قضايا

يُعدّ موضوع التعريب من اكثر الموضوعات اللغوية التي نالت اهتمام القدماء والمحدثين في مجال اهتمامهم باللغة العربية ورعايتها، ضمن قانون الافتراض اللغوي الذي تتبادل في إطاره اللغات المجاورة والمتصلة ببعضها البعض بما تقرضه حيناً وتقترضه حيناً آخر من الالفاظ التي هي بحاجتها لمسايرة الحركة الحضارية الجديدة، وكعامل من عوامل النمو والتوسّع اللغوي كما اهتموا بوضع ضوابط لمعرفتها وأحكاماً لإخضاعها للنطق والبناء العربيين ومن الطرق والوسائل التي تمت من خلالها تنمية الثروة المعجمية العربية بالالفاظ المعربة:

1ـ الاشتقاق: وهو أكثر الطرق حيوية ومرونة ومساعدة على إثراء اللغة العربية وتنميتها، وهو أحد تقنيات التعريب ـ وذلك باقتطاع لفظ من لفظٍ آخر أجنبي معّرب يوجد بينهما توافق على مستوى الاصوات والدّلالة ولم يتوقف عمل اللغويين على اشتقاق مواد جديدة من الكلمات القديمة المعرّبة بنفس معانيها بل تعّداه إلى إعطاء بعض الاشتقاقات منها دلالات جديدة تتناسب والمفاهيم العصرية المتداولة والشائعة في استعمالاتهم ومن ذلك قولهم:

أـ البرمجـــة: بمعنى إعداد البرامج والفعل( برمج ) أيضاً بمعنى أعدّ ووضع برنامجاً، وقيل برمج يبرمج برمجة فهو مبرمج والمفعول مبرمَج أُخِذَ من الكلمة المعربة قديماً( برنامج).

ب ـ النمذجة: بمعنى صياغة النموذج والمثال و(نمذج) الفعل الرباعي المشتق منها على وزن (فعلل) اشتقاق من ىالمعّرب القديم (نموذج).

جـ ـ أكسد، يؤكسد، أكسدة، مؤكسد أشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (أكسيد).

دـ تلفن، يتلفن، تلفنة، متلفن أشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (تلفون).

2ـ المجاز: المقصود به استعمال لفظ عربي معين في معنٍ جديد مستمد من كلمة اجنبية معّربة بخلاف المعنى الذي استعمل به أول مرّة في المعاجم العربية القديمة، وقد كثرت الكلمات المحدثة مجازيا في المعاجم العربية المعاصرة كثرة نوعية تحيل بضخامة الموروث اللغوي وقوة ايحاءاته المعنوية من جهة، وتوحي بحمل مصطلح التعريب لمفهوم الترجمة عند المحدثين في حالة تعذّر تعريبه لفظياً وهو ما يسمى (التعريب بالمرادف) من جهة أخرى.

وللمجاز دور وأهمية في الوضع المصطلحي في قوله " يتحرك الدال، فينزاح عن مدلوله، ليلامس مدلولاً قائماً أو مستحدثاً. وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية. فالقضية دائرة على محور الحركة الذاتية إذ يمد المجاز أمام الفاظ اللغة جسوراً وقتية، تتحول عليها من دلالة الوضع الأول إلى دلالة الوضع الطارئ"(1)، ومما عرّبه المحدثون من الالفاظ الاجنبية مجازاً:

أ ـ تعريب كلمة ( الأسانسير) بالمصعد، وكلمة ( صالون) بالبهو، وكلمة ( بنسيون ) (بالمثوى).

ب ـ تعريب كلمة ( راديو) بمذياع وكلمة ( مكروفون) بمجهاز.

3ـ النحت: تُعدّ ألية النحت إحدى التقنيات التطبيقية لعملية التعريب، وأصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة فعّدها بعضهم ضرباً من ضروب الاشتقاق بل ضرورة علمية لنقل حقائق جديدة كانت اللغة العربية في حاجتها، وذلك نظراً لما تحققه هذه الاداة من اختزال في التعبير بغرض السهولة اللفظية وخفة النطق. ونعني بالنحت تشكيل كلمة واحدة (المنحوت) من مجموعة حروف كلمتين أو أكثر (المنحوت منه) يكون بينهما توافق في اللفظ والمعنى، ومن امثلة المعرّبة المنحوتة نجد على سبيل المثال:

ــــ افرو آسيوي نحتا من الكلمتين (افريقيا) و(آسيا)

ـــ بتروكيمياوي نحتا من الكلمتين (بترول) و(كيماوي)

ـــ كهرطيس نحتا من الكلمتين (كهرباء) و(مغناطيس)

***

اعداد: أ. م. ليلى مناتي محمود

كلية اللغات ـ جامعة بغداد

............................

المصادر:

1ـ قاموس اللسانيات (عربي ـ فرنسي / فرنسي ـ عربي، عبد السلام المسدّي، ص44 ـ45 .

18 ديسمبر

العربيَّة لُغة الشِّعر والفنون

اختارت منظمة هيئة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»، أن يكون الاحتفال باليوم العالمي للُّغة العربيّة18ديسمبر، عام: (2023م)، تحت عنوان: «العربيّة: لُغة الشِّعر والفنون»، ولا ريب في أن انتقاء هذا العنوان له دلالات متنوِّعة ومُختلفة؛ فقد احتلّ الفكر الشعري في الثقافة العربيّة مكانة مرموقة، وحظي بعناية فائقة؛ إذ أسهم في تراكُم المعرفة، وكما وُصف من لدن القدماء؛ فهو علم العرب الذي ليس لهم علم غيره، والحقّ أن الشعر يتميّز من مجموع الفنون الراقية والجميلة، بضرورة انطلاقه من مضامين فكريّة ظاهرة في صريح العبارة، وإنه ليتهيأ للمنشئ أن يؤلِّف من مواد اللُّغة كلاماً هادفاً خالياً من كل نفحة شعريّة، ولكن لا يتهيأ له بحال أن يؤلف كلاماً شعرياً من دون مضمون فكريٍّ إلى حدّ ما معقول على عكس ما يتهيأ للفنان في الموسيقى أو التمثيل(1).

ولعلّ اللّغة العربيّة أن تكون من أغنى اللّغات بالإيقاع الذي يجعلها لغةً شعريّة بالطّبيعة، ولغة شاعرة؛ كونها بُنيّت على نسق الشعر، وقد يُفهم من هذا القول كذلك، إنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وفي هذا الصدد نستحضر ما ذكرته المستشرقة الألمانية(زيغريد هونكه) بأن العرب شعب من الشعراء، في كتابها المعروف: «شمس العرب تسطع على الغرب»، وقد خصصت الفصل الخامس من كتابها للحديث عن هذا الموضوع،  وقد اكتسبت اللّغة العربيّة اسمها من الإعراب أو العُروبة أو العُروبية؛ أي الفصاحة والوُضوح والبيان، ويمنحها الإيقاع قدرة عجيبة على إنتاج العناصر الصّوتيّة؛ فإذا شِعْرُها لا يختلف كثيرا عن نثرها الرّفيع. بل ربما وجد الأديب المتمكّن، والكاتب المتضلّع من العربيّة، صعوبةً كبيرةَ في الإفْلات من مجموعات الإيقاعات التي تنثال بها عليه كالمطر الهاتن، وتتهادى من حوله كالعرائس(2).

ومهما يكن من سبب النظم؛ فإنه يكاد يقع الإجماع على أن العرب أقوى الأمم شاعريّة، وأقدرهم على الإبداع في الشعر الغنائي، ويدل على ذلك عدد الشعراء، وضروب الشعر، وكثرة الأنواع الشعريّة العربيّة، وهناك العديد من الأسباب التي أسهمت في ازدياد شاعريّة العرب؛ ومنها أن العربي يتسم بنفس حساسة وشعور راق وأريحية وأنفة، وهو سريع الطرب، وسريع الغضب، وفيه بديهة وارتجال، ومن كان هذا شأنه سرعان ما يجيش صدره بجملة من المعاني التي يلفظها لسانه، ولذلك كان النصيب الأوفر، والحظ الأكبر من الشعر العربي للشعر الغنائي والشعر الموسيقي؛ الذي يُعبّرون به عن إحساسهم ويُصورون به مشاعرهم، ويصفون بإسهاب شعورهم، وقد أرجعه العديد من العلماء إلى أحد أربعة فواعل: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغلبة، كما يرجعُ سببُ شاعريّة العرب؛ إلى أن لغتهم شعريّة نظراً لما فيها من أساليب الكناية والاستعارة ودقة التعبير وكثرة المُترادفات؛ مما يُسهِّل وجود القافية، فالعربي من أنطق الأمم، ولغته من أوسع اللُّغات ولفظها أدل من سائر الألفاظ، ومن بين الأسباب التي أدت إلى زيادة شاعريّة العرب؛ صفاء جوِّهم وتفرغهم للتأمُّل في الطبيعة، إذ أن الذين يعيشون في الجو الصافي تكون أذهانهم صافية(3)، ولاسيما إذا كانوا أهل خيال وتصوُّر مثل العرب، فيرقى الصفاء بإبداعهم الشّعريّ.

لقد كانت البادية العربيّة منبع الشِّعر، تثير أخيِلة العرب وتغذيها وتُحرك ألسنتهم؛ واتسمت لغتهم بالسعة والدقة، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحياة في البادية، وقد تميّزت تلك الأخيلة بالحُرية والاستقلال، حيث إن الإنسان العربي ينعم بمنظر الأراضي الشاسعة والمُترامية والمُمتدة أمامه كالبساط، فيجيش صدره بالشعر وينساب على لسانه عذباً سلسبيلا، نظراً لما اتصفوا به من ذكاء حاد؛ فإننا نلفي في شعرهم اللمحات الخاطفة والإشارات البعيدة، بيد أن العديد من الدارسين لاحظوا أن ذكاءهم لم يكن خلاقاً ولا مبتكراً؛ إذ أنهم يتفننون في القول دون أن يبتكروا معاني جديدة، حيث إنه خيالهم ظل لصيقاً بالصحراء، فلا يُحلق بهم في عوالم جديدة تُوحي لهم بدلالات جديدة، والحقيقة أن يتأمل خلفيات صورهم الشعريّة، ويسعى إلى الغوص في دقائق خلجاتهم النفسيّة التي هزت مشاعر الشعراء، فإنه يجدها متأثرة بشكل كبير بطباعهم وأخلاقهم أولاً، ثم تأتي بالدرجة الثانية بيئتهم الطبيعية والاجتماعية؛ وهذا الأمر أرجعه بعض العلماء إلى سلامة فطرتهم، كما اتسموا بذلاقة اللِّسان، وفصاحة النطق، وكانوا لا ينظرون إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وإن تأملوا الشيء الواحد، فإنهم يقفون فيه على مواطن خاصة قد تثير إعجابهم، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى القول إنه سبب عجزهم عن الإتيان بالقصائد القصصية المطولة والملاحم(4).

وقد أشارت جملة من المصادر العربية إلى مُبالغة العرب في الاحتفاء بالشعر والشعراء، ومن ذلك ما ذكره ابن رشيق القيرواني في: «العمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائلُ فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم»(5).

إن الشاعر موضع اهتمام كبير من لدن القبيلة، وهذا ما أشار إليه مجموعة كبيرة من المؤرخين؛ وقد اختصروا موضع الاهتمام في موضوعين رفعا من قيمة الشاعر في الحياة الجاهلية، وهما: الفخر والهجاء، فمن خلال الفخر يرفع مجد القبيلة، وهو ما تتمناه أي قبيلة في مجتمع كثر فيه التفاخر، وفي الموضوع الثاني يُنافح عن مجد القبيلة السامق، ويسعى إلى المُحافظة عليه، ويرمي إلى تعزيز انتشاره بين القبائل من خلال شعره، وقد وُصف الشاعر بأنه لسان الجماعة؛ الذي يُذيع فضائل القبيلة، عن طريق مهاجمة العدو، ومدح الصديق، ويبدو أنَّ أوّلَ ما قيل مِنْ الشّعر الجاهلي المقطّعات من أبيات قليلة يقولها الشاعر في مناسبة ما، قال ابن سلاَّم : «لم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حادثة» .  وقال ابن قتيبة : » لم يكن لأوائل الشعراء إلاَّ الأبيات يقولها الرجل عند حدوث الحاجة « . وذكر كلٌّ من ابن سلام وابن قتيبة والسجستاني بعضَ هذا الشّعر لهؤلاء الشعراء الجاهليين الأوائل.

والحقيقة أن القسم الأوفر من الشعر العربي القديم قد ضاع بعوامل مختلفة؛ ومن بينها ترك تدوينه، ويُضاف إلى هذا الأمر تشاغل الناس عن روايته بالدين والفتوحات الإسلامية، والإجماع يقع على أن أوّل الشعر العربي الرجز(6)؛ الذي يعد من أقدم الأشكال الشعريّة، فقد كان أصلاً للقصيد، وعايشه، بيد أن القصيد قد تطور بسرعة ليكتسب لغة ثقافية تخلصت في أغلب الأحيان من الخصائص اللهجية المحلية والبدوية الموروثة عن قبائل شبه الجزيرة العربية؛ فساير بذلك التحوُّلات اللُّغويّة في المراكز الحضرية الجديدة، ويقول الباحث إبراهيم أنيس عن الأراجيز: » ويحتمل أن الأراجيز كانت في الجاهلية تشتمل على صفات اللهجات العربية من كشكشة وعنعنة وعجعجة، كان فيها كل الصفات الصوتية التي فرقت بين لهجات العرب. كانت تُمثل أدب القبيلة لا أدب العرب جميعاً، يستمتع بها المرء في قبيلته ولا يكاد يستسيغ غيرها من أراجيز في القبائل الأخرى؛ فالأراجيز في العصر الجاهلي كانت تُمثل الآداب الشعبية المحلية أبدع تمثيل، وتُصور حياة القبيلة وأصحاب اللهجة الواحدة خير تصوير، ولو قد رويت لنا تلك الأراجيز الجاهلية، لحدثتنا عن كثير من حياة القبائل الاجتماعية، ولوضحت لنا تلك الروايات المبتورة المتناثرة عن اللهجات القديمة»(7).

وانطلاقاً من أن البادية بيئة الشِّعر الجاهلي؛ فقد كان الشعر مرآة للحياة البدوية، يدور حول الجمل والطلل، ومع تسجيل نبوغ عدد من الشعراء في المدن، إلا أن فحول الشعر كانوا كلهم من أهل الوَبر(سكان الخيام: البدو)، ولم يتم الاعتراف من لدن علماء الشعر في ذلك الزمن بتقدم شاعر قروي(مدني) على شعراء البادية، وبما أن الابتداء على هذا النحو؛ فمن الطبيعي أن نرى خصائص الشعر الجاهلي تدور حول البادية وما فيها، باستثناء بعض الألوان من الحضر التي عرضت في شعر شعراء ذهبوا إلى بلاطات فارس والعراق والشام، كما لاحظنا في قصائد الأعشى والنابغة، والحقيقة أن من يقرأ شعرهم، ويتأمل لغتهم، يستخرج منها جملة من الخصائص المعنوية؛ مثل الصدق حيث إن الشاعر يُعبِّر عمَّا يشعر به حقيقة مما يختلج في نفسه، ولا يتكلف في إيراده، وذلك بصرف النظر عمّا إذا كانت الحوادث التي يذكرها قد وقعت أم لم تقع، أو كان مُبالغاً فيها، فليس من الضروري مثلاً أن يكون قول عمرو بن كلثوم:

مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا  وَماءُ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا

صحيحاً، ولكن المهم بالنسبة إلى القارئ أنه كان يشعر هذا الشعور فاتسم بيته بالصدق في التعبير عن شعوره هو (8).

وقد تساءل العديد من المؤرخين والباحثين كيف بدأ العرب ينظمون الشعر؟

ويبدو أن الشعر والغناء من أصل واحد لدى جميع الأمم، وقد وُضع من أجل إنشاده والتغني به، والعرب يقولون: «انشد شعراً»، ولعل العرب قد تميّزوا بالتغني بشعرهم، وعن أصل وزن الشعر، يقول جورجي زيدان (9) : «والغالب في اعتقادنا أن الوزن مأخوذ في الأصل من توقيع سير الجمال في الصحراء، وتقطيعه يوافق وقع خطاها. ويؤيد ذلك أن الرجز أول ما استعمله العرب لسوق الجمال وهو الحُداء في اصطلاحهم، وكأنه وضع لهذا الغرض لأن العربي يقضي أكثر أوقاته في معاشرة جمله أو ناقته».

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنّابة، الجزائر

.................

الهوامش:

(1) محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية،تونس،1981م،ص: 10.

(2) عبد الملك مرتاض: نظرية القراءة: تأسيسات للنظرية العامة للقراءة الأدبية، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2023م، ص: 363.

(3) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 61.

(4) آسيا الهاشمي البلغيتي التلمساني: وصف الراحلة في الشعر الجاهلي، منشورات دار نشر المعرفة للنشر والتوزيع، الرباط المغرب الأقصى،1428 ه/2007م، ص: 11.

(5) ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، منشورات دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1974م، ص: 65.

(6) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 06، أيلول-سبتمبر1992م، ص: 74.

(7) إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر، ص: 130.

(8) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، ص: 76 وما بعدها.

(9) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 59.

 

سألني أحد أصدقائي، الذي يعمل كأستاذ جامعي في العراق، عن المعايير التي برأيي يجب أن تتوافر في الأستاذ الجامعي. أدناه، ملخص إجابتي على هذا السؤال:

1- الكفاءة الأكاديمية: يجب أن يكون لدى الاستاذ الجامعي معرفة عميقة بمجال تخصصه وموضوعات التدريس الخاصة به. يجب أن يكون قادراً على تحليل وتفسير المعلومات بطريقة متخصصة وأن يتبع المنهجيات العلمية المعترف بها.

2- الخبرة والممارسة: يفضل أن يكون للأستاذ الجامعي خبرة في مجال التدريس والبحث. يمكن تعزيز الخبرة من خلال مشاركته في المؤتمرات والندوات ونشر بحوثه في المجلات العلمية المرموقة.

3- القدرة على التواصل: يجب أن يتمتع الاستاذ الجامعي بمهارات تواصل فعالة ليتمكن من نقل المعرفة بشكل واضح ومفهوم للطلاب. يجب أن يكون قادراً على الاستماع لاحتياجات الطلاب والتجاوب معها.

4- الرغبة في التعلم المستمر: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً بمواكبة التطورات والابتكارات في مجاله الأكاديمي. يجب أن يكون مستعداً للتعلم المستمر وتحسين طرق التدريس والأساليب البحثية.

5- التفاني والشغف: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً ومتحمساً لعمله التعليمي والبحثي. يجب أن يكون قادراً على تحفيز الطلاب وتشجيعهم على تحقيق أقصى إمكانياتهم الأكاديمية.

6- النزاهة واخلاق المهنة: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً بمبادئ الأخلاق الاحترافية في التدريس والبحث. يجب أن يحترم حقوق واحتياجات الطلاب وأن يتصرف بنزاهة وأمانة. تعتبر النزاهة معيارا هاما للاستاذ الجامعي. فالنزاهة تشير إلى قدرة الأستاذ الجامعي على العمل بطريقة شفافة وأخلاقية، وعدم الوقوع في التلاعب أو الاحتيال أو الرشوة أو أي سلوك غير أخلاقي آخر. يعتبر الاستاذ الجامعي النزيه كمثال حي للأخلاق والقيم، وهذا يساعد على بناء الثقة والاحترام من قبل الطلاب والزملاء والمجتمع بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، تشجع النزاهة التحقيق الأكاديمي الموثوق به والمنصف، وتعزز سمعة المؤسسة الأكاديمية بشكل عام. لذلك، فإن النزاهة تعد معيارا هاما لتقييم أداء الأستاذ الجامعي ومدى إلتزامه بالقيم الأخلاقية والمهنية.

إن توافر هذه المعايير لدى الاستاذ الجامعي يساهم في تعزيز جودة التعليم الأكاديمي والبحث العلمي. وبالإضافة إلى ذلك، يساهم توافر هذه المعايير الضرورية لدى الأستاذ الجامعي في تعزيز روح الابتكار والتفكير النقدي لدى الطلاب، وتعزيز قدراتهم على التحليل والتفاعل الفعال مع المواد الدراسية والمعارف المستجدة. فضلاً عن ذلك، تؤدي هذه المعايير إلى تشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة في الأبحاث العلمية وتنمية مهاراتهم في إنتاج المعرفة الجديدة وإثراء مجالات البحث المختلفة. وبالتالي، فإن تحسين جودة التعليم الأكاديمي والبحث العلمي يعود بالفائدة على المجتمع ككل، حيث يمكن توظيف هذه المعرفة في تطوير الاقتصاد والتكنولوجيا وتحسين جودة الحياة بشكل عام.

مشاكل الترقيات العلمية:

1- ارتباط الترقية العلمية (الاكاديمية) بالترقية الوظيفية (الراتب) ارتباطا وثيقا.

2- انها تمنح البحث العلمي اهمية اكبر من التدريس وخدمة المجتمع، وبما اننا بلد ضعيف في البحث العلمي وبلد كبير في التزوير والفساد فانها تنتج عن ترقيات كثيرة للمفسدين والفاسدين.

3- لا تاخذ الترقيات العلمية بنظر الاعتبار نوعية العمل الاكاديمي والتدريسي ونوعية الانتاج العلمي.

4- ان البحث العلمي يعتمد على فلسفة النشر في مجلات علمية "محكمة ورصينة" مما يفتح المجال للتزوير والافتراس بدلا من الاعتماد على فلسفة النشر المجاني اي النشر في المجلات المجانية لكونها مجلات حقيقية.

5- انها مبنية على احقية التدريسي في الترقية اذا ما جمع عددا معينا من النقاط المبنية على اساس مساهمات محددة وليس على المنافسة واحقية الفائز/الفائزين في الترقية على حسب وجود الشواغر الاكاديمية.

6- لا تتطرق تعليمات الترقيات العلمية ولا تعديلاتها الى الفساد والافتراس الاكاديمي وتتجاهلهما وكانما لا وجود لهما فلذلك تجده وكانه نظام ترقيات في دولة وجامعات لا ينخرها الفساد ولم يضع اية قواعد للنزاهة كمثل وضع شرط انه في حالة تقديم بحث يثبت انه مفترس او حتى يشك في نزاهته يسقط طلب المتقدم في الترقية الا اذا تقدم التدريسي باثباتات كاملة على نزاهة الانتاج.

7- ان التقييم يعتمد على لجان محلية ونادرا ما حشر مقيم اجنبي في العملية، على عكس ما هو موجود ومتعارف عليه في جامعات الدول المتطورة خصوصا للترقيات الى درجة البروفسورية، بالاضافة الى اعتمادها على تقييم الانتاج الكلي للمتقدم وليس فقط تقييم بحوثه او واجباته.

***

د. محمد الربيعي

لا ينجو أيُّ كلام من متاهات الاحتمال مهما حاول صاحبُه أن يُتقنه أو يُحكم صنعَه حتى النص القرآني الذي استبعده الإمام علي بن أبي طالب (ع) من دائرة الاحتجاج معتذراً بأنَّه حمَّال أوجه على الرغم من أنَّ طرفي المخاصمة قريبو عهد بنزوله إلا أنَّ قدرة الاحتمال على زعزعة اليقين الانسانيّ وخلخلة الاطمئنان القلبي دفعته للاستدلال بغير القرآن.

والاحتمال آفة الاستدلال، لذلك قالو " اذا دخل الاحتمالُ بطُل الاستدلالُ، إذ تتصاغر أمام الاحتمال قوةُ الإنسان العقليةُ وتضعف قدرتُه الذهنية ويقصُر إدراكُه وكأنَّ الاحتمال خُلِقَ ليُظهر للانسان عدمَ استطاعتِه وحدودَ إمكانه؛ ليتجلى مقدارُعجزه له بأوضح صوره .

فلا يمكن لأي إنسان أن يسد منافذ الاحتمال عن كلامه ويوصد أبوابه عنه مهما أُوتي من العلم والإمكان في ساعة نطقه وأوان قوله، أمّا إذا روتْه الألسن وتناقلته الكتب، فلا ريب في دخوله تحت سلطة الاحتمالات وإمكانات التأويل بلا حد ولا نهاية .

والاحتمال يتجلى بالسؤال ويظهر بالاستفهام . وهذا يعني أنَّه هو الذي يغذي علم السؤال (الجدل) ويزيد في قدرته ويعظم في سلطته وسطوته، فالسائل الجدليّ يبحث عن الاحتمالات الناقضة لأي فكر أو نص ليتخذ منها منفذا للطعن ومدخلا للإشكال وعذرا لعدم التصديق والاطمئنان، ومن هنا تبدو العلاقة بين الاحتمال والسؤال علاقة وثقى .فالسؤال يوّلده الاحتمالُ، والاحتمالُ يظهر متخفياً بالسؤال.

واللغة في ذلك كله وسيلة الاحتمال ومادته فهي التي تخرجه من العدم الى الوجود؛لأنَّها تفتح له المنافذ وتشق له المسالك وتمهد له الطريق وتنير دربه وفي الوقت نفسه هي التي تمنحه أداوت التساؤل وكيفياته وأنماطه وأساليبه، أي أنها تصنع للاحتمال مظاهره وأشكال ظهوره؛ لأنَّ اللغة ملك عام كالمصارف العامة يدّخر فيها كل متكلميّها ما يمتلكون من معان ودلالات .فالكلمات خزائن معاني أهل اللغة، فاذا ما استعمل الفرد مجموعة من الالفاظ، فهو يستعمل ما يشترك معه فيه غيرُه، وهذا هو الزند الذي تقدح به اللغةُ نارَ الاحتمال في أيّ نصٍ مهما كانت بلاغة صاحبه، وقدرته اللغوية حتى يبدو النص مفازةً في ليلة ظلماء يتيه فيها القارئ.

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

المقدمة: الاقتصاد المعرفي: هو تطبيق المعرفة والابتكار في عمليات الإنتاج والتوزيع الاقتصادية، ويُعتبر الاقتصاد المعرفي نموذجًا اقتصاديًا حديثًا يعتمد على القدرة على خلق وتبادل المعرفة والابتكار كمحرك رئيسي للنمو والتنمية الاقتصادية.

أن الوصول إلى الاقتصاد المعرفي في العالم العربي يعد تحديًا كبيرًا، ويحتاج إلى بنية تحتية قوية تدعم الابتكار وتطور المعرفة وتبادلها، ومع ذلك، تعاني العديد من الدول العربية من نقص في التطوير التكنولوجي والبنية التحتية التكنولوجية، مما يعوق الانتقال إلى الاقتصاد المعرفي بشكله الكامل .

ويعُّرف اقتصاد المعرفة: أنه منظومة اقتصادية قائمة على ابتكار منتجات وخدمات بأسلوب علمي حديث، حيث يستفيد من الاكتشافات العلمية والدراسات، ويعتبر ذلك النسق أكثر شيوعاً في الاقتصادات المتطورة .

وبينما تميل دول العالم الثالث إلى إيلاء الاهتمام على الزراعة والتصنيع، تركز الدول المتطورة أكثر على المبادرات الاستثمارية القائمة على المعرفة، مثل الأبحاث، والدعم التقني، والاستشارات.

ومن الممكن توضيح مفهوم اقتصاد المعرفة بكونه سوقًا لإنتاج وبيع الاكتشافات العلمية والهندسية، حيث يمكن تغيير المعرفة إلى منتجات في طراز براءات اختراع أو غير ذاك من أنواع تأمين الحقوق الفكرية، ويعتبر منتجو مثل تلك البيانات كمثل المختصون العلميين، ومختبرات الدراسات جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد المعرفة.

وقد بات الاستثمار الدولي أكثر اعتماداً على المعرفة بفضل العولمة، التي أسهمت في انتشار أفضل الإجراءات الاستثمارية التي تطبقها كل دولة .

أولاً: طرق الوصول الى المجتمع المعرفي

واحدة من المشكلات الرئيسية التي تواجه العالم العربي في الوصول إلى الاقتصاد المعرفي هي نقص الاستثمار في البحث العلمي والتطوير، حيث لا تُخصص الكثير من الدول العربية الميزانية الكافية للاستثمار في مجال البحث والتطوير، مما يؤثر سلبًا على قدرتها على التطور التكنولوجي والابتكار.

بالإضافة إلى ذلك، يعاني عالمنا العربي من ضعف البنية التحتية اللازمة لدعم الاقتصاد المعرفي، والتي تحتاجها الشركات والمؤسسات للوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخدمات الإنترنت، والبرمجيات الحديثة، لتمكين عمليات الابتكار وتبادل البيانات، وهو ما يعد من نقاط التخلف في العالم العربي.

علاوة على ذلك، هناك أيضًا نقص في القوى العاملة المهارة في العالم العربي، أذ تعاني العديد من البلدان العربية من نقص في التعليم والتدريب اللازمين لتطوير المهارات اللازمة للاقتصاد المعرفي. وهذا يؤثر على قدرات الدول العربية على استيعاب وتطبيق التكنولوجيا والمعرفة الجديدة في عمليات الإنتاج والتوزيع.

ومع ذلك، هناك بعض الجهود التي يتم بذلها في العالم العربي للوصول إلى الاقتصاد المعرفي، أذ يتم تشجيع التعليم العالي وتطوير البنية التحتية التكنولوجية في العديد من الدول العربية، من خلال أنشاء المزيد من المراكز البحثية والتكنولوجية لتعزيز الابتكار ونقل التكنولوجيا.

ومن الأمثلة على ذلك، قامت دبي في الإمارات العربية المتحدة بتطوير تجربة "دبي الذكية"، حيث تهدف إلى توظيف التكنولوجيا الحديثة وتعزيز الابتكار لتحسين جودة الحياة في المدينة، وقد تم تُعمَّم هذه التجربة في العديد من الأماكن الأخرى في العالم العربي.

بالخلاصة، أن الوصول إلى الاقتصاد المعرفي في العالم العربي لا يزال يواجه تحديات كبيرة تتطلب هذه التحديات استثمارات أكبر في مجال البحث والتطوير وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، وتعليم وتدريب عالي الجودة، مع اتخاذ هذه الإجراءات، يمكن للعالم العربي أن يستغل التطور الهائل الذي يشهده عالم الذكاء الاصطناعي ويحقق التنمية الاقتصادية المستدامة.

ففي أرجاء العالم يعكف المشرّعون على دراسة الخيارات المتاحة أمامهم لسنّ قواعد لإدارة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وضبط بعض استخداماته المثيرة للقلق والهواجس، ويبدو مرجحاً أن يكون الاتحاد الأوروبي أول منطقة تتبع شكلاً من أشكال الرقابة والتنظيم في مسألة الذكاء الاصطناعي التوليدي.

أولا: الاقتصاد المعرفي العربي

يعتمد الاقتصاد المعرفي بشكل أساسي على العنصر الرئيس المتمثل في المعرفة، فما زالت المنطقة العربية تفتقر إلى توفر هذا العنصر، مما يجعلها متخلفة عن الاندماج في اقتصاد المعرفة العالمي، لذا يجب خلق مجتمع معرفي في المنطقة العربية يتسم بمنظومة مجتمعية قادرة على إنتاج ونشر المعرفة.

إقامة مجتمع المعرفة في المنطقة العربية يعد مطلبًا ضروريًا لتأسيس نمط جديد لإنتاج علمي يحل محل نمط الانتاج الريعي، الذي يعتمد بشكل أساسي على استخلاص المواد الخام، وخاصة النفط، لتمويل مشاريع التنمية الاقتصادية، ومن خلال تحليل رأسمال المعرفي في المنطقة العربية وقدرات الطلب على المعرفة، يظهر وجود فجوة كبيرة في المعرفة .. يجب أن يعالجها القائمون عليه .

يتطلب من المجتمع العربي دورًا تعاطفي في اكتساب المعرفة وتشكيل هيكلها المجتمعي وأدائها في مجالات الاقتصاد، و يجب على المجتمع العربي زيادة التركيز على المعرفة في حياتنا اليومية لزيادة عدد الأفراد العاملين في المجتمع المعرفي، كذلك تسريع إنتاج وتوظيف المعرفة في المنطقة العربية بمعدلات أسرع من تلك التي سادت في بداية تطور المعرفة في المجتمعات الأخرى.

إن جميع الدول تسعى لإقامة مجتمع المعرفة، لأن العائد التنموي ينخفض في المجتمعات التي يقل فيها اكتساب المعرفة، وهكذا نشأت الدول النامية، بدءًا من الدول العربية، التي لم تحقق التقدم والنمو الاقتصادي على الرغم من السياسات التي اعتمدتها، إذ كانت تعجز عن اكتساب المعرفة وتحويلها إلى قوة اقتصادية قادرة على تحقيق التنمية.

اليوم الكثير من الدول العربية أثبتت حرصها على استغلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من خلال اتخاذها تدابير تشريعية واضحة في هذا الصدد، وانطلقت جهود الدول العربية من أجل دراسة استخدامات التقنية بشكل أفضل وعلى نطاق أوسع، إضافة إلى دراسة الفوائد المرجوة والأخطار المحتملة لها.

ومن هذا المنطلق، تعتبر- الإمارات العربية المتحدة - واحدة من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث أنشأت أول وزارة عالمية للذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى مجلس الذكاء الاصطناعي والبرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي، والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي.

وفي – السعودية - أيضًا، تم تشكيل هيئة خاصة تعنى بالذكاء الاصطناعي، بجانب وجود استراتيجية وطنية متعلقة بالبيانات والذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف البحث عن طرق استخدامها بالشكل الأمثل. هذه الجهود التشريعية تعكس التزام الدول العربية بتطوير الذكاء الاصطناعي وتنظيم استخدامه بطرق فعالة ومسؤولة. بالإضافة إلى ذلك، تعزز هذه الجهود بيئة تشجع على الابتكار وتعزز التطور التكنولوجي في المنطقة.

ثانياً: واقع المنطقة العربية الراهن

1- تتميز المنطقة العربية بأنها تجمع بين الدول الغنية المتقدمة، والدول متوسطة الدخل، والدول الفقيرة، والدول الأقل تطوراً، وبذلك تضم المنطقة العربية بلداناً تندرج ضمن التصنيفات الأربعة للتطور الاقتصادي، مما ينعكس على قطاعات الاتصالات والصناعة والزراعة .

فإذا نظرنا إلى منطقة الخليج العربي على سبيل المثال، لرأيناها من أوائل المناطق العالمية التي أطلقت شبكات الجيل الخامس، ولوجدنا كذلك أنها في طليعة بلدان العالم من نواحٍ كثيرة تشمل النفاذ إلى الألياف الضوئية، والإنترنت عالي السرعة، والتحول إلى الحكومات الإلكترونية، والتحول إلى الاستخدامات الإلكترونية، والتحول إلى التجارة الإلكترونية.

في المقابل ثمة دول أخرى في المنطقة لا يوجد لديها شبكات الجيل الرابع مثلاً، وتفتقر إلى سرعات الإنترنت العالية، والأمر المؤسف أن منطقتنا تضم دولاً تعاني من حروب وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، كسوريا والسودان واليمن وفلسطين ولبنان.

2- ومن هذا المنطلق يسعنا القول إنّ الحلول تختلف باختلاف المشكلات لدى تلك الدول، فعلى سبيل المثال تدرك المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى أنّها تشهد نمواً سكانياً في هذه الفترة، وتعلم جيداً أنّ لديها مجتمعاً فتياً متعلماً، لأجل هذا تسعى تلك الدول إلى فتح آفاق الاستثمار وتوفير فرص عمل جديدة.

ولهذا أولت الدول الخليجية تركيزها لتنويع موارد الاقتصاد بحيث لا تعتمد على النفط فقط، مما استدعى منها تحرير سوق العمل وفتح مجالات الاستثمار، واعتمد ذلك على ركائز أساسية هي التحول الرقمي الحكومي ووجود قطاع اتصالات قوي، فهذان الأمران مهمان جداً للتحول نحو مجتمع الاقتصاد المعرفي.

-3 لقد عكست نتائج مؤشر المعرفة العالمي/ 2023، حالة من التباين بين دول تتخلف عن الركب وأخرى تواصل خطواتها نحو بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ومن بين 133 دولة يغطيها المؤشر، حلت الإمارات في المرتبة الأولى عربيا والـ 26 عالميا، وقطر في المرتبة التاسعة والثلاثين تليها مباشرة السعودية ثم لحقتها الكويت في المرتبة الـ 44 .

ووفق خبراء، فإن التحول الرقمي نحو الاقتصاد الجديد في المنطقة العربية يُولد قيمة اقتصادية جديدة في عدة قطاعات من بينها قطاع الصحة، فيما يتطلب الأمر خلق توازن بين التقنيات الحديثة والطاقات البشرية سيما مع تطور التطبيقات التكنولوجية المستقبلية ومساعي دمج التقنيات المادية والرقمية والحيوية.

أما في دبي، ووفق خطط السنوات العشر المقبلة، فإن أجندتَها الاقتصادية تهدف لمضاعفة حجم اقتصادها وتنفيذ 100 مشروع تحولي مستقبلي ودعم نمو 30 شركة في القطاعات الجديدة لتكون شركات يونيكورن عالمية، فيما متوقع أن يضيف التحول الرقمي الحالي 100 مليار درهم لاقتصادها سنوياً.

كما يشار إلى أن مؤشر المعرفة العالمي هو أداة تركز على التحديات وسبل التطوير لتنمية مستدامة للمجتمعات، ويتكون من سبعة مؤشرات فرعية مركبة تركز على أداء ست قطاعات منها التعليم وتكنولوجيا المعلومات، والبحث، والتطوير، والاقتصاد.

ثالثاً: التطورات التكنلوجية

تلعب المؤسسات الأكاديمية دورًا أساسيًا في اقتصاد المعرفة، فهي تعمل على توليد المعرفة الجديدة من خلال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، ومن خلال توفير التعليم العالي والتدريب التقني، تساهم هذه المؤسسات في تطوير مهارات العاملين وزيادة إنتاجية القوى العاملة في مختلف القطاعات.

بجانب ذلك، تعتبر الشركات المشاركة في البحوث والتطوير جزءًا هامًا في اقتصاد المعرفة، فهي تعمل على تحويل نتائج البحوث الأكاديمية إلى منتجات وخدمات عملية قابلة للتسويق، بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية، تعزز هذه الشركات الابتكار وتطوير التكنولوجيا وتحفز النمو الاقتصادي.

أما المبرمجون الذين يطورون برامج جديدة فهم أيضًا ركيزة أساسية في اقتصاد المعرفة، فهم يعملون على تصميم وتطوير البرمجيات والتطبيقات التي تحسن العمليات وتمكِّن الشركات من تحقيق التنافسية العالية في السوق، يستعين هؤلاء المبرمجون بالمعرفة والمهارات التقنية لتحويل الأفكار إلى حقيقة ومنتجات رقمية مبتكرة.

بالإضافة إلى ذلك، يسهم العاملون في مجال الصحة الذين يستخدمون البيانات في تحسين العلاجات في اقتصاد المعرفة، من خلال تحليل البيانات الصحية وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، يمكن لهؤلاء العاملين تحسين الرعاية الصحية وتقديم علاجات أفضل وأكثر فاعلية للمرضى.

إذًا، جميع هؤلاء المشاركين في اقتصاد المعرفة - المؤسسات الأكاديمية، الشركات المشاركة في البحوث والتطوير، المبرمجون الذين يطورون برامج جديدة، والعاملون في مجال الصحة - يعتبرون أنهم مكونات أساسية في دعم هذا النوع الجديد من الاقتصاد.

وعلى الرغم من صعوبة تحديد قيمته بدقة، إلا أنه يمكن الوصول إلى تقدير قيمته الاقتصادية من خلال قياس قيمة بعض مكوناته الرئيسية.

- ووفقاً لمؤشر المعرفة العالمي تحتل سويسرا المرتبة الأولى في قائمة الدول التي لديها أكبر اقتصاد معرفي، تليها السويد والولايات المتحدة الأمريكية.

- ويصنف المؤشر الدول في هذا الإطار بناءً على عدة عوامل من بينها مستويات التعليم، الابتكار، تكنولوجيا الاتصالات، والتدريب التقني والمهني.

مثال على ذلك

توجد بعض التطورات التكنولوجية التي تسمح بمعالجة مشكلة المناطق الوعرة، فعلى سبيل المثال: إذا كان لدينا مدينة مكتظة بالسكان الذي يعيشون في عمارات مرتفعة، فمن السهولة استخدام الألياف الضوئية في عملية الاتصال بالإنترنت.

في المقابل إذا كان لدينا مناطق جبلية وعرة غير مكتظة بالسكان ومتباعدة المنازل، لا تعد الألياف الضوئية أفضل الوسائل المناسبة لتوصيل الإنترنت عالي السرعة إليها، لكن شبكات الجيل الخامس، وتكنولوجيا الوصول اللاسلكي الثابت (Fixed wireless access)، يتيح تزويد تلك المناطق بإنترنت عالي السرعة بنفس مواصفات وقدرات الألياف الضوئية.

ولا شكّ أنّ هذا الأمر من مميزات شبكات الجيل الخامس واستخداماتها الأساسية، فهي توفر للمستخدمين اتصالاً سريعاً بشبكة الإنترنت مشابهاً لمواصفات الألياف الضوئية، مما يساهم في توفير النفقات أولاً، وإتاحة خدمة الإنترنت للمناطق الوعرة وغير المكتظة بالسكان ثانياً .

رابعاً: اللغة قد تكون مشكلة

اللغة هي وسيلة اتصال أساسية بين البشر، وتلعب دورًا مهمًا في الأعمال والتجارة والعلوم، إن تطور التكنولوجيا وظهور الذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة قد غيرت تفاعلنا مع اللغة وتأثيرها على الاقتصاد المعرفي، ويعد التفاهم اللغوي واستخدام اللغة كوسيلة توجيه المعلومات وتبادلها أمراً حيوياً في المجتمع الحديث .

1- اللغة والتفاهم اللغوي:

* التواصل عبر اللغة هو المفتاح لفهم الغير وتبادل المعرفة والأفكار.

* اللغة تساعد في تنظيم الفكر والمعرفة وتحويلها إلى معلومات.

* اللغة تساهم في بناء العلاقات والثقة بين الأفراد والشركات والدول.

2- اللغة والتجارة:

* تساعد اللغة في تسهيل التجارة والأعمال العالمية.

* يجب أن تكون لغة مشتركة عالمية حتى يتمكن الأفراد والشركات من التفاهم وتبادل المعلومات بسهولة.

* توظيف العاملين الذين يجيدون لغات متعددة لمؤسسات الأعمال العالمية.

3- اللغة والعلوم والبحث العلمي:

* اللغة مهمة في عملية نقل الأفكار والاكتشافات العلمية.

* تساعد في تأليف البحوث العلمية والمقالات والكتب.

* تسهم في تواصل العلماء والباحثين من مختلف الدول.

4 - اللغة والذكاء الاصطناعي:

* ظهور الذكاء الاصطناعي غير طرق تفاعلنا مع اللغة.

* يتم استخدام اللغة كوسيلة لتعلم الروبوتات وتفاعلها مع البشر.

* يتم استخدام تقنيات مثل معالجة اللغة الطبيعية والترجمة التلقائية في تطوير الذكاء الاصطناعي.

5- عندما تفكر بالسفر إلى اليابان، فإن أول ما يشغل بالك هو كيفية التواصل مع سكان البلد، كحاجة إنسانية أساسية للتعايش.. فعلى مدار التاريخ وجد كل مجموعة من البشر طريقة للعيش مع بعضهم تُدعى "اللغة"، ليصل عدد اللغات حول العالم إلى أكثر من 6500 لغة.

الأمر نفسه لا بُدّ أن يحدث مع الأدوات التكنولوجية المتاحة بين أيدي البشر، إذ يبحث الفرد عن اللغة الأسهل له في التعامل مع التقنيات الحديثة، ولكن في الأغلب لا يجد سوى لغات معدودة يضطر إلى التكيّف معها، أو تعلُم القليل منها.

لذا يعمل المبتكرون على توفير حلول تكنولوجية تساعد على تسهيل الحياة اليومية للناس وتسهل التواصل، فقد ظهرت تطبيقات التراسل النصي التي تسمح بإرسال رسائل صوتية، ونحن الآن على وشك رؤية ظهور أجهزة إلكترونية بدون لوحات مفاتيح وفأرة وأدوات واجهة المستخدم التقليدية .

