبة الجامعات الفئه الأسوء بالوعي الوطني والمجتمعي لذلك تكون هذه الحوادث نتاج طبيعيه.لو تسأل اي طالب في اي مرحله (ما هي أمنياتك في المستقبل). دائما يكون الجواب.. ضحكه شارده/ بعدها صفنه/ بعدها لا يوجد جواب لشريحه المفروض أن تكون متقدمه بالوعي والفكر والثقافه

 طارق حسين

هناك معلومات تشير إلى تعرض الطالبة للضغط من قبل إدارة المدرسة ومنعها من دخول قاعة الامتحان وسحب الباج الجامعي منها بسبب عدم تسديدها لمبلغ الأقساط الفصلي الذي عجزت عن سداده كونها من عائلة فقيرة مما أدى بها للإنتحار..

 علاء الخزرجي

الطالبات يتعرضن لأنواع الضغوط في الجامعات العراقية أهمها ١-ابتزاز بعض ضعاف النفوس من التدريسيين وربما الاداريين لبعض الطالبات وخاصة الجميلات منهن. ٢-علاقات الحب وماينتج عنها من فراق أو خيانات وغيرها. ٣-المشاكل المادية لبعض الطالبات من العوائل الفقيرة مقارنة بغيرهن من الطالبات من العوائل الميسورة

 كريم حنتوش الموسوي

بشكل عام الضغط النفسي بسبب اليأس الذي يحصل عند الطلبة أما بشكل خاص هذه الطالبة تعرضت إلى صدمة افقدها التوازن في اتخاذ القرار المناسب لمواجهة الأزمة قد يكون خبر زواج حبيبها أو خبر رسوبها.

تحليل سيكولوجي

ثلاثة اسباب وراء ظاهرة انتحار طلبة الجامعة..

الأول: خلل في تركيبة شخصية المنتحر

تفيد الدراسات العالمية والعراقية أن هناك صنفين من الأفراد الذين يرتكبون الأنتحار، الأول.. وصولهم الى حالة اليأس المطلق فيلجأون الى الأنتحار كوسيلة للهرب، والثاني، النظر الى انفسهم انهم صاروا عبئا على الآخرين، فيعاقبون انفسهم بالأنتحار.

الثاني: مجهولية المستقبل:

اكثر ما يشغل الشباب هو التفكير بالمستقبل.. ما هو طموح الشاب؟ ماذا يريد ان يكون؟.. فأن كانت الظروف السياسية والاجتماعية والعلمية.. ليست لصالحه فانه يعيش حالة احباط تؤدي بالبعض الى اكتئاب شديد يجبره عى التفكير بالأنتحار كوسيلة للخلاص.

ويشير واقع الحال الى ان الشباب في العراق كانوا قد صبروا اربع سنوات بعد تشكيل الحكومة في 2006 التي رأسها السيد نوري المالكي، ثم اربعا أخرى في حكومة المالكي الثانية التي شاع فيها الفساد.. وضاقت بهم السبل فتفرقوا بين من هاجر وغادر الوطن، وبين من لجأ الى المخدرات هربا من الواقع وبين من انتحر وبين من صبر.

الثالث: تدني جودة التعليم العالي

كان التعليم العالي في العراق من اجودها على صعيد العالم العربي، وتراجع.. وتدهور بعد 2003 بتولي الوزارة عناصر غير كفوءة، بدءا من السيد علي الأديب وانتهاءا بالسيد نعيم العبودي. وحصل ان زاد عدد الجامعات والكليات الحكومية والأهلية الى (51جامعة حكومية (بضمنها 15 في إقليم كردستان) و91 جامعة وكلية أهلية (بضمنها 14 في إقليم كردستان)، وأكاديمية واحدة للشرطة – بحسب مصادر).وصار هدف معظمها.. هو الربح المادي.

الثالث: الأسرة

يعود السبب الرئيس لظاهرة انتحار الطلبة بسبب رسوبهم في الأمتحانات النهائية، الى طريقة تعامل الوالدين مع أبنائهم، وبخاصة الأب. وتشيع بين هذا النوع من الآباء أساليب التهديد والوعيد والتحقير. فقبل الآمتحان يهدد الأب ابنه قائلا: (شوف ولك.. اذا رسبت ما اريد اشوف شكلك)، ولا يدرك هذا الأب أن هذا التهديد يؤثر سلبا على حفظ ابنه للمادة، لأن فكره سينشغل بما سوف يعمله ابوه به. وأن رسب فأن ابوه سيسمعه عبارات التحقير(غبي.. ما تصيرلك جاره، الله ابتلاني بيك).

ولهذه الظاهرة وجه آخر يتعلق بهذا النوع من الطلبة، فرغم توفير كل الأجواء المناسبة لهم من تكييف في غرفهم ومدرسين خصوصي، فأن هناك تكاسلا عند بعض الطلبة وعدم الرغبة في الدراسة والاجتهاد، مقارنة بزمان آبائهم وامهاتهم يوم كانوا يتسابقون في النجاح وهم يدرسون على ضوء الفانوس واللالة، وما فكروا يوماً في الانتحار.

ونوضح نقطة مهمة.. ان التعنيف من قبل الأهل قد لا يؤدي وحده الى انتحار الطلبة، فكثير من ابناء جيلنا تعرضوا لهذا التعنيف وما انتحروا، ما يعني أن الأمر ارتبط الآن بدخول عامل جدديد رافق الضعط الأسري هو الغزو الثقافي الذي بدأ يعطي ثقافة الانتحار والتمرد على الأسرة والأهل ويصفها بالحرية الشخصية، وإيصال فكرة أن الانتحار عملية سهلة للتخلص من الضغوط!.. فضلا عن ان مواقع التواصل الأجتماعي اسهمت في ابعاد هؤلاء الشباب عن الدين، الذي ينبّه ويحذّر من أن الأنتحار حرام في الدين الأسلامي، وان مصير من يرتكبه هو جهنم.. بجريمة قتل النفس التي حرّم الله قتلها الا بالحق.

ما المطلوب سيكولوجيا؟

جهتان مسؤولتان عن الحد من ظاهرة انتحار الطلبة هما (الجامعة والأسرة).. في ان يعاد الأصلاح الى التعليم العالي والأرتقاء بجودة الأداء العلمي للجامعات العراقية الحكومية والأهلية، والثاني.. أن يكون تعامل الوالدين بتوفير اجواء نفسية مريحة لأبنائهم خلال أدائهم الأمتحانات النهائية، تنمي لديهم الثقة بالنفس والطموح في ان يكون مهما في المستقبل، و بعيدة بشكل مطلق عن لغة التهديد والوعيد والتحقير. والثاني.. ارشادهم الى كيفية استخدامهم لوسائل التواصل الأجتماعي التي صارت في هذا الزمان الأب الثالث لهم بعد ان كان الوالدان والمعلم هما الأبوان في زماننا.. وان يكون لوسائل الأعلام دور في نشر الثقافة النفسية بين الشباب تحديدا.. تشيع التفاؤل بين جيل سيتولى ادارة شؤون اجمل وطن في المنطقة!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تُكلِّمُ الناسَ مشافهةً أو رسْماً؛ وأنت تتقَصَّد الإيضاحَ والتأثيرَ من خلال الأسلوب الذي تنهجه وتكتب به، تحاول جهدَك إبرازَ أفكارك وترجمةَ عواطفك، وما يجول بخَلدك وخاطرك، تختار الألفاظ وتؤلِّف بينها بالصنعة التي تتقِنها. فكان النغم والرقص، وكان الرسم والنقش، وكان الشعر والنثر... وتلك كلها أساليب تعبيرية اختلفت أشكالها واتفقت غاياتها ومراميها. وقد انزوى كل ضرب من ضروب الإبداع وفنونه مُتحصِّناً في بُرجه، جاعلاً لفضائه حدودا معلومة، وقواعد لا ينبغي الزيغان عنها، فأضحى كل منتمٍ لفضاءٍ مختصّاً فيه، مُنافحاً عن حِماه. فأبدعواْ وبرعواْ وتفنّنواْ في الصّنوف الأدبية والإبداعية عبر كل العصور، وفي كل الحضارات. وصار الكلام رافديْن: شعراً ونثراً، واجتهد محترفوه في صقله وتبيانه، فنشأت الكتابةُ حرفةً، وتماهى العربي مع لسانه، فكان لسانُه أيامَه وديوانَه مما ينْظُمُه أو ينثُرُه. وازدادت نشْوتُه لما تقدّس هذا اللسان بالوحي من السماء، فراح ينتشي بتحديد قَدِّه وقِوامِه، أو تعديل حوَرِه، وتهذيب فلَجِهِ، فكان البيان والبديع والمعاني. لكن الحدود بين المملكتين الحصينتين – الشعر والنثر – ظلت مصونة ومحفوظة وإلى عهد قريب، إذ شرعت أرقام هاته الحدود تتكَسَّر وتغيب معالِمُها، فعُدّ ذلك الخروج والتجاوُز لوناً إبداعيّاً استساغته حضارتنا اليوم.

تزخر الساحة الإبداعية اليوم بأشكال إبداعية متنوعة، ولكل شكل قواعد. واحتضنت، كل شكل إبداعي، مدارس تتباين مناهجها وقواعدها؛ والتي بدورها عرفت تجاوزاً وتخطِّيّاً لضوابطها، فلم يعد الروائي العربي مقيدا بالبناء السردي التقليدي، ذلك أنه انفتح على ضروب فنية أخرى يؤثث بها عمارته. كما أن النص الأدبي تم تكسيرُ بنياته؛ وهو الشأن الذي دأب عليه الشاعر والمبدع اللبناني بول شاوول (1942م)؛ ذاك الذي قدّم لنص «على صهوة الكلام» للمفكر والروائي المغربي عبد الإله بلقزيز، علماً أن بول شاوول يشْغَب على الكتابة أيّاً كان مصدرها، وينْبِش في الهوامش الحياتية، وكتاباته، التي يعتمدُها، مشوبةٌ بقلق ملازم لفعلها وبأسئلة تستفيضُ عن المكان. وإذ يقدِّم لنص رصينٍ ومصنوعٍ بكل دقة وعناية، فمَبْعَثُ ذلك عائد إلى التقاطع مع صاحب هذا النص، إن في المعنى أو في الشكل.

شغب «على صهوة الكلام»

أحسب أن بول شاوول يتقاطع مع عبد الإله بلقزيز في الانزياح نحو النص المفتوح؛ انزياح يرتبط بنزعة تمرُّديّة على الجنس الأدبي الرتيب، والذي يتحصَّن بقوانين ويتخندق خلف قواعد لا يزيغ عنها. قواعد تمَّ التوافق والتواضع عليها؛ تُغلِّقُ الأبواب على من اقترب من هذا الجنس أو ذاك. وإذْ يتمرّدُ بول شاوول على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعبد الإله بلقزيز، فمردُّ ذلك إيمانهما بأن التجريب يفسح المجال للنص لكي يمتح من جمالية مفتوحة؛ كما يسمح التجريب بالعبور من فضاء إبداعي إلى آخر، ويخلق النظرية العابرة لا الثابتة. فالتجريب هو مستقبل الكتابة وهو المجهول والسؤال، بينما النظرية هي المعلوم والجواب. من هنا يأتي شغب بول شاوول المتواصل على الكلام حين يتكلم أو يكتب، وهو المعتاد على النبش في الهامش الحياتي، يكتب بتقنية تسمح له بطرح أسئلة مصحوبة بقلق يرافقه في عملية الكتابة؛ يأتي المكانَ بعدما تمُرُّ العاصفة وقد دمّرت ومزّقت وقتّلت... ليقوم هو بإعادة البناء ويردم الصدع ويُحيِي الصورة من جديد، في هدية يقدمها للذين يموتون خلف أعمارهم. بناء يعجّ بكثافة المخزون البصري الذي توفره جغرافيا المكان، أو يستخلصه مما تقذفه دواليب المطابع من قصاصات أخبار وأحداث تصنعها أيادٍ آثمة بالوطن العربي، والقضية الفلسطينية في مقدمة هذه القصاصات.

أعمَلَ بول شاوول النظر في نصّ بلقزيز، فوَشّاهُ بتقديم تحت عنوان «السيرة ولعبة الكلام العالي»، حيث طوى في بِضْع صفحات كل ما سمح به البوْحُ في نصّ «على صهوة الكلام». وقد اعتبر فعل الكتابة أيّاً كانت سيرةَ صاحبِها: «أو ليست كل كتابة سيرة؟ هنا السيرة، مساكن مهجورة، بمواصفات محظورة، أو فائضة، أو خبيئة»[2]. لفَّ حول النصّ فاستوعبه، وقدَّمه في هذه الصفحات موجزاً، مع إحساس بأن النص يتفلّت ويجْمَح على أن يُتحكّم فيه بالرّسَن واللجام، الأمر الذي حدا بشاوول إلى سياسته والتهدئة من روْعه بعلامات ترقيم تكاد تنعدم في المتن المقدّم له وأخصّ نقط الحذف. استعمل نقط الحذف بمعدل علامتين في الصفحة؛ وللحذف في النص وظائف، من أهمها: السكوت عن كلامٍ نتعفّفُ أن نخدش مسامع القارئ به، أو اعتقاداً منّا أن الكلام المحذوف معروف لدى المتلقي، أو لفسح المجال للقارئ أن يعمل مخيلته في الموضوع ويتفاعل مع النص وأحداثه... وبول شاوول وظّف اسلوب الحذف لاستعصاء القبض على النص، هذه واحدة، أما الثانية، فيُحيل القارئ على المتن ليمْتَع بقرائته. كما أنه وظّف، للغاية نفسها، الجملة المكثفة في أقصى صورها من قبيل: «وعند عبد الإله فقدان مضاعف. لا أب. أو أم. بل ما يعوض عنهما: الجدة، الخالة...الحنان كأنما حقيقة الطفولة، وردم العزلة، والخسران»[3]؛ أو من قبيل: «إنها المعاني بامتياز. السيرة معنى. والجدة معنى. والشعر معنى. والموت معنى. لأنها سؤال»[4]. فكل مقطع من هذه المقاطع يمكن نشره في فقرات وصفحات. كما استعمل العلامات الثلاث: الفاصلة، والفاصلة المنقوطة، ثم النقطة. تهذيباً لسرعة القراءة، وإضفاءً لموسيقا ينتظم المزاج عليها.

على حدود المملكتين الحصينتين

اضطرته مطالعاته واحتكاكه بالكتاب والكتابة، وهو «الذي انغمست رأسُ[ـهُ] في أوحال القصيد، وما روى الرُّواةُ من أيام العرب»[5] وذلك منذ بداياته الأولى، إلى أن تواجد على تخوم «مملكتين حصينتين»؛ مملكة الشعر ومملكة النثر، يترنم بصوت حادي الحدود، يغازل النظم فيغرف منه معين اللفظ وشهي المعنى، ويداعب النثر فينهل منه حَسَن العبارة وجميل الفكر، أو يزاوج بينهما فيستطيب السرد والحكي، وتتراقص شذراته عذوبة وموسيقا؛ إنه في رحلة دائرية «على صهوة الكلام يعبر هذه المنامات بدونكيشوتية المغامر سابر الأغوار، ومحرك السادر، ومخلخل اليقين، والحقائق، وما يستتبعها من إرثها، وقوالبها، وعوالمها، وأشتاتها»[6]. وبهذه الغارات والمناورات، وعلى مشارف هاتَيْن القلعَتَيْن المنيعتَيْن، يقول: «بحثْتُ عن سرّ القصيدة في رِئتَيَّ؛ أستنشِقُ هواءً من شعرٍ ودخَان، أزفر الثاني ويضيع الأول في خبر كان. أستقبِلُ الشعرَ ولا أرسله، أفتح له طريق الذاكرة كي يرقد في هدوء، وأُغلِق عليه سبيل الهروب كما يُغْلق على السجين السجّانُ. لكنّ قريحتي قاحلة وإن أتيتُ القرضَ كثيراً، وأسهبْت في التمرين على النقائض والحماسة، على غزلٍ أبعثُه في رسائل بلا عنوان»[7]. وفي النثر قال: «؛ النثر صِنْوها حين يتبدّخُ في البلاغة وضُرَّتُها... كلّما تخيّرْتُ بينهما تحيّرْتُ، ومسَّني من اليقين القليل ما يشبه المحال. امرأتان تتبادلان التباهي، أمامي، بما ملكت أيمانهما من نفائس المعادن، وما ملَكَتَا، كلتاهما، من آيات الجمال»[8]. ثمّ يخلصُ بصريح العبارة إلى القول: «لا أكتب شعراً، حين أكتب، ولا أكتب نثراً؛ أعبر الحدود بين المملكتين مثلما يفعل المهرِّب سرّاً. أخشى على كلامي من الجمارك وحرّاس الحدود، وألعن في سرّي الدهاقين وسدنة المعابد؛ يزِنون، بأصدإ الموازين، متاع الروح واللسان، ويدقّون إسفيناً بين الترسّل والقصائد»[9]. فمَثَلُه في النزوع إلى النص المفتوح مَثَل مَن تتملّكه الرغبة في تطعيم نصّه الأدبي بفنون أخرى تكتسح المجال الإبداعي، وهو الذي «اكتشف، في ما بعد، أن دُرْبة السمع عند[ه] أشحذ من دُربة العين، وأنّ وقع الكَلِم في النفس أشدّ من خَدَر الصورة، تلك قِسْمتُ[هُ] من الطبيعة والثقافة [يـ]رتضيها من غير نكران، وإن ظلّ في الداخل قليل من حسرة يكفي للسؤال عن سرّ فقدان العدالة في الميزان»[10]. واستدعاءُ هذه الفنون وتوظيفُها يُكسب النص حركة أنيقة في نسجها، بديعة في سردها، تنتقل من همس الشفاه إلى طبل المسامع بلا رتابة مُمِلّة أو تنميط مُستَثْقل. يَخرقُ الصمتَ المضروبَ على هذا التجاوز، ثم يتصَعْلك ويثور على القبيلة وشيوخها، يقول حالماً في صحوه: «في ما تبقّى لي من الوقت، سأعلن في القبيلة أنّي عصيْت أمر الجماعة المأسورة بتعاليم الشيخ، وأحكام العصبية. لست سجين دمي أيتها القبيلة؛ فدمي ليس سلالة غير اللسان والأبجدية»[11].

لزوم ما لا يلزم في مضارب المعرّي

هي حلَقِيات ثلاثة[12] قدّمها بلقزيز، ومن خلالها قدّم سيرته الذاتية، والتي أعتقد، أنه لم يُنْهها بعد. تدخل باحة هذه النّصوص، فيسبح بك صاحبها في عالم الكلمة العذبة، كلمة تنساب في يسْرٍ، ويأخذك معه إلى فضاء يتشكّل من عناصر البناء السّردي الكلاسيكي: الزمان والمكان والأحداث ثم الشخصيات. يَمِيز هذه العناصر أنّها ذاتُ بُعدين: البعد الآني الذي يرسمه الكاتب للمحطات التي يختارها وينتقيها بعناية شديدة ممّا سمح به مستوى البَوْح عنده، أو تُسعِف به الذاكرة. والبعد الافتراضي، وهذا يطال كل العناصر؛ يصحبك فيه بلقزيز إلى أماكن وأزمنة وأحداث وشخصيات، مرّت وتركت الأثر؛ يمكن الاستغناء عنها في بناء النص، وهو إذ يستحضرها في نصوصه، فليس من باب التأثيث والزينة، وإن كان هذا الجانب حاضراً ومطلوباً؛ فإنه باستحضارها يفتح، من خلالها، خَوْخاتٍ ونوافِذَ للقارئ والمهتمّ علَّه يهتدي ويتلمّس المؤثرات التي انتقشت في ذاكرته، وساهمت في إنضاج طقس الكتابة عنده. لم يقدم في نصوصه كل تفاصيل حياته، بل يرحل بك، عبر هذه النصوص، فرسخاً بعد فرسخ ثم يحدثك بأسلوبه الجميل عن محطة من محطات حياته؛ والتي دفعتني إلى القول بأنها لم تكتمل بعد. الذاكرة، عنده، تصارع النسيان «العنيد في صمته، لكنه يربّي الخيال على وظيفته في اللعب بين شقوق الذاكرة»[13]. يطوّفُ بك ويُطِلق «الجنون من جنونه كي يتعقّل أكثر، [يستصحِبه] شعراً [ويُلجِمه] نثراً، [ويُعلِّبه] في لغة لا يبرحها لئلاّ تزند جذوته ويضيع هدْراً»[14]. يترجّل من على صهوة فرسه، فيُجلسك مع أدباء ومفكرين وفلاسفة؛ أولئك الذين لم يكتفِ بمعاشرتهم، منذ وقت ليس باليسير، بل جالسهم غير ما مرّة في الغياب، وبين مقابر نصوصهم: تصنّت إليهم وعليهم، وأخذ منهم وعنهم. لم تخُنْه الحيلة ولا طول الباع في السير على نهجهم؛ يتتبّع خطاهم، خطوة خطوة، قارئاً ودارساً، مُعارضاً وناقداً، مستوعباً وفاهماً... فناقَشَهُم وناظرهم، ثم أخذ عنهم وردّ عليهم، وطوّر ما قلّدهم فيه.

ألزم الكاتب نفسه في نص «على صهوة الكلام» ما لا يلزم، ألزم نفسه ألا يكتب شعراً مثلما هو محفوظ في جملة من الدواوين؛ لأن «الشعر ما كان القصيد في أوّل خلقه، قبل أن يرن رنين الذهب؛ الشعر ما قالت العرب في القفر، وما أوقد الحطب في زمهرير الليل، والشعر ما أعلى مقام النسب»[15]. أحبّ الشعر والأدب، وأحبّ الشعراء والأدباء من لم يتكسّب منهم أو يتملّق. كما أحب ّأن ينزل ضيفاً عليهم وينهل من معينهم، وأجده في هذا النص يحاكي رهين المحبسيْنِ في لزومياته. إذ بفلان تُقرن الصّعْبة في أمثال العرب.

أجد ذلك في هندسة الشكل المعماري للنص، اجتهد بلقزيز في حبكه بطريقة حسابية دقيقة، وهو المتأفِّفُ من «دروس الحساب البليدة»[16] التي كانت تعكّر عليه الجميل في رأسه زمن الدراسة، حيث وزَّع النصّ إلى ثلاثة أبواب، وهو عدد الكلمات المكوِّنة للعنوان «على صهوة الكلام»، وجعل لكل باب من الأبواب الثلاثة عنواناً، وردت تتْرى على الشكل التالي:

كلما وجدت إلى المعنى سبيلاً؛ (خمس كلمات)

بحثت عنك؛ (كلمتان)

في تفاصيل الغياب. (ثلاث كلمات)

مجموع كلمات هذه الأبواب عشرة، وهو نفسه عدد الفصول التي قسم إليها النص، وقد ضبطها بالرقم الروماني. وإذا جاريْتَ الكاتب وأنْجزْت تركيباً للجمل من خلال العناوين الثلاثة السالفة، تألّف باب رابع تحت عنوان: «كلّما وجدت إلى المعنى سبيلاً بحثت عنك في تفاصيل الغياب»؛ هذا الباب يشكل وحدة تختلف في بنيتها عن الأبواب السابقة؛ أو قلْ، خصّصه إجابة لما وصل إليه في بحثه في تفاصيل الغياب.

ألزم السارد نفسه أن يبدأ فقرات كل فصل من الفصول العشرة للنص بكلمة من الكلمات المكونة لعناوين الأبواب، وذلك حسب ترتيبها، إن في عنوان بابها، أو العنوان التركيبي للباب الرابع، وتمت الإشارة إلى ذلك ببدْءِ الفصل بالكلمة، بيت القصيد، مسوّدة ومضغوطة؛ وفي هذا خالف أبا العلاء المعري الذي شدّد على نفسه في القافية ورويها، أما بلقزيز فقد شدّد على نفسه في مطلع الفقرات.

يفترض الأسلوب السردي في مجال السيرة الذاتية أن يتحدّث الكاتب عن نفسه بوصفه سارداً بضمير المتكلم أو الغائب، ويكون ذلك بلسانه أو لسان غيره (سيرة ذاتية أو سيرة غيرية)، كما يعمد إلى المونولوج في تقديم شريط سيرته. لكن بلقزيز، في هذا النصّ، اختار أن يحوِّل المونولوج إلى حوار ثنائي – ديالوج-، حاور نفسه بنفسه وكلّمَتْ أناه أناه؛ أي أنّه أحدث انفصاماً بين السارد الحاكي والمحكي عنه. وأشعل حواراً داخلياً لكنّه مسموع ومُصوِّت.

حاشَت فقرات النص صيغاً صرفيةً متباينةً، تبدو في ظاهرها مألوفة ومتداولة، لكن تطبيقها على ألفاظ وعبارات ذات الجذر البسيط والسهل، وإيرادها بأوزان صرفية معروفة لكنها على غير المسموع بيننا اليوم؛ يندرج ضمن التفرُّد في توظيف هذه الأوزان وتطويع اللسان ليعبِّر عن المرغوب فيه بالشكل والنوع الذي يريده صاحب النص. من هذه العبارات: (قُدمة (108)، الطِّلْبة (163)، التّشرّر (113)، التقرّي (119)، التولّه (141)، الانظهار (173)، انقحطت (111)، يطّاحن (133)، استربت (145)، انداح (154)، أهتاب (156)، توثنت (183)، اشتجر....).

وفي السياق ذاته، ينزِع إلى المتضادات من الألفاظ ليخلق حيوية داخل النص، ويكسبه إيقاعاً يُبْعدُ عن المَلَل ويُخرجُ من "الكوْدرَة"؛ ومثال ذلك ما ورد في هذا الاقتباس: «كالعجاج المترَّب في عاصفة صيفية تجتاحني النوازع، وتتركني أغطّ في فوضاي، وأمدّ لشهوتي شهوتها؛ أتقشّف وأتبدّر، ألتدّ وأتنسّك، أتأمّل وأهذي، أُقدِمُ وأُحْجم، أصدّق وأكذّب، أتعجّل وأتريثُ، أرحل وأتلبّث»[17]. ومثل ذلك ما يذكر «في تفاصيلك ما تقول؛ ما تدري، وما ترى، وما تسمع، وما تمسح عيناك من شواهد الحِبْر عليه، وما في الخاطر يجول»[18]. وهو سياق يتماهى مع «لاعب النرد» للرفيق محمود درويش حين تراقصت عباراتُ نظْمِه: «أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ /».[19]

تقْصُر فقرات النص فتجيءُ على شكل شذرات وتأملات. شذرات وتأملات ضمَّنَها مواقف فكرية وما ينتوي التنقيب فيه وعنه، أو ما حلَكَت رؤْيته عليه؛ وقد تكون رغبة منه في الدفع بالملتقي والدارس إلى الخوض فيها ورفع اللبس عنها. وأنت تقرأ هذه الشذرات ينتابك الإحساس بأنها تتزَيّا بزي الوعظ والإرشاد. وتتدثّر في لبوس الحكماء والعارفين؛ وتتساءل عن كنهها: أهي حِكم عطائية؟ أم وصايا لقمانية؟ أم تُراها إشارات إلهية؟ يمكن الوقوف على بعضها بالصفحات التالية: (85/89 – 170/174).

يعظك ويرشدك بالقول: «اذهب بعيداً في لعبة يتقنها الكبار كي يصعدوا فوق، اذهب وراءهم، معهم، بلا خوف ولا وجل؛ لك الذوق ميزان تقيس به الأشياء، ولك الجدل: أثمن ما في الجبّة مما ملكت يمينُك من العلل»[20]. وهو الذي تعلّم من السياسة الكياسة، تعلم كيف يصغي ويُصيخُ السمع للرياح القادمة.

سيرة أنثى من صورة امرأة

تحتلّ الأنثى مساحة تكاد تملأ كل فضاءات بلقزيز الإبداعية؛ فلها رمزية كبيرة إن في الحياة أو في الأدب. ولأنك لا تستطيع، كنت من كنت، أن تتخلّص من المساحة الوجدانية فيك، أو ترمي بالغلاف العاطفي الذي يدفِئُك من صرٍّ يخِزُ الفؤاد. ولَأَنْ يُهديَ نصّه «على صهوة الكلام» إلى الأمهات الثلاث: «إلى ذكرى زينب، وفتوحة، ورقيّة: أمّهاتي الثلاث»[21]: الأم المُطْفِل، والخالة المربّي، ثمّ الجدّة المؤدِّب؛ فهو إشارة قوية إلى الحضور الروحي للأنثى في حياة الكاتب المعيشة والإبداعية. الأنثى، الكائن المدخور بدفق عاطفي، يُركعك وأنت تطلب القربى منه، تنحت ما طاب لك من العبارات خِطبة لودّها. الأنثى التي عدّها شاوول: «الفرادة والتجربة والمزاج والبيئة والتاريخ»[22]. كما هي في نصّ بلقزيز «زمرده، في معصم الطبيعة، وكَوْن يهيم في لا نهايةٍ ليحصد قتلاه من الشعراء، ويوزع الأرق بالتساوي بين الأفئدة»[23]. هي الأمومة تحكم قبضتها على الرجل طفلاً صغيراً وكهلاً كبيراً؛ تسبِقه عبراتُه إذا ألّم بالأمهات ألمٌ، أو غادرنه بلا وداع، فهن عند بلقزيز «الماء في البيداء، والأمثولة الغرّاء»[24]. وهي الحبيبة التي يركب بحر الأهوال قاصداً ضفّتها.

«للذاكرة طريقة في التغليط مقصودة؛ تسألها عن غميسك القديم، فلا تمنحك منه غير المبهم، عساك تجرّب ثانية أن تقف بين يديها كما يقف أمام عشيقته المتيم»[25]. ومن هنا يصعب عليه أن يستحضر الذاكرة، التي تشحُّ عليه بالمعلومة، ويتعصّى عليه فعل التذكّر عندما تصبح «مساحة النسيان أوسع من حديقةِ المحفوظ، وأفْقَعُ من بياضِ الفراغ الذي لا يملؤُه نسْجٌ من خيال»[26]. أمام فعل التذكّر يتمثَّل «الذاكرة امرأة هاربة من شِباك صيدك المنصوبة في بلاهة، وحِرْباء تلبس لونك حين يأخذ لونك أصباغاً شاحبة»[27] التذكّر يُنازعه المواقع فيُحوِّل السؤال إلى أمه قائلاً: «هل تذكرين، أمي، حين عُدْت، وبين حِضْنَيْك ارتميتُ وأسدلتِ عليَّ الصفح؛ ما بكيْت عندها، حين بكيت، لأن ندماً من الهروب مسّني، ولكن لأنّي أحبّك وإن جار عليَّ من كلامك ما هدَّني»[28]. يرقُّ فؤادُهُ لنسيم يدغدغ وصلة شعرها، أو أزيز يوقظُ أمّه من غفوة تنتابها وهي تَحْنو عليه. يسمع صوتها رطباً عبر الهاتف من فاس فيغالب العبرات، يتمنّى الجناحين وبساط الريح ليدنُوَ من أمه؛ إنه إحساس رقيق ينأى به أن يكون فضّاً غليظاً أمام أمهاته؛ ويُقرُّ بالقول: «ما خفْتُ، أمي، على نفسي وأنا أُهدي المصير المجهول؛ خشيت المعاقَبَة في دموعك ودموع أختك والجدّة حين يخبرونَكُنَّ بما إليه أؤول، بين أيدي جلاوزة لا يعرفون، في الغلظة، فارقاً بين الحي والمقتول»[29]، فهو يريد السلامة من أجلها وأجلهنَّ. تلك هي الأم في عقيدة بلقزيز، يكْمُن «في الأم سرُّ أسرار الكون، وبين يديْها مفتاح الأبدية؛ هي هي لا تتبدَّل، ولا تبغي من الدنيا غيرَ ما تمنحها الطبيعة من دور»[30]. فقد حشْرَج وتحسّر، تألّم وكَلَم، ثم همس عميقاً: «لم تستفيقي كي أودّعك، مثلما اشتهيْت، أطلْتِ نومك، وأطلْتِ أرَقي، ولم أشعر أني انتهيتُ إلا حينما انتَحَبت بناتك بعد صرخة هزّت سقف البيت، ونثرت على حوافّ الحديقة مفردات النهاية»[31].

حظه ونصيبه أن يوجد بين يدَيْ أمهات أسْبَغْن عليه كل أنواع العطف والحنان؛ كل واحدة تعمل فيه بعمل الأنثى وحنكتها، وما يتواصَيْن به وهن يرقُبْن القادم من وراء المشربيات والشبابيك المغلقة بالرياض المراكشي. كان من الجدّة قريبٌ، وقريبةٌ منه كانت، «كتوأميْن لم تنجح الجراحة في فصلهما، أتنفّس برئتيْك، وتأكلين بفمي، وأرتمي في آخر الليل بين ذراعيْك لأحتميَ من شبح يُخيِّم على صباي»[32]. هي الجدّة التي أرادتْه أن يكون مثلَ بعْلِها؛ «أردتِهِ مثل جدِّه، زوجِك؛ هكذا قلت له مرّة حين رفع إليكِ مظلمةً، وأنَّبتِهِ على خوف لا يليق بأخلاق جدِّه، وسجايا البطولة في سيرة مجده»[33]. ونفس المسافة، كانت تفصله عن الخالة أو أضْيَق؛ عنها لم ينزع «الأمومة وإن لم توقعها برحِم ووحْم؛ [خرج] إلى الدنيا [ليلقاها] لابثةً [بقربه]، لا [تبرحه] وإن [تخطَّفَه] النوم»[34]. ملأت عليه الفضاء، وملأته حبّاً وحناناً، فهي قمر كلما أطلَّت عليه نثرت في صدره الأمن والأمان. ««فتوحة» امرأة جموح في الحب، والإحسان، والنكتة؛ أُحبّها وأَرهبها، وأضحك منها –أحياناً-حين تُغالي في الخرافة»[35]. لم يتذكّر في أي يوم ميّزها عن أمّه التي أطفلته، وعلم أنّ له أميْن اثنتيْن تُثلِّثُهما قرّة عيْنيْه الجدّة. جمعت «فتوحة» ممّا في الأم والجدّة؛ «في الخالة وداعة أمي والأريحية، وفيها بعض ما في الجدّة من الحزم؛ تخاصمني لتؤدبني، وتمعن في الهجر، ثم تطبع على جبيني قبلة في أول الفجر، كي تمسح بالحب ما تركت على سبورة قلبي من تعاليم الزجر»[36]. ويثقُل عليه الفراق، ويشتدُّ عليه المشهد لمّا انهزم أمام عنقود الأمهات حين أخطأت تَذَكُّره ولم تعرفه، ليرثيها بعد عامين: «يا امرأة تسكنني، وإلى المعارج ذكراها ترفعني؛ وإن انحنَيْت فلَكِ أنحني، كما تنحني للنهاية القِمم»[37]. ليس لك منها ولا من سحر أنوثتها فكاك، فهي «المريمية في صحوتها من نداء السماء، والأمّ وحدها تجثو أمام هيبتها مفردات الحبّ، وتسَّاقَط على حوافِّ ذكراها لغة الرثاء»[38].

هو ذا، بلقزيز شكّلت معالِمَه العاطفيةَ أنثى، وانتقَشَتها تنشئةٌ في وسط حميمي يكسر صمته حديث الأمهات، ويغرزن بَصَمات في ذاكرةِ مَن مرَّ بالمكان؛ بصمات الأمهات الثلاث غائرة في ذاكرته غوْرَ جُبٍّ ضنَّتْ عليه السماء بما يروي ظمأه، إذ له «منهن ما قدّمن من عبَق وحبَق ورَيْحان، ولهنَّ منّي ما تركت على اللسان من آثار ما محتها أطواري»[39]. وعلى مدارج اللسان، ينتظم غزل نوعي يشاغب به بلقزيز على الحبيبة. غابت الحبيبة ويسكن بين جنبات البيت غياب؛ «الغياب أن تستفيق صباحاً، فلا ترى من حولك إلا الفراغ: كتباً تملأُ الرفوف والجدران، وشاشة قلَّما تُمسك بأزرارها لتخرج من معزلك، ومطبَخاً لم تُزايِله رائحة الأمس، وخصاصة في الشعور بطعم الأمان»[40]. معادلة صعبة تلك التي تجعل الغياب ثم الفراغ طرفاً، والطرف الآخر الحبيبة والأمان. الحبيبة نوع ثان من الإناث اللائي طبعن حياته؛ وإنْ سمح له معدل البوح بالإفراج عن الأمهات الثلاث؛ فقد حال حائل بينه وبين أن يفرج عما يثوي خلف هذه العلاقة، وعلى استحياء يفتح ملفاً دون الإفصاح عن اسمها؛ علاقته بالحبيبة تلك التي اشتعلت جذوتها بفاس وظلَّت: «في الحلق مفردة متوحلة منذ زمان قديم»[41]؛ يصارع الذكرى ويقاوم النسيان لولا أن مفردته لم يعثر لها عن مرادف في القاموس ليخفّف من وطأة الحيرة وهو يتردّد على [جنان الحارثي]. «مفردتي حائرة ومُحيِّرة، ولا أدري أبِحُروف هي نقشت أم هي من مادة روح متصيرة؟»[42]. وإن كان عصاميا في الحُبّ هولامياً في العواطف وخصامياً مع مَن ينصحه، فإنّه ينأى ويبتعد عن ضوضاء الحبّ، وإن نصح بإخراج الحب من الغيب لإنضاج المعنى، لينغمس بين مقابر النصوص، يعاند الموتى ويعارض، يشاكس ويحاور؛ يستسلم للنوم ومع الصباح، حين يفتح عينيه ويتأهب لليوم الجديد بوجبة الفطور التي لها عنده «طقس لم يتبدل: فنجان قهوة مرّة وسيجارتين؛ واحدة لصدري الجائع للدخان، وأخرى لصورتك الضاحكة في صدر المكان»[43].

سلك الكاتب ذكاءً لطيفاً في الحديث عن المحبوبة وإليها في الغياب، من خلال بورتريه لها أو بورتريهات تَأثّثَت بها مرافق البيت. على طاولة السرير الجانبية، كانت قد وضعتها، أو وضعاها كلاهما؛ إشارة قوية كذلك إلى حفظ الذِّكرى والميثاق الغليظ. أن يغازلَ طيفها من خلال صورتها، والكلمات الواصفة لها تمتلئ صبابة؛ فهي «كأميرة تتفرج على أسراب الغجر»[44]؛ لعل في النفس بقية لم تكتمل. وفي الفؤاد خدْش يعود إلى القديم «في مطلع الثمانين احْتَرَبْنا، واقتربْنا، واحتبَبْنا، وسَرَت كهرباءَ ودٍّ في الخافقيْن. وفي آخر القرن انتَصَبْنا مُقابِليْن: لا شيء في الماضي شفع، ولا في جعبة الشعر ورسائل القلب النّديّة ما نفع»[45]. مسافة سطرين على سطح أبيض لخّص قصة حب نشأ، فكان التقارب ثم الفراق؛ فراق لم يحُلْ دونه دفء العينين، ولا لونهما منَع التباعد، ولا نهاه عن القول: «أنا لا أعاني الشعورَ بالخطيئة من ذبول عيْنَيْن تقولان ما تحملان من الحقيقة، لكنّي شقيّ من رؤية زهرة تتحلّل ورَيْقاتها، من عطش، في قلب اخضرار الحديقة»[46].

يحدث الصّدع والشقاق ثم الفراق، لكن يتأخر أن يسبر غوْرَ جرحها ولا دلالات نظراتها التي «مع الوقت، [يكتشف] أن ألوان [عينيها]تتبدّل مع الفصول، كما يتبدّل [مزاجها] بين الجبال وبين السهول»[47]. كم هو صعب عليك، أيّها القلب الوَالِه، حين تمتهن الحرفة الواحدة: «لا مهنة للقلب غير الحب»[48]؛ صالِح قلبك بشعر أو فكر، لاطِفه بنغم أو رقص، وحُلّ معادلَة: وما القلب إلا للحبيب الأول... الكلوم تبرأُ لكن الآثار تنغرس في كل المفاصل والتفاصيل، وتعبر حدود الوعي عبر الشرايين والشعيرات.

امتلأ القلب الذي مهنته الحبّ حتى رشح ضغطاً: أحبّ بلقزيز الأمهات الثلاث، وأحبّ الحبيبة التي لا زال طيفُها بالبيت، وأحبّ مَن عبرْنَ تُرَع القلب من الزائرات؛ وضاق الصدر بِتِيه من المعاني وهي كُثْر، حلّ لغزَ بعضِها واستشكل حلّ أخرى؛ واختنق الصدر بدخان سيجارة يطارده ما انطفأت جذوتها. و«في القلب منطقة عازلة، لا سلاح فيها تَمتَشِق؛ لا حبّ، ولا كره، ولا عاطفة من العواطف»[49].

لخّص مراحل عمره هكذا: «كان لي في صِبايَ ما أخاف عليه؛ عقابٌ يؤلمني، أو غيابٌ يوجِعني، أو خوفٌ يسكن الفؤاد ويؤجِّل الشجاعة إلى ما بعد موعدها. كان لي في شبابي ما أعضُّ الجمرَ عليه؛ مدينة فاضلة يسكنها العشّاق، وتُتلى ألواح شرائعها من قلوبٍ تودّع حَيْفَ الناس على الناس، وتقتلع الصراع إلى الأبد. أما الآن فلا أخشى من الأشياء غيرَ ذاكرةٍ تتملّص مني، وتودِعُني لرياح المتاهة تشرِّدني عنّي، وتحوّل بقايا الأول فيَّ إلى الأبد»[50]. يقطع كل هذه الأشواط من العمر، وقد أنْهَك الجسد وأعياه توعُّكات، وأخرى ورِثَها وهو ما يدافِعُه اليومَ؛ طنينٌ في الأذنين، وانسدادُ شرايين من دخان، أو بياضٌ يتهدّد المقلتيْن، «لي من بصمات أهلي في دميَ الكثيرُ، ولإخوتي منها ما لكلِّ مَن يرثُ الجينات من السلالة. لي ضغطيَ الدموي، وضِيقُ التّنَفُّس، والنُّقرُسُ، والغضبً السريع، والقليل من التقيةِ، والنُّفور من القطيع»[51]. لكنّه لو خُيِّرَ في العودة إلى الماضي، أو أُعيد إليْه؛ وتلك رغبة لديه كائنة امتنعت مع امتناع العوْدِ؛ لكان ما أرسل: «لو كان لي أن أعود إلى الماضي لقدّمْت اعتذاري لي على ما فعلت بنفسي: ما أدْرَرت من وقت لأقرأ العالم في فنجان نصّ مقفل؛ ما أدمنت من خوف لأشعر أني حي، وأنّ الموت مؤجّل؛ ما عبدت من الآلهة ليكون لي من اليقين ما يفوق المحصَّل؛ ما أحببت من النساء واستبدلت في البحث الرتيب عن الأجمل»[52].

 إحداثيات المكان بين النص والاستذكار

تُحيلك علاقة العنوان بالنص إلى العلاقة القائمة بين المبتدإ والخبر. العنوان مبتدأ والمتْنُ خبره. وإنْ كان المبتدأ يمتطي صهوة الكلام، فما عليك إلاّ أن تُسرِج فرسَك وتنْضمَّ لِسُرْبة الفرسان، وهم يتنافسون في صُنع الكلام. سُربة قِوامها الحروف الأبجدية؛ تصطفُّ زاهية لقطع المسافة بين المبتدإ والخبر؛ وكلما تبادلت المواقع في النصّ تغيّر المعنى، وازْدانت بها المتعة، وارتفعت هامات الفرسان وهم يقطعون المضمار.

بدءاً من العنوان، يضع بلقزيز ملامح المكان الذي سيكون فضاءً لنصّه: الصهوة والكلام والراكبُ متْنَهما؛ ثلاثة عناصر كلها حركة ودينامية. لا يليق أن تَرْكن في مكان واحد وتُحبَس فيه، خاصة وأن كل عنصر منها يستدعي أحداثاً ووقائع. سأحاول في هذه الفقرة، أن أحدّد إحداثيات المكان الذي يترنّح النص بين مضاربه؛ إذ للمكان في النصوص الإبداعية قيمة جمالية تتجاوز المجال الجغرافي والحدود الطبوغرافية؛ يتخطّى المكان الواقعي القائم والذي كانَهُ زمن الانتقاش بالذاكرة، إلى ما هو تاريخي وثقافي وتخيُّلي.

يبدأ المكان، في نص «على صهوة الكلام»، في الارتسام، منذ اللحظة الأولى التي خطرت خاطرة فكرة الكتابة. وهو في النص فضاءان:

الفضاء الأول: فضاء ارتسمت معالمه الأولى وهو يتقلّب في المخاض بمُخ صاحبه بين المادة الرمادية ومنعطفات الذاكرة؛ ثم تنْتصِب معالم هذا الفضاء وتبْرُزُ على ورق التسويد حين يتأسطر. ترتفع أرقام إحداثياتِه بقلم الحبر الجرماني الذي لا يجد عنه صاحبه مَحيداً لكتابة الكلمات ورصِّ اللّبِنات. يسترسل في الكتابة، ثم يتوقف عندما تشِحُّ عليه الذاكرة؛ أو يراوغ لمّا يتعذّر البوح، ساعة ما تكون «في الذاكرة فوضى تزدحم بالفوضى، وخطوط من ذهاب وإياب تتشابك في نسيج عبثي لا يعقله أحد»[53]. هي الخطوط الأولى للمكان قبل أن يُرْقن النص على الآلة. ينتقل النص إلى فضاء الآلة، وإن صاحبه من الجيل الورقي، فيُمَدَّد في المكان ويُقلَّص، ويصير النص في حلّة قشيبة كما تصوّرها صاحبه، أو مَن أوكِلَ له تفويض المشاهدة الجمالية؛ لحظتها يصبح النص مؤهّلاً للإبحار في العوالم الافتراضية والفضاء الأزرق. لكن، يُفضّل بلقزيز أن يُقْبِره في كتاب. مكان آخر يجد فيه النص قراراً، وهو شكل ثان يتمظهر فيه المكان؛ يحتل موقعاً على صفحات متوسطة الحجم، تميل إلى نعومة صفراء لا تُؤْذي البصر، ولعل اختيار الشكل هنا يكون بالاتفاق مع ناشره إن صحَّ الظّنّ.

يُجمَع النص، ويُحْصرُ بين دَفّتين. تحمل الأولى عنوان النص كعنوان البيت في أعلى الباب ويعلوه اسم صاحبه. صفحة هذه الدَّفّة تميل إلى الأزرق الشاحب المضمّخ بالرمادي المنبعث من غيوم المتن. وفي أسفلها أبجدية تغلي كغلي المِرْجل، يتطاير لَظاها ليرسم العنوان بالأحمر. والحُسنُ أحمرُ، هكذا قالت العرب. تُقلِّب الدّفة لتَلِج فضاء النص الداخلي. في الصفحة الأولى، تُطالعني، مع المودة، وقد وقعها بلقزيز على رأس الورقة؛ وهو على صهوة الكلام يسافرُ بك حتى تبلغ آخر المضمار، معه، من الكتاب / (الصفحة 189)؛ عندها تجد إشارة أخرى إلى المكان.

الفضاء الثاني: ترتسم حدوده بين الرباط وبيروت؛ هو ذاك المكان الذي اختاره بلقزيز. مكان يعرفه ويتماهى معه، يسكن المكانَ والمكانُ يسكنه؛ ويعُدّه سبيلاً أوْحد يُسعِف على التذكّر؛ «لا سبيل إلى التذكّر إلاّ باشتمام المكان، تبتعد عن المكان ولا يبتعد منك، هل أنت من تسكنه وترحل أم هو من يسكنك وإن ترحل؟ كظلّك يتبعك، أنى تكن، وإن هجرته لم يهجرْك. تخون ولا يخون، تحسه جغرافياً وهو تاريخ وسيرة ولسان»[54].

يبدأ المكان صغيراً ثم يأخذ في النمو والنماء والازدحام بالرموز والإحالات، يكبر مع أهله وذويه، وتشكله العلاقات الإنسانية والذاكرة البصرية التي تنشَدّ إلى اللامرئي، التي ترسخ في ذهن المرء وهو ينمو ويكبر. يكبر وكلما تقدّم في السن تتسع رقعة المكان عنده. يجنح المكان، عند بلقزيز، عن رحلتَيِ الرباط وبيروت الخطية فيتنكّر للحدود. ويرتمي في أحضان البحر المتوسط، يعتصر الذاكرة المكان بعدما ادلهمَّ الليل البهيم، يحاول الاستنارة بمنارات ضفاف هذا البحر، أمسك على ذات ألواح ودُسُر، يتعقب قراصنة المعنى والفكر من شطّ لآخر، ومن مَدَنية لأخرى. يقدم من هذه الأمكنة / المنارات للقارئ المشارب التي نهل منها وشكّلت فكره. أو قل، يتعقب خطى معلّميه الذين تلقى عنهم، في الربع الخالي أو بلاد الرافدين، في بلاد فنيقيا أو الإغريق، في أرض الفراعنة والروم، أو بلاد الغال والفردوس المفقود. فهو «في أثينا [يـ]بحث عن طريق المعلّم، مثلما [بحث] عن قبر حفيده في قرطبة»[55]، أو يتحسّس أصول جذوره التي بها ينطق، «في أثينا جذورك الأولى، كما في عصر «الجاهلية»»[56]. وإذ يستعرض هذه المواقع فلأنه منبهر بمن صنع الحضارة الإنسانية، وبدر فيها اللمسة البهية، «في باريس من الجمال العادل ما يُوزِّع الأقساط بالإقساط، لمن تذوق ألوان طيفِها وتبطّن رائحتَها كما يتبطّن الصورةَ الشاعرُ»[57]. ويحضره واجب تحية هؤلاء البناة الذين خلقوا الدهشة، وخلّدوا ما يأخذ بعقول البشر، «أحيّي روما على مجد خلّدته الحجارة»[58]، و«ما خط «ساحة إسبانيا» إلاّ من له الجدارة في صناعة الدهشة، مثلما صنعت أثينا دهشة السؤال في الزمن القديم»[59]. وفي كل هذا التّقَلُّب بين الضفاف والأمكنة، يراوغ الحنين إلى الماضي ويراجعه بحثاً عن التوازن والتماسك، يسجّل ولهه وعشقه لمراكش وفاس، وإن قرّ قراره بالرباط، «ففي بيروت صورة تتبع[ه] كالظلّ...لم [يـ]عقد مع المدينة ميثاقا لأن[ه] [يـ]رتاب كثيراً في وعود[ه]، ...بيروت حدود[ه]، حين تمر حدود[ه] بين مراكش والحجاز؛ وبيروت صبية غجرية تعبث ب[ه] حين [يـ]سلمها سلطة الكلام بالمجاز»[60].

ويظل بلقزيز «مقيم [اً] في مكان المكان؛ كما اللغة تقيم بين أصابع شاعر، أو يشيّد خصبها عبق من اللسان»[61]؛ لا يبرح أماكنه وقد حوّلها، من مجرّد خلْفية تقع عليها الأحداث أو تتحرك عليها وعبرها الشخصيات، إلى عنصر انضاف إلى الزمان ليشكّل بعداً جمالياً أكسب النص فسيفساء بديعة أطّرت مادته الحكائية ونظّم الأحداث. هو ذا المكان في نصوص بلقزيز، يتخذ دلالات تاريخية وسياسية وفكرية وفنية وجمالية، وتكبر قيمته داخل النص من خلال العلاقة التي تربطه بصاحب النص، إذ يتبادلان التأثُّر والتأثير في علاقة تشابكية، فلا هذا ينفصل عن هذا، ولا ذاك بمنفصل عن هذا. ويستحقُّ المكان في نصوص بلقزيز الثلاثة مقالة خاصة.

تيه المعنى في موسيقا النص

ذكرْتُ أن بلقزيز في نصوصه الثلاثة عموماً، وفي نصه «على صهوة الكلام» خصوصاً، يأخذك معه في رحلة ماتعة، تنتشي فيها بالكلمة العذبة والتركيب الرفيع. فإذا ما تساوَقَ ذوقُك مع ذوقِه، وكنت ممن يلهجون خلف الكلمة والمعنى، فإنك لا تحسّ المسافة التي تقطعها، حتى يُقال لك الخاتمة، توقف. يحكي لك عن حياته دونما تفصيل، لكنه يفْصِل بين حدث وآخر بفقرات قيعانُها مروج خُضْرٌ مزهرة. يتخلل هذه الفقرات والمقاطع عُرْمة من المعاني تؤثث فضاء النص وتكسيه حلّة قشيبة، تجعلك تفكر في المعنى أكثر مما تفكر في ترتيب حكايا السارد عبر الزمن. لا يُسلِمُك معنى إلا ليرميك في أحضان آخر. في المعنى، تكلّم في الغياب والخيال، في الكتابة واللغة، في الحب والجمال، في التاريخ والسياسة، في الموسيقا، وفي قضية القضايا فلسطين، وفي أشياء أخرى عفوْتُ عنها أو لم ينتبه لها بال.

