قضايا

1- ثالثة الأثافي:

كتبت قبل عشر سنوات مقالًا عن الرفاعي بمناسبة بلوغه الستين وكان عنوان المقال: (من الإسلام السياسي إلى الإيمان النقدي)، تحدَّثتُ فيه عن انتقالة الرفاعي من تجربة "الداعية الأيديولوجي" إلى تجربة "المؤمن النقدي"، حيث يكون الإيمانُ أوسعَ من مجرَّد لفافة عقائدية مغلقة، بل تجربة روحية منفتحة. ثم عدت في افتتاحية العدد المزدوج من مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" (59-60) وكتب مقالًا ثانيًا عن محطَّات الوعي لدينا في العراق في دراسة المسألة الدينية، واتخذت من قصة صدور المجلات البحثية حول القضايا المتعلقة بدراسة الدين منطلقًا لتجييل الدراسين الدينيّين عندنا، فذكرت ثلاثَ مجلات، هي: (العلم، والأضواء، وقضايا إسلامية معاصرة)، واعتبرت أن كل مجلة تمثِّل تيارًا في الوَعي بالسُّؤال الديني، له إشكاليته وأسلوبه في دراسة تلك الإشكالية. وها أنا اليوم أعود بمقالٍ ثالث عن الرفاعي وتجربته وهو على بُعد أشهر من إكمالِ عامه السبعين، حيث يجتمع ميلادُه الشخصيُّ بميلاد العددِ "الثمانين" من مجلته/ مجلتنا (قضايا إسلامية معاصرة).

2- التَّداوي بالتفلسف:

هناك سؤال كبير حول مهمة الفلسفة وجدواها في الحياة، وقد طُرح هذا السؤالُ بعدة صيغ، منها الشكل الآتي: ماذا تقدم لنا الفلسفة؟ وكيف يمكن لها أن تسهم في تحسين حياتنا البشرية؟ وبنحو أكثر جذرية: هل بقي للفلسفة ما يمكنها الانشغال به أم أن العلوم تكفَّلت بهذه المهمة ولم يعد للفيلسوف مهنة؟ من المتوقع ألا تعجب هذه الأسئلةُ الفلاسفةَ كثيرًا، فلا أحد منهم يقبل أن يكون عاطلًا عن العمل أو عرضةً للاستخفاف والتَّهكُّم! ومن هنا تنوَّعت ردودُ فعل الفلاسفة؛ البعض منهم كان أكثر تواضعًا فقبل الانشغالَ بالموضوعات التي لم يتبلور فيها بعد رأيُ للعلم، والبعض الآخر حاول اختلاقَ مهمة للفيلسوف هي أشبه بالعمل اللغوي، حيث تقتصر وظيفة الفيلسوف على التأكّد من صحة وسلامة استخدامنا للغة في الحياة العلمية والعامة، وفحص دلالات المفردات في مجال التداول البشري بنحو تكون قابلة للتحقّق والاختبار التجريبي. وهناك فئة ثالثة تتحدث عن وظيفة أخرى للفلسفة، وهي اختراع المفاهيم، ودراسة الخيارات الممكنة التي تستحق أن نعيش وفقًا لها، فنحن في النهاية، وهذه هي تجربة الكائن البشري داخل الزمن، مضطرون أن "نختار"، ضمن مساراتٍ محدودةٍ في الغَالب، ما يرسم الباقي من مستقبلنا. إن دراسة الخيار الأفضل، الملائم لأهدافنا، هو عملُ الفيلسوف الحقيقي، هكذا يقول هذا الفريق من الفلاسفة.

مهما يكن، فالشيء الوحيد الذي تجتمع عليه الآراءُ المتقدمة، ويوجد غيرُها بطبيعة الحال، هو أنَّ "التفلسف" قد كفَّ عن الادِّعاءات الضخمة، فلم يعد مسموحًا، لا للفيلسوف ولا غيرِه، الكلام عن المنظومات الفلسفية الشاملة التي تفسّر كلَّ شيء، وتجيب عن كلِّ شيء، وتضع الحلولَ لكلِّ مشكلة. لقد أصيب العقلُ بصَدع كبير، ولم تبق –مبدئيًّا- ثمة فلسفة لكل الناس، ولا ثمة جواب لكل مشكلة. وإذا ما كان للإنسان من "منقذ من الضلال" فهو يتلخص في التركيز المستمر على تحليل "طريقة التفكير السليم" ودرء أكبر قدر ممكن من الأخطاء المحتملة، والتفكير السليم يبدأ أولًا وقبل كلِّ شيء في السّؤال الصحيح.