في هذه الحالة، يعتمد التواصل على التواصل الشفوي، وذلك بفضل تطور تقنية التعرف التلقائي على الكلام، والتي تسمح للأجهزة بتحويل الكلمات المنطوقة إلى نص مكتوب يمكن استخدامه في التواصل والبحث وحتى الشراء، ومع ذلك، تبقى مشكلة اللغة عقبة أمام استخدام هذه التقنية بالكامل.

خامساً: الاستنتاجات

يعتبر الاقتصاد المعرفي مجالًا حديثًا نسبيًا في علوم الاقتصاد، أذ يركز على دور المعرفة والمعلومات في تطور ونمو الاقتصاد، وبالنظر للتحولات الاقتصادية السريعة التي يشهدها العالم في الوقت الحالي، فإن النقاش حول الاقتصاد المعرفي وأهميته يعد ذا أهمية بالغة.

سنتناول أهم الاستنتاجات التي توصل إليها البحث في مجال الاقتصاد المعرفي:

1 - أبرز استنتاجات بحث الاقتصاد المعرفي:

* رأس مال المعرفة: الاعتراف بدور المعرفة والمعلومات كمصدر للقوة الاقتصادية.

* الابتكار والمشاركة: أهمية التعاون والتفاعل بين الأفراد والمؤسسات لتطوير القدرات المعرفية وتعزيز التنمية الاقتصادية.

* مجتمع المعرفة: تعزيز التعليم والتعلم كأدوات لتأهيل وتطوير القوى العاملة.

* الابتكار الاجتماعي: دور الابتكار في حل المشاكل الاجتماعية والبيئية وتحسين جودة الحياة.

2- إمكانية الوصول إلى مجتمع معرفي من خلال:

* تعزيز التعليم وتطوير المهارات: تركيز على رفع مستوى التعليم وتعلم المهارات الأساسية والتكنولوجية.

* تشجيع الابتكار والبحث والتطوير: إيجاد بيئة داعمة للابتكار وتشجيع البحث العلمي وتطوير المنتجات والخدمات.

* الاستثمار في البنى التحتية: توفير البنية التحتية اللازمة لتطوير المعرفة وتنمية القدرات الاقتصادية.

* تحسين التواصل والتعاون: تشجيع التعاون بين جميع الفئات والمؤسسات لتبادل المعرفة وتنمية القدرات.

بعد تحليل بحث الاقتصاد المعرفي والنقاش حول إمكانية الوصول إلى مجتمع معرفي، يمكن القول بأنه من الممكن تحقيق تحول اقتصادي يستند على المعرفة والابتكار، ومن أجل ذلك، ينبغي على الحكومات العربية أن تبذل جهودًا مستمرة لتعزيز التعليم وتطوير المهارات، وتشجيع الابتكار ومشاركة المعرفة وتحسين البنى التحتية المعرفية.

و يجب أن يكون هناك تعاون شامل بين الأفراد والمؤسسات والحكومات لتحقيق مجتمع معرفي قادر على تحقيق التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة للجميع.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

.......................

المصادر:

1. الكفاءات العرفانية. منشورات هارفارد بزنس بريس.

https://arabianpdfbooks.info/ktb_qwt_ldf_lshby_lhr-hrfrd_bzns_ryfyw_l_dd_21_10272.htm.

2. Landfall، B. 1992)). الابتكار والنمو الاقتصادي. دراسات في الاقتصاد والسياسات.

3. Foray، D. 2004)). الاقتصاد المعرفي: المعرفة والابتكار في الدورة الاقتصادية. دار النشر لندن.

4. World Bank. 2019)). تقرير البنك الدولي حول التنمية العالمية: المجتمعات المعرفية. صحافة البنك الدولي.

5. Caravans، E. G.، & Campbell، D. F. 2009)). القرن الحادي والعشرون للابتكار: العمل عبر الحدود لتحقيق التنمية والمجتمعات المعرفية. مجلة الابتكار والتعلم الديناميكي.

6. Soete، L. 2008)). التحول إلى مجتمع المعرفة: دور الاعتماد والتنظيم. إدارة الابتكار والتكنولوجيا.

7. موقع الحدث الاقتصادي/ الاقتصاد المعرفي وإمكانيات الوصول الى مجتمع معرفي/ د. أحمد عمر الراوي. https://almadapaper.net/sub/03-622/p19.htm.

8. CNBC عربية / أين الدول العربية في مؤشر المعرفة العالمي للعام 2023، الخميس 23 نوفمبر 2023. https://www.cnbcarabia.com/116442/2023/11/23/.

قبل أربع سنوات تقريباً، نشرتُ مقالة مناسباتية استعرضت فيها سريعاً كتاباً جديداً للباحث خزعل الماجدي حمل عنواناً هو "أنبياء سومريون - كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟ "رابط التحميل 1. وقد أطريتُ الكتابَ وقيَّمتُهُ إيجابياً بشكل لا يخلو من تسرع وابتسار اعتماداً على ثقة مفترضة بما كتبه المؤلف وعرضه من أفكار وأرفقه من مقتبسات وتوثيقات. وقبل أيام قليلة قرأتُ كتاباً لمؤلف تونسي متخصص هو الآخر في تأريخ الأديان المقارن، وذي توجهات إسلامية سلفية كما يبدو، هو سامي عامري وعنوان كتابه "سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء". والكتاب متوفر بنسخة رقمية مجانية على الانترنت/ رابط التحميل 2. وبعد قراءتي لهذا الكتاب يهمني أن أسجل الملاحظات التالية كنوع من الشهادة الشخصية:

1-أسجل إدانتي ورفضي للغة السجالية المزدرية والعنيفة وذات النزعة التكفيرية الواضحة ضد مؤلف الكتاب المنقود السيد الماجدي، التي اعتمدها السيد عامري وآخرون يشاركونه النزعة ذاتها - منهم أحد نجوم الميديا السلفية على منصة "يوتيوب" هو هيثم طلعت -  في ما يشبه الحملة التي أخرجت النقاش من سياقه المنهجي النقدي المطلوب إلى سياق أيديولوجي تكفيري يضج بالتحريض والتشنيع والمبالغات التي طغت على الصوى والفقرات المفيدة والاعتراضات المبررة والموثقة وهي كثيرة في متن الكتاب وسأدرج بعضا منها في نهاية هذه المقالة على سبيل التوثيق.

2-بعد الاطلاع على العديد من المعلومات التخصصية الموثقة التي وردت في كتاب عامري، وخصوصا ما تعلق منها بالترجمات عن اللغات القديمة كالعبرية التي لا أجيدها، ويبدو أن الماجدي لا يجيدها أيضا، ولكنه اعتمد على ترجماتها إلى اللغات الأوروبية غير الدقيقة، وبطريقة توثيق المقتبسات والسوابق التأليفية في هذا الموضوع في الماضي والتي أهملها الماجدي فلم يُشر إليها أو يتوقف عندها تأليفياً بل وزعم أن فكرة الكتاب فكرته الشخصية لم يسبقه باحث آخر إليها، أسجل هنا أيضاً أسفي لأنني تسرعتُ في إطلاق تقييمات وأحكام ظهر أنها مبالَغ في إيجابيتها على كتاب الماجدي، وسوف أحرص مستقبلاً على الاستفادة من هذه التجربة فلا أعول على ثقة مفترضة بل على النصوص وتوثيقاتها ومصادرها وسياقها التاريخي، وهل سبق وأن طرحها كُتّاب آخرون من قبل أم لا!

وبناء على ما سبق أرى أن من المفيد التوقف نقدياً مجدداً عند كتاب الماجدي من قبل أهل الاختصاص في ضوء ما أثير حوله من ملاحظات وتحفظات ونقود ذات طابع علمي بعد استبعاد التعبيرات ذات الطابع السجالي والنزعة التكفيرية الهاجية كتلك الواردة في كتاب عامري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

* يقول عامري في مقدمة كتابه إن "الرسالة من هذا الكتاب هي اتهام التوراة اليهودية والقرآن باقتباس خرافات الأولين. ص 24".  ويضف عامري: "ومن يقرأ كتب خزعل - كذا-  لن يفوته أنه من الممكن اختصار حالها في عبارتين: تلخيص ماهو متاح في المكتبة العربية وبعض الترجمات إلى لغة الضاد - دون إحالة في الغالب إلى لغة الضاد - مع شطحات معرفية في قراءة التأريخ. والملخصات لا تصنع عالِما. ويمثل ضعف إطلاع خزعل على المكتبة الغربية، وغفلته عن آخر الإصدارات وأبواب السجال الدقيقة بين المحققين، من أعظم أسباب هامشية حضوره العلمي على الساحة - ص 25".

نلاحظ هنا إصرار عامري على تسميه الباحث الماجدي باسمه الأول (خزعل) مرارا وتكرارا، بما يؤكد أنه يتقصد ذلك، خلافا للياقات السجالية السائدة بين الكتاب. وبما يعبر عنه هذا الإصرار من نزعة ازدراء وتحامل وعدم احترام تصل إلى درجة قلة الأدب، وخصوصاً حين يصف الطرف الآخر وزميله في الاختصاص والشهادة العلمية بأنه "حرامي غسيل" على ص 31، ولا ندري كيف سيشعر د. عامري لو دأبنا على تسميته "سامي" في عبارات من قبيل "قال سامي، ويعتقد سامي، وسامي هذا مجرد حرامي غسيل...إلخ"! واللافت أن محرضاً سلفياً آخر هو المصري هيثم طلعت يشاركه هذا الأسلوب الممجوج في السجال بل إنَّ هذا الأخير فاقه في الفظاظة حين لجأ عدة مرات في فيديواته إلى تشويه صوت الماجدي وصورته بشكل كاريكاتيري شديد الابتذال ولا علاقة له بأي منهج في النقد والدحض والتفنيد.

*أما على الصعيد المنهج النقدي فنلاحظ أن عامري يضع السجال الفكري مع كتاب الماجدي في سياق آخر غير سياقه الحقيقي ويعطيه هدفاً آخر غير هدفه المعلن والمتوخى. فهو ينقله إلى سياق الصراع بين الإيمان الديني ممثلا في التوراة والقرآن والناطق باسم هذا الإيمان وهو السيد عامري نفسه، والكفر والإلحاد ممثلا بالكُتاب والكتب التي تزعم الأخذ بالمنهج العلمي الحديث وأدواته وأساليبه ومنها كتاب الماجدي. وعامري بهذا يوحد بين التوراة والقرآن مع ما بينهما من اختلاف واتهامات قرآنية لليهود بتحريف التوراة بدليل نص الآية قرآنية (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ). معتبراً أن الكتب الدينية المقدسة كتباً علمية تأريخية أو ينبغي على الناس كافة أن تعتبرها هكذا، فلا يكتفي بأن يؤمن هو بذلك بل يريد إجبار الناس ومنهم العلماء والباحثون في عصرنا على الأخذ بهذا الاعتبار والتخلي عن العلوم الحديثة ومناهجها، بل هو يُخْرِجُ مخالِفَهُ في هذه القضية الفكرية من الملة والدين فلا يعتبره مسلما، وهو بهذا ينكر عمليا حتى التفريق الوارد في القرآن بين المسلم المؤمن والمسلم غير المؤمن، فهو يكتب مثلا أن خزعل الماجدي (لا يجد حرجا في أن يقول إنه من "المسلمين"). بكلمات أخرى فهذا النوع من "النقد" ينقل السجال من ميدان البحث العلمي إلى الصراع الديني الإلحادي بما يحمله من تكفير يؤدي إلى إهدار دم المخالف وتطليقه من زوجته رغم أنفيهما كما حدث مع الباحث الراحل نصر حامد أبو زيد وفراره من بلده إلى بلد أجنبي حتى وفاته، وما إلى ذلك من تداعيات الخطاب التكفيري الداعشي المعاصر.

*إضافة إلى ما سبق فإن عامري لا يكتفي في استنباط الأدلة على "كفر وإلحاد" الماجدي من كتابه المنقود بل هو يلجأ إلى الاستعانة بأطراف أخرى لا علاقة للمؤلف بها، فيقدم لقارئه حزمة من انطباعات وتعليقات عدد من متابعي الماجدي على صفحته على مواقع التواصل يعبرون عن قناعاتهم وآرائهم وإعجابهم بكتاباته. وهي تعليقات بسيطة إلى درجة السذاجة أحياناً من أناس ليسوا غالبا أهل اختصاص أو ثقافة عامة جيدة بل مجرد قراء بسطاء، يُعجَبون ويُدْهَشون بما يقرأون لأول مرة، فما مسؤولية الماجدي عن ذلك ليحكم عليه عامري بالقول إنه "كاتب صنع منه الملاحدة و"اللادينيون" العرب أيقونة للمعرفة/ ص 26"؟ أعتقد أن هذا الأسلوب لا يليق بباحث يحمل شهادة أكاديمية رفيعة كالدكتوراة في مقارنة الأديان بحق زميل له يحمل الشهادة ذاتها في تخصص قريب من تخصصه، وبغيتهما المفترضة مقاربة الحقيقة، بل بشتامٍ وهجّاء يريد إرواء تعطشه لمحق الخصم أو الزميل المنقود وإقصائه من المشهد الثقافي والعلمي، وهو بهذا ينأى عن تقاليد الكتابات الإسلامية النقدية العميقة ذات اللغة الدمثة والرصينة والتي عرفناها عند باحثين إسلاميين محترمين من أمثال فهمي هويدي وعبد الوهاب المسيري وآخرين، لا يَفْجُرون عند الخلاف، وينصفون المخالِفَ حيث وجب الإنصاف فلا يقدحون في أخلاقه وكرامته الشخصية.

* أعتقد أن الخاسر الأكبر من هذه الأساليب العدوانية في كتابة نصوص نقدية هجائية إلغائية هو القارئ أولا، ثم يليه كاتب النص النقدي نفسه، لأنه يُغْرِقُ حتى الحجج الرصينة والمعلومات والتوثيقات العلمية المفيدة التي يأتي بها في بحر غضبه وكراهيته الأيديولوجية للطرف الآخر، بدلا من أن يُرسيَ قواعد حوار مثرٍ لقناعات كلا الطرفين ويمكن أن يؤدي إلى تركيب وبناء قناعات أكثر قرباً من الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يحتكر حق النطق باسمها في عصرنا.

* سأكتفي في هذه المقالة بهذه التعليقات الخفيفة والسريعة انطلاقاً من كوني إعلامياً يهتم بالشأن التأريخي والآثاري والإناسي واللغوي القديم ولستُ باحثاً متخصصاً في أي منها كما كررت في أكثر من مناسبة. وأتفق مع الناقد على أن من شبه المستحيل أن يكون باحثٌ ما متخصصاً في هذه العلوم الدقيقة جميعها أو أغلبها في وقت واحد، وهدفي من هذه المداخلة هو تسجيل شهادتي حول الموضوع أولا، وتسجيل تحفظي على أحكامي وتقييماتي الشخصية المتسرعة الواردة في مقالتي التعريفية بالكتاب المنقود ثانياً، ومعبرا في الوقت نفسه عن احترامي لحق السيد خزعل الماجدي الذي لا جدل فيه في التعبير عن آرائه وقناعاته البحثية، وأيضاً بحق مخالفيه في نقد ما كتبه ويكتبه نقداً منهجياً علمياً ينأى عن التجريح الشخصي ذي النزعة التكفيرية الخطرة.

أخيراً، أعتقد أن من الجدير بالتنويه والإشادة موقف الماجدي المناهض للتطبيع مع الكيان الصهيوني ورفضه لما سُمِّيَ بالمشروع الإبراهيمي أو "الاتفاقات الإبراهيمية"، باعتبارها - كما قال هو حرفيا - في ندوة أقيمت في أستراليا على أغلب الظن وبُثَّ تسجيها على منصة يوتيوب - "جزءاً من مشروع استعماري للمنطقة ويجب أن تقاومه كل شعوب المنطقة وتقاوم كافة أشكال التطبيع"، وهو، بموقفه هذا، من القلائل بين الليبراليين العلمانيين القصويين - بل وحتى بعض الإسلاميين المتفرجين والمنشغلين بتكفير زملائهم الباحثين المخالفين لهم- الذي اتخذ هذا الموقف الذي يستحق الإشادة والتنويه. صحيح أن الماجدي لم يكتب شيئاً عن هذه المواضيع في صفحته على مواقع التواصل على حد علمي ومتابعتي المحدودة، ولكني سمعت رأيه هذا وشاهدته بالصوت والصورة في الفيديو المذكور لندوته تلك.

***

علاء اللامي

...................

* هوامش:

من ملاحظات سامي عامري التوثيقية الجديرة بالتمعن، على افتراض صحتها ودقتها الاقتباسية، إذْ لم يعد من السهل الوثوق بما يُنشر ويُقتبس، والتي جاء بها لتأكيد أن فكرة "المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين" لم تكن أصلاً فكرة خزعل الماجدي واكتشافه الشخصي، يذكر عامري في مقدمة كتابه "أن هناك كتاباً وباحثين كُثر تناولوا موضوع المقارنة و"المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييداً أو رفضاً قبل أن يولد الماجدي" وقد ذكر منهم:

* جورج بارتون الذي ذكر في مقالة نشرها سنة 1915 "تبنى بعض النقاد لعدد من السنوات أن قائمة ملوك ما قبل الطوفان تمثل ربما أسماء آباء الفصل الخامس من سفر التكوين بشكل مختلف". فرد آباء التوراة إلى حضارة بلاد الرافدين أقدم من نشر بارتون مقالته قبل أكثر من قرن من اليوم!

* توماس هرتمان قد أشار في مقدمة مقالته " خواطر حول قائمة الملوك السومريين وسفر التكوين 5 و18" التي نشرها سنة 1972 إلى أن السنوات القريبة من نشره لمقالته قد شهدت ازدهار الدراسات المتعلقة بمقارنة الفصول الأولى من سفر التكوين بالحضارات القديمة وخاصة حضارة بلاد الرافدين وأضاف أن العمل في الفصلين 5 و11 لا يزال العمل فيهما ضعيفا".

* وكتب الناقد وليم شيا بعد خمس سنوات على مقالة هرتمان "بُذِلَت محاولات لمطابقة أسماء هؤلاء الملوك مع تلك الموجودة في نسب شيث في الفصل الخامس من سفر التكوين لكن مثل لتلك المحاولات لم تلق نجاحا معتبرا".

ويضف عامري أسماء كل من الباحثين والنقاد والمؤرخين الذين كتبوا عن موضوع المقارنة والمطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييدا أو رفضا:

* جون والتون في كتابه "الأدبيات الإسرائيلية القديمة وسياقها الثقافي".

* جوردن وينهام في كتابه "تفسير سفر التكوين".

* رونالد يونجبلاد في كتابه "سفر التكوين تعليق مدخلي".

* إبراهام مالامات في كتابه "قوائم الملوك في العصر البابلي وأنساب الكتاب المقدس".

* كنيث كتشن في كتابه "الكتاب المقدس وعالمه...".

* ج. ف. هازل في كتابه "سلاسل الأنساب في تكوين 5 و11 وخلفيتها البابلية المزعومة".

* أما اعتراضات عامري وتصويباته للأخطاء في الترجمات عن اللغة العبرية وغيرها واقتباسات الماجدي عن مراجع أخرى فهي كثيرة ولكنها مصوغة بلغة فظة واستفزازية ويمكن للقارئ الاطلاع عليها في كتابه.

وبهذا، آمل أن أكون قد سجلت شهادتي أمام القراء ووضحت تحفظاتي سواء على ما ورد من تقييمات خاطئة ومبالغات في مقالتي التي نشرتها قبل أربع سنوات، أو على الكتابين الناقد والمنقود موضوعيِّ الحديث.

* رابط تحميل كتاب خزعل الماجدي: "أنبياء سومريون ـــ كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟"

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%86%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-pdf

* رابط تحميل نسخة من كتاب سامي عامري: "سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء"

https://maktbah.net/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%B3%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%84-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AE/

قال تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1- 5).

تعود المفسرون أن يختلقوا أقاصيص لتفسير بعض الآيات، ومن ذلك ما وضعوه في تفسير (اقرأ) فقالوا (جاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ... فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم). فتصور كيف ان جبريل الملك كان (يغط) النبي كما تغط أنت شخصا في ماء النهر، فهل جاء مبلغا ام (غاطا)!!!!!

فهذه الرواية وضعت لتأويل أن الرسول الاكرم أمي لا يقرأ ولا يكتب فقال (ما أنا بقارئ) ولكن جبريل (عليه السلام) كما يبدو في الرواية لم يأبه له فظل يكرر عليه (اقرأ) و(يغطه). وهذا خلل واضح في (الرواية / التأويل). وذهب المفسرون بعد ان اعتُرض عليهم بأن (جبريل لم يكن يحمل صحيفة ليطلب قراءتها!!) فقالوا (القراءة اما عن صحيفة او عن ظهر غيب) وهذا عيب اخر في (الرواية/ التأويل) فالرسول لم يكن يحفظ السورة مسبقا لانها نزلت عليه اول مرة فلا توجد في حافظته ليطلب منه الملك قراءتها. والدليل الدامغ الذي لم ينتبه عليه المفسرون هو ان الله سبحانه وتعالى طلب من النبي عدم قراءة القرآن وعدم تأويله لانه سبحانه تكفل بهما (القراءة والتأويل) في قوله تعالى من سورة القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة 16- 19)

اضف الى ذلك ان اول سورة نزلت هي (الفاتحة) وليس العلق. ويقال اول سورة محصورة بين (الفاتحة والمدثر والعلق) ولكن الاغلب يستبعد العلق. وبهذا تنتفي الحاجة الى وضع هذه المقدمة من المفسرين لتفسير (اقرأ) ولعلها من الاسرائيليات فقد جاء في التوراة (سفر إشعياء – الاصحاح التاسع والعشرين – السطر 12) (واذ يُدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة) ورواية التوراة توجد فيها صحيفة بينما رواية المفسرين لا توجد صحيفة! وكيف تطلب انت من شخص ان يقرأ ولا يوجد شيء يقرأ أمامه.

والصحيح في تفسير معنى (اقرأ) في الآية كما هو في كل القرآن المجيد هو (طلب الله سبحانه من النبي أن يقرأ القرآن - بعد قراءته عليه وليس بداية – على الناس الى يوم الساعة، أي (تبليغه بالقراءة والتأويل الذي بلغ به) كما انه طلب من الله سبحانه لكل مسلم أن يقرأه بالقراءة والتأويل الصحيح فـ(اقرأ) طلبٌ من النبي الاكرم ومن كل مسلم، لان الرسول مبلغ وحامل القرآن الى الناس دون تدخل فيه. وقد جاء ذلك في قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الاسراء: 106).

(وغير هذا كثير من عمل المفسرين) ويحضرني قول أستاذي الجليل (خشان خشان) (القرآن سيّد عبَّدته التفاسير)

***

أ. د. محمد تقي جون

(من كتابي قيد العمل)

 

نقاشات خلافية بين الفقهاء والمتكلمين والمحدثين تواصلت بكثافة عبر الحقب الزمنية التي ميزت الحضارة العربية الإسلامية، ولم تنقطع يوما منذ أربعة عشر قرنا. واصلت احتلال فضاءات هامة وشاسعة في الحياة المجتمعية مؤثرة سلبا على ارتباط الثقافة بالتنمية وعلى علاقة الفكر النظري بالهندسة التطبيقية. الرأي العام العربي أصابته بفعل ذلك الهشاشة المزمنة، وتقهقرت علاقته بقوى الطبيعة وثرائها، وضعفت إرادته في البحث عن السبل العلمية للتحكم فيها وتحويل خيراتها إلى منافع لإسعاد الناس ماديا وجسديا ونفسيا. الميول إلى التكنولوجيا والعلوم الصرفة والتصنيع تحول إلى تطلع فئوي لا تتملكه إلا بعض الأسر المتعلمة الراقية من الطبقتين الوسطى والغنية، والتي ينتهي مسارها التكويني الأكاديمي بالهجرة إلى الغرب. استجابة للتطلعات المجتمعية ومستجداتها، وسعيا لرفع تحديات الوجود السيادي مستقبلا في بعض البلدان كالمغرب والإمارات العربية، استثمرت الدولة نسبيا في توفير البنيات المؤسساتية التعليمية الجامعية في مجال التميز العلمي والتكنولوجي والفني. الثقافة القاعدية بالنسبة لأغلب الشعوب العربية والمغاربية بقيت تائهة تتخبط في مستنقع نقاشات هامشية لا تمت بصلة بتحسين مستوى معيشة الأسر. تقوت نوازع التطرف الثقافي العامي، وأصبح من الصعب مواجهتها أو توجيهها بدون الاستثمار المالي في المقاربة الأمنية. ضعف الفكر العملي وانفصل عن الفكر النظري واتسعت الهوة بينهما.

أمام كل هذه الانكسارات المستمرة والمتجددة في شكلها وطبيعتها، لم ينقطع الدكتور عبد الله العروي في الدفاع عن المصلحة والمنفعة الجماعية والعامة في حياة المجتمعات العربية والمغاربية. الارتماء العقلاني في أحضان الثقافة الحداثية وفيما تزخر به من علوم نظرية وتطبيقية في مختلف المجالات الصناعية والهندسية والمالية والاقتصادية (الدرابة اليدوية والعقلية) هو الحل لتغيير نظرة المجتمعات لتراثها القديم. ترسيخ التفكير العقلاني في أذهان الأجيال يتطلب تجريب العيش في عمق الحداثة قبل العودة إلى قراءة التراث قراءة جديدة متجددة. القرآن كلام حق يخاطب الفرد، بحيث يكفل له الله عز وجل حق التمعن والتفكر في آياته، والبحث عن سبل التقرب من الحقائق المطلقة ساعيا لتحقيق ما ينفعه ويخدم مصالح أمته. كل منا، يقول العروي، مطالب بقراءة القرآن لنفسه بدون أن يلزم أحدا بما آل إليه تفكيره من استنتاجات واستنباطات وأحكام وقياسات. كل الآيات تخاطب الفرد كفرد لا كعضو في المجتمع أو كأمة. مفهوم هذه الأخيرة (الأمة) في مشروع العروي هو اعتباري مرتبط بنهاية التاريخ. الأمة، أمة الميعاد (وتهم الذين عاشوا بالطريقة المحمدية)، لن يجتمع ناسها في فضاء واحد إلا أمام الله يوم القيامة. إنه الزمن الإلهي الذي سيخاطب فيه المسلمون بعبارة "يا أمة محمد"، وسيسألون "ماذا حققوا في الحياة الدنيا من إنجازات بحثا عن الحقائق الربانية المطلقة؟".

الكل يقرأ النص القرآني وله الحرية في الاستنباط العقلي للفائدة منه. وبذلك لا يحق لأحد أن يحتكر تفسير هذا النص المقدس ما دام هناك جزاء أخروي سيجسد ترجيح إحدى كفتي ميزان الحسنات والسيئات المتراكمة دنيويا. إنه الاعتبار الذي اعتمده العروي للتمييز بين المنطق الفردي والمنطق الجماعي. هذا الأخير مرتبط أشد الارتباط بالمصلحة الجماعية، ولا يطيق أن يفرض إنسان مصلحته على مصلحة الآخرين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. كل فرد مسؤول على ما يفكر فيه وعلى طبيعة إيمانه. منذ الأزل كان دائما الفرد مسؤولا عن سلوكياته أمام الله. وبذلك يكون مصدر "الفردانية" قديما في التراث العربي الإسلامي وليس مرتبطا بالغرب (النيوليبرالية). في هذا الصدد قال ابن رشد مذكرا بما كتبه ارسطو طاليس في المناهج الفقهية وفي كتابه "الحيوان" أن الفرق بين العرب المسلمين والغرب يختزل في الإيمان والفقه. فماعدا ذلك، كل الأمور والأشياء تعتمد على التجربة والملاحظة والموقف الفردي السليم. وعليه، علينا أن نأخذ بنتائج التطور المادي الغربي ومنافعه كنتيجة للحضارة الحديثة التي تهم الإنسانية جمعاء، وأن نعتمد الانتقاء الإيجابي عندما يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية باستحضار المنفعة العامة وتأثيرها في مجريات أحداث الحاضر والمستقبل.

في هذا السياق، تحدث العروي عن الإرهاب بشكل موجز بالرغم أن الظاهرة لا تهمه كمفكر. التطرف العقائدي مرتبط نسبيا بالخارج الذي أثر ويؤثر فيه بقوة. فهو ليس نابعا 100 بالمائة من الحضارة العربية الإسلامية. المستشرقون اهتموا بما هو هامشي في حضارتنا جاعلين منه جوهرا لها. لقد تعمدوا  الاهتمام بالفكر السلفي. فأول من روج لابن تيمية هو هونري أبوست (أستاذ العروي  في السوربون بفرنسا). لقد اهتم بالفكر السلفي ولم يهتم بشيء آخر. لقد اعتبر ابن تيمية مفكرا محوريا في الفكر الإسلامي في حين لم يتم تصنيفه عربيا إلا في خانة المؤلفين. عبد الله العروي قرأ لهذا المؤلف عندما أثار قضية ابن تومرت، فلم يلمس لديه إلا أمورا عادية لا تشد الاهتمام.

الوقوف عن تأثير الخارج في الداخل واضح في فكر عبد الله العروي. لقد تطرق هذا الأخير للمذاهب الفقهية الإسلامية (الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي)، وأبرز كيف بدأ الفقه في عهدهم منفتحا متفتحا (الحنفي)، وانتهى منغلقا (الحنبلي) سالكا بذلك مسارا متناقضا مع الوقائع التاريخية (تاريخ الخلافة عرف تفتحا مستمرا عكس تاريخ الفقه الذي تدحرج إلى الانغلاق مع مرور الزمن). الحنبلي لم يكن سوى محدثا استعصى عليه التموقع في مصاف الحكماء والمجتهدين، وبذلك فلم يتجاوز مرتبة الوعاظ الذين كتب عنهم الحريري مستهزئا. نزعة العودة إلى الوراء ما هي إلا ظاهرة ناتجة عن التذمر المتسلط على النفوس جراء ضعف القدرة على التنافس مع الآخر. لقد شبه العروي الفرد في هذه الحالة وكأنه اقتيد إلى غرفة لا نور فيها، فاضطر للعودة إلى نفسه والانكفاء عليها.

***

الحسين بوخرطة

يوم كتب هربرت ويلز روايته الخياليَّة الشهيرة "آلة الزمن" التي تنبأ فيها بمستقبلٍ مظلمٍ للبشريَّة التي ستنقسمُ إلى جنسين تبعاً للمسافة الطبقيَّة بين الأغنياء والفقراء، أحدهما جنسٌ مُنَّعمٌ لكنه غبيٌ وضعيف، والآخر فقيرٌ يعيشُ تحت الأرض ولا يَمُّت بصلة للبشر وهو أقرب إلى الحيوانات، لم يكن ألبرت اينشتاين قد أعلن بعد نظريته النسبيَّة التي تؤيد معادلاتها الرياضيَّة والفيزيائيَّة البحت فكرة السفر عبر الزمن مثلما تنبأ بها ويلز.

ومنذ ذلك الحين أجريت الكثير من التجارب التي أثبتت أنَّ العودة بالزمن ممكنة نظرياً، لكنَّها مستحيلة عملياً، وأنَّ السفر عبر الزمن لا يمكن حدوثه إلا بالتصورات الذهنيَّة التي لا يمكن أنْ تطبقَ على أرض الواقع، ويقال أنَّ عالماً روسياً توصل يوماً ما، إلى صنع آلة بدائيَّة يمكنها أنْ تكون أول آلة زمن حقيقيَّة، وأنَّه قام بتجربة اكتشف فيها وجود فارقٍ زمني بين ساعتين يبلغ 30 ثانية، ما يعني أنَّه وضع الخطوة الأولى للسفر عبر الزمن، ومن ذلك الحين بقي أمر هذا الأمر سراً غامضاً، وبقي هو وتجربته طي الكتمان.

إنَّ عجلة الزمن في الأحوال كلها، لا تدور بخلاف سيرها المتقدم دوماً إلى الأمام، وإنَّ عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء مطلقاً، وإنَّك أيها الإنسان لا يمكن أنْ تعبرَ النهر مرتين على رأي فيلسوف الصيرورة الإغريقي هيراقليط، لأنَّ مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً .

وكل من يظن أنَّ الزمن يمكن أنْ يعودَ القهقري، ليبدأ بتغيير أحداث حياته وأقداره وتصحيح قراراته وخياراته الخاطئة، فإنَّه إما أنْ يكون أحمقاً قريباً من الجنون، أو أنَّه من عشاق مشاهدة أفلام الخيال العلمي التي توهم المشاهد أنَّ هناك آلة للزمن يمكنها العودة بمستخدمها عشرات أو مئات أو آلاف السنين إلى الوراء، أو تتقدم به نحو مستقبلٍ بعيد، في أكذوبة لا يصدقها غير السحرة، ولا تطوف إلا في خيالات كتاب روايات الخيال العلمي، أو ربما بعض العلماء المغامرين الذين بذر فيهم آينشتاين بذرة النسبيَّة الزمكانيَّة.

واستناداً إلى رواية ويلز وفيزياء آينشتاين، أقدم المخرج السينمائي الأميركي سيمون ويلز قبل عشرين عاماً، على تقديم فيلمه "آلة الزمن" الذي يعتمد قصة بسيطة حول شخصيَّة أستاذ جامعي يفقد حبيبته التي فارقت الحياة على يد لصٍ حاول سرقة عقدها، ما جعله في حالة نفسيَّة مأساويَّة دفعت به للتفكير بصنع آلة يسافر فيها عبر الزمن ليعود إلى الوراء وينقذ حبيبته من الموت على يد ذلك اللص.

الزمن لا يعودُ إلى الوراء، ولا يتقدم إلى الأمام، إلّا في خيالات الروائيين، وفيزياء العلماء، وصناع أفلام الخيال العلمي، لكنَّ الكارثة تحدث حين يحاول غير هؤلاء إثبات ذلك!.

وهذا من صنوف العَبث مع الزمن، ومع الأقدار!.

***

د. طه جزاع

في اليوم العالمي للغة العربية يجب ان نتذكر ونذكّر الأجيال القادمة ان لغتي هي هويتي وشخصيتي وتكويني وعقلي ورابطي الثقافي مع أهلي اصدقائي وزملائي، واذا ما فقدت هذه الرابطة، فإنني أفقد بوصلتي الحقيقية في الحياة .

وللأسف، فإننا قد تجاهلنا هذه الحقيقة لعقود طويلة في بلادنا العربية، حينما حرصنا على تعليم الأطفال بدءا من مرحلة رياض الاطفال على اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية الأصيلة اللغة المقدسة التي هي جوهر وجودنا على أرضنا الطاهرة، فصار الصغار يتحدثون الانجليزية والفرنسية بطلاقة ونحن نفرح بهم ونهلل على قدراتهم على التعبير بهذه اللغات الاجنبية في مقابل عدم الاعتناء بتعليم اللغة العربية الأم والمحضن . وحتى لا تفهموني خطأ أنا مع تعليم اللغات الأجنبية ولكن بعد إتقان وتمكين اللغة العربية من الطفل والغوص في بحارها العميقه ولكن

تسابقت الأسر العربية على تعليم صغارها اللغات الاجنبية واكتساب معارفهم علومهم بها فاحدث ذلك فجوة ثقافية وهوة كبيرة بين هؤلاء الأطفال وباقي افراد المجتمع،وباتوا يشعرون بالغربة عن أهلهم وأفراد مجتمعهم.

فتخيلوا معي ابنك أو بنتك وتشعر معهم بغربة ليس لأنه من جيل مختلف فهذا طبيعي، ولكن لأنه تشرب قيم وثقافة اللغات التي تغذى لسانه عليها ونطق بها وتعلم وفكر بها، فأصبحت الاسرة من داخلها غريبة عن بعضها وأدوات التواصل بينها ضعيفة لأقصى درجة .

إضافة الى المدارس كان هناك خطأ فادح عندما استعانت الأسر بالمربيات الأجنبيات اللواتي علمن  أولادهن نطق اللغات الاجنبية، بينما باقي دولنا العربية تمادت في هذا الخطأ بالتوسع في انشاء المدراس التي لا تعلم اللغة العربية او تعلمها كمادة غريبة كمن يتعلم الإسبانية في فرنسا.

وبالضرورة، فإنني لست ضد تعليم اللغات الأجنبية، فهي تفرضها معطيات عصرنا والانفتاح على الاخر ومتطلبات العمل والتواصل عبر محطات الكون فكريا وثقافيا واقتصاديا والمشاركة بالمؤتمرات والندوات كما نحتاجها ايضا سياسيا وإعلاميا للتعريف بقضايانا، والقرية الكونية التي نعيش في كنفها، فلنتعلم اللغات كما قلت لكن ليس قبل ان نزرع لغتنا الأساسية وقيمنا وثقافتنا في عقول الصغار ونرسخها، وكما قيل في الأثر “ العلم في الصغر كالنقش على الحجر“ أي أنه يثبت ولا يتزعزع، حتى لا تكون النتيجة ظهور أجيال منسلخة عن ثقافتها وجذورها الحضارية وقيمها الاجتماعية في مقابل انتماء هذه الاجيال  إلى ثقافات لا تشبهنا التي تعلمها في صغره وشكلت فكره وعلاقاته وانتماءاته الثقافية والحضارية .

وهذا يعني اننا بأيدينا وبجهلنا وغفلتنا ساهمنا في تغريب أبنائنا عن لغتهم العربية وعن أوطانهم والانتماء لها من ناحية أخرى، فان الكثير من الأسر العربية من المحيط إلى الخليج انجرفت  في تيار التباهي والمظاهر الاجتماعية الكاذبة والخداعة  والتعالي على الأخرين بتعليم ابنائها  اللغات  وكأن هذا الأمر نوع من البريستيج وليس من حب التعليم وكأنه شنطة ماركة تحملها سيدة ما ولا يعبأون بما يكلفهم ذلك من تكاليف مادية باهظة بعضهم لا يقدر عليها، بل ويكاد يستدين ليغطي تكاليف التعليم في هذه المدارس الدولية إضافة الى التكاليف التي يدفع ثمنها الاهل لاحقا عندما يتغرب الطفل عن مجتمعه وتأتي الكوارث على التوالي اعود واكرر أنا مع معرفة الاخر ومحبة الجميع والتفهم للمجتمعات المتنوعه واخذ ما يناسبنا وينفعنا منها ولكن نرفض ان نتشبه بالآخرين بكل ما لديهم وكأن ليس لدينا تاريخ وارث حضاري وفكري وثقافي نفخر به

فأي حمق نرتكبه ليلا نهار !!!، وبعد ذلك نلوم على الأطفال بأنهم غرباء عن المجتمع، ولا يستطيعون التواصل مع الناس عندما يكبرون في العمل والشارع والاقارب والمناسبات الاجتماعية، وأنهم منسلخون عن واقعم وعن عروبتهم، بينما نحن الكبار العقلاء  كنا سببا حين سعينا لاكتساب وجاهة اجتماعية وإظهار المكانة الاجتماعية والمستوى العلمي عبر تعليم صغارنا اللغات الاجنبية ولم نعلمهم العربية وكأنها عيب وعار، ودون  أي احترام  للغتنا .

فكل الأمم تفتخر بلغاتها وتحافظ عليها حفاظها على أرضها ودينها لأنها تشكل هويتها وكيانها ووجودها حية نابضة بين الشعوب والأعراق، بينما نحن قد غفلنا في غمرة التحديث والجري وراء الغرب هذه الحقيقة ان الهوية واللغة وجهان لعملة واحدة فاذا سقط من وجه اختفت العملة .

يؤكد على ذلك المفكر الألماني « فيخته » بقوله: (إن الذين يتكلمون لغة واحدة يشكلون كيانًا واحدًا متكاملًا بروابط متينة وإن كانت غير مرئية، ف اللغة هي الخيط غير المرئي الذي تنتظم فيه حبات عقد أمة من الأمم؛ فتتوحَّد مشاعرها وتقوى روابطها .

والمثير للشفقة حقيقة حين ترى اثنين عرب في بلد عربي ليس بينهم اجنبي او لا يفهم اللغة العربية ويتكلمون في بلد عربي باللغة الانجليزية او الفرنسية  يصيبني فضول مدموج بالشفقة على من يفتقدون للثقه بأنفسهم والاعتزاز بها وكدارسة لعلم النفس اصنف هذا ضعف وعدم ثقة بالنفس وخجل من الواقع والهروب منه إلى عالم آخر

فهل نرى بريطاني يتكلم اللغة الصينية مثلا مع بريطاني آخر على ارض بريطانيا؟ هل نرى فرنسي يتكلم مع صديقه الفرنسي على ضفاف نهر السين باللغة التركية ؟ هل نرى أمريكي عاش في لبنان عشر سنوات وأتقن اللغة العربية وعاد لبلده فيجلس مع صديقه الأمريكي مثل حالته ويتكلم معه باللغة العربية في نيويورك مثلاً؟

هل كان تراجعنا كعرب سبب بهروب ابناء العرب من لغتهم كنوع من الهروب الى الجهة المنتصرة حاليا؟

و بالعودة لضعف اللغة العربية اليوم بين ابنائنا فهو نتاج طبيعي لتكريس اللغات الأجنبية واعطائها الاولوية في التعليم، وقد أدى هذا الضعف اللغوي لتعليم العربية إلى ذوبان الشخصية، وفقد الهوية، وضعف الصلة التي توحد الأمة وتشريعاتها، وتحقق لها استقلالها، وصمودها في مواجهة التحديات الدولية .

واحقاقا للحق، فان الاسر العربية لا تتحمل مسئولية جريمة اهمال لغتنا العربية والانتصار للغات الأجنبية عليها، وانما يتحملها كل الجهات المسئولة عن اصدار التراخيص للمحال التجارية والعلامات التجارية والمقاهي والشركات والمنتجات المصنعة في دولنا العربية تحمل اسماء أجنبية . فالشوارع العربية في معظمها تحمل لافتات باللغات الاجنبية وكذلك متاجرها ومنتجاتها، فأين المسئولون من هذه الجريمة .

انني أدعو لصحوة تعيدنا اليىفجر لغتنا العربية الجميلة وايحاؤها باتخاذها عنوانا لافتة لكل محل تجار او منشأة صناعية او علامة تجارية، واعادة تصحيح تصوراتنا الاجتماعية بشأن الوجاهة الاجتماعية، فالوجاهة تأتي بالحفاظ على الهوية العربية التي قوامها اللغة العربية .

أدعوا كل المسئولين عن التعليم في بلادنا العربية بضرورة التعليم الجيد للغة العربية وتكون لها الأولوية في التعلم خلال مراحل التعليم الابتدائي، ثم تأتي اللغات الاجنبية كلغات ثانية .

***

سارة طالب السهيل

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة «أكتون»، غرب العاصمة البريطانية لندن. وخلاصتها أن المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الأسبوع، فأخبرتها الطفلة بأنها ذهبت مع أمها إلى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها أن تعمل خلال الأسبوع الحالي على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها إلى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الأسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الأب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟ فقال إنه شعر بالحاجة لمساعدتها، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة: «إنك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها، وهذا أمر سيئ». المراد - على أي حال - ليس الخريطة المتقنة أو المعيبة، بل تدريب الأطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق إذا ساعدها أحد على ذلك. وأردفت أن واجبهم في المدرسة هو تعليم الأطفال فن التفكير.

يقول زميلي إن هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟ هل نستطيع القول إنها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟

بيان ذلك: جرت العادة على القول إن الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

إذا قبلنا بهذا التوصيف، فسيأتينا سؤال ضروري:

- ما المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب - بالضرورة - إلى التعريف النسبي، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم إلى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني أن جواب اليوم قد يخالف جواب الأمس، مع أن كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على أساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية، ولا سيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الأبناء. ولهذا يلتزم الأبوان مساعدة أطفالهما في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولأن هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم، فقد اعتاد المعلمون تكليف الأطفال كماً كبيراً من الواجبات المنزلية، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو إنتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية، بتحويلها إلى أمه، أو تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق، وليس الاجتهاد في إنجازها بنفسه.