يبدؤك القولَ عن الخيال، «ما أبهى الخيال حيث يعلو على درج البعيد، ويعرف طريق العودة من معراجه إلى الحقيقة»[62] التي عدها نسبية في تمظهُرِها إذ أنّك «تعلم ما تعلم اليوم بيُسْر، ويعسُر عليك كثير مجهول»[63]. فلعل الخيال من يجعل المرءَ يطلُّ على المستور والمكنون، وينزل به من العوالم البعيدة إذ «للخيال جناحان، والمدى اللانهائي ملعبُه ومضرب خيامه والمقصد، وللواقع ما ترسل الشمس من جدائلها على الرمال»[64]. يُرجِع البصر ويصوِّبه عبر عدسةِ مجهرٍ بعيدِ الرؤية، يبحث عن الخيال خوفاً من أن تنْقَحِط تربته وتصفرَّ سنابله فتعتل النفس باعتلاله؛ يتمهّل قليلاً بعدها قال: «بحثت عن الخيال في خيالي؛ لم أجد ما يكفي من شارات المرور لأمضي في الشظايا حتى آخر السبيل»[65]. ربما هو السبيل إلى الواقع، واقع يتزيّنُ بالصهباء المعتقة أو السوائل المخلَّلة منذ كانت طعاماً للأنبياء والعارفين. بحث «عن الخيال في الواقع، فوجد[ه] أمامـ[ه] ماثلاٌ في نثر الطبيعة والجمال. بين الواقع والخيال ألف مودّة حين يلتقيان على ورق، أو يندسّان في هدأة قيلولة مطولة. توأمان هما في الخاطر حين تنهار الحدود بين الصخر والسنبلة»[66]. ما وسّع الكون، ولا فسح فيه إلا الخيال. كما ما انتجع القوم إلا بعدما أجدبوا. عندها يروح الخيال يشيِّد كونه في مملكة البياض الحرّ؛ «حِبرها وعرشها وسادن المقامات والجمر. الخيال خمر تعتّق في جِرار الدهشة كالجمرة تحت رماد البركان»[67].

سأل بلقزيز المرحوم محمد درويش لمَاَّ عاد إلى فلسطين: كيف وجدت فلسطين؟ ردَّ محمود: فلسطين من بعيد أبهى، هي الفكرة، وليست المكان الحي الذي نراه.

معنى يفوق المعاني ك على صهوة الكلام، ص لَّها حين تكون فلسطينُ «شمعة في قلب اليافع انطفأت، ودمعة سُفحت على شال كوفية على المنكبين مُسْدله»[68] أو تكون قِبْلتَه وقُبْلتَه وخَيْلَه «أنتِ خيلي وركائبي وزاد الرحلة، وأنتِ سيْلي حين يتقحَّل داخلي من قَحطِ ما يُحوِّمُ حولي»[69]. زهرة المدائن هي، ومهرة سليلة أفراس حرة أصيلة؛ بكى أبو البقاء أخواتها وما أجدى بكاؤه؛ ويناديها بلقزيز متوسّلاً بها «يا ابنة شام وأندلس لا تمضي إلى غدك وحدك، فليس لك بدٌّ من أهلك، وإن تفرّقت بهم طُرُق، وتكسّر سيف الفروسية فيهم، واتسع الخرق على الشعر، واستطال الزمان. يوماً ما سيكتُبُك غيرنا واقفين مثل سَرْوٍ على ترابكِ، يرمي بالجذور في قاع الأرض، ويرسِل في المدى آيات العنفُوان»[70]. قضية القضايا العربية، وليس للعرب غيرها قضية «نقولُكِ باللسان، وفي الغِمد سيفٌ يصدأ من رقدته الطويلة، وفي الفرائص قُشَعْريرة من الخوف وفيض من هوان»[71]. ليس للعرب قضية غير فلسطين. استبشروا خيراً بربيع يُغيِّر ملامح الخريطة، وكانت المعالم قد خطّت من مرصد يُسيِّرُ المُزْن حيث شاء وكيف شاء؛ فتهتزُّ الأرضُ وترتجُّ، ويُخلق العُجبُ والعَجَب من بلاد «تبحث عن حرّيتها في الفناء، وتسلم رقابها إلى الخوارج، وترمي بتعاليم الله في الحطب!»[72]. إنه ربيع لا ربيع فيه: العماءُ والتيهُ والخواءُ والخرابُ؛ وحربٌ لا تبقي ولا تدر، ومدنٌ تخرُّ مُنْصاعةً، لا ترى شيئاً فيها، غير الاصفرار ومعالم الأجداد قد دُكّت، وحرائق في المنقوش والمكتوب شبَّت.

«هزائمنا مغانمنا، ونصرنا نسلِّفه لغيرنا لئلا يخدعنا فنألف الوقوف! مَن لنا غيرُ التواضع سجيةً أو جِبلّةً أو صهوة للتفسّح في داخلنا. ما أحدٌ يشبهنا في الطباع وحبِّ السلام، واقتناء الضياع، وإدمان الرَّيْع: في الطبيعة والحب، وعشق المتاع السهل»[73].

 ***

محمد رزيق مبارك

الدار البيضاء: 29 نيسان 2025

.......................................

[1] عبد الإله بلقزيز، على صهوة الكلام. منتدى المعارف، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016.

[2] عبد الإله بلقزيز، على صهوة الكلام. ص 9.

[3] على صهوة الكلام، ص 10.

[4] على صهوة الكلام، ص 14.

[5] على صهوة الكلام، ص 28.

[6] على صهوة الكلام، ص 19.

[7] على صهوة الكلام، ص 117.

[8] على صهوة الكلام، ص 117.

[9] على صهوة الكلام، ص 17.

[10] على صهوة الكلام، ص 31.

[11] على صهوة الكلام، ص 154.

[12] رائحة المكان (2012)، ليليات (2014)، على صهوة الكلام (2016).

[13] على صهوة الكلام، ص 32.

[14] على صهوة الكلام، ص 27.

[15] على صهوة الكلام، ص 118.

[16] على صهوة الكلام، ص 44.

[17] على صهوة الكلام، ص 113.

[18] على صهوة الكلام، ص 162.

[19] محمود درويش، لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي. (بيروت: دار رياض الريس للنشر، 2009)، ص 25.

[20] على صهوة الكلام، ص 102.

[21] على صهوة الكلام، ص 5.

[22] انظر: https://www.nizwa.com بول شاوول، «الشاعر لا يصنع تاريخ المرأة وإنما هي تصنع الشاعر» (1 أبريل 2014)

[23] على صهوة الكلام، ص 67.

[24] على صهوة الكلام، ص 131.

[25] على صهوة الكلام، ص 139.

[26] على صهوة الكلام، ص 30.

[27] على صهوة الكلام، ص 140.

[28] على صهوة الكلام، ص 126.

[29] على صهوة الكلام، ص 126.

[30] على صهوة الكلام، ص 131.

[31] علة صهوة الكلام، ص 127/128.

[32] على صهوة الكلام، ص 123.

[33] على صهوة الكلام، ص 123.

[34] على صهوة الكلام، ص 128.

[35] على صهوة الكلام، ص 129.

[36] على صهوة الكلام، ص 130.

[37] على صهوة الكلام، ص 130/131.

[38] على صهوة الكلام، ص 132.

[39] على صهوة الكلام، ص 131.

[40] على صهوة الكلام، ص 172.

[41] على صهوة الكلام، ص 149.

[42] على صهوة الكلام، ص 150.

[43] على صهوة الكلام، ص 151.

[44] على صهوة الكلام، ص 150.

[45] على صهوة الكلام، ص 67.

[46] على صهوة الكلام، ص 68.

[47] على صهوة الكلام، ص 152.

[48] على صهوة الكلام، ص 62.

[49] على صهوة الكلام، ص 144.

[50] على صهوة الكلام، ص 142.

[51] على صهوة الكلام، ص 46.

[52] على صهوة الكلام، ص 94.

[53] على صهوة الكلام، ص 139.

[54] على صهوة الكلام، ص 99/100.

[55] على صهوة الكلام، ص 159.

[56] على صهوة الكلام، ص 159.

[57] على صهوة الكلام، ص 158.

[58] على صهوة الكلام، ص 159.

[59] على صهوة الكلام، ص 159.

[60] على صهوة الكلام، ص 156.

[61] على صهوة الكلام، ص 177/178.

[62] على صهوة الكلام، ص 107.

[63] على صهوة الكلام، ص 162.

[64] على صهوة الكلام، ص 110.

[65] على صهوة الكلام، ص 112.

[66] على صهوة الكلام، ص 112.

[67] على صهوة الكلام، ص 32.

[68] على صهوة الكلام، ص 132.

[69] على صهوة الكلام، ص 133.

[70] على صهوة الكلام، ص 134.

[71] على صهوة الكلام، ص 134.

[72] على صهوة الكلام، ص 155.

[73] على صهوة الكلام، ص 143.

 

منذ لحظة تذوق الإنسان للمعرفة، لم يعد كما كان. كتب آرثر ميلر عبارة تلخص هذا التحول العميق: "لا يمكن إعادة التفاحة إلى شجرة المعرفة؛ فعندما نبدأ في الرؤية، نُصبح محكومين ومُطالبين بأن نجد القوة لنرى أكثر، لا أقل."

يشير ميلر في قوله هذا إلى شجرة الحكمة في سفر التكوين في العهد القديم. عندما أكل آدم وحواء الفاكهة الممنوعة، حصلا على الحكمة والمعرفة بالخير والشر، وخسرا موقعهما في الجنة. للقصة جوانب عديدة، وأحدها أن الإدراك يغيرنا بلا عودة. متى رُفع الغطاء عن جهلنا، نفقد براءتنا ونصبح جشعين نريد المزيد. سأحاول هنا أخذ قول ميلر هذا وإسقاطه على تطورنا وإدراكنا العلمي والفلسفي المتسارع. التفاحة في العهد القديم هي التلسكوب اليوم، هي الميكروسكوب والخوارزميات والنظريات الفلسفية. والمعرفة المتأتية منها تغيّر أنفسنا ومجتمعاتنا بشكل سريع ومخيف في الوقت ذاته. والسؤال هنا: هل تؤدي المعرفة إلى ضياع الإنسان أم إلى تحرّره؟

عندما نظر غاليليو بمنظاره إلى السماء وقدم أدلة تجريبية على أن الأرض تدور حول الشمس، لم يغير وجه علم الفلك فحسب، بل غيّر أيضًا رؤيتنا للعالم وموقعنا فيه. بهذا الاكتشاف، تحدّى غاليليو الكنيسة ومن في السلطة. لقد كشف عن حقيقة مُرّة آنذاك للجميع: لسنا نحن مركز الكون، بل نحن جزء لا يتجزأ منه، لكنه لا يدور حولنا. إدراك هذه الحقيقة أضاف للعلم لمسة من التحدي وأشعل التفكير النقدي، لكنه في الوقت ذاته أنتج حالة من الخوف والنكران والتساؤل حول معنى الحياة والوجود. ومن غاليليو إلى اليوم، يكاد لا يمر يوم لا نرى فيه مقالات تتحدث عن الذكاء الاصطناعي ومستقبله وحدود تطوره. كثير من هذه المقالات تطرح مخاوف ووقائع حقيقية حول مدى تأثيره على حياتنا وتفكيرنا. إذاً، فمنذ الثورة العلمية، لم تعد المعرفة مجرد معلومات نتشرّبها، بل أصبحت عدسة ننظر من خلالها إلى أنفسنا وكل ما يحيط بنا.

ولكن، ماذا نرى من خلال هذه العدسة؟ للإجابة عن هذا السؤال، نعود إلى قول ميلر، حيث ذكر أننا نصبح "محكومين" لنرى أكثر. رؤية "الأكثر" هي كل الأشياء الجديدة التي تترتب على ما اكتشفناه. غالبًا ما تتحدى هذه الأشياء ثوابت وأعرافًا متجذّرة فينا وفي مجتمعاتنا. وهذا يجعلنا نُسائل أنفسنا حول صحة هذه الثوابت وموقعها في العالم الجديد. غالبًا ما يرافق هذه الأسئلة نزق وجودي، وقد يؤدي ذلك إلى الخوف والقلق، وأحيانًا إلى التمرد على الواقع الذي كان الفرد يعيشه، وعلى الأفكار القديمة. وهذا ما قد يؤدي إلى السقوط في فخ العدمية. وهكذا، كان لكل اكتشاف عظيم أثر مضاعف: توسيع حدود المعرفة، وتوسيع رقعة القلق الوجودي. فحسب فلسفة فريدريك نيتشه، عندما تنهار البديهيات والقيم القديمة، يفقد الإنسان مرجعيته ويتحول الوعي إلى عبء وجودي. ومن هنا، دعا نيتشه إلى مواجهة العدمية من خلال الإرادة القوية وخلق قيم جديدة.

لكن ليس الجميع يرى في المعرفة المتزايدة لعنة أو عبئًا وجوديًا. فعلى النقيض من العدمية النيتشوية، نجد في أقوال علماء كريتشارد فاينمان وكارل ساغان موقفًا مختلفًا جذريًا؛ موقفًا يرى في الجهل نفسه جمالًا. يقول فاينمان: "من الأفضل أن نعيش بلا معرفة، على أن نخدع أنفسنا بأننا نعرف." وساغان بدوره احتفى بحقيقة أن الكون لا يمنحنا أجوبة سهلة، بل يدعونا باستمرار إلى السؤال. هذا الموقف لا يتجاهل التيه، بل يحتضنه كتجربة إنسانية نبيلة. وهكذا، حيث يرى نيتشه في سقوط اليقين بداية أزمة معنى، يرى هؤلاء العلماء في هذا السقوط فرصة لبداية حقيقية: لا نحتاج إلى أوهام كي نصمد، بل نحتاج إلى شجاعة السؤال، إلى ما سماه ميلر "القوة لنرى أكثر". وكأن المعرفة ليست ما يقودنا إلى العدم، بل ما يساعدنا على تجاوزه، حين نقبلها كرحلة، لا كملاذ. بذلك، يصبح التساؤل المستمر هو ما ينقذنا من العدمية، وليس ما يوقعنا فيها.

إذاً، فالمعرفة والإدراك المتناميان يفرضان صراعًا حتميًا بين الخوف من المعرفة والاحتفاء بالشك. إننا، في النهاية، مثل آدم وحواء، لا نملك ترف الجهل بعد أن تذوقنا المعرفة، لكننا نملك ترف اختيار كيف نتعامل مع هذا الإدراك والأزمات المترتبة عليه: بالخوف أم بالمواجهة.

***

فضل فقيه – باحث

........................

قراءات اضافية:

Nietzsche, F. Thus Spoke Zarathustra. 1884.

Feynman, R. P. The Pleasure of Finding Things Out. (Perseus Books, 1999).

بعد يوم حافل بالأحداث المهمة، والأفعال الطيبة منها والآثِمة، تحاول أن تَشغل نفسك قبل النوم بكل الوسائل التي جادت بها التكنولوجيا؛ لكنك تشكو في الغالب من نفس الإحساس الذي انتاب ديكتاتور محمود درويش في إحدى خطبه الموزونة:

ضجَر..

ضجَر..

ألا تشعرون ببعض الضجر؟

 ثم تعبث أصابعك بالهاتف الذكي، فتشعر أنْ لا شيء من هذه التطبيقات المألوفة يُسلِّي وحدَتك! ويجُول بصرُكَ في أنحاء الغرفة، فيقع على كائن لطيف تركتَه يوما على مقاعد الدراسة أو خلف أسوار الجامعة. تُقلب أوراقَه بحسرة:

آه.. ما أجمل تلك الأيام!

كانت القراءة طقسَك اليومي، ونافذةً مُشرعَة على الأماني والأحلام.  لمّا يلفَحُكَ الواقع بشمسه وغباره، تُسرع إلى الكتاب لتنعَم بظله، وتحظى بين دفتيه بالنشوة والسكينة!

 وعندما تتذكر ما قاله "ليون" في رائعة (مدام بوفاري) للروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:" هل هناك شيء في العالم أفضل من الجلوس بجوار مِدفأة برُفقةِ كتاب؟"، تقررُ العودة، لكن شيئا ما يعترض سبيلَك ويهمس في أذنك: لا يكفي أن تُمرِّرَ العقل والعين بحرص على السطور، فللقراءة أسرارُها التي تحقق لك المتعة والفائدة، وبهجة الانفعال. إذن لا بد من كشفها والتنقيب عنها في رفوف مكتبتك التي علاها الغُبار!

حين تقف أمام عشرات، وربما مئات، العناوين والأغلفة الزاهية والمثيرة، ينكشف السر الأول: إن عناوين الكتب مثل أسماء الناس، يقول أورهان باموق، الأديب التركي الحائز على جائزة نوبل عام 2006، فهي تساعدنا على تمييز الكتاب من بين مليون كتاب آخر يشبهه. لكن أغلفة الكتب مثل وجوه الناس: إما أنها تُذكرنا بسعادة عرفناها ذات يوم، أو أنها تَعِدُ بعالم مبارك مازال أمامنا أن نستكشفه.

وما إنْ تُلامسْ أناملُكَ غلافَ كتابٍ قرأتَه قبل سنوات، حتى تعود بك الذاكرة إلى يوم بعيد، تكورتَ فيه على مقعد الحديقة أو في أحد أركان الغرفة لتَلِجَ عوالمه المُخبأة، عندها ينكشف لك سر ثان مفادُه: بعض الكتب لا تشعر بدفئها إلا بعد قراءة ثانية وثالثة، فما يعنيك ليس هو المحتوى بل تلك الهندسة الخفية التي تنقلك من انفعال إلى آخر لتستعيد أشواق الطفولة، وشغب المراهقة وتلصُّصَها على عوالم الكبار. فَتقلب الصفحات بلهفة بحثا عن فقرة أرّخت لبعض أحلامك، وأخرى ارتطمت بها أمانيك لتتناثرَ هجرةً، وفراقاً، أو مغامرةً يائسة.

دعني أخبرك عن سر ثالث تغذي به القراءة بساطتنا في عالم شديد التعقيد، وضُعفَنا أمام تقلبات الحياة. إنه التعويض عما نلاقيه في الواقع من خيبة وعوائق. لقد كان العقاد في مرضه الشديد الذي ألمَّ به، تتجه يداه إلى نوعين من الكتب بينهما اختلاف واضح في الموضوع، النوع الأول تغلب عليه النزعة الجسدية والمُتَع المادية. والثاني يهتم بالبحث عما وراء الطبيعة، وسبرِ حقائق الروح وعالم الغيب. إلا أن الصلة التي تجمع بينهما هي التعويض النفسي: تعويض الكادح والمتعب في عالم الخيال بما لا يجده في عالم الواقع!

ولا شك أنك مثلي، لَقَّنوك في المدارس أن قراءة الكتب العظيمة تتم من أجل الفائدة لا المتعة. لم يرغبوا أن نكون قُراء، بل جرى تكييفنا لنخدُم من هم أقل حظا منا. وحين جرت مياه كثيرة تحت الجسر تَنبَّهنا إلى أن القراءة فعل اتصال بعالم متحرك لا يهدأ.  لذا تمتع دون أن تصدق كل ما تقرأ؛ ذاك هو السر الرابع المبثوث بدهاء في ثنايا آلاف الكتب، فحين تستعيد هِمَّتك القرائية تنمو في وعيك قناعاتٌ متضاربة، وآراء ومقولات متباينة، غيرَ أن حرصك على مواصلة القراءة يعزز قدرتك على الاختراق بدل العيش في خط مواز للسائد والمألوف. إن ثمة ثلاثة أنواع من القراء، يقول الأديب الألماني وُلفغانغ فون غوته في رسالته إلى يوهان روشيلتز: "النوع الأول يستمتع دون تقييم؛ والثالث يُقيم دون استمتاع؛ النوع الآخر في الوسط، يُقَيم اثناء الاستمتاع ويستمتع أثناء التقييم. الفئة الأخيرة تعيد حقا إنتاج عمل من الفن بشكل جديد." وبتعبير آخر لألبرتو مانغويل في (فن القراءة): "القارئ المثالي يُدمر النص، القارئ المثالي لا يأخذ كلمات الكاتب كحقيقة مُسلَّم بها!"

وعندما تنهمك في القراءة يزداد فهمك للنصوص وقدرتك على سبر أغوارها. وهنا تمنحك القراءة سرها الخامس: جرِّب أن تتذوق.. جرِّب تلك اللذة المتولدة عن فهم اللغة والمحتوى، ثم العمق الذي يكشف لك نفسية الكاتب، ومحيطه الاجتماعي والثقافي. بل إن بعضَ النصوص تأخذك إلى حدود الأعماق اللاشعورية، تماما كما فعل فرويد في تعامله مع نصوص أدبية كقصة ( جراديفا) لِجِنْسِن، وحكايات أوديب وهاملت والإخوة كارامازوف، حيث جعل منها مرجعيات جوهرية لأهم مقولاته وجهوده الخاصة بالتحليل النفسي. القراءة اكتشاف!

 من زاوية أخرى تعرض عليك القراءة آلاف الشخصيات التقية والآثمة لتُجردك من كبريائك. وذاك هو سرُها الآخَر وليس الأخير: أن تصبح إنسانا أفضل، لأن سحر القراءة يكمن في تحويل المعرفة والنصوص المتراكمة إلى تجربة، ثم إلى هوية شديدة التداخل مع شغفك اللاحق بالكتب.

عادة ما يكون الطيبون سببا في بلوغك هذه المرتبة. تقول دونالين ميللر في دليلها المميز (الهامسون بالكتب):" كانت أمي هي عالمي، وهي التي أدخلت القراءة إلى هذا العالم. وعندما أسترجع كيف قضيت طفولتي منكبة على قراءة الكتب على الدوام، أتساءل أحيانا إن كانت أمي قد ندمت على أنها حفزتني على القراءة في هذه السن المبكرة!"

في محيط يبدو فيه القارئ إنسانا غير اعتيادي، يُداهمك صدى بعض هذه الكلمات: لا تحتاج أن تقرأ مكتبة بكاملها، يكفيك الانتفاع بقدر من التوازن المناسب بين المعرفة والجهل! لكن حين تصبح شخصيتك مزيجا من آلاف الشخصيات المبثوثة في كتب أحببتها، تدرك أن من العسير عليك حقا قضاء حياتك مع شخص لا يقرأ!

***

حميد بن خيبش

اعتقدت حنة ارندت ان فلسفة القرن العشرين أصبحت سلبية جدا وتجريدية. هي دعت الى "تفكير نشط" يعدّنا لنعيش في العالم الواقعي. في عام 1964، أجرى الصحفي الالماني غونتر جاوس Gunter Gaus مقابلة مع حنة ارندت بدأها بالسؤال حول تجربتها في كونها امرأة فيلسوفة في مهنة لاتزال على الأغلب يسيطر عليها الرجال. لكن ارندت أخرجته عن مساره فورا. هي رفضت بهدوء ولكن بحزم قائلة انها لم تكن فيلسوفة ابدا، وانها لا تنتمي لدائرة الفلاسفة. الصحفي جاوس كان في حيرة واضحة لكنه استمر بإلإلحاح. بعد ذلك، توجهت ارندت لدراسة الفكر الفلسفي الالماني. هي درست مباشرة تحت اشراف مارتن هايدجر وكارل جاسبير، العقلان الشاهقان في القرن العشرين. هي ألّفت أعمالا مشهورة مثل (أصل الشمولية) و (الوضع البشري)، كُتب تنبض بالطاقة الفكرية لسقراط وكانط وهيجل وهسرل.

لماذا مفكرة متجذرة بعمق في هذا المجال الفكري تتبرأ منه رغم ان العديد يعتقدون انها فيلسوفة، وبدلا من ذلك هي تسمي نفسها منظّرة سياسية؟ هي صمدت في موقفها وأعلنت بشكل لا لبس فيه : "انا قلت وداعا للفلسفة مرة واحدة والى الأبد".

نحن ندرك حقيقة ان تمرّد حنة ضد اللقب لم يؤثر كثيرا في الطريقة التي يتم تذكّرها بها. هي لا تزال تُسمى فيلسوفة شاءت ام أبت. ولكن كلما ذهبنا عميقا في تضاريسها الفكرية كلما أصبح هذا الرفض مفتاحا لكشف اسلوب تفكيرها غير المعتاد. لم يكن الامر حذلقة حول الأصناف الاكاديمية. انه موقف في العالم، وصفْ للحياة تدور حوله كامل فلسفتها. قصة ارندت وحياتها الذهنية، كما سنرى، أثارت تحقيقا عاجلا: ماهو التفكير، ما الغاية منه، ماذا يعني الانخراط الحقيقي فيه، وماذا يجب ان يجرؤ عليه التفكير النقدي؟

لكي نفهم حقا طريقة ارندت في التفكير، يجب علينا ان نتتبعها ليس فقط من خلال الافكار وانما من خلال الأحداث الشخصية والتاريخية. تفكيرها لم يتكشف في عقم وصمت دراسة الفيلسوف. انها تحركت من خلال النفي، الأزمات، الانهيارات. هذا يلمّح الى نوع من التفكير الذي يرفض ان يطفوا فوق العالم. تحوّل ارندت لم ينطلق بفعل الهام شخصي، منفصل عن السياق. ذلك يتناسب تماما مع المفكرين التجريديين الذين سعت لإبعاد نفسها عنهم. تفكير ارندت تشكّل حينما ضغط التاريخ بقوة – بشكل فوضوي وعلني وواقع لا يمكن تجنبه.

الملك المخفي في عالم التفكير

ازدواجية ارندت نحو الفلسفة كشفت عن نفسها اولاً في ارتباطها بالمفكر الذي أثّر عليها مباشرة وهو مارتن هايدجر. لقائهما في جامعة ماربورغ كان مثيرا لدرجة انه كشف عن سر دام أربع سنوات بين بروفسور متزوج عمره 35 عاما وطالبة يهودية بعمر 18 عاما.

لكن ارندت لم تكن هي الوحيدة الساحرة. في عام 1924 كان هايدجر حسبما ذكرت في كلماتها "الملك المخفي الذي حكم في عالم التفكير". الطلاب المحتشدون في محاضراتها انجذبوا الى القول الشائع، "مرة اخرى، عاد التفكير الى الحياة". العديد من الناس، شعروا بما يشبه حدثا روحيا: "يوجد هناك معلم يستطيع تعليم كيفية التفكير". وبعد عقود، قبضت ارندت على ما اشتعل في تلك السنوات المبكرة. هي تكتب، التفكير كنشاط خالص يمكن ان يصبح عاطفة – ليس ذلك النوع الذي يحكم او يقمع وانما نوع ينظّم تماما ويسود من خلال جميع القابليات والمواهب الاخرى.

لكن ارندت أدركت تدريجيا ان عاطفتها للتفكير لا تنسجم بسهولة مع فكرة "التفكير كنشاط خالص" – وهي الفكرة التي بطريقة او باخرى تعرّف الفلسفة ذاتها. وبمرور الزمن، هي بدأت في التراجع عن ذلك النوع من التأمل الذي رأته في هايدجر: بريق معزول عن العالم، منغلق على ذاته. كلما طورت الكثير حول مسارها الخاص، كلما أزعجها كثيرا هذا المدار العقلي المنغلق على ذاته. بدا لها انه يتميز بـ "الأنانية المطلقة، الإنفصال الراديكالي عن جميع زملائها". مع ذلك، في هذا الوضع، الدوران في حلقات، هو نسيان لعالم لم يعد بالإمكان تلمّسه.

إهتمامها تغير. هي التفتت الى معلّم هايدجر، ادموند هسرل الذي دعا بسرعة الى ثورة: "عودة الى الاشياء ذاتها". في هايدلبيرغ، وبتوجيه من كارل جاسبير، هي شهدت نقطة تحوّل. هي كتبت "التفلسف واقعي لأنه يتغلغل في الحياة الفردية في لحظة معينة". التأمل، بالمقابل، عزل الروح وخدّرها تجاه نداء العالم. انه جعل الذات الداخلية تشبه أي شيء. وبالنظر رجوعا، رأت ارندت بوضوح : الانسحاب الى الداخل جذبها ذات يوم – لكنه كان خطئاً شبابيا تجاوزته لاحقا. وبالرغم من عدم وجود ربط سببي، كان دعم هايدجر العلني للنازية بدا يؤكد رؤية ارندت المؤلمة التي بدأت تتشكل سلفا: ان التفكير الفلسفي العميق لا يقود بالضرورة الى الوضوح الأخلاقي والانخراط في العالم.

هايدجر ذاته إعترف : "التفكير لايهبنا مباشرة قوة الفعل". هذا الانفصال بين الفكر والفعل ترك بصمة دائمة على ارندت. هي أصبحت ترى الاثنين عالمين منفصلين لا يوجد جسر فطري بينهما. بعد عشرين سنة من ذلك التوقف، هي سامحت هايدجر وجددت الصداقة معه التي استمرت حتى وفاتها عام 1975. لكنها لم تعد للايمان بان التفكير يجب ان يبقى ضمن نقاء الفلسفة. تلك العقيدة كانت تنتمي لشبابها . الان، تخلصت من ملجأ التأمل الداخلي، هي بدأت السير في مسار جديد: بعيداً عن التجريد، نحو تفكير متجذر في العالم ذاته.

اللحظة التي لم يعد فيها المرء متفرجا

التحول الأخير لأرندت لم يأت من كتاب او مرشد انما جاء من التاريخ ذاته، اصطدم بحياتها. "العالم الخارجي السيء"، الذي بدا ذات يوم بعيدا ونظريا، الآن اخترق و "تحرش" حسب تعبيرها بتفكيرها، مجبراً اياها الى نوع من الانخراط لم تتصوره ابدا.

وكما أخبرت الصحفي غونتر جاوس، ان عدم رغبتها المبكرة في السياسة والتاريخ بدأت تتحطم في بداية الثلاثينات، عندما وصل الحزب النازي للسلطة ونفد صبرها من المثقفين الذين استجابوا بصمت وتأمل عقيم. نقطة التحول جاءت عام 1933 بعد حريق الرايخستاغ وموجة الاعتقالات التي أعقبته. ومع اختفاء الناس في أقبية جهاز المخابرات (الغستابو) والمعسكرات، هي قالت، "لقد كانت صدمة كبيرة لي لدرجة شعرت بالمسؤولية بعد ذلك".

تلك الصحوة السياسية ترافقت فورا مع صحوة اخرى شخصية. عندما "حوّلت الوقائع السياسية العامة ذاتها الى قدر شخصي"، اكتشفت ارندت ان العديد من أصدقائها المثقفين كانوا يتعاونون. "هذه الموجة من التعاون"، حسب قولها "جعلتك تشعر محاطا بمساحة فارغة". منذ تلك اللحظة فصاعدا، هي تعهدت " كلا ابداً" لا مزيد من الانفصال، لا مزيد من "تاريخ الافكار". التأمل المجرد يمكن ان يصبح شكلا من أشكال التواطؤ حسب زعمها.

كان هذا عندما يلتقي التفكير بالفعل. مع ذلك هي كانت تدرس الهجرة، ارندت اختارت البقاء. هي فتحت منزلها في برلين لاولئك الفارين من النظام. لأول مرة شعرت بالرضا ليس من التفكير وانما من الفعل. تلك اللحظة من المقاومة ستصبح بذرة لمعظم رؤاها السياسية الأصلية. مع فقدان الايمان بالنزاهة الاخلاقية للمفكرين، بدأت ارندت البحث في مكان آخر عن فهم للشر – وعن الظروف التي في ظلها يبرز الحكم الصحيح والفعل الصحيح في العالم. هذا يمثل دخولها الى الميدان السياسي وحيث تبنّت موقفا سياسيا وتاريخيا واضحا. بالنسبة لها، الفلسفة فشلت. انها تجاهلت جوهر الوجود الانساني: الانسان ككائن فاعل. إنغماسها في التأمل الميتافيزيقي تركها غير قادرة على التحدث بشكل هادف الى عالم السياسة، وحيث الناس يلتقون ويحكمون ويعملون.

في فترة ما، تركت ارندت عالم الفكر كليا. هي هربت الى باريس وألقت بنفسها في مناهضة الحرب ودعم جهود اليهود والصهيونية. هي بدأت التفكير بطريقة جماعية وليست فردية. "عندما يُهاجم الفرد كيهودي"، "الفرد يجب ان يدافع كيهودي".

هويتها التي كانت خاصة في يوم ما، اصبحت الآن سياسية. هي رفضت الرؤية الأنانية في علم النفس وبدأت تحكي قصتها من داخل مجتمع تاريخي مشترك "نحن". الفردي كما ترى، تشكّل بالزمن والمكان وبالناس الذين ولد فيهم. مشاكل حياة الانسان لم تكن أبدا فقط شخصية انها هيكلية، سياسية.

بالنسبة لأرندت، أي تغيير حقيقي، أي تجديد واقعي كان يجب ان يحدث ضمن الميدان السياسي. الحركة التي فشلت في الدخول الى ميدان الفعل العام والتي لم تترجم ابدا مُثلها الى أهداف ملموسة، ستبقى خاملة. لكي يتصرف المرء في هذا العالم، عليه ان يبيّن أين صُنع التاريخ.

مولد التفكير النشط

التفكير يأتي في عدة أشكال. هناك النوع الخامل، المتحرك ببطء: أحلام اليقظة والتجوال الذهني. هناك الانسحاب الفلسفي الى أفكار عديمة الوزن، تنسى العالم كليا. هناك الاسلوب الاكاديمي الذي يشرّح الحجج ويطارد العيوب المنطقية. لكن ارندت أشارت الى شيء آخر: التفكير النشط، شكل من الفكر يبقى يقظا للعالم ويعدّنا لنعيش فيه. بالنسبة لها، التفكير لم يكن هروبا، انه كان انشغال. لتفكر بنشاط هو ان تفعل سلفا، ان تأخذ المسؤولية، تبقى حاضرا، تحكم بعناية. ارندت لم تهمل حياة الذهن. هي ببساطة طلبت منها العمل اكثر. هي سحبت التفكير نزولا من البرج العاجي للفلاسفة ووضعته بجانبنا، في التاريخ، في الكوارث، في الحياة.

ارندت اتخذت خطوتها الجريئة الاولى نحو توحيد الفكر والفعل بعد الهروب من فرنسا تحت الاحتلال النازي والعثور على مأوى في الولايات المتحدة. في (أصل الشمولية) استطلعت ماكنة الرعب في ظل النازية والستالينية، كاشفة عن ان الشمولية لم تهيمن فقط بل انها حطمت شروط التفكير.

الناس لا يحتاجون ليُجبروا على الخضوع، هم يمكنهم الإنزلاق الى الطيش بارادتهم. بالنسبة لأرندت، السياسة لم تكن حول مسؤولين يتفاوضون في غرف خلفية. انها كانت المساحة المشتركة حيث يفكر الناس ويحكمون ويتصرفون مع بعضهم. وعندما تنهار تلك المساحة سينتصر الشر. جوابها ليست ديمقراطية تقودها الاحزاب وانما مجالس تشاركية، تلقائية، جمعيات شعبية فيها يتخذ الناس المسؤولية دون الحاجة لتفويضها للقادة او المؤسسات.

في (الوضع البشري)، هي كثفت نقدها لإنسحاب الفلاسفة من العالم. الفلسفة والسياسة، كانتا ذات يوم متشابكتان في اليونان القديمة، أصبحا أقل صداقة. الفكر اتجه صعودا الى التجريد، بينما يحترق العالم في الاسفل. هي تجادل، ان الفلاسفة مجّدوا الإنفصال مقيّمين التأمل أعلى من الفعل، السلبية أعلى من المشاركة. ومنذ سقراط، كان هناك احتقار للسياسة بين المفكرين الذين سعوا لحماية الفلسفة من التدخلات الدنيوية.

هي تكتب "التفكير يهدف الى التأمل وينتهي فيه ... والتأمل ليس فعالية وانما سلبية". هي أرادت شيئا آخرا: لتجلب الفكر مجددا الى الارض، لتجعله يتحرك، يستجيب ويفعل خاصة في عالم تؤرقه الحروب والرعب والكوارث السياسية.

في زمن ارندت، بدا الحطام الذي تركته الستالينية والنازية يعلن عن "نهاية الايديولوجية"، ومعه، نهاية دور المثقفين. لكن ارندت لم تكن مستعدة للتخلي عن التفكير. هي أرادت ربط الفكر والعمل معاً مرة اخرى، لكي توحّد بين الفيلسوف والمواطن. هي اعتقدت ان التفكير الواقعي يمكن ان يشعل تغييرا حقيقيا اذا بقي قريبا من شؤون الانسان.

كان ذلك أمل الحياة النشطة: حياة المنشورات، حيث الناس يتحدثون ويحكمون. خلافا للعمل الانتاجي، الفعل يخلق اللامتوقع. لكن ارندت خشيت ان تتقلص هذه المساحة من الحرية ، وتحتجب بفعل التحكم في "العالم الاجتماعي" والانسحاب الى زوايا تأملية خاصة.

في أفكار ارندت السياسية يكمن شيء اكثر حميمية وهو فلسفة الحب. كان العنوان الأصلي لكتاب (الوضع البشري) هو Amor Mundi او حب العالم، تحدّي مباشر للتقليد القديم لإزدراء العالم. بالنسبة لها، الحقيقة لا تعيش في عزلة وانما في مساحات بين الناس. التفكير لم يكن ابدا منولوج خاص، انه كان دائما علائقيا، دائما على شكل محادثة مع العالم. ايمانها اعتمد ليس على النظريات العظمى وانما على "اللاّمؤكد والمترجرج وعلى ضوء ضعيف" اُشعل بفعل حياة الناس.

لاحقاً، في (حياة الذهن) هي التفتت الى الداخل ليس لتنسحب وانما لترسم تضاريس التفكير والحكم والرغبة. هذه، تشبه فروع الحكومة العادلة التي يجب ان تتوازن وتحقق الرقابة فيما بينها. بالنسبة لأرندت، ان يكون المرء في حوار صادق مع نفسه هو فعل سياسي. التفكير يعدّنا لمواجهة العالم كما هو – فوضوي، واقعي، مشترك. مواجهته بوضوح والحكم عليه جيدا، لا يقل عن فعل الحب.

أدولف ايخمان كاستعارة

ارادت ارندت انقاذ التفكير من ايدي الفلاسفة المهنيين واعادته للافراد لتجعله فعالا وطاقة حية. هي اعتقدت، في وقت عندما تنهار الهياكل الأخلاقية يجب ان يصبح التفكير الحر الملاذ الاخير لنا. لا ايديولوجية تستطيع ارشادنا، فقط السؤال الداخلي: هل سأكون قادرا على العيش مع نفسي بعد هذا؟

بالنسبة لارندت، الاخلاق وُلدت في ذلك الحوار الانفرادي حيث يتم تشكيل تجربة الماضي في المعنى، والقصص تُصنع ليُشارك بها. هي كتبت، التفكير يسمح للناس بضرب الجذور لكي لا يُجرفوا بأي شيء قادم. لكن اولئك الذين يخسرون هذه الطاقة يصبحون خطرا. مثالها الاكثر اثارة للجدل هو الضابط الالماني ادولف ايخمان الذي غطت محاكمته في ذي نيويوركر.

حتى ذلك الوقت، فحصت ارندت الشر نظريا – الشمولية كنظام. لكن محاكمة ايخمان أعطتها فرصة لملاحظة النظام عن قرب. مثل العديد من الناس، هي توقعت وحشا. "الشر الذي تعلمناه هو شيء شيطاني"، كما تقول. بدلا من ذلك، هي وجدت انسانا بلا عمق ابدا. "ذُهلت في الضحالة المتجسدة في الفاعل" هي لم تر الكراهية وانما الفراغ المؤلم – شخص لم يدرك ابدا ماذا كان يعمل.

ايخمان لم يكن أحمقا. هو أوقف التفكير، وهي تشاهده راجعت فكرتها عن "الشر الراديكالي" . انه لم يكن قوة مظلمة، انه كان غياب الفكر. حول تفاهة الشر هي حذرت: عندما نُسكت صوتنا الداخلي، يصبح من السهل انقيادنا للاوامر. هي كتبت "شيء واحد مؤكد"، " كل شخص يمكنه ان يقرر بذاته ليكون اما خيرا او شريرا في معسكر اوشفيتز". لكن ايخمان أغلق جوهر المقدرة التي تجعل هذا الخيار ممكنا. هو لديه دوافع تتجاوز المهنية، لا تفكير مستقل - فقط ولاء روبوتي للأوامر. بذلك هو فقط اتّبع رغبة الآخرين، هو صرح بان ذاته ليس شخصا ابدا. مع لا ذات، لن يكون هناك ذنب ولم يتبقى احد ليتسامح.

العديد وجدوا نغمة ارندت باردة لكنها اعتقدت ان الحكم (اطلاق الاحكام) يتطلب الوضوح، وليس الغضب. هذا بالنسبة لها شكّل بداية أخلاق سياسية جديدة: نحن ملزمون أخلاقيا لنفكر، نحكم، نقاوم الشر ليس في الايديولوجية وانما في التفكير. وبالنسبة لاولئك الذين يتجنبون الحكم من باب الحياء او الخوف، هي لها رد صادم: "عندما تقول لنفسك بهذه الطريقة: منْ انا لأحكم؟ فانت خسرت سلفا".

تفاهة اللاتفكير

في تلك الايام، العديد يشكون من ان أذهانهم "نشطة" جدا لكنهم يعنون ان افكارهم مزعجة، مضطربة، مشتبكة في حالة من القلق والاستياء. التأمل وتقنيات التنفس تعطي املا بالراحة، والهدوء الذهني يمكن ان يكون بلسما. لكن ارندت تدعو الى الحذر: لا تخلط بين ضوضاء الذهن والتفكير الواقعي. الخطر كما ترى، هو "هذا الغياب للتفكير الذي هو عادي جدا في حياتنا اليومية حيث من الصعب ان يكون لدينا الوقت، ناهيك عن الميول، لنتوقف ونفكر". معظم ما نسميه تفكير هو فقط انجراف ذهني.

علم النفس يتفق على ان الدماغ يفضل أقل جهدا، منخرطا في "سهولة معرفية". السرعة تعطي شعور بالصواب. الكسل يعطي شعور بالصحة. لكن هذا الذهن الباحث عن الراحة يصدر أحكاما ضحلة ويتبع الحشود. الخط الاحمر لأرندت واضح: عندما نتوقف عن التفكير لأنفسنا، نحن نتخلى عن جوهر انسانيتنا، ونستسلم ليس للافكار الشريرة وانما لأي فكرة.

وبينما كل فرد يرغب حاليا ان يرى نفسه كـ "فرد"، تذكّرنا ارندت بان الفردية الحقيقية تبدأ بتفكير ارادي. بدونه نحن نقع فريسة لـ "تأثير العربة" (انحياز سلوكي يتم فيه تبنّي فكرة لأن الاخرين تبنّوها)، نعمل ما يعمله الآخرون، متبنّين عقائدا لأنها شعبية وليس لأننا فكرنا بها. هذه ليس فقط عن كيفية تسلل الشر، وانما الكيفية التي يمكن ان تصبح بها الخيرية قديمة. حتى الافكار النبيلة مثل "حب جارك" يمكن ان تصبح روتينية دون فهم لأنها تتكرر دون تفكير.

ترى ارندت ان جميع الايديولوجيات حتى الأفضل من بينها تدفع العقل الى سلبية. حالما نتخذ "موقفا" نحن عادة نوقف التفكير كليا. ذلك يفسر لماذا هي رفضت كل من الوصفين الليبرالي والمحافظ مما اثار استياء أصدقائها النشطين. هي ايضا رفضت ان تخبر الآخرين بما يفكرون فيه. الحرية الواقعية كما ترى، تكمن في التفكير الطازج، مرة بعد اخرى. التخلص من الايديولوجية ليس كافيا، انه يتركنا بمهمة صعبة جدا: ان نحكم بأنفسنا، لحظة بعد اخرى، ما هو الشيء الصحيح للعمل.

نحن ربما نقرأ دروس ارندت من الحرب العالمية الثانية ونعتقد اننا نحكم بشكل صحيح، تصرّفنا بشجاعة، قاومنا المد. لكن تشخيصها هو اكثر حدة: غياب التفكير العادي، المألوف، غير المُلاحظ هو ما يجعل التواطؤ الصامت ممكنا. هذه الرؤى تتحدث مباشرة لفوضى اليوم: الايديولوجية تتكلس، الحقيقة تتهشم، الذكاء الصناعي يدعم الأحكام، السياسة تستقطب. هل نحن حقا نفكر ام فقط نمارس رد فعل او تكرار؟

تدعونا ارندت ليس لإسكات الصوت الداخلي وانما لرفعه عاليا، لنجعل حوارنا الداخلي يقاطع نشوة الإمتثال. هذا النوع من التفكير ليس انسحابا، انه استعداد أخلاقي. وكما هي سألت بعد ان شهدت محاكمة ايخمان، "هل مشكلة الخير والشر مرتبطة بقدرتنا على التفكير؟". المعرفة بذاتي وبواسطتها تتطلب ان نفكر، لأن فقط اولئك الذين يسمعون أنفسهم يفكرون يمكنهم الشعور بضمير سيء، واولئك الذين يشعرون هم فقط لازالت لديهم الفرصة للبقاء اناسا.

 ***

حاتم حميد محسن

Big Think, April24, 2025

السرديات التاريخية هي ليست مجرد روايات، بل هي أدوات لفهم كيفية بناء المعرفة والتاريخ لمجتمع ما، تتطلب دراسة المجتمعات تحليل السرديات التاريخية بشكل نقدي لفهم كيف تتشكل الأيديولوجيات والممارسات الثقافية وكيف تُساهم هذه السرديات في بناء الهوية الفردية والجماعية، وكذلك الدور الذي تلعبه في تشكيل القيم الأخلاقية والسياسية، الذي يؤدي إلى فهم أعمق للواقع الاجتماعي والسياسي، تمثل مسألة موضوعية التاريخ وبنائه الاجتماعي نقطة انطلاق في جدل فلسفي عميق في دراسة السرديات التاريخية، السؤال الهام هو كيف اعتبرت بعض الأحداث التاريخية حقائق موضوعية، مثل تواريخ الحروب والمعارك، هل ان استخدام الوثائق والأدلة الاركيولوجية هو الذي يدعم فكرة الموضوعية .؟ ام تفاسير وروايات منقولة من وجهات نظر مختلفة...؟ المعروف أن السرد التاريخي يعتمد على السياق الثقافي والاجتماعي والمؤرخون قد يتأثرون بتحيزاتهم الشخصية أو الأيديولوجية، مما يؤثر على كيفية نقل الأحداث حتى عند استخدام المصادر الموضوعية، و يمكن أن تكون هناك انتقائية في ما يتم تضمينه أو استبعاده من او في السرديات التاريخية، مما يبرز كيف يتفاعل التاريخ مع الثقافة والمجتمع وبالتالي يمكن القول إن التاريخ يحتوي على عناصر موضوعية، لكنه في النهاية التي يُشكل بناءه الاجتماعيً يتأثر بالسياقات الثقافية والسياسية السلطوية، هذا التفاعل يجعل فهم التاريخ أكثر تعقيدًا ويعكس تعقيد التجربة الإنسانية.

النقد الابستمي للسرديات التاريخية

النقد الإبستيمي للسرديات التاريخية هو تحليل يتناول كيفية بناء المعرفة التاريخية وفهم الأحداث من خلال منظور نقدي، النقد الإبستيمي للسرديات التاريخية يسعى إلى تفكيك كيفية إنتاج المعرفة التاريخية وتحدي السرديات التقليدية لفهم أكثر عمقًا للأحداث، تتغير السرديات التاريخية مع تغير الذاكرة الجمعية، مما يؤدي إلى إعادة صياغة السرديات. تُستخدم الذاكرة التاريخية في السياسة حيث يمكن أن تُستغل لتبرير أو نقد السياسات العامة، الحكومات والأحزاب السياسية قد تستند إلى سرديات تاريخية لتعزيز موقفها أو إقصاء الآخرين، الذاكرة التاريخية هي عنصر ديناميكي يؤثر في كيفية سرد الأحداث وتفسيرها، مما يجعلها أساسية لفهم التاريخ والمجتمعات.

النقد البنيوي "وشك الأبستمولوجياط

النقد البنيوي يلعب دورًا مهمًا في السرديات التاريخية يركز النقد البنيوي على تحليل البنية الكامنة وراء السرديات التاريخية، بما في ذلك العناصر اللغوية والرمزية. يساعد في كشف الأسس التي تُبنى عليها السرديات، مما يُظهر كيفية تشكيل المعرفة التاريخية، يقوم النقد البنيوي بتسليط الضوء على الفرضيات الضمنية التي تؤثر في السرد، يتساءل عن كيفية تأثير هذه الفرضيات على فهم الأحداث التاريخية، مما يؤدي إلى تشكيك في موضوعية السرديات من خلال التفكيك البنيوي، كما يمكن تحليل العلاقات بين النصوص والمفاهيم، مما يكشف عن التناقضات أو التوترات داخل السرديات، هذا يساعد في إعادة تقييم ما يُعتبر (حقائق) تاريخية، وهذا يعزز من فكرة أن المعرفة التاريخية ليست مطلقة، النقد البنيوي يعزز الشك الإبستيمي من خلال تحليل البنى والفجوات في السرديات التاريخية، مما يسمح بفهم أعمق للكيفية التي تُبنى بها، تلعب الإبستيمولوجيا دورًا حيويًا في التعامل مع المصادر المتضاربة من خلال تقديم أدوات ومفاهيم تساعد على تحليل هذه التضاربات وفهمها. تساعد الإبستيمولوجيا في فحص السياقات التاريخية والاجتماعية التي أنتجت كل مصدر، مما يمكن من فهم الأسباب وراء التضارب وتُسلط الضوء على الأهداف المختلفة للمؤلفين، مما يساعد على فهم الدوافع وراء كل سرد، يمكن استخدام الإبستيمولوجيا لتقييم موثوقية كل مصدر بناءً على معايير مثل الأصل، والموضوعية، والحيادية، تشجع الإبستيمولوجيا على مقارنة وجهات نظر متعددة لفهم كيفية تشكل كل سرد تاريخي ويمكن أن تساعد في تحديد الجوانب المشتركة بين المصادر المتضاربة، مما يوفر أرضية لفهم أعمق، تشجع الإبستيمولوجيا على طرح أسئلة نقدية حول كل مصدر، وتساعد الإبستيمولوجيا في تقبل أن التاريخ قد يكون معقدًا ومتعدد الأبعاد، مما يعزز الفهم بأن التضارب لا يعني بالضرورة عدم الدقة، تتيح للباحثين إعادة بناء السرد التاريخي معتمدا على تحليل شامل للمصادر، مما يعكس التعقيد الحقيقي للأحداث بفضل هذه الأدوات والمفاهيم، تقدم الإبستيمولوجيا إطارًا قويًا للتعامل مع المصادر المتضاربة، مما يسهل فهمًا أعمق وأكثر شمولية للتاريخ.

تحليل السياق التاريخي

يدرس كيف تُشكل النماذج الثقافية والاجتماعية بنية السرد التاريخي يستخدم النقد البنيوي لفهم الرموز والدلالات الثقافية في السرديات، مما يساعد على كشف كيف تعكس هذه السرديات القيم والمعتقدات السائدة في زمن معين ويسلط الضوء على العلاقات الاجتماعية والسلطوية التي تظهر في السرديات التاريخية، يوفر أدوات لإعادة قراءة النصوص التاريخية، مما يمكن من اكتشاف معاني جديدة أو مفقودة ويشجع على مراجعة الفهم التقليدي للتاريخ من خلال تحليل البنيات التي تؤثر على كيفية رواية الأحداث، يمكن أن يُستخدم السياق لتحدي السرديات التاريخية السائدة، من خلال كشف التحيزات والأجندات الخفية، يساعد في إبراز وجهات نظر المهمشين أو الفئات غير الممثلة في السرديات التقليدية، يساهم في تقديم فهم أعمق للسرديات التاريخية من خلال تحليل البنية والعناصر الثقافية، مما يعزز الوعي بالسياقات الاجتماعية والسياسية التي تُشكل التاريخ .

الابستميولوجيا ونقد السرديات التاريخية

 تسعى الإبستيمولوجيا إلى فهم كيف يتم إنتاج المعرفة التاريخية، وما إذا كانت موضوعية أم متأثرة بالسياقات الثقافية والشخصية وتحديد المعايير التي يجب أن تستند إليها المعرفة التاريخية، مما يساعد على تقييم صحة السرديات، تُستخدم الإبستيمولوجيا لتقييم مصادر المعلومات التاريخية، من حيث موثوقيتها وموضوعيتها وتُساعد على كشف التحيزات في المصادر وكيفية تأثيرها على السرديات وتُبرز كيف تشكل السرديات التاريخية من خلال التفاعلات الاجتماعية والثقافية، تدرس العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيف يمكن أن تُستخدم السرديات لتبرير أو تحدي الأنظمة السائدة، تسهم الإبستيمولوجيا في نقد السرديات التاريخية السائدة من خلال تقديم أسئلة حول كيف ولماذا تم تشكيلها وتساعد في إعادة بناء الفهم التاريخي من خلال النظر إلى وجهات نظر مختلفة، تدفع الإبستيمولوجيا إلى تطوير منهجيات جديدة لتحليل السرديات التاريخية، تلعب الإبستيمولوجيا دورًا حيويًا في التعامل مع المصادر المتضاربة من خلال تقديم أدوات ومفاهيم تساعد على تحليل هذه التضاربات وفهمها.