3- هوامل وشوامل أبي حيان:

أنا من القرّاء الذين لا يدقِّقون في أسانيد منقولات التوحيدي؛ لأنني أرى أن المهم في كلامه ليس ما يحكيه بل ما يريد هو قوله. ثم إن التوحيدي، وفي أحيان كثيرة، يضع بلغته الفخمة وبلاغته الفريدة ما يختاره هو على لسان غيره المنقول عنه. من هنا، فإن منقولات التوحيدي تحظى بنفس أهمية آرائه المباشرة، بل وتعبّر عنها في غالب الأحيان. في واحدة من منقولاته يقول على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي: (لا تجزع من السؤال فإنه ينبّهك على علمِ ما لم تعلم). وفي الليلةِ العاشرة من "الإمتاع والمؤانسة" يخصِّص التوحيديُّ حكاياته لـ"نوادر الحيوان"، ويذكر مصدرَه فيقول: إنها جاءت من سماعي و"سؤالي" للعارفين بهذه الموضوعات. وفي الليلة (التاسعة عشرة) نقل عن إبراهيم بن الجنيد قوله: (أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهنّ وإن كان أميرًا)؛ عدَّ منها: (وإن سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول لا أعلم)، ثم كرر النقل نفسه بصيغة أخرى في الليلة (الواحدة والثلاثين)، فقال: (والسؤال عمّا لا يعلم ممن هو أعلم منه). ومن يتتبع كتابات أبي حيان يجده من أكثر الناس شغفًا بالأسئلة، إلى حدِّ أنْ جعل من السؤال شعارَه المفضل ووصيتَه لقرّائه، فقال (اهتكْ سُتورَ الشكِّ بالسّؤال) (البصائر: 6 / 126).

وكما هو معروف فإنَّ خلاصةَ العملِ الكبير الذي قام به أركون في أطروحته (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) كانت حول وجود هذه النزعة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وبدل أن تكون كتبُ الفلسفةِ ومصنفاتها التقليدية ميدانَ هذه النزعة والمعبّر عنها؛ رأى أركون أنَّ "الأدب" هو من فعل ذلك، ولهذا اتخذ كتبَ مسكويه والتوحيدي مادةً لبحث وتحليل وملاحقة هذه الفرضية. وبخصوص "الهوامل والشوامل" انتهى أركونُ إلى أنَّ مسكويه لم يكن على نفس المستوى من حساسية ورهافة أسئلة التوحيدي، فبينما كان الأخيرُ قلقًا وإشكاليًّا، يبحث عمن "يعرف الفَحْوَى ويَلْحَق المَرْمَى" من هوامله (انظر المسألة الخامسة) نجد أن مسكويه يبدو واثقًا بعدّته العقليَّة التحليلية ويجيب بوثوقية عالية؛ متوقعًا أنْ يُفْضِيَ التوحيديُّ بـ "شَوَامِلِه" إلَى بَرْدِ اليقين.

لم تكن أسئلةُ التوحيدي خاصةً بعصرها، بمعنى أنها لم تكن تعبّر عن حاجة إنسان القرن العاشر الميلادي فقط، فحتى نحن، وبعد أكثر من ألف سنة من رحيل التوحيدي، ما زلنا نتساءل معه نفس الأسئلة. وما يميز أسئلةَ أبي حيان أمران:

 (الأول) أنه جعل الإنسانَ محورها دون اعتبار لأي دين أو عرق أو منطقة، فتساءل عن أحواله كلِّها؛ في علاقته بالمعرفة (مسألة 62)، وفي انصرافه عمّا يجهل (مسألة ١٥)، وفي حبه للعاجلة (مسألة ٥٥)، وفي شوقه لما مضى (مسألة ٦)، وفي تواصيه بالزهد ثم حرصه على الدنيا (مسألة ٤)، وفي تَحَاثِّه على كتمان الأسرار ثم هتكه لها بالإفشاء (مسألة ٢)، وفي حيائه من القبيح ثم تبجحه به (مسألة ٨) ... إلى غير ذلك من حالات الإنسان النفسية والاجتماعية والمعرفية (سياسته، غضبه، فرحه، إلفته، مديحه، تصابيه، خياله، إشمئزازه، حسده، نظافته ووسخه، انقياده وتمرده، خوفه، خبثه، بذاءته، احتياله، عدوانه، جده وهزله، ضجره وقسوته، تشاؤمه وتهكمه، جبنه ورعونته، عفته وخلاعته، وخفته ووقاره ...) إلى ما يفوق العد والإحصاء من الحالات التي تناولها أبو حيان حتى قال هو نفسه عن الإنسان في كلمة خالدة: (إن الإنسانَ قد أُشْكِلَ عليه الإنسانُ) (مسألة ٦٨).

والأمر (الثاني) الذي يميز أسئلةَ أبي حيان هو "أشكلتُه" للقضايا التي جعلها موضعًا للتساؤل، فهو لا يعتبر تلك القضايا مجردَ موضوعاتٍ "بحثيَّة" يمكن الإجابة عنها بالمتوفر من معلومات شائعة، بل يضع نفس تلك المعلومات موضع بحث وتحرٍّ فيدعو إلى (تحديد نظر وتجديد اعتبار) (مسألة ٥٥)، وهو يقصد إعادة تعريف المشكلة محلّ السؤال وتجديد أساليب الاستدلال فيها. أما النتيجة، فستكون كما قال: (وإذا تنفَّس الاعتبارُ أدى إلى طرق مختلفة) (مسألة ٤٩) وهذا ما يبحث عنه التوحيدي: (الطرق المختلفة)، لذا كان آخر سؤال له في "هوامله" عن تنقُّل الإنسان بين المذاهب الفكرية وما يعنيه ذلك أو ما يستلزمه من الخروج عنها جميعًا (مسألة ١٧٥).3813 قضايا اسلامية 80

٤- هواملُ وشواملُ الرفاعي:

على مدى أكثر من سبعة وعشرين عامًا (١٩٩٧ – ٢٠٢٤) احتوت مجلةُ "قضايا إسلامية معاصرة" على (١١٣) حوارًا منفردًا (أقصد بـ "المنفرد" غير تلك الحوارات العامة في الندوات النقاشية المشتركة)، كانت حصةُ الرفاعي وَحْدَه منها (٦٢) حوارًا، أي أكثر من نصف الحوارات. امتازت هذه المادة الغزيرة من الأسئلة بأمور، منها:

أولًا: أنها شيَّدت جسرًا من التثاقف بين نخبة كبيرة من المثقفين في العالم العربي وإيران والغرب (من بين الأسماء العربية نذكر: محمد أركون، حسن حنفي، محمد عمارة، يحيى محمد، عبد المعطى بيومي، محمد حسن الأمين، محمد حسين فضل الله، عبد الهادي الفضلي، محمود البستاني، طه عبد الرحمن، عبد الوهاب المسيري، فتحي المسكيني، علي حرب، رضوان السيد، عبد المجيد الشرفي، وجيه كوثراني، هاني فحص، تركي الحمد، محمد أبو القاسم حاج حمد، السيد ولد أباه، محمد عابد الجابري، احميدة النيفر، نادر كاظم، هشام داود، أبو يعرب المرزوقي، برهان غليون، عبدالله إبراهيم، ماجد الغرباوي، غالب الشابندر ... إلخ. ومن الأسماء الإيرانية: مصطفى ملكيان، داريوش شايغان، حسين نصر، صادق لاريجاني، محمد مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، محسن كديور، محمد علي التسخيري، عبد الله جوادي آملي ... إلخ. ومن الغربيين: يورغن هابرماس، ريتشارد بورك هوفر، ستيفن ايفانز، محمد ليغنهاوزن).

ثانيًا: أنها وضعت جميع الاتجاهات الفكرية في ندِّية متقابلة؛ فيها الكثير من التعارف والهموم البحثية المشتركة دون قطيعة أو رفض مسبّق.