أما الذي يحدث في المكان الآخر، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف، فهو التركيز على قيام التلميذ بإنجاز الواجب حتى لو أخطأ فيه. لأنه في الأساس وسيلة لغاية أخرى، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل أن يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فلعلنا نستذكر أن واحدا من التعريفات المهمة للحداثة هو أنها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم، يتحدثون إذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر، لأننا ننتمي إليه وننطلق منه. إذا فكرنا بعمق في الذي حولنا، فسوف نصل إلى ما وراءه، أي إلى الغيب الذي تخفيه جدران المكان أو الزمان أو قلة المعرفة.

حسناً، ما الذي ستفعلون الآن، هل سترسمون الخريطة، أم تدعون أبناءكم يتأملون في عالمهم؟.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

بجهود دبلوماسية مميزة للمملكة المغربية، من خلال منصب رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو الذي كان يشغله السيد محمد الفاسي، وسفير المغرب لدى الأمم المتحدة في حينه السيد رشيد الحلو، وباسناد من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية، وافقت الأمم المتحدة في العام 1973 بقرارها الرقم 3190 باعتماد الثامن عشر من ديسمبر / كانون الأول يوما عالميا للغة العربية، بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها الى جانب خمس لغات معتمدة هي: الانجليزية، الفرنسية، الصينية، الاسبانية، والروسية.

  كنّا تحدثنا في مقال سابق عن  مزايا اللغة العربية بوصفها من اقدم اللغات السامية، وانها لغة القرآن، والبلاغة والبيان، والاستقامة والترادف والمعاني الجميلة، وتفوقها على لغات العالم بمفرداتها الحية التي تبلغ فيها (000 303 12) كلمة، فيما عددها باللغة الأنجليزية (000 600) وفي الفرنسية (150000) وفي الروسية (130000)، ولا عن الذين كتبوا فيها من العلماء والمفكرين والأطباء وما كانوا عربا، ولا الشعراء في عالمنا العربي، وابلغ ثلاثة بينهم (احمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي) كانوا من الكورد وليسوا عربا!.

وكانت جامعة قرطبة بحضارتها العربية الراقية يقصدها الطلبة من كل بلدان اوروربا.ويذكر ان الشاعر الاسباني لوركا كان قد سئل:هل تعتبر المرحلة العربية بتاريخ اسبانيا..استعمارا؟ اجاب:المرحلة الوحيدة المضيئة في تاريخ اسبانيا هي المرحلة العربية، وما قبلها كان ظلاما.

ولقد شاهدت في زيارتي الأخيرة لأسبانيا ان الأسبان نحتوا التماثيل لأطباء ومفكرين وقادة عرب تكريما لهم، ليس لهم ذكر في زماننا هذا مع انهم ونحن..عربا!

في العراق.. اللغة العربية في محنة

صحيح ان الذين جاءوا الى الحكم احالوا الوطن الى خراب وحياة المواطن الى شقاء، لكننا ما كنّا نتصور ان اساءاتهم ستنال من لغتنا الجميلة. فكثير من المسؤولين السياسيين والنواب يرتكبون اخطاء لغوية مخجلة حين يتحدثون، ويخطئون ليس فقط في اسم كان وخبر ان ورفع المجرور والمضاف اليه، بل حتى في املاء كلمات بسيطة.. ولك ان تطلع على فضائحهم اللغوية عبر الفيسبوك، فاحدهم بمنصب مدير عام يكتب شكرا بالنون هكذا (شكرن)، وآخر يكتب لكن هكذا (لاكن)!.

والأساءة الاوسع انتشارا والأكثر خطرا ان فضائياتهم التي تجاوزت الخمسين، ترتكب اخطاء فاحشة بحق اللغة. فمعظم العاملين فيها من المذيعين والمذيعات يرفعون المفعول وينصبون الفاعل والمجرور!.وتلك فاحشة ما حدثت في تاريخ المؤسسات الاعلامية العراقية.ففي السبعينيات، اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات..تقدم في حينها اكثر من (1200) من حملة البكلوريوس..خضعوا الى اختبار من لجنة ضمت مديرها العام (محمد سعيد الصحاف)، ومدير اذاعة صوت العرب (سعد لبيب)، وكبير المذيعين سعاد الهرمزي، والراحلان الدكتور عبد المرسل الزيدي وبدري حسون فريد.. اجتاز الاختبار عشرة فقط!. وقد تلقينا نحن العشرة تدريبا بدورة اذاعية في اللغة والصوت والالقاء والدراما وتحرير الخبر لثلاثة اشهر! سمح لنا بعدها دخول الاستديو، لا كما يجري الآن.. ياتون بهم (بهنّ) من البيت الى الاستديو!

التهديد الأخطر

ان اخطر تهديد تتعرض له لغتنا العربية هو ان  جيلا كاملا من الأطفال والمراهقين والشباب، وأجيال قادمة، تولعوا عبر الانترنت بمفردات اللغات الاجنبية وتولد لديهم نفور من اللغة العربية، وشاعت بينهم مفردات من قبيل (كنسلها، دلّتها، سيفها..).. بعكس جيل السبعينيات الذين تربوا على برامج تلفزيونية تحبب لهم لغتهم مثل (لغتنا الجميلة) و (لغة الحروف..جعفر السعدي بدور استاذ القواعد ومعه سهى سالم بدور الآنسة قواعد، ومحمد حسين عبد الرحيم الذي يحلم بأنه راى قوري فترد عليه الآنسة قواعد: ليس في لغتنا قوري بل ابريق الشاي)، وبرنامج المناهل.. الذي يبدأ بأغنية (هذي لغتي.. فوق الشفة كالأغنية... المنـــــاهــل).. وأخرى يتذكرها ابناء ذالك الجيل وما تزال مطبوعة في ذاكرتي كوني كنت يومها مشرفا على برامج الأطفال.

ما يؤلم حقا ان اللغة العربية كانت، في العراق تحديدا، حزينة في يوم الاحتفاء بفرحها.فلقد مرّ يومها باهتا على الصعيدين الرسمي والاعلامي.ذلك لأن معظم من في السلطة بين من يشعر بالنقص في علو شأن العلماء والأدباء، وبين جهلة لا يدركون ان جعل العربية لغة رسمية أمميا الى جانب خمس لغات عالمية فقط، يعدّ اعترافا بحيويتها وتطورها واعترافا بمساهمتها في تطوير الحضارة الانسانية عبر غزير عطاءات مفكريها وعلمائها واطبائها وادبائها، ولا يعنيهم تكريم علماء اللغة العربية في يومها، وليس في حساباتهم ولا يخطر على بالهم ما تفعله دول تحترم مفكريها. فالصين مثلا اعتمدت العشرين من نيسان يوم اللغة الصينية تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية، وروسيا اعتمدت السادس من حزيران يوم اللغة الروسية تكريما لميلاد شاعرها الكساندر بوشكين، وبريطانيا اعتمدت الثالث والعشرين من نيسان تخليدا لوفاة ويليام شكسبير. والكارثة تكمن في ان ثقافة القبح التي اشاعها الاسلام السياسي قد شوهت كل جميل في الوطن..حتى وجه لغتنا الجميلة، وأن على من بقي من محبيها أن يعيدوا لها حيويتها وبهاءها وايقاعها الموسيقي الذي يطرب كل السامعين!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

بمناسبة يوم اللغة العربية، اقتبس أحد الأصدقاء الأعزاء في منشور له، ضمن اقتباسات أخرى، قول المستشرق الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan): "من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة". فعلقت على قول رينان هذا بالملاحظة التالية: " ينطلق إرنست رينان من تنميطاته الاستشراقية الساذجة وهو المعروف بنظريته العنصرية عن "الإرادة وترتيب الأعراق" التي يقف في أعلاها عرق الأسياد والجنود البيض الآريين أما العرق الصيني فهو عرق ذليل يخلو من عزة النفس وله مهارة يديوية كبيرة والافارقة زنوج يصلحون للفلاحة. من هنا نظر رينان إلى العالم العربي والإسلامي الذي نشأت وتطورت فيه اللغة العربية نظرته إلى صحراء قاحلة وإلى العرب المسلمين كأمة من البدو الرحل، وفاته أن الصحراء والبدو كانوا مرحلة انتهت وانتهت معها اللغة العربية البسيطة القديمة مع قيام دول العرب الكبرى كالدولة الأموية في الشام والعباسية في العراق والفاطمية في مصر والأموية الثانية في الأندلس ومع هذه الدول تطورت اللغة العربية البدوية البسيطة إلى لغة عامرة ترجم إليها التراث الفلسفي اليوناني والعلوم الأخرى في ذلك العصر فنجحت في احتوائها.. وبهذا فهو لا ينظر إلى ظاهرة اللغة بمنظار علمي سياقي تطوري "ديالكتيكي" إلى تأريخ اللغة العربية كله وفي سياقه الحقيقي المادي تأريخي فيندهش ويستغرب من تطور هذه اللغة إلى درجة الكمال في صحراء". وقد أضفت إلى تعليقي هذا لاحقا الفقرات التالية فكانت هذه المقالة:

وبالمناسبة فإرنست رينان (1823 - 1892) هو أحد منظري القومية / الأمة في شكلها الأوروبي الحديث وجذرها الرِّسّي " الإثني"، حيث سعى إلى التمييز بين العرق والأمة، مؤكداً أنه، على عكس الأجناس، تشكلت الأمم على أساس رابطة طوعية للأفراد ذوي ماض مشترك. وعنده أن ما يشكل أمة، ليس تحدث أفراد الأمة باللغة نفسها. ولكن الانتماء إلى مجموعة إثنوغرافية واحدة مشتركة، يتعلق "بفعل أشياء عظيمة معاً، والرغبة في فعل المزيد" في المستقبل. وهو ما يسمى بالإرادة المسبقة.

نقتبس من كتاباته: " خَلَقت الطبيعة عرقاً من العمال، هو العرق الصيني المتصف بمهارة يده العجيبة وبخلوه من عز النفس... ثم من عرق من الفلاحين ظهر الزنوج ... ثم عرق من الأسياد والمقاتلين الجنود وهم الأوربيون. ليعمل كلُّ واحد ما خُلق من أجله يستقِمِ الأمر"... الإصلاح الفكري والأخلاقي (La Réforme intellectuelle et morale,1871).

كما كان لرينان موقف عنصري سلبي من العرب المسلمين حتى في أوج صعودهم الحضاري حيث أكد فيه على أنهم لم ينتجوا فلسفة، وأن معرفتهم بالفلسفة تقتصر على ما استوردوه جاهزا من اليونان ثم كتبوه بلغتهم وإنهم يفتقدون إلى الإبداع لأنهم جنس غير متطور يشيع بينهم التعصب واللاعقلانية والغوغائية. وقد رد عليه، بشكل مباشر أو غير مباشر، العديد من الفلاسفة والمؤرخين منهم غربيون فرنسيون كجوستاف لوبون ومارسيل بوازار وكارا دي فو ودومينيك سورديل، فأنصفوا العرب والإسلام الحضارة والدين إنصافا قل نظيره.

ومن المعروف حتى لدى الباحثين الغربيين أن الغرب في فترة نهوضه في عصر التنوير كان مدينا إلى الفلسفة العربية التي أبدعها ابن رشد وزملاؤه العرب والمستعربون المسلمون، دع عنك التطويرات والإضافات الراقية التي أضافها الفلاسفة العرب والمسلمون القدماء على الفلسفة اليونانية وهم بالعشرات.

أما رينان فهو حتى حين يضطر إلى الاعتراف بأن "المسلمين قد نجحوا بالفعل في خلق مجتمعات حضارية متقدمة في فترات طويلة عبر التاريخ" كما يلاحظ بصواب د. مدى الفاتح "فإنه سيلجأ لحيلة عنصرية مفادها، أن الإسلام ولما كان مرتبطاً بالعرب وبالبداوة كان فاشلاً، لكنه وبعد انضمام أجناس أرقى إليه كالفرس والمسيحيين الذين احتفظوا، حسب رؤيته، بالمعرفة اليونانية القديمة تحت القشرة الإسلامية، أصبح مختلفاً". ويضيف الفاتح: "يذهب رينان إلى ما هو أبعد من ذلك حين يعتبر أن «الخلفاء الذين أضفوا رعايتهم على هذا الازدهار الثقافي والعقلي، يصعب أن نسميهم مسلمين، ورغم أن هذه الحضارة استعملت اللغة العربية، فإنها لم تكن حقاً عربية، وإنما كانت أساساً إغريقية وفارسية، أي آرية". إرنست رينان كان يجمع إضافة للتعصب الديني تعصباً عنصرياً وعرقياً، وهو ما تجلى في التقسيم الذي كان يضعه للأعراق، فالعرب متخلفون بطبعهم وبدو، والفرس أهل حضارة، أما الأتراك الذين سيطروا في مرحلة ما على الأراضي الإسلامية فهم فقراء فكرياً، وهم سيصبغون هذه الأراضي التي سيطروا عليهم بالفقر الفكري والانحطاط العقلي/ صحافة عربية 2019".

أما عن التعصب الديني عند العرب المسلمين فهو ليس لعنة أو ثيمة ميتافيزيقية ثابتة التصقت بهم كما يرى رينان بل هي ظاهرة تأريخية مشروطة في فترات تأريخية محددة كان العرب المسلمون وعموم الشرقيين فيها مستهدفين بالحروب التي شنها الغربيون الفرنجة عليهم وأطلقوا عليها اسما دينيا "الحروب الصليبية"، وأن المجتمعات الأوروبية الغربية لو قورنت بالعرب المسلمين أو الشرقيين عموما لفازت المجتمعات الغربية بقصب السبق في مضمار العنصرية والتعصب الديني الدموي حتى بينهم وكاد يؤدي ببعض شعوبهم إلى الانقراض، وخصوصا بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت والتي استمرت بعضها لأكثر من مئة عام بين فرنسا وإنكلترة، وقد دامت 116 سنةَ مِنْ 1337 إلى 1453. أما المجازر التي ارتكبها الفرنجة الصليبيون بحق المسلمين والمسيحيين الأرثوذوكس البيزنطيين واليهود في المشرق فهي تكشف عن تعصب ديني وحشي وشنيع لم تشهد البشرية مثيلا له!

إنَّ اللغة، أي لغة كانت، لا تولد متفوقة ومتطورة وراقية. وهي في ذلك مثلها مثل البشر والمجتمعات بل تمر بأطوار حضارية طويلة وتراكمية وإنجازات كبرى للبشر الناطقين بها حتى تخرج من قصورها وفقرها الى النضوج. واللغات الإنكلوسكسونية وفي مقدمتها اللغة الإنكليزية، وهي لغة جرمانية في الأصل، كانت في القرن الخامس الميلادي وما بعده وحتى الثورة الصناعية الرأسماليةـ من أفقر اللغات وأكثرها تخلفا، وحتى الآن فإن معجمها اللغوي أفقر من معجم اللغة العربية ومثلها اللغة الفرنسية فمعجمها أقل من المعجم العربية كما ونوعا وفي الحركة الاشتقاقية تتغلب عليهما كلتيهما العربية... أما التمييز أو المفاضلة بين المسلمين على أساس العرق فهو أمر مثير للضحك في القرن الحادي والعشرين. وسبق وأن كتبت عن هذه الخرافة وبينت أن ذوي الأصول العربية لا يقلون عن إخوانهم المسلمين الصوفيين والعرفانيين وحتى في الحركات التنويرية والزنادقة والملاحدة من غير العرب كثيرا، ولكن النسبة الإحصائية الكبيرة لغير العرب من مجموع السكان كان لها تأثيرها أيضا. وما تزال حتى يومنا هذا نسبة العرب إلى عموم المسلمين قليلة فعديد العرب المسلمين هو في حدود 430 مليون نسمة من مجموع المسلمين البالغ مليار وسبعمائة مليون نسمة تقريبا أي أن نسبة العرب إلى المسلمين هي الربع تقريبا... أعني أن الناس خلال الحضارة العربية العباسية والفاطمية والأموية في الأندلس اندمجوا حضاريا ولم يعودوا ينظرون إلى أنفسهم على أساس عرقهم وجنسهم بل على أسس ومواصفات أخرى منها اللغة والموقع الطبقي والمنجز الحياتي . أما قبل ذلك فربما كان الانتماء إلى العشيرة والقبيلة أقوى من الانتماء القومي العربي وحتى الإسلامي عند من نسيمهم العرب في فترات أسبق من الفترة العباسية ... وعموما، هذا الموضوع ليس سهلا وهو لا يخلو من التعقيد وليس من المستحب الحكم فيه وإطلاق الصفات والأحكام الباترة قبل الإطلاع على أصول الموضوع في سياقه التاريخي

ومن الغريب والمثير للغضب والحزن معا، إننا حتى الآن، وبعد أكثر من مائة عام على موت إرنست رينان، مانزال نواجه أفكاره وترهاته العنصرية ولكن على ألسنة العلمانيين والليبراليين المتطرفين العراقيين والعرب والشرقيين المصابين بالإسلاموفوبيا واحتقار الثقافات المحلية الشرقية، ونجدهم يكررون دائما في كتاباتهم أفكاره التي تحتقر الإسلام والمسلمين وتعتبر الإسلام سبب المصائب والشرور كلها في العالم! أما أسيادهم البيض الآريين ومعهم الصهاينة فهم صناع التقدم والعلم والازدهار والرخاء في كل مكان وأن عقلية شعوبنا "الشعوب السامية نازعة إلى البلاغة والقدرية والخرافات والتصورات الساذجة عن الإيمان الديني. وقارنها بمزايا عقلية الشعوب الآرية والهندو أوروبية النازعة إلى إعمال العقل والاساطير التراجيديا" ... والغريب أن هناك المئات من رواد مواقع التواصل مَن يصفقون لهؤلاء المفرغين من الوعي النقدي والعقلانية الإنسانية بل يفوق عدد من يصفقون لهم أحيانا عدد من يصفقون للتافهين والتافهات من "صناع المحتوى" حيث تنال تغريدة غبية من نوع "شلونكم عيوني، شلوني بهذا الـشسمه..." مئات اللايكات والتعليقات الفقاعية!

***

علاء اللامي - *كاتب عراقي

 

لا أظن أنَّ عَلماً مثل عبد الرّحمن الكواكبي(ت: 1902)، لا ينطبق عليه القول: «المُعرف لا يُعرف»، فيكفيه أنّه الأبكر، في عصرنا، بفضح الاستبداد والاستعباد، ولا استعباد بلا استبداد، والعكس صحيح، تلك قصة كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وما قدمه في «أمّ القُرى» مِن أفكار. لكنَّ ماذا يعنيّ لنّا أنَّ هذا الحلبيّ مقارع الاستبداد، الديّنيّ والسّياسيّ، والمنافح مبكراً لأجل التّنوير، يضحي بمناصبه وبحياته في سبيل النَّزاهة؟ كان موظفاً في نظام هارٍ، النّزاهة والأمانة فيه مِن الشّواذ.

ليس في زمن الكواكبيّ فقط، بل في زماننا، صار الفساد قاعدة، حتّى أخذ يوصف الأمين بالسَّاذج، في أنظمة اشتهرت بالفساد، مَن أناخ لها مِن دعاة التّنوير الكذبة، بينما الصّادق في تنويره وإصلاحه ظل عصياً عليها. فمَن ينسى الوزير العراقيّ الطّبيب، الذي ظل وفياً للقسم عند تخرجه طبيباً، المخضرم بين النّظامين، كان يعي أنَّ صحة أجساد النّاس بيده، فإذا قَبل بسموم الفساد، كمن يستبدل السُّم بالدَّواء، استقال ولسان حاله يقول: «واستيأسوا (مني) ومن مُتخشِّبٍ/ عَنتَاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا»، ويتبعه بالبيت «يَستصرخونَ على الشّعُوب لُصوصَها/ في حينَ يَحتجزونَ لِصّاً ساربا»(الجواهريّ، الوتريّ 1949)، فالمصلحون لم يفلحوا بإصلاحهم ضد الفساد إلا البدء بالحيتان، لا بسارق الرّبع دينار الجائع.

كتب الشّيخ محمّد راغب الطَّباخ الحلبيّ(1877 – 1951)، في ترجمة مجايله الكواكبيّ، لما عُين الأخير مديراً لبلدية حَلب، وجد «مصلحة القبَّان» مؤبدة بيد أحد الأغنياء، يأخذها مِن مدراء البلدية بالرُّشَى، لكن المدير الجديد قد عصى عليه، فزاد وعرض أربعين ألف قرش سنوياً له، فقبل الكواكبيّ بهذا العرض، على شرط وضعها في صندوق البلدية الخاوي، ولما سمع الوالي العثمانيّ بزيادة الصّندوق، أراد سهمه كالعادة. رفض الكواكبيّ الطَّلب، فعزله الوالي مِن إدارة البلدية (أعلام النُّبلاء في تاريخ الشّهباء)، والشّهباء لقب مدينة حلب المعروف.

كان أول عمل الكواكبيّ، عند إدارته للبلدية، مكافحة السّرطان الاجتماعي والاقتصاديّ، وأُس الفساد الماليّ، فقام بـ «قطع عِرق الرّشوة مِن العُمال، الذين يباشرون الأعمال والمصالح، ويسمون الجاوشيَّة (في العهد العثمانيّ)، ولكنه زاد في رواتبهم، لعلمه بأنَّ الذي يضطر أكثر العُمال إلى الرّشوة هو قلة الرَّاتب» (أعلام النُّبلاء...).

إذا قلنا إنَّ الكواكبيّ تنويريّ، فبالضرورة يكون مصلحاً ونزيهاً، في المهام التي يتصدى لها، حكوميّة كانت أو شخصية. فلما أصبح مديراً لبلدية حلب (1890) أدخل الكهرباء وكانت في بدايتها، وربطها بسكة حديد، وجلب النّهر «السّاجور» إليها، فصار الماء العذب في متناول الحلبيين، أنشأ جريدةَ «الشّهباء» وجريدةً أخرى، وأحاط المدينة بسور يحميها مِن مرور القوافل، وقطع دابر التّهريب لما كان مفتشاً لـ«مصلحة حصر الدُّخان»(التبغ).

كان في إصلاحاته يُحارَب مِن قِبل الولاة، ومِن خصمه اللّدود شيخ الإسلام بإسطنبول «أبو الهدى الصّياديّ»(ت: 1909)، الذي دارت عليه الدَّوائر ونفي(1908) بعد الانقلاب على عبد الحميد الثَّاني(ت: 1918)، إلى جزيرة قصية حتّى مات هناك. كان خلافه معه حول نقابة الأشراف بحلب، أرادها الصَّياديّ لأسرته، فأخذها مِن الكواكبيّة، وهم أصحابها.

حُكيت مؤامرة قاتلةٌ، في ليلٍ بهيم، لمَن جمع بين التّنوير والإصلاح والنّزاهة، فحُكم عليه بالإعدام، بتهمة التَّنسيق مع دولة أجنبيّة لتسليم حلب، ثم عُدل الإعدام إلى السّجن، وبعدها أطلق، فمات كمداً(أعلام النّبلاء...).

أشار حافظ إبراهيم (ت: 1932) إلى مظلوميّة الكواكبي في رثائه المكتوب على قبره: «هنا رجل الدُّنيا هنا مهبط التُّقى/هنا خير مظلومٍ هنا خير كاتبِ/ قفوا واقرؤوا أمَّ الكتاب وسلموا/ عليه فهذا القبر قبر الكواكبيّ»(الدِّيوان1937). يسخر مِن ضحايا الفساد، مَن خطابه مع التَّنوير، بينما يده ملوثةٌ بالخراب والفساد، لا يفقه أنَّ التّنوير والإصلاح والنّزاهة تَوائِم، تحملهم بطنٌ واحدةٌ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تتسيد العربية اللغات الاخرى باختيار القرآن الكريم لها بوصفها النظام اللغوي الذي استثمره النص المقدس لبيان المعاني والدلالات والرؤى الالهية وهذا الامر ينبئ عن اسرار دقيقة تتميز بها هذه اللغة المباركة دون غيرها.

و نعتقد أنّ سّر الاسرار في تميز هذه اللغة الشريفة، ومكمن قوتها، ومعلم خصوصيتها هو ارتباطها بالواقع الخارجي والنظام الكوني الذي جُعل فيه الانسان السيد، وارتباط اللغة بالواقع يعني ان اللغة بوصفها نظاماً معقداً من العلامات تمثل صورة لفظية تعبر عن النظام الكوني بكل تفاصيله واجزائه وهذا ما يتجلى في خصائصها الداخلية كونها لغة القرآن الكريم، فقد وصُف القرآن بكونه عربياً منها قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون). ومن خصائص العربية الواضحة وكما قال الفراء: (وجدنا اللغة العربية فضلاً على جميع الامم اختصاصاً من الله تعالى وكرامة اكرمهم بها، إنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات)، اي تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى .

فضلاً عن ذلك فقد انمازت العربية بان كل مجموعة من الفاظها ترجع الى مادة واحدة أُخِذت منها وهذا ما يسمى بالاشتقاق وهو استحداث كلمة أخذاً من كلمة أُخرى للتعبير بها عن معنٍ قالبّي جديد للمعنى الحرفيّ، مع تماثل بين الكلمتين في احرفهما الاصلية وترتيبها فيهما .

و من خصائص العربية ان لهجاتها لم تستقلّ بنفسها فتكّون لغات في قبالها . فالهجات العربية قبل الاسلام رغم انها ذات تنوع  واختلاف في المفردات  والاساليب والتراكيب كان هناك لهجة موحدة تستعمل في كتابة القصائد والعهود والمواثيق، كما ان ظاهرة الاعراب من أخص خصائص اللغة العربية، وهذه الظاهرة جعلت اللغة العربية تنماز بها من اللغات بسبب التنظيم الدقيق الذي سادها نتيجة لقواعد الاعراب التي يتمثل معظمها  في اصوات مد قصيرة تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية اللهم إلاّ بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية، والآرامية والحبشية .

ولاخلاف ان اللغة العربية توصف بانها لغة شاعرة لغة الضاد او لغة الاعراب،  وهي لغة بنيت على نسق الشعر في اصوله الفنية والموسيقية فهي في جملتها فن منظوم منسق الاوزان والاصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء .

و هي لغة إنسانية ناطقة تستعمل جهاز النطق الحي أحسن استعمال يهدي إليه الافتنان في الايقاع الموسيقي وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الابجدية العربية، اذ ليس في حروف الابجديات الاخرى حرف واحد يحوج العربي الى افتتاح نطق جديد لم يستعمله .

و من خصائصها الخارجية اثرها في اللغات الاخرى كالفارسية والتركية وغيرها ومنزلتها بين اللغات العالمية وإقبال غير العرب على دراستها وجعلها إحدى اللغات الرسمية في الامم المتحدة كونها اللغة القديمة الباقية دون معاصرتها في قديم الزمان فضلاً عن كونها من أكثر اللغات انتشاراً في العصر الحديث .

***

اعداد: أ. م . ليلى مناتي محمود

(من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة)

ـ سؤال مشروع: في ظل سياق العملية التعليمية التعلمية الهشة والمأزومة، تنبعث أسئلة مشروعة من رحم معاناة المجتمع المدرسي من تدني المردودية الداخلية والخارجية للممارسة الصفية، واختلال التوازن بين الشعب والمسالك التعليمية والمجالات المعرفية، وتغليب حقل على آخر. وضمنه؛ سئلت افتراضا: ماذا يحتاج متعلمنا في المدرسة ليكون ناجحا في دراسته وحياته؟

سؤال؛ قد يبدو بسيطا عند التسرع في الإجابة عنه ممن يعتقد أنه اكتسب خبرة في المجال التعليمي والتربوي والتكويني، ومن مارس فعل التربية والتعليم والتكوين ردحا من الدهر، وتدرج في مستويات ذلك من الابتدائي إلى الجامعي والمهني. لكن في حقيقة السؤال أنه سؤال مركزي ورئيس صعب، لمعطى تغيرات العصور وتطورها، ولكل عصر منها متطلباته ومستلزماته وشروطه وناسه وأحداثه... فمثلا عصر الزراعة ليس مثل عصر الصناعة، وعصر الصناعة ليس كعصر المعرفة، وعصر المعرفة ليس كعصر ما بعد المعرفة؛ وهكذا لكل عصر خصوصياته ومتطلباته. وما دمنا دخلنا عصر المعرفة بعالمها المعولم الذي يشهد تطورات تكنولوجية وإعلامية ومعلوماتية بعتادها وبرمجياتها وبنياتها التحتية مع الذكاء الاصطناعي وتطوراته المتسارعة، وخدماته المتنوعة، التي أصبحت أساسيات في أداء بعض المهام والمهن، وغدت عماد اتخاذ القرارات والبحث عن الحلول للمشاكل والقضايا المتنوعة. فهذا العصر، إذن يتطلب مطالب واحتياجات مختلفة عن تلك التي لعصر الصناعة، من حيث هو عصر المعرفة ومجتمع المعرفة؛ يستدعي درجة عالية وكبيرة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع، والوعي بتكنولوجيا المعلومات، ودورها المركزي في الحياة اليومية للإنسان فضلا عن أساسها ومرتكزها المعرفة، التي تشكل المدخل الطبيعي لكل إبداع وإنتاج ومنتوج.

ـ من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة:

وأنا أتقاسم مع السائل معرفتي البسيطة، وما تراكم وترصد لدي من معلومات وكفايات وقدرات ومهارات وقيم وخبرة وتجربة متواضعة، أزعم أنها قد تسعفني بدرجة معينة ونسبة محددة في توضيح رأيي في هذا الموضوع. وبما أن المتعلم هو إنسان المستقبل، وضع في قناة التشكيل والإعداد والتأهيل بسيرورة معينة تنشيئية ذات مراحل محددة وفق مراحل النمو البشري، ومتضمنات التربية والتعليم والتكوين والتأهيل. فله بعدان في هذه المسألة؛ بعد مدرسي وبعد تكويني تأهيلي مجتمعي.

1 ـ البعد المدرسي:

واحتياجات نجاح المتعلم في البعد المدرسي عديدة، لكن سأركز على الأركان منها كما يلي:

نجاح المتعلم يعتمد في البداية على:

أ ـ تحصيل المعرفة الأبجدية في الحقول المعرفية المدرسة وفق المنهاج الدراسي عبر فعلي التعليم والتعلم؛ من حيث تلعب التربية والتعليم والتكوين دورا رئيسا ومركزيا في الاندماج الاجتماعي للمتعلم/ة بتوفير المعرفة والمهارات اللازمة للعمل بفعالية في المجتمع. وتمكنه من تركيم وترصيد المعرفة على المستوى العمودي والأفقي التي تقدره على الاستمرار واستدامة التعلم عبر المراحل والأسلاك التعليمية الرسمية، وعبر التعلم الذاتي أو عبر التعلم عن الآخرين وتجارب وخبرات السابقين. فهذه الأبجديات المعرفية والأدائية هي الرافد الأساس لمساره التعلمي.

ب ـ الموارد الداخلية المبرمجة رسميا، والخارجية المكتسبة في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والإيديولوجي والمعلوماتي والتكنولوجي والتقني والاقتصادي والمعيشي... وبصفة عامة المستفادة من المعيش اليومي وتجارب الحياة في المجتمع ضمن العلاقات بينية والتفاعل الإنساني تأثيرا وتأثرا؛ هي التي تدعم وتعزز تلك الأبجديات المعرفية، وتحسن وظيفتها في إغناء تجربة المتعلم/ة وإسنادها للرفع من كفاءة التعلم عنده. فالاستمرار في المسار التعلمي يتكئ على هذه الأبجديات والموارد والخبرات والتجارب والمواقف الحياتية المعيشة. فلا تطور، ولا تقدم في المستقبل التعليمي للمتعلم/ة دونها.

ج ـ اكتساب المهارات والكفايات والقدرات بما فيها مهارات التفكير على مختلف أنواعها حسب نوع التفكير؛ فالتفكير بكل أنواعه هو المدخل الأساس في اكتساب المعارف والموارد والأنشطة التعليمية المتنوعة، التي ترشح عند المتعلم/ة كفاية المعرفة والفعل، وتخلق إرادة التحدي للصعاب والعوائق والحواجز التي تقف في دربه التعلمي. فالتفكير هو مهد كل منجز فكري ومادي يستفيد منه المتعلم/ة أولا ثم الإنسانية ثانيا، ويشكل حوضا يتغذى منه التطور الإنساني والوطني.

د ـ اكتساب مناهج البحث والدراسة وأدواتها فضلا عن الاستراتيجيات وخطوات تنفيذها والاستفادة منها والتعلم من خلالها؛ فالمتعلم/ة الذي يفتقد هذه المناهج وأدواتها واستراتيجياتها لا يستطيع مسايرة تطور المعرفة فضلا عن متابعة دراسته، فهو كالبناء الذي يفتقد أدوات العمل، حيث لا يستطيع تشييد البناءات فضلا عن العمارات. فشرط الدراسة والتعلم والتكوين هو امتلاك المتعلم أدوات ومناهج واستراتيجيات ذلك. وإلا؛ نكون كالذي ألقي في البحر لانقاد الغريق وهو ما بسباح ولا يدري السباحة! تطبيقا للمثل السائر فينا عن عمرو بن العاص: " مكره أخوك لا بطل ".

هـ ـ اكتساب تجربة وخبرة كيفية التطبيق العملي للمكتسبات سواء معارف ومعلومات أو نظريات أو كفايات ومهارات وقدرات وقيم، أو كأساليب واستراتيجيات وطرق ومنهج وديداكتيك... وغير ذلك. وتوظيف أدوات وتجهيزات وآليات البحث والدراسة؛

و ـ اكتساب حافزية التعلم والبحث، وجرأة اقتحام المجهول واستكشافه والاستفادة منه، وإرادة الفعل والتحدي لكل الصعاب والعوائق والتحديات بروح صلبة، وبصيرة نافذة، وعزيمة قوية، وباستشراف متفائل للغد والمستقبل. وهو يسمح للمتعلم بالتطور والتقدم والتغيير؛

ح ـ ممارس بيداغوجي مكون ومؤهل مهنيا وأكاديميا ونفسيا وثقافيا، يؤمن برسالته التربوية والتعليمية، يستشعر المسؤولية في أدائه التربوي والتعليمي ضمن توفير كل شروط ومتطلبات الرسالة وعلى رأسها الاستقرار النفسي والمالي.

ط ـ ضمان متطلبات وضروريات ومستلزمات وشروط العملية التعليمية التعلمية، إزاء التنشئة الأسرية والاجتماعية المتوازنة والفاعلة، الضامنة للتوازن النفسي والتوافق الدراسي... والبيئة الدراسية الحاضنة للمتعلم والداعمة له في تحصيله المدرسي؛

ي ـ كفاية الفعل؛ بمعنى قدرة المتعلم على الفعل سواء أكان تفكيرا أو إنجاز عمل في الواقع بما يمكنه من معرفة معطيات موضوع الفعل وميكانيزم اشتغاله فضلا عن كيفية الاشتغال عليه.

2 ـ البعد التكويني التأهيلي المجتمعي:

عندما يتدرج المتعلم حسب أسلاك التعليم، يصبح في مرحلة ما شابا ناضجا، يخرج من دائرة التربية والتعلم إلى دائرة التكوين والتأهيل للاندماج في المجتمع وفق ما طمح أن يكون عليه من موقع اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وفكري ومهني؛ لممارسة مهنة معينة في المجتمع والقيام بدور يحدده لنفسه أو يحدد له، في سياق التفاعل الاجتماعي لمكونات المجتمع من أفراد ومؤسسات وجماعات ومنظمات. ومن أجل هذا الاندماج على المتعلم أن يكتسب:

أ ـ المهارات الحياتية أو المهارات الأساسية أو المهارات الناعمة؛ بما هي قدرات ومهارات وكفايات تمكن الفرد من القيام بسلوك ومواقف تكيفية وإيجابية تقدره على مواجهة مشاكل وقضايا الحياة اليومية، والتعامل مع معطياتها ومشاكلها وتحدياتها، من خلال تركيز وتعزيز السلوك الشخصي الإيجابي المتفاعل، والتكيف الاجتماعي والمهني والإنساني مع الوسط والبيئة التي يعيش فيها الفرد/المتعلم. وهي المهارات والقدرات والكفايات عامة لا ترتبط بمهنة معينة بالضرورة، ولكنها متعلقة بطريقة تفاعل الفرد مع وسطه وبيئته من حوله، وتواصله وتفاعله مع الآخرين، وتعامله مع المواقف الحياتية المختلفة. ومن بين هذه المهارات والقدرات والكفايات بالنسبة للمتعلم/ة:

* الاتصال الفاعل والمتفاعل مع الآخر من حيث قدرة المتعلم/ة واستطاعته التعبير عن أفكاره ورؤاه بوضوح وجلاء، والاستماع بنشاط للغير أو محاوره والتواصل معه بشكل بناء وإيجابي وفعال في إطار التفهم والحوار السليم، في إطار لغوي مفهوم وواضح دون تشويش أو ضبابية أو مراوغة. وفي إطار مستوعب للأعراف والقيم والأخلاق الاجتماعية الحاضنة للتواصل والحوار كما في الثقافة الإسلامية والتقاليد المحلية والوطنية، التي تراعى عند الناس في تفاعلهم الحواري والتواصلي. الأمر الذي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي للمجتمع والأفراد والمؤسسات القائم على الظروف الاجتماعية المستقرة، بما في ذلك توفير الأمن الجسدي الفردي والأسري والمؤسساتي والمجتمعي، وحصول الفرد على الشغل والسكن والعدالة والتعليم والصحة... ما يعزز التكامل الاجتماعي في المجتمع.

* حل المشاكل والقضايا والإشكاليات الحياتية سواء أكانت فكرية أو نظرية أو عملية تطبيقية في مختلف المجالات والقطاعات والعلاقات البينية؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة واستطاعته تحليل المواقف وتشريحها، وتحديد المشاكل والقضايا والإشكاليات الواقعية والحقيقية، المركزية والأساسية والثانوية مع تحديد المحتملة منها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، والناجعة التي تحقق التقدم والتطور، والتي تراكم وترصد المكتسبات.

* اتخاذ القرارات الناجعة والفاعلة؛ بمعنى صناعة القرارات عبر قدرة المتعلم/ة على اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على الإدراك والوعي بها، ومرتكزة على المعرفة والعلم والتدقيق في بياناتها ومعطياتها وامكانياتها ومتطلباتها وأهدافها وإمكانية تنفيذها وإجرائها وتطبيقها. وتقويم وتقييم الخيارات الممكنة والمتاحة واستحضار العوائد الإيجابية والسلبية بمسمى العواقب والتحديات.

* إدارة الوقت؛ بمعنى مهارة المتعلم/ة وقدرته على تنظيم الوقت وإدارته بفعالية وفاعلية ضمن تحديد الأبجديات والأولويات لإنجاز المهام بكفاءة، والقيام بالوظيفة الموكولة له بالشكل المطلوب تحت سقف المواصفات والمؤشرات والمعايير المحددة للوظيفة وناتجها العملي.

* القدرة على التكيف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على كفاية التكيف، التي يفعلها اتجاه مواقف الحياة المختلفة، ويجريها على التغيرات الحاصلة في الواقع بطريقة إيجابية ومتفهمة. والتكيف هنا يكسب المتعلم مهارات متنوعة كالانسجام مع الآخر، والقبول بالرأي المخالف، وتقدير المكتسبات التي تأتي من الغير، واحترام الشخص المختلف، والتشبث بقيم الحوار، وتقدير وتفعيل قيمة التعاون والتكامل والتفاعل، واحترام المعايير الثقافية الخاصة بالمجتمعات عامة ومجتمعه خاصة، التي تستوعب القيم والتقاليد والتوقعات الثقافية التي تختلف من مجتمع إلى آخر حسب معطياته الخاصة... وهي مهارات وقيم غير متاحة للجميع على قدم المساواة، وإنما هي التي توقع التفردات والتميزات بين الأفراد والجماعات.

* إدارة الإجهاد والعناء؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة على التعامل مع المواقف لسيكولوجية بما فيها العصيبة، كالقلق والتشنج والخوف واليأس... ومحاولة حفاظه على الهدوء والراحة البدنية والنفسية تجاه ما يسبب له ذلك، وكذلك إمكانية خلقه طرقا بناءة للتعامل مع الضغوط النفسية. وإيجاد التوازن والتوافق الذاتي أولا ثم التوافقات الأخرى من اجتماعية واقتصادية...

* التعاون والعمل الجماعي؛ وقد سبق ذكره، بمعنى قدرة المتعلم/ة على العمل بفعالية وإيجابية وتكامل وتناسق مع الآخرين، وانسجام في بعض الأحيان وتفاهم، وتقاسم المسؤوليات وتحقيق الأهداف المشتركة، وتحديد الأدوار والمهام والالتزام بها. وهذه القدرة لا يكتسبها المتعلم/ة إلا بالوعي بذاته وبالآخر وبمجال العمل، واستحضار مجموع مكتسباته المتنوعة وخبراته وتجاربه تحت كفاية الفعل والإرادة الشخصية، وذلك ضمن المجتمع الواعي والمؤسساتي الذي يشرك جميع أفراده على قدم المساواة دون تمييزهم بأي معطى إثني أو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني أو إيديولوجي أو ثقافي... كان؛ في أنشطته المتنوعة تعزيزا للاندماج الاجتماعي.

وفي إطار الاندماج الاجتماعي نجد المنظومة التربوية والتكوينية بمنطوق المؤسسة التعليمية تحتضن التنوع والشمول بطبيعتها لتنوع مداخلها وروافدها، من حيث تعززه بالتنوع الثقافي والاجتماعي والعرقي والإيديولوجي والسياسي والاقتصادي والديني والمذهبي... وبذلك تعزز الشعور بالإدماج والاحترام والتقدير المتبادل بين الجميع.

* الاستقلالية؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على اتخاذ المبادرة الشخصية تحت سقف القبول بالمسؤولية عن أفعاله تقويما ومساءلة ومحاسبة وتحفيزا، وقدرته على العمل بشكل مستقل وحر ووعي تأثيرا وتأثرا.

* التعاطف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على فهم وتفهم الآخر، ومشاركته مشاعره وهواجسه، والتعرف على وجهات النظر المختلفة والمتنوعة، وتطوير العلاقات البينية الإيجابية بناء على خلق روابط بينية قوية تعزز التعاون والدعم المتبادل والتفاهم المشترك.

* التدبير المالي؛ بمعنى مهارة وقدرة المتعلم/ة على وضع مشاريع الميزانيات والأغلفة المالية، وإدارتها بشكل معقلن وفعال، واتخاذ القرارات المالية المسؤولة وتحمل تبعياتها المتنوعة.

هذه المهارات والقدرات والكفايات وغيرها تعتبر عاملا حاسما في النجاح الشخصي والمهني للمتعلم/ة من حيث تساعده في بناء مرونته، وتعزيز علاقاته البينية الإيجابية مع الأشخاص والجماعات والمؤسسات والمنظمات وجماعات المهن، وتمكينه التنقل بسهولة بين تحديات الحياة اليومية ومواجهتها.

ب ـ بناء على مكتسباته المدرسية والاكاديمية والمهنية، والمهارات الحياتية، ينخرط المتعلم/ة في المجتمع بلعب دور ما وفق المؤهلات التي رشحتها هذه المكتسبات، وبذلك يشارك الآخرين في رحاب المجتمع من خلال: مشاركته الاقتصادية عبر العمل والشغل والتنمية بوصوله إلى فرصة عمل عادلة. ومشاركته عبر العمل السياسي بالانتماء إلى منظمة سياسية معينة، والذي يتضمن عمليات صنع القرارات، ومشاركته عبر العمل الاجتماعي المرتبط بمواجهة قضايا المجتمع والعمل عليها، ومشاركته عبر بعده الثقافي من خلال تعاطيه مع الفنون والقيم الثقافية والتعبير، ومشاركته عبر بعده القيمي في تخليق الحياة العامة والخاصة، ونشر القيم الإنسانية في المجتمع معرفة وسلوكا.

ونتيجة هذه المكتسبات؛ يمتلك المتعلم/ة الحرية والقيم المعنوية والاستقلالية والعدالة والعقلانية، بما يمكنه من جرأة اقتحام المجهول بالتساؤل والتجربة والاستفادة من تجارب الآخرين، والعمل على رفع مستوى التحدي للصعوبات والمعوقات، ورفع درجة الوعي والوعي السياسي عنده بما يشكل نظرته تجاه القضايا المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية في مقاربتها والتعاطي معها ضمن المشاركة الاجتماعية والجماعية، ورفع درجة الاعتماد على ذاته، وتقديرها من خلال الوعي والتحلي بالنزاهة والمسؤولية في تنفيذ وجهة نظره تلك.