الشك الإبستيمولوجي

يساعد الشك الإبستيمولوجي في التعرف على الأجندات الخفية للمؤلفين وأسباب الاختلافات في السرديات، يشجع على تحليل دوافع الكتابة ووسائل عرض المعلومات، مما يمكن من فهم الأسباب وراء التضارب، يدفع الشك الإبستيمولوجي إلى تقييم موثوقية كل مصدر بشكل مستقل، مما يساعد في تحديد المصادر الأكثر مصداقية، يشجع الشك الإبستيمولوجي على تقبل أن التاريخ قد يكون معقدًا وأن هناك أكثر من منظور وقد يكون صحيحًا في سياقات مختلفة ويعزز الفهم بأن بعض الأمور قد تظل غامضة أو غير واضحة، مما يدفع إلى عدم التسرع في الوصول إلى استنتاجات غير دقيقة، يساعد الشك الإبستيمولوجي في إعادة بناء السرديات التاريخية بناءً على تحليل شامل، مما يعكس التعقيد والتنوع في الأحداث ويسمح بتوسيع نطاق الفهم التاريخي من خلال ضم وجهات نظر مختلفة، يساعد الشك الإبستيمولوجي في التعامل مع التضاربات في المصادر التاريخية من خلال تعزيز التفكير النقدي، وتحليل التحيزات، وتقييم المصادر بعناية، مما يؤدي إلى فهم أعمق للتاريخ وتعقيداته بينما يُعتبر الشك الإبستيمولوجي أداة قيمة في دراسة التاريخ، إلا أن له حدودًا وقيودًا يجب مراعاتها، التوازن بين الشك والثقة في المصادر التاريخية، مع مراعاة السياقات، يمكن أن يسهم في فهم أكثر دقة وشمولية للتاريخ.

التوازن بين الشك والثقة

يجب أن نكون واعين لمخاطر الإفراط في الشك، مما يؤدي إلى عدم الثقة بالمصادر التاريخية، بالرغم من ان فهم التاريخ غالبًا ما يكون معقدًا، وأن السرديات المتعددة قد تعكس جوانب مختلفة من الحقيقة، لكن من خلال تنويع المصادر، وتحليل السياقات، وتعزيز التفكير النقدي، يمكن التغلب على حدود الشك الإبستيمولوجي في دراسة السرديات التاريخية، ويوفر أدوات قيمة للتحقق من السرديات التاريخية وتفكيك بنية السلطة والعنف، فإن له حدودًا تتطلب من الباحثين التوازن بين الشك والثقة، مع مراعاة السياقات التاريخية والاجتماعية لضمان تحليل شامل ودقيق.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.....................

* الشك الابستمي:

 روبرت ستاوز: استكشف الحدود المعرفية وأهمية السياق في فهم المعرفة.

ويلارد فان أورمان كوين: قدم أفكارًا جديدة حول مفهوم المعرفة والاعتقاد، وناقش مسألة التبرير.

* البنيوية: تعتقد البنيوية أن اللغة هي نظام من العلامات، وأن المعاني تتشكل من العلاقات بين هذه العلامات هناك العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين يعتبرون من ممثلي البنيوية، ومن أبرزهم:

كلود ليفي شتراوس، رولان بارت، جاك دريدا، ميشيل فوكو.

الذي صمم استقرار الاقتصاد الياباني

 يُعد نظام "الكيريتسو" (Keiretsu) واحدًا من أبرز الأنظمة الاقتصادية التي شكلت بنية الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يزال يشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الشركات في اليابان حتى اليوم. يعتبر الكيريتسو مثالًا على كيفية استخدام التعاون التجاري المستدام بين الشركات لضمان الاستقرار والنمو المشترك في بيئة اقتصادية تنافسية.

ما هو الكيريتسو؟

الكيريتسو هو تحالف من الشركات المتنوعة التي تتعاون مع بعضها البعض في إطار طويل الأمد. هذه الشركات غالبًا ما تتخصص في صناعات مختلفة مثل التصنيع، والخدمات المالية، والتجارة، لكنها تبقى مترابطة بشكل وثيق عبر روابط مالية وتجارية. تعتمد الشركات في نظام الكيريتسو على بعضها البعض لتبادل الموارد والمعلومات، مما يعزز من استقرارها في السوق ويقلل من المخاطر التي قد تواجهها.

في هذا النظام، تعتبر البنوك عنصرًا أساسيًا، حيث تقدم التمويل اللازم لشركات الكيريتسو، وتساعد في تسهيل المعاملات المالية بين الشركات الأعضاء.

تاريخ نشوء الكيريتسو

نشأ نظام الكيريتسو في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت اليابان بحاجة إلى إعادة بناء اقتصادها المدمّر. في هذه الفترة، تم تفكيك الزايباتسو، وهي المجموعات الاقتصادية الكبرى التي كانت تسيطر عليها العائلات اليابانية الثرية، وذلك ضمن جهود احتلالية أمريكية تهدف إلى منع تركيز السلطة الاقتصادية في يد فئة قليلة.

بعد تفكيك الزايباتسو، تطورت فكرة الكيريتسو كبديل، حيث كانت الشركات تحتفظ بعلاقات وثيقة مع بعضها البعض، لكن بطريقة أكثر مرونة وشفافية مقارنة بالنظام القديم. تحول الكيريتسو إلى شبكة اقتصادية مترابطة تضم مجموعة من الشركات الكبرى المتخصصة في مجموعة متنوعة من المجالات.

هيكل الكيريتسو

يتكون الكيريتسو من عدة مكونات رئيسية تشمل:

1.  الشركات الأم: الشركات الرئيسية في المجموعة التي تتحكم في صناعات مختلفة مثل السيارات، الإلكترونيات، البتروكيماويات، وغيرها.

2.  البنوك: تعتبر البنوك جزءًا لا يتجزأ من النظام حيث تقدم الدعم المالي للشركات الأعضاء في الكيريتسو، وتضمن استقرار السيولة المالية وتيسر عمليات التمويل.

3.  الموردون والموزعون: تتعاون الشركات المنتجة مع الموردين لتأمين سلاسل التوريد، بينما تعمل الموزعين على تسويق وتوزيع المنتجات.

4.  الشركات التابعة: شركات صغيرة أو متخصصة تتبع الشركات الأم ضمن نفس المجموعة، مما يخلق شبكة تعاون شاملة.

الخصائص الفريدة للكيريتسو

1.  الاستقرار المالي: من خلال التعاون المشترك في الأسهُم، تضمن الشركات استقرارًا طويل الأمد، حيث لا يكون من السهل على الشركات الأخرى الاستحواذ عليها أو التأثير عليها بشكل خارجي. التبادل المشترك للأسهم يمنع تحول الشركات الأعضاء إلى أهداف للاستحواذ العدائي.

2.  التعاون طويل الأمد: الشركات داخل الكيريتسو لا تسعى إلى تحقيق الأرباح السريعة بقدر ما تهتم ببناء علاقات طويلة الأمد. هذه العلاقات تعزز من الاستقرار المؤسسي وتضمن التطوير المستمر عبر الأجيال.

3.  المرونة والتكيف: على الرغم من الروابط القوية بين الشركات، يتمتع كل عضو في الكيريتسو بقدر من الاستقلالية في اتخاذ القرارات. هذا يسمح للشركات بالتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية والمحلية بسرعة.

4.  دور البنوك في تمويل الشركات: البنوك اليابانية، مثل البنك الياباني للتجارة الدولية والبنك الميتسوي، تعتبر شريكًا محوريًا في الكيريتسو. تقدم هذه البنوك تسهيلات ائتمانية للشركات الأعضاء، مما يساعد على تعزيز قدرتها التنافسية، خصوصًا في الأوقات التي قد تواجه فيها الشركات أزمات مالية.

التعاون داخل الكيريتسو

على عكس الأنظمة الاقتصادية الغربية التي قد تشهد منافسة حادة بين الشركات، فإن الكيوريتسو يركز بشكل أساسي على التعاون بدلاً من التنافس. تتعاون الشركات في ما بينها على عدة أصعدة، منها:

1.  البحث والتطوير: تقوم الشركات في الكيريتسو بتبادل الأبحاث والمعلومات التقنية من أجل تحسين المنتجات والخدمات التي تقدمها.

2.  الإنتاج المشترك: أحيانًا تقوم الشركات بتطوير خطوط إنتاج مشتركة لتقليل التكاليف وتحقيق الكفاءة.

3.  التوزيع المشترك: تقوم الشركات الموزعة في الكيريتسو بتوزيع المنتجات عبر قنواتها المختلفة، مما يضمن استقرار السوق.

أمثلة على الكيريتسو اليابانية

1.  مجموعة ميتسوبيشي (Mitsubishi Group): تعتبر مجموعة ميتسوبيشي واحدة من أكبر وأشهر الكيريتسو في اليابان. تضم المجموعة شركات تعمل في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك السيارات (ميتسوبيشي موتورز)، الإلكترونيات، السفن، والطاقة، بالإضافة إلى البنوك والشركات الاستثمارية. يشمل الكيريتسو عددًا من الشركات التي تتعاون في مشاريع مشتركة وتبادل الموارد بشكل مستمر.

2.  مجموعة ميتسوي (Mitsui Group):مجموعة ميتسوي هي مثال آخر على الكيريتسو التي تضم شركات متعددة تعمل في القطاعات المالية، والخدمات اللوجستية، والصناعة. تعد ميتسوي & كو واحدة من الشركات الكبرى ضمن هذه المجموعة التي تدير العديد من الأنشطة التجارية عبر الحدود.

3.  مجموعة تويوتا (Toyota Group): مجموعة تويوتا هي أحد أبرز الأمثلة على الكيريتسو في صناعة السيارات. إلى جانب تويوتا موتورز، تضم المجموعة شركات تعمل في تصنيع قطع الغيار، التكنولوجيا، والخدمات المالية، مما يعزز من قدرة تويوتا على قيادة السوق.

التحديات التي يواجهها الكيريتسو في العصر الحديث

على الرغم من نجاح الكيريتسو في تعزيز الاستقرار والنمو داخل الاقتصاد الياباني، فإنه يواجه تحديات كبيرة في ظل العولمة المتسارعة. مع الانفتاح الكبير للأسواق المالية وتطور التكنولوجيا، أصبح من الصعب على الشركات اليابانية الحفاظ على هذا النموذج المعتمد على التعاون الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الشركات اليابانية تتعرض لضغوط للتكيف مع البيئة الاقتصادية العالمية التي تركز على التنافس المفتوح.

دور الكيريتسو في المستقبل

بينما تزداد الضغوط على الكيريتسو في عالم العولمة، لا يزال النظام يوفر العديد من المزايا، مثل الاستقرار المالي وتبادل الموارد. قد يكون هناك تحول في الطريقة التي تعمل بها هذه الشبكات الاقتصادية، حيث تتجه بعض الشركات إلى بناء علاقات تعاون مع شركات خارج الكيريتسو. ومع ذلك، يبقى الكيريتسو نموذجًا مؤثرًا في شكل النظام الاقتصادي الياباني وفي تحديد طرق إدارة الأعمال داخل الشركات.

إمكانية تطبيق نموذج الكيريتسو في مصر

يُعَدّ نموذج الكيريتسو الياباني تجربة جديرة بالدراسة عند التفكير في آليات دعم الاقتصاد المصري. في ظل التحديات التي تواجه بيئة الأعمال في مصر، مثل ضعف سلاسل الإمداد وصعوبة التمويل طويل الأمد، يمكن لتبني مبادئ الكيريتسو أن يسهم في بناء تحالفات استراتيجية بين الشركات الوطنية، لا سيما في قطاعات مثل الصناعة، والزراعة، والخدمات اللوجستية. من خلال إنشاء شبكات تعاون متكاملة تضم البنوك، الشركات الإنتاجية، والموردين، يمكن تحقيق استقرار مالي أكبر، وتعزيز القدرة التنافسية المحلية، ومواجهة تقلبات السوق العالمية. نجاح هذا النموذج في مصر يتطلب بيئة تنظيمية داعمة تشجع على الشفافية، وتحفز الاستثمارات المشتركة، وتطور منظومة التمويل المصرفي بما يتناسب مع احتياجات هذا النوع من التعاون المؤسسي.

الخلاصة

إن نظام الكيريتسو في اليابان هو نموذج فريد من نوعه يعكس كيف يمكن للتعاون المؤسسي بين الشركات أن يعزز الاستقرار الاقتصادي. ورغم التحديات التي يواجهها في العصر الحديث، لا يزال الكيريتسو يساهم في قوة الاقتصاد الياباني ويشكل حجر الزاوية للكثير من الشركات الكبرى في اليابان. قد يتغير هيكل النظام بمرور الوقت، ولكن المبادئ الأساسية للتعاون المستدام ستظل جزءًا لا يتجزأ من نجاح الاقتصاد الياباني.

***

د. هاني جرجس عياد

ينبغي أن نستحضر هنا تقسيم أرسطو للمعارف البشرية، فهو قد قسمها إلى ثلاثة أنواع: معارف نظرية، ومعارف عملية، ومعارف فنية جمالية. واعتبر أن غاية الفن تتمثل بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل، بمعنى أن الفن يتحقق في القدرة البشرية على خلق أشباه موجودات. وهذا دفع الفلاسفة بعده إلى أن يضعوا منذ البداية (الفن)؛ وضمنه الجمال؛ في مقابل (الطبيعة) على اعتبار أن الإنسان يحاول عن طريق الفن استخدام الطبيعة لكي تتلازم مع حاجاته، ويُلزمها بالتكيف مع أغراضه. وها نحن نرى على كوكبنا الأزرق عواقب هذا السلوك الوخيمة، من فجائع التسونامي، وغبار بركان إِسْلَنْدَا، وتهديد دُولٍ تقوم على الأرخبيلات بالاختفاء، وتَحولٌ فاجع في المناخ بسبب الاحتباس الحراري. أليس هذا كفيلا بإنذار الإنسان، وتذكيره بمسؤوليته عن كل ما يجري ؟! فهو الذي تسبب بشرهه وطموحاته العمياء في إفساد التناغم الذي كان عليه الكون، وبإرباك الحركة المنتظمة للبيئة والمحيط الكونيين.

إن الحدث البالغ الأهمية، والظاهرة التي تستحق توجيه الاهتمام إليها، والمعطى الأساسي لمصير البشرية في المستقبل، إنما يكمن في الإنسان بمسؤولياته الكونية. فالبشرية أخذت تملك قدرة عملية على أن تمسك بيدها زمام مصيرها، ومصير قسم من العالم الذي تسكنه، فالكرة الأرضية؛ على المستوى الإنساني؛ هي اليوم في متناول نشاطنا العلمي، من حيث سرعة المواصلات، وإمكانات التوسع في تزيين البيئة، أو التمنع عنه، وتحسينُ شروط السكن، مما يتحدَّدُ به الآن المستوى الإنساني. وهكذا يبدو أن على الإنسان أن يأخذ بيده المسؤولية الجمالية لملامح الأرض التي يسكنها، مثلما يتحمل المسؤولية الاقتصادية والصناعية والسياسية والتجارية والانتفاعية سواء بسواء، وإلا فإنه سيبقى شقيا مهما أوتيَ من رفاهية مادية، ما دام يُفسد في هذا الكوكب المشترك بين جميع الكائنات من حيث لا يحتسب، ومادامت عينه الجمالية مطموسة.

فأمام هذه الحقائق والتوجهات لا يسع المتأمل في المنحى الجمالي إلا أن يطرح الافتراضات التالية للاستنارة بها أثناء بحث المسؤولية الجمالية في راهن كوكبنا:

الافتراض الأول: يتمثل في ضرورة إدخال الإحساس الجمالي على عملية الصناعة والتعمير، وفي تقدير نتائج الاستخدام العملي للأشياء المصنوعة من كل نوع. إذ بدون هذا الإحساس لن يتم التمتع بالقيم الحقيقية للأرض التي نحيا عليها، وسيبقى الحفرُ المتوحشُ في أعماقها، واجتثاتُ ما على ظهرها بنذالة عشوائية، وتسميمُ أجوائها الفضائية ومحيطاتها، متواصلا إلى أن تحل الكارثة العظمى.

الافتراض الثاني: ينطلق من أنه من غير المعقول، ومن العبث، ومن المؤسف عمليا، القضاء على الأشياء والمعطيات الإنسانية أو الطبيعية التي تحمل قيما جمالية واسعة، وإنْ يكن في سبيل منافع عملية ملموسة وآنية. كما أنه من المؤسف التغاضي عن التنبيهات والتحذيرات التي يطلقها الإحساس الجمالي ضد أي هدم، أو تخريب، أو إهمال، تقوم به الإدارات العامة، أو المؤسسات الصناعية والتعميرية في أمة ما، وضد أي تفريطٍ في تدبير الثروات الطبيعية والإنسانية الحقيقية بأي وجه من الوجوه.

الافتراض الثالث: يعتبر أنه من الخطأ؛ الذي هو أفدح من الجريمة؛ تصور أن بالإمكان الحيلولة دون العمل على إشباع الحاجات الجمالية الأكبر لقسم من جمهور البشرية في الحاضر والراهن، أو في المستقبل القريب، بترك المحيط الإنساني يغوص في مظاهر القبح، أو ينحدر إلى هاوية التدهور الفني والعملي. إنه تصور لا يرى العقاب المتربص به، ولا المآل الفاجع الذي ينتظر كل تصور مثله يضرب بالعمق الروحي للجمال كأفق مشترك للإنسانية.

هذا الأفق الذي تقرأه هذه الرؤية يلتقي فيه الإنسان والعالم، باعتبارهما منبثقين من هوية جوهرية أصلية هي الهوية الجمالية المطلقة الجاذبة لهما والمهيمنة على كل الهويات. وذلك لأن الحق له امتدادات أسمائية وصفاتية لانهائية، وهذه الامتدادات لها أثر، وهذا الأثر مظهر لجمالها وكمالها. وما ثَم موجود إلا وهو مَظْهَرٌ لجمال الحق، فالموجودات بأسرها من حيث الإطلاق مظاهر لأسماء الجمال بأسرها، إذ ما ثمة اسم ولا وصف من الأسماء والأوصاف الجمالية إلا وهو يعم الوجود من حيث الأثر عموما وخصوصا. فلماذا إذن يُفجر الإنسان أنانيته كقنابل نووية في الطبيعة والكون غير عابئ بالهوية الجمالية المطلقة التي أشرنا إليها؟!

لقد اهتم بحاجاته، وسعى بقوة إلى إشباعها على حساب الموجودات الأخرى. لم يتساءل قطُّ عن حاجات الطبيعة والكون، فهو قد عزل نفسه عنهما، مع أنه في العمق ليس سوى ذرة من نبضهما. وهذه الرؤية تروم إبراز الجمال الكوني الفائض من كلِّي الجمال، وبثَّه في الناس ليحسوا به، ويتأثروا بمفاعيله، ويميزوا بينه وبين الجمال الاصطناعي الزائل. وكلمة استيطيق Esthétique ـ التي أطلقها الفيلسوف الألماني بُومْجَارْتِينْ على علم الجمال ـ لا تخرج عن هذا المنحى، فهي تحمل قيما غائرة في الوجود الإنساني ترتفع إلى مستوى الإطلاق والتجريد. ولهذا نجد أفلاطون في المحاورات والمأدبة يوحد بين الجمال والحق والخير، ويقرر بأن له لذةً خالصة لا يخالطها ألمٌ على الإطلاق، إذ من طبيعته وجوهره أن يولد السعادة، وكل ما وَلَّدَ ألما وبؤسا فهو لا يمت إلى الجمال. فالإحساس بالجمال عامل من عوامل تسريع الكمال الإنساني والوجودي، وكلما تعمق الإنسان فيه حقق التناغم بينه وبين نفسه، وبينه وبين الكون. وهذا هو سرُّ الجمال الذي يجعل للمتعة صفة النزاهة الخالصة، التي لا تشوبها شائبة من أغراضٍ أو نفعية أو مصلحةٍ.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

آفاق وتحديات

الذكاء الاصطناعي مهما كان موقفنا منه، إلآّ أنّه يُعبّر عن ذاته بشكلٍ مباشر، إلى أنّه " قفزة نوعية " في عالم الأبحاث، حيثُ شهدت الأعوام القليلة الماضية دور الذكاء الاصطناعي في عالمٍ مختلف، وخاصّة في إجراء البحوث وتطبيقها وتحليلها في آفاق البحث العلمي.

وخاصّة أن الحروب اليوم لم تعد عسكرية فقط، بقدر ما هي اقتصادية وتقنية ومعلوماتية.

حتّى لو حدثت حرب عالمية ثالثة فهي لن تكون عسكرية وحسب، بل ستكون تقنية ومعلوماتية في المقام الأول.

في السنوات الماضية شهدنا ضجيجاً فوضوياً حول الذكاء الاصطناعي، لكنه تضاءل وتلاشى، حيث وصل الذكاء الاصطناعي إلى أوج توقعاته، وصل إلى قمةِ هرم التوقعات الخاصّة به.

في ثورة الذكاء الاصطناعي ومتغيراته فإنه يستطيع أن يتعامل مع النماذج الكبيرة التي تتطلب كفاءة كبرى، وأيضاً مع النماذج الصغيرة التي تتطلب كفاءة أقل.

طبعاً الذكاء الاصطناعي مهامه متتالية فإنّه يقوم بتحديد المهام، ومن ثُم اللجوء إلى التحليلات، ومنها نصل إلى رؤى جديدة، وهذا سيجعل العمل أكثر موضوعية وكفاءة وقدرته على الإبداع البحثي.

لذا نرى أن الباحثين يتوجّهون نحو الذكاء الاصطناعي الذي يزداد انفتاحاً وشعبية وخاصّة في مجال مساعدة العملاء وصناعة البرمجيات، ويبقى الأهم التركيز على الأخلاقيات و وضوح التعامل، حيث أن الذكاء الاصطناعي سيعم العالم خلال السنوات القادمة.

 يُعتبر الذكاء الاصطناعي أحد أهم التطورات التكنولوجية التي شغلت العالم، فهو أي الذكاء الاصطناعي يُعزز القدرات البشرية، ويُحسّن عمليات البحث العلمي والابتكار، بل الإبداع في هذا المجال وبشكلٍ كبير.

حيث أن الذكاء الاصطناعي يعتمد بشكلٍ مباشر على المعطيات و البيانات والخوارزميات والحوسبة بهدف اتخاذ القرار وحلّ المشكلة، حيث أن الذكاء الاصطناعي يمكنه القيام بمهام متعددة الجوانب مثل البشر.

الذكاء الاصطناعي يُقدّم عملاً واسعاً في مجال تحسين وتطور البحث العلمي، فهو يقوم بتحليل البيانات الضخمة، وتسهيل الاكتشافات العلمية، ومساعدة الباحثين على إتخاذ القرار المناسب، والاستثمار الفعلي في أي مشروع علمي، مثل الكيمياء واكتشاف الجزئيات، والطب والتشخيص السريري، والفيزياء والبحث عن جسيماتٍ جديدة، وعلوم التغير المناخي والبيئة وفهم تأثيراتها.

المستقبل سيكون أكثر إشراقاً لأن الذكاء الاصطناعي سيعم كل الدول، حيث سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تسهيل وتطوير التعاون الدولي في مجال البحوث، وتسريع عملية الاكتشاف بوتيرة أسرع، وتطوير التقنيات الجديدة، وتوجيه البحث العلمي نحو تحدياتٍ كبيرة، وخاصّة في مجال البيئة والاقتصاد والصحة، ومن خلال هذا المنطلق علينا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الذي سيوفّر لنا التكنولوجيا الحديثة والفرص الكبرى في مجال البحث والابتكار مع الحفاظ على الأخلاق والأمان.

خلال السنوات القليلة الماضية أصبح جلياً أن الذكاء الاصطناعي لعب دوراً بارزاً في مجال تطبيقاته التي تساعد الباحثين وطلبة الدراسات العليا في كافة خطوات البحث العلمي ومراحله، مثل تجميع المادة العلمية، ومعرفة الدراسات السابقة مثل رسائل الماجستير والدكتوراة، ومن ثم تنظيم وترتيب وادارة ما يتناسب واهتمامات الباحث، وذلك من خلال توفير بيانات تحتوي على الكثير من المواقع والأبحاث.

ومن أهم التطبيقات، تطبيق MENDELEY الذي يوفّر للباحث جمع كافة الأبحاث والدراسات التي يطّلع عليها، والعودة إليها إذا إضّطر إليها مرّة أُخرى.

وتطبيق RESEARCHER الذي يوفّر للباحث الوقت، ويساعد الباحث في أي مشكلةٍ بحثية يتعرّض لها، ويعرض لهم أيضاً الدراسات والأ[حاث السابقة التي لها علاقة بموضوع البحث المهتم به.

وتطبيق LIBGEN وهو يتميّز بأنه يمتلك محرك بحث للمقالات والأبحاث العلمية والكتب في تخصصات مختلفة، والتي توفّر للمستخدم امكانية الوصول السريع والمجاني إلى المحتوى العلمي المقصود، وفي هذا التطبيق هناك أبحاث وملفات وكتب كثيرة جداً بصيغة " PDF" جاهزة للتحميل المجاني.

تطبيق ENDNOTE هو أحد التطبيقات المهمة للذكاء الاصطناعي الذي يُساعد الباحثين على إدارة كافة المراجع أثناء اعدادهم لأبحاثهم العلمية، والبحث في العديد من قواعد البيانات المختلفة.

تطبيق ZOTERO أيضاً هو أحد التطبيقات الذكية، للذكاء الاصطناعي، الذي يُساعد الباحثين على إدارة البيانات و المراجع البيليوغرافية والمواد البحثية، مثل المقالات والرسائل العلمية والبحوث التي تتعلق بعنوان البحث الخاص بهم، وبالتالي يقوم بتنظيم الحواشي والمراجع.

وهناك تطبيقات أخرى مثل M ASADER - ETHOS - ELICIT- وسواها.

من أهم التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي هي المخاوف التي تتجلّى بأن الإعتماد الكلّي على برمجة الذكاء الاصطناعي في الأبحاث كافة سيحدّ حتماً من الحسّ الإنساني والإبداع البشري.

وبنفس الوقت علينا أن نعترف بأن الذكاء الاصطناعي ثورة، لكنه أبداً لن يتمتع بالحسّ البشري، ولن يصل إلى مستوى المعرفة عند الإنسان في مجالات مختلفة عديدة.

إنّ مخاطر الإعتماد على الذكاء الاصطناعي تتجلّى في الخصوصية والأمان والقرارات الأخلاقية، والإعتماد الكلّي تقريباً على التكنولوجيا، والحدّ من ألية اليد العاملة البشرية.

ولكن هناك مجموعة من الاخصّائيين في مجال الذكاء الاصطناعي بذلوا جهداً كبيراً من أجل توظيف الأخلاق والخصوصية والشفافية في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال بل بالاعتماد على مدوّنة أخلاقية خاصّة بالذكاء الاصطناعي.

لا ننكر أن الذكاء الاصطناعي يُعدُّ إنجازاً كبيراً فيما يخصّ الرقي البشري، نظراً لقدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم خدماتٍ كبيرة لا يٍُستهان بها في المجال الإنساني، إن كان في المجال الشخصي أو الطبي أو العسكري أو الصناعي والتجاري، ويبقى الهدف الرئيس هو تحقيق حماية ورفاهية الإنسان، حيث أن هناك ريبوتات خطرة وصعبة في المجال الصناعي، وفي ساحات المواجهات العسكرية ومراقبة الحالة الصحية للمرضى، ومساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة أو الإحتياجات الخاصّة، وأيضاً حماية المنازل كما المؤسسات ضد أي إعتداء عليها، كلّها أمثلة وافية تضمن سلامة الإنسان.

الذكاء الاصطناعي في دول العالم تطوّر بشكلٍ ملحوظ، وكأن هذا التطوّر فرض على الدول العربية السير في هذا المسار، الذي يُشكّل المحرك الرئيسي للابتكار في قطاعاتٍ شتّى.

في السنوات القليلة الماضية شهد الوطن العربي تطوراً واضحاً في مجال الأدوات التكنولوجية التي تلعب دوراً بارزاً في تطوير الأبحاث العلمية والتقدم العلمي.

حيث أخذت المكتبات الرقمية والعناصر البحثية المتطورة منبراً مهماً لتسهيل الوصول إلى الأبحاث والملفات والدراسات العلمية، وهذا الشيء جعل الباحثين العرب يعيشون حالة التطور مع الأبحاث العالمية.

كما تم استخدام البرمجيات المتخصصة لتحليل البيانات في مجالات العلوم الاجتماعية والهندسة والطب، وهذه العناصر توفّر لكل باحثٍ القدرة على تنفيذ التحليلات المعقّدة، وأحياناً المعقدة جداً في زمنٍ قصير.

كما ساهم الذكاء الاصطناعي في تسريع معظم الاكتشافات العلمية، حيث تحسّنت التصاميم، وتحليل البيانات، وتحسين كفاءة الأبحاث العلمية، وتحسين البحث العلمي عبر الحدود.

هناك مشروعاتٍ بارزة في العالم العربي في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل الإمارات والسعودية وقطر، ومصر بدأت الولوج هذا المجال في برامجها.

طبعاً هناك فرص متاحة أمام الوطن العربي، ولكن لا بُدّ من تعزيز التعليم في مجال الذكاء الاصطناعي، والتعاون مع الشركات الدولية ومؤسساتها، وتعزيز العلاقة التعاونية بين القطاعين العام والخاص، وادراج الذكاء الاصطناعي في برامج التعليم الجامعي، وإطلاق حزمةٍ من الاستراتيجيات المحلية الوطنية لدعم برامج البحث العلمي.

نعم الوطن العربي بدأ يشهد تحوّلات واضحة في مجال استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لكن الطريق أمامهم لا يزال طويلاً.

إن استثمار الوطن العربي في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا سيعزز في قدراتهم على تحقيق نتائج كبيرة تُساهم في حلّ معظم التحديات التي تواجه الأمّة في مجال البحث والتطور.

جرت عدة دراسات قام بها باحثون، ’و دقّقوا في دور الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، لمعرفة وإدراك تأثيره الفعلي و مقارنته بالعلماء، وكانت النتائج تُشير بأن الذكاء الاصطناعي وقفزته النوعية يُعتبر قيمة فعلية في مجال المهام البحثية المتنوعة، لكن يفتقد توقعات وشعور الباحثين وخبرتهم.

لكن الذكاء الاصطناعي لديه المقدرة الكافية لمساعدة العلماء والباحثين في مجال جمع البيانات وتفسيرها وتحليلها، وأتمتة العمليات المتتالية، وهذا يخلق عند الباحثين العثور والتركيز على أكثر الجوانب الجوانب تعقيداً في عملهم، وإحداث تطورات جديدة في مجالات مختلفة، وخاصة في مجال علم الأحياء والفيزياء.

وقولاً واحداً إن دمج عناصر الذكاء الاصطناعي في عمليات البحث العلمي الذي يتيح لكل الباحثين تعزيز الكفاءة والانتاجية لديهم، وبالتالي فإن دمج الذكاء الاصطناعي مع الذكاء الإنساني البشري ينتج عنه المقدرة على دفع الابتكار والإبداع إلى مستويات رائدة في مختلف التخصصات.

أكّدت دراسات عديدة جرت حول امكانية ولوج الذكاء الاصطناعي مجال الدراسات العليا، وتحديات استخدام الذكاء الاصطناعي في مستويات التعليم العالي، وأظهرت تلك الدراسات إن تطبيق واستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم العالي يُوفّر القدرة الفعلية في مجال تحقيق الكثير من الفوائد والمزايا، لكنه بنفس الوقت هناك تحديات تُشكّل تهديداً مباشراً على عدة جوانب في التعليم العالي، ولقد سلّط الباحثون الإشارة إلى العديد من التحديات و أكّدوا على سلامة البيانات وجودتها.

حيث تتمتّع مُدخلات الذكاء الاصطناعي بالإبداع في إفراز محتوى ذو صلة مباشرة، لكنه يحتوي على معلوماتٍ مُشوّهة أو غير صحيحة أو مُضللّة.

وبنفس الوقت إن مخرجات الذكاء الاصطناعي تؤدّي إلى تعقيد هذه المشكلة، ممّا يُشكّل الصعوبة على المستخدمين بشكلٍ متصاعد حول تمييز صحةِ المعلومات، ومن ثُمّ قد تنتشر المعلومات الخاطئة والمزيفة، وعدم الوصول إلى اكتساب المعرفة الدقيقة.

ومنها تسمو الحاجة إلى التقييم والتحقيق من مخرجات الذكاء الاصطناعي وخاصة في مجال التخصصات العلمية.

لذلك لا بُدّ من التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال المؤسسات العلمية المتقدمة من خلال توفير بنية تحتية، ودعمٍ فني وتقني، وتوفير فهم وإدراك وبعمق لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، واستكشاف مزاياها، وتجربة وظائفها وقدراتها، والمتطلبات والقيود والتحديات بشكلٍ أفضل.

كما لا بُدّ من التطوير الفعلي للمهارات الخاصّة بهيئة التدريس والطلبة كذلك حول استخدام الذكاء الاصطناعي. وتوفير التدريب اللازم والتوجيه.

ومن الضروري تشكيل فريق عمل متخصّص لوضع تصاميم الخطط والسياسات والمناهج التي تعتمد وتتوافق مع مبادىء تنظيم الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم العالي.

كما لا بُدّ من حماية وسلامة البيانات من خلال ضمان حماية الخصوصية، وتوفير تقنيات أنظمة التشفير والأمان والمصادقة.

***

د. أنور ساطع أصفري

مفتتح: ثمة علاقة دقيقة تربط بين قدرة الإنسان على التفكير واستقلاله فيه، وبين قيمة الحرية وممارسة مقتضياتها. فالإنسان الذي يمتلك إمكانية التفكير المستقل، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع استعادة حريته وإنسانيته، ويستثمر طاقاته وإمكاناته في سبيل تكريس نهج الحرية في الواقع الإنساني.

فاستعادة الحرية بكل متطلباتها وآفاقها، تبدأ من الإنسان نفسه، فهو الذي يقرر قدرته على التحرر والانعتاق أو خضوعه وأستقلاله واستعباده لمراكز القوى والسلطات، وذلك لأن " التفكير السليم، هو الشرط الأول للقوة في الحياة. من هنا ركز القرآن الحكيم على أن الإيمان بالله يعطي صاحبه التحرر، والتحرر يعطيه الــقوة (التمسك بالعروة الوثقى) والعلم (يخرجه من الظلمات إلى النور). ولكن أي إيمان هذا الذي يعطينا القوة والعلم. إنه الإيمان الواعي، لا الإيمان المكره عليه فهو الآخر نوع من الاستعباد والخضوع للطاغوت. أرأيت لو آمن شعب بالله لأن السلطة السياسية فيه أجبرته عليه، هل هذه حرية أم استعباد ؟ بالطبع استعباد، لأن هذا الشعب سوف يكفر بالله لو أن السلطة السياسية أمرته بالكفر. من هنا تحدث القرآن في بداية الحديث عن الحرية الدينية وقال [لاإكراه في الدين] " (1).

جذر الحرية:

فجذر الحرية، هو أن يتحرر الإنسان من كل الضغوطات والأهواء والشهوات، التي تدفعه إلى الخضوع والانسياق ورائها.. فحينما يغمر الإيمان بالله عز وجل قلب الإنسان، ويتواصل بحب واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الإنعتاق من كل الأشياء التي تناقض حرية الإنسان. فطريق الحرية الإنسانية، يبدأ بالإيمان والعبودية المطلقة للباري عز وجل.. وذلك لأن " كل الأشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه لأن الأشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لإختباء الإنسان عن الله في أي عمل يخفيه، أو سر يكتمه أو خطأ يستره، لأن الإخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولعل هذا الإحساس هو الذي يتعمق في وعي الإنسان من حركة إيمانه فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيات الشريرة التي تتحفز للإندفاع والظهور " (2).

من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الإكراه والسيطرة، ودعت النبي الأكرم (ص) إلى التحرك في اجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حرية الفكر والتعبير.. إذ قال تعالى [وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر].. (3).

وقال عز من قائل [فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر].. (4).

وقال تبارك وتعالى [أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين].. (5).

ولقد حدد (جودت سعيد) (6). مجموعة من الفوائد من آية [لا إكراه في الدين] منها:

1. إنها في ظاهرها حماية للإنسان الآخر من أن يقع عليه الإكراه من قبلك، ولكنها في باطنها حماية لك أيضا من أن يقع عليك الإكراه، فهي حماية للآخر وحماية للذات من أن يقع على كل منهما الإكراه.

2. يمكن فهم هذه الآية على أنها إخبار وليس إنشاءً أي يمكن أن تفهم على أنها نفي وليست نهيا، ويكون بذلك معناها إخبارا بأن الدين الذي يفرض بالإكراه لا يصير دينا للمكره فهو لم يقبله من قلبه، والدين في القلب وليس في اللسان فهي بهذا الشكل إخبار بأن الدين لا يتحقق بالإكراه ومن يكره إنما يقوم بعمل عابث لا أصل له.

هذا معنى الآية حين نفهمها على أنها إخبار وليس إنشاءا أو أمرا، كما يمكن أن نفهم الآية على أساس الإنشاء أي أن تُفهم على أنها نهي عن الإكراه، لأنه لا يليق بالعاقل أن يقوم بعمل عابث، ولأن فرض الإيمان والدين بالإكراه عبث فجدير أن ينهانا الله عنه، فيكون المعنى نهيا عن ممارسة الإكراه للآخر، ونهيا أيضا لنا عن أن نقبل الإكراه والخضوع له..

فرشد الإنسان فردا ومجتمعا، هو من جراء إلتزامه بحريته واحترامه التام لحريات الآخرين. فحينما تنتفي كل الضغوطات والإكراهات، يتحقق مفهوم الرشد في الواقع الخاص والعام. فالحرية بكل ما تحمل من معاني إنسانية نبيلة وقيم تعلي من شأن الإنسان وكرامته، وتحميه من كل نزعات الإستفراد والإقصاء والنبذ والإكراه، هي بوابة الرشد و وسيلته في آن.. وهي التي تخرج الإنسان من الغي، وتخلق حقائق الإستمساك بالعروة الوثقى.

فالمجتمع الذي يمارس حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بعيدا عن كل أشكال الإكراه والعنف، هو المجتمع الرشيد الذي يدافع عن حقوقه ومكاسبه بالحرية.. وبها (الحرية) أيضا يصون حرمات الآخرين ومكاسبهم.

والتاريخ يحدثنا أن كل من يمارس الإكراه والعنف للدفاع عن ذاته، لا ينجز مراده ولا يحقق هدفه، بل ترتد عليه هذه الممارسات أكثر سوءا ويدخل في أتون النزاعات والحروب والعنف والعنف المضاد.

 فالاتحاد السوفيتي لم يستطع أن يحمي ذاته من التشرذم والإنقسام والتلاشي، مع العلم أنه يمتلك أعتى الأسلحة وأطورها. فهذه الأسلحة الفتاكة لم تمنع الشعوب المنضوية تحت لواء الإتحاد السوفيتي من النهوض ورفض كل أشكال القهر والإكراه..فالحضارات لا تبنى بالإكراه، كما أن الأفكار لا تنتقل بالقسر والقهر.. فما أكثر الامبراطوريات التي انهارت وتلاشت وأصبحت في ذمــة التاريخ، بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والإكراه..

وفي المقابل نجد أن هناك أمما ودولا صمدت في وجه كل عمليات القمع والقسر والإكراه، لأنها تدير شؤونها وتسير أمورها بحرية وديمقراطية، وبعيدا عن كل أشكال القهر والإكراه..

فالحياة دائما لكل أمة ومجتمع يدار بالحرية، وينبذ الإكراه بكل صنوفه وأشكاله ومستوياته. ويرتكب حماقة تاريخية كبرى كل من يسعى إلى إدخال غيره في دينه أو مذهبه أو حزبه بالإرغام والقهر والإكراه..

والحرية في المنظور الإسلامي، من القيم المتجذرة في جبلة الإنسان، إذ أنه (فطريا) يرفض التسلط والإستفراد بالرأي والإستبداد، ويحب الشورى والمشاركة، ويثنى على المبادرة والقدرة على الفعل والعمل ونبذ العجز بكل صنوفه وأشكاله..

لذلك فإن الحرية من القيم الأساسية في حركة الإنسان الفرد والجماعة، وبها يقاس تقدم الأمم وتطورها.. إذ لا يمكن أن يتحقق التقدم إلا بالتحرر من كل معوقاته وكوابحه، والحرية هي العنوان العريض للقدرة الإنسانية على إزالة المعوقات وإنجاز أسباب وعوامل النهوض والإنعتاق. لذلك فإن المفردات الأساسية التي تنبع من قيمة الحرية، لا نتعامل معها وفق عقلية ظرفية، آنية، وإنما نتعامل معها باعتبارها جزءا من منظومتنا العقدية والفكرية، ولازمة من لوازم إيماننا العميق بأن مشروع الإسلام في الحياة شامل ومتكامل، ويوفر كل متطلبات النهوض والتقدم ومستلزماتهما.

في معنى حرية التعبير:

تنتمي مقولة حرية التعبير إلى الحريات المدنية، التي هي من الحقوق الأصيلة لدى الإنسان الفرد والجماعة.

ومجالات هذه الحرية عديدة، منها حرية المعتقد والبوح والتعبير عن الرأي والفكر وممارسة النقد وحرية الإعلام بكل أشكاله. لهذا نجد أن هناك العديد من الآيات القرآنية، التي توضح بشكل لا لبس فيه حرمة إكراه أي شخص على تبني دين من الأديان. فالإسلام دين الحق وهذا لا ريب فيه، ولكن لا يجوز لأي أحد مهما علا شأنه، أن يكره أحدا على إعتناقه. يقول تبارك وتعالى [ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين](7). وقال تعالى [قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون] (8). وغيرها من الآيات القرآنية التي توضح أن مهمة الأنبياء والرسل هي الدعوة والتبليغ، وأن إكراه الناس والأقوام على الإيمان برسالات السماء، ليس من مهمات الأنبياء والرسل. وحينما تكون اختيارات الناس العقدية سيئة أو لا تنسجم ومقتضيات الدعوة الربانية كما تقررها الآيات القرآنية، فإن الجزاء موكول إلى الآخرة. أي أن العقاب المترتب على بطلان اختيار الإنسان لدينه وعقيدته، هو من اختصاص الباري عز وجل في الآخرة. إذ يقول تبارك وتعالى [وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا] (9).

وحرية التعبير مفردة من المفردات، التي تؤكدها قيمة الحرية في المنظور الإسلامي. لذلك فنحن ينبغي أن لا نتعامل مع هذه المفردة بطريقة إنشائية أو دعائية، وإنما نتعامل معها باعتبارنا مأمورون بتحقيقها وصيانتها وتجذيرها في واقعنا الخاص والعام. والحريات وفق هذا التصور، لا يمكن أن نجسدها ونتمثلها إلا وفق سياق حضاري وثقافي قوامه الإسلام وخصوصياته الثقافية والمعرفية والاجتماعية..

والباري عز وجل لا يعبد حق العبادة في بيئة استبدادية، إذ أن توفر الحريات، يساهم بشكل أساسي في إنجاز مفهوم العبادة للخالق على أكمل وجه. إذ أن الكثير من المفردات التي يقوم بها الإنسان متقربا بها إلى الله عز وجل، تتطلب مساحة من حرية الاختيار والتفكير، حتى يتسنى للإنسان ممارسة وظيفته العبادية بصورة مخلصة وبعيدا عن الإكراهات بمختلف أنواعها وأشكالها.

لذلك نجد أن الأنبياء جميعا حاربوا الاستبداد، ووقفوا في وجه كل الديكتاتوريات، وعملوا من مواقع مختلفة لإرساء دعائم الحرية للإنسان.. و " لقد فك الأنبياء جميعا العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الأفكار من معركة الأجساد، والله تعالى حمى الأجساد من أن يعتدى عليها من أجل الأفكار، فلم يعط لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته " (10)..

وفي سبيل نيل الحقوق والحريات، لم يشرع الله سبحانه وتعالى للأنبياء ممارسة الإجبار والإكراه، وإنما حـدد مهمتهم ووظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والتبشير والنذير.

فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية ـ سلمية، بعيدة كل البعد عن كل أشكال الضغط والاستبداد والقوة..

فالحرية هي الهدف والغاية والوسيلة في آن. فعبر حرية الاختيار نعمق ونجذر تحرر الإنسان من كل السلط والديكتاتوريات..

ووفق هذا المنظور، يكون الجهاد بمعنى الدفاع عن كل الحقوق والحريات، وتوفير البيئة المناسبة لهداية الإنسان وسعيه الحثيث للقضاء على جذور الاستبداد والديكتاتورية. وعلاقة الباري عز وجل بالإنسان، هي علاقة الحرية والمحبة وليس الإكراه والعنف.

وعلى هدى هذا نقول: أنه لا يجوز التضحية بحريات الأفراد تحت مبرر معارك الخارج وتحدياته الحاسمة. إذ أنه لا يمكن أن نواجه تحديات الخارج بشكل فعال، إلا إذا وفرنا الحريات والحقوق لجميع المواطنين.

ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول أن مجالنا العربي والإسلامي في العقود الخمسة الماضية قد قلب المعادلة، إذ سعت نخبته السياسية الحاكمة، إلى تكميم الأفواه والاستبداد بالرأي، وإقصاء كل القوى والمكونات السياسية والثقافية تحت دعوى ومسوغ أن متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني، تتطلب ذلك. وأصبح شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها جميعا حاكما ومحكوما، أن هذا الخيار السياسي لم يوصلنا إلا إلى المزيد من التدهور والإنحطاط، وبفعل هذه العقلية أصبح العدو الصهيوني أكثر قوة ومنعة، ودخلنا جميعا في الزمن الإسرائيلي بكل تداعياته الدبلوماسية والسياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية.

فتصحير الحياة السياسية والمدنية العربية والإسلامية، لم يزدنا إلا ضياعا وتشتتا وضعفا. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية..

لذلك آن الأوان بالنسبة لنا جميعا أن نعيد صياغة المعادلة. فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني، إلا بإرتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية. فإرساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، وفسح المجال القانوني للتشكيلات السياسية والثقافية والنقابية والمهنية، وتنظيم علاقة الحاكم والمحكومين وفق أسس دستورية وقانونية جديدة، تلحظ متطلبات الطرفين.

كل هذه الممارسات والمتطلبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية، وانتصارنا على العدو الخارجي، مرهون إلى قدرتنا على إنجاز هذه المتطلبات في الداخل العربي والإسلامي.. فالديكتاتوريات لا تصنع منجزات تاريخية، وإن صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء الظلم والاستبداد وتكميم الأفواه وإمتهان كرامة الإنسان. ان الحرية بكل مدلولاتها السياسية والثقافية والمجتمعية، هي الشرط التاريخي الذي ينبغي أن نوفره في مجالنا الاجتماعي، حتى تتهيأ كل الظروف المفضية إلى تحقيق الإنجاز التاريخي والحضاري، وهذا لا يعني أن الديمقراطية حلا سحريا وفوريا، وإنما يعني إننا خطونا الخطوة الصحيحة الأولى في مشوار البناء والتقدم.

والسؤال هو: ما هي معايير وضوابط حرية التعبير في الفكر الإسلامي المعاصر؟

1) حقوق الإنسان المادية والمعنوية، حيث أن للإنسان الحق في التعبير عن آراءه وأفكاره وقناعاته في الفضاء والمجال الذي لا يؤدي إلى إنتهاك حقوق الإنسان المادية والمعنوية. فحرية التعبير، لا تعني السماح بالتعدي على حقوق الآخرين وممتلكاتهم المادية والرمزية. فالمعيار الأساسي والناظم لعملية حرية التعبير، إنها منضبطة بضوابط حقوق الإنسان.

ومن المطلوب دائما أن لا ننظر إلى قيمة حرية التعبير السياسية والإعلامية، بعيدا عن الضوابط الأخلاقية التي من الضروري أن تراعى من جميع الأطراف والقوى.

فحرية التعبير لا تتماهى مع حالات التطاول على المقدسات وتجاوز البديهيات والضرورات الأخلاقية. لذلك فإن حرية التعبير تمارس وفق منظور متكامل يجمع هذه الضرورة وضرورات أخرى لا بد أن تراعى وتحترم. لذلك من الأهمية أن لا نأخذ هذه القيمة بشكل مجرد، وإنما نعتبرها جزء من منظومة مفاهيمية متكاملة. فحرية التعبير جزء من نسق عــام، تتكامل فيه المفردات والعناصر، بحيث يتشكل نسقا ديمقراطيا متكاملا.

فـ " نحن نعلم أنه بغير حرية الفكر والرأي وسيادة النظــام الديمقراطي، تعجز الثقافة ـ أية ثقافة ـ عن تحقيق تراكمها الطبيعي وإرتياد آفاق الإبداع. الديمقراطية صنو الثقافة وبيئتها الطبيعية. وليس معنى ذلك أن الثقافة تملك الحق في أن تقول ما تشاء ولو على حساب مقدسات المجتمع والدولة، بل هي تملك الحق في أن لا تكون هذه المقدسات سببا وظيفيا لدى البعض في وضع الكوابح أمام حرية الانتاج الثقافي ".. (11).

فالحرية تتحرك وتعمل وتمارس في فضاء ونطاق الحق ولا تتعداه. وهذا هو الذي يفسر لنا قيام أحدى عشر ولاية أمريكية بتشريع قانون (أكسون) القاضي بتقييد استعمال الإنترنت وحصره لتأمين الحشمة. كما قامت جامعتا (كارنيغي ميلون) و (إكسفرود) بوضع ضوابط لإستخدام الإنترنت، كما قامت شركة الهاتف الألمانية بقطع الخطوط الهاتفية الخاصة بمقدم خدمة أمريكي لحملة مواد دعائية للنازية. ودعا البرلمان الأوروبي إلى تحرك عالمي لضبط تبادل المواد الإباحية والعنصرية على الإنترنت.

فالحريات مصانة، وحقوق الإنسان مصانة، وحين التزاحم والتعارض والتناقض، تقيد الحريات بحيث تمارس دون الإضرار بحقوق الآخرين المادية والمعنوية والرمزية. فالنص القرآني أمرنا جميعا، بإحترام الآخرين والمغايرين، بل أمرنا البر والقسط بهم. إذ قال تعالى [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] (12).

" وقد عنى البر والقسط الضمانات القانونية لحرياتهم الدينية والاجتماعية، وحقهم في التقاضي إلى أبناء ملتهم. فبقية الأديان القديمة كلها في الأقاليم التي أفتتحها المسلمون. وهكذا ظهرت منظومة المصالح الضرورية الخمس لدى الفقهاء المسلمين منذ القرن الثاني عشر الميلادي وربما قبل ذلك، وهي حق النفس، وحق الدين، وحق العقل، وحق النسل، وحق الملك. وقد قال الشاطبي (وهو فقيه مالكي من القرن الخامس عشر الميلادي) إن هذه المبادئ أو الحقوق أو الإلتزامات ربما لم تكن خاصة بالشريعة الإسلامية، فقد قيل أن مراعاة في كل ملة.. " (13).

2) إحترام قيم الأمة العليا: فالحرية لا تعني التفلت من الضوابط والأخلاق، وإنما تمارس الحرية بكل مستوياتها في نطاق هذه الضوابط والأخلاق والقيم. ولعل من أهم الضوابط التي تمارسها جميع الأمم والشعوب، هو أحترام مقدساتها الكبرى وصون قيم الأمة العليا. وذلك لأن هذه القيم، هي التي تثري مضمون حريتنا وتنظم العلاقة بين مجموع القيم والمبـادئ بما يصطلح عليه (التفاضل بين القيم).

فآراء الإنسان مصونة، بمعنى أن الإنسان لا يقتل بسبب آراءه ومعتقداته.. والآراء والأفكار والقناعات، لا تواجه بالقوة المادية أو إستعداء السلطات، وإنما بالرد الفكري والحوار المتواصل وبيان أوجه الخطل والضعف في الآراء المتداولة. " ولا تتقدم المعرفة الإنسانية إلا بالتناضل بين أصحاب الآراء المتخالفة. أما إذا كان الناس جميعا على رأي واحد فإن أحدا لن يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والاستقامة من الإنحراف الفكري " (14).

فالحرية حق طبيعي من حقوق الإنسان، ولا يمكن لأي جهة في المنظور الإسلامي أن تحجر على حرية الإنسان أو تحول دون ممارسة الإنسان لحرياته. فهي من الحقوق الأصيلة المرتبطة بإنسانية الإنسان. بمعنى أن قوام إنسانية الإنسان هي الحرية، وإي إنتهاك لهذه الحرية، بقدر هذا الإنتهاك، تنتهك إنسانية الإنسان. لذلك فالسبيل الذي أرساه الدين الإسلامي، لصيانة إنسانية الإنسان، هو الحرية وعدم منعه من ممارسة حقوقه في التفكير والتعبير والبحوح بآراءه والدفاع عن قناعاته وأفكاره. ولا بد أن ندرك أن إنكار هذه الحقوق ومنع الإنسان عن ممارستها، ليس صيانة للعقيدة والإسلام، بل هو تشويه للدين وإظهاره مظهر المنكر لحقوق الإنسان.