ثالثًا: أنها تشكل سيرةً لتطور الحياة الفكرية عند جيل كبير من المثقفين العراقيين الإسلاميين، وبنحو خاص سيرة الرفاعي الذاتية، في المنفى الإيراني ثم في العراق بعد ٢٠٠٣. يمكن التعامل مع تلك الأسئلة ليس فقط كاشتغال للعقل في موضوعات إشكالية وتحوّلات هذا الاشتغال وتطوراته بل واستجابة للتحديات التي عاشها هذا الجيلُ في سياقٍ خاص داخل الزمان والمكان، وعلى لسان الرفاعي بوصفه أحدَ أهمّ ممثلي هذا الجيل.

٥ – التساؤل بوصفه سيرةً ذاتية:

يوضح الرفاعي علاقةَ الأسئلة بالتفكير الأيديولوجي فيقول: (الأيديولوجيا تقوض الأسئلة المفتوحة؛ لذلك لا يبقى في فضائها أيُّ سؤال مفتوح، وتحرص أن تقدم إجاباتٍ جاهزةً لكل سؤال مهما كان). يعتبر الرفاعي فكرةَ الإجابات الجاهزة عن كل سؤال "منطقًا تبسيطيًّا" للتفكير الأيديولوجي الذي يعطل "التفكيرَ التساؤليَّ الحرَّ المغامرَ"، ثم يشير في المقابل إلى دورِ ووظيفةِ التساؤل في الحياة الفكرية، فيكتب: (لا يتطور المجتمع ما لم يكن تفكيره تساؤليًّا على الدوام. التفكير التساؤلي هو الذي يمكِّننا من الوصول إلى ما هو ممنوع التفكير فيه) (التأكيد في النص مني). ويضيف: (وظيفة الأسئلة وظيفة أساسية: إنها تفتح أفق النقد والمراجعة، وتدعو العقل لفضح الأخطاء، تلك الأخطاء التي كانت لزمن طويل تعد من الحقائق واليقينيات النهائية) (التأكيد في النص مني، راجع "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ط٤: ١٧٣، ١٧٤، ١٧٥).

بناء على ذلك يحقّ لنا التساؤلُ حول أسئلة الرفاعي نفسها: إلى أي حد يمكن اعتبارُها "مدخلَه الخاصَّ" للوصول إلى "الممنوع من التفكير فيه"؟ "الممنوع" الذي كان الرفاعي، ومِن خلفه الجيل الذي ينتمي إليه، يعيش فيه ويتحرك في دائرتِه؟ وهل كانت أسئلتُه "فاضحةً" للأخطاء؟ وما هي طبيعة تلك الأخطاء ومجالها؟

في موضع آخر يتحدث الرفاعي عن ارتباط علم الكلام الإسلامي بالعصر الذي ولد فيه، فيرى أن هذا العلم هو تعبير عن أسئلة المجتمعات الإسلامية القديمة وما واجهته من تحديات، ثم يصف تلك المقولاتِ والآراءَ المنبثقةَ عن تلك الأسئلةِ بأنها (لا تعرف أسئلة حياتنا الراهنة، الأسئلة المنبثقة من تحديات وهموم ونمط حياة يختلف عن نمط الحياة الذي انبثقت عنه التحدياتُ الماضيةُ اختلافًا تامًّا) (مقدمة في علم الكلام الجديد، ٢٠٢٣: ٤٩).

والسؤال هنا أيضًا: ماذا تكشف أسئلةُ الرفاعي من "تحدياتٍ، وهمومٍ، ونمطِ حياةٍ مختلف" في تجربة مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، وخصوصًا في مرحلتَي المنفى الإيراني وما تلاه في تجربة العراق بعد ٢٠٠٣؟