والملاحظ أن هذه المكتسبات والمهارات تتفاعل فيما بينها بشكل معقد. فيه كل مكتسب ومهارة تختلف أهميته النسبية اعتمادا على الثقافة السائدة والسياق الاجتماعي والسياسي المعيش وعوامل أخرى خاصة متعلقة بكل مجتمع وأفراده.

ج ـ بعدما تكون سيرورة المكتسبات والمهارات والقدرات والكفايات والتعلمات والتجارب والخبرات مكنت المتعلم/ة صغيرا وراشدا كيفية الانصهار في مجتمعه على المستوى الأفقي بتشبعه وتمثله لمجموع قيم المجتمع وتقاليده وعاداته وأشكال وأنماط عيشه. وعلى المستوى العمودي باكتسابه هوية سياسية معينة توطن انتماءه وانتسابه للوطن والدولة، وتعزز مواطنته ووطنيته وولاءه لها ضمن الاندماج الاجتماعي الذي يشكل الأداة الطبيعية والسياق الحامل لتكامل وتكافل مكونات المجتمع من خلال الخدمات والوظائف المتبادلة بينها، بما يدعم ويعزز تماثل واتساق الأفراد والجماعات في الثقافة والفكر والشغل، وفي تحقيق المصلحة العامة والنفع العام. ومن خلال وعي الأفراد وتحملهم مسؤولية التعاطي مع المشاكل الاجتماعية وحلها، وتحسين الأحوال الاجتماعية للمجتمع بالمشاركة في تحسين أحوال المجتمع على مختلف الأصعدة والقطاعات والمجالات، بتوفير أسباب تجويدها وتحسينها وتطويرها بتنوع أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والبيئية والتشريعية والإنتاجية والتكنولوجية والصناعية... والعمل على تنفيذها في الميدان أو بحل مشاكلها إجرائيا في الواقع المعيش.

فالمتعلم/ة؛ كونه فردا مكونا للمجتمع تصبح له دلالة وجودية في المجتمع حين يكون فاعلا فيه، ولا عالة عليه، وهذا يتطلب من الدولة عبر المنظومة التربوية والتكوينية أن تقوم بتنشئة النشء اجتماعيا على مبادئ وقيم وهوية مستقلة حرة؛ إذ تعمل على برمجة مناهج تتضمن موارد مدرسية وأكاديمية تشتغل على تطوير الفهم المدني والحقوقي للمتعلم/ة الفرد المواطن، ووعيه بمجموع مسؤولياته، وتربيته على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيمه المتعارف عليها، وتمثلها في سلوكه وأدائه المهني والاجتماعي. ووعيه هذا يتأسس عبر المنظومة التربوية والتكوينية من خلال بناء مهارات وقدرات وكفايات التفكير الناقد عند المتعلم/ة الفرد المواطن، وتدريبه على ممارسة التفكير الناقد على مواضيع وقضايا حية كقول البعض على الملإ، وهو المفترض فيه تدريس التفكير المنطقي والقول الموضوعي والعلمي للنشء، ومن يؤسس في المجتمع مسؤولية القول ونتائجه والابتعاد عن الديماغوجية والمغالطات، ويشيد ثقة المجتمع به وبرسالته؛ لكن مع الأسف الشديد هو من يهدم صورته وسحنته وسماته وصفاته في المجتمع. ففي قولهم: " من فرض عليهم التعاقد " وهي مقولة متهافة من حيث لا تعبر عن الحقائق الميدانية والواقعية، ولا تملك من المنطق شيئا، ولا ترقى إلى العلمية والموضوعية في شيء؛ لأنها نابعة من كلام مغالط وديماغوجي وهمروجي يناقض الواقع في مواطن عدة، منها:

ـ التوظيف تم بمباراة عمومية حرة موجهة للعموم تحت سقف شروط معينة ومحددة، خارجة عن إطار الإجبار والإلزام، وداخل إطار من الاختيار؛

ـ اختياريتها تتجلى من خلال حرية المترشح في الترشح لهذه المباراة أو الإحجام عن ذلك؛ فهو حر ومستقل تجاه المشاركة في التباري؛

ـ المباراة لم تجبر أحدا كيفما كان على المشاركة فيها، ولم تأخذه بالعنف إلى ذلك، لأن لفظ " فرض " يحمل دلالة العنف المادي والمعنوي أو الرمزي في دلالته النووية هنا.

ـ حرية اختيار المشاركة في المباراة من عدمها قائم على وجود مباريات أخرى؛ من المفترض في المترشح أن يحجم عن المشاركة في هذه المباراة والتوجه نحو أخرى. فلو كانت هذه المباراة هي الوحيدة المتاحة في الوظيفة لكان مع هذه المقولة الصواب والصحة. ولكن في ظل وجود عدة مباريات ينتفي الفرض والإجبار عنها.

ـ مسؤولية المشارك هنا تقع عليه، وليس على الدولة؛ لأنه هو من شارك في المباراة بكل حرية واستقلالية، ولا يمكن له تحميل مسؤولية المشاركة للدولة. فذلك هروب منها وإلى الأمام بدل تحمل مسؤوليته وعواقبها.

وبناء على هذا؛ يجب التخلي عن هذه اللغة لأنها مشينة في حق كل مرب يبني الأجيال على التفكير السليم والمنطقي. فلا يمكن مسايرة منظمات نقابوية في تهشيم صورة المربي في المجتمع المتميزة. ويجب أن نسلك لغة مبنية على وقائع حقيقية وموضوعية تقف بذاتها مدافعة عن مواقفنا ومطالبنا وطموحاتنا، ومبررة لكل إجراء اتخذناه لأنها تقوم حجة دامغة عليه. فالتربية والتعليم والتكوين لا يقوم على المغالطات والهشاشة الفكرية التي في العقول الكبيرة تعرب عن ضعف الموقف والقرار والإجراء، وتحطمه من الداخل أمام الآخر محاورا كان أم خصما.

وفي نطاق تدريس التفكير الناقد تستطيع المنظومة التربوية والتكوينية أن تمكن المتعلمين/ت استيعاب وإدراك وفهم المعطيات والمعلومات المقدمة لهم، وتحليلها ومناقشتها ودراستها، وطرح الأسئلة النقدية عليها، في اتجاه تأهيلهم وتدريبهم على فحص المعطيات والمعلومات والبيانات... فحصا دقيقا ناقدا لاتخاذ قرارات مستنيرة في شأنها.

وبجانب التفكير الناقد، يمكن للمنظومة تدريب المتعلم/ة على المشاركة في الأنشطة المدنية العملية داخل المؤسسة التعليمية وخارجها المضمنة في المنهاج الدراسي كمحاكاة الحكومة، والمناظرات، والمشاريع المجتمعية، والأنشطة التطوعية والجمعوية والشبابية وزيارة المؤسسات المنتخبة فضلا عن تكوينه على المواطنة الرقمية، وتدريبه في سياق عصر المعلوميات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرقميات على مهارات وقدرات المواطنة الرقمية، التي تساعده على التعامل مع بيئة الإنترنت بمسؤولية وأخلاقية، تفهم وتستوعب الآثار الأخلاقية والاجتماعية للتكنولوجيات والرقميات. وتطوير التفكير النقدي للمعلومات الرقمية إزاء ذلك.

فالبعد التكويني التأهيلي المجتمعي للمتعلم/ة راشدا يلعب دورا مركزيا وحاسما في تطويره مواطنا مسؤولا أخلاقيا مندمجا في مجتمعه، يعمل على تنميته وتطويره، ويستشرف المستقبل ويعمل عليه، ويعي حاضره ومعطياته وحيثياته ويبني عليها ما يؤسس به رؤيته للآتي، ويدرك ماضيه مستفيدا منه لخدمة راهنه ومستقبله. وهو مؤهل يتكئ على مكتسباته المتنوعة وقدراته ومهاراته وكفاياته وكفاءته وعقله وتفكيرها، معتمدا على نفسه، واثقا منها ومن سداد خياراتها.

ـ للأمل محل وجود:

من واقع الحال؛ أجد المتعلم/ة جديرا بمنظومة تربوية والتكوينية جيدة وقوية بدل هذه الهشة، التي تعاني الكثير من المشاكل والقضايا والإشكاليات شديدة التعقيد والتشبيك. فهو في ظل الحالية لا يمتلك القدرة على النجاح بسهولة ويسر وسلاسة، لوجود اختلالات في العملية التعليمية التعلمية هندسة وتخطيطا وتنظيرا، وفي ترجمتها العملية الممارسة الصفية، التي تنتج فائضا من المنتوج التعليمي المعطل، ومعيب الاندماج الاجتماعي لفقدانه المهارات الحياتية سواء على مستوى الشغل أو على مستوى الوعي بأزمته التي يعيشها، والمؤثرة في سيرورة حياته سلبا. ولعل النظر إلى الشارع وما يجري فيه من أحداث ووقائع يعبر تعبيرا دالا عن فقدان خريج المنظومة التربوية والتكوينية بعده الإنساني تجاه الآخر، فلغة الشارع وما تتضمنه من خطاب هابط سوقي يعبر عن ذلك، واختلال الملك العمومي والاستحواذ عليه أمر ينبئك بنوعية التفكير السائد في المجتمع، وهو وليد التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية بالدرجة الأولى، والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الثقافة والشباب... وغيرها. ولعل ما يؤازر هذا المشهد المؤلم مشهد أمراضنا الاجتماعية من المصلحجية والذاتية والإثنية والحزبوية والمحاباة والتحيزات بمختلف خوارزمياتها... يدل على مردودية المنظومة التربوية والتكوينية على مستوى الكفاية المعرفية وكفاية الفعل والكفاية القيمية. ومنه؛ فأملنا في المستقبل كبير من حيث اعتقادنا بأن إدامة الحال من المحال، والتغيير قانون رباني كوني يساير الوجود الإنساني في هذا الكون؛ لذلك فالتغيير وارد بطبيعة الوجود والتاريخ والحتمية الحضارية. يحدث قطيعة مع واقع منظومتنا التربوية والتكوينية، ويقودها نحو الجودة والمردودية الجيدة الفاعلة في المجتمع.

***

عبد العزيز قريش

ندرك تماما كيف نرى، وكيف نسمع، ولكننا لا نرى ولا نسمع بإدراك جوهر حقيقة الحاستين ..

إنهما معا يملكان الوجاهة والظفر بالأشياء. بيد أنهما لا يتفاعلان في اللحظة ذاتها، التي تنساق العاطفة المضمرة خلالها، إلى تحويل القضية إلى مجرد هوى، أو فكرة عائمة، أو حالة مفردة، خارج الذات ..

قد ترى أشياءك بغير هدى. وقد لا ترى ما تهتدي إليه.

ثم قد تسمع ما لا تحب وترضى، فلا ترفض مداواة الأذن الخؤون بطي الأحداق عن النظر بالقلب، لأن ذلك يفشي سر صبرك على قهر السوء.

أليس يقول الحكيم : الرمد أهون من العمى!؟

 ـ2 -

الاقتدارية ليست فلتة عقل. ولا حاجة لإطلاقها على وجه الاستنتاج الشخصي، المزاجي .. 

الاقتدارية، هي سبق لغوي ابستيمي. جهد فكري نوعي غير مغالط للإواليات والتشكلات في الوعي والحصائل المعرفية ..

فإذا أنت نظرت للاقتدار كونه تربصا أو حالة ظاهرة فردية، فمن العبث أن يحصل بذلك طفرة الاستحداث والتقابل الزمني والنفسي.

المقصود أن تفهم قبل أن تدرك المعاني والابعاد، لفكرة ما، بما يتضمن معاني النقد والتحليل والنظرة الموضوعية المحايدة وينضم الى ذلك معنى الرفض.

وإذا أدركت وتجردت وناورت وأقحمت النظر وسموت به مقام التكليف، فارفع قلق المعنى كي ترى ما ترى، ويقتعد بين شخصك وشيئك، هويتك .. 

هي ما يتبقى، وبعدها يموت فيك كل شيء، إلا اقتداريتك ( اليوطوبيا الروحية التي هي ملهمة الوجود وقدسية السيرورة)!  .. إنها حقيقة الجسم اللطيف المشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب .

 ـ3 -

لا تقل للجاهل شيئا. فأنت في ذمته إلى أن يموت في جهله.

وإذا انتقصك، فإنما يغلق عنك عداوته، كطلب اللذة بعد التعب، تخالفها لأنك تتشوق لمعاودتها، دونما حاجة لمعرفة غموضها.. طلب شاق، ولكنه منذور للتأمل والمكاشفة.

للجاهل أخلاق بلا إجابات، ونظر بلا فهم، وأشداق كثخمة الضباع، لا تستنفر اللسان إلا عند داعي العض والنهش.

هل تستكثر إذن أن يبوء الجاهل، بما بطن، وما حطب، وما استئذان؟

فأنت تخاطبه بالطبابة، وتشفق عليه، وهو ينازعك ويتهددك.

فاركع مستسلما أمام جهلك، كما قال جبران خليل جبران، فإنك إن علمت حقيقة نفسك، تكرشت نيتك، وخابت نوازعك، وتقصم الجنون الذي هو لجامك وانحدارك ..

قرأت في الأثر (أن الجاهل يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت فتنة أردته وتهور فيها) .

وللحق، فقد تصايد الزمن نوادر من الجهال والجهالات، وأمعنت النظر فيهم، فهم يبَخِّلُونَ ويجبِّنُونَ، ويعتقدون الأشياء على خلاف ما هو عليه، كما يعدمون المعرفة بغير هدى..وهم إلى اضطراب العقل أقرب، وإلى الجفاء والتسافه والطيش أظهر.

وقديما قيل " لا ينتصف حليم من جهول"، وهو في قاموس المعاني، ما يضرب في غلبة الجهول للحليم، لأن الجاهل يزيد عليه في المهاترة، والحليم يربأ بنفسه من مغالبته في السفاهة .

نعم ، لقد صدق الشاعر إذ قال:

إذا بخَسَ الجُهّالُ قَدرَ فَضِيلَة ..

فلَيسُوا بها بالجاهِلِينَ فيُبْخَسَا

 ـ4 -

 .. يقولُ فيروِي صدَى جاهلٍ

 ويُعطي فيروي صدى حائم

السؤال : هل يكون حق الرواية بلسان الجاهل؟

وجه الغرابة، أن الرواة مقصودون بقيمة صحة روايتهم. فإذا طفقت من الشك، خرجت عن تداولها .

ثم الصدى الذي يتردد بقهر الجهل، هو عنوان التردية والتهويم.

فما بال الجهال لا يقطعون حناجرهم من غلبة البؤس وقلة الحياء، وبور اللغو، وسفاهة المنحدر؟

لأنهم إن أدركوا ألا أفظع من جهل فاعل، علموا أن القبح الروحي يبوء بالفراغ والحشا الدنيء، فلا يسوء به ناظره، ولا ينثن صالحا أبر.

وإذا بالصدى الجهلاني، البطلاني، الشروري، يرجع حوما وعقرا وشنارا، وصنيعة شنيعة مريعة ..

وإذا الرواية منه، قطعة من حوم، وشرعة في حقارة، وجرس عدم وندم؟

فلننظر، كيف يرثي القبح الجمال، فيصير العمى (القلبي البصائري) عذابا ونكدا، وسقوطا كاشفا مفضحا للجهل والغباء؟!، بل وجها للجنون، حيث يمني صاحبه النفس إن فعل ذات الشيء مرة بعد أخرى، أن يتوقع نتيجة مختلفة، فيخرق الأرض بالخيال ويبلغ السماء في النوم، ويلحق بالمارستان.

واعجبي ..

 ـ5 -

 - أقرب الناس إلى الفهم أولئك الذين يصمتون في كل الأوقات

المستلذون بأرواحهم. هؤلاء يتعلقون بالمحسوسات، ويستوعبون المعقولات، على اختلاف درجات الإِدراكِ وصفاء التصَوُّر.

فالصمت ليس صورة للحكمة، ولكنه وعاء لجماع مقالها، ونطاق مؤنس لفرزها عن التيه والجنوح إلى الإطلاق .

ويقاس الفهم عند الصمت بإدراك الغاية. وإذا اكتفيت وهديت سرى بين النطق وفكره، سداد أو طمر نظر، أو وحي من قبس الخيال ..

فلا تستطيع الفكاك، من الورد الذي يعكسك، اناك المطمورة  في برك الشك، ممزوجا بيقظة عين ذئب في براري الهلاك ..

أين منا ذاك الصمت الطفولي، الذي يقتدر خلخلة الأصوات المزهوة بامتلاء ساقيها؟

صموتا خالصا لا يخالط معنى ولا مبهما؟

كأنما هو صمت المعري، (نطق، يظهر كامنا، ويقرر)

من وجه الكفاية عندما يكون من غاية الصمت ثراء الروح وقيمة الخلاص من الاهواء؟

ومن الأنانية أن نخضع للكذب، ونذعن له، فهو كنخرة الريح الشديدة، تبرد بعد عصف مكين وجعرة نكس سافرة.

سرعان ما يتهددها الألم، في غياب حجاب الصمت وناموسه العظيم على النفس والبدن.

كنت أقرأ بفرادة حكمة آرثر شوبنهاور وهو يبارز هذه الدمغة ( إن الأنانية تثير قدرا من الرعب، بحيث إننا اخترعنا السياسة لإخفائها، ولكنها تخترق كل النقب وتفضح نفسها لدى كل مصادف)؟

المشكل أن عوائل الصمت الذكية، حتى تلك التي تمرق في أرض جرباء، لا تستطيع ان تسلخ لحم فريتها عن فعال الحقيقة.

***

د مصطفى غلمان

 

بقلم: أكانكشا سينج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد اكتسح علم فراسة الدماغ الزائف المخيلة الشعبية، وجعل ممارسوه يستغلون التحيزات والسذاجة والمعلومات المضللة.

في وقت ما، اعتقد الناس أنه يمكنك التأكد من شخصية الشخص وسماته الشخصية من خلال فحص نتوءات وأشكال جمجمته. كانت هذه الدراسة تسمى علم فراسة الدماغ، ولم يكن مؤيدوها مجرد أشخاص على الهامش؛ يعتقد العلماء الراسخون أن مثل هذا "العلم" له ميزة.2090 Akanksha Singh

"في الأصل كان [علم فراسة الدماغ] طبيًا بشكل واضح"، كما كتب روبرت إي. ريجل في مقال نشر عام 1933 في المجلة التاريخية الأمريكية. "إن منشئه هم الأطباء فرانسوا جوزيف غال وجون غاسبار سبورزهايم، الذين قاموا بالجزء الأكبر من عملهم في العقدين الأولين من القرن."

حصل غال على درجة الدكتوراه في عام 1785 وأصبح "طبيبًا خاصًا ناجحًا وذو علاقات جيدة في فيينا"، كما كتب جون فان وايهي في مقال في المجلة البريطانية لتاريخ العلوم. ومن المفترض أنه رفض عرضًا بأن يصبح الطبيب الشخصي للإمبراطور فرانز الثاني "للحفاظ على استقلاله"، ووجد الإلهام في نظرية "ازدواجية العقل والجسد" التي طرحها الفيلسوف يوهان جوتفريد فون هيردر. بعد ذلك، شرع غال في إثبات هذه النظرية - القائلة بأن العقل والجسم مرتبطان - وقام بجمع الجماجم البشرية والحيوانية، وصنع قوالب شمعية للأدمغة وأسطح الجماجم، وأصبح "شخصًا مشهورًا محليًا" بسبب مجموعة الجماجم التي جمعها (العدد 300). ولم يمض وقت طويل حتى اتهمت الحكومة جال بتعريض الأخلاق والدين للخطر، ومنعته من إلقاء محاضرات حول هذا الموضوع. وفي إحدى هذه المحاضرات التقى سبورتسهايم بجال. بدءًا من عام 1804، تعاون الاثنان لمدة ثماني سنوات تقريبًا حتى بدأ سبورتسهايم في تقديم وجهة نظره الخاصة حول النظام وأطلق عليه اسم "علم فراسة الدماغ" من كلمة phren، وهي الكلمة اليونانية التي تعني "العقل".

بينما كان سبورتسهايم يقوم بجولة في بريطانيا - سلسلة من محاضرات المشاهير - وجد  علم فراسة الدماغ موطنًا جديدًا. الجميع من شارلوت برونتي وجورج إليوت إلى آرثر كونان دويل اهتموا بها. بين عامي 1823 و1836، أنشأ علماء فراسة الدماغ أربعًا وعشرين جمعية متخصصة تضم 1000 عضو، ونشروا سبعة وخمسين كتابًا ومنشورًا، يصل عددها إلى 64250 مجلدًا.2091 Akanksha Singh

في عام 1836، توقع هيويت واتسون، عالم النبات البارز (ولاحقًا عالم فراسة الدماغ) أن الرافضين في المستقبل سيكونون موضع سخرية. كتب واتسون: "سوف تُمنح الشفقة العامة مجانًا لمناهضي فراسة الدماغ". "[A] علم الفرينولوجيا المضاد سوف يكون موجودًا في آخر انحطاط العمر [...] سيكون موضوعًا لمؤرخي الأشياء التي لم تعد موجودة."

علاوة على ذلك، كان علم فراسة الدماغ مدعومًا من قبل أشخاص يقدرهم واتسون، بما في ذلك رئيس أساقفة دبلن الأنجليكاني، ريتشارد واتلي، الذي أعلن أن "علم فراسة الدماغ صحيح لأن.. الشمس الآن في السماء".

المفارقة ذكية. ومع ذلك، ازدهر علم فراسة الدماغ لفترة من الوقت. وفي عام 1850، قامت الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت بدعوة عالم فراسة الدماغ جورج كومب إلى القصر لقراءة رؤوس أطفالهما. قام كومب - الذي قدم علم فراسة الدماغ إلى الطبقات الوسطى البريطانية في عشرينيات القرن التاسع عشر من خلال جولات محاضراته - بدراسة أمير ويلز، إدوارد السابع. عندما كان الأمير في التاسعة من عمره، كان أداء الأمير  سيئًا في دراسته. وفي وقت لاحق، تم تعيين عالم فراسة الدماغ كمدرس للأمير ألفريد، الابن الثاني للملكة فيكتوريا.

من جانبهم، يعتقد علماء فراسة الدماغ أن السمات السلوكية المجردة، بما في ذلك الحزم والأمل والسمو والتدمير،"تم وضعها في تلافيفات محددة على سطح الدماغ، وأن تمثيل هذه السمات يمكن الاستدلال عليه عن طريق ملامسة الجمجمة". هكذا كتب جيمس آش في مراجعة ربع سنوية لعلم الأحياء.

على الرغم من أن علم فراسة الدماغ انتشر إلى حد كبير من خلال جولات المحاضرات المبهرة، إلا أنه لم يمض وقت طويل قبل أن يقوم أساتذة الجامعات بتدريس هذا العلم الزائف لطلاب الطب إلى جانب علم التشريح. استخدم علماء فراسة الدماغ في المقام الأول أشرطة القياس ومقاييس القحف - وهي أدوات نصف دائرية لقياس الجمجمة - بالإضافة إلى الفرجار للوصول إلى تشخيصاتهم. ومع ظهور الكهرباء، استخدم بعض علماء فراسة الدماغ "مخططات الدماغ"، وهي خوذات دائرية يمكنها أخذ "قراءات" الجماجم.

قام جورج كومب بتقسيم الجمجمة إلى 33 "عضوًا" أو منطقة، يرتبط كل منها بخاصية مختلفة. على سبيل المثال، العضو الأول – الجزء الخلفي من رقبتك – يشير إلى الدافع الجنسي، في حين أن المنطقة 23 – فوق الحاجب – تشير إلى لون البشرة ودرجة اللون. ومن هنا جاء مصطلح "المثقف" ليعكس التفوق الفكري.

ولهذا السبب أيضًا ترتبط دراسة أشكال رؤوس الناس ونتوءاتها وانحناءاتها بالمعتقدات العنصرية والجنسية والطبقية. ازدهر علم فراسة الدماغ في ذروة الإمبراطورية البريطانية، وهي قوة عرفت إلى حد كبير باعتمادها على الخنوع والاستعباد. وقد ساعد توظيف "العلم" الذي أدى إلى إدامة الأساطير حول التفوق الأبيض في تبرير إمبريالية هذه الدولة.

وفقًا لمقال في مجلة الأطلنطى، فإن الكلمات الأخرى التي تعود أصولها إلى علم فراسة الدماغ تشمل "ينكمش" ("لتقليص الرأس للتحكم في الخصائص "غير المرغوب فيها" أو تقليلها")،و"مغرور" (متعجرف)، و"متشدد/ عنيد".

في نهاية المطاف، انهار علم فراسة الدماغ بسبب افتقاره إلى الدقة العلمية. "بعد وفاة الشخصيات الأولى في الحركة...  وكما كتب روبرت إي. ريجل:  " لم يتم إنفاق سوى القليل من الوقت على البحث العلمي اللازم، على حين  قضى [علماء فراسة الدماغ] الكثير من الوقت في وضع مذاهب فراسة الدماغ وتطبيقها على التعليم والزواج والعلاقات العرقية."2092 Akanksha Singh

في الزواج، على سبيل المثال، لوحظ أن "الزوجة والأم المخلصة" كان لديها انحناء واضح في الجزء الخلفي من رأسها ورقبتها، في حين أن "العاشقة للأطفال التي ليس لديها أطفال" لم تكن كذلك. ومن المثير للاهتمام أن هذا أدى إلى ظهور اتجاهات مختلفة في تسريحات الشعر والمبالغة في السمات الجذابة من الناحية الفراسية في الفن، بما في ذلك أعمال النحات هيرام باورز.

ومع ذلك، ومع انحساره في إنجلترا، وجد حياة جديدة في الولايات المتحدة. في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لاحظت هارييت مارتينو أنه عندما جاء سبورتسهايم إلى نيو إنجلاند، "أصبحت جماهير المجتمع علماء فراسة في يوم واحد".

نظرًا للادعاءات التي قدمها علم فراسة الدماغ حول التفوق العنصري الأبيض، فقد  تبني علم فراسة الدماغ في أمريكا ما قبل الحرب، كما كتب بيتر ماكاندلس في كتابه رحلة التاريخ الجنوبي. "أحد تلاميذ [سبورزهايم]، الدكتور جوناثان باربر، سرعان ما جلب الإنجيل إلى تشارلستون ومدن جنوبية أخرى." في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، كقصيدة لشهوتهم الخاصة للفكر في هذا المجال.

في الولايات المتحدة، كان علم فراسة الدماغ يعتبر أداة لتحسين الذات. ومن بين علماء فراسة الدماغ الأمريكيين المشهورين الأخوين فاولر، ووالت ويتمان، ولورنزو نايلز، وأورسون سكواير،الذي قام السابق منهم بـ "فراسة" الشابة كلارا بارتون. وعن بارتون، التي أصبحت فيما بعد ممرضة ومؤسس الصليب الأحمر الأمريكي،قالت ن. فاولر: «إنها لن تؤكد نفسها أبدًا. . . لكن بالنسبة للآخرين ستكون شجاعة تمامًا. إلقاء المسؤولية عليها." سيتم نقل التشخيص المفسر للفراسة في مقالات المجلات ومذكرات بارتون الخاصة.

ومع ذلك، كما هو الحال في إنجلترا، تراجع نجاح علم فراسة الدماغ في الولايات المتحدة بسرعة يقول ماكاندلس: "إن النجاحات الشعبية التي حققها العلم تقوضه". يتطلب تطوير المنهجيات العلمية وتطويرها أكثر من مجرد خريطة للجمجمة.بينما ساد العلم، أصر علماء فراسة الدماغ إلى حد ما، كما يكتب ريجل، على استغلال اليائسين والقابلين للتأثر. ويشير إلى أن نهاية علم فراسة الدماغ أدت إلى ظهور "عالم فراسة الدماغ العملي"

يقول ريجيل:

- لقد سعى هذا الممارس غير المدرب في كثير من الأحيان إلى الاستفادة من العلم الجديد وجعله يؤتي ثماره؛ لقد كان عرافًا .

(انتهى)

***

.........................

* الكاتبة: أكانكشا سينج/  Akanksha Singh صحفية وكاتبة تقيم بين مومباي بالهند ولشبونة بالبرتغال. ظهرت أعمالها في قنوات الجزيرة، وبي بي سي، وسي إن إن، ومجلة لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس وغيرها.

بسبب حالة الفوضى التي تعم وجودنا الإسلامي، أرى أن الباحثين الجادين المحايدين والعلماء المتخصصين يجب أن ينتقدوا ويفككوا ويدرسوا الإشكاليات المتعددة، ويقترحوا النتائج، وأن يضعوا ما يرونه صائبا من الحلول المستخلصة عن طريق البحث العلمي الرصين أمام الملأ دفاعا عن الإسلام ومن خلاله دفاعا عن الإنسان؛ فكلاهما صار لونه باهتا بسبب كثرة المماحكات الداخلية والخارجية، وعلى الإسلام المعاصر بجميع نسخه والمسلمين ألا يتطيروا من النقد البناء، لأننا على يقين تام أن موت الفكر النقدي العلمي المحايد الحر يُعدُّ من أكثر الأسباب التي تدفع البلدان والحضارات والأديان إلى التخلف أو الجمود والتأخر عن اللحاق بركب التحضر، وهي العوامل التي تتيح للانحياز المذهبي والطائفي قدرة التحكم في علاقات الفرق مع بعضها، وتدفعها للخوف من الآخر، والشعور بأنه منافس خطير وليس شريكا في الوجود وأخا في الإنسانية.

إذ لا ينكر أننا نعيش اليوم أزمة فكرية تحولت إلى إشكالية صعبة جعلت اللاهوت الديني/ السياسي، وأقصد به لاهوت الطوائف والمذاهب والفرق والجماعات والولاءات الفرعية التي ولدت بتأثير سياسي بحت هي الحاكم المتحكم بمصائر ديننا وحياة شعوبنا، في وقت يستنتج العاقل فيه أننا كمسلمين وديننا معنا بكل فرقه وطوائفه يمر بأخطر مرحلة تاريخية بعد أن وضَعَنا أعداؤنا شاخصا للتصويب، ولا ينتظر الرامي سوى اعتدال درجة الريح وتوافقها معه لكي يصوب علينا ويصيبنا في مقتل، بمعنى أننا نقف اليوم بعين الخطر، وهو خطر حقيقي يختلف عن جميع تلك المخاطر التي مرت بنا من قبل، وإذا لم نستعد رباطة جأشنا، ونعيد النظر بحساباتنا، ونبدأ بإعادة تقييم مسلماتنا العقدية الموروثة لغرض تنقيتها من كثير من الدرن الذي تلبَّسها تاريخيا ومرحلياً لأسباب قد لا يكون من بينها ولو سببا دينيا حقيقيا واحدا، فمن المؤكد أننا سنخسر الكثير، وربما نخسر كل شيء، وإذا كنا نحن الخاسرين، فسيخسر العالم معنا معناه وقيمته وإنسانيته، فنحمل وزرنا ووزر من تسببنا في خسارته يوم نقف أمام الله تعالى، ولا نملك عذرا نقدمه في دفاعنا عن أنفسنا.

ومن نافلة القول التذكير بأن ما حدث من قبل وما يحدث الآن كان تقصيرا، وأن هذا التقصير كان ممنهجا منذ ساعات ولادته الأولى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استثناء أحد من مغبة ما حصل، إذ لا زالت مدارسنا الفقهية ومذاهبنا وفرقنا منذ ساعات تأسيسها الأولى ولحد الآن تضع الأحكام الفقهية لتكون بالضد من الآخر، وتلقي اللوم على بعضها لتبرئ نفسها، رغم أنها جميعها اشتركت في جريمة تفريق الأمة، سواء عن قصد وتعمد، أو نتيجة التحيز الفرقي، أو جهلا، أو طيبة، أو تعبدا، وكل فرقة منها تدعي بأنها الكاملة والناجية؛ والعيب في غيرها، وهذا كله يقع ضمن إطار ما يعرف بالإسقاط السيكولوجي، وهو أن ينسب الإنسان ما به من عيوب إلى الآخرين، لكي يخفف من الضغط النفسي للمشاعر الحادة التي تسببها عوامل الإحساس بالنقص. وحتى من لم يمارس هذه اللعبة منهم، وأنَفَ أن ينحاز لأحد، نجده قد ترك الإيمان بثلاثة أرباع دينه، وأعتنق دين نظرية المؤامرة التي جعلته يشك حتى في نفسه، حتى لو كان على يقين تام أنها تعرقل إمكانيات العقل في الوصول إلى مراحل التفكير العلمي المثمر المنتج الجاد.

وبين هذا وذاك جاء كم الفتاوى المرعب ليلقي أكداسا من الوهم والتشتت والحيرة على عاتق المسلم البسيط الذي أجهد نفسه في ملاحقة مخرجات تلك الفتاوى المتشابكة دون أن يتمكن من استيعابها، بسبب كثرة تفرعاتها وتنوع آرائها وتعارض مناهجها، فالوقت الذي صرف على استنباط تلك القواعد والأحكام وكتابتها والتثقيف على مضامينها وترسيخها في الأذهان، لم يشغل العلماء وحدهم في أمور ثانوية، ويلهيهم عن متابعة الجوهر فحسب، بل حرم الأمة فرصة توظيف ذلك الوقت الثمين إيجابا، والإفادة من المعطيات المتحصلة من أجل التقدم والتحضر والتمدن أيضا، بدل أن تبقى الأمة مشتتة تحت رايات ـ يخيل إليَّ ـ أنها تحولت من رايات علم وإيمان إلى رايات يحمل صواريها جنود مهيؤون لخوض نزالات مميتة مع أبناء عمومتهم وإخوتهم ورفاق دربهم الإنساني بسبب التنافس لا أكثر.

والذي يدفعني مجبرا لمناقشة هكذا مواضيع جدالية مأزومة قد يراها بعضهم فجة، هو قول نيتشه: "يبدو لي أيضا أن الكلمة الأكثر فجاجة، والرسالة الأكثر خشونة، تظل أكثر فضلا وأكثر شرفا من الصمت. فأولئك الذين يركنون إلى الصمت هم الذين يفتقرون دوما إلى اللياقة وسماحة القلب". أقول هذا لأني أشعر بكمية حزن مهول حينما أسمع داخل البلد الواحد وربما داخل المدينة الواحدة أنماطا مختلفة من صور الأذان على سبيل المثال، بدل تلك الصورة البهية التي تدل على أنه صوت السماء وهبه الله تعالى للأرض، لكي تطمئن به النفوس التي تتهيأ للوقوف بين يدي الله تعالى ليعمها الاطمئنان والأمن والسلام.

وفي سعينا البسيط هذا نحاول التوصل إلى السر الذي جعل المسلمين يختلفون في هذه الشعيرة (الأذان) إلى درجة التشظي وصعوبة الالتقاء، لتكون اللبنة الأولى في مشروع الإصلاح المأمول، عسى أن نتمكن من تشخيص أثر خلافهم المستمر على وحدة الأمة وتقارب رؤاها. فنحن لا نقف اليوم أمام أعداء مؤدلجين للإسلام فحسب، بل نقف أمام ثقافة راسخة الجذور؛ لا تعترف بالرب الخالق، يتم الترويج لها على قدم وساق، نعم هي ليست بالفكرة الحديثة ولكن عمل بعض الفلاسفة الملحدين عليها حولها إلى مشروع ثقافي معاصر هدام يثابر على تغيير القناعات ويثبط الهمم، وكان فيورباخ أحد أشهر من عمل على هذا المشروع، ويمكن تلخيص رؤيته بأنه اعتقد "أن الله هو نتيجة لتجريد الإنسان من سمات الطبيعة البشرية فيه، فقد حاول البشر تحقيق مثلهم العليا، وصفات الكمال فيهم، ونظرا لعدم تحققها كاملة في كائنات بشرية محددة، ورغبة في تجسيد هذه المثل، خلقَ البشرُ اللهَ". فالله على رأي فيورباخ من صنائع البشر، وهذا مخالف لجميع الأديان السماوية والأديان الأخرى، وحتى للحضارات الإنسانية، وقد ترك أثره على الثقافة المسيحية بشكل مباشر، فغير الأعم الأغلب من قناعاتها العقائدية، ونجح في التأثير على بعض كبير المسلمين؛ الذين لا زالت أعدادهم تتزايد، وترك تأثيرا بدرجة أقل كثيرا على اليهود الذين ينمازون بقدرتهم على التمسك بموروثهم لا تدينا بل تعصبا قوميا.

المهم أن هذه الثقافة لا زالت تنمو وتتطور في الواقع الإسلامي لأنها وجدت بيئة صالحة أمدتها الفتاوى الكيدية بعوامل الرعاية، وأعتقد أنها ستضع الإسلام في المستقبل القريب أمام امتحان عسير إذا لم نتهيأ منذ الآن للتصدي لها من خلال تقليص جزئياتنا التعبدية والتركيز على القواعد الأساسية، وأهمها وحدة المسلمين في كل مكان، تلك الوحدة التي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ما تخلينا عن ثقافة "الاختلاف رحمة"، هذه الثقافة سيئة الصيت، وأسسنا لثقافة "وحدة الكلمة رحمة". وهذه مسؤولية الجميع بلا استثناء، فكلنا مسؤولون وسنُسأل ولن تنفعنا أعذارنا، فلطالما تعللنا بأننا لم نكن في المكان المناسب، لكي نُظهر قدراتنا، ولطالما كانت هذه حججا نسوقها لنداري بها عجزنا وفشلنا، فالرجل الناجح برأيي هو من يشعر أنه تماما حيث يفترض أن يكون، وأن ما يقوم به، أو ينوي القيام به ليس أمرا تافها، بل هو جزء مهم جدا من مهمات تغيير العالم نحو الأفضل.

لقد منحنا الله تعالى طاقة كبيرة، وأوكل إلينا مهمة التصرف بها في فعل الخير أو فعل الشر، وأعطانا عقلا يميز أفعال تلك الطاقة لنمايز بين حسنها من قبيحها، وترك لنا حرية الاختيار، وعليه يجب أن تدرك أن هناك فرقا كبيراً بين أن توظف طاقتك للتدمير أو توظفها للتدبير والتعمير، ومن لا يميز بين الاثنين هو والحيوان الأبكم سواء. أما الذين يقفون بوجه حركة الإصلاح فمصيرهم الخذلان، لأنهم يحاولون الوقوف بوجه ثورية الدين، فالدين ثورة، وكل رسالة دينية تتخلى عن ثوريتها تفقد قيمتها، ومن يسهم في ضياع روح الثورة في الدين من أبنائه هم أعداؤه الحقيقيون، ويجب التصدي لهم بالعقل والمنطق والكلمة الطيبة قبل العدو ظاهر العداء، وأنا هنا لا أدعو للعنف، وإنما أعمل من أجل تصحيح الانحراف ونبذ العنف، وتعديل الميلان بالحكمة والعقل والمنطق والعلم، عسى أن يعود الذين ابتعدوا عن الأصل إلى الطريق القويم، ومن يرفض منهم الانصياع نتعاون لإصلاحه، لأن بقاء هؤلاء يجرد الأديان من ثوريتها، وفقدان الأديان لثوريتها يفقد الحياة قيمتها، ولا يمكن للدين أن يمارس الثورة إلا من خلال تجديد العقل الفقهي وإخراجه من مرحلة الإطلاق المنغلق المحاط بقدسنة سجن الموروث، ليؤمن عن قناعة ويقين أن الكثير من الأحكام، وكل ما يتعلق بها يخضع شئنا ذلك أم أبيناه إلى الظروف المحيطة، وأقصد بها الظروف الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وحتى سنن العادات والسلوك الفردي والجمعي، وبالتالي يخضع لكل التبدلات التي تقع.

وأعود وأذِّر بأن مخرجات الواقع الإسلامي المعاصر مجتمعيا وجغرافيا وسياسيا وضعت الدين في مرحلة حرجة وسطى بين القمة والعلياء؛ والسفح المتعرج المظلم، فإما أن يجد من يدفعه ليسقط في ظلمات التيه الأبدي، أو أن يشمر العقلاء المخلصون عن أياديهم ويشحذوا عقولهم لإحداث ثورة تصحيح ديني، تجعل للدين وهجا ينير درب الإنسانية المعذبة؛ التي ستشعر هي الأخرى بأنها جزء من هذا التغيير.

***

الدكتور صالح الطائي

بقلم: ليلى بو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

من الثابت أننا نستوعب بشكل أقل عند القراءة على الشاشة. لكن لماذا؟ وهل يمكننا أن نفعل شيئًا لتحسين قرائتنا على الشاشة ؟

القراءة فعل شائع جدًا لدرجة أنه من الصعب تقدير حجم التحدي الذي تشكله على العقل البشري. عندما تقرأ هذه الجملة، فإنك تستخدم الأشكال المرئية للكلمات للوصول إلى معانيها ونطقها من الذاكرة، ثم تستخدم هذه المعلومات، والأنظمة العصبية التي تطورت للغة المنطوقة، لبناء وحدات أكبر من المعنى: العبارات والجمل والحديث الموسع. والقراءة اختراع ثقافي حديث نسبياً؛ فدماغنا لم يتطور ليقرأ. فقط بعد سنوات من التعليم والممارسة يتعلم الناس تنسيق أنظمة الدماغ اللازمة لدعم القراءة الماهرة. وهذه العملية صعبة بطبيعتها، كما يتضح من حقيقة أن نسبة كبيرة من الناس يكافحون من أجل تحقيق إتقان القراءة على الرغم من تمتعهم بذكاء عادي وفرص للتعليم.

توقف الآن وفكر في كيفية قراءتك لهذا المقال. من المؤكد أنك تستخدم جهازًا رقميًا مثل الكمبيوتر أو الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي أو القارئ الإلكتروني. هذه الحقيقة البسيطة تستحق التأمل، لأنه في العقد الماضي فقط أصبحت التكنولوجيا المطلوبة للقراءة الرقمية منتشرة في كل مكان. أدى هذا التحول من قراءة الكثير من الكتب والمجلات والصحف التقليدية إلى الوسائط الرقمية إلى إحداث تغيير واضح واحد على الأقل: فقد وضع ثروة المعلومات التي جمعها جنسنا البشري تحت تصرفنا المباشر. وقد أثر هذا على كيفية استخدام الأشخاص للمعلومات، ومن الأمثلة على ذلك أن قراء المحتوى الرقمي يجب أن يمارسوا التفكير النقدي لغربلة كميات المعلومات التي في متناول أيديهم.

في ضوء هذه التغييرات، قد يتساءل المرء ما إذا كان استخدام الأجهزة الرقمية قد أدى إلى تغيير طبيعة القراءة أو جودتها، وكيف ؟. ربما لاحظت، على سبيل المثال، أنه يبدو من الصعب عليك التركيز عندما تقرأ شيئًا ما عبر الإنترنت مقارنةً بقراءة كتاب مطبوع. هل يُحدث فرقًا بالفعل ما إذا كنت تقرأ قطعة من الكتابة على جهاز كمبيوتر محمول أو على قطعة من الورق؟ لقد قمنا مؤخرًا بمراجعة الأبحاث العلمية التي تتعلق بهذا الموضوع، وبناءً على هذه النتائج، يمكننا تقديم بعض الإجابات المحتملة.

لنبدأ بالنظر في النصوص المستخدمة للقراءة والكتابة. تختلف هذه الأنظمة عبر الثقافات، كما توضح المقارنة بين اللغة الإنجليزية والصينية المكتوبة. ومع ذلك، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين النصوص، فإن العمليات العقلية الكامنة وراء القراءة تبدو متشابهة بشكل ملحوظ. ولعل أفضل دليل على ذلك يأتي من تجارب تصوير الدماغ التي تظهر التقارب في المناطق القشرية التي تدعم قراءة لغات مثل الإنجليزية والصينية. يوضح هذا البحث أن نفس المناطق تشارك في المعالجة البصرية للكلمات المطبوعة ومن ثم استخدام معاني تلك الكلمات لبناء معاني العبارات والجمل.

بناءً على هذه النتائج، يمكن للمرء أن يتوقع أنه لن تكون هناك اختلافات كبيرة بين قراءة النص الورقي والنص الرقمي. ففي نهاية المطاف، إذا كانت النصوص المختلفة لها تأثيرات ضئيلة على كيفية قراءتنا، فلماذا يكون للطريقة التي يتم بها عرض النص أي عواقب على كيفية قراءته وفهمه؟ ولكن هناك نتائج  بحثية تجريبية تشير إلى خلاف ذلك.