فصيانة العقيدة والدفاع عن قيم الدين، سبيلهما هو إرساء دعائم الحرية، وفسح المجال للناس لكي يمارسوا حريتهم ويصونوا كرامتهم.. ويقول المرحوم الشيخ (مرتضى مطهري) أن " كل مدرسة تؤمن وتعتقد بأيدلوجيتها لابد لها من حماية حرية الفكر والعقيدة، وكل مدرسة لا تؤمن بهذا تمنع حرية الرأي. وأن مثل هذه المدارس تريد أن تحصر الناس في إطار خاص وتمنعهم من بلوغ رشدهم الفكري ". (15).

وعلى المستوى الفقهي يكفل الإسلام حق التعبير المؤسسي والتنظيمي، وذلك لأن الفقه الإسلامي يشتمل على إجتهادات وتعبيرات فقهية متعددة ومتنوعة، كما " أن الدولة في الإسلام، وحسب رأيي وعلى خلاف كل ما مورس تاريخيا، بدءا من العصر الأموي، ليس دولة شمولية. الإسلام يعطي للدولة أصغر مساحة من السلطة على المواطن وعلى الإنسان وعلى الجماعة. الأمر الذي جعل من الإنجاز الحضاري في التاريخ الإسلامي وكما سبقت الإشارة إنجازا مرتبطا بالأمة وبالمجتمع وبمبادرات الناس. إن المساحة الضئيلة التي تغطيها الدولة هي مساحة النظام العام للمجتمع والتي يلخصها تعبير: حراسة العقيدة والشريعة. والحراسة لا تحمل معنى التدخل في حياة الناس وعقائدهم. إننا لا نتصور دولة إسلامية تنقب عن عقائد الناس أو تتحول إلى محاكم تفتيش كالذي حدث مثلا في محنة خلق القرآن، حيث تشكل في مجلس الحاكم ما يشبه المحكمة التي تستدعي أهل الرأي والفكر فيسئلوا عن أفكارهم، أو كالذي حدث لبعض حالات الصوفية. هذا أمر غير مشروع. تعامل الناس على ظاهر الإسلام مالم يظهر منها ما يناقض هذا الظاهر ".. (16).

فالإنســان لا يقتل من أجل أفكاره، إذ أن له الحق التام في الاقتناع بأي فكرة أو مبدأ. ولكن الذي يعارضه الإسلام، هو تجاوز النظام العام ومحاربة النظام الشرعي. والذين قتلوا في الكثير من حقب التاريخ، لم يكن بسبب آرائهم وأفكارهم، وإنما بسبب عوامل سياسية أخرى، مرتبطة بالنظام العام، وطبيعة السلطة وبنيتها. لذلك نجد أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) لم يحارب ويرفع السلاح في وجه الخوارج ويقتلهم ويقاتلهم إلا حينما تجاوزوا حرية الكلمة والتعبير، وسعوا إلى فرض كلماتهم وقناعاتهم وتصوراتهم بالقوة والقهر والعنف. فلقد كفر الخوارج الإمام علي ولكنه لم يحاربهم لذلك. ولكن حينما استباحوا دم المسلمين، وتعرض النظام العام للخطر وقف في وجههم. وقد وضح الإمام (ع) موقفه من الخوارج في هذه الرواية.. " فقد روي أن أصحابه سئلوه عن الخوارج: أمشركون هم يا أمير المؤمنين.. قال من الشرك فروا.. قالوا أمنافقون ؟ قال إن المنافقي لا يذكرون الله إلا قليلا ! قالوا فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ قال أخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم. فأذكروا عني إذا لقيتموهم من بعدي أنهم طلبوا الحق فأخطأوه، أما القاسطون فقدطلبوا الباطل فأصابوه ".. (17).

ومع كل ما بدر من الخوارج من تصرفات وخروج عن الإجماع الوطني والديني وإعلانهم الحرب الضروس ضد الشرعية السياسية والدينية، إلا أن الإمام علي (ع) لم يكفرهم ويخرجهم من ملة الإسلام. فحينما سأله السائل قال: من الكفر فروا. ولم يعتبرهم منافقين ويشن عليهم حرب الشائعات والأوراق الصفراء، وذلك لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وأولئك يذكرون الله كثيرا.

أقصى ما قاله الإمام علي (ع) بحقهم أنه (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).. فالإكراه مهما كان شكله ومسوغاته، ليس طريق الإيمان. لذلك قرر الفقهاء أن " الكافر إذا أكره على الإسلام فالظاهر أنه لم يحكم بإسلامه سواء كان من أهل الكتاب أو لا ؟ إذ لا دليل على قبول مثل هذا الإسلام. فكما لا أثر لكفر المكره عليه كذلك لا أثر للإسلام المكره عليه " (18).

أما بالنسبة إلى مسألة الردة وحرية المعتقد، فأرى أنه من أفضل الآراء المعاصرة وأصوبها، التي ناقشت هذه المسألة من منظور فقهي هو رأي المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين (19). الذي بلوره على الشكل التالي: " يجب التمييز بين مستويين من تغيير الرأي والمعتقد: ـ مستوى تبديل الرأي والرجوع عن الإسلام كرأي شخصي للإنسان، بينه وبين نفسه، هذا الموقف لا يؤاخذ عليه طالما أن الأمر لا يصل إلى موقف الدعوة والتحريض على الإسلام..

 ـ مستوى الردة حينما يتحول المرتد من مجرد صاحب رأي إلى داع ومحرض. وفي هذه الحالة يكون هذا الإنسان قد خرج من دائرة حرية الرأي وحرية المعتقد إلى مساحة أخرى وهي دعوة الآخرين إلى الإرتداد، وهذا يدخل في التقييم الفقهي في باب الحرابة الفكرية، إذا صح التعبير أو في باب التخريب الفكري والعدوان الفكري. هناك آراء تحكم على المرتد بالموت أو بالحبس أو بالعزل بمجرد أن يعرف عنه ذلك. ولكنه رأي لا نوافق عليه. نرى الرأي الآخر وهو أن الردة إنما تكون موضوعا للمؤاخذة حينما يعبر عنها المرتد بنحو دعائي وتحريضي للآخرين أن يرتدوا مثله.

بهذا يكون المرتد هنا محارب لعقيدة المجتمع قبل أن يكون محاربا لعقيدة الدولة. هذا الموقف موضوع للمؤاخذه ولا يسمح بالتنوع أن يصل إلى هذه الدرجة. لا يمكن أن يسمح بموقف يدعوا إلى تفكيك أو إلغاء الأساس الوجودي للمجتمع وللأمة بحيث لا يعود المسلم مسلما ولا المجتمع الإسلامي مجتمعا إسلاميا. لا يمكن لعقيدة أن تشرع إلغاء نفسها. يمكن أن تشرع قبول غيرها والتعايش مع غيرها. يمكن أن تشرع حرية الإعتقاد بها، ويمكن أن تحتمل في مجتمعها الخاص الأغيار الذين لا يعتقدون بها، ويمكن أن تؤمن لهم الوضع الحقوقي المناسب لحقوقهم الإنسانية وكرامتهم الإنسانية والتعبير عن ذاتيتهم الخاصة في العبادة والثقافة والتشكيل الاجتماعي. أما أن يصل الأمر إلى تشريع إلغاء الذات، فهذا أمر لا يمكن للإسلام أن يقدم عليه. وهذا يصح على أية فلسفة أخرى في أي مجتمع آخر. لا يعقل أن تشرع إلغاء نفسها لأنها بمجرد أن تفعل ذلك تكون قد عبّرت عن عدم صدقيتها وعدم حقانيتها. حتى لو أخذنا مثلا المجتمعات الديمقراطية الغربية، هل تسمح فلسفتها التي تصدر عن اللبرالية والمذهب الرأسمالي في الاقتصاد لقوى وإتجاهات من شأنها أن تغير جوهر هذه الفلسفة؟

أن السماح بوجود أحزاب شيوعية مثلا في بلدان رأسمالية لا يعدو شكلا من أشكال ألوان الديمقراطية. وهو وجود شكلي يمارس حرية مضبوطة النتائج ولا تهدد أسس النظام وفلسفته.

3) الإلتزام بالإطــار القانوني الذي يؤطر حركة المجتمع بكل شرائحه ومستوياته ومجالاته. فحق التعبير لا يتجاوز الإطار القانوني الذي رسمه المجتمع لنفسه، وهو الذي ينظم حركة المجتمع في الاتجاهات كافة.

فـ " الحرية في التصور الإسلامي أمانة، أي مسؤولية ووعي بالحق، والالتزام به، وفنائه فيه. نعم إن الحرية بالمعنى التكويني هي إباحة وإختيار أو هي فطرة، فقد أختصنا الله بخلقه تحمل القدرة على فعل الخير والشر. وكانت تلك مسؤولية، أما بالمعنى الأخلاقي أو التشريعي فهي تكيف حسب عبارة الأصوليين. الحرية: أن نمارس مسئوليتنا ممارسة إيجابية، أن نفعل الواجب طوعا. بإتيان الأمر واجتناب النهي، فنستحق درجة الخلفاء وأولياء الله الصالحين " (20).

فمن خلال هذا المنظور للحرية بكونها مسئولية وأمانة، نحن نتعامل مع حق التعبير، فهو كذلك مسئولية وأمانة، ينبغي لنا أن نستخدمها أفضل إستخدام.

فحق التعبير ليس غاية نهائية، وإنما هو وسيلة لإنجاز شهود الإنسان في هذه الأرض وخلافته وتحملــه للأمانة والمسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى للإنسان. إذ قال تعالى [إنا عرضا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا] (21).

لهذا من الضروري أن يتم التعامل مع هذا الحق العظيم بدافع من الحب والإخلاص، حتى يتسنى لنا جميعا تحقيق المراد الأسمى لهذا الحق وللمنظومة المفاهيمية الإسلامية.

فالحرية هي بوابة أن يكون الإنسان الفرد والجماعة، سيد نفسه ومصيره، وهي التي تدفعه إلى إجتراح وسائل التطور وأساليب التقدم، وهي معيار التقدم للأفراد والجماعات. والحضارات لا تبنى بدونها، والعمران لا يشيد إذا غابت، فهي بوابة الحياة الكريمة والسعيدة والمتطورة.

ولا يمكن أن تتوطد أركان الديمقراطية على الصعيد المجتمعي، إذا لم يتم التشريع والحماية لحرية التعبير وحق المواطن (بصرف النظر عن منبته وموقعه الاجتماعي والسياسي والفكري) في التعبير عن آراءه ومواقفه وتصوراته للراهن والغد.

نتائج أخيرة:

1- الحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفا وتشريعا. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية ويضيف لها أبعادا ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية. فالحرية ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية.

2- الحرية في بعدها النظري وبعدها التطبيقي، ليست مشروعا ناجزا، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والابداعات الإنسانية. من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديموقراطيين. وإن كل حرية بلا أحرار، هي حرية شكلية، وأن كل ديمقراطية بدون ديمقراطيين، هي شكلية أيضا. وإن حجر الزاوية في مشروع الحرية، هو وجود الإنسان الحر الذي يترجم قيم الحرية، ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها.

3- إن الحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات. فالحرية هي عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي.

فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام. فالحرية التي تؤدي إلى الظلم أو تفضي إليه ليست مطلوبة. فالمطلوب دائما هو خلق منظومة متكاملة من القيم كالحرية والمساواة والعدالة. والتضحية بإحداهما من أجل الأخرى، يؤدي إلى بروز مشاكل اجتماعية أو سياسية أو هما معا. فكيف نؤسس لحرية لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين المادية والمعنوية. وكيف تقبض على العدالة بدون التضحية بقيمة الحرية. فالحرية هي جزى من أجزاء العدالة، ومن يطلبها يطلب جزءا من العدالة.

هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الإجابة عليها الا بتطوير (مجال التفاضل بين القيم). وهو من المجالات التي تحتاج الى الكثير من اعمال العقل والاجتهاد لبناء منظومة قيمية متكاملة. بحيث لا يحدث تعارض بين هذه القيم على المستوى الخارجي.

كما أنه لا حرية في أي فضاء اجتماعي، بدون احترام وصيانة حقوق الإنسان، فهي بوابة القبض على الحرية وممارستها. فالحرية في جوهرها، ليست مقولة جاهزة، وإنما هي إجراءات وحقائق وممارسات تتمسك بحقوق الإنسان وتدافع عنها.

4- إن الحرية كممارسة، ليست خطابا يلقى، أو ادعاءا يدعى، وإنما هي إرادة إنسانية صلبة تتجه نحو التمسك بالحرية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب الحرية، تتحقق بذات القدر حقائق الحرية. فحجر الزاوية في مشروع ممارسة الحرية، هو الإرادة الإنسانية. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم (التربية على الحرية)، إذ أن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على الحرية.

والتربية على الحرية تحتاج إلى:

أ‌- استعداد نفسي تام للقبول بكل مقتضيات الحرية.

ب‌- الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني الذي يؤسس لخيار الحرية ويبلور مضامينها.

ت‌- الموازنة الواعية بين ثقافة الطاعة وثقافة المسؤولية.

وخلاصة القول: أن الحرية كقيمة فردية ومجتمعية، بحاجة إلى من يدافع عنها، ويبشر ببركاتها.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

......................

الهوامش

1. من هدى القرآن، السيد محمد تقي المدرسي، المجلد الأول، ص 446 ـ 447، دار البيان العربي، بيروت، 1406هـ.

2. من وحي القرآن، السيد محمد حسين فضل الله، المجلد الثاني، الحلقة الخامسة، ص 21 ـ 22، دار الزهراء، الطبــعة الثالثة، بيروت 1983م.

3. القرآن الكريم، سورة الكهف، آية(29).

4. القرآن الكريم، سورة الغاشية، آية (22).

5. القرآن الكريم، سورة يونس، آية (99).

6. لا إكراه في الدين ـ دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي، جودت سعيد، ص 26، العلم والسلام للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، دمشق 1997م.

7. القرآن الكريم، سورة يونص، الآية 99.

8. القرآن الكريم، سورة هود، الآية 28.

9. القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 29.

10. لا إكراه في الدين - دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص 13.

11. في البدء كانت الثقافة ـ نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية، عبدالإله بلقزيز، ص 55 الطبعة الأولى، أفريقيا الشرق، بيروت 1998م.

12. القرآن الكريم، سورة الممتحنة، آية (8).

13. جريدة الحياة اللندنية (11 /إبريل 2001م) دراسة رضوان السيد بعنوان (الثقافة الإسلامية وثقافة السلام).

14. الحق في التعبير، محمد سليم العوا، ص 11، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة 1998م.

15. الفكر الإسلامي المعــاصر في إيران ـ جــدليات التقليد والتجديد، محمد رضا وصفي، ص 194، دار الــجديد، الطبعة الثانية بيروت (2001م).

16. مجلة منبر الحوار، العدد (34)، ص 23 السنة التاسعة، خريف 1994م.

17. علي إمام المتقين، ج2، ص 202، نقلا عن كتاب أخلاقيات امير المؤمنين ـ السيد هادي المدرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، بيروت 1411هـ.

18. الفقه ـ الحدود والتعزيرات، موسوعة إستدلالية في الفقه الإسلامي، الجزء (88) السيد محمد الشيرازي، ص 314، دار العلوم، الطبعة الثانية، بيروت 1988م.

19. مجلة منبر الحوار، مصدر سابق، ص 25.

20. الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، ص 38، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 1993م.

21. القرآن الكريم، سورة الأحزاب، آية (72).

 

الكتابة، في جوهرها، فعل مقاومة وانكشاف، لكنها أيضاً ساحة للصراع بين الكاتب والسلطة، سواء كانت سياسية، أوأجتماعية أو ثقافية. ففي سعيه للبحث عن الحقيقة، يجد الكاتب نفسه في مواجهة تحديات تفرض عليه الموازنة بين الجرأة والتورية، بين الصراحة والرمز، وبين حرية التعبير وحدودها المفروضة. ومنذ أن وُجد الإنسان، وُجدت السلطة التي تسعى الى تقييد أفكاره، كما وُجد أيضاً، الكاتب الذي يبحث عن الحقيقة في مفاصل الحياة وبكل ما يحيطه رغم كل العقبات. فالكتابة ليست مجرد أداة للتعبير عن المشاعر أو نقل المعرفة، بل هي سلاح يواجه به الكاتب الأكاذيب والمغالطات، ويُسهم في تشكيل وعي المجتمع. لكن في هذا الطريق، يواجه الكاتب معضلات معقدة: فألى أي مدى يستطيع ممارسة حريته دون الأصطدام المباشر بالسلطة؟ وكيف يوازن بين كشف الحقيقة وعدم التعرض للقمع أو التضييق؟ وهل التورية شكل من أشكال الخوف أم أنها أداة ذكية للبقاء والاستمرار؟ 

الكاتب والسلطة والتورية: صراع أبدي أم سلاح أدبي؟

ولطالما شكلت السلطة، بأشكالها المختلفة داخل مؤسسات الدولة، قيداً على حرية الكاتب، وإن الأنظمة السياسية تسعى الى ضبط السرد والتحكم في الخطاب العام، فيما تفرض الأعراف الاجتماعية قيوداً غير مكتوبة على ما يمكن قوله وما يجب تجنبه. فالكاتب الحقيقي، بطبيعته، ليس تابعاً لأي سلطة، بل هو في صدام دائم معها، يسائلها ويكشف تناقضاتها، وهو ما يجعله عرضة للمضايقات أو حتى القمع في بعض الأحيان.

ففي مواجهة الرقابة والملاحقة، يدفع الكاتب للجوء الى التورية، وهي أداة لغوية تتيح له تمرير الأفكار بذكاء، حيث يقول ما لا يُقال صراحة، ويوصل المعنى عبر الرمز والإستعارة، وقد وجدنا في عصور القمع المختلفة، إن الكتابة الرمزية قد آزدهرت، سواء في الأدب او الصحافة، كوسيلة لتجاوز الخطوط الحمراء دون الاصطدام المباشر بالسلطة ومن يدور في مدارها، فالتورية ليست جُبناً، بل براعة في إيصال الرسالة دون أن تكون فريسة سهلة لمن يريدون قمع الفكر وحرية التعبير.

إن حرية التعبير هي الركيزة الأساسية للكتابة الصادقة، لكنها ليست مطلقة بلا قيد، بل عليه أن يعرف كيف يوظف مفردات أفكاره. فبينما يسعى الكاتب الى كشف الحقيقة، عليه أن يدرك أثر كلماته على المجتمع والفرد. فهناك خيط رفيع بين حرية التعبير والفوضى الفكرية، وبين النقد البناء والتحريض، وبين التحدي المشروع والتجاوز الذي قد يُستخدم لتبرير القمع لاحقاً، مما سيشكل له مردوداً سلبياً لما يصبو اليه.

الكاتب والتورية في مواجهة السلطة: صراع متجدد

ولطالما شكلت العلاقة بين الكاتب والسلطة علاقة صراع وتوتر، حيث ترى الأنظمة الحاكمة في الكتابة الحرة تهديداً لوجودها وكياناتها، فتسعى إما الى آحتواء الكاتب وتوجيهه، أو الى إسكات صوته بوسائل محتلفة، تتراوح بين الرقابة والتضييق، أو الإغراء بالمال أوأحياناً تصل الى الإعتقال أو النفي. فالسلطة لا تعني فقط الحكومات، بل تشمل أيضاً المؤسسات غير الحكومية التي لها منافع واسعة داخل كيانات الدولة وخارجها،  وحتى القوى الاقتصادية التي تتحكم أو تحكم الإعلام وتوجيه الخطاب العام.

ففي الأنظمة الشمولية، يكون الكاتب مقيداً بقوانين صارمة تمنعه من إنتقاد السلطة بشكل مباشر، حتى في الدول التي تدّعي الديمقراطية، هناك خطوط حمراء غير مكتوبة تُفرض على الكاتب، سواء من خلال الضغوط الإعلامية أو التهديدات القانونية، لكن الكاتب الحقيقي يظل دائماً منحازاً الى الحقيقة، حتى لو أضطر لدفع الثمن. ومن أجل مواجهة القمع والمطاردة وكل أوجه الاضطهاد الفكري، ظهرت التورية كأحد الأساليب الدفاعية التي يستخدمها الكاتب ليحافظ على رسالته دون أن يقع في فخ الرقابة المباشرة.

فالتورية ليست ضعفاً أو إستسلاماً، بل هي فن إيصال المعنى بطرق غير مباشرة، عبر الرمزية والإيحاء. فالأدباء والشعراء أستخدموا التورية عبر التأريخ، حيث نجد الشعر العربي القديم  والحديث منه، حمل رموزاً وإشارات سياسية وإجتماعية كانت تخفي بين سطورها إنتقادات واضحة. حتى في الأدب العالمي، فقد إستخدم الكاتب العالمي جورج أورويل في روايته (مزرعة الحيوان)  أبطاله من شخصيات حيوانية، التي تناول فيها الاوضاع بعد الحرب العالمية الثانية ومن قبله كتاب (كليلة ودومنة) التراثية، كذلك الحال مع الكاتب ألدوس هكسلي وكيف وظّف الخيال والسخرية لنقد الأنظمة الاستبدادية دون التعرض المباشر للعقاب. لكن التورية قد تتحول الى سلاح ذو حدين، فعندما يعتمد عليها الكاتب بشكل مباشر، قد تصبح كلماته مبهمة أو غير مفهومة لجمهوره، مما يُضعف تأثير رسالته. لذلك، تبقى الموازنة بين التورية والوضوح تحدياً دائماً أمام الكاتب الحر.

حرية التعبير: بين الحق والمسؤولية

إن حرية التعبير حق أساسي، لكنها ليست مطلقة بلا ضوابط. فالكاتب بأن يكون مسؤولاً عن كلماته، بحيث لا تتحول حرية التعبير الى فوضى فكرية أو وسيلة لنشر الأكاذيب والتحريض. فالفرق بين الكتابة الناقدة والكتابة الهدّامة؛ هو نية الكاتب ومدى التزامه بالأخلاق المهنية وأحترام أفكاره وقلمه.

فنجد في بعض الأحيان، يُستخدم مفهوم (حرية التعبير) لتبرير الإساءة أو نشر المعلومات المغلوطة. هنا، يصبح التحدي الحقيقي أمام الكاتب هو ممارسة حريته بشكل مسؤول، بحيث يحافظ على خطابه النقدي دون أن ينجرّ الى الفوضى أو الاستفزاز غير المبّرر. كما إن الكاتب الحقيقي لا يكتب لإرضاء السلطة، ولا ليجامل المجتمع، بل يكتب بحثاً عن الحقيقة. هذه المهمة تجعله دائماً في موقف صعب، لأنه كلما آقترب من كشف الحقائق، زادت عليه الضغوط من مختلف الجهات.

فالمؤرخون، والصحفيون، والأدباء، وحتى المدونون في العصر الحديث على منصات التواصل الاجتماعي، جميعهم يتحملون مسؤولية كشف الواقع أمام الناس. لكن هذا البحث عن الحقيقة ليس مجرد عمل فردي، بل هو معركة طويلة تحتاج الى شجاعة وإستمرارية، فهناك كتّاب دفعوا حياتهم ثمناً لكلماتهم، وآخرون تم نفيّهم أو سجّنهم بسبب مواقفهم، لكن أثرهم بقي الى يومنا هذا، وكلماتهم أستمرت في التأثير حتى بعد رحيلهم.

في حين نجد بعض الكتّاب يختارون الخضوع للسلطة، إما بسبب الخوف أو الطمع في المكاسب الشخصية، وهؤلاء يصبحون مجرد أدوات في يد الأنظمة، يكتبون ما يُملى عليهم، ويُزيفون الحقائق لخدمة مصالح معينة. لكن الكاتب الحقيقي لا يبيع قلمه وضميره، ولا يكتب إلا ما يؤمن به وتُملي عليه ذاته بما يقتنع به. إذاً ، هناك طريقان أمام الكاتب؛ إما أن يكون بوقاً للسلطة أو يكون ضمير المجتمع. الأول قد يعيش حياة كريمة مريحة، لكنه يفقد إحترام الناس والتأريخ، بينما الثاني قد يواجه صعوبات، لكنه يظل رمزاً للمقاومة والتنوير وكشف الحقائق.

إن الكتابة الحقيقة ليست مجرد فن، بل هي مسؤولية، بين سلطة تفرض قيودها، وتورية تحاول التملص من القمع، وحرية تعبير تُهدَّد بأستمرار، فيبقى الكاتب في معركة دائمة للبحث عن الحقيقة. قد يخسر معارك، لكنه في النهاية يكسب الحرب، لأن الكلمة الصادقة تبقى، بينما السلطة الزائفة الى زوال.  وفي نهاية المطاف، يظل الكاتب الباحث عن الحقيقة أقرب الى المحارب في معركة غير متكافئة.  فهو يواجه سلطة تتغير أشكالها، لكنه يمتلك سلاح الكلمة، الذي قد يكون أشد وقعاً من السيف. بين قيد السلطة وحيلة التورية، وبين حرية التعبير وحدودها، لذا ينبغي على الكاتب أن يبقى مطالباً بأن يكون صوتاً لا يخاف، وحبراً لا يجف، وعقلاً لا يُكبل.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في ظل عودة صعود الشعبوية والانحرافات السلطوية، مثل الدعوات اليمينية في أوروبا، وفي سياق اقتصادي حمائي غير مواتٍ، يُصادف هذا العام مرور 104 أعوام على إصدار سيغموند فرويد لعمله البارز سيكولوجيا الحشود وتحليل الأنا. يُعد هذا النص من المحاولات الأولى لفهم الظواهر الاجتماعية انطلاقًا من تحليل نفسي لسياسات اللاوعي.

يؤكد فرويد على أن الآخر حاضر دومًا في حياة الفرد النفسية: كنموذج، وككائن، وكمنقذ، وكعدو. ومن هنا فإن السيكولوجيا الفردية هي، منذ بداياتها، سيكولوجيا اجتماعية كذلك. ورغم غياب تمايز صارم بين السيكولوجيا الفردية والاجتماعية، إلا أن الأخيرة تُطبق تحديدًا عند دراسة العلاقة بين الفرد والحشود، سواء كانت عفوية أم منظمة، والتي تمثل المؤسسات الرسمية.

يتعامل فرويد مع موضوع الحشود بطريقة مبتكرة، خاصة بعد الحرب الكبرى والثورات الأوروبية مثل انتفاضة سبارتاكوس في برلين، والتي كشفت عن التحولات التي تُحدثها الأحداث الاستثنائية في الأفراد والمجتمعات. يعتمد فرويد في هذا النص على مجموعة من أعماله السابقة مثل ثلاث مقالات في النظرية الجنسية، مقدمة في النرجسية، الحزن والكآبة، والطوطم والمحرمات، ويستعين بمفاهيم تحليلية كالتنويم المغناطيسي، والافتتان، والتماهي المتبادل، والاستثمارات اللبيدية، وأسطورة الأب الطاغي المستحوذ على النساء.

هذا العمل يرتبط كذلك بنصين أساسيين: ما وراء مبدأ اللذة (1920) والأنا والهو (1923). يتناول النص الأول الغرائز الموحدة (إيروس) والمدمرة، بينما يعرض النص الثاني كيف أن "الأنا" تمثل بنية نفسية متكاملة تتفاعل مع "الهو" و"الأنا الأعلى"، أو كما يقترح سيرجيو بينفينوتو في ترجمته من الألمانية: "ذلك" و"ما وراء الأنا"، وهي مصطلحات أدق تعكس حاجة فرويد المستمرة لتطوير مفاهيمه.

تتمثل رؤية فرويد للسلطة في حدث بدئي صادم: قتل الأب، الذي يُعاد تمثيله في أسطورة أوديب. وهذا الحدث يمثل انتقالًا من الانتماء للجماعة إلى استقلالية الذات، كما يفعل الشاعر الذي يغني عن البطل الذي هو ذاته. بذلك، تتحول السلطة من فرض القوة إلى شكل من السيطرة الذاتية التي تستند إليها المنظمات الجماهيرية.

يُنتج التضمين الداخلي خيارات بديلة عن الشعور بالذنب والخوف، من خلال التماهي مع شخصيات قيادية ومثالية. وهنا تختلف رؤية فرويد عن معاصريه كغوستاف لوبون، الذي رأى في الحشود جهالة وغرائز بدائية، بينما يقدم فرويد تحليلًا أعمق وأكثر تعقيدًا للعلاقات بين الفرد والجماعة.

يعترف فرويد ببعض السمات السلبية للحشود، مثل الشعور الزائف بالقوة وعدم المسؤولية، لكنه يُقر أيضًا بإمكانات الإبداع والدافع العاطفي القوي داخلها. فالعلاقة بين الفرد والجماعة علاقة تبادلية، حيث يُدرج القائد كمثال مثالي في الأنا، ما يؤدي إلى نشوء روابط عاطفية أفقية داخل الجماعة.

لكن، هل يُمكن لهذه التعرفات التي يُفترض أن تحرر الفرد من التبعية، أن تتحول إلى أداة لاستمرارها؟ أم أن الخطر يكمن في القيم التي تتمثلها هذه التعرفات، عندما تُصبح منفصلة عن أي مرجعية أخلاقية؟ يفتح هذا التساؤل المجال أمام إعادة النظر في الموروث التحليلي النفسي وفهمنا للذات والهوية.

المفهوم الثوري الذي قدمه فرويد هو أن لا حدود فاصلة بين نفس الفرد ونفس الجماعة، حيث يشكلان معًا نظامًا نفسيًا موحدًا. الحشود ليست مجرد كيان خارجي يؤثر في الفرد، بل هناك تداخل دائم بين العقل الفردي والجماعي، ينعكس في اللغة، والحدس، والتعاطف، والإيحاء، والدعاية، والهيمنة الرمزية.

يُصبح هذا التداخل أكثر وضوحًا في العلاقة بين الفرد والدولة، السلطة القانونية التي تُمارس السيطرة الناعمة وقد تتحول إلى قسرية. هذا المنظور يُعيد النظر في مفاهيم الميتافيزيقا الثابتة، ويقترح بديلًا ديناميكيًا يتمثل في الهوية المتعددة، وتكوين الذات، بدلاً من الكينونة الثابتة.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الترابط مع أعمال جيل دولوز وفليكس غواتاري، اللذين استبدلا مفهوم "الهيكل" بمفهوم "الآلة" و"الرغبة" كقوى إبداعية، تُعيد تشكيل الذات لا كنتاج، بل كفعل مستمر، هش وغير متوقع.

الهوية، كما يُفهمها فرويد، ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي تكوين متحرك يتأثر بالتجارب والعلاقات، خلافًا للتعريف القانوني البيروقراطي الذي تفرضه الدولة، كما بيّن بيير بورديو. الهوية تُنتج داخل الجسد قبل النفس، كـ"هَبِيتُوس" يجسد القيم الجماعية ويعيد إنتاجها عبر الإيماءات والأحاسيس واللغة.

الهَبِيتُوس لا يعبر فقط عن الأصالة، بل هو أيضًا وسيلة لتثبيت السلطة بشكل لا شعوري، عبر "العنف الرمزي" الذي يطبع الجسد بمطالب السلطة ويجعلها طبيعية بمرور الزمن، دون وعي بأصولها.

بين إمكانيات اللاوعي التي لا حصر لها، وبين القيود المجتمعية، توجد مساحة للسياسة كبحث عن توازن بين الخير الفردي والعام، دون التضحية بالمتعة. تحليل فرويد يقترح إمكانية تجاوز هذا التنازل التقليدي، نحو مرونة في تشكيل الذات تتقبل الآخر، وتستفيد منه دون أن تفقد فرادتها.

اللغة والحواس، كتجارب حسية واجتماعية، تلعبان دورًا في صياغة هذه الذات، حيث تتشكل عبر التفاعل مع العالم، الأجسام الأخرى، والرموز الثقافية. الذات لا تُعرَّف فقط من الداخل، بل في علاقتها بالآخر، في صراع دائم بين الرغبة، والتمثيل، والهوية.

في هذا السياق، يصبح اللاوعي ليس مجرد ساحة لصراع الرغبات المحرمة، بل فضاءً للإبداع والتوليد المستمر، ما يفتح أفقًا أمام سياسات لا تُقصي المتعة ولا تُخضع الذات كليًا للسلطة.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

وللبراهين العقلية على وجود الاله

شرع كانط في نقد كل الفلسفات العقلية والخلقية الخالصة، ففي رسالة بعنوان "الاساس الوحيد الممكن لاثبات وجود الله" يذكر اربعة ادلة على وجود الله النابعة من العقل الخالص والتأمل وحده ويفندهم بناء على اساس عدم جواز استنباط الوجود الواقعي من الفكر. فادا كانت المثالية بالمعنى العام كما يعرفها "لالاند " في المعجم الفلسفي هي "الاتجاه الفلسفي الذي يرجع كل الوجود الى الفكر بالمعنى الاعم لهذه الكلمة ويعطي الاسبقية للوعي ".

فان نقد كانط لأدلة وجود الله، ولاسيما الدليل الانطولوجي جاء بناء على رفض رد الوجود الى الفكر، او بعبارة اوضح رفض استنباط الوجود من الفكر وبالتالي كان كانط صريحا في رفض جوهر المثالية. وذلك عندما قال كانط "مفهوم الكائن الأسمى والكامل الاوصاف واللامتناهي هي فكرة مفيدة جدا من نواحي مختلفة، لكنه من حيث كونه مجرد فكرة عاجزة بمفردها تماما عن توسيع معرفتنا بالوجود " اي ان مهما أثبتنا ضرورة وجود كذلك كائن فذلك منطقيا، ولا يخول لنا إخراجه للواقع ليغني معرفتنا بالوجود ويسد ثغرات وفراغات أسئلتنا الوجودية وجهلنا بنشأت الكون وقوانينه.

وهنا يصيب كانط المذهب المثالي التقليدي في النقطة الحساسة؛ وهي استحالة البرهان عقليا على وجود شيء ما. ولنبدأ بعرض البراهين التي فندها كانط، وأولهم البرهان الانطولوجي او الوجودي على وجود الله والذي يعتبر أساس الدليلين الآخرين وهما الدليل الكوصمولوجي والدليل اللاهوتي الطبيعي. ويمكننا عرض الدليل الانطولوجي في عدة صيغ فمثلا يمكن وضعه في القياس الآتي:

- لدينا فكرة الله (أو فكرة أكثر الكائنات كمالا) والتي تنسب له كل الصفات المطلقة.

- الوجود صفة تتحقق في كل كمال مطلق بالضرورة.

- إذن لابد أن يكون الله موجودا.

فحسب هذا البرهان الانطولوجي الذي أول من قدم به هو القديس أنسلم في القرون الوسطى وطوره ديكارت من بعده، ففكرة شيء أو كيان كامل له كل الكمالات الممكنة لكن ليس له وجود فعلي فكرة متناقضة، فصفة الوجود أحد أوجه الكمال، وهنا يوضح كانط تهافت هذا البرهان الذي يثبت الإمكان المنطقي المحض إلا أن الإمكان المنطقي المحض يختلف عن الإمكان الواقعي. فكل من اعتقدوا من طائفة المثاليين أن وجود الله صفة متضمنة منطقيا في تصور الله بوصفه أكثر الكائنات كمالا، اعتبروا الوجود محمولا منطقيا بينما هو في عرف كانط ليس صفة أو محمول بل هو وضع مطلق للأشياء، إنه الوضع الذي تحمل عليه كل الصفات وهو الضروري، وهذا البرهان جعل من الله محمولا ذهنيا فأثبته ذهنيا وداخل العقل فقط لا خارجه أي في الواقع، لأنه لا يمكن استنباط الوجود الواقعي من الفكر الذاتي. وهنا يضرب كانط مثالا رائعا وهو أنه على حسب هذا البرهان الانطولوجي البائس، هنا يمكنني ان استدل على وجود مئات الدراهم في حافظة نقودي، فقط يجب ان أكون فكرة واضحة ومتميزة عن هذه الدراهم، لكن بعد ان افتحها أي ان ألجأ للتجربة سوف أتأكد إذا كانت موجودة اولا، لكن ليس لدي طريقة لاتحقق ان كان الله موجودا او لا. اما الدليل الكوصمولوجي (الكوني) الذي كان يدافع عنه لايبنتز والعقلانية الدوغمائية يمكن صياغته في الشكل الاتي:

- إذا وجد أي شيء، فلا بد أن يوجد كائن ضروري ضرورة مطلقة.

- وبما أنني على الاقل موجود

- إذن يوجد الكائن الضروري ضرورة مطلقة.

هنا من هذا البرهان لاحظ كانط اننا نلجأ للتجربة على الاقل، أي واقعة انني موجود في العالم، لكن تهافته في القفزة التي يعملها بعد التجربة في تقرير ضرورة وجود كائن ضروري يبرر وجودي أنا. وهنا ما لا يمكن التحقق منه تماما مثل البرهان الانطولوجي الاول التي يرتكز عليه الكوصمولوجي اصلا.

والدليل الثالث هو الذي يسميه كانط بالدليل اللاهوتي الفيزيائي والذي يبدأ من التجربة ويوجه انتباهنا الى علامات النظام والتصميم الذكي للكون والانسان، وايضا الغاية التي نراها في الطبيعة، لكن يرى كانط ان هذا النظام والغائية في الكون غير كافية لكي نبرهن على وجود موجود لامتناه اسمه الله، فكل مايمكن فعله امام هذا النظام الذي نراه هو افتراض وجود اله مهندس للعالم، لأن كانط يسعى لتأكيد استقلالية العلم الحديث عن كل المعايير اللاهوتية، ففكرة الله ليست عند كانط الا تكميل لميكانيكية العالم، وسيضعها كانط ليس كقاعدة للعالم وتكونه بل تدخل من داخل العالم لتصنع الجمالية والتصميم الذكي، وهذا ما عرف عند كانط " بتقنية الطبيعة ".

***

الكاتب: أمين ديونيسيوس

هل يمكن أن تتحسن المدارس إن جرى إعادة تصميم مناهجها، وطرق التدريس داخل فصولها، بما يتوافق مع معطيات علم الوراثة؟ وكيف يمكن للجينات أن تحفز التفكير خارج الإطار التقليدي، بالنسبة لطفل لا يتعلم بالطريقة الاعتيادية؟

لا تسمح المسافة بين التعليم وعلم الوراثة بالتكهن، أو توقع حلول للإكراهات التي يواجهها التعليم المدرسي؛ غير أن التأثير الذي تمكن علماء الجينات من إحداثه في ميادين الطب، والزراعة، والقانون، والسياسة الاجتماعية، يعزز فرضية التجاوب، ولو من منظور مستقبلي، بين الدروس المستفادة من علم الوراثة وأبحاث الجينات، وبين الإشكالات التي تنتصب على نحو مستمر داخل الوسط المدرسي، وفي طليعتها: معيقات التحصيل الدراسي.

إن مهمة التعليم هي أن يُكسب الصغار مهارات التعلم البسيطة، ممثلة في القراءة، والكتابة، والحساب، بغض النظر عن معدلات ذكائهم. وهذا يعني أن السياسة التعليمية قائمة على فرض الأهداف ذاتها، دون مراعاة للاختلافات الفردية الطبيعية في القدرة والنمو. في حين يعلم الجميع أن كل طفل عند ولادته، يحمل سمات خاصة به، تعكس حالته المزاجية، واحتياجاته، وميوله. لذا يرتبط تحقق مهمة التعليم بمعرفة الطريقة التي تتفاعل بها جيناته مع الخبرات المكتسبة في المدرسة.

يكمن الحل إذن في نظام تعليم تستوعب مناهجه وطرائقه معطيات علم الوراثة، بشكل يتيح في الآن نفسه تنمية المهارات الأساسية للطفل، واحتضان مواهبه وقدراته الفردية. فمنذ اختتام مشروع الجينوم البشري سنة 2003، أصبح تحديد تسلسل الجينوم عملية ميسرة، تسمح بالتعرف على الجينات التي تؤثر على قدرات التعلم، وبالتالي تُمكّن نتائجها من إحداث فارق إيجابي.

أولى الاختلافات التي تقدم أبحاث الجينات تفسيرا لها، تتعلق بالتباين الحاصل في تمكن الأطفال من القراءة، باعتبارها مهارة تحفزها البيئة بالدرجة الأولى، حيث ينشأ ارتباط جيني بين القراءة والمهارات السابقة، مثل تعلم الحروف الهجائية، وكل تذبذب أو صعوبة يرجع في الغالب إلى تأثيرات بيئية، كالأسرة، ورفقة السوء، وغيرها؛ فعلى سبيل المثال تركز رياض الأطفال في السويد والنرويج على تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية والجمالية، أما التمكن من القراءة في هذه المرحلة فراجع إلى دور الأسرة. وما إن يلتحق الطفل بالمدرسة حتى تصبح القراءة والهجاء أنشطة مستهدفة بشكل مكثف. والنتيجة هي أن في هذين البلدين يكتسب التلاميذ مهارات قراءة فوق متوسطة، مما يؤشر على أن فرضية إرجاء تعلم القراءة لصالح نمو الأطفال لن يتسبب في ضرر طويل الأمد لمهارة القراءة لديهم.

تلعب الجينات أدوارا نشطة في تكوين خبراتنا، وهذا الاقتران بين البيئة والنمط الجيني فيما يتعلق بالأداء القرائي، يتخذ ثلاثة أشكال هي:

- الاقتران السلبي: حيث إن الآباء غير المهتمين بالقراءة، لا ينقلون جيناتهم إلى صغارهم فحسب، وإنما يُنشئونهم في بيئة منزلية لا توجد به كتب؛ وبالتالي يصبح الطفل أمام انتكاسة مزدوجة، يرث بسببها جينات لا تحبذ القراءة.

- الاقتران الاستدعائي: حيث إن الطفل الذي يتمتع مسبقا باستعداد جيني لحب القراءة، يحفز البيئة من حوله على سلوكيات إيجابية، من قبيل اصطحابه إلى المكتبة، وتثني على عدد الكتب التي قرأها؛ وهذا المناخ الإيجابي تجاه القراءة تستدعيه جينات الطفل بشكل جزئي.

- الاقتران النشط: حيث يحظى الطفل المستعد جينيا للتميز في القراءة باستنفار كبير لقدراته، من خلال البيئة المنزلية المحفزة على الأداء، أو عبر المهام التي يتم تكليفه بها داخل الفصل. ويسمح هذا النمط للصغار بأن يحددوا عوالمهم على أساس ميولهم الجينية.

ولا تقلّ الكتابة أهمية عن القراءة، لكونها نمطا من أنماط التواصل، ومهارة حياتية بالغة الأهمية في العالم المعاصر. لكنها بالمقابل مهارة غير طبيعية، وتتطلب تعلما مكثفا قد لا يحقق لدى بعض الصغار نتائجه المرجوة، ليصبح تدني قدرة الكتابة حاجزا يستدعي تحديد الخبرات الكفيلة بالتغلب على استعداده الجيني.

إلى جانب القراءة والكتابة تثير مهارة الحساب قدرا مبالغا فيه من الاهتمام، خاصة وأنها تشكل داخل أغلب منظومات التعليم حجرَ الزاوية في المنهاج الدراسي. لذا فإن سؤالا من قبيل: هل نولد بحس رياضي؟ كفيل بأن يستنفر الباحثين في علم الوراثة السلوكي، لمحاولة الكشف عن سبب تفوق بعض الصغار عن غيرهم في القدرة الرياضياتية.

تشير نتائج البرنامج البحثي الذي أجرته عالمة النفس يوليا كوفاسKovas  لدراسة التطور المبكر على عينة من التوائم يبلغون عشر سنوات، إلى أن القدرة الرياضياتية قابلة للتوريث بنسبة قد تصل إلى %70. بمعنى أن الصغار داخل الفصل الدراسي يبدؤون من نقاط مختلفة، وأن دور المدرس هو استخراج إمكانات كل طفل على حدة، وليس تحقيق هدف مفروض من الخارج على الصف بأكمله؛ فبعض الأطفال يلجون المدرسة ولديهم تفوق بيولوجي، بينما لا يحتاج الآخرون سوى المقدار اللازم لمجابهة مواقف من حياتهم اليومية.

إن هذه النتائج لا تستبعد القيمة المضافة للدراسات التي تحلل تأثير بيئة الأسرة أو المدرسة، وتقترح تدخلات مناسبة للرفع من متوسط التحصيل الدراسي في الرياضيات. غير أن اختبار الفرضيات بمعزل عن التأثير الجيني لا يمكنه أن يقدم دليلا حقيقيا على دور الأم مثلا، أو الألعاب المحفزة للعقل في زيادة تلك القدرة. بمعنى أن علاقة الاقتران هنا بين النمط الجيني والبيئة لن تصبح بالضرورة علاقة سببية، كما أن استخدام المظلة لا يؤدي حتما إلى هطول المطر.

تتعدد إذن مهام جيناتنا مما يُكسبنا أفكارا قيمة حول طريقة عملها، وأهميتها بالنسبة لقدرة التعليم والتحصيل الدراسي. لكن بيت القصيد هنا هو استثمار الإمكانات الجينية لتحسين النظام التعليمي بكل مكوناته. وتشكل التربية البدنية أحد المداخل التي يسعى البحث الجيني إلى تثمين حضورها في البيئة المدرسية، بعد أن تبين قدرة الجينات على التحكم في معدل التمرينات الرياضية، ومدتها وشدتها.

لا تحتاج المنافع الصحية للرياضة المدرسية إلى دليل، كما أن توفير نطاق واسع من الأنشطة البدنية لهو أمر تتزايد أهميته، في ظل العزوف الذي يتسبب فيه التعاطي المفرط للألعاب الإلكترونية. غير أن ما تسجله الدراسات المعنية بالتأثيرات الجينية ينصب أساسا حول ضرورة توفير نطاق واسع من الاختيارات في مجال اللياقة البدنية، ضمن منهج موحد على صعيد المدرسة الابتدائية، وتشجيع الصغار على تكوين ميول معينة تجاه الرياضة قبل سن الخامسة عشرة، لأنها السن التي تصبح فيها ممارسة الرياضة رهينة بالمتعة، أو بمعنى آخر حبيسة الاقتران النشط الذي تحدده الميول الجينية.  

تلك هي أبرز النتائج التي خلص إليها كل من كاثرين آسبري وروبيرت بلومين في دفاعهما المشترك عن الصلات الوثيقة بين علم الوراثة والتعلم، وحماسهما لوضع لبنات نظام تعليمي موجه جينيا، يدعم الاختلافات الفردية، ويحتضن التنوع، ويحفز المدرسين على التفكير خارج الأطر التقليدية.

ورغم أن السياسات التعليمية الحالية لا تبدي حماسا شديدا للقدر الضخم الذي توصل إليه علماء الجينات، من معلومات ونتائج أبحاث ودراسات عن التعلم والسلوك، إلا أن مؤلفي كتاب (الجينات والتعليم) يُؤكدان حتمية التغيير، وهدم التصورات الخاطئة التي تقيد النظم التعليمية وعلى رأسها فلسفة "الصفحة البيضاء".

وفي معرض هذا الحماس يصرح المؤلفان دون مواربة: "ينبغي على المدرسة أن توفر تنشئة متكافئة الجودة بحسب طبيعة كل طفل؛ فنحن جميعا لا نتمتع بالمواهب نفسها، لكن ينبغي أن يحصل كل منا على فرص متساوية من أجل تنمية ما لدينا من مهارات."

***

حميد بن خيبش

تلقى أول صدمة في حياته، عندما لم يعرف الاجابة على سؤال استاذه " هيزيود " عن مصدر الكون. كان أبيقور في الرابعة عشرة من عمره عندما اخذ يهتم بالفلسفة، قبل ذلك كانت الخرافات والاساطير تملا رأسه، حيث كانت أمه تاخذه معها لزيارة الألهة وتقديم النذور.

الدروس التي يتلقها في النحو وعلوم الكون سببت له الضجر، فقرر ان يتابع طريق الفلسفة بمفرده، دون معونة أي استاذ. يكتب لوكريتيوس " في طبيعة الاشياء ": يامن كان بمقدوره أن يبدد الظلمات الحالكة بنور بالغ

الإبهار، فأنت أول من أماط اللثام عن نعم الحياة.

في السادسة عشر من عمره، اخذ أبيقور يبحث عن ما خلفه سقراط من احاديث، فقد استهوته فكرة سقراط عن السعادة التي كان يرى انها جديرة بأن تعاش. كانت بداية الفلسفة قبل سقراط هي إدراك لحالة الاغترب التي يعيش فيها الإنسان. اصر سقراط على أن معنى الحياة هو أن تصير بشكل متزايد سيدا على نفسك، فيما اخبرنا افلاطون أن الحكمة هي ضربٌ من الكمال يخص كل ما يتصل بكيفية عيشنا.

كانت الفترة الأولى من حياة أبيقور عبارة عن صدمات متتالية. ومع كل صدمة كان وعيه يتفتح تجاه الحياة، وسينقذه من حيرته معلمه الافلاطوني " بامفيلوس " الذي يخبره ان الفلسفة نوع من انواع العيش باطمئنان. ليكتشف فيما بعد أن الفلسفة ستكون دليله الى السعادة:" فالإنسان الذي يدعي عدم استعداده للفلسفة بعد، أو أن الوقت قد فات على هذا يشبه الإنسان الذي يقول إنه صغير جداً أو كيبرٌ جداً على السعادة " – أبيقور رسائل وحكم ترجمة جلال الدين سعيد -

عندما صار أبيقور - ولد سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس - في العشرين من عمره قرر أن يصبح فيلسوفاً على طريقطريفته الخاصة.. كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء الذي قال له استاذه " هيزيود " أن كل الاشياء تتولد من هذا العماء.. والثاني تخليص العالم من هذه الفلسفة التي تترك الإنسان جانباً وتنشغل بالكون، لكنه وجد إن النزاع شديد بين الافلاطونيين والارسطيين، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته، دارِساً الحكمة الشرقية، فقد كان أبيقور لا يرتاح لا إلى الخرافات ولا إلى الطبيعيات التي تؤمن بالقضاء والقدر، لأنها كلها تنتزع من الإنسان حريته وتجرده من القدرة على تمييز الأشياء وعلى تحمل المسؤولية. وقد عبر لوكريتيوس عن هذه الإرادة الحرة فقال:" على الرغم من القوة التي تدفعنا من الخارج وتجرنا إلى التهور، ألا تلاحظون وجود شيء بداخلنا، شيء قادر على التصدي لهذه القوة والوقوف دونها " – في طبيعة الأشياء ترجمة علي عبد التواب - . وما أن بلغ أبيقور الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع، رجالاً ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكاره عن عالم يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة "، يكتب أبيقور " علينا أن نحرر انفسنا من سجن الشؤون السياسية اليومية "، كان التشابه بين فلسفة أبيقور ومدرسته تشابهاً عميقاً، فلم تكن المدرسة مجرد مكان له ولتلاميذه، بل كانت هي نفسها فلسفة، ونظرية بحد ذاتها، لقد كانت " حديقة للأفكار " رفع فيها شعار " أن نغير أنفسنا، بدلاً من أن نغير العالم ". تكمن قيمة الحياة في تنوعها وجودتها أكثر مما في كمها ومدتها.فإذا كانت قصيرة، وغزيرة، كان وزنها أكثر منها طويلة وخاوية.1403 Abi Qura

كانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية، فابيقور رحب بمدرسته بالنساء والرجال من جميع الطبقات الاجتماعية، وإذا كان افلاطون اعطى للنساء دوراً ثانوياً في الحياة، فقد أزال أبيقور كل فرق بين الجنسين، فلا كراهية للنساء، ولا تمييز على أساس الجنس، وإنما ممارسة مشتركة حرة للحياة والفلسفة. والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم. يكتب أبيقور:" إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم ". وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت توصف حديقة أبيقور بانها اشبه بالأخوية التي تجمع مجموعة من البشر تصل بينهم روابط الصداقة وتتشابه اذواقهم، وإيمانهم بفلسفة مشتركة، يعيشون حياة فطرية طبيعية ويتحاورون في قضايا فلسفية، ويتركون العالم ليسير في طريقه:" من بين جميع الاشياء التي تمنحنا الحكمة لتساعد المرء على عيش حياة مليئة بالسعادة، يُعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الإطلاق " – الرسائل والحكم ترجمة جلال الدين سعيد -.

تدين فلسفة أبيقور بالكثير من مفاهيمها لسقراط، فهو أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام بالإنسان، وأصر سقراط على ان الحكمة هي ضرب من الكمال يخص كل ما يتصل بكيفية عيشنا، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو هدف الفلسفة، وكانوا يؤكدون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين، فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. وتبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط. بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. والأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته:

1- السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.

2- نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل

3- العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها وسيبقى لك الوقت والطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقور إننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة: الخوف من الآلهة والخوف من الموت. إن من يعتقد أن الآلهة تراقبه لا يلبث أن تتركز عنده فكرة واحدة: العمل على ارضاء الآلهة، والخضوع لهم وهو في قيامه بذلك ينسى أن ينظم حياته، وأبيقور لا ينكر وجود الآلهة، لكنه يرى انها كائنات خالدة وسعيدة، ولا ينبغي ان نضيف لها شيئا يتناقض مع السعادة ولهذا من الخطا أن نعزوا اليها عواطف مثل الغضب والإنتقام أن:" الدين الشعبي عند أبيقور ليس نفسه عند ماركس: أفيون الشعوب، يوفر لنا عزاءً وهمياً يحعل حياتنا التعيسة بوصفنا مُستغلين امراً لا يطاق إنه على النقيض من ذلك (كابوس الشعب) مصدر دائم للقلق والكرب، ولا يتلائم مع سكينة السعادة " – دون غرايش العيش بالتفلسف ترجمة محمد شوقي الزين – . والذي يخاف من الموت يشعر، في كل لحظة، بمعاناة وهموم تستولي عليه فيزداد به الخوف، لذلك يطالبنا أبيقور بتحرير النفوس من هاتين الفكرتين المؤرقتين.