أحد هذه النتائج هو تأثير دونية الشاشة. وكما يوحي الاسم، يشير هذا التأثير إلى دليل على أن النص المقروء على الشاشة الرقمية، في حالة تساوي الأمور الأخرى، يكون مفهوما بشكل أسوأ من نفس النص المقروء على الورق. إذا كنت تقرأ هذه المقالة عبر الإنترنت، على سبيل المثال، فقد يكون فهمك لمحتواها (على الأقل إلى حد ما) معرضًا للخطر. بعد قراءة المقالة، قد تتمكن من الإجابة بدقة على الأسئلة حول جوهرها، ولكن ليس بالضرورة أن تكون قادرًا على الحديث عن التفاصيل كما لو كنت قد قرأتها على الورق. وقد تم التحقق من هذا العامل المؤثر عبر لغات وأنظمة كتابية مختلفة، مما يشير إلى قوته.

ومع ذلك، فقد قدمت بعض الدراسات أدلة على أن حجم هذا التأثير يتأثر بعدد من المتغيرات. أحد هذه المتغيرات هو طبيعة النص: يبدو أن فهم النصوص السردية (التي ينغمس فيها القراء في القصة) أقل تأثراً بكيفية عرض النص، مقارنة بفهم النصوص التفسيرية. لذا، إذا كنت تتعامل مع رواية مشوقة بدلاً من دراسة كتاب مدرسي، فمن غير المرجح أن يتأثر فهمك للنص بكونه موجودًا على الشاشة أو مطبوعًا. هناك متغير مهم آخر وهو مقدار الوقت المتاح للقراءة، حيث يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة. إذا كان عليك قراءة شيء ما بسرعة كبيرة، فمن الأفضل أن تقرأه مطبوعًا. هناك بعض الأدلة على أن مهارة القراءة تعد متغيرًا مهمًا أيضًا، حيث يكون تأثير الدونية أمام الشاشة أكثر وضوحًا بالنسبة للقراء الأقل مهارة.

تشير إحدى الدراسات في عام 2020 إلى أن تأثير دونية الشاشة قد يزيد من تعرض القراء للمعلومات الخاطئة، مما يجعلهم أقل عرضة لملاحظة التناقضات المهمة في محتوى النص الذي يتم عرضه رقميًا. والنتيجة العملية الواضحة هي أن الناس قد يكونون أكثر عرضة للتضليل من خلال ادعاءات كاذبة يقرؤونها على الإنترنت - حيث يمكن العثور على الكثير من المعلومات الخاطئة (إن لم يكن معظمها) في هذه الأيام.

ما تزال أسباب تأثير دونية الشاشة غير مفهومة جيدًا. وقد يعكس جزئيًا جفاف العين والتعب البصري الذي ينتج أحيانًا عن القراءة على الشاشات. ولكن يمكن أن يكون التأثير أيضًا مرتبطًا بكيفية تحكم القراء في أفكارهم وسلوكياتهم. وفقًا لهذا الرأي، نظرًا لأن معظم القراءة الرقمية تتضمن الحصول السريع على المعلومات من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات الإخبارية القصيرة ورسائل البريد الإلكتروني عبر الإنترنت، يفشل القراء في تقدير أن القراءة  السطحية  للغاية الكافية لفهم جوهر هذه النصوص القصيرة والبسيطة لن كافية لفهم النصوص الطويلة الأكثر صعوبة أو تعقيدا.

ومن خلال هذا الاعتبار، يعكس تأثير دونية الشاشة سوء تطبيق إحدى استراتيجيات القراءة (قراءة النصوص القصيرة والبسيطة) على موقف آخر غير مناسب (قراءة نصوص أطول وأكثر تعقيدًا). على سبيل المثال، قد يتجاهل القراء الذين يقومون بالتصفح السريع الكلمات الوظيفية الأقصر (مثل "a" و"the") التي تلعب في الغالب أدوارًا نحوية مهمة ، وبدلاً من ذلك يركزون انتباههم على كلمات المحتوى الأطول التي تميل إلى نقل المعنى الأكبر. على الرغم من أن استراتيجية القشط هذه قد تكون كافية لفهم جوهر النص القصير، فإن أي معلومات مفقودة عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية من المتوقع أن تؤدي إلى سوء فهم النصوص الأطول والأكثر تعقيدًا، حيث تكون الأدوار النحوية مطلوبة لمعرفة "من فعل ماذا ولمن.

هناك بالفعل سبب للاعتقاد بأن القراءة تنطوي على استخدام أنواع مختلفة من الاستراتيجيات. يأتي أحد مصادر الأدلة المقنعة من مثال شائع آخر للقراءة الرقمية: قراءة الترجمات في الأفلام والتلفزيون. يستخدم الكثير منا الترجمات لمشاهدة الأفلام أو البرامج باللغة الأجنبية، وقد أصبح استخدامها أكثر انتشارًا منذ بداية جائحة كوفيد-19- لا سيما في مجال التعليم، حيث غالبًا ما تحتوي مقاطع الفيديو التعليمية عبر الإنترنت على ترجمات. في مواقف القراءة متعددة الوسائط هذه، يجب على الأشخاص تنسيق قراءتهم للترجمات المصاحبة (التي يتم عرضها لفترة زمنية محددة) مع المعالجة المطلوبة أيضًا لفهم الفيديو والمعلومات السمعية.

في تجربة أجريت عام 2020 توضح كيفية قيام الأشخاص بذلك، تتبع الباحثون حركات أعين القراء أثناء قراءتهم للترجمات المصاحبة في فيلم وثائقي. مع زيادة معدل عرض الترجمة من 12 إلى 28 حرفًا في الثانية، قام القراء بتعديل سلوكهم استجابةً لانخفاض الوقت المتاح لقراءة الترجمة. تضمنت هذه التعديلات القيام بحركات عين تقدمية أوسع، وحركات عين تراجعية أقل نحو مناطق الترجمة السابقة، وأوقات مشاهدة أقصر للكلمات الفردية في الترجمة. تشير عمليات المحاكاة باستخدام نموذج حاسوبي للتحكم في حركة العين في القراءة إلى أن هذه التعديلات هي استراتيجية تعويضية، وأن هذه الاستراتيجية تستخدم لفهم جوهر الترجمة إما عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية القصيرة (كما ذكرنا سابقًا) أو السماح فقط بأقصى قدر ممكن من الوقت لتحديد الكلمات الفردية.كما تشير هذه العروض التوضيحية إلى أن القراء يحاولون تكييف سلوك القراءة "العادي" لديهم لاستيعاب أي متطلبات إضافية قد تفرضها القراءة الرقمية.

ماذا تقترح مثل هذه النتائج حول مستقبل القراءة في عالم مليء بالأجهزة الرقمية؟ على الرغم من أنه من الصعب أن نقول الكثير عن كيفية تغير القراءة في المستقبل، إلا أن هناك سببًا للتفاؤل بشأن تكنولوجيا القراءة وفوائدها المحتملة. فقد أدى انتشار هذه التكنولوجيا إلى زيادة فرص المشاركة في القراءة واتساع نطاق المواد المتاحة. يمكن أن تشمل التعريفات المستقبلية لما يعنيه أن تكون قارئًا "ماهرًا" القدرة على استخدام تقنيات القراءة المختلفة لدعم أهداف مختلفة - على سبيل المثال: قراءة النصوص الورقية لتعزيز الفهم العميق للموضوعات المعقدة أثناء استخدام القراءة الرقمية للترفيه أو التواصل بين الأشخاص أو قراءة النصوص غير المتوفرة بطريقة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب التنبؤ بالتطورات التكنولوجية المستقبلية، لذلك من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.

ومع ذلك، نظرًا لأن العديد من القراء يقرؤون بشكل كبير على الشاشات (كما تفعل هنا على الأرجح)، قد يكون من المفيد بالفعل محاولة تعديل استراتيجيات القراءة عمدًا بناءً على أهداف القراءة الخاصة بك. يمكن القيام بذلك عن طريق إبطاء قراءتك على الشاشة عندما يكون الهدف هو فهم موضوع صعب، أو اختيار تنسيقات تحتوي على عدد أقل من التشتيتات البصرية، مثل اللافتات الإعلانية، التي قد تؤدي إلى تشتت الانتباه لكي تقرأ على النحو الأمثل في العصر الرقمي، يجب أن تضع في اعتبارك أهدافك، ثم تختار نهج القراءة - بما في ذلك الوسيلة - الذي يدعمها على أفضل وجه.

(انتهى)

***

............................

الكاتبة: ليلي يو/ Lili Yu (محاضر في علم النفس، جامعة ماكواري، سيدني، أستراليا) تعمل ليلي يو محاضرة في علم النفس بجامعة ماكواري في سيدني. يستخدم بحثها تتبع العين وتصوير الدماغ لدراسة القراءة عبر اللغات وأنظمة الكتابة المختلفة. وقد قامت بتأليف أكثر من 20 مقالة بحثية وكتابًا عن قراءة اللغة الصينية.

مقتطفات:

يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة .

من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.

المقال منشور على موقع مجلة سايكى، بتاريخ 11 ديسمبر 2023 م وفيما يلى رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/what-does-switching-from-paper-to-screens-mean-for-how-we-read

جذب موضوع تأثير اللغات الافريقية على اللغة البرتغالية المستخدمة في البرازيل اهتمام العلماء منذ بداية القرن التاسع عشر على الأقل. ففي البداية تم افتراض وجود ذلك التأثير، ثم تم تأكيده او نفيه من قبل البعض، واعتمده بعض النحويين البرازيليين في وضعهم للقواميس اللغوية، اذ اشاروا الى كمية المفردات التي دخلت للغة البرتغالية في البرازيل من اصل افريقي. واستمرت اثارة هذا الموضوع ووضعه للنقاش بشكل اكبر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

يشير بعض الدارسين الى ان كتاب "الافارقة في البرازيل" لمؤلفه نينا رودريغز، الذي نُشر العام 1932 قد ازاح الكثير من الشكوك عن هذا التأثير بسبب كونه دراسة علمية حملت في داخلها دلائل عديدة على واقعية وجود التأثير الافريقي في المفردات البرتغالية لاهل البرازيل، وهذا لايعني ان الدراسات التي سبقت هذا الكتاب لم تكن علمية بل انها كانت الطريق الممهد لظهور دراسات اكثر واقعية ودقة في هذا المجال.

ان وجود الجذر الافريقي في البرازيل يعود إلى فترة العبودية التي بدأت في النصف الأول من القرن السادس عشر، حينما تم استبدال العمالة الأصلية بالعمالة السوداء المستعبدة، وعندما وصل هؤلاء المُستعبدون، الذين كانوا من قبائل أفريقية مختلفة، إلى البرازيل، فرض عليهم العيش بشكل مختلط  لتجنب التنظيمات التي من شأنها أن تولد الانتفاضات في ذلك الحين. لذا كانت تجمعات الافارقة تعود بجذورها الى بلدان شتى، مثل مالي وغينيا وموزمبيق والكونغو وانغولا وغيرها.

استمرت فترة العبودية أكثر من 380 عامًا، وخلال تلك الفترة تم ارغام مايقرب من 4 ملايين شخص على ترك اراضيهم  وإرسالهم إلى البرازيل، اذ أجبروا على العمل القسري وتسليم حياتهم إلى أيدي السادة، وخاصة أصحاب المطاحن والمزارع.

في 13 ايار 1888، وبعد قيام عدة انتفاضات ترأسها هؤلاء المستعبدون وتحرك العديد من الساسة الرافضين للعبودية، تم التوقيع على اتفاقية انهاء العبودية من قبل أميرة الإمبراطورية البرازيلية ايزابيل.

وعلى الرغم من ان تأثير الاستعمار البرتغالي في البلدان الافريقية ادى الى ظهور ستة دول في القارة الأفريقية تتحدث اللغة البرتغالية (أنغولا، الرأس الأخضر، غينيا بيساو، موزمبيق، ساو تومي وبرينسيب، وغينيا الاستوائية)، إلا أن شعوب تلك المنطقة تمتلك لغة محلية الى جانب البرتغالية ، وقد نجحوا في ادخال مفرداتهم المحلية الى البرازيل اثناء فترة استعبادهم هناك. لذا، من الخطأ الاعتقاد أن المستعبدون الافارقة توقفوا عن التواصل بلغتهم الام وعن نشر ثقافتهم بعد احتلال البرتغاليين لبلدانهم.

لقد ساهم الأفارقة المستعبدون في الثقافة البرازيلية واثروا فيها في عدة جوانب، فقد اثروا في الموسيقى والرقص والدين والمطبخ واللغات. وهذا التأثير ملحوظ في جزء كبير من البلاد، خاصة في ولايات مثل باهيا ومارانهاو وبيرنامبوكو وألاغواس وميناس جيرايس وريو دي جانيرو وساو باولو وريو غراندي دو سول، واصبحت الثقافة الأفريقية متجذرة في عادات وحياة الشعب البرازيلي، ولا توجد طريقة للقول إنه لم يكن هناك اي اثر افريقي في البرازيل، بل هو موجود عمليًا في كل جانب من جوانب الروتين اليومي.

***

د. وسيم حميد صنكور

هل يتم تمثل الماضي، لأنه جزء خاص من معرفتنا بالتاريخ، أم أن ما يمنحه هذا التعلم، يحرض على امتلاك مقدرات جديدة وواعية بالحاضر، وفقا لما يثيره إدراكنا بداهة من خيارات وبدائل راهنية تستقرئ الوضعيات والدوافع والمحطات القادمة. هو تماما ما يستحضره مفهوم "فلسفة التاريخ"، كفكر وحاضنة للمعنى وقيم العيش.

أعترف مسبقا، أني وجدت صعوبة فائقة في فهم السياقات العامة التي تقوم عليها فجوات "الماضي". وسبب ذلك، يرجع إلى التصنيفات المعيبة التي أضحى العديد ممن ينسبون خطأ للسوسيولوجيا النقدية، كفضاء استدلالي دقيق يفرض آليات دقيقة للإدراك المعرفي والاتزان المنطقي، يغطون بها تهيجاتهم وأسئلتهم حول فضاء الماضي، وتوازياته في الصيرورة ومنطق التداعي وفجوات التحول وجاذبيته، وتقسيماته وانتظاراته الآنية والمستقبلية..

يستدعي هذا الطرح، ما يعكسه المؤمنون بنظرية تدعيم "هيستريا الماضي"، وتأبين معتنقيه، وتحنيطهم، ومن ثمة إبعادهم عن الحياة الدنيا.

هؤلاء يرون أن الاقتداء بالماضي، هو موت زؤام ومنطق أعرج، لا يماثل العقل المفكر، ولا يستدعي نقد الآفاق والمعيش اليومي والسرعة الزمنية المتدفقة. يشبهون "القدوة" على أنها تتأسس على مبدا امتلاء الذات وتحجيم الجماعة والاستبراء من قيم المكتسبات، لا لشيء إلا لأنها منحوتة من جدار الماضي، ومبثوثة بثقافة مسلكية تقليدية، دون ماكياج أو تصريفات حديثة.

لكن الخطر السافر في هذا التوجه، أن أغلبهم يقتحمون هذه النقدية السوسيولوجية من باب الماضي الفلسفي الغربي، يؤولونه بمزاجية غريبة، ويجتزئون القراءة من منطق محصور وغير منصف. وأكثر ما يستهلك في تينك الرؤية، أن يستعسر أحدهم نظر المتصوفة الجدد، واجتهاداتهم في مضمار تفكيك جدلية الزمن والإنسان، فلا يبرؤون ذلك، إلا بما يحقر طريقتهم في التعبير عن دلائلهم وأصواتهم، باعتبارهم "يخضعون للآباء" وتيمنطقون "بالفردية والهيمنة على الجماهير"؟.

لا أحد يمكنه استهداف الماضي وتخوينه، ولا يمكن تحييد ثقافته وذاكرته، دون استنتاج مدارية التجريب فيه واستيعابه وإعادة التحقق فيه. إنه ماض متجدد وأثر على عين في الحاضر المنظور والغد المستبصر. كما أن هذا الماضي، تاريخ مواكب لما ننظر إليه باسم القابلية على التحول واسترداد السيطرة على الزمان. فكيف يمكن فهم "تنميط الماضي" خارج هذه العملية القرائية المجحفة ؟ وما الذي يجعل من قوارب الماضي، مهاجر داعرة للهروب والانفكاك والتواري؟ أهو الخوف من زمنيته القيمية، ذات المنسوج الحضاري والتراثي المتمكن من الجذور والإحفازات الملهمة؟ أم التكشف على ثقافات مغايرة، تروم إلى انتهاج سبل الالتفاف والتحجج بالعصرنة والتجديف خارج التيار؟.

بين هذا وذاك، تسكن الأمراض النفسية في ذوات بعض الناسجين على أخيلة آخر الأسئلة المقدمة آنفا. لكنهم، هذه المرة، يحاولون إسكات تبعات الماضي، حتى في أجلى استحقاقاته القطعية. فيسمون من يؤانس الماضي ويلتفت إليه، مصابون باضطرابات القلق العصابي (الهيستيريا). وما أقساه من نعث، يخالف أبسط قياسات العقل ومنطقه. وعلى حد علمي، فالهيستيريا ليست أفقا للتفكير، كما هو الحال بالنسبة، لتقدير قيمة وأخلاق الماضي، بل ما أبعدها أن تكون قيمة مثالية للأخلاق والعفة والتشبث بالقدوة. وكأني بمحاربي الماضي، يفاقمون نوع الصراع الذي يفصلونه بالملمتر على مقاس نظرية فرويد، بل إنهم يقعرون جزءا من مسلماته الأساسية الأصيلة، ليوهمونا أنهم يحاولون تمثل مشمولات ذلك الصراع، وتأهيله ليصير قوة دافعة في بناءات الشخصية الفرويدية داخل شبكة ثلاثية (الهوى والأنا والأنا العليا)، ما يسهم في تمزيق الشعرة الرابطة بين الواقع والمجتمع، أو بين الجنس والعدوان. 

إنهم لا يكادون يقرأون هنا، غير الوازع الشعوري في مقاربة عناصر الاستيهام والتذكر وإرواء الذاكرة، أما ما عدا ذلك، فوهم والتباس و"هيستيريا"؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان - إعلامي وأكاديمي مغربي

 

تجدر الإشارة إلى أهمية فعل القراءة وهى تجرى تحت مظلة القيم العليا؛ فالقراءة فى حدّ ذاتها قيمة معرفيّة، وستظل قيمة معرفيّة كائنةً ما كانت تلك المعرفة، سواء تمثلت فى ثقافة العقيدة والدين أو ثقافة العقل والفلسفة. ولم يكن الأمر الإلهى بكلمة (اقرأ) بالأمر الهين البسيط الذى يُستغنى عنه مع الغفلة والتردى وسقوط القيم، ولكنه كان أمراً، ولا يزال، ذا دلالة تندرج فى ذاتها فى وعى معرفى تام؛ لتشكل نظام القيم، ثم لتصبح هذه القيم فاعلة فينا أولاً، ثم تكون أفعل فى حياتنا تباعاً، ذات أثر بيّن ظاهر فى السلوك وفى الحركة وفى الحياة، لا لتنعزل بالتجاهل أو بالإهمال عن حاضراتنا الواقعيّة.

لم يكن الأمر الإلهى «اقرأ» مُجرد كلمة عابرة وكفى، ولكنه نظام معرفى موثوق بمعطيات القيم العليا، متصل شديد الاتصال بنظمها العلوية الباقية.

قد لا نتجاوز الصواب إذا نحن قلنا إنّ مردّ جرثومة التخلف فى بلادنا إلى إهمال الأمر الإلهى «اقرأ»، فكأنما الأمر يقول: اقرأ كيما تعرف؛ لأنه لو أطيع الأمر الإلهى بالقراءة، لكانت المعرفة على اختلاف مطالبها وفروعها مُحققة لدى القارئ، وتحقيقها هو العرفان (أن تعرف)، ولا مناصّ منه مع فعل القراءة على اختلاف توجهاتها وميادين النظر فيها، وتسخيرها للعقل، وتسخير العقل لها، ولكل ما يعلوها، ويعلو بالإنسان مع المعرفة، ومع القراءة، ومع العلم فى كل حال.

إمّا أن نقرأ فنعرف، وإمّا أن لا نقرأ، فتنطمس أبصارنا وبصائرنا؛ فنتخلف ويقودنا التخلف إلى أدنى درجات التّسفل والانحطاط، وليس من وسط بين طرفين.

هذه واحدة.

أمّا الثانية؛ فإنّ القراءة تأتى بمعنى التحليل النقدى أو النقد التحليلي، وكلاهما قراءة على قراءة، لكن الفارق فيما يبدو أن الأول يشمل تحليل النّص المكتوب ونقد متونه وفحص إشاراته ورموزه.

والثانى: تصحيحُ لمسارات العقل فى أعماله من جهة كاتب النّص نفسه، ولذلك يتقدّم النقد فى هذه الحالة على التحليل، والمُرادُ به نقد الأدوات المعرفيّة، وأهمها وأولاها: تلافى القصور فى عملية القراءة نفسها وتصحيح مسار الذهن عن انحرافه بإزائها، ووضع الأطر التى تقوّمه فى طريقه بغير اعوجاج أو انحراف، الأمر الذى يترتب على هذا كله، أهمية التفسير من جهة وقدرة العقل على التأويل ثم التنوع فيهما بمقدار الكفاءة العقلية وتذوق المقروء والمكتوب.

وعليه؛ تصبح القراءة هى القاعدة التى يقوم عليها أساس البناء المعرفى بكل ما يصدر عنه من تفسيرات وتأويلات وتخريجات، تنصب فى النهاية فى خدمة ضروب المعرفة، وخدمة النصوص المُراد تصريفها وفق قدرات العقل فى التفسير والتأويل والتخريج. وليس بالإمكان أن يقوم النقد فى مجال من المجالات بغير قراءة واعية. فكما لا تقوم المعرفة العقلية الحصيفة بغير قراءة دائمة ينشط فيها العقل؛ فكذلك النقد الفاعل المؤثر لا يقوم إلا على شعلة القراءة ووهج العناء فيها. والناقد الجيد قارئ جيد بامتياز. والقراءة الناقدة بديهة حاضرة لا تخفى على أحد: هى ألزم سمات المنهج بإطلاق.

***

د. مجدي إبراهيم

في كتابه "هؤلاء علموني" يخبرنا سلامة موسى كيف أنَّه انخدع سنواتٍ كثيرة بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي افتتن به في سنوات شبابه قبل أنْ يتخلصَ منه، لكنَّه أحبه ولم يبغضه؛ لأنَّ كتاباته كانت نثراً ساحراً كأنها أبياتٌ من الشعر، وخيالاً يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تُجَّمد ذهن الناشئ رهبة وجزعاً، أو تنفضه حماسة وطرباً. ولعلَّ موسى كان يقصد أنَّه خُدع وصدق في مطلع شبابه فكرة الإنسان السوبرمان، أو الإنسان الأعلى، فقد كان نيتشه يقول ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، كذلك يجب أنْ يكون الإنسان إزاء السوبرمان، أضحوكة أو خزياً؟ إنما الإنسان، وفق وصفه، هو معبرٌ أو جسرٌ يصل بين القرد والسوبرمان، ولسوف يكون السوبرمان ازدهاراً وخيراً وتعبيراً نهائياً للأرض: أستحلفكم أنْ تكونوا أمناءً للأرض، وأنْ تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاماً ومكافآت. عليكم أنْ تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أنْ تنجبَ يوماً ما السوبرمان، الإنسان شيء يُعلى عليه، فماذا فعلتم كي تَعلوا عليه؟.

وقعت هذه الكلمات الغريبة في نفس سلامة موسى كأنها الوحي أو الكشف، وهو في حوالي العشرين من عمره، فتعلق بها إلى الحد الذي دفعه لكتابة مقالٍ في مجلة المقتطف عام 1909 تحت عنوان " نيتشه وابن الإنسان" وهو تحت وقع الدهشة بروعة أفكار هذا الفيلسوف الألماني، ومن ذلك مقولاته التي كانت تبدو كأنها توصيات لعالم جديد، وإنسان جديد: لا يجب أنْ نتناسل إنما يجب أنْ نتناسل إلى أعلى، الزواج هو اجتماع إرادتين لإيجاد شخصٍ ثالثٍ أعلى من الزوجين، الغريزة هي أسمى أنواع الذكاء التي اكتشفت إلى الآن. وكانت هذه الأفكار ومثيلاتها تحمل سحراً في التعبير وفي التفكير، غير أنَّ سلامة لم يكن مقتنعاً بمنطق نيتشه الذي قد يؤدي بقارئه للانزلاق إلى الهاوية، وبالأخص الشباب منهم الذين يحذرهم من قراءته إلا إذا قرأوا معه دوستويفسكي وغاندي وبرنارد شو، فهؤلاء هم الترياق الذي يحتاجه الشباب إذا قرأوا نيتشه، لأنَّ أقواله تؤدي بهم إلى الوهم، أو الجنون!.

الحق يقال فإنَّ بعض الكتب والروايات التي نقرأها تترك أثراً عميقاً في نفوسنا، ويترك بعض الكتاب والفلاسفة والأدباء أثراً مماثلاً في عقولنا، وتوجهاتنا، وطريقة فهمنا للأمور، وفلسفتنا في الحياة، ولطالما تواجه الإنسان مواقف ولحظات صعبة يحتار في خيارات التعامل معها، غير أنَّه سرعان ما يتخذ القرار متأثراً بوعي، أو من دون وعي، بثقافةٍ اكتسبها من قراءاته، ومن مواقف عاش معها أوقاتاً من التأمل والمتعة وهو يتابع تصرفات وعلاقات شخوص رواية مثيرة، أو يتصفح كتاباً يضمُّ خلاصة فكر وتجربة وحياة، وهناك من نقرأ لهم فنحبهم، وهناك من نقرأ لهم فنشعر بالأسف والندم والخداع لأننا أضعنا وقتنا معهم.

بعض الأفكار تؤدي بنا إلى الوهم، أو الجنون، لكننا نحبها، مثلما أحبّ سلامة موسى ذلك العبقري المجنون الذي توهم أنَّ الإنسان يرتقي إلى الأعلى، فإذا به ينحَّط خُلقياً وإنسانياً إلى مستوى أدنى المخلوقات.

***

د. طه جزاع

قدمت الأسبوع الماضي لمحة عن رؤية البروفسور غونار ميردال المتعلقة باقتصادات البلدان النامية. والتي يدعو فيها للنظر إلى العدالة الاجتماعية كمحفز للاقتصاد، لا كغاية أخلاقية أو أيديولوجية فحسب.

أهمية هذه الرؤية تكمن في عنصرين، أولهما أن الرأي الغالب بين السياسيين يعتبر برامج العدالة الاجتماعية كلفة كبيرة على الخزينة العامة. ويدعو للتخفف منها بقدر ما نستطيع. من هذا المنطلق فإن معظم الحكومات التي تتبنى هذا النوع من السياسات المكلفة تقيمها على اعتبارات أيديولوجية أو أخلاقية. كما أن بعضها يسعى لتضييق قنوات الإنفاق، وتحميل جانب منها على المواطنين بشكل مباشر، مثل فرض رسوم على التعليم الجامعي أو الأدوية أو المستشفيات العالية التخصص... إلخ.

أما العنصر الثاني الذي يبرز أهمية تلك الرؤية، فهو يكمن في حقيقة أنها تصدر عن خبير اقتصادي معروف في الأوساط العلمية شرقاً وغرباً. من المعروف إجمالاً أن خبراء الاقتصاد العاملين في الإدارات الحكومية يصنفون ضمن طبقة التكنوقراط، ويلحق بهم – تجاوزاً – زملاؤهم أعضاء الأكاديميات. ونعلم أن البروفسور ميردال عمل أستاذاً في الجامعة، وباحثاً في مراكز أبحاث، وناشطاً حزبياً ونائباً ووزيراً، أي إنه جمع المجد من طرفيه كما يقال. لكنه مع ذلك حافظ على رؤيته القائلة إن سياسات العدالة الاجتماعية ليست مسألة أيديولوجية أو أخلاقية، بل هي في المقام الأول ضرورة لتنشيط الاقتصاد وحفز الطاقات الكامنة والمعطلة فيه، أي إنه لم ينظر إلى جانب الكُلف المباشرة، كما فعل نظراؤه التكنوقراط، بل نظر إليها على ضوء تقديره الخاص لمكانة الإنسان في العملية الاقتصادية.

يعاتب ميردال خبراء الاقتصاد لكثرة كلامهم عن تحسين نظم التعليم كي تتحسن الكفاءة الإنتاجية للخريجين. كما يلاحظ أن قادة النظام التعليمي ربما انزلقوا أحياناً إلى نفس هذا التقدير، فبات الأمر المهم عندهم هو أن يكون الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات موظفين جيدين، الأمر الذي يساعد على زيادة الإنتاج وكفاءة المشروع الاقتصادي بشكل عام.

هذا التفكير يشبه ذلك الوزير الذي سئل يوماً عن برنامجه لمعالجة البطالة في الأرياف، فاقترح على الباحثين عن وظائف الانتقال إلى المدن الكبرى التي تعج بالفرص الوظيفية من مختلف الأنواع والمستويات. هذا النوع من التفكير، سواء تم التعبير عنه صراحة أو ألقي الحبل على الغارب، حتى يتوصل إليه الناس بأنفسهم، هو الذي أدى إلى تفريغ الأرياف من قوة العمل، ونشوء المناطق العشوائية حول المدن الكبرى.

كان ميردال قد لاحظ أن العائلات التي أرسلت أطفالها إلى المدارس في الريف الهندي وضعت في اعتبارها أن المدرسة ستكون طريقهم للخلاص من العمل اليدوي في المزرعة، والالتحاق بوظيفة مكتبية في المدينة. ومن هنا فإن التعليم لم يخدم المجتمعات الريفية، بل ساعد في تفريغها من قوة العمل وإبقائها فقيرة، أو ربما جعلها أكثر فقراً. أي إن التعليم قد عمل ضد أغراض التنمية الاقتصادية.

نعلم أن هذا المثال تكرر في العديد من المجتمعات، وكان سببه دائماً هو أن تلاميذ المدارس يوجهون كي يكونوا موظفين في دائرة ما أو شركة ما، ولا يدربون كي يصبحوا رواد أعمال، ينشئون أعمالهم الخاصة، التي تفتح الباب لتوظيف آخرين وزيادة حجم المال الذي يدور في السوق المحلية.

يعتقد ميردال أن دور التعليم هو خلق القابلية للإبداع الفكري والعملي، والاستعداد للمغامرة الفردية، وأن يكون هدف التلميذ هو صناعة عمله الخاص، وليس تأجير يديه ووقته.

نعلم طبعاً أن غالبية خريجي المدارس ستفضل الوظيفة المريحة. لكن الفارق كبير بين أن نحصل على 10 رواد أعمال ومبدعين في كل 100 خريج، أو نحصل على 100 باحث عن وظيفة بين كل 100 خريج.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

إنَّ نقد المؤلفين والكُتاب، مِن قِبل الآخرين، عادة جارية منذ القِدم، وقد وقف عليها أصحاب الكُتب، فتوصلوا إلى حقيقة، أنه ليس مِن كتابٍ قط خرج مِن تحت يد مؤلفه مكتملاً، خالياً مِن الخطأ أو التَّصحيف، أو مِن زلةٍ في نقل المعلومة، وأعني هنا بالكتب التي تتطلب البحث والرفد بالرّوايات والأقوال، فالمؤلف الذي أنجز سبعمائة صفحة، وكتاباً بثمانين جزءاً، في طباعة اليوم، أو أقل أو أكثر، حتّى لو راجع كتابه سبعين مرة لغفل عن الخطأ، لأن النّص نصه، فيمر عليه، وفي ذهنه صورة، وقد كتب صورة أخرى، كالذي يتهجى حروف اسم ما، لكن ذهنه صورة معينة، تحتشد في ذهنه المترادفات، ولتقريب الصّورة، وهي مثال لا حصر، قد يقرأ الحروف (ب-ح-ر) «بحراً».

أمّا عن مراجعة الكتاب لـ70 مرة، ولا يخلو الكتاب مِن الخطأ، فهي مقالة إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه» (الخطيب البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق). فيا ترى مَنْ يقدر على التَّمام، وعلى ردّ نقد الجميع!

أقول: مع تكرار التَّصويب أو التَّصحيح، حتَّى أكثر مِن سبعين مراجعة، سيعثر القارئ على خطأ فيه، هكذا صرح بها الأولون مِن تجربةٍ. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ:243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه» (أبو منصور الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدي تأليفه» (ياقوت الحَمويّ، معجم الأدباء/إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب).

لأنّ المتصفح قد أتاه الكتاب جاهزاً، لم يشغل ذهنه ما فيه مِن كلمات وحروف، وروايات وأسانيد، وعمل سنة أو سنتين، أو أكثر بكثير، فالمؤرخ العراقيّ جواد عليّ (تـ: 1987) شغله تأليف «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أربعين عاماً متواصلة، ولم يعينه فيه أحد، مِن جمع مواده إلى كتابته إلى مراجعته ثم الإشراف على طبعه (كتب معاناته في مقدمة مفصلة). لكنّ المتصفح أو النّاقد يأخذ الخطأ الوارد فيه ويجعله فتحاً مبيناً له. وإذا توهم مصطفى جواد (تـ: 1969) ونسب كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطيّ الحنبليّ (تـ: 723هـ)، وهو لمؤلف مجهول، لم يلتفت النّقاد أو المتصفحون إلى اعتذاره، بعد حين، فظلوا متمسكين بالخطأ، لكن اكتشافاً اكتشفه جعله يتراجع ويعترف بتوهمه.

أكثرَ الكُتاب الأقدمون بشرح معاناتهم، حتّى صاغها عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 250 هـ) وصايا للمؤلفين، قائلاً: «ينبغي لمن يكتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أنَّ النَّاس كلّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتَّى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرَّأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنةً وعجباً، فإذا سكنت الطَّبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طمعه في السَّلامة، أنقص مِن وزن خوفه مِن العيب» (الجاحظ، كتاب الحيوان). بأشد منها أوصى إبراهيم بن سيار النَّظام المعتزليّ (تـ: 231-231هـ) لمَنْ يُصنف الكتب ويشتغل بعلمٍ ما: «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فأنت مِن عطائه لك البعض على خطر» (البغداديّ، تاريخ بغداد)، بمعنى أن يُكرس المؤلف كل حياته لتأليفه في العلم الذي يفقهه، فهي حرفة ليست ككل الحِرف.

عبر ما نُسب للقاضي الفاضل عبد الرّحيم بن عليّ اللَّخْميّ (تـ: 596هـ)، قاضي وأديب دولة صلاح الدّين بمصر، أو لصاحبه الكاتب العماد محمَّد بن محمَّد الأصفهانيّ (تـ: 597هـ) مِن عبارة، تعكس قلق المؤلف، بعد خروج كتابه إلى القراء، ويأخذون بتداوله، فتنهال النّقود تباعاً عليه، مِن أتراب الحِرفة، ومِن غيرهم مِن ناقدين ومتصفحين، فليس هناك ما يؤكد أيهما كتب إلى الآخر، القاضي أم الكاتب: «إنَّه قد وقع لي شيء وما أدْرِي أوقعَ لك أم لا، وها أنا أُخبركَ به، وذلك أني رأيتُ أَنَّهُ لا يَكْتُب إنسانٌ كتاباً في يومه إلّا قال في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أحْسَن ولو زِيْدَ لكانَ يُسْتَحْسَن ولو قُدِّم هذا لكانَ أفْضَل، ولو ترك هذا لكانَ أجْمَل وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جُملة البَشَر» (حاجي خليفة، كشف الظُّنون، مقدمة المؤلف).

مَن كتب مقالاً ولم يتحمل ردود الفعل ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة أو رأي مغاير فيه يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره.

يبدو أول مَن ذكرها حاجي خليفة (تـ: 1609م) بأنها للقاضي الفاضل، وخليفة متأخر كثيراً، ولا يذكر أين وجدها، لكنّها قد شاعت للكاتب العماد، مع العلم أنَّ لا كتب القاضي ولا العماد قد حوت هذه العبارة، بينما نادراً ما تجد كتاباً لم يعتذر صاحبه بها، من احتمال الخطأ، ويجعلها الغالب منهم للعماد. أمَّا مَن اعتقد أنّ أول الناقلين له هو النّهرواني (تـ: 988هـ) في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، فلا وجود لها في هذا الكتاب.

غير أنَّ للجاحظ قولاً مشابهاً سابقاً، على الفاضل والعماد، كتبه إلى أحد الوجهاء: «وهل فيك شيءٌ يفوق شيئاً، أو يفوقه شيء؟ أو يُقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم» (الجاحظ، رسالة التّربيع والتَّدوير). فهل يكون هذا القول هو الأساس في ما سارت به الرّكبان مِن عبارة؟!

أقول: مَن كتب مقالاً، ولم يتحمل ردود الفعل، ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة، أو رأي مغاير فيه، يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره، أو ما يكتبه لا قيمة له، فإذا خير الكاتب أو الباحث بين القدح والمدح، عليه قبول الأول، فهو إمَّا أن يصدر مِن محبٍ حريصٍ لا يُجامل، أو مِن حسود حقود، والاثنان يبذلان الجهد لإظهار الخلل، لكن ما لا نغفله أنّ مجال النّقد مليءٌ بالمُحَبطِين، وعلى وجه الخصوص في عالم الأدب، فعلى الكاتب أو المؤلف أن يكون صبوراً إيجابياً مع ما يسمعه مِن تشجيع وخذلان، فعليه أن يُصدق ما ذهب إليه الأقدمون، وقالوها مِن تجربة وخبرة «المتصفح أبصر بمواضع الخلل» مِن مؤلف الكتاب وكاتب المقال. فما يخرج مِن يد المؤلف لا يبقى ملكه، إنما للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ.

لكن ذلك لا يعني كلّ مَن سود يده بالحبر كاتباً، إنما مَن كانت الكتابة عنده مأساة لا ملهاة، مِن أنماط مَن تقدم ذِكرهم، واعترفوا بنقصهم، ولو راجعوا الكتاب سبعين مرة، واعترفوا للقارئ المتصفح بفضله في كشف الخلل، وهم يعانون بالكتابة معاناة الفرزدق (تـ: 110هـ) بالشّعر، يُنقل أنه اعترف، وهو المعدود مِن متقدمي الفحول: «أنا عند النَّاس أشعر النَّاس، وربَّما مرت عليَّ ساعة، ونزع ضرس أهون عليّ مِن أنْ أقولَ بيتاً واحداً» (الجاحظ، البيان والتّبيين).

***

د. رشيد الخيّون

ضد التنوع:

أي مجتمع يتطلع للسلم والتنمية والرقي والتقدم يتسم أفراده بما يلي:

- تعزيز ثقافة الحوار، وترسيخ الاحترام المتبادل بين الاديان والطوائف والمذاهب والاثنيات.

- ترسيخ إحترام حقوق الانسان وحرياته العامة والانفتاح والتعارف والتسامح والتعايش بين الثقافات والحضارات.

- تحقيق التعاون والتكافل اجتماعيا وتحقيق المكاسب المشتركة للمجتمع.

- تعزيز العيش المشرك والحوار العقلاني البعيد عن التعصب والكراهية،من خلال تقبل النقد من الآخرين والاعتراف بالخطأ،وتنمية مفاهيم تقويم الذات.

- إفساح المجال أمام أفراد المجتمع للتوجه نحو تحقيق غاياتهم المشركة، والتوجه نحو بناء الوطن من خلال التعاون مع الشركاء الآخرين، والاستفادة مما عندهم من معارف وخبرات ومميزات.

- الاستفادة من المقدرات الفردية ومقدرات الوطن لما يخدم الصالح العام.

بينما لما يكون مجتمع أفراده يعانون من ظاهرة التطرف بشتى أشكاله وخاصة التعصب في جل صوره، لا يمكن أن تنال قيمة التنوع في هذا المجتمع حقها من العناية والرعاية والاستثمار الأمثل، دون أن يتخلص هذا المجتمع من أسباب التعصب وما ينتجه من أزمات وتلفيقات وأكاذيب تعمل على تغطية نور الوعي الثقافي لأهمية التعايش والتسامح والتعارف والتعاون بين أفراده وتكويناته وماهية المصير الواحد.

أولا: ماهية التعصب:

إن كلمة التعصب أصلها عربي، فقد وجدت في معجم لسان العرب لابن منظور وأشار بأن التعصب ‎‎من العصبية والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو‎‎مظلومين. وقد تعصبوا عليهم إذا تجمعوا فإذا تجمعوا على فريق آخر قيل: تعصبوا والعصبة الأقارب من جهة ‎‎الأب، لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم، أي يحيطون به ويشتد بهم. والعصبي هو الذي يغضب لعصبته ويحاميعنهم. والعصبية والتعصب المحاماة والمدافعة. وتعصبنا له ومعه نصرناه ..(ابن منظور:1980، ص296)

أما تعريفها في اللغة الفرنسية فسنجد أن كلمة تعصب " Prejudice " منحوتة أساساً من‎‎ كلمتين لاتينيتين هما " Pre " بمعنى قبل أو سابق، والثانية " jugement " وتعني حكم أو ‎‎رأي، وبالتالي تعني إجمالاً حكماً مسبقاً أو قبلياً غير مبني على أدلة موضوعية، ‎‎وإنما على تصورات مسبقة. وتدرج تعريف هذا المفهوم من خلال مراحل ثلاث: بدايته بالمعنى القديم الذي ‎‎يشير إلى الحكم المبني على قرارات وخبرات سابقة، اكتسب المفهوم في الفرنسية ‎‎معنى الحكم المتشكل بدون اختيار أو فحص الحقائق المتاحة حوله، مما يجعله حكما غير ناضج أو‎‎سريع Jugement prématuré ou hâtif. وأخيراً اكتسب خاصية انفعالية بالتفضيل، أو‎‎عدم التفضيل التي تترافق مع حكم مسبق ومجرد من أي دليل يدعمه.Stanford 2000،p70.

وقد عرف تعريفات عدة منها:

‎‎تعريف تايلور وراين Taylor&Ryan: حالة خاصة من التصلب الفكري أو الجمود ‎‎العقائدي، إذ يجسد اتجاهات الفرد والجماعة نحو جماعات وطوائف أخرى، ويكشف المتعصب ‎‎عن خضوع كبير لسلطة الجماعة التي ينتمي إليها مع نبذ الجماعات الأخرى، ويرتبط بذلك ميل إلى رؤية العلم في إطار جامد من الأبيض والأسود، مع ميل إلى استخدام العنف في التعامل معالآخرين. (وطفة، 2002، ص 29)

تعريف قاموس العلوم الاجتماعية (1978): غلو في التعلق الشخصي بفكرة أو‎‎مبدأ أو عقيدة، بحيث لا يدع مكانا للتسامح، وقد يؤدي إلى العنف‎‎ والاستماتة (بدوي، 1978،‎‎ص 154).

تعريف فؤاد زكريا (1971): التعصب اتجاه يتضمن عنصرين ‎‎احدهما ايجابي والآخر سلبي، العنصر الايجابي هو اعتقاد المرء إن الفئة التي ينتمي إليها ‎‎سواء كانت قبيلة أو وطنا أو مذهبا فكريا أو دينيا هي أسمى وارفع من بقية الفئات، والعنصر ‎‎السلبي هو اعتقاده إن تلك الفئات الأخرى أحط من‎‎ تلك التي ينتمي إليها.

تعريف جيرجين: ويرى كل من كينس جيرجين وماري جيرجين هو استعداد للاستجابة بسلوك تفضيل أو‎‎عدم تفضيل تجاه فرد معين ‎‎أو مجموعة من الأفراد. (Gergen&Gergen.1981.p.230)

أي يتجسد في حالة من المبالغة ‎‎في التمسك والانغلاق الفكري بعقيدة ومذهب معين في مقابل رفض أفكار ومعتقدات جماعات ‎‎أخرى وإطلاق الأحكام السلبية تجاهها واعتبارها أحط من تلك التي ينتمون إليها.