فلسفة أبيقور قائمة على التسويات، وهو لا يستطيع إنكار التفكير بوصفه عاملاً في السلوك البشري، ومع ذلك لا يسمح له بالسير حسب قانون الخاص لكي يصل إلى نتائجه:" يرد أبيقور كل المعرفة إلى تدفق المشاعر الفردية، ويقرر أنه لا يمكن لنا أن نتجاوز جدران الخلية المغلقة لشخصيتنا الذاتية " – جورج واطنسون نظريات اللذة ترجمة خالد الغنامي –

اذن ما الذي يجب على الإنسان أن يفعله لكي يكون سعيداً؟ إن ذلك لا ينتج من الاكثار من الملذات العارضة، وإنما ينتج من أن الإنسان يحيا حياة متزنة خالية من الألم وهذا ما كتبه الى احد تلامذته:" أليس من الحق أن الهدف لكل أعمالنا إنما هو الهرب من الألم والقلق حتى إذا ما وصلنا إلى ذلك تخلص الإنسان من كل بواعث الاضطراب تخلصاً تاماً وسيشعر انه مغمور في محيط من النعيم " – اندريه كريسون المشكلة الاخلاقية والفلاسفة ترجمة عبد الحليم محمود

يميز أبيقور بين الرغبات الطبيعية والرغبات غير الطبيعية، وبين الرغبات الضرورية والرغبات العابرة، والإنسان الذي يصل إلى السكينة لا يتأثر كثيراً بالمنغصات، بل يتجاوزها، وهو الذي يحافظ على رباطة جأشه أمام الصعوبات، ويعيش بدون ان يعكر حياته بالترهات والانفعالات المريضة.

يقول ديل كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، ويصف أبيقور الأسئلة بانها: " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول:".

يُعرف أبيقور الفلسفة بانها نشاط يجلب لنا الحياة السعبدة.إن غاية الحياة هي بالتاكيد السعادة، والطريق الى السعادة يمر عبر المتعة يعلن لوكريتوس في طبيعة الاشياء ان " اللذة مرشد الحياة ". وحتى يبرهن أبيقور على ان المتعة غاية.بعتمد على واقع الاحياء الذين، بمجرد أن يولدوا، يستمتعون بالحياة، ويكرهون الألم، وهذا جزء من طبيعة الإنسان. ويعلن أبيقور ان القاعدة الاولى لفلسفته هي ألا نؤجل ابداً لحظة الاستمتاع بالسعادة:" لقد ولدنا مرة واحدة، ومن المستحيل ان نولد مرتين وسوف لن نكون خالدين ابداً. انت مع ذلك يامن لست ابن الغد، تؤجل الفرح: الحياة تذوي بالزمن، وكل واحد فينا يموت وهو مشغول " – هنري بيا دروس في السعادة ترجمة محمد نجيب -. ولهذا فان الرجل الحكيم لا يخشى الموت، لان الموت انطفاء محض، ولا يخشى الآلهة لانها لا تعنى بشؤون البشر

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. ويخبرنا ديوجينس اللايرتي أنه كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب ونقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

الفلسفة الأبيقورية هي رفض لسباق اللذة المحموم وايضا رفض للتخلي التام عن ملذات هذا العالم، فأن تكون سعيداً، بالنسبة إلى أبيقور، يعني الاختيار بين الأساسي والثانوي، بين الطموحات التافهة وتلك المهمة:" تُقدم الأطباق البسيطة اللذة ذاتها لتي تعطيها الطاولة المترفة عتدما يتم إقصاء الألم الناجم عن الحاجة " – الرسائل والحكم -.

بلغ ابيقور من العمر " 71 " عاما عندما اصيب بمرض الفشل الكلوي الذي ادى الى وفاته عام 271 ق.م، وقد كتب في رسالة الى احد تلامذته:" في اسعد أيام حياتي وآخرها اعاني أمراض المثانة والأمعاء، وهي امراض بلغت من الأذى والتبريح ما بلغت " ويواصل حديثه بقوله:" ورغم ذلك فكل هذه الآلام يوازيها رضا الروح ".

***

كيف بنبغي لنا أن نعيش؟ هذا هو السؤال الذي كان يؤرق مواطنا رومانياً ولد عام 55 ميلادية، وقد وجد نفسه عبداً لاحدى العوائل الغنية، التي تنبهت الى قدرته على الجدال وحدة ذكاءه، فمنحته تعليما فلسفياً، واعادت له حريته، ليصبح فيما بعد احد الحراس الخاصيين للامبراطور نيرون. تتلمذ على يد الرواقي ميزونيوس روفوس، وبعد سنوات سيمنح لقب الفيلسوف، فاخذ يلقي دروس على بعض الطلبة الى ان اعلن الإمبراطور دوميتيان حربه على الفلاسفة فطردهم من روما بحجة انهم كانوا يوجهون النقد الشديد لسياسة الدولة، فققر إبكتيتوس الرحيل الى بلاد اليونان وكان ييبلغ من العمر " 36 " عاماً، ليؤسس هناك مدرسة فلسفيةً شبيهة باكاديمية افلاطون، وقد كان إبكتيتوس ايضا، قد جذبته افكار سقراط التي كانت تستند على طرح الاسئلة، فرفع إبكتيتوس شعار " تساءل عن كل شيء ". يكتب توني روبينز في كتابه ايقظ قواك الخفية ان:" نوعية حياتك تحددها نوعية اسئلتك "، كان السؤال المهم الذي طرحه إبكتيتوس هو:" ماذا عسانا أن نفعل في الحياة ؟ " يكتب في المختصر:" المهمة الأساسية في الحياة هي تحديد الامور وتقسيمها حتى يمكنني ان أحدد بنفسي وبكل وضوح أيها خارجية لا يمكنني التحكم فيها، وأيها يتعلق بالخيارات التي يمكنني التحكم فيها. وأين أذن سابحث عن الخير والشر، ليس في الامور الخارجية التي لا يمكنني التحكم فيها، بل في داخل نفسي بين الخيارات التي قمت بها " – المختصر ترجمة عادل مصطفى –. يرى إبكتيتوس ان الممارسة الاكثر اهمية في الحياة هي التفرقة بين ما يمكننا تغييره وما لايمكننا تغييره، ما نملك تاثيراً عليه وما لا نملك تاثيراً عليه. فلن يجعلك أي قدر من التمني تزداد طولاً أو قصراً. أو أن تولد في بلد مختلف، فإن تمكنا من التركيز على استبيان الاجزاء من حياتنا التي تقع ضمن نطاق تحكمنا والتي لا تقع ضمن هذا النطاق، فلن نصبح أكثر سعادة فحسب، بل سنمتلك افضلية على الآخرين الذين فشلوا في إدراك انهم يحاربون في معركة لا يمكنهم الفوز بها.إن اكثر ما اشتهر به إبكتيتوس هو تميزه بين الاشياء التي تتعلق بنا والاشياء تلك التي لا تتعلق بنا. فاشياء التي تتعلق بنا (الفكر، الرغبة، الحب والكراهية) يمكننا التحكم بها بإرادتنا. وهنا تكمن سعادتنا، وينبغي علينا استثمارها. اما الاشياء التي لا تتعلق بنا (الحظ، المرض والموت، العالم الخارجي) فينبغي استقبالها مثلما تأتينا باعتبارها ليست من صنعنا. إن فلسفة إبكتيتوس تُعلمنا مبدأ التخلي عن الرغبات والتطلعات المفتعلة. ويلخص إبكتيتوس افكاره بعبارة مهمة " العيش فن ويمكن تعلمه مثل كل فن ".

صاغ الشاعر الايطالي داني استعارة مهمة حول الرغبات غير المهمة التي تقلقنا في الجزء الثاني من كتابه " الكوميديا الآلهية. حيث نجد الشاعر تائه في غابة الأثم المظلمة، وفجأة يرى جبلاً تعلوا قمته فوق الضباب وتغمرها اشعة شمس الصباح. بدأ الجبل في غاية الجمال، حتى ان دانتي اطلق عليه " الجبل السعيد "، وتصور انه السبيل الأمثل للخروج من الغابة المظلمة، ومن ثم شرع في تسلقه، لكن جهده ضاع سدى، فقد خرجت عليه الوحوش التي طاردته واجبرته على الرجوع عند السفح. لعل الجبل يمثل رغباتنا، ولهذا يجد الإنسان نفسه يحاول تسلق الجبل عدة مرات اثناء حياته، وتسلقه يُعبر عن الميل الى قياس مدى سعادتنا عن طريق مقارنة حياتنا بحياة الاخرين، بدلاً من قياسها عبر تحديد ما نشعر به يكتب إبكتيتوس:" من المستحيل ان نربط بين السعادة والتوق لما لا نمتلك ". لم تكن فلسفة إبكتيتوس تسعى الى تقليل او تصفية الرغبات، لكنه يسعى الى تعليمنا كيفية ضبط وتعديل هذه الرغبات التي قد تؤثر على انسجام النفس، لقد تمثلت رؤية إبكتيتوس في القول ان معظم الاشياء التي يسعى اليها الناس ليست خيرا في حقيقة الأمر، وان الفشل في الحصول عليها ليس بالأمر الذي يعد فشلاً او شراً. في مقدمة كتابه " رسالة في اصلاح العقل "، يؤيد سبينوزا رؤية إبكتيتوس هذه:" بعدما علمتني التجربة أن أكثر صروف الدهر تواتراً في حياة الإنسان إنما هي غي معظمها تافهة وباطلة، وبعدما أتضح لي أن الأشياء التي كانت في نظري موضوعاً للخشية أو سببا من أسباب الخوف لا تنطوي في ذاتها على الخير ولا على الشر، إلا إذا اعتبرنا ما تثيره هذه الأشياء في النفس من حركة، عقدت العزم اخيراً على البحث فيما إذا كان يوجد شيء يكون خيراً حقيقاً يستطيع أن يعلن ذاته وان يستطيع وحده أن يؤثر في العقل.. ويُمكنني من الاستمتاع على نحو متواصل بالسعادة القصوى والأبدية." – رسالة في اصلاح العقل ترجمة جلال الدين سعيد -.

ان مفهوم سبينوزا للسعادة يقترب من إبكتيتوس لها، فليس المراد من تقنية الرغبات هو تجنب الاستمتاع بالحياة، بل هو فهم ما الذي يكون ذا قيمة، وما الذي لا يكون كذلك. أن كل من إبكتيتوس وسبينوزا يعتقدان أن الانسان عليه ان يدرك ان الاشياء التي تزعجنا او تخيفنا ليست بالاشياء المهمة. وعلى العكس من ذلك، يدرك الإنسان أن ما يكون مهما إنما هو إدراك الطريقة التي تعمل بها حياتنا. يكتب إبكتيتوس :" لا تُضمن السعادة عبر تلبية رغبات قلبك، بل عن طريق محو تلك الرغبات منه ".

هاجم سقراط السفسطائيين الذين كانوا يقولون بان اللذة طريق السعادة، فهم يعتقدون ان الطبيعة البشرية لا تعدو ان تكون شهوة ومتعة، فقط كان سقراط يرى ان السعادة تقوم على السيطرة على الرغبات، وقد ربط بين السعادة والمعرفة، فطلب السعادة يقوم على سيطرة العقل على شهوة الرغبات.

يؤكد إبكتيتوس أن للناس جميعا قدرة على الفضيلة، وان الله وهب جميع الناس القدرة على أن ليصبحوا سعداء، وليصبحوا بشراً قادرين على ضبط النفس:" فلو انك تراخيت في يقظتك وحذرك لخسرت كل شيء، فمن داخلك يأتي الدمار، ومن داخلك يأتي الغوت والمساعدة " – المختصر ترجمة عادل مصطفى –

ظل إبكتيتوس يُلقي دروسه بينما هو يعيش عيشة التقشف والبساطة، في منزل ليس فيه سوى حصير ومصباح من الطين، وكان يعيش وحيدا أعزب إلى أن تبنى طفلاً، واستعان بامرأةً فقيرةً لترَبّيه، وفي سنواته الاخيرة اصيب بالتهاب المفاصل الذي تسبب له بالعرج، عاش حتى عام ١٣٨ميلادية، وكان يبلغ من العمر 88 عاماً.

إن جوهر فلسفة إبكتيتوس يتلخص بعبارة أن تكون إنسانا"، يجب على المرء أن يُراعي عمليات التفكير الخاصة به، و"التحرر من الخداع والحكم المُتسرع، وبشكل عام كل ما يتعلق بالموافقة ".

يُوصي إبيكتيتوس التلاميذ بالامتناع عن استخدام مصطلحي "الجيد" و"السيء"، ليس لعدم تطبيقهما في الحياة البشرية، بل لسهولة إساءة استخدامهما. لذا، ينبغي على المرء "كبح" الرغبة والنفور، واستخدام الدافع والدافع المضاد فقط، بشكلٍ واضحٍ وخالٍ من التزييف العاطفي لمكافحة بعض العادات السيئة الفردية، ينبغي على المرء ممارسة السلوك المعاكس: على سبيل المثال، إذا كان المرء سريع الانفعال، فعليه أن يُعوّد نفسه على تحمل الإهانات بصبر. إن الفحص الذاتي المنتظم قبل النوم، هو ممارسة مُستعارة من افكار إبيكتيتوس :" يُمكن للمرء من تصحيح الأخطاء قبل أن تترسخ " – المختصر ترجمة عادل مصطفى -

يكتب زيغمونت باومان:" نخن سعداء طالما لم نفقد الأمل في السعادة، نحن في مأمن من التعاسة طالما ما يزال الامل يدقُ أبوابنا. وبالتالي فأن مفتاح السعادة وترياق البؤس هو في الحفاظ على الأمنل في السعادة حياً باقياً" – فن الحياة ترجمة محمود احمد -.

يمكن تلخيص فلسفة إبيكتيتوس بالنقاط التالية

1- السيطرة على النفس، فانت مالك وسيد مشاعرك

2- لديك حياة واحدة فقط ولا فائدة من خسارتها في ترهات يمر بها الآخرون.

3- تجنب الافراط، فالحياة تقتضي كل يوم ان يكون آخر يوم في حياتك. لاتضيع الوقت في اشياء لن تفعلها

4- انت وحدك المسؤول عما تشعر به وعن ردود أفعالك

5- لا فائدة من القلق بشان الاشياء التي لا تتحكم فيها..لا تقلق بشأن ما ليس لك تاثير عليه

6- الاحداث المؤسفة فرصة لتطوير مناقبك بغض النظر عن العواقب. اعتق الفشل على انه افضل معلم يمكنك الحصول عليه.

7- الحظ غير موجود، هذا العالم هو افضل ما يمكن الحصول عليه، ووجودنا يساهم في هذا المشروع الكوني.

8- لا أحد يشعرنا بالسوء، نحن من يقرر كيف نشعر. لا نلوم أحد على، فنحن مسؤولون عنها وحدنا.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

.....................

* فصل من كتاب " الفلسفة طريقا للسعادة.. فن الحياة من أبيقور الى آلان باديو " يصدر قريبا عن دار أُثر السعودية.

 

الخطاب غير المكتمل لا يؤدي أي فعالية كما ان تطور أي خطاب هو خارج الكيان البشري، فعاليته تعتمد على العلاقة الديناميكية والقيمة الادائية للسرديات التاريخية على المنظومات الفكرية للفرد والجماعة، رغم ان الاستجابة غير موحدة لابد من ان يكون الخطاب متضمنا عناصر معينة قابلة للصياغة والتطبيق، هذه النقطة يمكن أن تكون نقطة انطلاق لدراسة العلاقة بين السرديات التاريخية، العنف الهيكلي، وسلطة التأثير للخطاب السلطوي، حيث تتداخل جميعها بشكل معقد لتعكس التفاعلات بين المعرفة والسلطة، كما تسهم في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية، وتؤثر على كيفية رؤية المجتمعات لنفسها وللآخرين، اما الخطاب كي يؤكد فعاليته يجب ان يكون محتويا عنفا فكريا أو مفاهيميا بشكل بنيوي ليؤكد انتصاره في الصراع الذي يمكن أن ينشأ بين التطبيقات الفلسفية أو الأيديولوجية للخطاب السلطوي في مواجهة الخطاب النقدي مما يعزز من هيمنته على حساب أصوات نقدية اخرى. في الحقيقة الخطاب السلطوي ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو أداة للسيطرة والتأثير، حيث يحدد ما يُعتبر صحيحًا أو خاطئًا في علاقته بالسرديات التاريخية ويستخدم لتبرير العنف الهيكلي، حيث يمكن أن تُستغل ايديولوجيات معينة لتأكيد سلطة خطاب منحاز، ان استخدام سرديات تاريخية محددة يمكن أن يؤدي الى تعزيز العنف الهيكلي من خلال إضفاء الشرعية على أفكار وتهميش أخرى، مما يعزز الحاجة إلى إعادة التفكير في السلطة التي يحملها الخطاب. تتفاعل هذه العناصر بشكل ديناميكي، وتثير تساؤلات حول فهمنا للعالم وإعادة تشكيله وكيفية تأثير هذه الديناميات على المجتمع والثقافة بشكل عام.

الخطاب السردي والفلسفة الاخلاقية

الخطاب السردي العنيف يعتمد على كل من السرديات التاريخية والفلسفة الأخلاقية، العلاقة بينهما معقدة، السرديات التاريخية توفر الخلفية الثقافية والسياسية التي تشكل كيفية فهم المجتمعات للعنف. الأحداث التاريخية تُستخدم لتبرير العنف، مما يؤثر على كيفية تفاعل الأفراد مع القضايا المصيرية ويمكن ان تستخدم السرديات التاريخية لإعادة بناء الفهم الجماعي للعنف، مما يجعل من الممكن تجديد الروايات السائدة التي تؤسس للعنف، الفلسفة الأخلاقية تقدم المعايير التي تُستخدم لتقييم الأفعال، بما في ذلك العنف، الأسئلة حول ما هو "صحيح" أو "خطأ" وتلعب دورًا مهمًا في كيفية تفسير العنف وتبريره، تعزز الفلسفة الأخلاقية النقاش حول أسباب العنف وآثاره، مما يساعد في فهم الأبعاد الأخلاقية وراء الأفعال العنيفة . الروايات التي تُروى قد تؤثر على كيفية فهم الأفراد للأخلاق والعنف والخطاب السردي وتعتمد كليا على تفاعل السرديات التاريخية والفلسفة الأخلاقية. كل منهما يُشكل الآخر، ويؤثر فهم الناس للعنف وتبريره كما  في الخطاب الديني في بداية تشكل افكاره ومواقفه تجاه العنف.

العنف وسلطة المعرفة

السلطة تُنتج معرفة معينة، ما يعني أن العنف يمكن أن يكون غير مرئي ويظهر في شكل سيطرة اجتماعية وثقافية من خلال مراقبة الأفراد وتوجيه سلوكهم، يتم تحقيق هذا النوع من العنف الذي يؤثر على الهوية الفردية ويشكل فهمنا للطرق التي يمكن أن يتجلى بها في الحياة اليومية، ليس فقط من خلال الأفعال الجسدية، بل أيضًا عبر الممارسات الاجتماعية والسياسية التي تشكل واقعنا والتي تشير إلى الأفعال الجسدية التي تتضمن إلحاق الأذى بالآخرين، مثل الحروب، الهجمات الإرهابية، أو القمع السياسي والفكري و يمكن أن يتم هذا النوع من العنف ويبرر من خلال أفكار فلسفية، مثل الفلسفات التي تعزز من القوة أو الصراع كوسيلة للتغيير، كما يجب ان لا نغفل ان تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات يتم من خلال الخطابات الفلسفية والدينية، وقد تتضمن التلاعب بالحقائق أو التأويلات المشوهة ويمكن أن تستخدم لتبرير أو تعزيز الأفكار التي تبرر العنف بأشكاله، نتيجة تعزيز الكراهية أو التمييز في كثير من الأحيان، رغم ان هناك تداخل بين العنف الجسدي والعنف الفكري لكن العلاقة تبادلية بينه وبين الأفكار الفلسفية اتجاه العنف ويمكن أن تساهم في خلق مناخ من العنف الجسدي حيث العنف الفكري يمكن أن يؤدي إلى ثقافة تؤيد العنف الجسدي، بينما العنف الجسدي يمكن أن يكون رد فعل على أفكار تعتبرها المجتمعات تهديدًا، العنف الفلسفي يتضمن كلا النوعين، ويعتمد فهمه على السياق التاريخي والاجتماعي.

العنف الهيكلي

ان استخدام نظرية العنف الهيكلي مع نظرية الهوية الاجتماعية لفهم كيف تؤدي الهياكل الاجتماعية إلى تعزيز الهويات الجماعية التي تبرر العنف في أوقات الأزمات، مثل الحروب أو الثورات، تتفاعل هذه النظريات لتطوير استراتيجيات جديدة لتعزيز فعل العنف والتعامل معه، مثل دمج افكار عنيفة مع استراتيجيات المقاومة . هناك شكل اخرى من العنف مستمد من تأثيرات العنف الخطابي في السرديات التاريخية له تأثير متنوع على الوعي الجمعي المعاصر ويؤثر بشكل عميق على الهياكل الاجتماعية والسياسية وهو العنف التكفيري. العنف الخطابي، سواء كان دينيًا أو سياسيًا، يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الانقسامات بين الجماعات، مما يخلق بيئة من الكراهية وعدم الثقة ويستخدم لتشكيل هويات جماعية، حيث يمكن أن يؤدي إلى تعزيز المشاعر القومية، الطائفية أو الدينية، العنف الهيكلي يشير إلى الأنظمة والهياكل الاجتماعية التي تساهم في إنتاج عدم المساواة والتمييز، مثل العرق، والجنس، والطبقة الاجتماعية وكيف يؤدي إلى تهميش الجماعات وإضعاف قدرتها على التعبير عن نفسها أو المشاركة في البناء الحضاري كما يبين كيف تتداخل السرديات التاريخية مع العنف الهيكلي لتشكيل تجارب الأفراد والجماعات، ان استخدام الأدوات الفلسفية لتحليل كيف يتم تشكيل السرديات التاريخية وكيف تؤثر على الهياكل الاجتماعية والدعوة لتطوير سرديات بديلة تعكس تنوع التجارب الإنسانية وتساعد في معالجة العنف الهيكلي، من خلال هذه المقاربة الفلسفية يمكن تقديم إطار فلسفي لفهم كيف يمكن للعنف في السرديات التاريخية أن يتفاعل مع العنف الهيكلي، مما يؤدي إلى إعادة التفكير في كيفية كتابة التاريخ وفهم الهويات الإنسانية.

النظريات النقدية والعنف الهيكلي

تلعب النظريات النقدية دوراً مهماً في فهم العنف الهيكلي في السرديات التاريخية، وتساعد في كشف كيف تعكس السرديات التاريخية أنماط الهيمنة والسلطة، وتسلط الضوء على التحيزات التي تؤدي إلى تهميش بعض الفئات وتقدم الأدوات اللازمة لتفكيك السرديات التاريخية التي تؤسس للعنف، مما يسمح بفهم كيف تُبنى الروايات وتُستبعد تجارب معينة كما تسلط النظريات النقدية الضوء على قضايا العدالة الاجتماعية وكيف يؤثر العنف الهيكلي على الفئات المختلفة، مما يساعد على فهمه بشكل أعمق، و تدعو إلى إعادة التفكير في الهياكل الاجتماعية والسياسية، مما يمكن أن يعزز من النضال من أجل العدالة الاجتماعية. تساهم النظريات النقدية في الدعوة إلى سرديات تاريخية جديدة تعكس تجارب الفئات المهمشة، مما يساعد على تصحيح السرديات التي تعزز العنف الهيكلي وتساهم في فهم كيف تتشكل الذاكرة الجماعية للهويات الوطنية وكيف تؤثر على التفاعلات الاجتماعية كما تعزز النظريات النقدية من فهم الرموز الثقافية و تأثيرها على تشكيل الهياكل الاجتماعية، مما يسهم في تحليل العنف الهيكلي .ان دراسة كيف تؤثر السرديات الثقافية على التفاعلات الاجتماعية والسياسية من خلال تقديم نظريات نقدية تملك أدوات التمكين، يساعد المجتمعات على مواجهة العنف الهيكلي والتعبير عن تجاربها كما تسلط الضوء على استراتيجيات المقاومة التي يمكن أن تتبناها الفئات المتضررة لتغيير السرديات الهيكلية بشكل عام، النظريات النقدية تعزز من القدرة على معالجة قضايا العدالة والتغيير الاجتماعي.

***

غالب المسعودي

تبدو صورة المثقف لدى المجتمع إنساناً كثيف القراءة، واسع الاطلاع، حكيماً، ورصيناً في آرائه، ويستعمل مصطلحات قد لا تكون معلومة لدى المستمع، وفي حقيقة الأمر أن هذا التصور قد أحدث فجوة بين المثقف والمجتمع. لقد صار معلوماً أن المثقف كائن منعزل ومتعال في الآن ذاته، بعد انعزاله -واعتزاله ربما- الطويل في زمننا هذا، وقد أسهم في إحداث هذا الانعزال المثقف نفسه فضلاً عن تصور المجتمع حوله، وفي نهاية المطاف يجد المتابع أن المثقف الفاعل قليل الوجود، ونادر الحدوث؛ لأنه -من وجهة نظري- فاعلية وتأثير في المجتمع بشكل إيجابي، والانعزال ينفي هذا الأمر. ولعل انتشار منصات التواصل الاجتماعي قد أظهر فراغاً محتوى معظم المثقفين، وضاعف من عزلتهم إن بدفعهم إلى الظل تارة، أو بعدم قدرتهم على الاندماج مع الواقع ووضع حلول لما يعاني منه المجتمع بشكل ناجع من جهة أخرى، وكثير ما نجد أن فكر المثقف وخطابه لا يتماشيان مع المجتمع، بل هما في اغتراب مضاعف

 عزلة المثقف تعني في حالة من حالاتها عزلاً قسرياً من قبلهم لذواتهم الفاعلة، وإقصاء للمجتمع أيضاً عنهم، وهذا العزل بلا شك نوع من التخاذل تجاه المجتمع، بل خذلان للمجتمع، وهنا تجدر الإشارة إلى محاولة المفكر الإيطالي جرامشي في تحديد وظيفة المثقف أو المفكر إذ يؤكد أن وظيفته لا يقوم بها كل الناس، فدور المثقف هو التفاعل مع المجتمع وجعل فكره متماشياً ومنسجماً مع حاجات المجتمع ومتطلباته،،لقد عزل المثقف نفسه في وقت صار العالم يعيش في تطبيق إلكتروني أو برنامج تواصل في متناول اليد، وقد كان بإمكانه الاستفادة من هذه التقنيات بتوجيه خطابه إلى شريحة كبيرة من المجتمع، خاصة وأن تداول مقاطع هذه البرامج يمتاز بسرعة الانتشار بين شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، فهي تغري المتلقي بسهولة الوصول إلى المعلومة وقصرها

لجأ كثير من الفلاسفة وأهل الفكر والمعرفة إلى العزلة والوحدة والتأمل لأسباب ودواعٍ مختلفة؛ فمنهم من يتخذها مذهبا دائما له في الحياة، مثل: أبو العلاء المعري، الذي لقب بسببها برهين المحبسين؛ لأنه كان -بالإضافة إلى الوحدة- ضريرًا أيضا. ومنهم من يلوذ بها احتجاجا على واقع سياسي أو ثقافي كما فعل المفكر المصري الراحل جمال حمدان، الذي اختار أن يحبس نفسه في غرفة ضيقة إلى أن توفي سنة 1993 نتيجة تسرب لأنبوب الغاز في غرفته. وهناك فئة لجأت إلى الوحدة والعزلة للتفرغ للتأمل والمراجعة، وخرج منها بتبني منظومة معرفية جديدة، مثل: الإمام أبو حامد الغزالي، الذي ضاقت به - حسب تعبيره- الأفكار والرؤى والمذاهب فلجأ إلى الوحدة والتأمل، وخرج منها بسيرته الذاتية "المنقذ من الضلال" متبنيا مذهب التصوف والعرفان ليكون بعد ذلك أحد الرواد في هذا المذهب ومن الذين أسهموا بعد ذلك في القضاء على الفكر الفلسفي والاتجاه العقلي في الإسلام بعد تأليفه كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". والمفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي الذي قضى ثمانية عشر عاما بعيدا عن الأضواء قبل أن يفاجئ العالم برائعته الفلسفية "العالم ليس عقلا.

ومن الذين اختاروا العزلة بديلا عن حياة الصخب والأضواء الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 - 1900)، وفي تلك المرحلة ألف أعظم كتبه الفلسفية وأكثرها أهمية، منها رائعته الفلسفية والادبية "هكذا تكلم زرادشت" والتي تحدث نيتشه عن ظروف تأليفها بالتفصيل في كتابه الذي يشبه سيرته الذاتية "هذا هو الإنسان" ولكن هذه الوحدة التي رافقتها عملية انكباب عميقة في قراءة الكتب والتأمل سببت له الكثير من أمراض الصداع والتي أدت به ـ إضافة إلى ظروف أخرى ـ إلى نهاية مأساوية وهي الجنون ثم الموت وهو في ريعان شبابه

كتب المفكر الإيطالي بيترارك (1304 - 1374) كتابا عن العزلة والوحدة وتحدث فيه عن متعة الحياة المنزوية، التي عاشها في بعض أرياف إيطاليا وجنوب فرنسا، ولكن الوحدة التي دعا إليها بيترارك لم تكن وحدة الراهب في صومعته، وإنما كما يقول هاشم صالح في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي" ص 91: "إنما العالم والأديب الذي ينزوي بعيدا عن المدن وضجيجها وعجيجها فهناك يكون حرا ويتفرغ للقراءة والتأمل العميق فالوحدة ضرورية من أجل التأمل وينبغي أن تحمي نفسك أحيانا من غلاظة الناس؛ لكي تستطيع أن تفكر بهدوء وتأخذ مسافة من الأشياء والأحداث السريعة المتقلبة والمتزاحمة.

إن الوحدة والعزلة تساعد الإنسان على الابتعاد عن المجادلات العقيمة التي تؤدي أحيانا إلى الاضطرابات النفسية، فيتجه إلى حالة من العزلة تساعده على صفاء النفس والهدوء الروحي بعيدا عن صخب الحياة وتداعياته على النفس والبدن، بحيث يستطيع من خلال ذلك إيجاد حالة من الاطمئنان النفسي والفكري والسلام الداخلي تجعله قادرا على التفكير بشكل سليم بعيدا عن المؤثرات النفسية التي تأتي من هنا وهناك، وفتح آفاق فلسفية ونوافذ معرفية جديدة بعيدة عن التأثر بالصراعات الفكرية وما تجلبه من تأثيرات نفسية على الفكر والنفس.

إنّ الوحدة والعزلة بعيدا عن ضجيج المدن والناس هي مراجعة للنفس والأفكار من أجل الانطلاق إلى أفكار أكثر تماسكا وجمالا وإشراقا، ولذلك نلاحظ من خلال رحلة الشيرازي إلى الوحدة والتأمل، أنّه خرج منها بحصيلة معرفية استطاع من خلالها إثبات ما خرج منها بالبرهان عن طريق العرفان وأيضا إيجاد نظرية فلسفية توافقية ما بين البرهان والعرفان أسماها بـ "الحكمة المتعالية" ودونها في كتابه الموسوعي الضخم "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة.

المثقفون والمتعلمون هم العمود الفقري لكل مجتمع ومنهم يخرج القادة الذين يقودون شعوبهم نحو الأفضل من تطوير وتقدم وازدهار، فأين مثقفينا من هذا؟ لماذا لا يقودوا مثقفو كل قريه وبلد مجتمعهم نحو الأفضل ويؤثرون على مجريات الأمور؟ ولماذا يقف المثقف العربي الفلسطيني في الداخل، موقفا سلبيا اتجاه ما يجري في مجتمعه؟ هل هذا الموقف السلبي وعدم الاكتراث بما يجري من عنف وقتل وتردي في المجتمع، نابع من التربية الأسرية التي تركز على الانتماء والولاء للعائلة وليس للمجتمع أو نتيجة عجزه أو نتيجة تهميشه من قبل المجتمع ؟ أو نتيجة أنانيته واهتمامه بمصلحته الخاصة؟ أو كما يقول المثل  زاحت عن ظهري بسيطة؟.

غياب المثقف يلقي بظلاله السلبية على تطور وتقدم المجتمع، فلا توجد ثقافة في المجتمع ما دام لا يأخذ المثقفون دورهم الفعال في المجتمع، لان المثقف هو الذي يملأ عقل الفرد بالقيم والأخلاق والعلم والمعرفة، وهو الذي يرشد ويوجه ويصنع الوعي عند الفرد، ويحرك الجمود السائد في المجتمع، وهو البوصلة الموجهة، وهو الذي يصلح الخلل في المجتمع، وتغير أنماط الحياة نحو الافضل، وهو الذي يبني منظومة ثقافية وعلمية القادرة على مواجهة تحديات الحياة، وهو الذي يعالج ويقلص الأوضاع السيئة والسلوك العنيف، ويحارب الجهل، وهو الذي يبني الأجيال واعدادهم اعدادا جيدا لتسلم مهامهم الاجتماعية مستقبلا،،، انعزال المثقف جانبا دون التأثير على مجريات الحياة من شأنه أن يزيد الوضع الاجتماعي ترديا وسوأ، لان الثقافة والعلم هما الدرع الواقي للمجتمع من الفساد والجهل والفوضى وانتشار العنف والجريمة والانهيار.

***

نهاد الحديثي

 

لا ينكر عاقل فوائد التكنولوجيا في تسريع نقل المعلومة، أو تنمية المهارات التقنية، لكن الخطر كل الخطر أن تتحول الأدوات إلى غايات، وأن تختزل العملية التعليمية في «كفاءة تقنية» تفتقر إلى العمق الإنساني. 

الحل – في رأيي – لا يكمن في القطيعة مع التقدم، ولا في الانغلاق على الماضي، بل في إعادة تعريف الفلسفة التربوية ذاتها: أي إنسان نريد أن نخرج للمجتمع؟ 

أولاً: علينا أن نفرق بين «التعليم» و«التدريب». فالتعليم الحقيقي يهدف إلى بناء الشخصية النقدية القادرة على التساؤل، والتحليل، والربط بين المعارف. أما التدريب فيقتصر على إتقان أدوات محددة. التكنولوجيا تفيد في الثاني، لكنها – دون وعي – قد تعيق الأول إن حولت الطالب إلى مجرد متلق سريع الاستجابة، لا مبدع يبحث عن المعنى. 

ثانيًا: التوازن مبدأ جوهري. لماذا لا نخصص حصصًا للكتابة اليدوية التي تنشط الذاكرة، وتعزز التركيز، وتتيح مساحة للتأمل؟ ولماذا لا نستخدم التكنولوجيا في الوقت ذاته لمحاكاة التجارب العلمية، أو ربط الفصول بثقافات بعيدة؟ المشكلة ليست في الجمع بين القلم والشاشة، بل في غياب الرؤية التي تحدد متى نستخدم هذا أو ذاك. 

ثالثًا: إعادة تأهيل المعلم. لا يكفي أن نزود المدارس بأحدث الأجهزة، أو نعيدها إلى الأوراق، إن ظل المعلم أسير المنهج التلقيني. التعليم الناجح يحتاج إلى مرب قادر على تحويل الفصل إلى «ورشة أسئلة»، سواء بوسائل بسيطة أو معقدة. التكنولوجيا – هنا – قد تكون عونًا إن سخّرناها لخدمة الحوار، لا لقتله. 

رابعًا: مقاومة ثقافة «الاستهلاك المعرفي». إن إغراق الطالب بمنصات إلكترونية لا تنتج إلا جيلًا يعتقد أن المعرفة «وجبة سريعة» تستهلك وتنسى. أما الكتابة اليدوية، والقراءة الورقية، فتعيد له احترام «البطء» كشرط للفهم. لكن هذا لا يعني رفض العالم الرقمي، بل دمجه في إطار يحافظ على جوهر التعليم: صناعة العقل المتسائل. 

خامسًا: الحل السياسي قبل التربوي. قرارات التعليم لا تتخذ بعيدًا عن ضغوط شركات التكنولوجيا، أو الصراعات الإيديولوجية. فكما دافع «روسو» عن تربية الطبيعة ضد تقاليد عصره، علينا اليوم أن ندفع باتجاه سياسات تعليمية تقلل من هيمنة «السوق» على المدرسة، وتجعل مصلحة الإنسان – لا الاقتصاد – هي المعيار. 

التاريخ يعلمنا أن المجتمعات التي انتصرت هي التي جمعت بين «العقل الأداتي» و«العقل النقدي». فاليابان – مثلاً – تمزج بين أحدث الابتكارات وتقاليد «الزن» في التأمل. والسويد – بإعادتها للأقلام – تذكرنا بأن التقدم ليس مسارًا مستقيمًا، بل هو دائرة تبدأ بالإنسان وتنتهي إليه. فلنوقف معركة «الورق ضد الشاشات»، ولنبدأ معركة «كيف نحول التعليم إلى حياة». 

نحو فلسفة تربوية جديدة 

لا تحل إشكالية التكنولوجيا والتعليم بالوقوف عند حدود "الشاشة أم الورقة"، فهذه ثنائية تختزل سؤالًا معقدًا في إطار تبسيطي يخدعنا بوهم الحلول السريعة. إن جوهر الأزمة يكمن في تحول التعليم إلى ساحة للصراع بين قوى متعددة: اقتصاد السوق، وضغوط العولمة، وتراجع الفلسفة الإنسانية. فكيف نعيد بناء التوازن؟ 

لم يعد دور الأسرة في العملية التعليمية مقتصرًا على توفير الأجهزة أو مراقبة الدرجات. التحدي الحقيقي هو أن تتحول البيوت إلى فضاءات تكمل المدرسة: حيث يمارس الطفل الكتابة اليدوية، ويقرأ كتابًا ورقيًا، بينما يستخدم التكنولوجيا لاستكشاف الكون عبر منصات علمية. الأسرة التي ترفض أن تكون "حارسًا رقميًا" لأبنائها، وتشاركهم في تشكيل وعي نقدي، هي التي تنتج إنسانًا قادرًا على الاختيار، لا الاستهلاك. 

أصبح الطالب اليوم غارقًا في كم هائل من المعلومات، لكنه يفتقد "خريطة المعنى" التي تربط بينها. التكنولوجيا تقدم له "المعلومة" كقطع منفصلة، بينما الكتابة اليدوية – خاصة في تدوين الملاحظات – تعزز الربط بين الأفكار عبر تشغيل الذاكرة البطيئة. هل نستطيع توظيف التكنولوجيا لبناء مشاريع بحثية تعيد للطالب إحساسه بأن المعرفة نسيج واحد، بينما نحتفظ بالورق كمساحة للتأليف الذهني؟ 

الوهم والضرورة 

لا ينكر أحد أن الهواتف الذكية حولت الطلاب إلى كائنات مشتتة الانتباه، لكن الحل لا يكمن في مصادرة الأجهزة، بل في بناء "وعي رقمي" يدرك أن التكنولوجيا أداة تحرير لا أداة استعباد. كيف؟ بدمج مادتين في المناهج: فلسفة التكنولوجيا (كيف تعيد تشكيل وعينا؟)، والكتابة الإبداعية (كيف نعيد صياغة العالم بلغتنا؟). 

الامتحانات مقبرة للإبداع 

الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها التكنولوجيا في التعليم هي تعميقها لفكرة "النتيجة السريعة" عبر اختبارات محوسبة تقيم السرعة أكثر من العمق. والعودة إلى الورق – في حد ذاتها – لن تصلح الأمر إن ظلت الامتحانات تقيس الحفظ لا الفهم. الحل الجذري هو إعادة تصميم التقييم ليكون قائمًا على: 

- مشاريع طويلة المدى تقيم التفكير النقدي. 

- مناقشات جماعية تعيد الاعتبار للحوار الإنساني. 

- ملفات إلكترونية وورقية توثق رحلة التعلم، لا لحظته الختامية. 

لماذا لا نحول المدرسة إلى نموذج مصغر للمجتمع الذي نطمح إليه؟ حيث: 

- تستخدم التكنولوجيا لتخطي حواجز الزمان والمكان (كالتواصل مع مدارس في قارات أخرى). 

- وتستخدم الأقلام لكتابة رسائل حقيقية يرسلها الطلاب إلى أنفسهم بعد عشر سنوات. 

- وتصمم فصول بلا شاشات أيامًا، وبلا أوراق أيامًا، ليتعلم الطفل أن الأدوات خادمة، لا سيدة. 

الخوف من التكنولوجيا – كالانبهار بها – دليل عجز عن رؤية المستقبل. السويد التي عادت إلى الورق ليست نفسها التي دخلت عصر الرقمنة؛ إنها مجتمع اختبر الحداثة، واكتشف أن الإنسان يخسر إنسانيته حين يغادر جسده إلى العالم الافتراضي. أما نحن – في العالم العربي – فما زلنا نصارع للخروج من مأزق "اللحاق" بالآخر، دون أن نحدد: أي إنسان نطلب؟ 

لن ننجو برفض التكنولوجيا أو بعبادتها، بل بفهم أن التعليم الناجح هو الذي ينتج إنسانًا يستطيع أن يكتب قصيدته على الورق، ويحلل بيانات العالم على الشاشة، ويسأل في الحالتين: ما الذي أضعه؟ وما الذي أكسبه؟ 

أين المفر؟ 

لا تبحثوا عن "التقدم" في شاشة ذكية، ولا عن "التخلف" في دفتر مصفر. فالحضارة لا تقاس ببريق الأجهزة، بل بقدرة الإنسان على طرح السؤال المحرق، والتفكير النقدي، والحفر في أعماق المعنى. حين أعلنت السويد عودتها إلى الأقلام والورق في مدارسها، لم تكن ترفض التكنولوجيا، بل كانت ترفض شيئًا آخر: الاستسلام لفكرة خادعة مفادها أن السرعة تعني الفهم، واللمسات السطحية تعني الإبداع، واتساع الشاشات يعني عمق الرؤية. 

هل ننسى أن سقراط رفض الكتابة ذات يوم؟ اعتبرها شكلاً من أشكال النسيان، لأنها تضعف الذاكرة وتقتل الحوار الحي. لكن التاريخ لم يتوقف، فالكلمة المكتوبة صارت جسرًا بين العصور. الفارق أن سقراط كان يسأل عن "لماذا" قبل "الكيف". وهذا بالضبط ما تفعله السويد اليوم: تسأل عن "لماذا" قبل أن تغرق في بحر رقمي لا قاع له. 

علينا أن تتذكر أن القضية ليست معركة بين الحبر والإلكترونيات، بل بين "التعليم كصناعة بشرية" و "التعليم كسلعة استهلاكية". هل نريد لأطفالنا أن يصيروا مستخدمين بارعين للتطبيقات، أم مفكرين قادرين على اختراق السطح؟ الورقة والقلم قد يكونان تمردًا على ثقافة "التلقين السريع"، لكن التمرد الحقيقي يبدأ عندما نعلم الطفل أن يسأل: ماذا خسرت حين كسبت السرعة؟ وماذا كسبت حين خسرت الورقة البيضاء التي كانت تنبئ بفرصة البدء من جديد؟ 

في النهاية، لا معنى للحديث عن "العودة إلى الماضي" أو "الاندفاع نحو المستقبل"، إذا كنا نفتقد البوصلة التي تحدد: أي إنسان نريد؟ فالأقلام والورق ليست سوى أدوات، لكنها قد تكون فرصة لنتذكر أن أعظم التكنولوجيا هي تلك التي تطلق العقل بدل أن تأسره.

***

د. عبد السلام فاروق

 

قراءة مركّزة لمقال

 (The Neurobiology of Social Distance)*

***

من منظور علم الأعصاب الإدراكي (Cognitive Neuroscience): هل يمكن أن تتحول الوحدة إلى فخ إدراكي يُشوّه رؤيتك للآخرين ويمنعك من النجاة؟

كيف تعمل الصداقات درعا مناعيا يحميك بيولوجيًا أكثر من الأدوية؟

هل تنتقل المشاعر - كالسعادة والاكتئاب - بين الناس مثل العدوى، حتى لو لم يلتقوا؟

ما الرابط بين عدد أصدقائك وقوة جهازك المناعي؟

هل يمكن لعقلك فعلًا أن يتعامل بعمق مع أكثر من خمسة أصدقاء؟

هل تمنحك المحادثات النصية الإشباع العصبي نفسه الذي يولّده حضور شخصي حقيقي؟

كيف تُعيد الشبكات الاجتماعية - القوية والضعيفة - تشكيل دوائر دماغك؟

هل يمكن أن تؤدي العزلة في الطفولة إلى تغييرات دائمة في بنية الدماغ ووظائفه؟

كيف تدفع الوحدة في الشيخوخة الدماغ نحو الخرف وتعاطي البدائل الكيميائية؟

***

هذا المقال** يستعرض العُزلة الاجتماعية من منظور عصبي لا بوصفها حدثا عابرا، وإنّما باعتبارها خللًا عصبيا يتغوّل في الذاكرة والمناعة بل وحتى الهوية. وما يلي استنطاق مركّز للأفكار الكامنة بين ردهات المقال:

1. مشكلة العزلة الاجتماعية

لأنّ الإنسان مفطور على التفاعل الاجتماعي، فالانعزال ينعكس سلبا على تكوينه البشري؛ ومن هنا كان الشعور بالوحدة إنذارا عصبيا تطوّريا يُنبهك لخطر الانفصال عن الجماعة، ويدفعك غريزيًا للاتصال بالجماعة، إلا أنّه ثمة مفارقة غريبة في الأمر، إذْ إنّه يؤدي تفعيل هذا الإنذار إلى تحريف الإدراك الاجتماعي؛ الأمر الذي يجعلك ترى الآخرين مصدر تهديد، فتستمرّ في عزلتك الاجتماعية؛ وذلك بسبب أنّ الدماغ في تلك الحالة يقوم بتضخيم الإشارات السلبية وتشطين عبارات الآخرين وسلوكياتهم الحيادية، كما أنه يتوقّع الرفض مسبقًا، فليس عجيبا أن تصنّف منظمة الصحة العالمية الوحدة الاجتماعية ضمن قائمة التهديدات الصحية العالمية، ويسلّط المقال الضوء على ذلك قائلا:

 "Once lonely, humans can become trapped in a psychological downward cycle that can be dif cult to escape from. This is in part reinforced by a skewed perception of negative cues and social threat from others, or the expectation of being socially excluded by others." p.717

أي: "بمجرّد أن يشعر الإنسان بالوحدة، يمكن أن ينحصر في دوّامة نفسية هابطة يصعب الخروج منها، ويُعزّز هذا جزئيًا بفعل إدراك مشوَّه للإشارات السلبية والتهديدات الاجتماعية من الآخرين، أو توقّع أن يتم استبعاده اجتماعيًا من قبلهم".

2. لماذا الروابط الاجتماعية مفيدة لك؟

تُظهر التجارب السريرية أنّ تمتّع المرء بشبكة صلات متينة من شأنه أن يعزّز المناعة، كما أنه مرتبط بانخفاض معدلات الإصابة بالأمراض وتسريع عملية الشفاء.

ويوضح المقال ذلك بجلاء:

The tighter someone is embedded in a network of friends, the less likely they are to become ill. The higher your social capital, the faster you get better if you fall ill, the quicker you recover from surgery, and the longer you will live.” p.717

أي: "كلما كان المرء مندمجًا بشكل أعمق في شبكة من الأصدقاء، قلّت احتمالية إصابته بالمرض، وكلما ارتفع رأس مالك الاجتماعي، تعافيت أسرع عند المرض، وشُفيت بسرعة أكبر بعد العمليات الجراحية، وامتدّت فترة حياتك أكثر".

The investigators also documented a strong effect of 'geographical contagion'. If you have a happy friend who lives within a radius of 1 mile, you are 25% more likely to be happy. In addition, you are 34% more likely to be happy if your next-door neighbor is happy.” p.718

أي: "كما وثّق الباحثون تأثيرًا قويًا لما يُعرف بـ(العدوى الجغرافية) فإذا كان لديك صديق سعيد يسكن ضمن دائرة نصف قطرها ميل واحد، فإن احتمالية شعورك بالسعادة تزداد بنسبة 25٪. بالإضافة إلى ذلك، فإن احتمال شعورك بالسعادة يرتفع بنسبة 34٪ إذا كان جارك المباشر سعيدًا."

3. العدوى الاجتماعية تنتشر في المجتمع الأوسع

المشاعر معدية وهكذا ما يرتبط بيها من سلوكيات كالسعادة والاكتئاب! وهذه العدوى الاجتماعية لا تقتصر على دائرة الأصدقاء بل تمتد إلى أصدقاء الأصدقاء! وعليه؛ فإنّ الانتماء للتجمعات كالأندية والانخراط في الأنشطة الاجتماعية يقلل من خطر الاكتئاب،وارتفاع الرضا عن الحياة، الجدير بالذكر أنّ هذه التأثيرات لا تنحصر على المجتمعات البشرية، بل وُجدت أيضًا لدى الحيوانات الاجتماعية مثل الشمبانزي والدلافين، ويؤكد المقال ذلك بعبارته:

People who belong to more groups are less likely to experience bouts of depression.” p.718

أي: "الأشخاص الذين ينتمون إلى عدد أكبر من المجموعات يكونون أقل عرضة لنوبات الاكتئاب".

4. الوحدة مضرة للجهاز المناعي

لقد بات جليا أن متانة العلاقات الاجتماعية تتناسب طرديا مع كفاءة الجهاز المناعي، وبالتالي فإن العزلة الاجتماعية مرتبطة بضعف مقاومة العدوى.

ويؤكد على ذلك المقال قائلا:

Research has found that freshmen students who reported feeling lonely had a reduced immune system response when they were given a flu vaccine compared to students who felt socially well engaged.” p.719

أي: "أظهرت الأبحاث أن طلاب السنة الأولى في الجامعة الذين أبلغوا عن شعورهم بالوحدة كانت لديهم استجابة مناعية منخفضة عند إعطائهم لقاح الإنفلونزا، مقارنةً بالطلاب الذين كانوا مندمجين اجتماعيًا بشكل جيد."

5. ما الذي يحدّ من عدد الأصدقاء؟!

يعجز الدماغ البشري في حالته الصحية الافتراضية عن إدارة أكثر من حوالي 150 علاقة اجتماعية، والذي يُطلق عليه (عدد دنبر) (Dunbar’s number) إننا نعتقد أنه لا تحدّنا حدود في صلاتنا الاجتماعية، إلا أنّ الدماغ لا يوزّع وقته بسخاء! فثلثا تفاعلاتنا الاجتماعية محجوزة سلفًا لأقرب 15 شخصًا، كما أنّ الدائرة الضيقة لا تجاوز 5 أفراد! فالعلاقات القريبة تستهلك طاقة عصبية للحفظ والتفاعل، وتحتاج وقتًا منتظمًا كي تبقى حيّة ومؤثرة؛ لهذا لا يمكننا أن نُدير بعمق أكثر من عدد محدد من العلاقات القريبة مهما حاولنا.

وفي هذا السياق، يستطرد المقال:

One prospective study estimated that it takes ~200 h of face-to-face contact over a 3 month period to turn a stranger into a good friend. Conversely, the emotional quality of a relationship declines rapidly if contact rates drop below those appropriate to the relationship quality. Time resources, however, are naturally limited: we devote only ~20% of our day to direct social interaction (excluding business-related interactions), equivalent to about 3.5 h per day.” p.720

أي: "قدّرت إحدى الدراسات المستقبلية أن تحويل شخص غريب إلى صديق مقرّب يتطلّب نحو 200 ساعة من التواصل وجهًا لوجه خلال فترة ثلاثة أشهر، وعلى العكس من ذلك، فإن جودة العلاقة العاطفية تتدهور بسرعة إذا انخفض معدّل التواصل عن المستوى المناسب لنوعية العلاقة، إلا أن موارد الوقت بطبيعتها محدودة؛ فنحن نكرّس فقط حوالي 20٪ من يومنا للتفاعل الاجتماعي المباشر (باستثناء التفاعلات المرتبطة بالعمل) وهو ما يعادل تقريبًا ثلاث ساعات ونصف يوميًا".

6. التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت مقابل التفاعل الواقعي

إنّ من شأن التواصل الواقعي تنشيط المناطق العصبية المعنية بتفسير المشاعر والنوايا، كما أنّ اللمس والتزامن الحركي وتعبيرات الوجه عناصر لا تتأتّى محاكاتها رقميًا بالكامل، ورغم أنّ مكالمات الفيديو قد تقلل من الفجوة الناتجة من التفاعل النصي - عبر دردشات التواصل الاجتماعي مثلا - لكنها تظل أقل فعالية عصبيًا من اللقاءات الحقيقية، وتعزيزا لهذه النقطة يوضّح المقال:

Faces offer a plethora of social information about the sex, age, ethnicity, and emotional expressions of an individual, and potentially about their intentions and mental state (all of which influence the strength of the bond between two individuals).” p.722

أي: "توفِّر الوجوه كمًّا هائلًا من المعلومات الاجتماعية حول الجنس والعمر والعرق والتعبيرات العاطفية للفرد، بل وربما أيضًا حول نواياه وحالته الذهنية، وجميع هذه العناصر تؤثر في قوة الرابط بين شخصين".

7. الشبكات الاجتماعية القوية والهشّة تنعكس في دوائر الدماغ العصبية

لقد لوحظ وجود تناسب طردي بين حجم اللوزة الدماغية (Amygdala) - المسؤولة عن معالجة المشاعر وخصوصا التهديد والخوف - وبين قوة الشبكة الاجتماعية وتعقيدها، وبعبارة أخرى فإن حجم اللوزة تشير إلى درجة التشبّع الاجتماعي.

Volume effects in these regions were reported for several markers of brittle social integration, such as living in a socially ‘emptier’ household, knowing fewer individuals with whom to regularly share experiences and concerns, and feeling unsatisfied with one’s friendship circles, as well as having grown up without brothers or sisters and being unhappy with one’s family situation.” p.725

أي: "تم رصد تأثيرات في حجم هذه المناطق فيما يتعلق بعدة مؤشرات على هشاشة الاندماج الاجتماعي، مثل العيش في منزل أقل اجتماعية، ومعرفة عدد أقل من الأشخاص الذين يمكن مشاركة التجارب والهموم معهم بانتظام، والشعور بعدم الرضا عن دوائر الصداقة، إضافةً إلى النشوء دون إخوة أو أخوات، والشعور بعدم السعادة ضمن إطار العائلة".

8. العواقب العصب-معرفية للعزلة الاجتماعية

إنّ العزلة الاجتماعية في سنّ مبكرة تُحدث تغييرات بنيوية ووظيفية في مناطق الدماغ، وبعضها يكون بشكل دائم.

Those children who remained in the institution showed significantly lower development indices and lower IQs (of ~70) than the adopted orphans. Being deprived of social bonds with caregivers also led to a pernicious reduction in grey and white matter tissue and lower fiber tract integrity as evidenced by brain MRI.” p.726

أي: "الأطفال الذين بقوا في مؤسسة رعاية أظهروا مؤشرات نمو ومعدلات ذكاء (IQ) أقل بشكل ملحوظ (~70) مقارنة بالأطفال المتبنين، كما أدى الحرمان من الروابط الاجتماعية مع مقدّمي الرعاية إلى انخفاض ضار في أنسجة المادة الرمادية والبيضاء، وانخفاض في سلامة الألياف العصبية حسبما أظهرت صور الرنين المغناطيسي للدماغ."

9. الوحدة والشيخوخة لدى البالغين

لقد وُجِد أنّ الوحدة لدى كبار السن ترتبط بانخفاض النشاط العصبي في شبكة الوضع الافتراضي (default mode network)، وهي شبكة من المناطق الدماغية تتنشط عندما لا يكون الإنسان منشغلًا بمهمة خارجية محددة كحالة التأمّل الذاتي، كما أنّ انخفاض التحفيز الاجتماعي يؤثر سلبا على معدلات الإدراك الاجتماعي والتفاعل مع مشاعر الآخرين، ناهيك عن أنّه يزيد من خطر الإصابة بأمراض عصبية كالزهايمر.

Among the many consequences of loneliness on body and mind, the scarcity of social contact encourages drug compensation and substance-use behavior, such as alcoholism, possibly via non-social rewards triggering dopaminergic neurotransmitter pathways.” p.725

أي: "من بين العديد من عواقب الوحدة على الجسد والعقل، فإنّ ندرة الاتصال الاجتماعي تشجّع على التعويض عن طريق الأدوية وسلوكيات تعاطي المواد المخدّرة، ربما من خلال مكافآت غير اجتماعية تُفعّل مسارات النواقل العصبية الدوبامينية".

مجمل القول إن الوحدة الاجتماعية تكشف عن وجهها العصبي بكونها خللًا يتجاوز الشعور العابر إلى إعادة تشكيل البنى الدماغية ذاتها؛ ولذا فإنه لا ينبغي النظر إلى العلاقات الاجتماعية بوصفها ترفًا سلوكيًا، بل آلية بيولوجية ضرورية لجهاز المناعة، وتنظيم الإدراك وتثبيت الهوية، كما أن الصداقة عملية مكلفة عصبيًا! فهي لا تتكوّن إلا من خلال مئات الساعات من التواصل الواقعي،وأنّ غيابها يؤدي إلى ضمور مناطق دماغية أساسية، مع التأكيد على أنّه تمتدّ آثار العزلة في تدهور الإدراك الاجتماعي من الطفولة المبكرة وحتى الشيخوخة، إن الدماغ الاجتماعي - كما يصفه المقال -لا ينجو من الوحدة إلا وقد أُعيد تشكيله!

***

محمد يوسف – سلطنة عمان

......................

* منشور في مجلة (Trends in Cognitive Sciences)

** نشرت المجلة العلمية المحكّمة Trends in Cognitive Sciences (تصنيف Q1) المتخصصة في علم الأعصاب الإدراكي مقالًا علميًا  حديثا (2020) بعنوان: العزلة الاجتماعية.. عصبيًا

 [The Neurobiology of Social Distance].

رابط صيغة PDF للمقال كاملا:

https://www.cell.com/action/showPdf?pii=S1364-6613%2820%2930140-6

سؤال يصعب علينا تجاوزه واجتيازه

أمّا فلاسفة الإسلام الذين جمعوا بين المباحث الفلسفية والنزاعات العقديّة، فنجد "الكندي"، و"الفارابي"، و"ابن سينا"، و"الغزالي"، و"ابن باجة"، و"ابن طفيل"، و"ابن رشد"، و"ابن سيدة البطليوسي"، وغيرهم من المتكلمين والفقهاء والصوفية الذين أثاروا مئات الأسئلة المحرضة على التفلسف، والتي دفعتهم إليها الوقائع والأحداث والأحوال والمواقف العقدية والسياسية والاجتماعية والفلسفية المنطقية.

ومن أشهر المصنفات التي عبّرت عن هذا المنحى الاستفهامي: الهوامل والشوامل، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وكتاب الحروف للفارابي، والجد والهزل، والمحاسن والأضداد للجاحظ.

ناهيك عن المؤلفات الحاوية للسياقات الحُوارية الفلسفية المثيرة للجدل والعصف الذهني، والخطابات الثائرة على ثقافة الواقع المألوف، التي تدفع الذهن للتأمل والنقد المنتج. ويبدو ذلك في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وكتاب الحيوان للجاحظ، وطوق الحمامة لابن حزم، فجميعها محشوة بالأسئلة الفلسفية المباشرة وغير المباشرة؛ الأمر الذي يقطع بمركزية السؤال الفلسفي، سواء على الصعيد النظري أو في ميدان العمل والتطبيق في الثقافة العربية الإسلامية.

4- مكانة السؤال الفلسفي في الفكر العربي الحديث وإحياء المعارك الفلسفية:

لقد أدرك المجددون في الفكر العربي الإسلامي الحديث حاجتهم إلى المعارف ٧الفلسفية لإعادة تشكيل بنية الفكر الإسلامي، وتخليصه من طور الركود، وتحريره من قيود التقليد. ومن ثم اتخذوا من السؤال الفلسفي آلية لتأهيل العقلية السردية التقريريّة، لإحياء ميادين النقد والتحاور والتناظر، عوضًا عن الحفظ والتلقين والتقرير والسرد والتلخيص، لإنهاض الأذهان وهدايتها إلى الأصلح من الضروب والنهوج التي تُعين الأمة على معالجة أدرانها، وإصلاح الفاسد من قيمها، وانتخاب النافع من العلوم الحديثة التي أهملتها، وإعداد العدة لصياغة الدفوع للذود عن هويتها ومُشخّصاتها التليدة، التي انتهكها الأغيار بكتاباتهم الطاعنة في نتاج حضارتها وأصول عقائدها.

ويبدو ذلك واضحًا في السؤال الذي طالما طُرح في مجالس قادة الرأي في مصر وبلاد الشام وتونس: (ماذا عن آليات النهضة وبواعثها؟ وكيفية توعية العقل الجمعي وتحريره من قيود التقليد والتبعية؟ وترغيب الأذهان في العلم وانتخاب النافع من الأغيار المتقدمين؟ وتقديم النقد على السرد في خطاباتهم التوجيهية؟).

ومن أبرز المفكرين الذين اضطلعوا بهذه الرسالة: الشيخ حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، وخير الدين التونسي، وأحمد فارس الشدياق، وعبد القادر الجزائري، وغيرهم من طلائع النهضة الذين حرصوا في مؤلفاتهم على انتهاج الأسلوب الجدلي والحواري في سرد أفكارهم، كما حرصوا على إبراز النسق النقدي التوجيهي في صياغة مشروعاتهم الإصلاحية، فابتدعوا صحافة الرأي، وحدّثوا وجدّدوا فن المقامة الأدبية، وأضفوا عليها الطابع الفلسفي. نذكر منها مقامة علم الدين لعلي مبارك، ومقامة فكريّة لعبد الله فكري.

ثم جاء الرعيل الثاني من قادة الرأي ليطرح بدوره عدة تساؤلات لمعالجة قضايا الواقع، منها:

(كيفية إحياء الأصيل من الموروث؟ وما آليات نقده وغربلته وتخليصه من الدخيل؟ وماذا عن آليات التجديد وموجِبُه؟ وكيفية التصدي لحملات التغريب والرد على المشككين في ثوابت العقيدة بأسلوب جامع بين الحجج الفلسفية والبراهين العقلية، والأسانيد العلمية، والتجارب العملية؟).

ومن أبرز رواد هذه المرحلة: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وأديب إسحاق، ويعقوب صَنّوع، وعبد الله النديم، وفرح أنطون، وحسين الجسر، وغيرهم من العشرات أصحاب الأقلام الذين أضاءوا كل جوانب الثقافة العربية بمصنفاتهم النقدية، ومجالسهم الحوارية، وأقصوصاتهم المسرحية النقدية الساخرة، وحكاياتهم الفكاهية الثائرة، ذلك فضلًا عن رسائلهم العلمية الجامعة بين المنقول والمعقول، والموروث والوافد المستحدث. ومن أشهر هذه المؤلفات: رسالة الرد على الدهريين لجمال الدين الأفغاني، ورسالة التوحيد لمحمد عبده، والرسالة الحميدية لحسين الجسر.

أما الجيل الرابع؛ من التنويريين العرب الذين تخرّجوا في مدارس زعماء الإصلاح وقادة الرأي، وجمعوا في ثقافتهم بين نفائس الموروث والطريف المستحدث من الوافد الجديد، فكانت معظم كتاباتهم تنطلق من الأسئلة التي أنتجها الواقع المعيش واحتياجاته، لتُجيب عن المجهول من المعارف، والعلل من الأسباب والقضايا، وتُقدّم الحلول للمشكلات التي تُعرقل نهضة أمتهم، وتُزيل المعوّقات التي تعوق خطواتهم صوب المدنية. فراحوا يتساءلون عن: علّة تخلّف الحضارة الإسلامية، وكيفية التجديد والتحديث، ونشر الوعي وتربية الرأي العام، وتحديث برامج التعليم، وتقويم منابر التثقيف، والإعلاء من قيمة الحرية بشتى صورها، وكيفية وضع المناهج والبرامج والآليات للوصول إلى الغايات، وذلك في متنفس راقٍ ينعم بالحرية في النقد والبوح والتشاور والتثاقف، لانتخاب الإصلاح من الآراء والتصورات، والمناسب من الوسائل والمناهج في التطبيق.

والجدير بالذكر في هذا السياق هو الوقوف على أشهر المؤلفات التي أثارت عناوينها العديد من القضايا الهامة في الفكر العربي المعاصر، أهمها: لماذا تخلّف المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟ للأمير شكيب أرسلان، وكتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي. وقد أثار هذان الكتابان العقل الجمعي في العالم العربي الإسلامي، ودارت حولهما عشرات الحوارات والمساجلات بين قادة الرأي في النصف الأول من القرن العشرين.

أما شبيبة المستنيرين، فعكفوا على شرح وتوضيح معاني النظريات والاتجاهات الفلسفية الوافدة من الثقافة الغربية، وقد حملت عناوين كتاباتهم أسئلة أيضًا، نذكر منها:

ما بعد ذهنية التحريم لصادق جلال العظم، وما يُقال عن الإسلام لعباس محمود العقاد، وما النهضة لسلامة موسى.

وهناك كتابات أخرى اتًسمت بالطابع الحواري، منها: لماذا نقرأ؟ لطائفة من المفكرين، نذكر منهم: رجب البنا، وطه حسين، وحسين فوزي، وإسماعيل صبري.

وإذا ما انتقلنا إلى الصحف والدوريات التي اتخذت من طرح الأسئلة الفلسفية وسيلة للتشاور حول قضايا الفكر والمجتمع والسياسة، وجعلت من هذا النهج أداة لاستفتاء قادة الرأي حول قضايا المرأة والنهضة والتجديد وبرامج التعليم، فسوف نأسف على غياب هذا اللون من التثقيف في صحافتنا المعاصرة. في حين أن قادة فكرنا العربي الأوائل قد أدرجوا هذه الاستفتاءات والحوارات النقديّة في معظم مجلاتهم منذ مئة عام. نذكر منها:

استفتاء مجلة الهلال عن المرأة الشرقية، وجاء في أسئلته: (ماذا يُحسن أن تُستبقى من أخلاقها التقليدية؟ وماذا يُحسن أن تقتبس من شقيقتها الغربية؟). وقد أُجري ذلك الاستفتاء عام 1922م، وشارك فيه: جميل صدقي الزهاوي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وجبر ضومط، وعبد القادر المغربي، ومصطفى صادق الرافعي.

واستفتاء آخر عن نهضة الشرق العربي وموقفها إزاء المدنية الغربية، وكانت الأسئلة المطروحة على المفكرين: (هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء، أم هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟ هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار العربية وتآلفها؟ ومتى؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟).

وقد أُجري هذا الاستفتاء عام 1923م، وشارك فيه: طه حسين، وجبران خليل جبران، وأمين واصف بك، ومحمد لطفي جمعة، وسامي الجريديني.

واستفتاء أجرته مجلة المقتطف حول قضايا التعليم، جاء في أسئلته: (ماذا عن النهضة الغربية الحديثة؟ وما أبرز مظاهرها؟ وأبقى آثارها؟). وقد أُجري هذا الاستفتاء عام 1927م، وشارك فيه: عباس محمود العقاد، وحنا خباز، وأمين الريحاني، وغيرهم.

كما كان للسؤال الفلسفي حظٌّ كبير من اهتمام المفكرين المعاصرين منذ العقد الثاني من القرن العشرين، ولا سيّما في ميدان التصاول والتناظر. ومن أشهر الكتب التي حملت عناوينها هذا الضرب، والتي أثارت حفيظة الاتجاه المحافظ، وحفّزت الاتجاه العلماني على البوح بآرائه النقدية في الأمور العقدية والسياسية، نذكر:

هل من تحريف في الكتاب الشريف للمستشرق الإنجليزي وليم كولد ساك، وقد قام بالرد عليه الشيخ يوسف الدجوي في كتاب الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

في البدء كان الوجوديان سارتر وكامو صديقين لكن الاختلافات بينهما أنهت تلك الصداقة. كانت الحياة في اوربا في النصف الاول من القرن العشرين غير مستقرة، تشوبها الحروب والأزمات الاقتصادية والأوبئة. وبسبب ذلك، كان من الصعب تجاهل الشعور بان الانسانية تواجه "أزمات وجودية" الواحدة تلو الاخرى.

احدى الإستجابات الفلسفية لهذا السياق التاريخي كانت الفلسفة الوجودية. هناك مواضيع مشتركة استطلعها "الوجوديون" ولكن هناك ايضا اختلافات هامة بينهم. لم يكن سارتر و كامو استثناءً لأن الاثنين بدءا كصديقين يستفسران عن قضايا متشابهة، لكن الظروف قادتهما في النهاية الى مواقف فلسفية مختلفة.

ماهي الوجودية؟

أفضل فهم للوجودية هي انها ليست حركة فلسفية او تقليد فكري في حد ذاته، وانما كمجموعة من المفكرين يباشرون تحقيقات مشتركة خاصة حول الوجود الانساني. وبينما تعود تلك التحقيقات رجوعا الى الفلسفة الرواقية الهلنستية، ابتدأت الوجودية كإستكشاف لمجموعة من الموضوعات المشتركة في القرن التاسع عشر مع سورن كيركيجارد وفردريك نيتشة . جميع هؤلاء المفكرين متحدون في استكشاف منْ نحن وكيف يجب ان نعيش كرد فعل للاضطراب الحاصل وما يلوح في الافق من قوى تغيير تكتسح اوربا خصيصا اثناء حياة سارتر وكامو في النصف الاول من القرن العشرين.

سيرة جان بول سارتر

وُلد سارتر في باريس وعاش من عام 1905 الى 1980. هو وصف طفولته بـ "الخانقة"، يشعر بالوحدة التامة مع كتب أمضى فيها الكثير من وقته في المنزل، كونه تربّى بمساعدة امه وأجداده بعد موت أبيه. لكنه استمر في متابعة دراسة الفلسفة حاصلا على شهادته من مدرسة الأساتذة العليا في باريس. هو ايضا درس في المانيا حيث اكتشف فينومينولوجيا هسرل وهايدجر التي كان لها تأثيرا كبيرا على فلسفته اللاحقة. أثناء الحرب العالمية الثانية وقع سارتر أسيرا بيد الالمان حيث اعتبر هذا الحدث كمناسبة اخرى للوقوف بعمق على أفكار هايدجر. وعند عودته الى باريس كمواطن متذرعا بسوء حالته الصحية التحق سارتر بحركة المقاومة – وهنا التقى لأول مرة مع البير كامو كونهما في البدء اشتركا بمُثل سياسية، لكنهما افترقا في النهاية مما ادى الى انهاء الصداقة بينهما.

سيرة البير كامو

وُلد البير كامو في الجزائر ومات في فرنسا. هو عاش من عام 1913 الى عام 1960. كلاهما مارسا عدة أدوار في الكتابة كروائيين او كتاب مقالات او كتاب مسرح. عاش كامو في عائلة ضمن طبقة عاملة فقيرة بالضد من اسلوب حياة الطبقة الوسطى لسارتر. هما اشتركا بكونهما تربّيا بواسطة امهما وجدّيهما بعد موت أبويهما. وكرجل بالغ، كانت سمعة كامو كزير نساء ومع انه لا يؤمن بالزواج لكنه تزوج مرتين وعُرف عنه إرتكاب الزنا – في الحقيقة يُعتقد ان احدى زوجاته حاولت الانتحار كنتيجة للاضطراب الذي نتج عن ذلك السلوك.

كان العيش في الجزائر المحتلة من جانب فرنسا تجربة مختلفة جدا لكامو مقارنة بسارتر، وهذا جزئيا قاد الى رؤى سياسية متعارضة – وهو السبب الرئيسي للخلاف بينهما. سارتر دعا الى الشيوعية كشكل مثالي للحكومة وكحل للمشاكل في زمانه، بينما كامو كان مضادا وخصما قويا للشيوعية.

التشابه بين الاثنين

مثلما حصل بالنسبة لاؤلئك الذين اُطلق عليهم "وجوديون"، كان البير كامو في فلسفته مهتما بالوضع المُعاش للكائن البشري. الاتجاه الذي سلكه هو التركيز على العبث، ولهذا يعتبِر البعض فلسفته بـ "فلسفة العبث" بدلا من "وجودية"، الى جانب أسباب اخرى.

الإلحاد، العبث، العدم

كل من سارتر وكامو كانا ملحدين، وهو أساس هام لرؤاهما اللاحقة. كلاهما اتفقا بان هذا منح الكائن البشري حرية راديكالية. لكن، وكما نرى، كامو لم يكن كارها للدين كما هو سارتر. كلاهما اشتركا برؤية علائقية للوجود الانساني، التي هي، ان وجودنا هو بالأساس يُعاش من خلال علاقاتنا مع الآخرين. هذا يمكن ان يقود الى شعور بالاغتراب الذاتي الذي هو ذو إشكالية كبيرة. لكن كما سنرى، هما اختلفا حول نتيجة ذلك. سارتر جادل بان هذه هي الطريقة التي يفهم بها البشر "العدم"، بينما كامو، يرى ان هذه هي الطريقة التي يُدخل بها البشر العبث الى العالم.

بالنسبة لسارتر، "العدمية" هي فجوة اُدخلت بواسطة وعينا الذاتي الى الأشياء في العالم. هذا ما يجعلنا راديكاليا متحررين لأنه يفتح عالم من الإمكانات لرؤية هذا الفرق بين الذات والموضوع. وعينا يُدخل العدمية الى العالم عبر ادراك الامكانات بسبب الطريقة التي نرى بها ان هناك اشياء في العالم واشياء ليست في العالم مع انها ممكنة في وقت ما في المستقبل. هذا ايضا تجسّد في الكيفية التي نرتبط بها مع الآخرين، نحن نرى الاخرين كأشياء لأننا لانستطيع بشكل مباشر الاحساس بذاتيتهم، لكننا نفترض هم ايضا لديهم هذه الذاتية التي تُدخل العدمية والامكانية، ومن ثم الحرية الراديكالية الى موقفهم المعاش.

بالنسبة لكامو، بدلا من العدم، هو يرى ان الكائن البشري يجلب السخافة الى العالم عندما ينفتح لهذه الامكانات، عندما يواجه الكائن البشري العالم بدون أي إله ليوفر المسار والسبب الحتمي، كل ما يبقى لنا هو حقيقة العبث. الحياة لا أصل لها كهدية من الإله، وهكذا، هي فارغة. انها تبدو بلا معنى لأنه لا وجود هناك لمعنى واقعي لأي شيء نقوم به، لذا لكي نستمر بالعيش هو بالضرورة امر "عبثي". نحن نتصل بالعالم وبالآخرين من خلال هذا العبث او السخافة.

التحرر من خلال التشاؤم

بينما بدت كلتا هاتين الرؤيتين متشائمتين، هما بالنهاية قصد بهما انهما محررتان من خلال تأكيدهما المشترك على الحرية الراديكالية، لا وجود هناك لجوهر ثابت لما يمكن ان يكون عليه الانسان، ونحن بالنهاية متحررون لخلق أي نوع من المعنى مهما كان، وبالتالي الحياة التي نريد. "الوجود يسبق الماهية" هذا ما صرح به سارتر. وبالنسبة لكامو، رغم سخافة وجودنا الانساني، هناك ايضا شيء مرضي جدا في العيش مع هذا الواقع – كما في مثاله الشهير في صخرة سيزيف وحيث العقوبة بدفع الصخرة أبديا الى أعلى التل فقط لتنحدر مجددا والعودة الى الصفر، مع ذلك هو لايزال يجد شيئا ذو معنى بالطريقة التي يقبل بها حياته كما تُعاش.

الاختلافات بين الاثنين

اذا كان سارتر سمح بلقب "وجودي"، فان كامو رفض ذلك لأن فلسفته صُنفت كثيرا كـ "فلسفة عبث". وهكذا، كان هناك انقسام هام بين فلسفتهما وخصيصا في رؤاهما السياسية . هناك أحداث معينة خلقت هذا الانشطار. أحد هذه الأحداث كان نشر كامو لكتابه (المتمرد) حيث انه استطلع فيه رؤيته باننا يجب ان نركز على الحاضر ونؤكد على اللاعنف ونفتح حوارا بدلا من مستقبل طوباوي دعا له سارتر. كمناصر للشيوعية، سارتر سعى للجمع بين الوجودية و الماركسية والتي اعتبرها وبشكل متناقض الى حد ما ليست حتمية وانما تعبر بشكل افضل عن الموقف الجماعي المعاش للبشر في ذلك الوقت.

فهم سارتر الانسان في ان يكون متحرر راديكاليا، والذي يتناقض مع الرؤية الماركسية الغائية للمستقبل الحتمي. هو شارك الرؤية الماركسية بان الافراد كانوا ممتنعين ومخنوقين حيث حدد المجتمع ما هي حريتهم الطبيعية الكاملة. كجماعة، ادت الراسمالية الى "نحن" و "هم" كـ "اشياء" مضطهدة و"اشخاص" مضطهدين. لكن، لأننا أحرار حقا، نحن نستطيع ايضا ان نأتي مجتمعين كجماعة لنثور ضد هذا ونتحرر جماعيا – "لا أحد حر مالم يكن الجميع احرارا" حسب سارتر.

أهمية سارتر وكامو في تاريخ الفلسفة

رغم ان هذه الاختلافات بين سارتر وكامو ورغم الانتقادات العامة التي يمكن ان تُثار ضدهما، هما خلقا مساهمات هامة لتاريخ الفلسفة. عندما توفي سارتر عام 1980، كان هناك أكثر من 50 ألف مشارك في مراسم الجنازة. وبصرف النظر عن مدى اطّلاع أحد في الفلسفة، سمع العديد من الناس باسم سارتر. في عام 1964 مُنح جائزة نوبل في الادب لكنه رفضها انسجاما مع رؤاه غير التقليدية، ككاتب قال انه لا يرغب ان يكون "مؤسسة".

بينما البير كامو قبل ذلك، هو قبل جائزة نوبل في الادب قبل عام 1957 – وهو أصغر كاتب فرنسي يُمنح الجائزة. توفي كامو عام 1960 في حادث سيارة والذي كان ايضا مرتبط بشكل غريب برؤيته للطبيعة العبثية للانسان. حريتنا هي شيء ما متناقض بالنسبة لكامو، انها تبدو وهماً، لكن رؤية هذا كشيء ما محرر، يجلب الحرية مجددا بالطريقة التي نستجيب بها . نحن يجب ان نعيش الحياة في اللحظة بأكبر ما يمكن، لأننا لا نعرف أبدا متى نموت.

بشكل عام جرى انتقاد الوجودية باعتبارها غير تحليلية وتركز كثيرا على العواطف والجانب المظلم من التجربة الانسانية. لكن الوجوديين كانوا في ردود أفعالهم ضد الظروف الحديثة التي رأوها تثق كثيرا بالعلم، مجادلين ان العلم لا يمكنه ان يفهم تماما التجربة الانسانية. العلم أذل موقفنا المعاش عبر تحويلنا الى أشياء وهو الموقف الذي أراد الوجوديون عكسه. ما لا يمكن انكاره هو التأثير العميق للفكر الوجودي ليس فقط على الفلسفات اللاحقة وانما ايضا على علم النفس والادب والفن.

***

حاتم حميد محسن

اللغة الأيديولوجية للسرديات التاريخية تدعي انها تقدم سياقًا ثابتا لفهم الأحداث المعاصرة، من خلال سيولة الماضي الى الحاضر باعتبارها نتاج لحظة الهام تمثل جذوة النضج الكوني رغم انها في حقيقتها ذات صلة وثيقة بالأبداع الادبي صادرة عن المسكوت عنه في ثقافة الترحال، وصلتنا عبر هاوية الزمن وهي تتقفى عطب الحواس، كانت  المعادلة صعبة في الازمان المسحوقة حينما يقع الانسان تحت سلطة ثقافة متعجرفة، لذا لا يمكن تفسير القضايا الاجتماعية والسياسية الحالية الا في ضوء ما انتجته السرديات التاريخية اوما اعطت من فرصة في النقد والتحليل مما يشجع على تقبل اليات التفكير الضيق حول الماضي وكيف يمكن أن يؤثر على المستقبل ،حيث تتم إعادة تفسير السرديات التاريخية بما يتوافق مع القضايا الجدلية المعاصرة، وإعادة  تشكيل الوعي الجمعي المعاصر. كون الوظيفة الاساسية للسرديات التاريخية هي تعزيز الإحساس بالانتماء إلى مجموعة معينة، سواء كانت قومية أو دينية، مما يجعلها محفورة في الوعي والذي يعمل كحافظة لذاكرة الشعوب، يُسجل التجارب التاريخية ويورثها عبر الأجيال بضمان استمرارية تأثيرها. أحيانا يتم إعادة تفسير السرديات التاريخية لتناسب السياق الجديد مع الحفاظ على النسق الشكلي، مما يمنحها حياة جديدة ويجعلها ذات صلة، تستمر السرديات التاريخية في التأثير بسبب ارتباطها بالهوية، ذاكرة الشعوب، وتعليم الأجيال، ويمكن استخدامها في الخطاب السياسي، وإعادة التفسير في سياقات جديدة. هذه العوامل مهمة وتساهم في ديمومتها وامتدادها المعاصر.

تغيرات السرديات

رغم الادعاء بالثبات تتغير السرديات التاريخية عبر الزمن بفعل مجموعة من العوامل والتأثيرات، منها التغيرات في الهيكل الاجتماعي والسياسي، مثل الثورات، الحروب، أو التغيرات في الأنظمة الحاكمة، مما يؤدي إلى إعادة تفسير الأحداث وفق السياقات التاريخية، ويمكن أن يؤدي إلى إعادة تقييم الشخصيات التاريخية، مما يعيد صياغة السرديات بطرق جديدة مع الاخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل السابقة مضافا لها التقدم في المعرفة الإنسانية هذه العوامل تساهم في إعادة تشكيل للسرديات التاريخية وتحقيق ترابط نقدي بين الماضي والأحداث المعاصرة.

اركيولوجيا السرديات التاريخية

من ناحية اركيولوجية تعتبر السرديات التاريخية نصوصًا إنسانية المنشأ، لكنها قد تتحول إلى سرديات ذات منشأ ميتافيزيقي عبر عدة عمليات .عندما تُدَوَّن السرديات التاريخية، تُمنح طابعًا رسميًا، مما يعزز من مكانتها ويجعلها مرجعية ويؤدي إلى قدسيتها. تُنقل السرديات عبر الأجيال، مما يعزز من مكانتها في الذاكرة الجماعية ويجعلها جزءًا من الهوية الثقافية، مما يُعطيها طابعًا مقدسًا، تتضمن السرديات التاريخية رموزًا ومعانٍ يعتبرها البعض عميقة تتعلق بالانتماء والانحدار الجيني، مما يعزز من مكانتها كمقدسات من خلال المؤسسات الثقافية والدينية، تُستخدم السرديات التاريخية في تعزيز الأيديولوجيات السياسية ، مما يؤدي إلى اعتبارها مقدسة لأنها تُدعم قيمًا أو معتقدات سلطوية معينة ،عندما تُستخدم السرديات في الطقوس والممارسات الثقافية أو الدينية، تصبح جزءًا من العبادات، مما يعزز من قدسيتها، تعمل الأعمال الأدبية والفنية ذات الانحيازات المؤدلجة في تعزيز مكانة السرديات التاريخية، حيث يتم تقديمها بطرق تجعلها تبدو أكثر أهمية وقدسية، كذلك تتحول السرديات التاريخية إلى مقدسة من خلال عمليات التدوين الخاص، والاستمرارية، والرمزية، والتوظيف السياسي وإعادة التفسير، هذه العوامل تسهم في تعزيز مكانتها في الذاكرة الثقافية والدينية للمجتمعات.

السلطة والسرديات التاريخية

تعتمد الأنظمة السياسية على السرديات التاريخية لتعزيز شرعيتها، حيث تُستخدم لتبرير السياسات والأفعال، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، تقوم السلطة بإعادة تفسير السرديات التاريخية بما يتماشى مع الأهداف السياسية أو الأيديولوجية ، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق أو المبالغة في بعض الجوانب، تُعزز السلطة من مكانة السرديات التاريخية من خلال إدماجها في الطقوس الوطنية والدينية، مما يجعلها جزءًا من الممارسات اليومية ويُعطيها طابعًا مقدسًا، يمكن أن تستخدم السلطة القمع والرقابة على السرديات البديلة أو المعارضة، مما يضمن عدم ظهور روايات تتحدى السرديات ، هذه الآليات تساهم في تعزيز الروايات التي تدعم الأجندات السياسية والثقافية للسلطة، تتفاعل الآليات التي تلعب دورًا في تعميق دور السرديات التاريخية بشكل معقد، مما يعزز من تأثيرها.

تدوين السرديات التاريخية

في اغلب الأحيان ما يصلنا من سرديات تاريخية من خلال النقل الشفاهي الذي تسيطر فيه السلطة على عملية التدوين، ويتم تأسيس سردية تاريخية معينة، هذه السردية تُستخدم لاحقًا كمرجع للترويج وتعزيز السلطة بذلك تضمن السلطة استمرارية الرواية وتقوم بترويج السرديات بشكل منهجي يجعلها جزءًا من الوعي الجمعي. هذا الترويج يدعم السرديات التي تم تدوينها، مما يعزز من مكانتها كمقدسات وتُستخدم لتعزيز الشرعية السياسية اذ يتزامن ذلك مع إدماجها في الطقوس الوطنية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالفخر والانتماء، ويعزز من إحساسهم بأهمية هذه السرديات، عندما تُدرج السرديات في الطقوس، فإن ذلك يعزز من الطاعة والولاء للسلطة، الأفراد الذين يشاركون في هذه الطقوس يشعرون بأنهم جزء من شيء أكبر، مما يعزز من قدسية السرديات ،تتفاعل الآليات المختلفة في تقديس السرديات التاريخية من خلال تعزيز بعضها البعض في السيطرة على السرد والترويج ، والتوظيف السياسي، وإعادة التفسير، والرقابة، والرمزية، لتعمل كلها لتكوين سرديات مقدسة غير خاضعة للنقد.

التقديس هو جدار حماية

 تقديس السرديات التاريخية يعتبر شكلا من أشكال "جدار الحماية" الذي يحمي هذه السرديات من تأثير التفكير النقدي عندما تُعتبر السرديات مقدسة، تُصبح جزءًا من الهوية الجماعية للأفراد، مما يجعلهم أقل ميلًا إلى نقدها أو التشكيك فيها، السرديات المقدسة تخلق جوًا من التقدير والاحترام الذي يمنع النقاش النقدي لذا يتجنب الأفراد التعامل مع الأفكار التي تُعتبر مُسيئة أو مُنافية لهذه السرديات، الرموز والطقوس المرتبطة بالسرديات تُعزز من مكانتها، مما يجعل الأفراد يشعرون بالواجب تجاه الحفاظ عليها، وبالتالي يقلل من النقد، تقديس السرديات غالبًا ما يترافق مع رقابة على المعلومات البديلة أو المعارضة، مما يمنع الأفراد من الوصول إلى وجهات نظر مختلفة من خلال تعزيز التفكير النقدي، احينا تُستخدم السلطة العنف لتأكيد قدسية السرديات معينة، مما يُعزز من وضعها ويجعلها محمية من النقد لان أي تحدٍ لهذه السرديات يُعتبر تهديدًا للسلطة، هذه العوامل تمنع الأفراد من التشكيك أو النقد، مما يحافظ على قدسية السرديات بتشكيل جدار الحماية صامد عبر الزمن المتغير.

إعادة التدوير السرديات التاريخية

إعادة تدوير السرديات التاريخية يؤثر سلبًا على تقدم الإنسان من خلال تعزيز الانغلاق الفكري والاستناد إلى روايات مضللة، إعادة إنتاج الفجوات الاجتماعية، وتغليب المصلحة الذاتية في تأجيج النزاعات. من المهم التعامل مع السرديات التاريخية بدقة وموضوعية لتعزيز التقدم والتطور رغم ان السرديات التاريخية هي نفسها ليست بريئة من الاستعمالات السلطوية ، حيث يمكن أن تُستخدم لتعزيز السلطة، وتوجيه الذاكرة الجماعية، وإقصاء الأصوات المعارضة، وتأجيج النزاعات، وتغليب روايات معينة، في تشكيل الهوية الوطنية. من المهم التعامل معها بنقد ووعي لفهم تأثيراتها المحتملة في تأكيد التخلف الحضاري، السرديات التاريخية لعبت دورًا مهمًا في تشكيل الوعي الجمعي وتفسير الأحداث التاريخية ويمكن أن تؤثر هذه السرديات على كيفية فهم المجتمعات لتاريخها وتطورها، وقد تسهم في تأكيد التخلف الحضاري ان بقيت مغلفة بجدار التقديس كونها ليست مستقلة عن السياقات المعاصرة، بل هي نتاج تفاعل معقد بين الماضي والحاضر، مما يؤثر على كيفية فهم المجتمعات لتاريخها وتطورها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

هذه الحياة ما هي إلا استراحة من العدم، استراحة مؤقتة ربما تكون مدتها 56 عاما كما عاش نيتشه، أو 98 عاما كما عاش راسل، أو حتى سويعات قليلة مثل الأطفال الذين يولدون بأمراض قاتلة ويموتون في يومهم، وبالتالي كل ومدة استراحته هنا. لكن لنتأمل في مفهوم الاستراحة هذا، استراحة من ماذا؟ من العدم؟ كيف يمكن أن يكون العدم مرهقا؟ لم نكن نفعل أي شيء سوى أننا لم نكن موجودين، هل أرهقنا عدم الوجود؟ لا أصدق ذلك، لم نكن نحس ولا نعي أي شيء لكي يرهقنا وضعنا الأول، فلماذا قررنا ترك العدم لكي نرهق أنفسنا في هذا الوجود؟ ربما يكون مصطلح العدم الذي نصف به حالتنا الأولى قبل أن يقدف بنا في هذا العالم مجرد سوء استخدام للغة ولا معنى له  كما يقول فتغنشتاين، لكن أين كنا وكيف يمكن أن نصف عدم وجودنا الأول؟ صراحة لا أتذكر نفسي هناك... لكن إذا حاولنا تذكر ما حصل، سندرك أننا كنا حيث لم نكن، فجأة وجدنا أنفسنا هنا، أنا وأنتم في سباق مع ملايير المعدومين الآخرين الذي أرهقهم عدم وجودهم لسبب مجهول طبعا، في سباق مسافته 12 سم، وهذا طول ما يسمى قناة فالوب، وهي التي كانت مسؤولة عن نقلي ونقلكم من العدم إلى الوجود، أقصد إلى البويضة لنوجد بعد العملية البيولوجية بين الأب والام  والتي لم يعطى لنا الاختيار فيها إذا كنا نريد هذه الاستراحة أم لا. هل طلبتها أنا؟ لا صراحة لا أذكر ذلك ولا انتم طبعا، فكيف ستطلبون استراحة من عدم فعل أي شيء، تلك النرفانا والأتراكسيا التي كنا منطفئين فيها والتي تفقدها الآن..

 نحن الآن نفرق بين حالة العدم الأولى وحالة الوجود الحالي، لكن هل يمكن أن يوجد العدم بدون وجود، يقول سارتر أن العدم ليس هو الافتقار إلى الوجود، بل العدم مرتبط ارتباطا وثيقا بالوجود ولا وجود لعدم بدون وجود، أو بدون موجود في الوجود ليفكر في عدمه الأول لذلك لم نكن ندرك عدمنا الأول، فتحتم ربما وجودنا لكي ندرك عدمنا الأول.. لكن ما قيمة إداركنا وتفكيرنا في حالتنا الأولى؟ ما فائدة ذلك؟ ما همنا بذلك؟ هل مل منا العدم لدرجة أنه قدف بنا إلى الوجود لندركه؟ هل احتاج لنا؟

وهذا سؤال مشابه للسؤال الشهير حول لماذا خلقنا الله؟ هل احتاج لنا لكي يصبح إله؟ وإذا لم يكن احتاج لنا ويعتبر إله بدوننا فآنذاك إله من؟

يا لها من استراحة عدمية مليئة بالأسئلة التي لا جواب قطعي عليها...

***

الكاتب: أمين ديونيسيوس

 

الداعي لتدوين هذه السطور، نقاش جرى مع زميل من أهل العلم، حول ما ظننته فهماً متناقضاً للمال والملكية الفردية، كامناً في تكويننا الثقافي، على نحو يجعلنا نستقتل في طلب المال، لكننا – في الوقت ذاته – نتهم من يفعل هذا، غيرنا طبعاً، بعبادة المال والطمع في الدنيا وزخرفها.

وتحفل الأدبيات التراثية بذم الدنيا، التي يجري تجسيدها دائماً أو غالباً في تملك المال. والحق أن أدبيات السلف لا تخلو من تقبيح الفقر وتبجيل الغني، إلا أن هذا من قبيل الاستثناء. أما القاعدة العامة فهي تميل للنظر السلبي إلى المال والدنيا في الجملة.

حين توفر الذاكرة التاريخية/ الثقافية قيمتين متعارضتين، يمكن لهما أن تعملا في الواقعة والزمان نفسهما، فإن عقل الإنسان سيختار القيمة التي تلائم التوقعات السائدة في المحيط في تلك اللحظة. وهذا يظهر واضحاً في تقييم صاحب المال والساعي إليه. فواحد يمدحه لأن المحيط راغب فيه، وآخر يشكك في نزاهته، لأن المستمعين كارهون له. وقد يكون الظرف العام في زمن أو مكان بعينه، محفزاً على القدح أو العكس. لكن نستطيع القول بصورة عامة، إن عامة الناس لا يخفون رغبتهم في الاقتراب من أصحاب الأموال وكسب رضاهم، وفي الوقت ذاته كراهيتهم والارتياب في مصادر أموالهم، بل النزوع إلى عدّهم سارقين، ما لم يتأكد العكس. وتشيع روايات تدعم هذا الاتجاه مثل القول المنسوب للإمام علي بن أبي طالب: «ما جاع فقير إلا بما متع به غني».

ويبدو لي أن الجذر العميق لهذي الازدواجية، متصل بالمبدأ الذي يدعي أن الفساد هو الطبع الأوليّ للإنسان، بمعنى أنه لو ترك من غير قياد ولا رقابة، فسيعمد للإفساد وارتكاب المنكرات. ولهذا فإن مناهج التربية والتعليم، فضلاً عن ثقافة الوعظ الديني والإرشاد الأخلاقي، ركزت جميعاً على تقبيح الأدوات التي ربما تعزز قدرة الإفساد في الانسان، وأبرزها المال. ونعرف أن الصورة الذهنية الموروثة، تنظر للمال بصفته «وسخ دنيا»، بدل اعتباره ضرورة للعمران والارتقاء المادي والمعنوي. وثمة عشرات من النصوص التي تؤكد ذلك المعنى بصور مختلفة، مثل وصفه بعرض دنيوي، هو النقيض الطبيعي للآخرة، ومثل الربط بين امتلاك الثروة، والاستئثار والتكبر، والتمرد على أمر الخالق.

ومما يثير العجب أن كثيراً مما ورد في القرآن في ذم المال، مربوط بالدنيا عموماً وبالبنين خصوصاً، نظير قوله «إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ». (التغابن: 15).

لكن لسبب ما، ركزت الثقافة الموروثة على سلب قيمة المال، بينما اتخذت اتجاهاً معاكساً حين يتعلق الأمر بالأبناء، الذين أصبحوا مصدر اعتزاز وتفاخر. وتبعاً لهذا جرى إبراز الروايات التي تدعو لإكثار النسل.

يحتمل أن هذا التوجيه، مع ما ينطوي عليه من ظلال دينية تمنع تقييده بظرف زماني أو مكاني أو عرف محلي، قد ساهما في تشكيل موقف مرتاب من المال، في الذهنية العميقة للجمهور العربي والمسلم، تنعكس بشكل فوري تقريباً على من يتمثل فيه، أي الأثرياء والساعين للثروة، وكذلك المؤسسات العاملة في حقل المال، مثل البنوك، بل أي رمز للمال. ولعلي لا أبالغ لو قلت إن حوادث مصادرة الأموال التي تكررت في تاريخ العرب الحديث، لا سيما في القرن المنصرم، ربما تشير إلى التأثير القوي لتلك الذهنية، وإن تلبّست بمبررات وصور مختلفة.

كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر قد عرض صورة شبيهة لهذا، شائعة في الأدبيات الكاثوليكية خصوصاً. فهو يقول إن النص الديني هناك يركز كثيراً على تذكير الإنسان بخطاياه، وشحنه بالقلق على مصيره الأخروي. وحين يسائل نفسه أو يسأل مفسري التراث عن السبب الذي ربما يودي به إلى الهلاك، يخبره التراث بأنه الاغترار بالمال وزينة الدنيا.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

توطئة: حين يتحوّل الإرث إلى مقام للتأمل

ثمة سِيَر لا تُقرأ كما تُقرأ التواريخ، بل تُلامَس كما تُلامِس آثار الأقدام القديمة ضفاف نهر الجور، حين يُبللها صباحٌ جنوبي جديد: رطبة بالحكاية، متجذّرة في الطين، وتحمل في رائحتها سلالة الذكرى.

فرانسيس دينق ليس فقط صوتًا فكريًا نادرًا خرج من هشيم السودان، بل هو سردية مكتوبة بجمر الذاكرة وسؤال المعنى.

ابن الزعيم دينق مجوك، أحد أعمدة قبيلة الدينكا، تلك القبيلة التي لا تُقاس بحجمها ولا بثقلها الرمزي فحسب، بل بقدرتها العجيبة على حمل الوطن في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكاية، في الغناء، في علاقة الإنسان بالنهر والسماء، وفي مقاومة محو الجوهر الوجودي للذات.

فرانسيس، في كتابه عن والده

The Man Called Deng Majok،

لا يكتب فقط عن الأب، بل عن البذرة التي خرج منها سؤال الهوية، سؤال العدالة، وسؤال الدولة.

كان يعرف منذ البدايات أن الشجرة التي لا تتأمل جذورها، تُقلعها أول ريح.

ولأن التكوين لا يتم في أرض واحدة، كان لا بد لفرانسيس أن يعبر نهر المعنى: من أبيي إلى الخرطوم، ومن جامعة الخرطوم إلى كولومبيا في نيويورك، حيث التقى بالعالم لا بوصفه عالِمًا فقط، بل بوصفه شاهِدًا.

في جامعة كولومبيا، كما في الأمم المتحدة، حمل معه ليس فقط أوراق القانون، بل الندبة السودانية التي لا تكف عن النزيف: الهوية كعبء، التنوع كمصدر قلق لا كقيمة، والانتماء كعملية قيد التشكل، كما لو أن كل محاولة للفهم ليست إلا أطروحة لم تكتمل بعد.

في نيويورك، حيث التقى بالعالم، لم يكن دينق مجرد مهاجر يحمل أوراق اعتماد أممية، بل رجلٌ يضع على طاولة الأمم معضلة اسمها السودان.

لم تُغرِه العواصم بالانفصال عن جذوره، بل عمّقت فيه شعور الغريب الذي يتعلم كيف يُعبّر عن محليته بلغة كونية.

في كولومبيا، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع القانون والفكر السياسي، تبلورت عند البروفيسور فرانسيس دينق تلك الصيغة النادرة: أن تكون مفكرًا أفريقيًا دون أن تُصبح ضحية للابتزاز الثقافي، وأن تصوغ خطابًا أمميًا دون أن تذوب في الرواية البيضاء.

ذلك الإرث القبائلي، المتشعب والعميق، ظلّ حاضرًا في وجدان فرانسيس لا كماضٍ يُروى، بل كصيغة دائمة لتأويل الحاضر.

فيها يتعلم الطفل أن يُصغي لحزن البقرة كما يُصغي لحكمة العجوز، ويعرف الرجل موقع الشمس من ظلّ الأغصان كما يعرف حدود سلطته من صمت السماء.

كان يمكن لفرانسيس دينق أن يكون مجرد رجل قانون آخر، يقف على أعتاب المؤسسات الدولية بوصفه ممثلًا لملف، لا حاملًا لذاكرة.

لكنه، ومنذ البدايات، اختار أن يقف في مواجهة هشاشة التاريخ، لا أن يكتفي بتفسيره.

في سيرته، كما في مرافعاته الأممية، نلمس ذلك التوتر النبيل بين أن تكون منتميًا لجذرٍ قديم، وأن تُعيد صوغه بلغة لم تُصنع لأجله. بين أن تحمل قبيلتك في دمك كإيقاع داخلي، وأن تشرحها للعالم كأنك تترجم حلمًا شفهيًا بلغة لا تعرف الطمي.

الدينكا بالنسبة له لم تكن تصنيفًا إثنيًا ولا إشارة في بطاقات التعريف، بل سردية حيّة، مصنوعة من الطين والدم والماء.

في "رجل يدعى دينق مجوك" لا نعثر على سيرة زعيم فحسب، بل على ما يشبه مخطوطة مغموسة في الحليب المُقدّس ورماد المواقد القديمة؛ عن رجلٍ لم يكن يرى الزعامة سلطة، بل طقسًا من طقوس الحماية، وشكلًا نادرًا من أشكال الأخلاق.

كتب فرانسيس عن والده كما يُكتب عن بلدٍ صغيرٍ يسكنه بكامله، لا كمرافعة في تمجيد خاص، بل كشهادة على إمكان الحكم دون نفي، وعلى معنى أن تُقاس الزعامة لا بمساحة السيطرة، بل بقدرة الصبر على الاستمرار.

لقد فهم فرانسيس، منذ نعومة التجربة، أن الهوية ليست بطاقة تُبرزها عند الحدود، بل مرآة تُكسر عند كل سؤال صعب.

كان يكتب عن النزوح الداخلي لا بوصفه ملفًا إغاثيًا، بل كجرح حضاري: ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من أرضه لا بسبب كوارث الطبيعة بل بسبب عجز الدولة عن أن تكون حضنًا لا سيفًا؟ وماذا يعني أن نطلب من الناس “أن يعودوا إلى ديارهم” حين تكون الديار أول من خانهم؟

لكن الحكاية لم تكن فقط عن الزعامة والهوية، بل عن التمزق الداخلي، عن الغريب الذي كتب عن وطنٍ ظل يخذله دون أن يسقط من قلبه.

لم يكن الشتات عند فرانسيس دينق حادثة عبورٍ خارج الوطن، بل تشكّلًا داخليًا في وجه وطنٍ ظلّ ينفي نفسه. فالسودان الذي عرفه لم يكن خريطة جغرافية بل خريطة قلق، خريطة تتغيّر ملامحها كلما حاول أحدهم أن يعترف بالجميع دون أن يُقصي أحدًا. ومن هذا القلق وُلد صوته: صوتٌ يُسائل لا ليُدين، ويُفكّك لا ليُخرّب، وينتمي دون أن يتورّط في التقديس.

كان يعلم أن في داخل كل “متحدث أممي” ظلّ إنسان يبحث عن وطن، لذلك لم تكن مهمته الأممية تقنية، بل وجودية. كان يُدرك أن النزوح ليس فقط حركة قسرية من مكان إلى آخر، بل أيضًا انزلاقٌ من تعريفٍ إلى آخر، من نظرة ذاتية إلى نظرة فوقية، من لغة البيت إلى خطاب الأمم. وهنا، بالضبط، انحنى ليكتب، لا بالحنين فقط، بل بالمسؤولية: أن تُعيد تشكيل الذات في مواجهة خطاب لا يعترف بذاتك إلا بوصفك قضية إنسانية مؤقتة.

في نيويورك، لم يكن يعيش اغترابًا، بل يكتبه. لم يكن جزءًا من النخبة الدولية التي تتحدث باسم الضحايا، بل كان – ولا يزال – من القلائل الذين يجرؤون على القول: أنا أحد هؤلاء، لا من باب التمثيل، بل من باب الجرح. كانت كلماته، حتى في أكثر لحظات البروتوكول برودة، تحمل أثر تراب أبيي، وصوت دينق مجوك، وشجن الأغنية التي لم تكتمل في صدر الراعي حين جاءت الحرب.

ولعلّ أعظم ما فعله فرانسيس أنه لم يدّع النقاء، بل قبل بالتعقيد. لم يُقدّم قبيلته كـ”نموذج للسلام” ولا نفسه كـ”جسر بين الهويات”، بل قدّم الكلّ كما هو: هشّ، قابل للانقسام، ومع ذلك جدير بالمحاولة.

تلك هي الكرامة كما عرفها: أن تسكن المعنى دون أن تفرضه، وأن تمشي في العالم وأنت تحمل وطنك في صوتك لا في أوراقك.

تلك العلاقة المرهفة بين الوطن والصوت، كانت عند فرانسيس دينق نثرًا آخر للمقاومة.

لم يكن على فرانسيس أن يخترع قضية، بل أن يستمع لصوتها وهي تنشج في داخل اللغة.

منذ البداية، لم يُغره المجد الأكاديمي ولا بهرجة المؤتمرات، بل كان مأخوذًا بذلك السؤال القديم: من نكون حين نُجبر على أن نكون شيئًا واحدًا؟ كان يدرك أن خطورة الهوية لا تكمن في غموضها، بل في اختزالها. فالهويات، كما كتب لاحقًا، لا تتشكل عبر الانتماء فحسب، بل عبر الألم، وعبر مقاومة تلك اليد التي تريد أن تُلصق بك اسمًا واحدًا إلى الأبد.