ثانيا: مكونات مفهوم التعصب

والتعصب اتجاه له‎‎ ثلاثة مكونات هي:

أ-المكون المعرفي: والذي هو عبارة عن الإدراكات والمعتقدات والتوقعات الخاصة بأحد الأشخاص في جماعة ‎‎عرقية أو دينية معينة، وهو ما يأخذ صورة (قوالب نمطية stéréotypes)،أي أن البعد المعرفي ‎‎للتعصب يصنف غالباً تحت عنوان (القوالب النمطية)، وما نقصده بالقوالب النمطية يتمثل في المعتقد الذي يستند إلى حجج غير مناسبة، فهو تصور ‎‎يتسم بالتصلب المفرط عن جماعة معينة، يتم في ضوئه وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إليها.

ب-المكون الانفعالي أو الوجداني: وهو الذي يتعلق بمتصل (المودة - العداء)،فالطرف الايجابي لهذا ‎‎المتصل يشتمل على الإعجاب والعلاقات الوثيقة الحميمة والاتحاد ... الخ، أما الطرف السلبي فيشتمل ‎‎على الخوف والحسد والمسافة الاجتماعية والكره والاحتراب (معتو سيد عبدالله، 1989، ص50).‎‎

ج-المكون السلوكي: فيشتمل على المعتقدات الخاصة بما ينبغي عمله بالنسبة للجماعة موضوع ‎‎التعصب (التمييز)، وقد وضعت درجات للسلوك التمييزي وهي على النحو الآتي:

* الامتناع عن التعبير اللفظي خارج حدود الجماعة الداخلية: وهي درجة قليلة من التعصب ‎‎لا يوجد خلالها أذى للجماعات الخارجية بشكل صريح، حيث يميل الأشخاص الذين يوجد لديهم بعض ‎‎أشكال التعصب إلى الحديث عنها ويتم ذلك غالبا مع بعض الأشخاص المقربين وأحيانا مع بعض ‎‎الأشخاص الآخرين ممن ينتمون إلى جماعتهم نفسها حيث يتيح لهم ذلك التنفيس عن بعض مشاعر البغض والكراهية.

* التجنب Évitement: وهنا يكون السلوك التعصبي أكثر شدة، فهو يؤدي بصاحبه ‎‎إلى اتخاذ بعض الخطوات لتجنب أعضاء الجماعة الخارجية موضوع الكراهية، في هذه الحالة نجد ‎‎إن الشخص المتعصب لا يوجه أي أذى مباشر للجماعة موضوع الكراهية لكنه يأخذ على عاتقه الانسحاب تماما من مواقف التعامل مع أعضاء هذه ‎‎الجماعات.

* التمييز La discrimination: هو السعي إلى منع أعضاء ‎‎الجماعات الخارجية من الحصول على التسهيلات والامتيازات التي يتمتع ‎‎بها الآخرون،كالحصول على الوظائف والإقامة في أماكن معينة كذلك فرص التعليم ‎‎والترقي والعلاج.. .إلخ.

* الهجوم الجسماني Attaque physique: تؤدي الكراهية بين الجماعات في ظل‎‎حالات الانفعال العميق إلى مرحلة أخرى من سلوك العنف الذي يتمثل في العدوان الجسماني على أعضاء الجماعة موضوع التعصب والكراهية.

* الإبادة Extermination: وهي أ‎‎اشد حالات العداوة والكراهية بين الجماعات وتشمل الإبادة الجماعية ‎‎أو الإعدام دون محاكمة قانونية أو أي شكل من أشكال العنف الجماعي. (معتز سيد عبدالله، 1989،ص57-59)..

على ضوء ما تقدم علماء النفس الاجتماعي وعلماء نفس الشخصية اختلفوا في تناولهم لمفهوم التعصب، وقد تمخض عن ذلك مساران لتفسير هذا المفهوم هما:

المسار الأول: وهو المسار الذي عد التعصب اتجاهاﹰ يكتسبه الأفراد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة والمتعددة، وفي هذا المسار توجد هناك ثلاثة نماذج:

الأنموذج الثلاثي: يرى هذا الأنموذج أن التعصب كاتجاه له ثلاثة مكونات هي المكون المعرفي، والذي يتمثل في الصور النمطية التي يحملها الفرد عن الآخرين، والمكون الوجداني والذي يتمثل في مشاعر الكراهية التي يحملها الفرد عن الأفراد الآخرين، والمكون السلوكي ويتمثل هذا المكون في المسافة الاجتماعية التي يضعها الفرد بينه وبين الآخرين .

الأنموذج الثنائي: على وفق هذا الأنموذج هناك مكونين للتعصب الأفكار النمطية السالبة والمشاعر السالبة التي يحملها الفرد نحو الآخرين.

الأنموذج الأحادي: وفي هذا الأنموذج تشكل المعتقدات الجامدة مصدر التعصب، إذ تظهر محتوياته السلوكية على شكل سلوك تمييزي ضد الآخرين،

النماذج الثلاثة المفسرة للاتجاه التعصبي:

أ- أنموذج المكونات الثلاثة:

المكون المعرفي (الأفكار النمطية)

المكون الوجداني (مشاعر الكراهية)

المكون السلوكي (المسافة الاجتماعية)

ب- أنموذج المكونين:

الأفكار النمطية/ المشاعر السالبة: الاتجاه التعصبي، النوايا السلوكية، السلوك التدميري

ج- الأنموذج الأحادي:

المعتقدات الجامدة: الاتجاه التعصبي، النوايا السلوكية، السلوك التدميري

المسار الثاني:

والذي عد التعصب صفة سيئة، ذلك انه يقوم على تعميمات خاطئة أو غير صحيحة أو مبالغ بها، وهو في ذلك يقترب في كثير من محتواه من مفهوم القوالب النمطية stéréotype، وهي تلك الافكار التي تتسم بالجمود والتصلب والتي تكون في الغالب غير صحيحة وغير عادلة فيما تنسبه الى فرد ما من الأفراد أو الى جماعة ما من الجماعات.(fantino p578،1975)

وعلى وفق هذين المسارين، برزت هناك العديد من الأطر النظرية لتفسير مفهوم التعصب لعل من أبرزها:

أولاﹰ: المنظور الثقافي-الاجتماعي:

نظريات الصراع بين الجماعات Group conflict theories والتي تركز في تفسيرها لمفهوم التعصب على معرفة وفحص متى وكيف تنشأ الاتجاهات التعصبية في مجتمع معين أو في ثقافة معينة، وهي في ذلك تكون أقرب ما يكون الى المنحى الثقافي – الاجتماعي Socio- cultural Approach الذي ينصب الاهتمام الأساسي فيه على الجماعات ككل وعلى الأفراد بوصفهم أعضاء في جماعات لها كيان خاص ومتميز . (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٢) .

ومن ابرز النظريات التي تنطلق من هذه الفكرة في تفسيرها للتعصب:

نظرية الصراع الواقعي بين الجماعات:

تقوم هذه النظرية على افتراض انه حينما يحدث صراع وتنافس بين جماعتين من الجماعات نتيجة أي عوامل خارجية، فان هاتين الجماعتين تهدد كل منها الأخرى الى أن تتكون مشاعر عدائية بينهما، وهو يؤدي إلى حدوث تقويمات سلبية متبادلة (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٣-١٠٤) .

وترى هذه النظرية أن التنافس بين الجماعات حينما يحتد، لابد من أن يؤدي الى خلق مشاكل متباينة من مشاعر العدائية، وهناك أمثلة عديدة للتنافس الواقعي بين الجماعات الذي يصل الى مرحلة الصراع سواء بالنسبة للوظائف المهنية المختلفة او بالنسبة للأجور وغيرها، وقد تقترب حالة التنافس هذه الى حد كبير من الصراع على المكانة وعلى القوة وعلى المستوى الاجتماعي والتي أكدها عالم النفس الاجتماعي (مظفر شريف) الذي صاغ فروض هذه النظرية المرتبطة باسمه. (خمائل خليل اسماعيل العبيدي، ٢٠٠٥،ص٤٠) .

نظرية الصراع بين الريف والحضر: Rural-urban conflict

تعد هذه النظرية إحدى نظريات الصراع بين الجماعات، وهي تفترض أن أشكال التعصب المختلفة تنشأ من الخوف والعدائية المتبادلة بين سكان الريف والمدينة، وذلك بسبب التوقعات التي يحملها كل منهما نحو الأخر (635.Merill&Elliot، 1961، p)، وهي تؤكد على أن انتقال الأشخاص من الحياة الريفية الى الحياة الحضرية يرافقه كثير من الخوف والقلق، فحياة الحضر أكثر تعقيداﹰ من حياة الريف، وفيها خوف من أن لا يستطيع الأشخاص الوصول إلى المستوى الذي تتطلبه الحياة الحضارية، وعلى الرغم من محاولات النجاح المبذولة، إلا أن ذلك يتطلب جهداﹰ نفسياﹰ وجسمياﹰ شاقاﹰ مما يجعل الأمر أكثر تعقيداﹰ فهو السبيل الى المنافسات والمشاحنات وأنواع الصراع القيمي ومواقف الإحباط المؤلمة وأشكال التعصب المختلفة (أحمد عبد العزيز عبد الغفار سلامة، ص١٨٦، 1975) .

نظرية الحرمان النسبي: Relativeness Deprivation

للحرمان النسبي مكونين:

مكون "بارد" (معرفي) أي إدراك الحرمان، ومكون "ساخن" (انفعالي – دافعي) يتضمن انفعالات الاستياء التي تحفز لظهور اتجاهات وسلوكيات معينة. كما أن له نوعين، الحرمان الجماعي (شعور الفرد بأن جماعته محرومة نسبة الى الجماعات الأخرى)، والحرمان الفردي (شعور الفرد بأنه محروم نسبة الى بقية الناس).

(85.Olsen &Hafer، 1996، p).

ولتفسير التعصب، تؤكد هذه النظرية أن الاستياء وعدم الرضا المميزين للاتجاهات التعصبية لا ينشآن نتيجة الحرمان الموضوعي، ولكن ينشآن من الشعور الذاتي للشخص بأنه محروم نسبياﹰ أكثر من بعض الأشخاص الآخرين في الجماعات الأخرى، أي انه حينما يشعر الأشخاص بحرمان نسبي بالمقارنة بأعضاء جماعة أخرى فإنهم يعبرون عن امتعاضهم أو استيائهم في شكل خصومة جماعية (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص ١٠٦)، ففي المجتمعات الاقتصادية نجد أن الجماعات تتباين في مستوى ثرائها وما حققته من كسب، وهو ما يخلق مشاعر الحرمان النسبي بين أعضاء الجماعات الاقل ثراء، أو ذات المستوى الاقتصادي الاقل (عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٧) .

ثانياﹰ: المنظور المعرفي: Cognitive Approach

نظريات السلوك بين المجموعات:

تمثل هذه الفئة من النظريات احد الاتجاهات الحديثة للاهتمام بأشكال السلوك المختلفة بين الجماعات، وتؤكد هذه النظريات على الدور الذي تؤديه العمليات المعرفية في تحديد أفكار الإفراد بين الجماعات الداخلية التي ينتمون إليها والجماعات الخارجية (الجماعات الأخرى التي لا ينتمون إليها)، كما أنها تؤكد على الكيفية التي تسهم بها العمليات المعرفية العديدة في نشأة الاتجاهات التعصبية بأشكالها المختلفة بين الجماعات، فهي تمتد بعملية التصنيف إلى فئات، وبالإدراك الاجتماعي الى دراسة القوالب النمطية التي يكونها أفراد الجماعات بعضهم عن البعض الآخر، وأشكال التحيزات التي توجد بين هذه الجماعات، وما يترتب على ذلك من تمييز، كما أنها تهتم بدور التمثيلات الاجتماعية والمخططات العقلية في توجيه ومعالجة المعلومات عن الأشخاص والأحداث الاجتماعية (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١١٢) .

إن نظريات السلوك بين الجماعات تضم نظريتين مترابطتين في تفسيرها لمفهوم القوالب النمطية الذي تعده الأساس لتشكيل التعصب هما:

أ‌. نظرية التصنيف الاجتماعي Social classification Theory:

ركز تاجفل (1978 Tajfel Differentiation Between Groups،) صاحب هذه النظرية على عملية التصنيف الاجتماعي كونها الآلية المعرفية الأساسية للتعصب، ويعني ذلك التصنيف الإدراكي للأفراد الى فئات أو جماعات، وهو ينطلق من الافكار المركزية الآتية لتفسير التعصب:

إن الناس ينزعون الى تصنيف عالمهم الاجتماعي الى صنفين: "نحن" (أو الجماعة الخاصة بالفرد) و"هم" (أو الجماعة الأخرى) .

إن التمييز لا يحدث إلا إذا تم هذا التقسيم (مما يجعل التصنيف شرطاﹰ ضرورياﹰ للتمييز)، وعندما يتم هذا التقسيم يتولد الصراع والتمييز (مما يجعل التصنيف شرطاﹰ كافياﹰ أيضاﹰ وليس شرطاﹰ ضرورياﹰ فحسب) .

إن من أهم المعايير التي تعتمد في عملية التصنيف هي العرف، والقومية، والدين، والجنس (مكفلين وغروس، المدخل الى علم النفس الاجتماعي، 2002 ص264) .

وفي ذلك يرى تاجفل (Tajfel) أن هناك مجموعة من المسائل التي تتصل بعملية التصنيف الاجتماعي: .

ان فعل التصنيف الاجتماعي يؤدي الى أن يكون ما هو داخل الجماعة مفضلاﹰ، وان ما هو خارج الجماعة غير مفضل ومواجهاﹰ بالتحيز والتعصب .

إذا كان التصنيف الاجتماعي هو الأداة المعرفية التي يتم بها ترتيب البنية الاجتماعية وتنظيمها، فإن هذه الأداة من الممكن أن تباشر أشكالا متنوعة من الفعل الاجتماعي، فهي لا تنظم العالم الاجتماعي فقط ولكنها توفر أيضاﹰ نظاماﹰ توجيهياﹰ لمرجعية الذات فتعمل على التعريف بمكانة الفرد في المجتمع (112.Tajfel، 1982، p) و(195-193.Linville، 1982، p).

وفي سياق ذلك تؤدي القولبة النمطية كعملية معرفية وإدراكية خالصة إلى تجسيد وإبراز الفروق الفعلية بين الفئات الاجتماعية، وهذه الفروق الفعلية تحددها الظروف الاجتماعية، وحينما تؤدي مثل هذه العمليات المعرفية الى قوالب نمطية سلبية عن فئات اجتماعية معينة، فان ذلك سوف يسهم في تشكيل الاتجاهات التعصبية ضد أصحاب هذه الفئات.

ب‌. نظرية الهوية الاجتماعية: Social Identity theory

تكمل نظرية الهوية الاجتماعية تفسير نظرية التصنيف الاجتماعي للتعصب بالرؤية الآتية:

إن نظرية الهوية الاجتماعية ترى أن تكوين الصورة النمطية يعود الى أن التحيز للجماعة هو سمة عامة في علاقات الجماعة المتبادلة، وان الهوية الاجتماعية تستمد من العضوية في هذه الجماعات ويحسب الجنس، والعرق، والطائفة الدينية.. الخ . ولان للأفراد حاجة نفسية للتقدير الذاتي والايجابي –ولأن الذات تعرف في إطار عضوية الجماعة، فان الأفراد بحاجة الى المحافظة على هوية اجتماعية ايجابية . وعليه فانه كلما زاد الوعي بما هو خارج الجماعة كلما زاد التحيز لما هو داخل الجماعة وأدى الى ظهور الصور النمطية (البداينة. ذ، ١٩٩٩، ص٨٩) (72-64.Schlenker، 1984، p)، فالهوية الاجتماعية تعطي الشكل للصورة النمطية، وكما هو متعلق بالجنس، والعرق، والدين، والمهنة، ...الخ، بينما يساعد تمثل القيم الاجتماعية والمعايير السائدة على إعطائها المضمون (معتز عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١١٨) .

ثالثا:‎‎ أشكال الاتجاهات التعصبية:

تناولت المدارس السيكولوجية التعصب على انه اتجاه عدائي نحو الأقليات العنصرية، ‎‎وهو ما يعرف بالاتجاهات التعصبية العنصرية، وهو أكثر أشكال التعصب التي نالت اهتماما نظريا‎‎ وواقعيا، فقد حظيت دراسات التعصب ضد السود سواء في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بأكبر ‎‎قدر من الاهتمام، حيث يمثل السود كجماعة عنصرية موضوع كراهية وعدم تحمل من قبل جماعات‎‎الأغلبية البيضاء، وبتوسيع مفهوم الاتجاهات التعصبية نجد أن التعصب القومي قد حظي باهتمام‎‎كبير، فعلى الرغم من أن هذا النوع من الاتجاهات التعصبية كان يضمن غالبا في إطار التعصب ‎‎العنصري إلا انه يمثل شكلا متميزا من أشكال التعصب، فقد أجريت العديد من الدراسات باستخدام مقياس بوجادرس (bogardes) للمسافات الاجتماعية للاتجاه نحو القوميات المختلفة، أبرزها الدراسات التي تتعلق باتجاه الأمريكان نحو القوميات الأخرى مثل الألمان ‎‎و اليابانيين والروس .. الخ) وقد اتضح أن أكثر القوميات التي ينفر منها الأمريكان هي القوميات ‎‎الشرقية على وجه الخصوص الصينيين واليابانيين) بينما أكثر القوميات التي‎‎ يفضلونها هي القوميات الأوروبية الغربية. وعلى الساحة‎‎ العربية بعد التعصب الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب عموما أكثر أشكال التعصب القومي التي يعاني منها العرب.

كذلك حظيت الاتجاهات التعصبية الدينية باهتمام واضح، حيث أن اليهود أكثر الجماعات ‎‎الدينية التي كانت هدف تعصب المسيحيين سواء في الولايات المتحدة وأوروبا وإن كانت الحدة اقل‎‎ في أوروبا، كذلك ينتشر التعصب الديني في بعض البلدان العربية التي يسكنها المسلمون ‎‎والمسيحيون مثل مصر ولبنان، كما أوضحت بعض الدراسات وجود أشكال مختلفة من التعصب الديني بين المسلمين والهندوس في المجتمع‎‎الهندي. كذلك في المجتمعات ذات التعدد المذهبي والتنوع الإثني وما هنالك من تعددية ثقافية...

و هناك الاتجاهات التعصبية ضد المرأة anti-femme، فقد شمل التمييز بين الجنسين جوانب اجتماعية عديدة مثل التعليم ‎‎والعمل وغيرها، وربما يكون التعصب ضد المرأة أكثر حدة في المجتمعات الشرقية‎‎ وخصوصا مجتمعنا العربي،حيث مازال العديد من أبناء أقطاره ينظرون إلى المرأة نظرة‎‎ اقل قيمة على الرغم من تقلدها العديد من المناصب..

وتأتي الاتجاهات التعصبية الاجتماعية سواء‎‎الطبقية Casteأو ‎‎الطائفية Class في مرتبة اقل من حيث الاهتمام مقارنة بأشكال التعصب الأخرى، ففي الولايات‎‎المتحدة أشارت الدراسات إلى وجود بعض التحيزات بين سكان المناطق الشمالية ‎‎والجنوبية،أو بين المناطق الريفية والحضرية،وأشارت دراسات أخرى إلى وجود تعصب‎‎ شديد (معتز سيد عبد الله 1989،ص 14-17) أما المقالة‎‎ هذه فهي تركز على مجال الاتجاهات التعصبية الاجتماعية الدينية الطائفية خصوصا في المجال العربي.

رابعا: مناشئ التعصب

إن التعصب ينمو في ظل ظروف نفسية واجتماعية محددة يعيشها الأفراد تعمل على انتشاره في ‎‎بعض المجتمعات دون الأخرى، فقد أشارت نتائج الدراسات إلى أن التعصب يزداد خطورة، كلما عرف ‎‎المجتمع ظروف محددة منها:

تضخم الذات: وهذه الذات المتضخمة قد تكون ذات الشخص، أو ذات الجماعة، أو ذات الدولة، بمعنى أنها الذات التي يرجع إليها الشخص وينتمي لها.

الشعور بالنقص الذاتي: كذلك الشعور بالنقص أو الدونية عادة ما يجعل الشخص يتعصب إلى شيء قد يجد فيه ما يكمل نقصه،كالجاهل الذي يتعصب لرجل دين ما مثلا (مصطفى زيور، في النفس، دار النهضة 1986 ص196)،

الاختلاف الثقافي السلبي: فكلما كان هناك اختلاف أو تباين بين الجماعات التي تكون المجتمع، فوجود جماعات ‎‎تنتمي إلى أعراق مختلفة داخل المجتمع الواحد أو أديان مختلفة أو ثقافات مختلفة يعتبر أرضا خصبة‎‎ لنمو التعصب وتشكله.

التغير الاجتماعي الفجائي: كما تدل الدراسات على انه كلما كان التغير الاجتماعي سريعا وراديكاليا ازداد التعصب، إذ كثيرا ما يصاحب هذه السرعة اختلال ملموس في النظم والمؤسسات والقيم التي يؤمن بها الأفراد. كما يصاحب هذه السرعة نوع من عدم الاتزان والقلق عند الأفراد، لذا يلجأون إلى التعصب كوسيلة ‎‎لتغطية هذا القلق واختلال القيم.

الظروف الاجتماعية القاهرة: كالعوز والفقر والبطالة، فأحيانا يتجه الإنسان نحو التعصب والتطرف والعنف بسبب الفقر والحاجة إلى المال لسد حاجياته خصوصا فئات التفكك الأسري والتسرب المدرسي والانحرافات الأخلاقية والاجتماعية عامة.

الجهل ونقص ا لمعرفة: فالجهل بالآخر وعدم توسيع المدارك بمعرفته والاطلاع على ما يؤمن به من المصادر الموثوقة يدعوه إلى التعصب ضده ورفضه. كذلك عدم وجود فرص الاتصال بين الجماعات المختلفة من المجتمع الواحد عامل‎‎مهم في ازدياد التعصب.. فقد أثبتت الدراسات انه كلما ازدادت معرفة الفرد بالحقائق والمعلومات عن‎‎الجماعات التي يتعصب ضدها قل التعصب. كالجهل بإدارة العلاقات ووعي الأولويات.، فالجاهل بإدارة العلاقات يسد على نفسه وعلى غيره كثيرًا من أبواب السعة والرحمة، ويتخذ فلسفة الرفض أساسًا لعلاقاته فرارا من مواجهة المشكلات، وبذلك يتعصب لرأيه وضد غيره.

تضخيم القداسات مع الغلو: إذ يصل هذا التقديس والغلو إلى حد إضفاء صفة القداسة على غير المقدس، مما يؤدي إلى التعصب لهذا الشخص أو لهذه الجماعة مثلا: التقليد الأعمى لكل من هب ودب، دون النظر في أهليته وعلميته، فبعض الناس يقلدون كل من يخرج على الفضائيات، فيستمع إلى محاضراته، ويأخذ أمور دينه منه، من غير أن يعرف أنه إنسان متطرف أم معتدل. أو يتثقف دينيا عن طريق الأنترنت، فيجد الفتاوى والدروس والمحاضرات والخطب، فيتأثر بها، لاسيما الفتاوى الشاذة، والخطب التحريضية على العنف والتطرف العنيف، والمحاضرات المسمومة الهادفة لتأجيج الصراعات وبث الفتن في المجتمعات، ناهيك عن التيارات الدينية المنحرفة والتي تصطاد الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتعمل عبر توظيف الشحن الاصطلاحي الشرعي، ولاسيما المصطلحات الحساسة، كمسائل التكفير والتبديع والتفسيق والتضليل، والجهاد والولاء والبراء، لتجنيدهم وإغرائهم لتنفيذ مخططاتهم الفتنوية والإرهابية ونشر أفكارهم المتطرفة وترسيخ اتجاهها التعصبي عبر هؤولاء الضحايا.

الخلل في التوازن النفسي: والذي غالبا يبدأ من الشعور بالفشل في مواجهة التحديات وصعوبات الحياة ومشاكلها. واليأس والقنوط وخيبة الأمل في حصول مبتغاه، كل هذا يدفع الإنسان إلى التصرف تصرفا عدوانيا، ويجنح إلى الانحراف، وتظهر عليه حالات التعصب والتطرف والتشدد والكراهية والعنف.

الشعور بالتمييز (العنصري والطائفي والديني والمذهبي): شعور الناس بالتمييز الذي يمارس ضدهم من قبل السلطة أو الأكثرية الغالبة أو الجماعات المضادة، يدفع بهم إلى التعصب كردة الفعل، وهذا ما يبرز في حالات البلدان التي تقبع في سجن الاستبداد السياسي والديني والطائفي، وانحصار الحريات وفق شروط محددة وحسب ما يعطل التفاعل الاجتماعي والتعارف الثقافي والتعاون الوطني، كل هذا يسهم في رفع منسوب التعصب، وبث الكراهيات في نفوس المظلومين المهمشين، مما يحرك لديهم اتجاهات التطرف والتشدد والعنف والإرهاب.

وهناك حب التملك والتسلط والشهرة والسمعة لدى الجماعات المتطرفة، بحيث يستخدمون كل وسيلة ولو كانت غير مشروعة للصراع على تسلم السلطة ونيل المناصب القيادية والسيطرة على الأموال العامة، متسترين غالبا بعباءة التدين المغشوش وهذا شكل من أشكال الاستبداد الديني .

العامل الخارجي المتدخل في شؤون الدول والمجتمعات والأمم: ففي كثير الأحيان تقوم الدول العظمى بتشكيل الجماعات المتطرفة وتجنيدهم للعمل في الدول الصغيرة - لاسيما الإسلامية منها – لزرع الفتن والنزاعات في تلك المجتمعات لصالح الدول الراعية للتطرف والإرهاب.

التعصب المعاكس في رفض قيم المجتمع ومقدساته، والهجوم العلني والتآمر الخفي على الأمن الثقافي للمجتمع، مما يؤجج نار الفتنة،كالانحلال الخلقي تحت غطاء الحرية .

غياب دور المثقفين وعلماء الدين: عدم تثقيف وترشيد الناس – لاسيما الشباب- في كثير من البلدان الإسلامية، خصوصا تلك التي تتميز بتعدد المذاهب والفرق والجماعات، وكثرة الاختلافات بينهم، مما ينتج المغالاة في التنافس، وتبديع بعضهم البعض أو التفسيق أو التكفير.

الانغلاق وضيق الأفق: نجد كثيرًا من الطوائف والجماعات منغلقة على ذاتها لا تسمع إلا لنفسها، وتمنع أتباعها من الاستماع لغيرها، وتنشأ كثير من الافكار المتطرفة والتعصبية في أجواء مغلقة ومعتمة، تعلِّم رفض الآخر والعنف الموجه ومهاجمة أي شخص مخالف.

حجم الأقلية موضع التعصب: هذا عامل آخر ومنشأ واقعي يؤثر في شدة الاتجاه، فيرى (وليامز R.Williams) إن ‎‎التعصب يزداد كلما زاد حجم الأقلية وزاد معدل نموها زاد من حدة الصراع بين الأغلبية والأقليات‎‎الأخرى.

الإستغلال المصلحي والمنافسة بين الجماعات: ويعتبر الاستغلال عاملا آخر يؤدي إلى التعصب، فقد تتعصب جماعة ضد جماعة‎‎ أخرى وتصفها بصفات تبرر استغلالها، وقد يكون الاستغلال اقتصاديا أو سياسيا وغيرها، كذلك تلعب المنافسة في ميدان العمل والخوف من الفشل الذي يصاحب تلك المنافسات (زايد 2006، ص 81-83)

الأفكار النمطية الجامدة Stéréotypes: والتي تمثل المكون المعرفي للاتجاه التعصبي، والتي تعني تحديدا تعميمات غير دقيقة يحملها الفرد بخصوص جماعة معينة، وقد تكون هذه التعميمات ايجابية وقد تكون سلبية، والتعميم الايجابي يتضمن صفة جيدة أو مفضلة يضيفها الفرد إلى جماعته التي ينتمي إليها، ولنفرض أنها (س) فيقول إن جميع المنتمين إلى (س) أذكياء أو طيبون مثلا، فيما يتضمن التقييم السلبي صفة سلبية أو غير مفضلة يضفيها على الجماعة الأخرى التي تختلف عن جماعته بالعرق أو الدين أو المذهب، ولنفرض أنها (ص) فيقول إن جميع المنتمين إلى (ص) هم أغبياء وأشرار مثلا، لذا فالصورة النمطية تقود إلى عزو خاطئ، لذا ما يحصل للفرد المتعصب انه يعزو كل الصفات الايجابية إلى شخصه والى جماعته التي ينتمي إليها، ويعزو كل الصفات السلبية إلى الجماعة الأخرى التي يختلف عنها في القومية أو المذهب أو الدين ..إلخ (سليمان صالح 2007، ص190-192).

كما إن هناك عوامل أخرى لا نستطيع إغفالها مثل العوامل الثقافية كوسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، كلها تساعد في تشكيل التعصب عند الأطفال والمراهقين. التنشئة الاجتماعية المبكرة وأساليب المكافئة والعقاب التي يتلقاها المراهق في حياته فالقدوة السيئة، والتربية غير السليمة، والتنشئة في بيئة غير صالحة، الإنسان يتأثر ببيئته وبالظروف المحيطة به، وبمن يحيطون به من الأفراد والجماعات، سلبا وإيجابا. فإذا تربى في بيئة مشحونة بالعنف والتشدد والكراهية، فهو يحمل تلك الصفات في نفسه ويحكيها بتصرفاته.وهذا من خلال محورين هما:

أ – الاتصال بأفراد متعصبين حيث يجري تعلم معظم أشكال التعصب من الأفراد الذين هم بالفعل متعصبين بدءاً من الوالدين، فهناك ارتباط بين تعصب الآباء وتعصب الأبناء، ذلك لأن الآباء يدربون أطفالهم في الغالب على التعصب سواء كان ذلك بشكل شعوري أو بشكل لاشعوري، هذا فضلا عن المدرسين والأصدقاء، وأفضل مثال على ذلك ما هو متعارف لدى الجماعات الطائفية والتكوينات المذهبية.

ب – الاتصال بموضوعات التعصب وهنا من النادر أن يكتسب التعصب من خلال الاتصال ‎‎بموضوع التعصب، لكن من حين لآخر قد يتعرض الفرد لخبرة سيئة من جماعة عرقية ثم ينمو اتجاه الفرد التعصبي من خلال الاحتكاك (زايد 2006، ص 81-83).

مستخلص:

وعليه الإنسان الذي يتصور أن أفكاره وانتماؤه هما عين الحق والحقيقة، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته وبالتالي يتطرف بتعصبه هذا ..

وهذا ضد الالتزام الاجتماعي والاعتدال في ممارسة المواطنة والانتماء للمشترك الجامع للتنوع في أي مجتمع.. من حق كل إنسان أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو دين أو جماعة، ولكن ليس من حقه أن يتطرف ضد الآخرين المختلفين عنه وعن إنتمائه بوصفه مالك الحقيقة الوجودية النهائية الأوحد، هذا الاحتكار للحقيقة هو الحد الفاصل بين الاعتدال الاجتماعي والتطرف الثقافي، لأن التعبير الحقيقي عن الذات لا يكون على حساب الآخرين ولا يمارس بالفرض والعنف والاعتداء والتمييز والتهميش والتسقيط لتعميم الأفكار والقناعات .. فممارسة العنف بكل أشكاله من اللفظي والفكري إلى الجسدي والمادي، هي تجاوز لحقوق وتخلف عن واجبات الحفاظ على السلم والأمن والاستقرار، لأن التطرف ضد اعتزاز الشخص بأفكاره والتعبير عن خصوصيته بوسائل سلمية – طبيعية، والتطرف يهدف لمطلق الساحة والمجتمع والأمة والوطن ولا يقبل التعبير عن الخصوصيات بوصفها حقائق نسبية...

من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى خطاب إنساني حول الدين والثقافة والاجتماع منفتح على التنوعات الثقافية والحضارية وينبذ العنف ويلاحق التعصب بكل أشكاله.. لأن هكذا خطاب هو المدخل الأساسي في تنمية العلاقات وفتح المساحات المشتركة بين جميع الفرقاء في المجتمع الواحد عبر التعارف والتسامح والحوار، مع حماية المجتمعات من الانجرار إلى تيارات العنف وممارسته.. لذلك فإننا نعتقد أن إحياء الوعي الثقافي المنفتح والمتسامح هو أحد ضرورات ومتطلبات انجاز وتعزيز الأمن الثقافي للمجتمعات العربية الراهنة..

***

أ. مراد غريبي

الكتابة عن المعتزلة منتشرة في أرجاء الدنيا منذ نشأتهم وحتى اليوم، والمقال معني بتوجههم العقلي السبّاق، فهم أصل تفعيل العقل ورواد منهج الشك، وسيكون مكثفا ومختصرا جهد الإمكان، وفيه بعض التكرار المقصود، والإشارات لتصوراتهم قد لا تكون ذات إنسيابية متلازمة.

التوحيد والعدل، أو المعتزلة، حركة سياسية دينية  فكرية فعّلت العقل وإتحذته منهجا للفهم.

نشأت في البصرة أواخر العصر الأموي وإزدهرت في العصر العباسي حتى سنة (234) هجرية،  ومؤسسها واصل بن عطاء (80 - 131) هجرية .

إنطلقت من البصرة الحاضرة الثقافية للدولة العربية، ومن ثم بغداد، وإنفردوا عن إجماع الأمة، وغيرها من الأسباب، وكان الحسن البصري  إمام جامع البصرة الذي تحول إلى جامعة للعلم والمعارف كافة، يجتمع ويتحاور مع الناس في مجلسه،  وجاء إليها واصل بن عطاء من المدينة المنورة، وهو ذكي ولديه قدرة عجيبة على الحفظ، وجرأة كبيرة على طرح أفكاره، وفصاحة غير عادية، ويمتاز بصعوبة نطق حرف الراء.

وأجاب الحسن البصري على سؤال مرتكب الكبيرة، فقال مؤمن وعاصي، وإعترض واصل بن عطاء وقال:  ليس بمؤمن ولا عاصي، بل في منزلة بين منزلتين.

واعتزل المجلس هو وعمرو بن عبيد (699 - 761) ميلادية، في زاوية المسجد، وقال الحسن البصري لقد إعتزلنا واصل، والإسم يحمل الإستصغار أو المنفصل، وهم يرون أنهم إعتزلوا الأفكار الخاطئة.

وبرزوا في زمن المأمون والمعتصم والواثق، حتى أوقفهم المتوكل وأبعد (إبن أبي دؤاد) الذي كان مسيطرا على الخلفاء قبله.

توفى واصل بن عطاء (39) قبل ولادة المأمون (170 - 218)، فالمأمون من أثقف الخلفاء وأشدهم إيمانا بالعقل، فوجد غايته في المعتزلة، وجعل فكرهم المنهج الرسمي للدولة.

ويقال أن أهم أسباب تطورهم وإزدهار نشاطاتهم، الأحداث والصراعات الفكرية والسياسية، والأسئلة الكبرى التي أثيرت في حينها، وتحزبات للرؤى والفرق، وتوسع دولة المسلمين ولابد من التفاعل بالعقل، وتحديد الموقف من الجماعات غير المسلمة في المجتمع ، ومناقشة الأفكار الأخرى للديانات العديدة، والنظرة المتميزة للتوحيد، وضد التثليث المسيحي ورفضوا الصفات للذات الإلهية.

أخضعوا كل شيئ للعقل، وعندما أتخذ المأمون مذهب المعتزلة نهجا للدولة، فرضوا رأيهم بالقوة على الآخرين، وكان سيفا ذو حدين، ووبالا عليهم حيث إنتهوا في القرن الرابع الهجري.

وأصبحوا عشرين فرقة أو أكثر ومنها،  الواصلية، العمرية، الهذيلية، الجاحظية، وغيرها، ويتميزون بالقدرة الخطابية، والتحليل العقلي، وبجادلون وينافشون، وبحماسهم لنشر الفكر، وعندهم أخلاقية عالية، ولباسهم جيد وموحد، ويتصرفون بوقار.

وقالوا بتقديم العقل على النقل، فالعقل هو الحاكم على الشرع، وقادر على معرفة الله، ومعرفة الصواب من الخطأ والحلال والحرام، فالحكم للعقل، وهو أداة نقدية، وأخضعوا للعقل النصوص الدينية، فما يقبله العقل مقبول، وما لا يتفق معه والنص للعقل الأولوية، فيجنحوا للتأويل للتعقيل.

ومبادؤهم الخمسة التي يسمونها الأصول الخمسة، هي: الله التوحيد العدل المنزلة بين المنزلتين الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف . وبتفصيل أكثر:

الأزلية والألوهية: صفات الله هي عين ذاته، والقدرة والعلم والحياة صفات الذات وهي وذات الله أمر واحد، والمعنى المجازي يد الله القدرة، يكشف عن الساق  أهوال يوم القيامة، فالله واحد ليس كمثله شيئ، ينزهون الله، الذات الإلهية شيئ واحد، صفة وموصوف  وينكرون تعدد الذات الإلهية.

العدل: حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله لكي يكون الحساب واقعا، فالإنسان يملك الحرية في أفعاله ولا يجبره الله على الفعل  لأنه صاحب عقل.

المنزلة بين منزلتين: ليس بمؤمن وليس بكافر (الفاسق)، الصغائر والكبائر، كبيرة الشرك، المعتزلة لا يكفرون مسلم.

الوعد والوعيد: حق لا تبديل له، يوفي بالوعد والوعيد، لا شفيع ولا توسط

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الواجب التدخل لمنع المنكر ولا يستثني أحدا، رئيس ومرؤوس، نصح وموعظة، والقوة جائزة في حالة توفر الظروف.

التعرض للحاكم يجب أن يكون مقرونا بالقوة اللازمة لذلك وإلا فأن العمل عبثي.

خلق القرآن (212 - 234) هجرية: القرآن مخلوق، أوجده الله كغيره من المخلوقات، لم يكن موجودا فأوجده الله، فهو ليس أزلي، فهمهم للصفات الإلهية وذاتية الله.

الله تكلم به وخلقه وأنزله، وهو مرتبط بأحداث في زمن محدد، مستحدث وليس أزليا، وهو لمصلحة العباد وهم مخلوقين ومصالحهم متغيرة.

آيات تنسخ آيات، تخاطب الأنبياء بأساليب مختلفة، إنا جعلناه قرآنا عربيا، وما هو مجعول مخلوق، والنصوص ترتبط بأحداث زمانية ومكانية، ولهذا يتهمون بقولهم ببشرية القرآن.

ومن سماتهم، إعادة إنتاج الماضي، الإجتهاد والقراءة العقلية للنصوص والتأويل، أوّلوا كل ما يجسم الله، نفي رؤية الله بالبصر فهو لا تدركه الأبصار، نفي أي شفاعة، نفي الغيبيات، نقد الروايات المخالفة للعقل، الغيب من علم الله ولا أحد يدري بالغيب، الصراط غير مادي في عرفهم، الميزان الحسي وعلامات قيام الساعة ، إنها سوف تأتي فجأة، الجنة والنار ليستا أزليتان بل مخلوقات، نفي الخوارق والأمور الغير معقولة ، ونفي السحر والتواصل مع الجن، الكرامات والمعجزات أنكروها.

وأعلامهم رواد الفكر الحر والعقل ومنهم  الزمخشري، الحاحز.

ولابد من القول بأنهم فرقة عقلية رائدة، أكثر شهرة وقدرة على إنتاج الأفكار والرؤى الفلسفية الراقية، سبقوا دخول الفلسفة اليونانية إلى العرب، فهم الرواد ولهم الأسبقية الفكرية والعقلية، وهم ليسوا صدى للقادم من اليونان.

أدوات الجدل ومناهج العقل:

العقل له منزلة مقدسة، الرسول الباطني في داخل النفس الإنسانية لقيادتها نحو الحقائق، وهو حجة على الإنسان، ومظهر من عدل الله وحكمته، وله القدرة على الفصل والتمييز  بين الخير والشر، فالعقل لوحدة قادر على الوصول إلى الصلاح، أ فلا تعقلون، تتدبرون.

ومنهجهم تقديم العقل على النقل، فأدلة العقل هي الأصل، وأدلة النقل مؤيدة للعقل.

العقل قادر للوصول إلى حقيقة الله، وأول الأدلة للفهم، ولديهم منهجية تأويل الآيات، ومناهج تختص بأمور الدنيا، والمحكم والمتشابه من الآيات.

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وجوه يوم إذن ناظرة إلى ربها ناظرة

النقد والشك

الشك المنهجي القائم على الدليل العقلي، إن الشك أول الواجبات \ الشك يوصل إلى اليقين عن طريق العقل \ سباقيين في تأسيس الشك المنهجي \ رائدين على مستوى عالمي سبقوا ديكارت والغزالي الذي ربما أخذ أفكاره ديكارت.

النظرية النقدية الفحص النظر والإستدلال العقلي وهو ذو قوة إبداعية، ونقد الأخبار والحديث ويقيسونه عقليا. وتقد الجاحظ الحجرالأسود كان أبيضا وجعله المشركون أسودا، بيان ضعف الخبر عقليا، والصحبة للنبي لم تكن رادعا لهم، فكانت أخطاؤهم كثيرة بعد وفاة النبي، إبراهيم النظام ينقد حتى الخلفاء الراشدين وناقم على إبن هريرة.

المعرفة الحسية : قدرة الحواس على إكتساب المعرفة مدركات حسية وهي خادعة، التجربة الحسية، المعرفة العقلية أو المدركات العقلية البديهيات، ولكل منها قيمة لإدراكه الأشياء، العقل قيمته الإدراكية أعلى وأقوى وأطلق، فالعقل فوق المدارك الأخرى.

المعرفة مدراكات عقلية ومحسوسات، الحيوانات لها مدركات حسية، ويرون أنها لا تملك العقل فلا تميز بين المحسوسات، فتكون بلا فكر ورأي، فالعقل يميز ويصحح خداع الحواس.

علم الكلام : علم الدفاع عن التوحيد، منهج معرفي يهدف لإقامة الإيمان الديني على أسس عقلية، إيمان عقلي، سيكون وسيلة للدفاع عن الدين، المتكلمون وظيفتهم الرد بالحجج العقلية والبراهين المنطقية الواضحة.

علم الكلام أساس لوضع الفلسفة كما فعل الكندي، فالمعتزلة أثروا في النشاطات العلمية.

ومنهم أبن الراوندي، الفارابي، الكندي، الجاحظ، سيبويه، إبن الهيثم وغيرهم، قدموا الفكر والعلم والعصر الذهبي للأمة، ودافعوا عن الإسلام بالحجة والدليل والجدل الفكري، وعقلنوا الدين والنص الديني

فالدين العقلاني مذهبهم وديدن نشاطهم، والحرية الإنسانية من ركائز منهج المعتزلة.

وكما تقدم ظهروا في القرن الثاني للهجرة كفرقة دينية إصلاحية تجديدية، وربما ثورية، موقفهم نقدي ضد النظريات والأراء، حرية التفكير والتطوير، إيمان بقدرة العقل البشري فأعلوا من سلطانه، وجعلوه حكما على كل شيئ فلا حدود أمام العقل، ولا يستعصي عليه شيئ من الإدراك، ويمكنه الوصول إلى المعارف وأغوار الحقائق، فالعقل يستطيع إدراك ما موجود في الكون.

إنهم فرقة عقلية، العقل أداة المعرفة الأساسية، فألحقوا المعرفة الحسية بالمعرفة العقلية، لأنها ستكون من صلاحيات العقل، فالمحسوسات موضوعات المعرفة العقلية، والعقل يحولها إلى مدركات عقلية وترتيبها وتحليلها، ليصل إلى معرفة محددة.

وسعوا من دائرة نفوذ العقل فجعلوه حكما على الإيمان الديني والنص الديني، فإلإيمان الديني لا يستقيم دون الإرتكاز العقلي، والنص الديني إذا إتفق مع العقل يؤخذ به وإلا لا يؤخذ به، فالعقل قادر على تحديد الحسن والقبيح من الأفعال، حسن وقبيح بذاته.

يرفضون العديد من الأحاديث والمرويات لأنها تستخف بمنطق العقل ، فروات الحديث في عرفهم  يتقولون الكذب على الله ورسوله.

قاموا بالتأويل العقلي، نفوا رؤية الله في الدنيا والآخرة.

خلق القرآن أي القرآن مخلوق، بينما الرأي الآخر يرى أنه أزلي وفي اللوح المحفوظ، وخلق القرآن أقرب إلى العقل مخلوق في زمن خلق من أجل معطيات وأحداث تمت في زمنها.

المسار الإصلاحي المرتكز على العقل، رفضوا الخوارق والكرامات، إيمانهم بقدرة العقل على معرفة الخير والشر والتشريع وغصدار القرارات والأحكام والتمييز بين القيم كالحق والصدق والمساواة وحرية الإرادة.

وجود قانون طبيعي يعلو على أي مصدر آخر للتشريع .

الإنسان يمتلك حرية إرادة وإختيار وهو الخالق لأفعاله، ويستحق عليها الثواب أو العقاب.

ما قيمة وجود العقل إذا كان الإنسان مجبرا على أفعاله، لماذا يعطي الله العقل للإنسان إذا يجبره على الأفعال، بينما أعطاه حرية العقل والإرادة والإختيار، وهذا يبرهن العدالة الإلهية التي تستوجب العقاب لأنه حر ومسؤول.

العلاقة الجدلية بين حرية الإنسان والطبيعة ، العالم الطبيعي محكوم بقوانين ثابتة ويعمل بمبدأ السببية، وفي الإنسان مربوطة بالإرادة البشرية.

وهم نخبة من العلماء الأفذاذ، أطلقوا الفلسفة، وعلم الكلام، إخوان الصفا والفكر العقلاني، أمثال واصل بن العطاء، عمر بن عبيد، أبو الهذيل العلاف، الزمخسري، إبراهيم النظام (مارس الشك المنهجي، ومارس المنهج التجريبي )، الجاحظ، يعلم العقل والأدب، أثروا في الفكر الإنساني، وركزوا على مقتضيات العقل والحكمة العقلية، ورفضوا العقل المغيب المعطّل، والأحداث يرونها بنت زمانها ومكانها، والتغيير منهجهم الواضح المبين.

***

د. صادق السامرائي

كان محمد عبده أحد حركة الإحياء الديني في نهاية القرن التاسع عشر والتي ظهرت في وقت نكوص وانحدار الخلافة العثمانية وكشفت عن الفجوة الحضارية الهائلة التي تفصل العالم الإسلامي عن الغرب، وقد دعا محمد عبده في مجمل فكره إلى معادلة تجمع ما بين التمسك بالتراث بعد تحريره من الخرافة والتقليد والاتباع الحرفي وبين تبني قيم الحداثة الغربية دون تقليد نمط حياته واستنساخ أسلوب ثقافته .

إن قراءة محمد عبده خارج سياق التاريخ قد تضعه في منزلة أقرب للمحافظة أو التقييدية وفق معاييرنا المعاصرة، لكنه بمعايير زمنه كان ثوريا إلى حد ما، وحركت أفكاره المياه الراكدة حينذاك، وبنى عليها كثيرو من مفكرو الحداثة العرب المعاصرين أشياء وأشياء وأفكارا وأفكار .

والإمام محمد عبده قد ولد في عام 1849 في زمنا كانت مصر لا زالت تعيش ارتدادت الصدمة الحضارية التي تعرضت لها عقب الحملة الفرنسية التي أتاحت لها الاحتكاك بالثقافة الغربية واكتشاف حجم الفجوة الحضارية التي تفصل الغرب عن الشرق .

تلقى محمد عبده علومه عن الأزهر الشريف حتى تخرج منه 1877 حيث تكونت لدى محمد عبده أثناء الدارسة حاجة الأزهر للإصلاح المؤسسي والمنهجي وتنامت هذه القناعة بعدما طالته الثقافة وتعرف على الثقافة الغربية عن قرب وتمكن من إحداث بعض الإصلاح في الأزهر عندما عينه الخديوي عباس حلمي مفتيا للديار المصرية عام 1899 وكذلك عضوا في مجلس إدارة الأزهر .

وكان محمد عبده قد وهبه الله سبحانه وتعالي فكر الإصلاحي وفكر التجديد، ودائما ما نفرق بين الإصلاحي والتجديد، وذلك لأن الإصلاحي يفترض أن ما سبق كان خطأ، والتجديد يرى أن ما سبق كان خيرا ولكن لكل زمانا واجب أي يجب علينا أن نعيشه وندركه ولا نقصر في فعله، والإمام محمد عبده كان يجمع بين الأثنين فهو مصلح ومجدد ومن هنا نراه في مشروعه التجديدي أراد أن يتعامل مع الواقع من خلال إدراكه لهذا الواقع وأن يتفاعل معه وأن يؤثر فيه وأن يغيره إذا كان يحتاج إلى تغيير فهذا هو مشروعه التجديدي الذي يبدأ من التعامل مع الواقع، وقد رأيناه هذا وهو في الوقائع المصرية ورأيناه هذا وهو منضم للثورة العرابية وكذلك وهو منضم لمدرسة الأفغاني ثم يختلف معه من أجل قضية التعامل مع الواقع.

وأود هنا أن أتساءل: ماذا تفيد قراءة محمد عبده اليوم في إعادة بناء علم التوحيد؟، وهل قدمت القراءة حركة الإحياء عند محمد عبده التي كان من أركانها فكرا نهضويا؟، أم أسست للفكر الأصولي الماضوي المعاصر؟

وهنا يجيئنا الأستاذ الدكتور محمد صالح محمد سيد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية، والذي كان قد كتب عن بعض جوانب مشروعه الفلسفي من ذي قبل على صفحات المثقف، والآن أستأنف حديثي عنه مرة أخري، حيث أكد في كتابه "إعادة بناء علم التوحيد عند الأستاذ الإمام محمد عبده "، أن علم التوحيد قد عانى في طوره المتأخر من التدهور والانحلال، ولم يقو أصحابه على إبداع فكر جديد يواجه العصر ومستجداته، بل ظلوا في إطار البحوث التقليدية، وبنفس النمط الذي أثيرت به في كتب الأسلاف، وظلوا يدورون في هذا الفلك، فأصيب علم التوحيد بالجفاف، ولم يبدع فكرا جديدا له أثره في مواجهة تحديات الحضارة الحديثة، وما تفرزه من فلسفات وأيديولوجيات تهاجم الإسلام وتحاول جاهدة أن توقف مسيرته الحضارية.

على أن هذا العلم في نظر محمد صالح  منذ القرن الثامن عشر، قد بدأ نهضة جديدة بدأت تظهر بصورة أكثر وضوحا على يد الأستاذ الإمام الذي حاول أن يصوغ لعلم التوحيد وظائف جديدة انطلاقا من ان الإسلام دين وثقافة وحضارة فيجب أن يكون لهذا العلم دور فعال في توجيه اليحاة الاجتماعية والثقافية والسياسية للفرد في أي مجمتع إسلامي، وللأمة الإسلامية كأحد التجمعات البشرية.

ومن هنا كما يقول محمد صالح بدا يتساءل الإمام عن الدور الذي يمكن أن تلعبه عقيدة التوحيد في حياة المسلم الروحية والمادية، وفي حياة المجتمع الإسلامي، وكيف يمكن لعقيدة التوحيد أن تنفذ إلى جوهر الوجود الإنساني؟، وكيف يمكن أن تكون هذه العقيدة أيضا محررة للطاقات الإنسانية لكي تفعل وتؤثر، فتحول هذه الذوات الخاملة البليدة إلى ذوات فعالة نشيطة مبدعة؟.

لهذا كان من أهم الوظائف في نظر محمد صالح التي وضعها الأستاذ الإمام لهذا العلم – وهو بصدد إعادة بنائه – أن يتحول الإيمان من مجرد الإيمان النظري إلى إيمان عملي يرسخ مبدأ العمل كشرط ضروري من شروط الإيمان، ذلك العمل الصالح في مجال الفرد والمجتمع، وهنا تبرز فعالية الإسلام الحقيقية، فالعمل يرتبط بالعلم ارتباطا وثيقا، فلا عمل بدون علم، ولا قيمة لعلم أو اعتقاد بدون عمل، ولهذا تتسع دائرة الإيمان لتشمل مع الاعتقاد والعبادة، شئون الدنيا، وتنظيم المجتمع، والعمل على ريه وازدهاره، وقضايا الإنسان وتحرره ... إلى آخر تلك القضايا التي تشمل الدين والدنيا معا.

وهنا أدرك الأستاذ الإمام – وهو الشيخ المجدد – أن الصورة التقليدية لعلم التوحيد لا تسعفه في إنجاز هذه المهام، فلابد إذن من إعادة هذا العلم، ومن ثم يقول " ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين كما ذكر محمد صالح  وذلك في المسائل التالية:

أولا: أولا دور العقل في تأسيس الاعتقاد: حيث يؤكد الإمام توكيدا تاما على أهمية العقل في تأسيس الاعتقاد الديني، ولذلك لا يكف عن الإلحاج على ضرورة اطلاق سراح العقل، ليمارس حريته في التأمل، والتفكر، والاستنباط، والاستدلال.. لكي يؤسس المسلم اعتقاده الديني على أساس منه .

ثانيا: نبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد: وهو أمر مرتب على الأمر الأول كما يقول محمد صالح – وهو وجوب النظر العقلي في تأسيس الإيمان – فهذا العقل يجب أن يتحرر من التقليد، منطلقا إلى الاجتهاد القائم على الفهم، والاستنتاج، والاستنباط، واتباع المنهج العلمي الحديث في البحث، ذلك الاجتهاد الذي يحاول صياغة فقه جديد يتلاءم مع تطور الحياة الإسلامية، وما يجد فيها من جديد لا يعرفه أمس هذه الحياه، اجتهاد يخضع الحوادث للتكييف الإسلامي، واجتهاد يبرهن براهين قطعية على أن الإسلام هو الدين النهائي للبشرية، اجتهاد لا يقتصر فقط على استخراج الأدلة من الكتاب والسنة، وإنما يتعد ذلك إلى مراعاة قواعد من وحي النص القرآني، من شأنها تشيع روح الإسلام في كل ما نعانيه من مشكلات، درءا للبحث عن مصادر أخرى لحل هذه المشكلات.

ثالثا: التأويل العقلي للنصوص الدينية: وهو أحد فعاليات العقل في فهم النص الديني، واستخراج معانيه الكامنة، وقد نبه الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح إلى أمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يكون طريقا لتأييد مذهب عقدي أو فقهي بعينه، مما يضطر المؤول إلى التعسف في التأويل موجها من خلال فكر مسبق . والأمر الثاني: لا يلجأ إلى التأويل إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كدفع معاند، أو إقناع جاحد، أو إبراز قيم من الإسلام تعين الناس على تحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، أو لتطهير الشعور الديني مما يكون علق به من تصورات خاطئة، أو التقريب بين الإسلام وروح العصر ....، وفي كل الأحوال لابد وأن يكون التأويل مستوفيا لشروطه، ولا يصدر إلا من قادر عليه .

رابعا: تحطيم المذهبية في علم التوحيد: فالأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح يرفض التعصب لمذهب بعينه، انطلاقا من أن تعدد اجتهادات الأمة، يدل على نضجها الديني، ولكن الخطأ كل الخطأ في محالوة فرقة ما، أو مفكر ما، أن يفرض آراءه على الآخرين، معتبرا اجتهاده الاجتهاد الوحيد الصحيح، وباقي الاجتهادات فاسدة وضالة، على نحو ما ساد في تاريخ علم التوحيد حيث ساد في هذا التاريخ منطق الفرقة الواحدة الناجية والباقي هلكى ..، لقد دافع الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح عن دور جميع العقول في الاجتهاد وحقها في الاختلاف، انطلاقا من الأخذ بمبدأ التعددية، ودحضا لأحادية الفكر والرأي .

خامسا: تحليل الأصول الإسلامية تحليلا عقليا يربطها بالعمل: ومن فعاليات العقل، تحليل الأصول الإسلامية تحليلا لا يقف بها عند اطرها النظرية، بل يتعدى ذلك إلى مجال العمل، فمثلا يرى الإمام أن الإيمان بالقضاء والقدر إذا تخلص من شناعة الجبر صار أصلا يدفع إلى العمل ويحفز الإنسان على الجرأة والإقدام ويخلق فيه الشجاعة والبسالة .

سادسا: المؤائمة بين الإسلام ومتطلبات العصر: حيث يعرض الأستاذ الإمام كما يذكر محمد صالح عرضا يتلاءم ومتطلبات العصر، فيوضج أصوله من: وجوب النظر العقلي، وتقديم العقل على الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، وقلب السلطة الدينية، والاعتبار بسنن الله في الخلق، ومودة المخالفين في العقيدة، والجمع بين مصالح الحياة والاخرة، ... كل هذه الأصول تؤكد توكيدا تاما على أن الإسلام دين العلم والمدنية، فهو دين العلم، لأنه يشجع عليه، ويهيئ له مناخه الصحيح، ويزكي العلم، بل يعتبره شعبة من شعب الإيمان، وكذلك الإسلام دين المدنية فأصوله تؤكد ذلك... ونكتفي بهذا القدر وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

تأليف: مات هيوستن

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشير الأبحاث إلى أن الناس يجدون الأعمال الفنية أكثر إمتاعًا من الناحية الجمالية عندما تكون ذات صلة بهم شخصيًا بطريقة ما.

ما الذي يجعل العمل الفني البصري جميلاً؟ لقد حدد الباحثون في علم الجمال العديد من الخصائص الفيزيائية - مثل التماثل والتعقيد البصري - التي يبدو أنها تؤثر على تفضيلات الناس، لكنها لا تفسر كل شيء. وفي حين أن بعض الأعمال الفنية تحظى بإعجاب أكثر من غيرها، فإن ذوق الناس في الأعمال الفنية متغير بشكل كبير (على ما يبدو أكثر من تفضيلاتهم للمشاهد الطبيعية أو الوجوه البشرية المحددة). نظرًا لخصوصيات الذوق الفني، كان الباحثون يبحثون عن أشياء أخرى قد تفسر مدى الجمال الذي ندركه أنت أو أنا في العمل الفني.

تشير مجموعة حديثة من الدراسات في مجلة العلوم النفسية إلى أن العامل الشخصي - على وجه التحديد، مدى ارتباط القطعة الفنية بك، بطريقة أو بأخرى - يمكن أن يساهم بشكل كبير في قوتها الجمالية. وسط الألوان الزاهية للمناظر الطبيعية الانطباعية المفضلة لديك، أو الضربات الجريئة للرسومات بالحبر الياباني المحبوب، أو الأشكال الملتوية لقطعة مجردة آسرة، قد تكون هناك صفات فنية تعجبك بشكل خاص لأنها تتحدث بطريقة ما عن ذكرياتك أو هويتك أو عناصر أخرى من حياتك.

أظهر إدوارد فيسيل، عالم الأعصاب المعرفي الحسابي في كلية مدينة نيويورك، وزملاؤه للناس (مجموعة صغيرة من المشاركين الألمان في إحدى الدراسات، ومئات من المتحدثين باللغة الإنجليزية في دراسة أخرى) صورًا للوحات تغطي أنماطًا مختلفة. والأنواع والعصور. نظر المشاركون إلى كل صورة للحظة ثم قاموا بتقييمها. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، قاموا بتقييم كل لوحة بناءً على مدى "جمالها أو إقناعها أو قوتها" ومدى تأثيرها فيهم. ثم قام المشاركون بتقييم مدى ملاءمة كل عمل فني، "استنادًا إلى مدى اعتقادك بأن العمل الفني المصور يرتبط بك، أو باهتماماتك وهواياتك، أو شخصيتك، أو الأماكن أو الأشخاص الذين تعرفهم، أو الأحداث في حياتك الشخصية." .

واختلف المشاركون بشكل كبير في كيفية تقييمهم للوحات المختلفة. لكن بشكل عام، كلما صنفوا العمل الفني على أنه ذو صلة شخصية بهم، زاد ميلهم إلى تقييم تأثيره الجمالي. والأكثر من ذلك، يبدو أن الملاءمة الذاتية تفسر الاختلافات في كيفية استجابة المشاركين للصور أكثر من قائمة طويلة من خصائص الصورة المختلفة، مثل التعقيد و"الطبيعية". وبشكل عام، تشير النتائج إلى أن الأهمية الشخصية تؤثر على كيفية استجابة الناس للفن البصري.

هل كان من الممكن للمتطوعين أن يقوموا ببساطة بتقييم الأعمال الفنية التي أعجبتهم أكثر على أنها الأكثر صلة بهم أيضًا؟ أجرى الفريق دراسة ثالثة تناولت هذا القلق، والتي تضمنت استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء عمل فني مصمم خصيصًا ليكون ذا صلة بكل مشارك.

شارك المشاركون أولاً تفاصيل شخصية عن أنفسهم، مثل المكان الذي نشأوا فيه، والأماكن التي سافروا إليها، والفئات الاجتماعية، والأشياء المفضلة (مثل الكتب، والطعام، والحيوانات) وأسلوب اللباس. قام الفريق بتغذية هذه المعلومات في خوارزمية التعلم الآلي لإنشاء صور مصممة بشكل فردي تبدو وكأنها أعمال فنية من صنع الإنسان، ولكنها تعكس أيضًا جوانب من حياة كل مشارك، مثل لوحة على طراز المناظر الطبيعية لمدينة قام المشارك بزيارتها .

صنف المشاركون الأعمال الفنية التي تم إنشاؤها لتكون ذات صلة بهم على أنها أكثر جاذبية من الناحية الجمالية، في المتوسط، من القطع الفنية الاصطناعية الأخرى، بما في ذلك تلك التي تستند إلى تفاصيل من حياة أشخاص آخرين والتي كانت قابلة للمقارنة من حيث خصائصها الجسدية. لذلك، ارتبطت الملاءمة الذاتية مرة أخرى باستجابة جمالية أكبر - وأظهرت هذه النتائج باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر إقناعًا من الدراسات الأولية أن الأولى هي التي قادت الثانية، وليس العكس.

لماذا قد يبدو الفن المرتبط بتجربتك الحياتية أو إحساسك بالهوية أقوى أو أجمل من القطعة المعلقة بجوارها؟ يعتقد الباحثون أن الأمر قد يكون له علاقة بميل الإنسان إلى الاستمتاع بفهم العالم. يقول فيسيل: "غالبًا ما أفكر في علم الجمال كعملية أسميها "متعة الفهم".ويوضح أن الفكرة الأساسية هي أنه "يمكنك استخلاص متعة المتعة من الانخراط في صنع الإحساس والاستمتاع بلحظات "آها" واكتساب فهم أفضل للعالم من حولك".

يعطي فيسيل هذا المثال: إذا علمت أن مقبض الباب في منزلك يتحول إلى اليسار بدلاً من اليمين، فهذا أقل أهمية بكثير لفهمك للعالم من معرفة أن شقيقك قد تم تبنيه بالفعل. هذا الأخير أكثر صلة بإحساسك بالهوية وأكثر إقناعًا. يمكن أن يكون شيء مماثل صحيحًا بالنسبة للفن: كلما زاد ارتباطه بك وزادت قدرته على إعلام الأجزاء المركزية من رؤيتك للعالم، زاد احتمال تأثيره فيك.

بالطبع، إحدى سمات العديد من الأعمال الفنية الرائعة هي قدرتها على جعلك على اتصال بشخص أو شيء بعيد عنك. قد تقدم لك اللوحة لمحة عن وقت أو مكان بعيد، أو تعرفك على شخص لا يمكنك مقابلته في الحياة الواقعية، أو تتيح لك رؤية الطبيعة من خلال عدسة مختلفة جذريًا. إن فكرة أن الكثير منا يفضل الفن الذي يتحدث عن إحساسنا بالذات قد تبدو متعارضة مع تلك الخاصية ذات المظهر الخارجي. ولكن هل هو كذلك؟

ولعل الاهتمام بالذات يساعد - على الأقل في بعض الأحيان - في تشكيل جسر إلى ذلك العالم الآخر الذي يسعى عاشق الفن للوصول إليه. في حين أن التسامح مع ما هو غير مألوف يمكن أن يختلف من شخص لآخر، "بالنسبة لمعظمنا، إذا تم تقديم شيء ما بطريقة يمكننا من خلالها ربطه على الفور ببعض جوانب تجربتنا الخاصة، فيمكننا التعمق بشكل أسرع بكثير". يقترح فيسيل ، على الرغم من كل ما قد يبدو غريبًا في مشهد عصر النهضة الكئيب أو الصورة التكعيبية، فقد يكون هناك شيء ما فيه يتردد صداه مع تجربتك، وبذلك يوفر لك موطئ قدم. يقول فيسيل: قد يعني ذلك أنه "يمكنك الانتباه إلى ميزة يمكنك فهمها". "وإلا، قد لا تولي اهتماما لذلك. يمكنك فقط المشي بجوارها.

***

...........................

* مات هيوستن /Matt Huston محرر وكاتب مهتم بعلم النفس والصحة العقلية والثقافة. قبل انضمامه إلى Aeon+Psyche، كان عضوًا في هيئة التحرير في مجلة Psychology Today لما يقرب من عقد من الزمان. لقد كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع في مجال السلوك البشري، بدءًا من العلاج عن بعد إلى الإدراك الاجتماعي إلى التكاثر في العلوم النفسية.رابط المقال: https://psyche.co/users/matt-huston

الأيديولوجيا من "علم اللغة الفرنسية، إلى اللغة اليونانية القديمة"، مفهوم مركب من كلمتي " إيديا "، بمعنى "فكرة" وكلمة " لوجوس " التي تعني "علوم التدريس"، الدارج بالعربية "علم المنطق". ووفقا للرؤية العالمية المعروفة بـ "نظرية الأفكار"، فان مفهوم الأيديولوجيا كمصطلح حديث في علوم السياسة المعاصرة كما يبدو، قد استقى تعريفات عديدة، ألا أنه، الشكل الأكثر تكاملا للأفكار والمعتقدات والاتجاهات السياسية الكامنة في أنماط سلوكية معينة، بالإشارة إلى "الوعي الساذج" للمجتمع. ومن ناحية أخرى، يشير علم الاجتماع إلى أن التعريف الدارج في الولايات المتحدة، يطلق على كل نظام معايير أيديولوجية تستخدمها مجموعات أصحاب القرار لتبرير وتقييم أفعالهم وأفعال الآخرين على النحو الذي يتطابق مع أفكارهم. ألا إن هذه الأيديولوجيا، تعكس: الأفكار ووجهات النظر العالمية التي لا تستند إلى أدلة وحجج جيدة، إنما تجسد العنف للهيمنة على الحكم.. إذن الأيديولوجية، لها مجموعة غير ثابتة من المفاهيم والمعاني، بعضها حصرية، يمكن للمرء أن يصفها على أنها نص منسوج من مفاهيم مختلفة، ومختلفة بخطوط تقليدية متباينة، طالما يتم ضخها بقوة في مفهوم نظري.

أدى تباين تلك الأفكار والعقائد والثقافات السياسية، بشكل أساسي، من خلال انعدام حرية التعبير واستقلالية المعتقد أو عدم التجانس الديني والعرقي، كما هو الحال في العراق، إلى العنف الأيديولوجي، وبالتالي إفراغ الفكر السياسي من محتواه المجتمعي باتجاه التوجيه نحو الصراع بين "اليسار واليمين" بين "علماني" و"أصولي"، اللذان أديا إلى محدودية أسس السيادة ومفهوم الدولة الوطنية وصيانة مصالح الدولة والمجتمع.

السؤال إذن، ما هو شأن خطاب الأيديولوجيا فيما يتعلق الأمر بمفهوم الدولة؟ ومركزيتها؟. في بلد كالعراق مثلا، تفتقر، أي "الأيديولوجيا الشعبوية" إلى الواقع العملي والقيمي لمعنى الحياة الاجتماعية وعلامات ظواهرها من الناحية السوسيولوجية والانسانية والفلسفية، ايضا إلى العديد من الأفكار ذات الدوافع الوطنية. وتقف حائلا أمام صعود قوى أو طبقات اجتماعية مستنيرة معينة، تستطيع من ناحية العقيدة الإدارية ـ السياسية، الفرز بين مسألتي السلطة وطبيعة نظام الحكم مؤسساتيا، لا وفق عقيدة ايديولوجية تعرض مصالح الدولة للخطر. الأمر الذي يعرض المجتمع إلى الجمود واللاأبالية إزاء ما يحدث على المستوى الوطني والمؤسساتي. وبالوسط الذي يحتكر السلطة وفق مبدأ "عقائدي"، ممارسة اختبار الأفراد وتحويل علاقاتهم به إلى واقع طبيعي يتصرف فيه الأشخاص وفقا لارادته بوسائل هي أقرب إلى ما يعرف بـ "الأمر الواقع" يتميّز بطابع توجيهي لا طوعي، داخل أو مع الدولة.

شهد علماء اللاهوت في العصور القديمة استخدام الدين من قبل السياسة لأغراض خاصة. في ذلك الوقت كان لها أشكال مختلفة: التغيرات اللاهوتية للقوى والظواهر الأكثر علمانية، "تعبير". التأليه الذاتي، الاثني - اثني، "رموز"، دنيوية مقلوبة ومتشابكة. وبدلا من جعل اللاهوت "الدين"، قابلا للاستخدام من قبل السياسة، أصبحت عملية الدين سياسية.

في هذا الشق فيما يتعلق بمسألة الحكم في العراق على مدى ستين عاما، منذ انقلاب البعث 1963 مرورا فيما بعد الاحتلال عام 2003، بكل تفاصيله كـ "تجربة" سياسية متأثرة بالعنصر الطائفي ـ الديني العرقي وفقا للظواهر والدراسات، باختصار: فإن ناتج المقارنة بين "الأيديولوجية والدين"، قولا واحدا مخيبا. إذ افرز تصنيفات على غير الشكل التقليدي من عدم الرضا تجاه سلوك الأحزاب الطائفية والإسلام السياسي التي أساءت استخدام السلطة وفي الغالب تمادت في اضطهاد الآخرين والتجاوز على الحياة المدنية والقانون. بيد أن طبقة أولياء الدين "الفقهاء" لم تتردد من دعم سلطة الإسلام السياسي "شيعي سني" على الرغم من مآثرها العقيمة، اسوأها: التفريط بأمن الدولة وسيادتها وانتهاك دول إسلامية جارة مثل تركيا وإيران والكويت حرمة العراق مما تسبب سقوط العديد من الضحايا الأبرياء بالإضافة إلى نهب موارده واحتلال اراضيه ومياهه وحدوث دمار بيئي واسع. يدلل ذلك، من وجهة نظر سياسية لا أيديولوجية، بأن الدين السياسي ومفهوم الديمقراطية على أساس الدولة الدستورية، أمران متعارضان بالشكل والمضمون.

مع هاجس كل هذه التحديات الخطيرة وتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية وتسويف أحزاب السلطة ومحاولاتها تجيير الدستور لصالحها. فإن واحدة من أهم الموضوعات التي تخيف الكتل السياسية الماسكة بسلطة الدولة العميقة مسألة تحقيق الانتخابات بالشروط التي يطالب بها المجتمع العراقي وحراكه الشعبي في أغلب المدن العراقية. ورغم تأكيد المرجعية الدينية لمطالب المتظاهرين، إلا أن الطبقة السياسية التي تتشدق بالتزامها بآراء المرجعية، لا تزال تتصرف بمنطق: "المصالح الشخصية والفئوية بالضد من رأي الشعب الجمعي كمصدر للسلطات الاعتبارية التي لا يجوز التفريط بها بأي حال من الأحوال". وعلى قدر أهمية القضايا التي يتطلع الشعب العراقي لها، هناك مسألتان لا بد من معالجتمها على كل المستويات للخروج من المسارات الفاشلة للدولة العميقة (تركيبة الأحزاب ومفهوم الانتخابات). الأمران في العراق من الناحية الواقعية، لم يقتربا مما هو متبع في الدولة المدنية للمجتمعات الديمقراطية.

لكن إذا ما استمرت التجاذبات السياسية في ظل الظروف المحيطة بالعراق. تمرد الميليشيات وتوجيه نيرانها على القواعد الأمريكية بسبب الحرب العدوانية الاسرائلية الأمريكية على غزة، بالاتجاه المعاكس لما هو منشود، فلن تعد الانتخابات، مطلبا حكيما، للذين يهمهم بالأساس، تبيان مصداقية مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتحقيق مطالب القوى المعارضة للنظام الطائفي وأهمها: تعديل الدستور وسن قانونا الانتخابات والأحزاب بأيادي أصحاب الاختصاص على أن يعرضا للاستفتاء الشعبي، أيضا إعادة تشكيل مفوضية انتخابات مستقلة. وإذا لم تتحقق هذه المطالب الأساسية أولا، فليس أمام القوى المدنية التي تسعى إلى التغيير، من الناحية المنطقية والموضوعية، إلا مقاطعة الانتخابات والذهاب إلى المؤسسات الدولية لقطع الطريق أمام الأحزاب الطائفية ووضعها أمام الأمر الواقع.

***

عصام الياسري

أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي أدوات قوية وفائقة السرعة للتواصل والتعبير عن الذات، وريادة الأعمال. من بين عدد لا يحصى من منشئي المحتوى، يبرز المؤثرون كأفراد يتمتعون بتأثير كبير على جماهيرهم ومتابعيهم. ومع ذلك، فإن الديناميكيات بين المؤثرين الأذكياء والمشاهدين السذج في بعض الأحيان تثير أسئلة مهمة حول الأخلاقيات والمسؤوليات، وحتى الجوانب المالية لهذه المهنة الناشئة.

في عصر الهيمنة الرقمية، يعمل ظهور المؤثرين الأذكياء على إعادة تشكيل مشهد استهلاك المحتوى عبر الإنترنت. على عكس المؤثرين التقليديين الذين يركزون فقط على الجماليات أو الكاريزما الخاصة بهم، يجمع المؤثرون الأذكياء بين شخصياتهم الجذابة والفكر والخبرة. إن هذا الجيل الجديد يستفيد من المؤثرين من المعرفة والأصالة للتواصل مع الجماهير على مستوى أعمق.

يغطي المؤثرون الأذكياء مجموعة واسعة من المواضيع، بدءًا من العلوم والتكنولوجيا وحتى التنمية الشخصية والقضايا الاجتماعية. محتواهم لا يتعلق فقط بالترفيه؛ بل قد تكون رحلة تعليمية تلقى صدى لدى المشاهدين الذين يبحثون عن مادة في بحر المعلومات الواسع عبر الإنترنت. إن هذا التحول يمثل خروجًا عن السطحية المرتبطة غالبًا بثقافة المؤثرين، مما يعزز جمهورًا أكثر استنارة وانتقادًا.

إن التأثير على المشاهدين عميق جدا. عندما يتعب الجمهور من المحتوى المثير للبحت، فإنهم يلجأون إلى المؤثرين الأذكياء للحصول على وجهات نظر ثاقبة ومناقشات هادفة. المشاهدون لا يستمتعون فقط؛ بل يتم تحفيزهم فكريًا، وتحديهم للتفكير، وتشجيعهم على المشاركة في النقاشات المهمة. يشير هذا التحول نحو استهلاك المحتوى الذكي إلى نضوج الجماهير عبر الإنترنت والطلب على الجوهر بدلاً من الأسلوب.

يؤدي صعود دور المؤثرين الأذكياء إلى تغيير مشهد المؤثرين عامة ، مما يوفر للمشاهدين خروجًا منعشًا عن المحتوى التقليدي. ويدل هذا التطور على تحول إيجابي نحو مجتمع إلكتروني أكثر استنارة وتمييزا، حيث يحتل الذكاء والأصالة مركز الصدارة في عالم التأثير.

في العصر الرقمي، غالبًا ما يلجأ منشئو المحتوى إلى أداة غوغل أدسنس كمصدر أساسي للدخل. في وإذا كانت هذه المنصة توفر طريقة مباشرة لتوليد الدخل، إلا أنها تأتي مع مجموعة من التحديات والاعتبارات الخاصة بها.

على الجانب الإيجابي، توفر أداة غوغل أدسنس طريقة بسيطة نسبيًا لأصحاب مواقع الويب والمدونين لكسب المال من خلال عرض الإعلانات المستهدفة على منصاتهم. يستخدم النظام الخوارزميات لتحليل المحتوى وتقديم الإعلانات ذات الصلة بالجمهور، مما يزيد من احتمالية النقرات والإيرادات. يتيح هذا التكامل السلس لمنشئي المحتوى التركيز على إنتاج محتوى عالي الجودة بينما يتولى أدسنس عملية تحقيق الدخل.

ومع ذلك، فإن سهولة تحقيق الدخل تشكل أيضًا بعض المخاطر. قد يجد منشئو المحتوى أنفسهم يؤيدون عن غير قصد منتجات أو خدمات لا تتوافق مع قيمهم أو علامتهم التجارية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة بين جمهورهم وتشويه سمعتهم.

علاوة على ذلك، فإن الاعتماد على غوغل أدسنس باعتباره المصدر الوحيد للإيرادات يمكن أن يجعل منشئي المحتوى عرضة للتقلبات في اتجاهات وسياسات الإعلان. يمكن أن تؤثر تغييرات الخوارزميات أو التحولات في سوق الإعلانات على الأرباح بشكل غير متوقع، مما يجعل من الضروري لمنشئي المحتوى تنويع مصادر دخلهم.

وعلى الرغم من أن غوغل أدسنس يقدم طريقة ملائمة لاستثمار المحتوى، إلا أنه يجب على منشئي المحتوى التعامل معه بحذر. يعد تحقيق التوازن بين توليد الإيرادات والحفاظ على الأصالة أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق النجاح على المدى الطويل في المشهد الديناميكي لتحقيق الدخل الرقمي.

لقد تحول التدوين إلى مهنة قابلة للحياة ومجزية للوقت ، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. نظرًا لأن وسائل الإعلام التقليدية تفسح المجال أمام المحتوى الفوري عبر الإنترنت، يجد الأفراد فرصًا مربحة من خلال مشاركة أفكارهم وخبراتهم عبر مختلف القنوات الاجتماعية.

توفر منصات الوسائط الاجتماعية مثل أنسغرام وX (تويتر سابقا) وتيك توك أرضًا خصبة للمدونين لتنمية جمهور مخصص ومعلوم. مع قيام الملايين من المستخدمين بالتمرير عبر الخلاصات يوميًا، يمكن للمدونين الاستفادة من هذه المنصات للوصول إلى مجموعات متنوعة وبناء علامة تجارية مذرة للربح. تلبي طبيعة أنستغرام المتمركزة حول العناصر المرئية احتياجات مدوني أسلوب الحياة والموضة، في حين أن تنسيق  X المختصر يناسب أولئك الذين لديهم ميل للتعليقات الذكية. لقد أدى تطبيق تيك توك، بمقاطع الفيديو القصيرة، إلى ظهور جيل جديد من منشئي المحتوى.

لقد حولت طرق تحقيق الدخل، مثل المحتوى المدعوم والتسويق التابع وعائدات الإعلانات، التدوين إلى مصدر مشروع للدخل. تدرك العلامات التجارية قوة المؤثرين في التواصل مع المستهلكين، مما يؤدي إلى شراكات مربحة مع المدونين الناجحين.

تعتبر مرونة هذه المهنة عامل جذب كبير. يمكن للمدونين إنشاء محتوى وفقًا لشروطهم، وتخصيصه وفقًا لاهتماماتهم وجدولهم الزمني. ومع استمرار سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على تفاعلاتنا الرقمية، فإن التدوين كمهنة لا يقدم مكافآت مالية فحسب، بل يقدم أيضًا منصة للتعبير الشخصي والتأثير في العالم الافتراضي.

لقد أصبح التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة مربحة للعديد من الأفراد، لكن آثاره المالية تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الإعجابات والمتابعين.

يحتاج المدونون إلى إدراك أن الدخل الناتج عن أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يخضع للضريبة. سواء كان ذلك من خلال شراكات العلامات التجارية، أو المحتوى المدعوم، أو التسويق بالعمولة، يجب الإبلاغ عن الأموال المكتسبة إلى السلطات الضريبية. قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى عقوبات وعواقب قانونية.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون المدونون مؤهلين للحصول على خصومات معينة. من المحتمل أن يتم خصم النفقات المتعلقة بالمعدات والبرمجيات والأنشطة الترويجية وحتى جزء من تكاليف المكاتب المنزلية لخفض إجمالي الدخل الخاضع للضريبة. من الأهمية بمكان أن يحتفظ المدونون بسجلات دقيقة لنفقاتهم لإثبات هذه الاستقطاعات.

يعد فهم التصنيف الضريبي جانبًا حيويًا آخر. يجب على المدونين تحديد ما إذا كانوا يعملون كمالكين ذاتيين أو شركات ذات مسؤولية محدودة  أو أي هيكل قانوني آخر. ولكل هيكل آثار ضريبية مختلفة، واختيار الهيكل المناسب يمكن أن يؤثر على الالتزام الضريبي الإجمالي.

إن التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يقدم مكافآت مالية، ولكن يجب على المدونين أن يتنقلوا في المشهد المعقد للآثار الضريبية. إن طلب المشورة المهنية والبقاء على اطلاع باللوائح الضريبية يضمن الامتثال ويزيد الكفاءة المالية إلى أقصى حد في هذا الفضاء الرقمي سريع التطور.

في الختام، إن عالم المؤثرين الأذكياء، والمتابعين السذج، والمدونين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو مشهد متعدد الأوجه له أبعاد أخلاقية ومالية وقانونية. لقد أدى ظهور المؤثرين إلى إعادة تشكيل الطريقة التي يستهلك بها الأفراد المعلومات ويتخذون قرارات الشراء. ومع ذلك، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق المؤثرين فحسب، بل تقع أيضًا على عاتق المشاهدين، الذين يجب عليهم إجراء تقييم نقدي للمحتوى الذي يتلقونه. علاوة على ذلك، مع استمرار تطور التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى مهنة مشروعة، يجب على المؤثرين التغلب على تعقيدات الضرائب لضمان مهنة مستدامة وقانونية. يعد تحقيق التوازن بين مصالح المؤثرين والمشاهدين والسلطات التنظيمية أمرًا ضروريًا لتعزيز نظام بيئي رقمي شفاف وأخلاقي.

***

عبده حقي

 

القطاع الأكاديمى فى أوروبا شديد التعلق بلغة يعرف أنها ماتت واندثرت، لكنه حريص على إعادة إحيائها، وهى اللغة اللاتينية.. تلك التى انبثقت منها كافة اللغات الحديثة كالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والأسبانية.. هذا نوع من التشبث بالجذور والوفاء للأصول وإعادة إحياء للتاريخ..

وعندما استقر اليهود فى أرض فلسطين المحتلة بحثوا عن لغة مشتركة يتحدث بها كافة اليهود المهاجرين من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين، فكان حرصهم الأكبر هو إعادة إحياء اللغة العبرية التى كادت تندثر لولا الجامعة التى بنوها كأول ما بنوا لتعليم وتعميم اللغة العبرية..

لقد انشطرت اللغات واللهجات وتعددت حتى وصل عددها اليوم إلى نحو سبعة آلاف لغة، بعضها قديم باقى وبعضها جديد.. والذى يحدث فى الحقيقة هو التطور المستمر للغات العالم والتحديث يتم فى صورة لهجات تتجدد وألفاظ تتحور خاصةً فيما يتداوله العامة من كلام يختلف شكلاً ومضموناً عن اللغة الأم الفصيحة.. يحدث هذا فى اللغة العربية والإنجليزية وكل اللغات.. فلماذا تندثر لغات بعينها؟ وكيف بقيت اللغات القديمة آلاف السنين؟ وهل نحن فى حاجة لإحياء لغات ماتت؟

المسموع يفنى.. والمكتوب يبقى

التاريخ يذكر أن الكتابة المسمارية هى أقدم اللغات المسجلة فى العالم، رغم أن لغات عديدة سبقتها منذ آدم عليه السلام.. ما يعنى أن التدوين هو الأساس لبقاء اللغة وحياتها وتطورها.. يحدث هذا حتى فى النصوص المقدسة والمخطوطات الدينية.. ففى حين توجد بعض نصوص اللغة السنسكريتية التى كتبت بها الفيدا فى العقائد الهندوسية.. فإن نصوصاً أخرى ذهبت واندثرت، مثل صحف إبراهيم وزبور داود..

على الناحية الأخرى نجد كتاباً كالإنجيل موجود فى أقدم مخطوطاته "المخطوطة السيناوية" مكتوباً باللغة اليونانية رغم أن المسيح عيسي عليه السلام تحدث شفاهةً باللغة الآرامية! فالمسموع يختلف عن المكتوب.. وفى حين بقى المكتوب، بات المسموع رهناً بمن يسجله!

إن أفضل ما فعله قدماء المصريين أنهم سجلوا تاريخهم كله باللغة المكتوبة، ولعلهم الأقوى فى هذا المضمار.. والبرديات المصرية وما تم تسجيله علىى جدران المعابد والمسلات كان كافياً لنعرف تاريخاً سجلناه اليوم فى مئات وآلاف المجلدات فيما يُعرف بعلم المصريات.. هكذا أعيد إحياء اللغة الهيروغليفية المكتوبة رغم موتها منذ آلاف السنين! بل إن بعض المحاولات أجريت لتحويل الهيروغليفية إلى لغة مقروءة ومسموعة بنفس الطريقة التى نطق بها أجدادنا المصريين!

أميرة اللغات

الإحصائيات العالمية تهتم بذكر أقدم اللغات وأوسعها انتشاراً اليوم.. وفيما جاءت اللغتان العربية والصينية فى القائمتين معاً.. فدعونا نبحث عن مزايا أخرى يجب أن تؤخذ فى عين الاعتبار..

إن من بين السبعة آلاف لغة المنطوقة على لسان 8 مليار إنسان، ثمة 40% منها مهددة بالانقراض والتحول إلى تراث شفاهى مندثر، لدرجة أن بعض تلك اللغات لا يتحدث بها إلا ألف شخص فقط!

اللغات الأكثر تداولاً بين الناس لا يزيد عددها عن 23 لغة.. لكنها أثبتت جدارتها واستمراريتها لا لأنها قديمة أو مكتوبة أو سهلة النطق، لكن لأسباب أخرى أشد عمقاً.. مثل أن تكون مرنة قابلة للتطور ومواكبة للعصر بشكل دائم، وأن تظل لغة مطلوبة جغرافياً ودراسياً وواقعياً .. وأن تظل الأجيال التالية حريصة على تعلمها والتقيد بها..

هناك لغات واسعة الانتشار اليوم لكن نطاقها الجغرافى يتقلص، والناطقون بها يقلون.. إما لأنها أصعب فى النطق أو التعلم، أو أنها لغة لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر ، أو أن لغات أخرى كالإنجليزية حلت محلها بسبب أهميتها العالمية فى الحياة العملية والعلمية معاً ..

وإذا عدنا لعصر الجاهلية وما حظيت به اللغة العربية من اهتمام العرب، وباتت الأشعار تقال فى معارض وأسواق جامعة لأهل الجزيرة العربية كافة.. فإننا سنكتشف أن كل ما قالوه من أشعار وقصائد كان مهدداً بالاندثار لولا مجئ النبي محمد عليه الصلاة والسلام ونزول القرآن.. والتطور المذهل والسريع والشامل الذى لحق بتلك اللغة البارعة يعود مرجعه إلى القرآن الكريم.. فمن خلال أسراره وآياته ولغته المعجزة خرجت علوم بأكملها كالبلاغة والنحو والصرف والاشتقاق، وبسبب سهولة حفظه ونطقه واحتوائه على سر ربانى مكنون بات الملايين يحفظونه عن ظهر قلب وإن لم يجيدوا اللغة العربية ذاتها!

اللغة العربية لغة متكاملة عريقة قابلة للتطور باستمرار، تنصهر فيها كافة اللغات بسهولة ويسر، ويسهل على الجميع تعلم أساسياتها بسرعة.. وهى فوق هذا متنوعة فى مخارجها اللفظية حتى سموها لغة الضاد؛ إذ يوجد بحروفها كافة الحروف المنطوقة فى كل لغات العالم وأكثر.. وهناك عشرات اللهجات الحديثة المنبثقة من رحمها، ومازالت العامية العربية تتطور باستمرار دون أن يشكل هذا خطراً على اللغة الأصلية الفصيحة التى بقيت منطوقة ومكتوبة ومحفوظة فى ملايين القواميس والمصادر والمراجع فى كل أنحاء العالم.. وإذا بحثت عن لغة تحوى كافة المزايا التى تجعلها تتربع على عرش لغات العالم فإن من الإنصاف أن تكون العربية هى تلك اللغة.