ولهذا، كان يكتب كمن يُعيد تشكيل شتاته في جملة. كل كتاب له كان محاولة لفك طلاسم الانقسام السوداني، لا بوصفه سياسيًا أو دينيًا فقط، بل بوصفه انقسامًا بين صورتين للذات: الذات كما تريد أن تُرى، والذات كما تُكره أن تكون. وبين هاتين الصورتين، تتشكّل المنطقة الرمادية التي يسكنها المنفيون في الداخل والخارج، أولئك الذين لا يتكلّمون لغتهم الأم إلا بخجل، ولا يثقون بلغة الآخر إلا بحذر.

ولم تكن كتاباته عن الدينكا نوعًا من الفلكلور، بل تمسكًا عنيدًا بذلك الجزء من الذات الذي لم تمسّه بعد آلة الصهر الثقافي. كان يرى أن في رواية القبيلة مقاومة صامتة للزمن الذي يريدنا بلا ذاكرة. ولعل ذلك ما جعل من كتاباته عن مجتمعه ليست مجرد شهادات إثنوغرافية، بل مرايا ملغزة، تعكس فيها الدينكا ككينونة، لا كهوية عرقية فقط، بل كبنية معرفية: في طريقة السرد، في إيقاع الاسم، في قيمة الحليب والرمز والمجتمع.

في كل سطر، كان يُشبه من يبحث عن اسم قديم في حُطام رسالة، عن نغمة لم تُسجّل لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة الجدّات. وربما لهذا لم يكن يكتب ليُقنع، بل ليُذكّر. فالكتابة عنده ليست إثباتًا، بل استدعاء. ليست صراعًا على التعريف، بل دعوة للتأمل في هشاشة هذا التعريف

ولأن الذات لا تُبنى في الفراغ، كان لا بد من العودة إلى البيت الأول، حيث لا تبدأ الحكاية من فكرة، بل من كثافة النسل، وتفرّع الاسم.

في البدء، لم يكن البيت بيتًا واحدًا، بل أرخبيل من البيوت. كان فرانسيس واحدًا من مئات الأبناء الذين حملوا اسم دينق مجوك، ذلك الزعيم الذي لم يكن يكتفي بأن يُدير القبيلة، بل أراد أن يُقيمها في الجسد والذكرى. تزوّج دينق مجوك من أكثر من مئتي امرأة، وأنجب ما يزيد على أربعمائة طفل وطفلة، لا كرمًا نرجسيًا، بل كأنّما يريد للقبيلة أن تتضاعف لتواجه وحدتها بالعُرف، وهشاشتها بالعدد، وشتاتها بالاسم.

في هذا الفضاء العائلي الذي لا تحدّه جدران، تعلّم فرانسيس منذ طفولته أن لا أحد يُقيم لنفسه سردية خاصة، بل كل قصة جزء من نسيج أكبر. كان صوته يتكوّن داخل جوقة واسعة، فيها الكبير والصغير، وفيها النائم بجانب البقرة كما النائم بجانب القصيدة. لم يكن يشعر بالوحدة، لأن المفرد في عرف الدينكا لا يُعوّل عليه. فالفرد ابن الجماعة، والجماعة ذاكرة تمشي على قدمين.

قبيلة الدينكا لم تكن بالنسبة له مجرد انتماء وراثي، بل طريقة في النظر، في الإحساس بالزمن، في تقدير الأشياء، في الصمت كما في الطقوس. فيها، الكلمة لا تُقال عبثًا، والاسم لا يُطلق إلا ليكون توقيعًا على علاقة. وحين غادر الوطن، لم يكن يفرّ من شيء، بل كان يحمل كل هذا الإرث في حقيبة صغيرة، يعرف أن العالم الذي سيواجهه لا يعترف بالقبائل إلا بوصفها عائقًا، وأن عليه أن يعلّم العالم كيف تُصبح القبيلة رؤية لا وصمة.

من هناك، من تلك الحقول التي تُربّي الأغاني كما تُربّي الماعز، عبر فرانسيس إلى الخرطوم، ومنها إلى نيويورك، وهناك كانت كولومبيا. لم تكن الجامعة مجرّد محطة نُحصل فيها على المعرفة، بل كانت بالنسبة له موقعًا لإعادة صياغة الذات: كيف تظلّ وفيًّا لذلك الطفل الذي يتبع ظلّ والده الزعيم، وأنت في قاعة يُناقش فيها العالم معنى “الهوية التفاوضية”، و”تفكيك الخطاب”، و”التاريخ الشفاهي”؟

في كولومبيا، لم تُفكك القبيلة فيه، بل تعمّقت، اكتسبت لغة جديدة. هناك، أدرك أن النَسَب يمكن أن يتحوّل إلى أداة نظر، وأن الزعامة التي نشأ في ظلّها ليست نهاية، بل بداية لسؤال أطول: ماذا يعني أن تكون ابنًا لزعيم، في بلدٍ يكفر بزعمائه كل صباح.

لم يكن فرانسيس دينق مشروع دولة، بل مشروع ذاكرة. لا يبحث عن دورٍ يلعبه، بل عن أثرٍ يُترك بهدوء، كما تُترك خطوات الأب في تراب القرية حين يعود ليلًا من مجلس الحكم. لم يسعَ إلى الشهرة، بل إلى أن يُحافظ على حكاية كانت مهددة بالذوبان. ولأنه لم يكن مشغولًا بصناعة صورة، ظلّ وجهه يشبه صوته: ناعمًا، حازمًا، لا يُحب الضجيج، ولا يخشى العُمق.

وحين نقرأه اليوم، لا نقرأ مفكرًا من جنوب السودان فقط، بل مرآة قلقة لسودانٍ بكامله، لم يتعلّم بعد كيف يحضن تنوّعه دون خوف، ولا كيف يُصغي إلى صوته الداخلي دون أن يرتبك. فرانسيس لم يُطالب بشيء، بل طرح أسئلته في صمتٍ عالٍ، كما يفعل الحكماء حين لا يملكون سوى لغتهم.

لقد كتب كي يُبقي الباب مفتوحًا بين القبيلة والعالم، بين الأب والهوية، بين الذاكرة والتأمل، وكي يُخبرنا، نحن الذين نُكابر كل يوم بأننا وحدويون أو علمانيون أو ثوريون، أن كل تلك التسميات لا تصمد أمام مشهدٍ واحد: طفلٌ يستمع لصوت والده الزعيم، لا ليتعلم السياسة، بل ليتعلم الصبر.

ربما، في النهاية، لم يكن يريد أن يكون شيئًا آخر سوى هذا: ابن رجلٍ يُدعى دينق مجوك، وساردٌ بارع، لم يتخلّ عن قبيلته وهو يدخل الأمم المتحدة، ولم يتخلّ عن أمته وهو يكتب بالإنجليزية عن الألم.

فرانسيس دينق، بما حمل وما ترك، لم يكن ظاهرة فكرية، بل حارسًا صامتًا لذاكرة ظلّ الناس يفرّون منها، فيما هو ظلّ يعود إليها كلما كتب.

لأن الذاكرة، حين تخذلنا الخرائط، لا تحتاج إلى مؤسسات، بل إلى رجلٍ يعرف أن يكتبها كما تُحكى: ببطء، وبصوتٍ لا يُجيد الاستعراض، لكنه لا يُخطئ الطريق.

***

إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

تعد نظرية ميشيل فوكو من أبرز النظريات التي تناولت العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة في العصر الحديث. فالسلطة في فكر فوكو ليست مجرد مؤسسة أو هيكل سياسي فوقي، بل هي مجموعة من العمليات والعلاقات التي تخترق جميع جوانب الحياة الاجتماعية. هذه العلاقة بين السلطة والمعرفة تكشف عن الطبيعة الشمولية التي يمكن أن تتخذها السلطة في العصر الحديث، حيث تنتقل من البنى السياسية التقليدية إلى التأثير على الأفراد في أبسط أفعالهم اليومية. وعلى الرغم من أن فوكو قدم تحليلًا عميقًا وواسعًا لهذه الديناميكية، فإنه من المهم أن نتساءل عن حدود هذا التحليل وتداعياته على الأفراد في المجتمعات المعاصرة.

في المراقبة والمعاقبة (1975)، يقدم فوكو تصورًا جديدًا للسلطة يتجاوز الفهم التقليدي لها. في هذه الدراسة الشهيرة، يرى فوكو أن السلطة ليست مجرد قمع أو هيمنة فاعلة من قبل الأفراد أو المؤسسات العليا، بل هي نظام معقد من العلاقات يتخلل كل جزء من أجزاء المجتمع. في هذا السياق، يشير فوكو إلى:

السلطة ليست شيئًا يُؤخذ أو يُحتفظ به، بل هي شيء يُمارس ضمن شبكة من العلاقات [1، ص: 92].

هذه المقولة تكشف عن عمق فكر فوكو، الذي يعتقد أن السلطة ليست مرتبطة بأفراد أو هيئات معينة، بل هي متغلغلة في العلاقات الاجتماعية اليومية، تبدأ من المدرسة والمستشفى، وتصل إلى البيت والمجتمع بشكل عام. والسلطة، بحسب فوكو، ليست مقتصرة على الرقابة المباشرة، بل تسيطر على الأفراد من خلال أنظمة المعرفة التي تُنتجها المؤسسات الاجتماعية المختلفة.

إحدى الإسهامات الكبرى لفوكو في هذا السياق هي فكرته عن المراقبة الذاتية أو التأديب الذاتي. ففي المجتمعات الحديثة، لم تعد السلطة بحاجة إلى أدوات القمع المباشر كما في الأنظمة الاستبدادية القديمة، بل أصبح الأفراد يراقبون أنفسهم ويتبعون القواعد التي تفرضها الأنظمة الاجتماعية من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم. هذا الشكل الجديد من السلطة لا يتطلب تدخلًا مباشرًا من الأفراد المسيطرين، بل يتم تنفيذه عن طريق تطبيع الأفراد لأنفسهم، مما يجعلهم جزءًا من النظام الاجتماعي بشكل طوعي، وإن كان ذلك دون وعي.

وفي هذا الصدد، يشير فوكو إلى أن السلطة لا تقتصر على الهيمنة الجسدية المباشرة، بل تمتد إلى تنظيم الحياة اليومية والتفاصيل الصغيرة فيها. في المراقبة والمعاقبة، يتحدث فوكو عن كيفية استخدام المؤسسات الحديثة مثل المدارس والمستشفيات والسجون لتنظيم الأفراد وتوجيههم نحو سلوكيات متوافقة مع الأنظمة الاجتماعية. يقول فوكو:

السجن يسكن في المدرسة، في المستشفى، في البيت [2، ص: 101].

السلطة هنا ليست قوة قمعية تفرض نفسها على الأفراد من الخارج، بل هي قوة تأديبية تُملى على الأفراد من الداخل، بحيث يصبح كل فرد جزءًا من شبكة من الرقابة التي تضمن تماشيه مع الأيديولوجيات السائدة. ولكن هنا تبرز نقطة مهمة، وهي هل يمكن للإنسان في هذا السياق أن يحقق تحررًا حقيقيًا من السلطة؟ وهل النقد الفوكوي للسلطة سيؤدي إلى إيجاد نقطة انطلاق للتحرر، أم أنه يعيد إنتاج السلطة بشكل جديد؟

إحدى النقاط التي يجب أن نأخذها في الاعتبار في هذا السياق هي فكرة فوكو عن المعارضة. بينما كان فوكو يطرح تحليلات نقدية عميقة حول السلطة، فإنه في الواقع لا يقدم أي بدائل ملموسة للتحرر من هذه السلطة. بل على العكس، نجد أن فكرته حول السلطة كما هي في الكلمات والأشياء (1966) تشير إلى أن الإنسان نفسه ليس سوى تمثيل للخطابات الثقافية والتاريخية التي تتشكل داخل المجتمع. في هذا الكتاب، يُصرح فوكو:

الإنسان اختراع حديث، وربما على وشك الزوال [3، ص: 387].

هذه الفكرة تؤكد على أن الإنسان، في نظر فوكو، ليس كائنًا ثابتًا أو ثابت الوجود، بل هو نتاج لخطابات وأيديولوجيات معينة. يزعم فوكو أن الإنسان ما هو إلا ثمرة هذه الخطابات التي تُنتجها الأنظمة الاجتماعية المختلفة، مما يجعل كل فرد مجرد انعكاس للسلطة. وبالتالي، من المستحيل على الأفراد الهروب من هذه السلطة لأنها متغلغلة في تفكيرهم وسلوكهم، بل وفي هويتهم.

إذن، إذا كانت السلطة تتحكم في الإنسان إلى هذا الحد، فإن السؤال الذي يطرحه العديد من المفكرين هو: كيف يمكن للإنسان أن يناضل ضد هذه الشبكة المعقدة من السلطة والمعرفة؟ هل يمكن أن توجد مقاومة حقيقية ضد سلطة أصبحت متأصلة في الحياة اليومية؟ ما يقدمه فوكو هنا هو مفارقة: فهو يدعي أن السلطة مستمرة في إعادة إنتاج نفسها بطريقة أكثر تعقيدًا، مما يجعل أي نوع من المقاومة يُخضع في النهاية للسلطة نفسها. وإذا كانت المعرفة التي ننتجها في المجتمعات الحديثة مشروطة بالسلطة، كيف يمكننا التوصل إلى معرفة حقيقية أو تحرير فكر الإنسان؟

وفي هذا الإطار، أقول: في عالم ملأته الشبكات والأيديولوجيات، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للإنسان أن يتحرر فعلاً، أم أننا نعيش في دوامة من الحرية الوهمية التي نصنعها لأنفسنا؟ إن فوكو، رغم تحليلاته العميقة والمركّبة للسلطة، لا يقدّم بديلاً جذريًا للتحرر. بل يمكن القول إن نقده للسلطة يعيد تشكيل هذه السلطة في أشكال أكثر دقة، لتصبح أكثر صعوبة في المقاومة أو الفهم.

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

.....................

الهوامش والمراجع:

[1] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 92

[2] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 101

[3] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ط2، 2010، ص: 387

التأويل الشعائري للعنف يُمكن ان يفهم على انه جزء من شعائر اجتماعية أو دينية تعبر عن قوى أكبر،  قوى ميتافيزيقية أو الآلهة تعتمد على سياق ثقافي او تاريخي معين ويمكن أن يُنظر إليها على أنها افعال مقدسة .يُلعب التأويل الشعائري للعنف دورا مهما في تعزيز مشاعر الانتماء و الوحدة الجمعية ويمكن ان  يؤدي أيضًا إلى تفكك اجتماعي أو صراعات، تتداخل السرديات التاريخية مع التأويل الشعائري وتستخدم الأحداث التاريخية لتبرير أشكال متعددة من العنف، دراسة هذه الظواهر تتطلب نقدًا مستمرًا للسرديات السائدة، حيث يمكن أن تكشف عن تحيزات أو روايات متناقضة في الفهم وبناء تأويل شعائري للعنف بناء على ذلك، كما يساعد  النقد المنهجي في تحليل كيفية تشكيل المجتمعات لقصصها الخاصة، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على السلوك الجماعي وطبيعة العلاقات الاجتماعية.

إعادة صياغة الهوية الجماعية

تستند السرديات التاريخية أحيانا إلى أحداث تاريخية مؤلمة، يعزز شعور الافراد بأنهم ضحية يؤدي الى ردود فعل عنيفة، كما تستخدم لتأكيد هوية جماعية تستند إلى مظالم تاريخية، مما يُحفز الأفراد على استخدام العنف دفاعًا عن هذه الهوية. قصص الأبطال الذين قاموا بأعمال عنف ضد الظلم تعطي مبررًا لارتكاب أعمال مشابهة تستخدمها السرديات الدينية لتبرير العنف، حيث يُعتبر العمل العنيف جزءًا من الجهاد أو الدفاع عن العقيدة، كما تُستخدم السرديات لتصوير الخصوم المحليين كخطر وجودي، مما يُبرر استخدام العنف كوسيلة للدفاع عن النفس، ويتم استخدام أحداث تاريخية منتقاة لتأكيد فكرة أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء.

الاستغلال السياسي

تستغل  هذه السرديات لتحفيز الجماهير على دعم السياسات أو الأفعال العنيفة، اذ يُعاد تأطير الصراعات المعاصرة في سياق تاريخي لإضفاء الشرعية على العنف، مما يجعل الأفراد يشعرون بأنهم جزء من تاريخ طويل ،تُسهم السرديات التاريخية السائدة في إقصاء الروايات البديلة التي  تدعو إلى السلام أو التفاهم، مما يُعزز من دوامة العنف من خلال الاستخدام الشعائري المستمر لسرديات تاريخية تبرر العنف، و يتم تشكيل وعي جماعي يمكن أن يؤدي إلى تكرار دورات العنف في المجتمعات، مما يجعل من الضروري استجواب هذه السرديات وتعزيز الحوار حول روايات أكثر سلامًا .

العنف واشتراطات الحضارة

التأويل الشعائري للعنف واشتراطات الحضارة يرتبطان بشكل معقد، حيث يلعب كل منهما دورًا في تشكيل فهم المجتمعات للعنف والحضارة،  يتضمن التفسير  جزء من الشعائر أو الطقوس التي تعكس قيمًا ثقافية أو دينية في بعض الثقافات، مثال ذلك يُعتبر العنف جزءًا من طقوس تعبر عن القوة أو التضحيات، مما يُضفي عليه طابعًا مقدسًا، يمكن أن يُعزز التأويل الشعائري من قبول العنف كوسيلة لتحقيق أهداف معينة، مثل الدفاع عن الهوية أو العقيدة، لكن اشتراطات الحضارة تشمل مجموعة من القيم الأخرى التي تتضمن المؤسسات القانونية ،الإدارية ،الاقتصادية، والممارسات التي تُحدد هوية مجتمع وتُعزز حضارة متقدمة  بالتالي تتعارض مع التأويلات العنيفة ،حيث تعتمد الحضارات على نظم قانونية تحد من استخدام العنف،  في كثير من الأحيان يحدث صراع بين التأويلات التقليدية للعنف وبين القيم الحديثة التي تدعو للسلام والتفاهم لذا يجب أن تُعاد صياغة التأويلات الشعائرية للعنف في سياقات حضارية جديدة، مما يُقلل من تأثير التأويلات الشعائرية للعنف في فهم العلاقة بين التأويل الشعائري واشتراطات الحضارة ويساعد في تحليل كيفية تأثير القيم الثقافية على السلوك العنيف، والدعوة إلى التفكير في طرق بديلة تساعد على تعزيز قيم التسامح في المجتمعات المعاصرة.

دور الدين في التأويل

يُستخدم الدين لتفسير العنف كجزء من إرادة إلهية أو وسيلة لتحقيق العدالة، بعض النصوص الدينية تُشرع العنف في سياقات معينة، مثل الدفاع عن العقيدة أو الحرب المقدسة ،يُعزز هذا من شعور الانتماء إلى جماعة معينة، و يُمكن أن يُحفز الأفراد على استخدام العنف دفاعًا عن هذه الهوية الشعائرية  المرتبطة بالعنف كما يؤدي الى  بناء رابطة قوية بين الأفراد، لذا يُمكن استغلال الدين لتأطير الصراعات على أنها صراعات مقدسة، مما يُضفي شرعية على العنف، و يساهم التأويل الشعائري في جعل العنف ممارسة مقبولة أو حتى مطلوبة، مما يُعزز من انتشاره في المجتمعات التي تعيش في مستوى متدني في  السلم الحضاري الإنساني،  واعتبار العنف  وسيلة عادية لحل النزاعات، التأويلات العنيفة تُسهم في تقسيم المجتمعات إلى معسكرات متصارعة، مما يزيد من حدة التوترات والصراعات ويمكن أن تؤدي إلى تأجيج الكراهية بين الجماعات المختلفة، يؤدي التأويل الشعائري للعنف إلى آثار نفسية سلبية على الأفراد، مثل الشعور بالذنب أو الخوف ويُعزز من العزلة الاجتماعية ويُقلل من فرص الحوار والتفاهم بين الجماعات المختلفة،  دور الدين في التأويل الشعائري للعنف يظهر كيف يمكن أن يُستخدم كأداة لتبرير العنف وتشكيل الهويات الجماعية، مما يؤثر بشكل عميق على السلوك الاجتماعي والنفسي، يتطلب التعامل مع هذه الظواهر فهمًا عميقًا للتاريخ والثقافة والدين، وضرورة تعزيز قيم التسامح والحوار.

التحديات

التبرير الشعائري للعنف يواجه تحديات متعددة تتعلق بالثقافة، الدين، التعليم، وسائل الإعلام، الانقسامات الاجتماعية، والعوامل الاقتصادية، يتطلب التصدي لهذه التحديات استراتيجيات شاملة تتضمن التعاون بين المجتمع المدني، المؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام ،من خلال التعاون بين مختلف القطاعات، يمكن بناء مجتمعات أكثر سلامًا وتسامحًا ، عندما تكون هناك حالة من الجمود أو عدم الحركة، قد تواجه الاستراتيجيات المقترحة تحديات إضافية، منها التحديات التي  تواجهها هذه الاستراتيجيات في أوقات الصمت، رغم ذلك يمكن تحقيق النجاح من خلال التحفيز، فتح قنوات الحوار، استخدام وسائل الإعلام بشكل فعال، الأنظمة المدنية المستقرة التي تدعم التسامح وحقوق الإنسان يمكن أن تسهم في نجاح هذه الاستراتيجيات من خلال وجود إطار قانوني يدعم السلام ويعاقب على العنف ويُعزز من فعالية الحركة، الظروف الاقتصادية الجيدة تُساعد أيضا على تقليل الإحباط، مما يجعل الأفراد أقل عرضة للتمسك بالعنف. توفر فرص العمل يمكن أن يقلل من مشاعر الإقصاء ويعزز من الاستقرار الاجتماعي، تتأثر نجاح الاستراتيجيات بعدة عوامل تشمل البيئة السياسية، الظروف الاقتصادية، التكنولوجيا، التنوع الثقافي، المشاركة المجتمعية، التأثيرات الخارجية، فهم هذه العوامل وتوجيه الجهود بشكل مناسب يمكن أن يُعزز من فعالية الاستراتيجيات الرامية إلى تقليل آثار التبرير الشعائري للعنف.

العمى الثعلبي في إدارة ازمات العنف المعاصرة

العمى الثعلبي، في سياق ثقافي، يشير إلى حالة من الغفلة أو عدم الوعي تجاه الحقائق أو القضايا المهمة في المجتمع ويشير إلى الانغلاق الفكري أو عدم القدرة على رؤية الصورة الكاملة بسبب التمسك بالسرديات التاريخية الضيقة. هذا يؤثر على فئات مجتمعية مختلفة. ان تطوير مناهج تعليمية التي تركز على التفكير النقدي وتحليل السرديات التاريخية ودعم الدراسات التي تبحث في السرديات التاريخية وتأثيرها على الفهم المعاصر، كما ان نشر الأبحاث والمقالات التي تقدم رؤى جديدة حول السرديات التاريخية، تنظيم حملات توعية تهدف إلى نشر الوعي حول تأثير السرديات على الأزمات المعاصرة كذلك استغلال وسائل الإعلام لنشر محتوى يعزز من الفهم الشامل للأزمات في مواجهة "العمى الثعلبي" يتطلب جهدًا مشتركًا من جميع الأطراف. من خلال تعزيز الوعي النقدي، فتح قنوات الحوار، وإعادة تقييم السرديات، يمكن بناء مجتمعات أكثر وعيًا وقدرة على التعامل مع ازمات العنف المعاصرة بشكل فعّال الناتجة عن السرديات التاريخية غير الموثقة اركيولوجيا.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

هناك مفاهيم فلسفية تتداولها الكتب التي تعني بالفلسفة لكنها مجرد مفاهيم لا تنتمي الى الفلسفة الحقة ولا الى العلم، لقد انكرها العلم الحديث لكونها قد وضعت نفسها في خدمة الأنظمة الدكتاتورية واصطفت مع رجال الدين المتعصبين في فترة العصور الوسطى في واربا التي تميزت بسيطرة الكنيسة والاقطاع، كذلك شهدت قارة آسيا نفس هذه المظاهر اثناء حقبة السيطرة الاستعمارية، ومن هذه المفاهيم مفهوم (الغائية).

تعاريف الغائية

عرفت الغائية عدة تعاريف منها انها (نظرية مثالية تعتقد ان كل ما في الكون موضوع لغاية مقررة سلفاً وان العمليات الجارية في الطبيعة هي عمليات واعية مقصودة ان ما يراه الغائيون شيء يجانب الحقيقة تماماً، ان الأهداف والغايات ملازمة لنشاط الانسان فقط علماً بأن هذا النشاط نفسه تحدده ظروف موضوعية خارج إرادة الانسان)1.

وعرفها ارسطو (بانها القاعدة الطبيعية فكل شيء يتحرك نحو غاية). وعند كانت... (ان يكون الشيء غاية امر داخلي راجع الى طبيعة الشيء نفسه..) المعجم الفلسفي مراد وهبة 482.

ويربط البعض السببية بالغائية كقولهم: ان هناك سبب او علة وراء كل حدث في الوجود، غير ان السببية هي من المفاهيم الرئيسية التي قام عليها العلم التجريبي منذ ارسطو والمادية الديالكتيكية ترى انه لاتوجد في الطبيعة دون ان يكون لها أسباب، فالسببية مفهوم فيزيائي مادي يختلف عن الغائية. فالغزالي مثلاً في كتابه: تهافت الفلاسفة يقول (ان السبب في النار تحرق ليس هو النار ولكن إرادة الخالق الذي جعلها تحرق، ويمكن اذا أراد الخالق ان يجعل النار برداً وسلاماً كما هي الحال في معجزة إبراهيم الخليل.

وقد اكد القرآن في بعض آياته على مبدأ الغائية كما جاء في الآية (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك – آل عمران 191.

وكذلك (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) الذاريات 56.

و (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) النحل (8)

وجاء في سورة (المؤمنون) 115 (أفحسبتم انا خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون)

نقد الفكر الغائي

وجهت انتقادات كثيرة الى الغائية منها: لنأخذ المطر مثلاً فلو سألنا أي انسان ماهي الغاية من سقوط الامطار؟ لأجابنا على الفور: لسقي المزروعات، ولكن المطر ينزل على الشوارع المعبدة وعلى العمارات والبيوت والسيارات وعلى البحار والمحيطات وهذه لا تحتاج الى مطر وليت فيها مزروعات وتنزل هذه الامطار على الصحراء الافريقية الكبرى وهي في امس الحاجة الى المياه، يسقط المطر على كوخ من الطين ويتسبب في موت ساكنيه، فهل ان غايه الاله هي قتل سكان هذا الكوخ المساكين الذين لا ذنب لهم سوى انهم فقراء؟

لقد انتقد الفكر العلمي التنويري الغائية انتقاداً لاذعاً لأنهم ذهبوا الى القول (ان الاله خلق الشجرة خضراء لأن اللون الأخضر نافع للعين والانف مخلوق للنظارات) كما دحض العلم الحديث النظرة الغائية فقد أطاحت نظرية دارون بنظرة الغائية في علم البيولوجيا اذ بينت ان تكيف الاحياء مع حياتها ينبع من عوامل مادية. وقد علق المفكر (انجلز) ساخراً على الفكر الغائي بالقول (لقد خلقت القططة كي تأكل الفئران وخلقت الفئران كي تأكلها القططة..). 

***

غريب دوحي

.........................

* مذاهب ومفاهيم في الفلسفة: الدكتور عبد الرزاق مسلم، ص 79.

الجِدال جِدالان: جِدالٌ بالتي هي أحسن، وجِدالٌ بالتي هي أخشن.  جِدالٌ حِواري، باحث عن الحقيقة، وجِدال مكابرة، ومغالبة، هادفٌ إلى الانتصار للذات والجماعة، بحقٍّ أو بباطل.  ومعظم خطابنا الثقافي العَرَبي اليوم وبالأمس من هذا النوع الأخير.  وأكبر كَسْب الإعلام العَرَبي- المادِّي والمعنوي- من هذه العقليَّة العُربانيَّة، ذات الحميَّة الجاهليَّة.  يُسوَّق ذلك تحت شعارات مُدَّعاة، مثل «الرأي والرأي الآخَر»، و«الحِوار»، و«حقِّ الاختلاف». ولا ريب أن الحِوار سبيل إلى كشف الحقائق، عبر المنهاج التداولي الديالكتيكي، الذي يحفِّز الأذهان في تلاقحها على الوعي المعرفي، وإدراك الأبعاد الفكريَّة وزوايا النظر المختلفة. وهو أمرٌ أعلى شأنه الفلاسفة الإغريق في حِواراتهم المشهورة؛ لما أيقنوا به من جدواه.  لكنك إذا تأمَّلت المسرحيَّة العَرَبيَّة، أدركتَ أن لا «رأي ولا رأي آخَر»، بل هو رأيٌ واحدٌ مبيَّت، يعلو ولا يُعلَى عليه، ولا «حِوار» هنالك، بل خُوار، وهِراش، ونِفار، ولا إيمان بـ«حقِّ الاختلاف»، بل إيمان بحقِّ الاختطاف، لادِّعاء الحقيقة المطلقة، التي يعتقد كلُّ طرفٍ أنها تسري منه مسرى الدم!  أمَّا آداب الحِوار، فحدِّث ولا حرج!  وخير نموذج عليه مراقبة أداء المذيعين العَرَب، ما شاء الله تبارك الله! 

هكذا هجم (ذو القُروح) ذات مساءٍ على ضيوفه! قلت له:

ـ أما وقد فتحتَ علينا باب النار هكذا، فدعنا نحاورك أنت!

ـ تفضَّل!

ـ أما لِلإشكال الذي تشير إليه جذورٌ ثقافيَّة؟

ـ ذكر (المسعودي)(1)، أنه كان من الأُمم المخلوقة قبل (آدم)، «أُمَّةٌ طوال، خفاف، زُرق، ذات أجنحة، كلامها فرقعة.»  فلعلَّ هؤلاء من نسل أولئك! 

ـ وإنْ كان للفرقعة عند أولئك معنى، ما دامت لُغة، وليست فرقعة فارغة، كبعض ما تسمع من أصحابنا! 

ـ المذيع العَرَبي يُلَقْلِق غالبًا أكثر من الضيف، بل لا يترك للضيف أن يُكمل جملةً مفيدة؛ لأنه لا يفرِّق بين الحِوار على قناة تلفازيَّة والحِوار في الشارع، أو الردح في المقهَى؛ لينتهي الأمر إلى ضوضاء فظيعة، ترفع ضغط المتابع دون أن يخرج بفائدة. إنَّ المذيع في عالمنا العَرَبي لا يسمع ما يقال أصلًا، ولا يفهم ما يقوله الطَّرَف الآخَر، ولا يعنيه في شيء، وإنما جاء ليثرثر بما أعدَّه سَلَفًا أو أُعِدَّ له، حتى إذا أفرغ ما في جعبته، قال: «شكرًا»، فجأة، «داهمنا الوقت»! 

ـ كأنك تقول: المذيع العَرَبي، غالبًا، لسانه متبرئٌ منه، وتلك اليوم مهارته الوحيدة للعمل في الإعلام!

ـ لا تدري كم نسبة المؤهَّلين منهم ليعملوا في الإعلام من الأساس؟  ومن جهة أخرى، فإنَّ ضيف الحِوار العَرَبي، إذا سُئل سؤالًا، يُفترض أن يجيب عنه في دقيقة، فَغَرَ فاه إلى أجلٍ غير مسمَّى، ولن يقفله، حتى يَشْرَق، أو ينقطع صوته، أو تصيبه أزمة قلبيَّة، أو ينقطع خطُّ الاتصال إذا كان عن بُعد، أو يفقد المذيع عقله، أو تنتهي الحلقة- لأنَّ الوقت دائمًا يداهم المذيع- وبالجملة حتى تحدث كارثة كونيَّة تُلجِمه نهائيًّا! 

ـ يعجبني الإنصاف!

ـ يحدث هذا في إعلامنا، ومن ظنَّ أنَّني أبالغ، فما عليه سِوَى أن يقارن الحِوارات في وسائل الإعلام العَرَبيَّة وغيرها من الوسائل في العالم.  وتلك ثقافةٌ قديمة؛ فلسان العَرَب المحيط ولا كُلُّ الألسنة!  حتى في ساحات الجدال المذهبي الدِّيني بين المسلمين. مع أنَّ الجِدال منهيٌّ عنه، حتى مع غير المسلمين، إلَّا بالتي هي أحسن. لكنك راءٍ أقبح أساليب الجدال في هذا الميدان بخاصَّة. حتى لينتهي كثيرًا إلى التكفير، والتفسيق، والتبديع، والتشريك، والاستعداء، والاستقواء، ومن ثَمَّ هدر الدِّماء، تصريحًا أو تضمينًا. 

ـ إِلامَ الخُـلْـفُ بَـيـنَـهُـمُ إِلامـا؟   :::   وهَذِي الضجَّةُ الكُبرَى عَلاما؟

ـ لأنَّ لوثة العصبيَّة لا شِفاء لها، عادةً، إلَّا بالكَيِّ من خلال القوانين التربويَّة والمدنيَّة. وغياب ثقافة الحِوار هو من عوامل غياب فنِّ المسرح في تراثنا العَرَبي.(2)

ـ «فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لا ارْتِجاعَ لَهُ»، وأفتني في أمري حول بعض ما يَشيع على شبكة «الإنترنت» من شِعر الشعراء المحدثين، ممَّا قد يكون أعجب ممَّا تجده من شِعر القدماء. 

ـ ما الأمر؟

ـ أمور، منها قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو على ركاكة نظمها- قياسًا إلى شِعر الجواهري على الأقل- مضطربة الوزن.  ولقد كنتُ أشكُّ أنها له، حتى وجدتُها في ديوانه «المحقَّق».  وعنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ). 

ـ أوَّلًا، استعمال عبارة «حَبَبْتُ» كَرِهَ بعضُ اللُّغويِّين القدماء التعبير بها، وأنكروا أنْ يكونَ استعمالها لفَصيح، مثل قول (غَيلان بن شُجاع النَّهْشلي):

أُحِبُّ أَبَا مَرْوَانَ مِنْ أَجْلِ تَمْرِهِ  :::  وأَعْـلَمُ أَنَّ الجَـارَ بالجَـارِ أَرْفَـقُ

فَأُقْسـمُ لَوْلاَ تَمْـرُهُ مَا حَبَـبْـتُـهُ  :::  ولاَ كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ ومُشْرِقِ

ـ « أَرْفَقُ» و«مُشرقِ»؟ كيف يستقيم؟

ـ وكان (المبرِّدُ) يَرْوِي الشطر الأخير:

وكَانَ عِيَاضٌ منهُ أَدْنَى ومُشرِقُ

وعَلَى هذه الرِّوَاية لا يكون فيه إقْوَاءٌ. وحكى (سيبويه): حَبَبْتُهُ وأَحْبَبْتُه بِمَعْنًى.(3) وقد قال (المتنبِّي)، وإنْ لم يكن حُجَّةً في العَرَبيَّة:

حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأَى  :::  وقَد كانَ غَدَّارًا فَكُن أَنتَ وافِيا

ـ ليس هذا موضع الشاهد في نصِّ (الجواهري)، غير أنه يمضي فيه هكذا:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ

إلى أن يقول:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ

والنصُّ في ديوان الشاعر(4)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة، سبق أن توقَّفنا عند تقصيرهم في تدقيق نشرهم لديوان (الجواهري) في وقفةٍ سالفة!  لم يكلِّفوا أنفسهم بسِوى تصدير النصِّ بالقول إنها «القصيدة التي تصدَّرت «ديوان الغُربة»، وبها إهداء إلى: مَن أحبَّ من الناس. نُشِرت في «بريد الغُربة»، وط67 ج1و2.» 

ـ يا سلام! ما قصَّروا! ماذا تريد أكثر من هذا البيان؟!

ـ ولقد نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. 

ـ هو في الحقيقة ليس بقصيدةٍ تناظريَّة، ولا بموشحة، ولا حتى بقصيدة تفعيلة، ما لم يجر عليه بعض التعديل. وإنَّما أُعجِبَ الناس بمعناه، وببعض أنفاسه الشيوعيَّة، فنشروه على عُجره وبُجره وأذاعوه، دون التفاتٍ إلى مبناه.  ذلك أنَّنا إذا عددناه أهزوجة من (بحر الهزج)، لم يستقم؛ لأنَّ الهزج لا يأتي إلَّا مجزوءًا. وقد جاءت بعض أبياته على سبع تفعيلات، وبعضها على ثماني تفعيلات!  وإذا عُدَّ من (البحر الوافر) المعصوب الحشو، لم يستقم كذلك، لا من حيث عدد التفعيلات، ولا من حيث دخول زحاف (الكَفِّ) في الحشو، وهذا لا يدخل إلَّا في حشو الهزج. ولو عُدَّ من قصيدة التفعيلة، لوجب أن تقام فيها التفعيلة الأخيرة في بعض نهايات أسطره، لتكون على هذا المنوال:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ لكلِّ الناسْ

...الذي لا يَنسُبُ الناسَ لأعراقٍ ولا أجناسْ

...ومَن أظلمَ كالفحمِ ومَن أشرقَ مثلَ الماسْ  

ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّة هذا الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد.  ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ لاستقامت تفعيلاته.  غير أنهم سيواجهون (الإقواء).

ـ ماذا تعني؟

ـ سآتيك بالمعنى في المساق المقبل، بعون الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (د.ت)، أخبار الزَّمان، تحقيق: عبدالله الصاوي، (بيروت: دار الأندلس)، 32.

(2)  وفي المقابل، فإنك تلحظ الثقافة المسرحيَّة طاغية على الثقافة الغربيَّة الجماهيريَّة.  حتى إن الجماهير ليصفِّق، ويصفِّر، ويتصايح، في التعبير عن الإعجاب، وإنْ كان في محاضرةٍ أكاديميَّةٍ جادَّةٍ يفترض فيها الوقار والهدوء!  يفعلون هذا وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًّا أو غنائيًّا، لاعتيادهم على هذه الأجواء.  وهو ما نستغربه نحن العَرَب في مقام كهذا ونستسخفه جِدًّا!  ولذا فنحن لا ندري كيف كان العَرَب يتفاعلون مع قصيدةٍ تلقى في سوق عكاظٍ، مثلًا، أو في المربد، أو غيرهما؟  أكانوا يصفِّقون؟!  نستبعد ذلك، ولم تَرِد به إشارة، على حدِّ علمنا.  ذلك لأنَّ التصفيق، أو التصفيح- كما كان يُسمِّيه العَرَب- أو التَّصْدِيَة، إنما ارتبط ببعض الطقوس الدِّينيَّة، كما كان العَرَب يفعلون في طوافهم بالبيت، وارتبط في غير ذلك بالنساء، كما في التنبيه على السهو في الصلاة. ولم يَرِد في روايةٍ أنَّ العَرَب- لا قبل الإسلام ولا بعده- كانوا يحيُّون الشعراء والخطباء بالتصفيق. وأغلب الظنِّ أنها بدعة غربيَّة جاءت إلى العَرَب حديثًا. غير أنه يُستنتج من بعض الإشارات، أنهم كانوا يعبِّرون عن الإعجاب ببعض العبارات، مثل: إيه، أحسنت، لا فُضَّ فوك، ونحوها. وذاك مبحثٌ آخر، ساقنا إليه التأمُّل في ثقافتين، ثقافة مسرحيَّة وأخرى غير مسرحيَّة، تتبدَّى آثارها في أساليب الحِوار والتفاعل الجماهيري.

(3)  يُنظَر: ابن سيده، المُحكَم والمحيط الأعظم، (حب)؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (حبب).

(4)  (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.

قبل أيام، شاهدت مشهدًا عبثيًا يتكرر بلا مسؤولية: إحدى المؤسسات تستضيف "أستاذة لغة عربية" لتتحدث عن "حكم العنف في الشريعة الإسلاميَّة". فأين العلاقة؟ ما الذي يربط بين اختصاصها اللساني وبين علم دقيق كعلم الفقه؟

وأكاد أجزم، أنه لو طُلب منها أن تعرّف ما الفقه؟ أو ما الحكم الشرعيّ؟ أو ما الأصول العمليّة ؟ أو ما الواجب العيني والتعيني لتعطلت اللغة على لسانها.

هذا المشهد ليس معزولًا. قبله بأسبوع، ظهر طبيب عيون يتحدث في ندوة ثقافية عن "تفكيك البنية السياسية للدولة الحديثة"، مستعينًا بمفاهيم مثل "السلطة الحيوية" و"السيادة المجزّأة"، بينما بدا واضحًا أنه اقتبسها من مقالة في الإنترنت دون أدنى وعي بموقعها الفلسفي أو سياقها النظري.

وفي مناسبة أخرى، ظهرت مؤثرة في مواقع التواصل، تقدم نفسها بوصفها "مدرّبة وعي كوني"، لتتحدث بثقة عن "نظرية التطور" و"الفيزياء الكوانتية"، لتؤسس رؤيتها حول "الطاقة الإيجابية"، وسط تصفيق الحضور الذين لا يميزون بين ستيفن هوكينغ وكتاب تحفيزي من فئة "الأكثر مبيعًا".

إنه مشهد من مسرح اللامعقول، إذ تتقاطع السلطات المعرفية وتشتبك دون حراسة منهجية. وفي ظل هذا الانهيار المنهجي، تُغتال الفروق الدقيقة، وتُزحزح المفاهيم، وتُمارس السلطة الخطابية بلا أي مساءلة معرفية.

أليس من حقنا أن نسأل: كيف تحوّل المجال العام إلى ساحة فوضى معرفية؟ ومن منح هذا "الحق الخطابي" لمن لم يُؤهَّل له؟ وهل نحن أمام نهاية جدّية للتخصص؟ أم أمام ولادة نمط جديد من "الوعي المقلوب"؟

قرأت للمفكر العراقي ماجد الغرباوي حديثًا حول ما يمكن وصفه بـ(العقل الأداتي) حين يتحول الخطاب الدينيَّ إلى وظيفة، وها نحن اليوم أمام العقل الاستعراضي، إذ يتحول كل خطاب إلى عرض مسرحي، وكل فكرة إلى فتنة مسرحية مبتذلة.

ومن تجليات الواقع المأزوم في تعاطيه مع المشاريع العلمية، أن تُسند مهامه إلى غير أهله من الخبراء، وهذا المعنى عانى منه العلامة طه جابر العلواني وذاق مرارته، في مشروعه في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إذ ينقل الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بعض تجليات الاستحواذ الذي هُمَّشَ بموجبه العلواني، قائلًا:" كانت إدارةُ المعهد العالمي للفكر الإسلامي وقتئذٍ تتألف من رئيس المعهد د. عبد الحميد أبو سليمان المتخصص في العلوم السياسية، مع مجموعة أعضاء لم يكن أحدٌ منهم متخصصًا في معارف الدين، إلا الشيخ طه جابر العلواني. وعلى الرغم من أنه أبرز مؤسسي المعهد، ومع مكانته الفكرية والفقهية، إلا أنه تعرّض للإزاحة بالتدريج عن قيادة المعهد، حتى أمسى منفيًا في أواخر من حياته. كنت كلما التقيت المرحوم العلواني يحدثني بمرارة ممزوجة بالأسى والسخرية عن استحواذ فريقٍ غير المتخصصين بالإسلاميات من زملائه على هذه المؤسسة المتخصصة بالمعرفة. وكان يشير بألمٍ إلى أن هذه الظاهرة أفسدت الفكر في بلادنا، بعد أن تسيد غير المتخصصين بالمعارف الإسلاميَّة وعلوم الإنسان والمجتمع، في مؤسسات ومراكز أبحاثٍ يُفترض بها أن تغني بالإسلاميات والمعارف الدينية، فأضحت هذه المؤسسات والمراكز يُخطط لها وتُرسم معرفتها من لا صلة معرفية له بذلك(1)."

اللافت هنا ليس فقط تهميش الكفاءة، بل استبدالها بمنطق "السلطة المؤسسية"، وهو منطق يُفرّغ المشروع من مضمونه، ويحوّل المعارف الإسلاميَّة إلى "سلعة رمزية" تُدار بلا وعي بجوهرها، مما يُفرز خطابًا مختل التوازن، لا هو أكاديمي دقيق، ولا هو شرعي رصين.

إن من أخطر ما نواجهه ليس فقط تهافت التخصص، بل ذوبانه في رغبة جماعية لإنتاج رأي متسرع وسهل وهشّ، لا يستند إلى تراكم، ولا يحترم حدود العلوم.

وهكذا، نصحو كل يوم على المزيد من المتطفلين على الفقه، والقرآن وعلومه، والفلسفة، والتاريخ، والفيزياء، والاقتصاد، لأن الساحة باتت بلا بوابات.

حضرتُ مؤتمرًا أكاديميًا عالميًا في إحدى الجامعات الأهلية، إذ اعتلى المنصّة رجلُ دين، لا بوصفه ضيفًا عابرًا، بل كصوتٍ واثق، يستعرض تاريخ العراق القديم، حضاراته، وآثاره، وكأنّ المعرفة قد اتخذت له سكنًا، وكأنّ التخصص الأكاديمي قد أُعيد تعريفه ليشمل من امتلك الحماسة ولباقة الخطاب. كان صوته ينساب فوق رؤوس الحاضرين كتيّار هادئ، ولكنّه – في عمقه – كان يغرق في بحر من التعميمات والاختزالات.

صادف أن جلس إلى جانبي أحد الخبراء الأركيولوجيين، من أولئك الذين تمرّسوا في الحفر، لا فقط في طبقات الأرض، بل في طبقات المعنى والدقّة. التفت إليّ، وعيناه تمتلئان بسخرية هادئة، وقال: "ما هذه المهزلة؟ أي علم هذا الذي يُدار هكذا؟".

كان الموقف برمّته تجسيدًا لما بعد الحداثة في أقسى صورها: انهيار الحدود بين التخصصات، وانفجار المعنى. في تلك الساعة، أدركت أنّ أزمة المعرفة- أمست ظاهرة عامة- ليست في نقص المصادر، بل في وفرة المتحدّثين .

ومن اللافت تأمليًا، ذلك التجلّي الصارم لاحترام المنهج عند علماء الإمامية في تعاملهم مع ظاهرة التعارض في توثيقات الرجال وتضعيفاتهم الروائية. فحين يقع التباين بين الشيخ الطوسي (شيخ الطائفة) والشيخ النجاشي، لا تُسلَّم الكفّة للأشهر أو الأوسع اشتغالًا، بل تُرجَّح كفّة النجاشي(2)، لا لاعتبارات رمزية أو سطوة تراثية، بل لأن الرجل اختصّ في علم الرجال وانغمس في فنونه، مكرّسًا له اشتغاله المعرفي. بينما الطوسي، وإن بلغ ما بلغ، فقد تفرّقت همّته على علوم شتى من الفقه والأصول والكلام والتفسير.

إنها ليست مفاضلة بين أسماء، بل بين منطقين: منطق التخصّص ومنطق التوزّع. يُقدَّم المُركِّز، لا لأن الانحصار يُفضي إلى ضيق، بل لأن التركيز يُنتج كثافة، وعمقًا، واستيعابًا بنيويًا للظاهرة.

***

أ. م. د حيدر شوكان السلطانيَّ

قسم الفقه وأصوله- جامعة بابل

................

1-  د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، هامش 133.

2- ينظر: الشيخ جعفر سبحاني، دروس موجزة في علمي الرجال والدراية، الناشر: مركز المصطفى العالمي – إيران ،186.

يقول تحوت (إله الحكمة)" هذا الإختراع "الكتابة"، سوف يجعل المصريين أكثر حكمة وسوف يحسّن ذاكرتهم لأنه إكسير للذاكرة وللحكمة التي إكتشفتها". ويجيب تاموس، "هناك من هو اكثر ذكاءً ولديه القدرة على خلق الفنون لكن القدرة في الحكم على فائدتها او ضررها على منْ يستخدمها يعود الى شخص آخر، والان، انت أب الحروف منقاد بعاطفتك لتنسب لتلك الحروف قوة مضادة لتلك التي تحوزها حقا. لأن هذا الاختراع سوف ينتج نسيانا في أذهان اولئك الذين يتعلمون استعمال ذلك الاختراع، لأنهم سوف لا يمارسون ذاكرتهم". افلاطون، حوار فيدون

انه لأمر مدهش، كيف لنص كُتب منذ أكثر من ألفي سنة يمكن ان يكون ملائما للمشاكل التي نواجهها في المجتمع الحديث؟ في الاقتباس أعلاه من حوار فيدون لإفلاطون، يستعمل سقراط حوارا افتراضيا بين الإله المصري تحوت، مخترع الكتابة، وتاموس ملك مصر، ليوضح لفيدون أخطار الكتابة وتأثيراتها الضارة على ذاكرة المصريين، وهكذا هو يعتقد ان هذا سيزود الشعب المصري بالحكمة التي تمتد الى ما وراء قدراتهم الطبيعية.

مع ذلك، يجادل تاموس ان إختراع تحوت الجديد – تكنلوجيته الثورية الجديدة – سوف لن تساعد المصريين ليصبحوا حكماء. هم بدلا من منحهم قوة جديدة للتذكر، سوف يفوضون ذاكرتهم الى نظام خارجي، وبهذا سوف يفقدون قدرتهم الطبيعية للتذكر الداخلي التي هي حجر الاساس للمعرفة. ذاكرتهم ومن ثم حكمتهم سوف تتآكل لأن المعرفة تصبح وبشكل متزايد مخزونة في رموز خارجية.

لنتقدم الآن من 2400 سنة الى الحاضر. دعونا نتصور ان اختراع تحوت ليس الحروف وانما الانترنيت. انه أمر مذهل للغاية كيف ان الاقتباس أعلاه لايزال قابل للتطبيق. طبقا لحجة سقراط، الانترنيت سيكون أكبر وسيلة لفقدان الذاكرة الجماعية في التاريخ الانساني. ان قدرة الانترنيت على خزن الذاكرات لا محدودة، ورغم ان الكتب بدت تحسّن قدرة الذاكرة، لكن نزعتنا في الاعتماد على التكنلوجيا الحديثة، وخاصة الانترنيت، كبنك ذاكرة خارجي كبير، يقودنا وبشكل متسارع نحو فقدان الذاكرة.

في السنوات الأخيرة كان الفلاسفة المعاصرون في كل من الفلسفة التحليلية والقارية، مثل اندي كلارك، ديفد شالمر، برنارد ستجلر، وكاترين مالابو مطلعين على هذا، وكانوا حريصين للنظر الى تأثيرات إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة على أذهاننا والثقافة. شالمر مثلا، يلاحظ في رد له على عمل كلارك (تضخّم العقل، 2008) بان إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة من خلال استعمال أشياء يمكن ان يكون له تأثير مباشر على الكيفية التي تتأثر بها الذاكرة ومن ثم الذهن بواسطة التفاعلات مع الوسائل الخارجية المساعدة : يقول شالمر"لو انت تشتري آي فون. الاي فون يستحوذ سلفا على بعض الوظائف المركزية لدماغك. انه يستبدل جزءاً من ذاكرتك، يخزن أرقام التلفونات والعنواين التي ذات يوم أرهقت عقلك بها".

ونفس الشيء بالنسبة لـ ستجلر حيث يكتب في عمله (نقد جديد للاقتصاد السياسي، 2009) بان التكنلوجيا تؤدي الى انتقال ذاكرتنا الى الآلات، بطريقة، مثلا، لم نعد نعرف رقم تلفون أقرب الناس لنا". الهاتف الذكي هو توضيح جيد للكيفية التي تصبح بها الأشياء الخارجية جزءاً من عمليات ذاكرتنا.

الإنتباه والذاكرة

ما الذي يقرر ما نتذكر وما ننسى؟ للاجابة على هذا السؤال، أفضل بداية هي عبر النظر في عمل المفكر الذي سخر حياته لدراسة الذاكرة، والحائز على جائزة نوبل وهو الطبيب النفساني ايريك كاندل.

طبقا لكاندل، الأساس في تكوين الذاكرة هو الانتباه. عملية خزن وحفظ ذكريات واضحة عبر بناء ارتباطات بين افكار تتطلب مستويات عالية من الارتباط الذهني، والتي يمكن تحقيقها عبر انخراط عاطفي وفكري قوي، وبكلمة اخرى، من خلال الانتباه.

في كتابه (بحثا عن الذاكرة، 2006) يكتب كاندل انه لكي تستمر الذاكرة، "يجب ان تتم معالجة المعلومات القادمة بعمق وبدقة. هذا يتم بواسطة الاهتمام بالمعلومات وربطها منهجيا وبشكل هادف بالمعرفة التي تأسست سلفا في الذاكرة".

بدون توجيه انتباه لفكرة او تجربة، فان الخلايا العصبية المشاركة ستفقد حالتها المحفزة للنشاط الكهربائي في غضون ثواني، وستذهب الذاكرة تاركة فقط أثر صغير في الذهن.