اللغة كمصدر للثروة والقوة

من بين صحابة الرسول الكريم، جاء زيد بن ثابت كأحد أهم الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الإسلام.. ومن بين أسباب ذلك أنه كان مترجماً للرسول فى دعوته لكل من حوله من بلدان تتحدث لغات مختلفة كالعبرية والسريانية والرومانية وغيرها.. معنى هذا أن تعلم اللغات موهبة يمتاز بها البعض عن الآخرين.. وكان زيد بن ثابت يتعلم اللغة ويجيدها كأهلها فى زمن لا يزيد عن أسبوعين فحسب!!

وفى مقاطع اليوتيوب المنتشرة مقطع لشاب قيل إنه يجيد التحدث بما يزيد عن عشرين لغة! وهذا أمر متاح الآن أكثر من أى وقت مضى.. وثمة مهن ووظائف عالية الأجور تعتمد على إجادة الشخص لعدد من اللغات نطقاً وكتابة.. هكذا أصبح تعلم اللغات أمراً أساسياً لا غنى عنه فى أغلب مناهج العالم.. لكن هناك سر آخر من أسرار اللغة يجعلها مصدراً للقوة والهيمنة..

هذا السر نكتشفه من آخر إحصائيات ذكرت سرعة انتشار تدريس اللغة الصينية خارج الصين، فيما بدأ تدريس اللغة الفرنسية والألمانية يقل بشكل ملفت لأسباب أكثرها سياسي.. ولعل النبأ الذى يقول إن الجزائر قد منعت تدريس اللغة الفرنسية فى مدارسها يعطينا تصوراً عن تأثير السياسة العالمية على انتشار أو اندثار أو تقلص دور إحدى اللغات الرسمية العالمية.. هذا معناه أن اللغة ذاتها قد تُستغل كمصدر للقوة أو تُستخدم لجلب المال والثروة .

اللغات الموازية

ينفى الباحثون أن تكون ثمة لغة أصلية قديمة جامعة.. ويقولون إن تعدد اللغات أمر موجود منذ البداية، كما وجد الإنسان الأصفر والأسود والأبيض والقوقازى مختلفين منذ نشأتهم الأولى! وإذا كان التطور المستمر للغات لضرورة التفاهم بين البشر انقسمت وتكاثرت حتى بلغت سبعة آلاف لغة.. فقد نشأت لغات أخرى للتفاهم النوعى الخاص بين فئات بعينها.. إنها اللغات الكودية أو الرمزية أو المطلسمة..

مثلاً عالم السحر يعج بألفاظ ورموز لا يفهمها إلا مقتحموه.. وعالم المخابرات يعتمد فى أساسه على لغة التشفير والأكواد غير القابلة للحل والفك.. وأهم لغة باتت مطلوبة عملياً اليوم هى لغة الكمبيوتر فيما يسمى بلغات البرمجة.. تلك أنواع من اللغات الموازية المستخدمة فى أوساط خاصة، لكنها تحظى بنفس الاهتمام وبنفس القدرة على التحور والتطور من أجل مزيد من الاستفادة العامة..

إن اللغة فى حقيقتها ليست إلا جسر للعبور بين العقول والأفكار المختلفة، ولاشك أن حركات الترجمة عبر التاريخ أسهمت فى تطور البشرية.. وقد قيل فى الحكمة القديمة إن من عرف لغة قومٍ أمن شرهم.. وإذا كان ثمة رسالة أخيرة لهذا المقال فهى أن نفتخر أيما فخر باللغة العربية، وأن نحرص أيما حرص على تعلم كل ما نستطيعه من لغات العالم الرسمية أو الموازية..

***

د. عبد السلام فاروق

قال (ذو القروح) وهو يحاول الخروج من عباءة جدليَّاته المعتادة حول المرأة والنِّسويَّة:

ـ هل تعلم أنَّه قد زُعِم في تراثنا أنَّ لـ(أبي الوفاء علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل الحنبلي، 431- 513هـ= 1119- 1040م)، كتابًا بعنوان "الفنون"، جاء في 800 مجلد، وقيل إنَّه أكبر كتاب في الدنيا! غير أنَّ ما بقي منه وطُبع في العصر الحديث هو في نحو 800 صفحة فقط! ويبدو ذلك المطبوع هو الكتاب كاملًا، وإنْ زُعِم أنَّ بقيته إنَّما ضاعت.

ـ بل هو أكبر مؤلَّفٍ فرديٍّ في التاريخ، إنْ صحَّ ما وردَ عنه! كيف تفسِّر ذلك؟

ـ بداية لا بدَّ من إدراك مفهوم (مجلَّد) في التُّراث، أو (مجلَّدة). فهو مِثل مصطلح (كتاب)، الذي قد يشير قديمًا إلى رسالةٍ شخصيَّة، أو كُتيِّبٍ صغير، أو مؤلَّفٍ كبير. غير أنَّ مُقدِّسي السَّلَف تعجبهم مثل هذه المبالغات. وإلَّا فإنْ صحَّت الرواية، فهي إنَّما تعني 800 صحيفة. ولو أعمل هؤلاء عقولهم، لأدركوا أنَّ تأليف 800 مجلَّد، بما تعنيه كلمة مجلَّد من معنى في الأذهان اليوم، حديث خرافة، حتى لو أنَّ المؤلِّف إنَّما كان ينسخ تلك المجلَّدات نسخًا، ولا يؤلِّفها تأليفًا. لأنَّ ذلك بمنطقٍ حسابيٍّ يعني أنَّه كان يُنجِز سنويًّا تأليف أكثر من تسعة مجلَّدات، وأنَّه قد بدأ هذا منذ ولادته! أي إنَّه يؤلِّف في كلِّ شهرٍ من حياته مجلَّدًا تقريبًا، خلال عمره، 82 سنة، من 431- 513هـ. ولكَم في تراثنا من أحاديث خرافة، يا أُمَّ عمرو؟!

ـ أُمُّ عمرو غير موجودة! ولكن ما الجديد؟

ـ لا جديد سِوَى تقديس السَّلَف.

ـ كيف؟

ـ سأضرب لك مثلًا تاريخيًّا وعالميًّا مشهورًا.

ـ اضرب، يا عمِّي، ولا يهمك!

ـ الزَّعم بألوهيَّة البَشَر.

ـ أ إلى هذا الحدِّ يمكن أن يصل عقل الإنسان؟!

ـ أجل، فيتفوَّق على الحيوان في خبَله! وإذا طرحنا هذا السؤال حول أشهر إنسان مؤلَّه في التاريخ، وهو السيِّد المسيح، لزم أن نسأل: آليهود هم من اصطنعوا ألوهيَّته، ليُفسدوا دِيانة النَّصارى بأفكارٍ وثنيَّةٍ وخزعبلاتٍ أُسطوريَّةٍ تُناقض العقل والدِّين معًا؟

ـ أ وليست بداية هذا التصوُّر عن المسيح ومنطلَق العقيدة العجيبة فيه من قِبَل (بولس الرسول)؟

ـ بلى. ولكن مَن بولس هذا؟ لقد كان يهوديًّا، يضطهد المسيحيِّين ويلاحقهم. وربما كانوا يُسمُّونه (شاوُل)، ثمَّ، وبقدرة قادر، تاب الله عليه، فتحوَّل إلى مبشِّرٍ بـ(يسوع)، وذلك في عام 43م، بعد رؤيةٍ مناميَّةٍ رآها! وهو مؤسِّس عقيدة أنَّ "المسيح ابن الله"!

ـ وما زالت الرُّؤى والمنامات تُشكِّل بعض العقول والأحداث!

ـ أجل! ولقد وجدتُ (جلال الدِّين الرومي) يشير إلى ما يشبه هذه الفكرة، من خلال أُقصوصةٍ تحت عنوان "حكاية الملك الذي كان يقتل النصارى بسبب تعصُّبه". حيث جعل يُصوِّر كيف أنَّ وزير الملك استطاع إقناعه بأن يمكر بالنصارى؛ لتحريف دِينهم، من خلال هذا الوزير، بأن يلعب بينهم دورًا يُشبِه دور المسيح الدجَّال، وكأنه (بولس الرسول).(1) وتلك أُقصوصة اعتباريَّة تتكرَّر مع الأديان، والعقائد، أو الجماعات التي تربطها روابط أرضيَّة أو غيبيَّة.

ـ كلُّ مصائب البشريَّة ظلَّ يعزوها النموذج النمطي في التحليل والاستدلال إلى اليهود.

ـ لا تنس هنا أن مثل تلك المحاولة "البولسيَّة" قد وقع كذلك في الإسلام، في ما نُسِب إلى (عبدالله بن سبأ)، من ادعائه ألوهيَّة (عليِّ بن أبي طالب)، كما تروي الحكايات التاريخيَّة المشتهرة؟

ـ مهما يكن، وبغضِّ النظر عمَّا يُنسَب إلى (بولس) و(عبدالله بن سبأ)، فإنَّ تأليه الإنسان يبدو نزوعًا وثنيًّا قديمًا.

ـ هذا صحيح. وقد ظهر قبل هذا وذاك في وادي الملوك بـ(مِصْر)، أُمِّ الدُّنيا وأُمِّ الأديان القديمة.

ـ ونحن نعرف في هذا السياق أيضًا قِصَّة الإلٰهة (إيزيس) العذراء الأُسطوريَّة التي تلد (حورس)، بلا زوج، فيصبح إلٰـهًا، في اعتقاد المِصْريِّين القُدماء.

ـ وعلى ذِكر الفراعنة، ما زلنا نقرأ الآيتَين القرآنيَّتَين: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ،‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ؛ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"‏(2)، ونقرأ الآية الأخرى: "وقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا أَيُّهَا المَلَأُ، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَل لِـي صَرْحًا؛ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ"(3)، ولا نُدرِك المعنى.

ـ ماذا تقصد؟

ـ كيف سيبني (هامان) صرحًا لفرعون؟

ـ ثمَّ كيف سيبلغ ذلك الصرح درجة اطِّلاع فرعون إلى إلٰه (موسى)، مهما بلغ ارتفاع الصرح في السماء؟!

ـ التصوُّر السائد تصوُّرٌ طفولي، وكأنَّ فرعون إنسانٌ أحمق حين يطلب مثل ذلك الطلب! وأنت حين تعود إلى كُتب التفسير، لا تجد تفسيرًا معقولًا. ولقد ساق (الطبري)(4) تفسيرًا ينبني على ظاهر الآيات من جهة، وعلى بعض المرويَّات الإسرائيليَّة- كالعادة- من جهةٍ أخرى(5)، فتُظهِر فرعون في صورةٍ فكاهيَّةٍ لحاكمٍ معتوهٍ بالفعل. قال: "فذُكِر لنا أنَّ هامان بنَى له الصَّرح، فارتقَى فوقه... فأمرَ بِنُشَّابةٍ فرمَى بها نحو السماء، فرُدَّت إليه وهي مُتلطِّخةٌ دمًا، فقال: قد قتلتُ إلٰه موسى، تعالى الله عمَّا يقولون!" وهو ينقل هذه الأُقصوصة الفكاهيَّة لتفسير الآيات القرآنيَّة مطمئنًّا إليها، عن بعض يهود! وقد ظلَّ هذا التصوُّر الساذج، حتى جاء بعض علماء المِصْريَّات المعاصرين ليتوصَّلوا إلى أنَّ الأهرامات لم تكن مدافن موتَى أساسًا، وإنْ استُعمِلت لذلك أحيانًا، بل كانت بمثابة مراصد فلكيَّة.(6) ومن هنا قد نستطيع الآن فهم الآيات فهمًا جديدًا. فلعلَّ هذا ما كانت تشير إليه في طلب فرعون من هامان؛ إذ أراد أن يستكشف الكون، بحثًا عن علامات حِسيَّة على الإلٰه المزعوم من (موسى).

ـ ماذا عن غير المِصريِّين؟

 ـ ظهر تأليه الإنسان لدى غير المِصريِّين في مختلف أصقاع الأرض تقريبًا. ومن هذا تلك الأساطير الهنديَّة المتعلِّقة بالإلٰه (كريشنا).(7) على أنَّ هجرات الأديان في العالم، وتناسلاتها، ودوَّامات تشكُّلاتها، بلا حدود. وما أكثر ما تتشابه، أو يقتبس بعضها من بعض!

ـ غير أنَّه- وَفق معايير البحث المقارن- يغدو من التسرُّع غير العِلمي القطع بأصلٍ، ما لم تقم قرائن تاريخيَّة بينه وبين ما يُظَنُّ من تفرُّعاته، حسب المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الدرس المقارن.

ـ وإذا كانت القرائن التاريخيَّة شرطًا منهاجيًّا في مقارنات الآداب، على سبيل المثال- التي لا تعدو تجارب فرديَّة أو اجتماعيَّة أو قوميَّة محدودة، تظلُّ لها شخصيَّاتها المستقلَّة نِسبيًّا، ومكوِّناتها العائدة إلى تجارب زمكانية محدَّدة- فإنَّ ذلك آكَدُ في مجال مقارنة الأديان. هذا إنْ أجدَى نفعًا مثل ذلك الشرط المنهاجي في الخروج من تلك المتاهة الأزليَّة بنتائج شِبه عِلميَّة يمكن الركون إليها؛ وذلك للطبيعة الزئبقيَّة الموَّارة للموضوع، فضلًا عن غياب الوثائق المادِّيَّة، التي تستحق هذا الاسم.

***

.................................

(1) انظر: الرومي، جلال الدِّين، (1966)، كتاب المثنوي، تحقيق: محمَّد عبد السلام كفافي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 103- 111.

(2) سُورة غافر: الآيتان 36- 37.

(3) سُورة القصص: الآية 38.

(4) (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 256.

(5) ولقد غرسَ اليهودُ في العَرَب عُقدة النقص هذه منذ الجاهليَّة؛ بوصفهم إيَّاهم بأنَّهم أُمِّيُّون، وليسوا بأهل كتاب. ويبدو أنها بقيت هذه العُقدة بعد الإسلام، وبعد مجيء الكتاب المهيمن؛ إذ ظلَّ المسلمون ينظرون إلى اليهود نظرة إجلال؛ لتوهُّم عِلْمهم الكِتابيِّ القديم، الذي لا سبيل إليه إلَّا عن سبيلهم. بل لعلَّ تلك العُقدة قد تفاقمت بعد الإسلام لأسباب دِينيَّة أخرى. ولهذا لا غرابة أن يتكئ المؤرِّخون على الإسرائيليَّات، بل يتكئ المفسِّرون عليها لتفسير "القرآن"، وكثيرًا ما كان المؤرِّخ مفسِّرًا والمفسِّر مؤرِّخًا؛ لأن البضاعة الإسرائيليَّة تصلح لديه لهذا وذاك. ومن هنا، مثلًا، كان المرجع العُمدة لدَى ("الإمام" أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري)، في كثيرٍ ممَّا يرويه عن الغيبيَّات وبدء الخلق: (عبدالله بن سلام)، و(كعب الأحبار)، و(وهب بن منبِّه)، وأضرابهم؛ فهم، بحسب نعته إيَّاهم: "السَّلَف من أهل العِلْم"!

(6) يُنظر، مثلًا: صحيفة "الوطن" المِصْريَّة، الأحد 17 نوفمبر 2019:

https://www.elwatannews.com/news/details/4424356

(7) لمزيد تفصيلٍ يمكن للقارئ العودة إلى كتاب:

Doane, Thomas, (1882), Bible Myths and their Parallels in other Religions, (New York: The Commonwealth Company).

 وكذا كتاب: (التَّـنِّير البيروتي، محمَّد الطاهر بن عبد الوهاب بن سليم (-1352هـ= 1933م)، (1989)، العقائد الوثنيَّة في الدِّيانة النصرانيَّة، تحقيق ودراسة: محمَّد عبدالله الشرقاوي، (القاهرة: دار الصحوة). أمَّا الآلهة في "العهد القديم"، فحدِّث ولا حرج! (انظر: فريزر، جيمس، (1972)، الفولكلور في العهد القديم، ترجمة: نبيلة إبراهيم، مراجعة: حسن ظاظا، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب).

 

بحدود اطلاعي ومعرفتي المتواضعة، فإنَّ قراءة تحليليَّة لفكر علي الوردي، ومراجعة نقديَّة جادة لطروحاته، لم تتم حتى الآن، فالرجل دخل نادي المقدسات عند الكثير من القرَّاء والباحثين والطلبة الذين باتوا يرددون بعضَ مقولاته الاجتماعيَّة كما لو كانت نصوصاً مقدسة. والحقيقة أنَّ الرجل مثله مثل أي عالمٍ كبيرٍ متواضع، لم يكن ينظرُ إلى نفسه هكذا طيلة حياته، بل أنَّه كان كثيراً ما يعترف بالخطأ في بعض الاستنتاجات، ويعلنُ بشجاعة العلماء التراجعَ عنها.2036 مفارقات وأضداد

وبعد أكثر من نصف قرنٍ من تفتح عينيه وهو فتى بعمر 15 عاماً، على الجزء الأول من كتاب الوردي" لمحات اجتماعيَّة في تاريخ العراق الحديث"، يعود عبد الجبار الرفاعي لقراءة كاتبه المفضل الذي انجذب مبكراً إلى عقله النقدي، وطريقة تفكيره، وواقعيته، "واهتمامُه بالمهمَّش والمهمَل واليومي في المجتمع"، قراءة جديدة فاحصة ناقدة في الفصل الأول من كتابه الجديد: "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث". وكذلك كان الأمر مع علي شريعتي الذي اطلع على آثاره الصادرة بالفارسيَّة قبل أكثر من ثلاثين عاماً في كتابه الأسبق: "الدين والظمأ الأنطولوجي". بل أنَّ الرفاعي يعقد مقارنة بين الاثنين، موضحاً البونَ الشاسعَ بين الرجلين، بينما يتوهم الكثيرون، أنَّ الوردي قد سار على خطى شريعتي في بعض طروحاته الدينيَّة والسوسيولوجيَّة، وأنَّه قد أخذ منه بعض الآراء وتأثر بها. لكنَّ قراءة الرفاعي الجديدة لكلا المُفَكِرَين تبين بوضوحٍ تامٍ الفرقَ بينهما، ففي حين كان الوردي مثقفاً نقدياً خرج من المجتمع والأيديولوجيات السياسيَّة، فإنَّ شريعتي كان مثقفاً أيديولوجياً، فأعمال الوردي تسودُها "عقلانيَّة نقديَّة لا تخلو من انطباعات ذاتيَّة، وما يسود أعمالَ شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة".

"المثقَف النقدي غير المثقّف الأيديولوجي" وبذلك يضع الرفاعي كلاً من الوردي وشريعتي في ميزانه الفاحص، وهو لا يرغب بأنْ يقسو كثيراً على أول من قرأ له بدهشة القراءة الأولى، والإطلالة الأولى على عالم المدينة في الشطرة التي عاش فيها ثلاث سنوات طالباً، وفيها اكتشف عالم علي الوردي، لكنَّه يشيرُ إلى افتقار الوردي إلى تكوين في الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والتصوف، وغيرها من علوم الدين التراثيَّة، يماثل خبرته الواسعة "بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفولكلوره، وتاريخه في القرنين الأخيرين"، لذلك فإنَّ بحثه في شخصيَّة الفرد والمجتمع العراقي "لم يتوغل في الحَفر ليصل إلى البنى الدينيَّة والأنساق الاعتقاديَّة المترسخة في اللاوعي الجمعي".

وإذا كان شريعتي "مثقفاً رسولياً، كرّس جهوده لترحيل الدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا"، فإنَّ علي الوردي كان يمثل بذرة "المثقّف الديني النقدي"، وكان أول مثقفٍ ديني عراقي تُجهض ولادته.

لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله. هكذا يقرر الرفاعي في دراسته المقارنة المثيرة بين الوردي وعلي شريعتي.

***  

د. طه جزّاع - أستاذ فلسفة بجامعة بغداد

 

التاريخانية في مشروع الدكتور عبد الله العروي

عندما يطل الدكتور عبد الله العروي على القارئ تتولد لديه على التو فكرة الدقة في اختيار التوقيت الزمني وحساسية المرحلة ارتباطا بحاجة الواقع المغربي والعربي إلى تحليلات من طينة تحليلاته الحكيمة والرصينة. إنه من رواد المفكرين في مجال النهضة العربية. لقد شخص بكل تفصيل عوائق تسريع النماء الثقافي والمادي في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. لقد ركز بما فيه الكفاية على واقع الطبقة العربية السياسية والثقافية، وخصص لذلك حيزا كبيرا في كتاباته وتحليلاتها الرصينة. انصب اهتمامه أكثر على النخبة إبان الاستعمار وخلال الاستقلال ليضع آلة المكبر الإلكتروني الفاضح على مرحلة انتقالية فرضتها إخفاقات الماضي وانحرافات الحاضر.

العروي يعد من كبار رواد التاريخانية. تحدث عنها بإسهاب هادفا أن ينير عقول المتتبعين لفهم معنى التاريخ. لقد أضاف لهذا الأخير الفلسفة لفهم الدلالات والرموز واستنباط العبر النافعة للحاضر والمستقبل، معتبرا توجهه التوليفة المناسبة لفهم الفكر التاريخي. وبذلك، فهو يخالف التوجه الفكري الذي ينطلق من الفلسفة ويطعمها بالتاريخ. أبدع في تقنيات البحث التاريخي بدون الاقتصار على كونه كتابة فقط، بل توسع في برهنة كونه رواية أو قصة واقعية يراد استنباط العبر والحقيقة منها، وبالتالي تحويله إلى مدرسة سياسية تعتمد الكتابة الفنية وصناعة مبنية على المادة التاريخية كالوثائق المكتوبة والمخلفات الأثرية والمادية، والمصورات، والفنون، والنقوش على الجدار ...إلخ.

التاريخ بالنسبة للعروي علم يعتمد البحث المختبري، ويصبوا لإنتاج الفكرة الصائبة الحقيقية عن التطوير التاريخي، وبالتالي إنتاج المنفعة منها باعتمادها في كل التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. مادته هي الرواية التاريخية التي تستدعي التمحيص والنقد العلمي من أجل تشريح علاقة الإنسان بالطبيعة وما نتج عنها من آثار في معيشته وحضارته، منبها أن ما يميز التطور التاريخي هو كونه مفهوما بعديا وليس قبليا. المراد من الدراسة التاريخية هو البحث في تطوير البنية المؤسساتية والسياسية والاقتصادية والمالية لمجتمع معين مع وضع المصلحة الراهنة للفرد والجماعة كأولوية الأولويات. المصلحة نقاش في زمانها ومخاطر الانفتاح عن المجهول تأتي في مرحلة تالية. في هذا السياق، تجربة الليبرالية حافلة بالدروس. انتصرت في مطلع التسعينات وتم إعلان بداية نظام عالمي جديد، وحققت المنافع والمصالح للأفراد والجماعات غربيا، ووصلت إلى مرحلة الإشباع، وانفتحت عن المجهول في سياق دولي تبحث قواه عن آفاق جديدة وتوازنات مرحلية (ما قبل الحداثة- الحداثة- ما بعد الحداثة والانفتاح عن المجهول).

إن النظرية التي يعتمدها عبد الله العروي في تحديد مفهوم التاريخ ما هي إلا تفسيرا تاليا لما آلت إليه التجارب التاريخية. إنه توجه فكري يعتمد نظرة معرفية عميقة عن المجتمع والدولة والحرية والعقل والإيديولوجيا. إنه يربط التاريخ بفهم النتائج المتولدة عن تحليل المادة التاريخية. التاريخانية، بتركيزها على السياسات الفعلية ومنطق ممارسة السلطة، لها نظرة شمولية وتحليلية تضع المنفعة أو المصلحة الآنية للإنسان في أعلى المراتب. إنها الفهم الكلي التفصيلي للحقائق التاريخية الذي يخدم الحاضر ويتكهن بمؤشرات علمية الآفاق المستقبلية. المتخصص في الحفريات مثلا له نظرة خاصة عن التاريخ. إنه ينظر له نظرة اثنوغرافية انتروبولوجية لا علاقة لها بالسياسة الفعلية. نفس الأمر ينطبق على المتخصص في مادة اللاوعي الذي له نظرة معينة للأزمنة التاريخية، بحيث يهتم بالخيال العربي، وحلم الفرد العربي، وتاريخ الفن والطرب.

***

الحسين بوخرطة

القراءة للدكتور عبد الجبار الرفاعي فيها من الغنى والرحابة الكثير. ميزة كل كتاباته تكمن في اقتران العقلانية النقدية مع حضور الوجدان الإنساني العميق. أنت دائماً ما تخرج بعد أن تقرأ له متصالحاً مع ذاتك، متحرراً من الانفعال بوصفه غريزة انحطاط، ومتبصّراً بحكمة ورويّة للواقع حولك. الواقع الذي يشكّلك بمقدار ونوعية تفاعلك معه.كيف نتفاعل مع هذا الواقع لنطوّر ذاتنا ونحسنها ضمنه، ولنطوّره بالتالي معنا. هذا الجهد الذي لا يتوانى الدكتور عبد الجبار عن الاشتغال به هو سعيٌ في سبيل العمران. فرقٌ بين ناقد يفكّك ليهدم وناقد يبني ويعمّر ويرمّم ويجمّل. فرقٌ بين فكرٍ يستثير فيك الغضب لأجل الرفض وحده، وبين فكرٍ يجعل من الرّفض حالة حُبّ على طريق الارتقاء الإنساني ككل. كما فرقٌ بين فكرٍ يجعل المعتقد به يعيش الإحساس بالدونية في ذاته، وبالخجل مما هو محاط به، وبين فكرٍ يذكّرك بألا تجرح ضمائر من هم حولك، وألا تتنكّر لما ومَن شكّلك في طفولتك وشبابك وعلى طوال الطريق، وشكّل شخصيتك وفكرك وما أنت عليه. اقتران حالة الرفض بحالة الرضا مفارقة، لكنها صنعةٌ جميلةٌ جداً، والأهم أنها ولّادة للارتقاء بالواقع لا للاغتراب عنه، وإن تباعدت أفكارك عن الأفكار التي يحملها من حولك.

لقد كتب الرفاعي في مرحلة مليئة وعاصفة بالتناقضات، وكان الإقبال على كتاباته كبيراً. لكني أعتقد، كل الاعتقاد، أن الحاجة لقراءته ستزداد أكثر مع تقادم الأيام والأحداث، وأن كتبه "ستمكث طويلاً في ذاكرة المكتبة". من خلال مراقبتي أقله لشبكة علاقاتي مع الشباب من حولي، بتّ ألحظ نوعاً من اليتم عند بعض الشباب الذي تغرّب عن مجتمعه وسعى للتمايز عنه (طبعاً ثمة فئة ما عادت تحمل هذا الهمّ أساساً وما عادت مسألة الإيمان ملحّةً عندهم). مع الوقت، جزء معتبرٌ من هؤلاء الشباب، خصوصاً من يسافر منهم، يتوازنون على إثر ما يرونه، وعلى إثر تفاعلهم مع الآخر/الأنا المستجد. حالة التوزان هذه أو الميل لها ستجد ضالّة لها في كتابات الرفاعي. وهنا ميزة جديدة، أنك تستطيع أن تقرأ له في كل حالاتك، وفي كل مرة ستسفيد، وستصلك خلاصات جديدة بعد قراءتك التالية وفقاً لتفاعلك الجديد مع المحيط، الذي سيهديك إلى تفاعل جديد مع النص.

هذا ليس نصاً من قبيل المديح الشخصي. هي كلمات أملاها الإحساس بالمسؤولية أمام جيل اليوم والغد، ممن يعيش او سيعيش مشاعر اعتراضية على الحالة الدينية، يتبعها تيهٌ وغضب. هذه الفئة لا بدّ وأنها ستزداد اتزاناً عندما تقرأ للدكتور عبد الجبار، وهي التي سترتاد نصوصه في ظلّ عالمٍ هو حتماً مقبلٌ على المزيد من المشاكل والخضّات والتساؤلات والأحداث السالبة للأمان واليقين... حينها، من الجيّد الانفتاح على أنّ الدين كما يقول الرفاعي: "ظاهرة حياتية تعبّر عن أعمق متطلبات الوجود والكينونة"، وأنه: "لن يتراجع عن أن يواصل حضوره المزمن المتنوّع في الاجتماع البشري"، كما أنه "الظاهرة البشرية الأشد غموضا في الحياة، وإن كانت تبدو فيه الأشد وضوحاً. ولولا غموضها لما بقت منذ فجر التاريخ حتى اليوم". وأنّ أغلب حالات "الاغتراب والعدمية هي احتجاج عالمي على قبح العالم". كما من الجيد الغوص مع الدكتور الرفاعي في رحلة الاحتجاج على اختزال الدين في المدونة الفقهية، ورحلة الحرص على"عدم ترحيله من حقله الروحي المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر يتفوّق فيه القانون على الروح، ويصبح الدين فيه ايديولوجيا سياسية صراعية، أيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية"، واستدراك الرفاعي بأنّ: "ثقافةً لا تتشبّع بالفلسفة ولا تتذوق العرفانَ تظلّ فقيرة، تحاول أن تغطي فقرَها بفائض الألفاظ. مثلُ هذه الثقافةِ تجهل الحاجةَ للدين، وتعجز عن رؤية أعماق الحياة الروحية"... والتّنبّه إلى أنّ "كثرة الكلام في الدين وثرثرة معظم الجماعات الاسلامية ورجال الدين تتورط في نسيان الإيمان"، وقراءة أن" فشل الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجز معظمهم وقصورهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة. لأنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العميقة". ومعرفة أن" المأزق يكمن في الأسس ومناهج التفكير والنظر والأدوات المتوارثة المنتجة للتفكير الديني في الإسلام"، وأنّ "معقولات العقل كائنات تاريخية، لحظة يكرر العقل نفسه لم يعد عقلا"... وأن "الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلم والفيزياء الاحتمالية جميعها أشادت المعرفة والعلم على الاحتمال. تاريخ العلم مقبرة نظريات علمية".

الخوف، كلّ الخوف، أن تهدر طاقات الحياة عند الجيل الذي ينفتح على الكثير من المشاكل والتساؤلات والتناقضات. الخوف أن يتحول الإنسان الناقد إلى كائنٍ رافضٍ منعزلٍ يتعاطى مع محيطه بفوقية وازدراء، لأنه" اهتدى" إلى ما يناقض أفكار هذا المحيط، أو لأنه أدرك ما فيه من ثغرات تحول دون النهوض والتطور والعيش الواقعي لا الميثولوجي. قد يقول قائل إن الرفض بكلّ أشكاله وبتعددها، ومع تظافر هذه التعددية، سيولّد تحولاً وتغيراً منشوداً في النهاية. وقد يكون هذا واقعاً، لكني أرى أنه مكلفٌ للغاية، إذا كان عنيفاً وذا صفة اغترابية انعزالية، وأول هذه الكلفة تكريس النزعة العنيفة في هذا العالم.كثيرون ممن ينتقدون التجليات العنيفة لبعض أشكال التدين ينتهي بهم المطاف إلى أنهم يكشفون الغطاء عن التجليات العنيفة للاتديّن أيضاً. تطرّفٌ وتطرّفٌ مضادّ، ينبغي ترشيده بمساعي إعادة التوازن، ومما لا شكّ فيه أن كتابات عبد الجبار الرفاعي تشكل مسعىً هاماً في هذا الإطار، بالشكل الذي يمكن أن يقرأ له كلّ من امتلك نزعة الانصاف والتوازن، وابتعد عن مصيدة التصنيفات والتعميمات.

***

ملاك عبد الله - كاتبة لبنانية

 

منذ بداية القرن العشرين، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على «جائزة نوبل»، من بينها 4 حالات فقط، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين أخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال «جائزة نوبل التذكارية» في الاقتصاد، ثم منحت زوجته ألفا «جائزة نوبل» للسلام عام 1982.

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث أيضاً في علم الاجتماع، وطرق أحياناً أبواب الفلسفة والتاريخ. وأظن أن اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف نفقات عامة، وما يعد استثماراً في الجيل القادم، من أجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الأوروبية، يدعو أحدهما إلى «دولة الرفاه» التي تضمن للمواطن الخدمات الأولية الضرورية كافة، بينما يدعو الثاني إلى «دولة الحارس الليلي» التي يقتصر دورها على حفظ الأمن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول، لأنه - أولاً - يؤمن بأن العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة، وأن هذا يعني تحديداً قيام الدولة بتوفير الحاجات الأساسية، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم، مثل التعليم الأساسي والصحة وأمثالهما. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني، وهو اقتصادي بحت، خلاصته أن توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، ولو من خلال زيادة الضرائب، أشبه بالمال الذي يستثمره التاجر أو الصانع، كي يربح لاحقاً. حين توفر الدولة الخدمات العامة الأساسية، فإن الكفاءة الإنتاجية للمجتمع سترتفع، ويرتفع تبعاً لها الدخلان القومي والفردي، لا سيما عند الأجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالأستاذ ميردال إلى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو، لا سيما الأرضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، في كتابه الشهير «الدراما الآسيوية: تحقيق في أسباب فقر الأمم». وأريد الإشارة بالخصوص إلى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بأن على التعليم أن يعمل بحسب حاجات السوق. والذي يبرره أصحابه بأن الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة، فلا بد له أن يكيف دراسته، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منظور أوسع يركز على الإنتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الأعلى، أي الإنسان نفسه؟.

يبدو لي أن الجدل في الفكرة سيقودنا إلى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء أخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل إلى الثاني، إما كوسيلة أو كغاية. ومن هنا فإن المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة أن التعليم استثمار في العقول. وأن العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات، وليست مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور، المدينة الشهيرة بأنها وادي السليكون الهندي، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الأموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق، وليس خادماً للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند، وفرت فرصة كي يتحول شبابها إلى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات، أذكر أن مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريباً. بالمقارنة فإن مجموع صادرات الهند الزراعية يبلغ 33.5 مليار دولار، ويعمل فيها 152 مليون شخص. أي إن كل عامل زراعي يوفر 220 دولاراً من الصادرات، بينما يوفر نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19000 دولار.

أظن أن هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

إذا ما تكلمتُ عن الشهرة والأصداء التي تتركها نجاحاتنا في أذهان الناس، سأجد الكثيرين ممن يدّعون أنهم لا يعيرون بالاً لآراء الآخرين، وثنائهم ونقدهم، وهنا يقفز إلى رأسي فوراً إقتباس رائع لـ(سيوران): "باستثناء المجانين، لا يوجد أحدٌ غير مبالٍ بالثَّناء أو النّقد. ما دمنا طبيعيّين إلى حدِّ ما، فنحن حسّاسون لكلِّ كبيرةٍ وصغيرة، وإذا صرنا منيعين ضدّهما، فعن أيِّ شيء آخر نبحث بين بني جنسنا؟". لا أشكُ أبداً أننا نكتب لكي تكون كتاباتنا مقروءة وربما نحلم أن تكون مؤثرة وملهِمة وخالدة، أتكلم عنا نحن الشعراء والكتاب، حيث ننظر للذين سبقونا بانبهار، ونتوقع أن يُنظر لنا بذات الإنبهار بعد عدد من الأعوام، لكن الشهرة التي يتوقعها الكاتب لمؤلفاته التي سكب فيها من روحه الكثير ليست بالشيء اليسير في العراق، فالأدباء هنا يتبادلون الكتب فيما بينهم، فيقرأ بعضهم لبعض، ويكتب بعضهم عن بعض، وهكذا يتبادلون الثناء والذم، فيما يسمى العملية النقدية، كل هذا في منأى تماما عن القارىء العادي، الطالب في الجامعة والمعلم والمدرس والطيبب والمهندس، ولن أقول بعيدا عن العمال والكسبة لأني سأفترض أنهم غير معنيين إلى حد ما بالكتب، لكن حتى هؤلاء تجد في أذهانهم أسماء مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وإحسان عبد القدوس، فيما لو سألت طالباً جامعياً متوسط الثقافة عن عبد الخالق الركابي، أو معلماً عن محمد خضير، أو مهندسا عن ميسلون هادي، فسوف تتأكد أن كتّابنا من ذوي الأسماء اللامعة لا يعرفهم أحد، فهذه إحدى طالباتي اللواتي كنت أدربهن على تطوير مهاراتهن في السرد، وقد جذبني إسمها (س الدليمي) فقلتُ لها: بالتأكيد إنك قرأتِ لـ(لطفية الدليمي) فصدمني قولها أنها لم تسمع يوماً بالكاتبة، فشرعتُ أعرّفها بها، وأذكر لها بعض عناوين كتبها. مع ملاحظة أن هذه الشابة هي من حملة الشهادات العليا ومن خيرة طالباتي، فماذا عن سائر الموظفين والطلبة والكسبة من متوسطي الثقافة.

ثمة خلل ينبغي معرفتهُ تحديدا يجعل الكاتب العراقي سواء كان شاعرا أو ساردا بعيدا عن الناس، ماعدا تلك الأسماء التي تحصد بعض الجوائز المهمة، شهد الراوي مثلاً، هذا يعني أن حصول الأديب على جائزة مهمة يسهّل من معرفة اسمه، لكنه ليس بالضرورة أن يكون قد قُرئ من الجمهور. هذا عامل من العوامل، فضلا عن الضخ الإعلامي، الذي أراه بات خجولاً فيما يخص الأدب، والتسويق الجيد لكتبنا.

الأديب العراقي غالبا يشق طريقه نحو الفضاء العربي والعالمي بصعوبة بالغة، مع إنه يملك مقومات النجاح والإنتشار بالمقارنة مع الأديب المصري والسوري مثلا، وهذه ظاهرة ينبغي دراستها والوقوف عندها، أظن من أسبابها ظاهرة الطباعة في الدور المحلية وبأعداد متواضعة، مما يدفع الأديب إلى توزيع كتبه بنفسه على الصديق الكاتب الفلاني والناقد العلاني، في ظاهرة ملفتة، ثم يتم الإتفاق على إقامة جلسة له، تُرضي بعضا من طموحه، وعند هذا الحد غالبا ينتهي كل شيء.

ما يحصل أن الأديب يبذل جهداً في الكتابة، لكنه لا يجيد إيصال ما يكتب، وهذا يجعل إسم الأديب محصوراً في الوسط الأدبي.

تتحمل المؤسسة الثقافية متمثلة بالوزارة والجمعيات  والإتحادات الأدبية مسؤولية العمل على تنمية الذوق العام لكي يصبح النوع الأدبي هو الخيار الأفضل لدى الفرد بالمقارنة مع الذوق الشعبي الذي يميل عموما إلى ترجيح كفة الشعراء الشعبيين والمراثي، هناك جهد واضح في إقامة معارض الكتب والأماسي الأدبية، وسواها، لكن هذه المحاولات لا تصل إلى عقل الفرد، وذوقه، لأن هناك تراكمات من إرث شعبي هائل سببه طبيعة هذا المجتمع القبلية العشائرية.

***

تماضر كريم – أديبة عراقية

ليس هناك أمة من أمم المعمورة مثل أمة العرب يمكن للأزمات أن تطلق عنان مخزونها العاطفي وتفجر كوامن مكبوتها النفسي، مع الحد الأدنى من الاحتكام إلى فضائل العقل وشمائل المنطق عند مواجهة تلك الأزمات، والركون إلى الواقع عند البحث عن حلول ومعالجات. ولعل هذا الأمر متأت من تراكم الصدمات وتعاظم الخيبات وتفاقم الخسارات، التي تسببت بها جملة من العوامل الداخلية والخارجية، بات الغالبية العظمى من الناس على اطلاع واف وكاف حيال الأطراف المساهمة بها والتداعيات الناجمة عنها.

والمفارقة أنه بقدر ما تتعامل أمم العالم الأخرى مع الأزمات على كونها باعث للتفكير العقلاني ومنشط للإرادة المستقلة، بحيث كلما كان وقع الأزمة أكبر ووطأتها أشدّ، كلما استدعت سيكولوجيتها استنفار قدرات العقل وطاقات الإرادة. بقدر ما تتعاطى معها امة العرب بمثابة طعنات مؤلمة وجروح غائرة تستلزم الصراخ والنواح من جهة، وتستوجب الإدانة والتنديد ومن ثم الخلود الى الانزواء بانتظار التعافي واستئناف الأفعال العبثية وكأن شيئا"لم يكن ! من جهة أخرى. وهو الأمر الذي شجع الخصوم وأغرى الأعداء بمختلف مشاربهم السياسية وتعدد مستوياتهم الحضارية، على افتعال كل ما من شأنه توريط العرب واستدراجهم للدخول بدوامة الأزمات الداخلية والانخراط بأتون الصراعات الخارجية، بحيث لن تفتأ هذه الأمة الجاهلة أن تتخطى أزمة معينة حتى تجد نفسها تصارع أزمات أخرى أكثر تعقيدا"واشد استعصاء على الحل، وهكذا دواليك !.

والغريب في الأمر ان شخصية الإنسان العربي – حاكما"ومحكوما"- مصممة وفقا"لنقيضين متقابلين؛ الأول وهو ما يمكن تسميته ب (التذاكي) و(التعالم) في الأوقات التي يشعر خلالها بوهم امتلاك القوة وحيازة التمكن، وأما الثاني فيمكن تسميته ب (التشكي) و(التباكي) وهو ما يمكن رصده وملاحظته عند الشعور بهزيمة الذات وخذلان الآخر. أي بمعنى أنه في الحالة الأولى يبدو كثير الإعجاب بنفسه وشديد الاعتداد بشخصيته، رغم حقيقة كونه يدرك انه مسلوب الإرادة ومعطوب الوعي ومعطل التفكير. أما في الحالة الثانية فانه يفرط في إظهار علائم الانكسار النفسي والخصاء الإرادي، حتى ولو تضمنت كينونته شيء من عناصر التحدي والمقاومة.  

والطامة الكبرى، انه بدلا"من أن تكون الأزمات التي غالبا"ما تعصف بمنطقة الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة، حافزا"ماديا"ودافعا"معنويا"للزعامات العربية المسؤولة عن كل ما من شأنه تخفيف – ولا نقول جفيف – سيول المعاناة عن شعوبها ودرء المخاطر عن أوطانها، عبر التمسك بالمواقف الإرادية الصلبة، والرهان على السبل العقلانية، فضلا"عن الاستعانة بالاستقصاءات الواقعية، للوقوف على البواعث والدوافع الكفيلة باجتناب التورط في اختلاق الأزمات الإقليمية والانخراط في الأحلاف والتكتلات الدولية، بحيث تتمكن من الإفلات من الوقوع في مصيدة تلك الأزمات وتتمكن من تخطي عواقبها بأقل التضحيات المعنوية وأدنى الخسائر المادية !.

وعلى هذا المنوال، فقد عرّت الأحداث الدامية في مدينة (غزة) الفلسطينية خلال الأيام الماضية، خصائص الشخصية العربية من حيث هشاشتها في المواقف الحاسمة وانهزاميتها في اللحظات المصيرية، فضلا"عن تعرية نمط سيكولوجيتها المهزوزة والمرتبكة إزاء المخاطر والتحديات المصيرية، التي أضحت بمثابة داء عضال لا شفاء له ولا خلاص منه. فعلى كثرة انعقاد المؤتمرات الباذخة، وإجراء الندوات الصاخبة، وتكثيف اللقاءات المكوكية بين قادة هذه الأمة المشلولة والمغلوبة، حيث الخطابات الرنانة والتحذيرات النارية الطافحة بالعبارات المتفذلة التي عادة ما تحتوي متونها على الكثير من (الخطوط الحمر) القومية والإسلامية على نحو حماسي مضحك، تارة لاستعراض (قوتهم) الدونكيشوتية، وتارة أخرى لاستنهاض (رعيتهم) المخصية.

وهكذا لم يتمكن سراة القوم – بعد أن أظهر الغرب الاستعماري مخالبه وكشر الغرب عن أنيابه - من تبني أية استراتيجيات فعالة واتخاذ أية قرارات حازمة لتفادي شراسة العدوان الغربي وهمجيته، سوى الركون الى لغة (التشكي) و(التباكي) الدبلوماسية بغية استدرار عطف المؤسسات والمنظمات الدولية، لإنصافها في محنتها المزمنة وحمايتها من مصيرها المحتوم !. وإذا ما حدث ونجحت هذه الأخيرة في انتزاع حق من حقوقهم المهضومة من براثن ضواري الغرب، فلك أن تتخيل كيف سينبري قادة الأمة (المجيدة) في التبجح عن (قدراتهم) السياسية العظيمة، والتباهي في (انتصاراتهم) الدبلوماسية المدوية !

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

في المثقف اليوم