الانتباه اصبح من أهم القضايا الملحّة المؤثرة في المجتمع الغربي في السنوات الاخيرة، لأن قدرتنا على انتباه دائم تضاءلت منذ تطوير الانترنيت في بداية التسعينات. في كل مرة نذهب الى الاون لاين نواجه الحجم الهائل للرسائل التي ليست فقط تثقل كاهل عمل ذاكرتنا وانما تجعل من الصعب استمرارية عمل الأجزاء الأمامية لدماغنا في توجيه انتباهنا نحو مهمة معينة. يقول كاندل، انه حتى عملية بناء جيد للذاكرة لايمكن ان تبدأ. كل واحد منا وجد من الصعب جدا التركيز لفترات ممتدة في مهمات تتطلب انتباه مستمر، على سبيل المثال قراءة كتاب او حتى مشاهدة فيلم طويل؟ كلما استعملنا الويب لفترة أطول، كلما اعتادت أدمغتنا على التشتت – لأنها تعالج المعلومات بسرعة كبيرة بدون انتباه مستمر. من خلال تفويض الذاكرة وتدهور الانتباه، تصبح أدمغتنا متكيفة للنسيان وبالتالي تصبح عاجزة عن التذكر. وهنا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة: استعمالنا للويب يجعل من الصعب علينا خزن المعلومات في ذاكرة بايولوجية، وسنكون مجبرين باستمرار في الإعتماد على بنوك الذاكرة الشبكية الخارجية ...

علاج سام

لذا، هل كان سقراط على صواب؟ مع مرور الزمن، ومع تزايد إعتمادنا على العوامل الخارجية التقنية، هل يعني هذا اننا محكوم علينا بمستقبل من الاضطراب وقلة الانتباه والخرف الاجتماعي؟ ربما يبدو الامر كذلك. مع ذلك هناك طريقة اخرى.

في حوار فيدون، يصف تحوت اختراعه للكتابه كـ "فارماكون" pharmakon، من الواضح ان أصل الكلمة "صيدلية". لكن فارماكون مهمة في هذا السياق لأنها يمكن ترجمتها بكلتا الحالتين "سم" و "علاج" (جاك دريدا يناقش هذا في رسالته بعنوان "صيدلية افلاطون"، عام 1981). وهكذا مند فيدون فصاعدا، فان تكنيك – ما تصنعه وتستعمله الانسانية – جرى التفكير فيه بهذه الطريقة المزدوجة، كدواء.

التكنلوجيا الحديثة ايضا يمكن ويجب ان تُفهم باعتبارها لها صفات سامة وعلاجية. لكن لإستغلال المظهر الايجابي لهذه الطبيعة المزدوجة لتكنلوجيا المعلومات الحديثة نحن يجب ان نستغل قدرتها على تحسين انتباهنا.

لكن ما هي الطريقة الأكثر فاعلية لتحسين انتباهنا في عالم المعرفة العابرة والمعلومات المشتتة؟ لإستعادة الانتباه، يجب ان نركز على كيفية التفكير بعمق. نحن يجب ان نقلب رأسا على عقب سطحية الفهم التي جلبها الانترنيت لنا. وكما يقول كاندل، يجب ان نوجّه انتباه.

الانتباه كعناية

ان كلمة انتباه "attention" مشتقة من الكلمة اللاتينية attendere، التي تعني كل من "تطبيق ذهن احد ما على شيء ما" و "يعتني بـ ". يمكننا ان نرى كيف احتفظت هذه الكلمة بهذه السمة المزدوجة عندما نقول، مثلا، الدكتور "يعتني بالمريض". ما نعني هو ان الدكتور يهتم بمريضه. وهكذا اذا كان الاساس في تكوين الذاكرة هو الاهتمام ، نحن يجب ان ننتبه الى ما نقوم به في أذهاننا. كذلك، وكما يوضح برنارد ستجلر، في فرنسا حين نصف الفرد بـ atentionne هو ان نقول انه منتبه بمعنى "يراعي الاخرين" او يأخذ بالاعتبار: ان تكون رقيقا يعني انك مدني او حضري(في المعنى الاصلي للكلمة). ورغم اننا عادة نعني بالانتباه القدرة الذهنية على التركيز، لكن مع ذلك هو في نفس الوقت عمل سايكولوجي واجتماعي، لا يعمل احدهما دون الآخر. (علم البيئة العلائقية والصيدلة الرقمية، 2012). وبعبارة أبسط، لتكون منتبها هو ان تكون عطوفا. لكن ليس هذا فقط، بدون الانتباه لوجهات نظر الاخرين، يخسر المرء القدرة على التعاطف وبهذا يخسر القدرة على "العناية" بالآخر وبالمجتمع الذي يعيش فيه.

لذا نحن يجب ان لا نفهم قضية الانتباه كقضية مركزية عصبية. بدلا من ذلك، اذا نظرنا للدراسات ليس فقط في العلوم وانما في الانسانيات ايضا، نجد ان نظرية المنظّرة الادبية رينيه لاشمان في "التناص" توفر اطارا ثاقبا لفهم الكتب والادب كـ "ذاكرة ثقافية". هي تقترح ان الادب هو "فن التذكر المتميز". الادب يزود الذاكرة بالثقافة ويسجل هذه الذاكرة. انه ذاته فعل الذاكرة.

الادب ينقش ذاته في مساحة الذاكرة المكونة من نصوص ، و يرسم مساحة ذاكرة تُستوعب فيها وتُنقل تدريجيا النصوص المبكرة " (الذاكرة والادب: التناص في الحداثة الروسية، 1997). لذا، فان ذاكرتنا تمتد الى ما وراء حدود البايولوجي الى الثقافي. وكما يصف ذلك دونالد هب: "عندما انت تكرر التجربة مرات ومرات فان الدماغ يتعلم اثارة نفس الخلايا العصبية في كل مرة". لذا فان نقاط الاشتباك العصبي يمكن ان تتكون او لا تتكون نتيجة لتأثير الموقف الثقافي للفرد. هكذا المرونة العصبية تكون هي نعمة في الكفاح لاستعادة انتباهنا وذاكرتنا. ان نفس خاصية التعلم التي سمحت لنا بالوقوع في ثقافة التفكير السطحي وقللت فترة الانتباه يمكن ان تعيد ذاكرتنا مما يسمح لنا بالتذكر. عندما نطور ثقافة نوازن فيها بين عاداتنا بتصفح الانترنيت مع تقنيات تسمح بالتركيز العميق المطلوب عند القراءة او الكتابة، عندئذ نحن نستطيع إعادة برمجة أدمغتنا لنستغل الفوائد الكبيرة لكل من هذه الاشكال الخارجية للذاكرة.

ميراث الافكار

طوال حوارات افلاطون، نحن نرى إشارات الى رفض سقراط للكتابة بسبب الاخطار المتعددة للطابع الخارجي لهذه الافكار. سقراط كان خطيبا، لكن افلاطون كان كاتبا. ميراثه استمر من خلال الكتب التي تركها خلفه. في الحقيقة، لا سقراط ولا افلاطون يمكنهما بشكل مبرر انتقاد الكتابة. افلاطون يمكن القول هو اكبر مؤثر فردي خارجي على الذاكرة الداخلية للتاريخ، وحتى سقراط مع انه لم يكتب، لكن واضح جدا انه قُرئ جيدا. طبيعة الحجج التي ينخرط بها سقراط في حوارات افلاطون ترتكز على تراث ثقافي يوناني هو ذاته تأسس على الكتابة. وفي حوار الابولوجي، كان سقراط "يتناول الطعام مع هوميروس وهسيود و اورفيوس" بعد وفاته.

الانتباه العميق والمستمر الضروري عند قراءة قطعة طويلة من الكتابة، يمكن النظر اليها كطريقة للاعتناء بأدمغتنا وأذهاننا، لكن للقيام بهذا بشكل جيد، من الضروري اولاً فهم كيف نعتني بالمجتمع ككل. يجب ان نولي اهتمام بالطريقة التي بها تتطور ثقافتنا. الانترنيت لازال شابا، ونحن لانزال نتعلم كيف نتكيف معه، لكن طبيعته الدوائية المزدوجة يجب ان تُفهم لكي يمكننا عمل قرارات عقلانية واعية سواء انفراديا او جماعيا، حول كيفية التفاعل معه في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

- تنبعُ حاجة الإنسان لمجتمعٍ يضمّه من ضعفِه الفردي، فمنذ بدايات تكوينه الإجتماعي تشكّل في جماعات وتكتّلات بشرية، أُطلق عليها المستعمرات البدائية، ثم تطوّرت لتُصبحَ القرى البدائية على ضفاف الأنهار، ثم بعد ذلك لأرياف وحضارات نمت على تلك الضفاف، ومع حركة مياه الأنهار تحرّك الإنسان منصهراً في جماعات تشترك معه أوّلا في اللغة والتاريخ والسُلالة.

إن هذا التشكيل البدائي هو لحمايته في المقام الأوّل من فردانيته الضعيفة منطلقا لجماعة تحميه من المفترسات، حتى أصبحت المجتمعات البشريّة كبقية المجتمعات الحيوانيّة من جنس وفصل قريب على حدّ قول المناطقة، مجتمعات تتكتّل للدفاع عن نفسها في معادلة الصراع من أجل البقاء.

و مع تطوّر الإنسان وتشكيلاته التنظيمية أصبح لتلك المجتمعات رئيس قبيلة كما في المجتمعات القبلية البدائية يومنا هذا في دول شتّى وغالبا ما يستحوذ رئيس القبيلة هذا على موارد القبيلة مقابل حمايتهم وعلى أجمل نساء القبيلة لإنتاج ذريّة تمتاز بالجمال والذكاء لخلافته، يقوم رئيس القبيلة بحل النزاعات وتوفير الحماية عبر نفاذ كلمته وتأثيره وقدرته في التنظيم في مواجهة الأخطار.

تطوّرت الجماعات البشريّة حتى أصبحت دولاً لها حدود سياسية وتكفّلت جماعات غير منتخبة بدايةً بتوفير ذلك التنظيم وبقي الفرد عبدا لتلك الجماعات النبيلة غير المنتخبة المتعالية، ومع تطوّر النظم السياسية أصبحت الدول أكثر تقدما وحريةً في اختيار من يمثلها.

و مع كل ذلك التقدّم بقيت الجماعات سواء كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية أم ثقافية محافظة على تنظيمها في جسد الدولة، ومع غياب الفردانية وتكفّل الدولة بالحماية بقي الفردُ منضويا في جماعة تحميه أو على الأقل تكفل له نفوذه في الآخرين، فعندما ينخرطُ الفردُ في الجماعة يُصبح ماثلا فيهم مائلا إليهم، قوله قولُهم وقولُهم قولُه، تذوب ذاته وتنصهرُ في الجماعة، يفكّرُ بالوكالة وينقلُ ما يقولونه بحذافيرِه إذ لا رأي له فوق رأي الجماعة وهذا اللاوعي الجمعي يقوده للتحرّك كما الروبوت الذي يُعطى الأوامر لتنفيذها، فهو مغيّبٌ تماماً كما لو انه قد أُعطي مخدّرا ما لتوجيهه ، بل تغيبُ الأنا عنده حتى لا يكاد يذكر رأيه فيقول هذا ما أعتقد به، فيقول بدلا من ذلك:"هذا ما قاله فلان وما أدركه فلان ولا أدرك ما هو فوق ذلك!".

إن نظرية الجماعة الصالحة وإن كانت نافعة تنظيميا ولكنّها تُضمرُ وجود " جماعة طالحة"في الضد!، وهي ضاربة في تخوم التاريخ بعنوانات شتى لكنّها لم تظهر بشكلها الإصطلاحي إلا بعد نداءات الأفغاني جمال الدين، لتكوين (هويّة سياسية إسلامية) لمواجهة الغزو الإستعماري.

لقيت نداءات الأفغاني صداها فتأسست بعده اتجاهات فكرية بعضُها تطرّف أكثر وبعضها لان، لكن الفكرة الأساس هو نظم الفرد وسنخه في الجماعة حتى تستطيع الجماعة قوده أخيرا، هذا القَود الذي للآن نعيشه في جماعات مختلفة لا تعترف بهذه العُلقة الإنصهارية ولكنها تمارس ذات الطرق التنظيمية في دفع أتباعها لمواجهة الخصوم في ميكيافيلية واضحة متّبعين سياستي (الحمائم والصقور).

***

عبد الهادي المظفر

للذكاء الاصطناعي

منذ ان ظهرت ثورة جي بي تي في نهاية 2023 وبدايات 2024 وأنا، شأني شأن الكثيرين، اشعر بدوار الحركة نتيجة السرعة الجنونية للاحداث والاخبار الى حد كاد يفقدني الشغف في امور كثيرة اخرى. أصبحنا أكثر اعتيادا على التحدث مع نماذج الذكاء الاصطناعي المختلفة تارة لنسألها عن معلومة ما وتارة لنستشيرها عما نريد ان نلبس أو نأكل. تغير كل شيء فجأة واصبحت الألواح الصغيرة التي نحملها في أيدينا تحيلنا الى عباقرة من نوع جديد، عباقرة بشرط وجود هواتفنا وحزمة انترنت بسيطة واحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وقد التفت الكثيرون الى (المخاطر) او (الجديد) الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي للبشرية من حيث تحطيم البحث العلمي والوظائف والفن والأدب أو تطوير البشرية وتيسير عملنا ونقله الى مراحل جديدة.

التفتنا الى الكثير من هذه الفرص والمخاطر التي تحيط بنا ولكننا لم نلتفت الى الاثار التي يمكن ان تحدثها هذه الثورة على دواخلنا، فهي تتفاعل معنا عبر أخطر قناة اسستها البشرية والتي يرى أغلب الباحثين في تاريخ البشرية أنها نقطة التحول الكبرى ألا وهي اللغة. هذه الوسيلة التي اختلف المختصون في كونها هي الفكر أو أنها مرآة له وفي كلتا الحالتين هي المهيمن الأساس على مصير البشرية في الماضي ولا يستبعد أن يستمر تأثيرها إلى المستقبل. أصبحت هذه الأداة البشرية الحصرية الآن ولأول مرة في تاريخنا مشتركة بيننا وبين كيان صنعناه قبل عقود قليلة وطورناه حتى أصبحت لديه هوية لغوية خاصة يمكننا ان نتعرف عليها عبر برامج (كشف الذكاء الاصطناعي) كزيرو جي بي تي وغيرها.

ولم يقف الأمر الى هذا الحد، فقبل ساعة من وقت كتابتي لهذه السطور أرسل إلي صديقي الذي يقطن في الولايات المتحدة ويشاطرني حب التكنولوجيا وأمورا كثيرة اخرى تقصر المسافات بيننا، أرسل إلي رسالة مرفقة برابط. لا أدري ما الذي جعلني اتفاجأ مما جاء فيها رغم أنها الإمتداد المنطقي لما يحدث الآن من تلاقح فكري بين الذكاء الاصطناعي والبشر. كانت المقالة المرفقة من موقع بي بي سي بالعربية تتحدث عن العالم السوري إياد رهوان الذي أجرى بمعية العديد من العلماء في برلين دراسة عن تأثير الذكاء الاصطناعي على لغة البشر (وليس العكس). ولمن لا يعلم فهنالك “كلمات معينة يستخدمها تشات جي بي تي بمعدلات أكثر من “ المعدلات التي نستخدمها فيها وقد “رصد المختبر طفرة في استخدامها بين البشر” وانا هنا اقتبس من رسالة صديقي. وبحسب رهوان فإن السبب المؤدي لهذه الطفرة هو تفاعل البشر مع لغة الذكاء الاصطناعي.

وهنا اريد ان ارجع ثلاث خطوات الى الوراء لأستوعب ما يجري... لقد صنعنا نماذج لغوية استمدت قوتها من خوارزميات صنعناها بأنفسنا وغذيناها بنصوص بأعداد هائلة من لغاتنا (الحي منها والميت)، لنقوم بعد ذلك بالتأثر بشكل انعكاسي باللغة التي انتجتها هذه النماذج إلى حد أصبحنا نستخدم فيه كلمات لم نكن نستخدمها قبلا بهذه الوتيرة. وهنا لا بد أن أشير إلى ما يأتي:

دماغ الانسان هو عضو مجبول على استخدام اللغة. فاللغة كما قال نعوم تشومسكي (is hard wired to human brain) وهي تنتج كخليط معقد من افكاره واحاسيسه لتصبح فيما بعد اصواتا متناغمة منتظمة (حتى لو كانت نصاً مكتوباً فهي تبقى أصواتاً بالنسبة لنا) يفهمها الانسان المتلقي ليس كشيفرة لغوية مثلما تفهمها الآلة وانما كأفكار متعددة الطبقات تبدأ من النص الظاهري مروراً بالنص العميق (كما وصفه تشومسكي) ثم إلى تعابير الوجه وحركات الجسد المرتبطة بالنص (كالذي تتعامل معه البراغماتيكس Pragmatics) وانتهاءاً بكل ما يمكن أن يرافق النص من وسائط كالصورة المرافقة والموسيقى وغيرها (كما ترى جماعة النص متعدد الوسائط Multimodalism). فاللغة بالنهاية نصوص متعددة الطبقات عالية التشفير تنقل الفكر البشري والاحاسيس في آن واحد.

أما ما يحصل في الذكاء الاصطناعي أو النماذج اللغوية الكبيرة LLM فهو مغاير تماما لما يحصل في أدمغتنا، إذ يقوم المختصون  بتحميل كمبيوترات عملاقة خوارزميات تكون الدليل الأكثر نجاعة لتمكين النماذج اللغوية الكبيرة من تحليل النصوص التي تغذى بها (والتي تكون بالعادة كبيرة بشكل لا يصدق) ليتدرب النموذج اللغوي شيئا فشيئا على تحليل ومحاولة تقليد اللغة أو اللغات بل والأساليب التي تدرب عليها بشكل لافت للنظر يخيل لغير المطلع أن ما يقابله خلف شاشته الصغيرة هو كيان بشري طبيعي.

وبالنتيجة فإن النموذجين اللغويين (الطبيعي المتمثل بالبشر والمقلّد المتمثل بالنماذج اللغوية) سيتلاقحان بالضرورة مما يفضي إلى تغييرات (متعمدة) في لغة الذكاء الاصطناعي تقابلها تغييرات (عرضية) في اللغة الطبيعية للانسان وهذا ما توقف عنده العلماء آنفي الذكر في برلين.

أنا الآن اكتب هذه السطور بينما تتم مراجعة ما كتبوه من قبل المراجعين في المجلات العلمية الرصينة ومع الأسف لم أقرأ ما كتبوا أو ما مقدار ما توصل اليه هؤلاء الباحثون ولكنني متأكد من أن هذه الدراسة (أو الدراسات) افضت الى نتائج صادمة لأنني ومنذ بداية تعاملي مع النماذج اللغوية (بدءاً من تطبيق دكتور ليسا في نهاية التسعينيات وبداية الالفينات) مروراً بأول ظهور لتشات جي بي تي شعرت بأنني أغير الكثير من مفرداتي تارة لكي أتواصل بشكل أكثر فاعلية مع النماذج اللغوية وتارة أخرى نتيجة للاحتكاك المباشر مع النصوص المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي.

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال فيما إذا كانت هذه الظاهرة تحدث لأول مرة في البشرية، وهنا تجدر الاشارة الى ان هذه الظاهرة في اصلها طبيعية، وهي السبب وراء ولادة وموت العديد من اللغات واللهجات. فلغاتنا تؤثر وتتأثر بعضها بالبعض الآخر. وهذا التغيير هو ما جعل العرب يضعون علم النحو خوفاً على لغتهم بعد دخول العديد من الأمم الى الإسلام. كما أننا نشهد تغييرات لغوية كبيرة مع ازدياد استخدامنا للتكنولوجيا. فها هي لغة وسائل التواصل الاجتماعي (المختزلة في أحيان كثيرة والركيكة بشكل موجع في اغلب الاحيان) تغزو مدارسنا. وقد كانت لي تجربة مزعجة مع ابنتي الصغيرة التي تعلمت اللغة الانكليزية بطلاقة من أجهزة التابلت، والتي تفاجأت بأنها لا تجيد استخدام الألف واللام (ال التعريف) بشكل محزن، اذ يمكن ان تقول مثلا “جاء المدير المدرسة “ و”قالت معلمة رياضة” مما حدى بي وزوجتي الى تتبع أسباب تدهور لغتها العربية على عكس المتوقع منها، وكانت النتيجة صادمة أكثر مما تخيلنا، ففي مجموعة التليجرام التي تضم المعلمين واولياء الأمور في المدرسة لاحظت زوجتي أن المعلمات يكتبن بنفس الطريقة الخاطئة، ولا يميزن بين المعرف ب(ال) من غيره. وهذه الظاهرة بالتأكيد لم تكن حكرا على معلمات هذه المدرسة ولا حتى قطاع التعليم وانما تمتد الى مختلف أطياف المجتمع (ولربما المجتمعات الاخرى ولكن بظواهر قريبة من هذه.

وهنا تجدر الإشارة أن ما توصلت إليه لم يكن مصدري الوحيد ولم أطرحه دليلا علميا على الظاهرة حيث أنني على علم بما تحتاجه هذه الظواهر لتكون إثباتاً علميا مقبولا وهو ما لم يحصل هنا، كما أنني لا أدعي أن العينة التي لاحظتها، تمثل بشكل أو بآخر المجتمع ككل، وإنما أركز على ما نلاحظه من انتقالات وتغييرات لغوية مهمة تحصل نتيجة للاستخدام الغير مسبوق للكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي حيث لم يشهد العالم فترة استخدم فيها هذا العدد الهائل من البشر الكتابة. وهو بالطبع أمر يدعو الى الانتباه الى أن هنالك عدد لا بأس به ممن لا يجيدون الكتابة او التعبير الصحيح بدأوا يؤثرون ويتأثرون بالآخرين. ولكن ورغم فوائد ومآسي هذه الظاهرة الا أنها تنحصر بين البشر. نعم هي تختزل ما يحدث عادة في قرون الى ظوهر تحدث في عدة سنوات (ولربما في عدة شهور... من يدري؟! فهذه الظواهر على حد علمي لم تأخذ نصيبها الكافي من البحث العلمي الدقيق). بل أنني أكاد اجزم أنني تحسست تغييرات لغوية سواء بالعربية (لغتي الأم) ام الانكليزية (لغتي الثانية) في سنوات عمري المنصرمة أكثر مما شهدته أجيال من البشرية في عصور غابرة.

ولكن، سواءاً كان التغيير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي كبيراً جداً (كما أزعم) او طبيعياً (كما يمكن أن يثبته باحث ما) فإنه مقبول كونه متأت من تلاقح لغوي تواصلي بشري، وهو ما حدث ويحدث على مر العصور. أما الجانب الآخر من التغيير، والذي أشار اليه الباحث المذكور في بداية المقال فهو تغيير لا ينبغي السكوت عنه. وفيما يأتي من السطور سأحاول تخيل السيناريو المنطقي لما سيحدث في العقود الخمسة القادمة لأسمح لنفسي وللباحثين الآخرين ان نضع فرضية شبه منطقية تقود بحوثنا القادمة.

سيستمر الذكاء الاصطناعي في محاولاته لتحليل وتقليد لغاتنا الطبيعية وسيخطئ في كل مرة (لأن خوارزمياته لن تتصرف كما يتصرف دماغنا وأحاسيسنا) بينما يستمر تاثيره بالتنامي في نصوصنا شيئا فشيئا ليضفي أثرا يبدو الآن صغيرا وغير مؤثر لينتقل الى ظاهرة مؤثرة ثم الى ظاهرة مهيمنة مدعوما بكم النصوص الهائل الذي إما يعدل أو ينشأ عن طريق الذكاء الاصطناعي. وهنا علينا أن لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي سيتفوق علينا شيئا فشيئا من الناحية الكمية (فالباحث أو الكاتب مثلا يحتاج الى ساعة أو عدة ساعات ولربما أيام من أجل أن يولد نتاجا لغويا لا يتجاوز البضعة صفحات، بينما لا يحتاج الذكاء الاصطناعي الى اكثر من عدة ثواني لينتج نفس المقدار من النص. كما أن سعي الانسان الى الكمال (والذي بدأ يمثله الذكاء الاصطناعي) جعل عشرات الملايين (ولربما مئات الملايين او المليارات لاحقا) يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في تعديل أو حتى انشاء نصوصهم.

نحن هنا على شفا معركة بين كتلة ضخمة (Corpus) من النصوص الطبيعية (النصوص البشرية) في مقابل كتلة أخرى لا تقل ضخامة عن الاولى من النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي وهو ما يؤدي الى احتكاك وتلاقح منقطع النظير ستنتج عنه لغات هجينة ولربما مريضة بسبب طبيعتها المزدوجة (البشرية – الاصطناعية) ولا استبعد أننا وبعد خمسين سنة من الآن سنحتفل باليوبيل الذهبي لثورة جي بي تي ولكن بلغة (او لغات) اخرى تحتاج حينها الى قواميس لكي تفسر نتاجنا الانساني الحالي أو الماضي، ولا أضمن أن تكون الترجمة دقيقة ان تدخلت فيها الخوارزميات.

قد تبدو هذه الصورة قاتمة او حالمة نوعا ما للبعض، وقد يتبادر الى ذهن البعض الآخر أن ما أقوله محض ترف علمي ولكنه في الحقيقة جزء يسير من الخطورة التي نواجهها. وإن كنت قرأت المقال بتمعن لأدركت أن الخطورة لن تتوقف عند اللغة. فمن حيث أن اللغة مرآه للفكر تتأثر به وتؤثر فيه، وأي تغيير في النمط اللغوي سيؤدي لا محالة الى التغيير في الفكر، وهنا لا أتحدث عن تأثير تعلم اللغة الثانية (الكبير) الذي يطرأ على تفكيرنا بعد اكتساب اللغة الثانية (أو الثالثة أو أي عدد كان) رغم أنه دليل جيد على احتمالية حدوث التغيير، وإنما أتحدث عن نمط لغوي فريد أنتجته خوارزميات رياضية بمعزل عن الفكر والمشاعر البشرية، لغة هجينة مقلدة للمشاعر، لغة نشأت بعيدا عن ناظرنا. فما الضامن أن تفكير البشر لن يتغير الى ما يشبه الآلة؟ ومن الذي يضمن أن المشاعر الانسانية لن تصبح (كوبي بيست) وتضمحل تدريجيا؟ ما الضامن بأن المحتفلين باليوبيل الذهبي (مرور خمسين سنة) لجي بي تي لن يكونوا بوجوه بشرية وتفكير واحساس (انساني-خوارزمي)؟ وما هي السبل التي يجب اتباعها لجعل المستقبل أكثر اشراقا؟ قد يصل بعضنا الى ذلك اليوم وبالتأكيد سيجد في كلامي الكثير من (اللغط العلمي) هذا ان تمكن من ترجمته الى لغته آنذاك ولكن الاخطر هو ما سيجد أن الأوان قد فاتنا لنتجنبه.

***

محمد رضا عباس يوسف - تدريسي في كلية الامام الكاظم

نيسان 2025

منذ أزل التاريخ، حين بدأ الإنسان يتجمع في مجتمعات أكبر من وحدته الفردية، نشأت الحاجة إلى قيادة توجه الجماهير، تضع لها نظامًا، وتخلق لها انتماءً يُشبع توقها إلى الأمن والهوية.

وقد مثّل التاريخ الإسلامي، منذ لحظاته التأسيسية، نموذجًا بالغ التعبير عن هذا التشابك بين الحاجة إلى الانتماء، وآليات الهيمنة التي تغلّفت بالدين.

فمع وفاة النبي محمد، بدأت الخلافات السياسية تطفو إلى السطح. النزاع بين علي ومعاوية لم يكن مجرد خلاف حول شرعية الحكم، بل كشف هشاشة البنية السياسية التي سعى الإسلام إلى ترسيخها. ومن هنا، بدأ الدين ينزاح تدريجيًا من فضائه الروحي إلى دائرة التوظيف السياسي.

بني أمية، على سبيل المثال، لم يترددوا في استخدام الخطاب الديني لتبرير مشاريعهم السلطوية. خطبة معاوية الشهيرة: “إني لا أقاتلكم لتصلوا أو تزكوا، إنما أقاتلكم لأتأمّر عليكم”، تُجسّد بوضوح أن الغاية كانت السلطة لا العقيدة.

ولم تقتصر الهيمنة على المجال السياسي، بل تمددت إلى التعليم، الذي طالما كان الأداة الأنجع لصياغة العقول وتوجيهها نحو الطاعة.

التاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة التي تُظهر كيف تم توظيف التعليم لترسيخ خطاب السلطة. ففي العصر العباسي، كانت المدارس تُموّل من خزينة الدولة، والمناهج تُصمّم بعناية لترسيخ الولاء للخليفة وإنتاج وعي خاضع.

هذه الظاهرة لم تتوقف بسقوط العباسيين، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال مختلفة عبر العصور.

في القرن العشرين، يشير سيد قطب في كتابه معالم في الطريق إلى نظام تعليمي يقتل روح الإبداع في الفرد، ويجعله آلة طيعة في يد السلطة. ويمكن قراءة هذا الاتجاه، من منظور علم النفس، من خلال مفهوم “التكيف القهري” عند إريك فروم، الذي طرحه في كتابه الهروب من الحرية، حيث يُجبر الفرد على الانصياع للنظام القائم بدافع الخوف من تبعات الحرية ذاتها.

وعلى مرّ الأزمنة، ظل الدين يُستخدم كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة. في السودان، كانت تجربة الجبهة الإسلامية تجسيدًا حديثًا لهذه الممارسة. عقب انقلاب 1989 بقيادة حسن الترابي، بدأ النظام بإعادة هندسة البنية التعليمية والإعلامية بما يخدم مشروعه الإسلاموي.

في هذا السياق، تبرز حادثة إعدام المفكر محمود محمد طه كمثال فجّ على استخدام الدولة للدين كوسيلة قمعية. لم يكن النميري إلا واجهة سلطوية استُغلت لتصفية خصم فكري كان يشكل تهديدًا للمشروع الإسلاموي في عمقه. الترابي، الذي كان يدرك خطورة طه لا بوصفه معارضًا سياسيًا بل كصوت يتحدى الشرعية التأويلية نفسها، لم يتوانَ عن توظيف الدولة لإنهاء حضوره المعرفي.

وفي بلدان أخرى، مثل السعودية وتركيا وأفغانستان، يمكن تتبع نسق مماثل في توظيف الدين لترسيخ بنى الاستبداد.

في السعودية، شكّل التحالف بين آل سعود والمؤسسة الوهابية حجر الزاوية لنظام يشرعن السلطة المطلقة باسم التوحيد. أما في تركيا، فقد نجح أردوغان في المزج بين النزعة القومية والخطاب الإسلامي، مما أتاح له إحكام قبضته على الدولة وقمع خصومه تحت لافتة الانتماء. وفي أفغانستان، تُجسد حركة طالبان النموذج الأكثر فجاجة لاستخدام الدين لتبرير حكم شمولي يستمد شرعيته من نصوص مؤدلجة وأهواء مشيّدة على الخوف لا على العدالة.

المفارقة أن هذه الأنظمة، رغم ادعائها حماية الدين، لا تتورع عن التحالف مع قوى دولية لتحقيق مصالحها، ما يفضح زيف الشعارات التي ترفعها، ويؤكد أن الدين بالنسبة لها ليس أكثر من غطاء ثقيل للسلطة، يُستدعى حين يهدد الوعي مصالحها.

لكن هذه الحاجة لم تكن بريئة في معظم الأحيان؛ إذ سرعان ما تحولت إلى آلية للاستغلال والهيمنة.

الفيلسوف ميشيل فوكو، في حديثه عن السلطة، يشير إلى أن السلطة ليست مجرد قمع مباشر، بل شبكة من العلاقات المتغلغلة في كل تفاصيل المجتمع، تهيمن على العقول قبل أن تُحكم قبضتها على الأجساد.

وهذا ما بدا جليًا في التاريخ الإسلامي، حيث تحوّل الدين إلى أداة مثالية لبرمجة القطيع.

مع ظهور الإسلام، حدث تحول جذري في البنية الاجتماعية. فالنظام القبلي، الذي كان يُشكّل مركز الهوية السياسية والاجتماعية، بدأ يتفكك تدريجيًا. الدين الجديد لم يكن محض دعوة روحية، بل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا يهدف إلى توحيد القبائل تحت راية واحدة، وهو ما تجلّى في معركة بدر، حين وقف المسلمون صفًا واحدًا ضد قبائل قريش، التي كانت تمثل بنية النظام القبلي التقليدي.

هذه الوحدة، رغم بريقها الظاهري، أنشأت نوعًا جديدًا من التبعية، حيث استُبدل الولاء القبلي بولاء أوسع، للأمة الإسلامية.

وكما يشير المفكر الفرنسي روجيه غارودي، فإن هذا التحول كان يحمل في طياته بذور الهيمنة، إذ تم استبدال رب القبيلة بسلطة مركزية تبرّر أفعالها بالدين.

ورغم ما يحمله مصطلح “الجاهلية” من دلالات سلبية في الخطاب الإسلامي التقليدي، إلا أن تلك الحقبة تستحق إعادة قراءة. فقد كانت، رغم مظاهرها البدائية، تحمل نظمًا اجتماعية وقيمًا ساهمت لاحقًا في تشكيل الثقافة الإسلامية: نظام الدية، قوانين حماية الضيف، والشعر الذي كان يُعدّ ديوان العرب؛ كلها عناصر لا يمكن إنكار أثرها.

الإسلام، في سعيه لبناء مجتمع جديد، لم يُلغِ هذه العناصر، بل أعاد تشكيلها لتخدم مشروعه الأوسع.

ومع ذلك، لم يكن هذا المشروع خاليًا من التصدعات.

وعلى مستوى الأفراد، فإن برمجة القطيع ليست ظاهرة سياسية فحسب، بل لها جذور نفسية وفلسفية ضاربة في العمق. يشير غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير إلى أن الجماهير، بطبيعتها، ميّالة للتصرف العاطفي، وتبحث دائمًا عن زعيم يمنحها وهم الأمان والبقاء. وفي سياق الإسلام السياسي، غالبًا ما يُقدَّم هذا الزعيم في صورة “ولي الأمر” الذي تُعلّق عليه طاعة مطلقة، محصّنة بالدين وملفوفة بغطاء القداسة.

وهنا يبرز مفهوم “العبودية الطوعية” الذي صاغه إتيان دو لا بويسي ببصيرة نافذة؛ حيث يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يختار الخضوع طوعًا، لا من منطلق الضعف، بل من رغبة دفينة في الاتكاء على سلطة أعلى تُعفيه من عناء الحرية. في هذا الإطار، يغدو الدين هو الأداة المثالية لمنح هذه العبودية طابعًا شرعيًا، بل وضروريًا، في نظر المبرمَج.

ومع ذلك، فإن التاريخ لا يُساق كله في اتجاه واحد. الشعوب، وإن خُدّرت طويلًا، قادرة على كسر القيد والتمرّد على الأُطر.

الثورة السودانية في ديسمبر 2019، التي أطاحت بنظام البشير، شكّلت لحظة نادرة تُثبت أن برمجة القطيع ليست قدرًا محتومًا. لكنها، في المقابل، نبهتنا إلى أن إسقاط الرمز لا يعني بالضرورة تحرر البنية، وأن الصراع الحقيقي يبدأ حين تشرع في تفكيك ما استقر في العقول أكثر مما تجذّر في مؤسسات الدولة.

فالتحرر لا يكون بالشعارات، بل بإعادة النظر الجذرية في البنى الفكرية والثقافية التي مكّنت لسلطة الاستبداد، وشرعنت وجودها عقائديًا وتربويًا. وكما أشار محمد عابد الجابري، فإن تحرير العقل العربي يبدأ من قراءة نقدية للتراث، لا بهدف تمجيده أو شطبه، بل لفهم آليات توظيفه في خدمة السلطة وتكريس الخضوع.

وفي نهاية المطاف، تبقى “برمجة القطيع” ظاهرة إنسانية عامة، لكنّ العالم الإسلامي، بأثر تاريخه الطويل من التبعية والتأويل السلطوي، يوفّر لها تربة خصبة. والحل، كما تلمّحت، يبدأ بتحرير الفكر، وبناء تعليمٍ يُعيد للإنسان فردانيته وقدرته على اتخاذ القرار خارج مظلة الأوصياء.

عندها فقط، يمكن للإنسان أن يتحوّل من تابع في قطيع، إلى فرد حر، يرى، ويسائل، ويصوغ مصيره بوعيه لا بهلع الخوف.

***

إبراهيم برسي – باحث سوداني

الحضور الذي يهدد العالم هو حضور قاحل وهو قلق الأزمنة ولعبة في الوقت الضائع تحضر فيه كل امراض الثقافة لتتقمص اشكالا بورنوكرافية ساخرة من الحياة تحاول ان تضمن الفرجة، هي عيوب التفاهة مختبئة مثل الاسرار وراء الكواليس داخل الوعي والمعرفة، ضمن هذه الفوضى تتأكد تراجيديا العقل ووعي التاريخ، بالتالي يمكن القول ان فهم السرديات التاريخية على أنها نتاج لأزمة في كل من الإيمان والمعرفة هو انفعال حاد نتيجة الاسراف في الرضا دون نظام، لان تغير المعتقدات والقيم تنتج سرديات جديدة تعكس تلك التغيرات عندما يشعر الناس بفقدان الثقة في المؤسسات التقليدية، ما يجعلهم يبحثون عن تفسير جديد لتاريخهم وهويتهم، التأكيد على الدراسات النقدية والتاريخية سيعيد صياغة الفهم الجماعي للتاريخ، مما يؤدي إلى سرديات جديدة هي ليست مجرد ردة فعل على أزمة واحدة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين الأبعاد الروحية والمعرفية، تعكس سعي المجتمعات لفهم هويتها وماضيها في سياقات جديدة.

السلطة السياسية وتشكل السرديات

تلعب السلطة السياسية دورًا كبيرًا في تشكيل السرديات التاريخية سياقيا، حيث تسعى السلطة إلى تعديل أو تحريف الوقائع التاريخية لتتناسب مع روايتها السياسية أو لتعزيز شرعيتها لذا يتم تجاهل أحداث معينة أو شخصيات تاريخية لا تتماشى مع السرد الرسمي، تستخدم السلطة الرموز التاريخية لتعزيز الشعور بالوطنية والانتماء وقد تُستخدم لإلهام الجماهير أو لتبرير السياسات الراهنة، حيث تبرز القيم والمبادئ التي ترغب السلطة في ترسيخها كعلامات نمطية لوجوب الطاعة كما تسعى السلطة إلى إيجاد سرد تاريخي موحد يسهم في تعزيز الوحدة المجتمعية و يلعب دورًا محوريًا في تشكيل سردياتها التاريخية، حيث تؤثر على التعليم، والإعلام، والرموز الثقافية، مما يساهم في بناء الفهم الجماعي للماضي وصياغة الهوية الوطنية في الحاضر.

تحديات الحداثة وسرديات ما بعد للايمان

في مواجهة قضايا الحداثة العلمية في ظل فقدان الثقة في الإيمان التقليدي، يبحث الأفراد عن معنى في هويتهم الثقافية، مما يؤدي إلى سرديات تاريخية جديدة تعكس تلك الرحلة، تبرز سرديات جديدة تؤكد على القيم الإنسانية المشتركة، مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، كبديل للإيمان، تلعب السرديات التاريخية الناتجة عن الأزمة دورا في تنوع وطبيعة الإيمان، بدءًا من الإيمان الديني إلى الإيمان بالعلم والهوية والقيم الإنسانية، مما يعكس التأثير في المجتمعات يعتبر العلم عنصرًا أساسيًا في تشكيل سرديات ما بعد الإيمان التقليدية، حيث يحاول اعادة صياغة معنى جديد للمعرفة، وتحدى السرديات القديمة وذلك بتعزز التفكير النقدي. كما يساعد في بناء هويات جديدة قائمة على قيم إنسانية وعلمية، مما يساهم في تشكيل فهم أعمق للماضي والحاضر والمستقبل. من منجزات الحداثة العلمية أثرت نظرية داروين بشكل كبير على سرديات ما بعد الإيمان التقليدية، اذ قدمت نظرية التطور، التي طرحها داروين، بديلًا علميًا لروايات الخلق التقليدية الموجودة في العديد من الديانات، مما أدى إلى إعادة تقييم الكثير من المعتقدات، أدت هذه النظرية إلى تساؤلات حول معنى الحياة والإنسانية، مما دفع البعض للتفكير في وجودهم بعيدًا عن التفسيرات الميتافيزيقية، ساهمت نظرية داروين في تعزيز أهمية المنهج العلمي والتفكير النقدي، مما شجع الأفراد على البحث عن أدلة علمية وراء الظواهر بدلاً من الاعتماد على السرديات المقدسة فقط، أدى هذا إلى تطوير منهجيات تاريخية جديدة تعتمد على الأدلة والبحث بدلًا من التقليد، كما قدمت النظرية فهمًا جديدًا للإنسان كجزء من تطورات طبيعية ساهمت في تعزيز فكرة أن الإنسان ليس كائنًا مميزًا بل جزء من سلسلة تطورية، مما أثر على كيفية رؤيتنا لأنفسنا ودورنا في الطبيعة.أثرت نظرية داروين بشكل عميق على السرديات التاريخية، مما أعاد صياغة الهوية الإنسانية وأسهم في تحولات ثقافية واجتماعية واسعة.

السرديات التاريخية والسلطة

تعتبر السرديات التاريخية أداة قوية في تشكيل فهم المجتمعات للسلطة، وقد لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم سلطة الاستبداد، حيث تسعى الأنظمة الاستبدادية إلى فرض سرديات تاريخية تعزز من شرعيتها، مما يؤدي إلى تهميش أو إقصاء روايات أخرى ويتم تعديل سرديات أو إغفالها لتناسب مصالح السلطة، مما يعزز من صورة القائد أو النظام، قد تعمل السلطات على إعادة كتابة الأحداث التاريخية لتناسب أجندتها، مما يؤدي إلى خلق سرديات جديدة تعكس هيمنتها على السلطة ويتم تجاهل و تحريف الأحداث التي تضعف صورة النظام أو تبرز أي معارضة تاريخية، تلعب السرديات التاريخية دورًا حاسمًا في ترسيخ مفهوم سلطة الاستبداد من خلال فرض الروايات الرسمية، وإعادة كتابة التاريخ، هذه العمليات تساهم في تعزيز شرعية الأنظمة الاستبدادية وتشكيل وعي المجتمعات بما يتماشى مع مصالح السلطة، مقاومة السرديات التاريخية المفروضة تتطلب جهودًا متعددة الأبعاد تشمل التعليم النقدي، تنويع المصادر، تعزيز الحوار العام، استخدام التكنولوجيا. هذه الاستراتيجيات يمكن أن تساهم في بناء وعي تاريخي أكثر شمولًا وموضوعية.

الجغرافيا وسرديات الاستبداد

تلعب الجغرافيا دورًا في تشكيل الهوية الوطنية، حيث تُستخدم لتأكيد الانتماء إلى منطقة معينة وتبرز أهمية التاريخ المحلي في تعزيز الولاء للسلطة الحاكمة تُستخدم المواقع الجغرافية، مثل المعارك التاريخية أو المدن القديمة، لتعزيز السرديات الرسمية، مما يساهم في تصوير السلطة كاستمرارية تاريخية تركز سرديات الاستبداد على أحداث جغرافية معينة لتدعيم شرعية السلطة، مما يسهم في تعزيز السرديات التي تدعم السلطة من خلال التركيز على التنمية أو الاستقرار في مناطق معينة، تؤثر الجغرافيا السياسية على كيفية تشكيل السرديات حول الهويات القومية، مما يساهم في تعزيز الاستبداد في سياقات معينة، حيث تُستخدم الجغرافيا لتقسيم المجتمعات أو تعزيز الانقسامات، مما يتيح للسلطة الاستبدادية تعزيز سيطرتها، يمكن للسلطة أن تستغل الجغرافيا لخلق أعداء خارجيين، مما يعزز من شرعيتها من خلال تنمية الشعور بالتهديد، تُستخدم الجغرافيا في السرديات لتعزيز فكرة أن السلطة هي الحامية للموارد، مما يعزز من صورتها كجهة شرعية، أحيانا تُستغل الكوارث الطبيعية لتبرير الإجراءات الاستبدادية من خلال تصوير السلطة كمنقذ، تلعب الجغرافيا دورًا مهمًا في ترسيخ مفهوم السرديات لسلطة الاستبداد من خلال تشكيل الهوية المدجنة، وإعادة تشكيل الذاكرة التاريخية، والتحكم في الموارد، والاستغلال السياسي للجغرافيا. هذه العوامل تساهم في تعزيز شرعية الأنظمة الاستبدادية وتحديد كيفية فهم المجتمعات لتاريخها وهويتها.

التنوع الثقافي وجغرافيا السرديات

في الأنظمة التي تضم تنوعًا ثقافيًا، قد تُستغل الجغرافيا لتعزيز الانقسام بين الجماعات المختلفة، مما يساهم في تعزيز الاستبداد، وتصويرها كحامية للأمة، كما في بعض الأنظمة الشمولية، يمكن أن تؤثر العلاقات الجغرافية مع جيران معينين على كيفية تشكيل السلطة لسردياتها، مما يعكس استراتيجيات مختلفة في التعامل مع التهديدات، يمكن أن تُستخدم الجغرافيا لتبرير استجابات استبدادية بينما يمكن في أنظمة أخرى أن تُستغل لتأكيد فشل السلطة، تؤدي الصراعات في مناطق معينة إلى تعزيز الاستبداد من خلال استخدام الجغرافيا كأداة للتعبئة الوطنية أو توجيه الانتباه بعيدًا عن القضايا الداخلية. تختلف الأدوار الجغرافية في الأنظمة الاستبدادية بناءً على السياقات التاريخية والثقافية، والتوزيع السكاني، والموارد الاقتصادية، والجغرافيا السياسية، واستجابة الأنظمة للأزمات. هذه الفروقات تؤثر على كيفية استخدام الجغرافيا لتعزيز الاستبداد وترسيخ السرديات التاريخية. تسهم السرديات التاريخية كثيرا في معاضدة سلطة الاستبداد في التأثير على التنمية المستدامة في المجتمعات الشرق أوسطية من خلال تقييد التفكير النقدي، وتعزيز والانقسامات وهذا يوضح ان السرديات التاريخية في ازمة مركبة من الايمان والمعرفة لأنها تعزز من سلطة الاستبداد وتمكنها من استغلال الموارد الغنية بتأثير ميتافيزيقيا الايمان لخلق مجتمعات تفتقر الى موقع حضاري متقدم وتنمية مستدامة.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

  سؤال يصعب علينا تجاوزه واجتيازه

بمنأى عن المشاعر المضطربة والمواقف المتباينة حيال عنوان هذا المقال أو عتبة ذلك الخطاب (من أين نبدأ؟)، فلهذا الخطاب قصة وحكاية؛ فمنذ قرابة ثلاثة أشهر دعاني د. خالد كموني، وصحبة من أعضاء وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية، لنتشاور سويًّا حول الندوات المزمع عقدها خلال العام الحالي 2025م، ومناقشة موضوعاتها المقترحة، وعناوينها، ومدى أصالتها، وانتمائها لرسالة المعهد العالمي لتجديد الفكر العربي، ووجهة منبره الجامع بين التجديد والتنوير والتأويل، وإحياء الفلسفة التطبيقية المعنية بتثقيف الرأي العام، وتوعية شبابه، وتأهيلهم لحمل رأيه الإصلاحي.

ومن ثم قام الحضور بتقديم مقترحاتهم، وقمت بدوري بطرح هذا العنوان للندوة التي سوف أتحدث فيها مخاطبًا قادة الرأي من المعنيين بالمعارف الفلسفية، والمحبين للمحاورات العقلية.

وكشفت عن علّة اختياري لهذا العنوان؛ فهو إحياء لسنة رواد الفكر العربي الحديث الذين انتهجوا (فلسفة السؤال) كلما أرادوا اتخاذ قرار في مسألة، أو انتخاب حل لقضية، أو ابتداع أحد الأساليب أو العادات من ثقافة الأغيار وتطويعها وإدراجها في مشروع نهضتهم، التي عكفوا على وضع برامجها وآلياتها منذ أُخريات القرن الثامن عشر.

أجل، كان رواد النهضة يتحاورون ويتثقفون ويتواصلون على صفحات الدوريات، وفي المنتديات، وعلى المقاهي، شأن فلاسفة التنوير في أوروبا.

وكان السؤال الفلسفي هو ملهِمهم، والمحرض الفعّال لتفلسفهم وتلاقح أفكارهم، حيث توليد الأفكار، وانتخاب النافع من الرؤى، والطريف من التصورات.

نعم، أتساءل، فالخطب جلل، والخطاب مرّ، والجواب يحتاج إلى حكمة العقل الجمعي، الذي يُجيّش الجهود، ويوحد المواقف، ويحسم الأمر.

ولمّا كان التأويل هو مطلب محب الفلسفة، فأستميحك، عزيزي القارئ، في ممارسة رياضية تفكيكية لهذا العنوان (من أين نبدأ؟) لتفسير وتفكيك وقراءة ونقد دلالته، ومفهومه، ومعناه، ومقصده، وغايته، والمستور في جوفه، والمُلغز في مرماه.

علّنا ننتقل من التفكيك إلى البناء، لنزود عن مشخصاتنا وثوابتنا وهويتنا التي انتهكها الأغراب وأذيالهم من المضللين والمنتفعين.

والآن، أدعوكم إلى قراءة القراءة، ونقد النقد.. من أين نبدأ؟!

هل السؤال عن بداية المسير؟ أم القصد هو الرهبة والخوف من المبادرة، والتردد، والعجز، واستمراء الركود؟ أم تراه وصفًا للشتات، وتعبيرًا عن استمراء القعود، والركود، واختلاف الرؤى، وتوقّع سوء المصير؟

تُرانا نتساءل لنفصح عن قلة حيلتنا؟ أم نأسف على عِظَم مصيبتنا؟ فاستحال السؤال إلى صرخة من فرط الألم، وحسرة النفس، ووجع البدن؟ أم تحسبه دعاءً باكيًا للتعجيل بحضور المهدِي المنتظر؟ أم توسلاً للإله المعبود المقتدر؟ أم هو استسلام لما كُتب علينا من قدر؟ مردّدين مع المعري: (مشيناها خُطًى كُتبت علينا؛ ومن كُتبت عليه خُطًى مشاها).

وإذا سلَّمنا بأننا نطلب الدليل والمرشد النبيل، فمن عساه يكون؟ أصادق أمين؟ أم كذوب لعين؟ أم خائن مكين؟

نعم، فالخطب جسيم، والخطر سقيم، فليس من السؤال فكاك.

وإذا ما انتقلنا من تلك الرياضة الذهنية إلى الحديث عن الموضوع الرئيس الذي يشكّل جوهر المحاضرة، ويشغل موضع المركز من هذه المأدبة الفلسفية، سوف نجده ينقسم إلى خمسة محاور رئيسة، هي:

1- من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال:

تباينت كتابات المعنيين بتاريخ الفلسفة حول أصالة السؤال الفلسفي، والمكانة التي يشغلها في مركزيّة (ما نطلق عليه بنية التفلسف)، فذهب بعضهم إلى أن السؤال الفلسفي هو وليد التأمل، الذي حرّض الفلاسفة على التفكير في الإجابة المقترحة التي يثيرها العقل خلال رحلة تأمله، وعليه فالسؤال الفلسفي هو الذي أنتج الفلسفة وصنع الحكمة أو استلهمها من قوة مجهولة.

في حين نزع الفريق الثاني إلى أن (حوار الأنا مع الذات) هو الذي ولّد السؤال الفلسفي، ومن ثم تتقدّم المسحة الفلسفية على السؤال الفلسفي؛ فليس كل سؤال يقود العقل إلى التفلسف، والعكس غير صحيح، فالتفلسف هو الذي يشكّل بنية الدهشة في صورة السؤال (ماذا، ما، لماذا، كيف، أين؟) بصيغ متعددة، تراه في صورة استفهامية أو ساخرة أو استنكارية، محرضة على التفكير، أو معبرة عن إشكالية لم يُفلح العقل في الإجابة عنها، أو متهكمة ساخرة من الواقع المعيش، أم تحسبها صيغة رمزية معطاة، تحوي في جوفها عشرات الإحالات الإشارية والدلالية المسكوت عنها.

2- من الحكمة الفلسفية إلى فلسفة الحوار وتأسيس المنهج وابتداع النظريات:

لما كان السؤال لا يستقيم إلا بردّ منطقي يحمل بين طياته الحجة والبرهان، بات الحوار الفلسفي بدرجاته المختلفة (التحاور، الجدل، الت….

3- مكانة السؤال الفلسفي في الفلسفة التطبيقية الإسلامية:

إذا ما سلَّمنا بموضوعية الفكر الفلسفي العربي الإسلامي وميله للنزعة العملية التطبيقية، فسوف نجد لفلسفة السؤال من جهة، والسؤال الفلسفي من جهة أخرى، مكانة لا يمكن إنكارها في جُلّ المباحث العقلية الإسلامية، بداية من التساؤلات: (ما المعنى؟ وماذا عن الدلالة؟ ناهيك عن صيغ السؤال، وأساليب الإجابات التي تحوي بدورها إحالات إشارية للتهكم والنقد والتحريض على التفكير والتأمل). ويبدو ذلك في كتابات الشعراء، وأقاويل سجع الكُهّان، ثم فلاسفة اللغة الذين حاكوا المناطقة في كتاباتهم، مثل: المتنبي، وأبي تمام الطائي، وكتّاب المعاجم العربية، ومُصنِّفي المؤلفات البيانية (المعنية بالمعنى والدلالة والمفهوم والمصداق والغرض)، ومنهم "أبو هلال العسكري".

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

في المثقف اليوم