أخيرًا، وفي موضع ثالث غير ما تقدم، يتناول الرفاعيُّ علاقةَ المتكلم الجديد بـ"الحسّ التاريخي"، وبالرغم من إيمانه بوجود نمطٍ من الأسئلة يسميها بـ(الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى) لا يمكن التوصل إلى أجوبة نهائية بشأنها، وهي تحديدًا ما يختص الدينُ بالإجابة عنها (مقدمة، ٢٠٢٣: ٢١، ١٠٤، ١٩٣)، فإنه ينفي عن الشيخ محمد عبده أن يكون "متكلمًا جديدًا"، والسبب في رأيه هو أن عبده يفتقد لهذا "الحسّ"، الذي يعني الوعيَ بالعصر وتحولاته العميقة في المعرفة ومكانة الوحي فيها، وبالتالي فهم وظائف الدين القديمة، ليقول في النهاية: (ولا يمكن أن يتحرر كلُّ فهم للدين ونصوصه من الأفق التاريخي الذي ينبثق فيه) (الدين والظمأ الأنطولوجي، ٢٠٢٣: ١٣١، ١٤٢).

والسؤال هنا: ما هو "التاريخي" في الدين الذي كشفتْه أسئلةُ الرفاعي؟ وهل تنامى فيها هذا الحس التاريخي؟

٦ – المسكوت عنه في الأسئلة:

كأيِّ كاتبٍ محترفٍ يبرع الرفاعي في تجريد المشاكل التي يدرسها. يتمثل التجريد هنا بطرح المشكلة (أي مشكلة كانت) كسؤال نظري تتوارى خلفه المشاكلُ التي بعثتْه في أرض الواقع، حتى يبدو الكاتبُ وكأنه مجرد "عقل محض" يفكر ويتساءل ويحلِّل وينظّر بمعزل عن الإكراهات والإلزامات التي دفعت بتلك المشاكل إلى صدارة اهتمامه وعنايته. إن هذا التجريد يعقّد مهمة الباحث الذي يريد إفراغَ تلك الكتابة من طابعها التجريدي وإنزالها موضعَها التاريخي، لأنه سيكون بحاجة إلى دراية دقيقة بذاك الواقعِ المتواري لكي يفهم ما سكت عنه صاحبُ النصّ. فلنلاحظ هذه الجملة كمثال على الجُمل التجريدية: (تطور الفكر الإنساني في كل العصور يقترن دائمًا بالأسئلة الكبرى، الأسئلةِ الحائرة، الأسئلةِ القلقة، الأسئلةِ الصعبة، الأسئلةِ التي تتوالد من الإجابة عنها أسئلةٌ جديدةٌ) (مقدمة، ٢٠٢٣: ١٠٢). إن هذه الجملة الفخمة تبدو لي عاليةَ التجريد، لأنها لا تبوح بالأجواء التي تخلق تلك الأسئلة (الكبرى، الحائرة، القلقة، الصعبة، الولود).

والآن إذا ما أردنا الإجابةَ عن الأسئلة التي أثرناها في الفقرة السابقة حول قضايا (١- الممنوع التفكير فيه، ٢- هموم ونمط الحياة، ٣- الحس التاريخي) كما تكشفه "هواملُ الرفاعي" في مسيرةِ مجلةِ "قضايا إسلامية معاصرة"، فإن هذا يتطلب منا كتابةَ سيرته الفكرية، وبالتبع سيرة الجيل الذي ينتمي إليه، طيلة المدة التي مهّدت لولادة المجلة وفي جميع المراحل التي مرت بها. وهذه وإن كانت مهمةً جليلةً، خصوصًا في ظل النقص الكبير الذي نعاني منه في مجال الدراسات التاريخية المعنية بتجييل المثقفين الدينيين في بلدنا (العراق)، إلا أنني لن أترك الموضوعَ لغيري تمامًا، بل سأثير عدةَ نقاط مجملة في فهم هذه القضية التاريخية راجيًا أن تساعد هذه النقاطُ الباحثين المهتمين بأمثال هذه الأبحاث في تطوير دراسةِ الموضوع.

- ذكرتُ سابقًا أنَّ عددَ حواراتِ المجلةِ بلغتْ (١١٣) حوارًا، وأن حصة الرفاعي منها -إذا ما استثنينا تلك الحوارات المترجمة-في حدود (٦٢). وفي تقديري أن تلك الأسئلة والحوارات تكشف عن وجود ثلاث مراحل؛ وهي: ١- مرحلة التفكير بالتراث من داخل التراث، و ٢- مرحلة أشكلة التراث ومساءلته، و ٣- مرحلة تحويل التراث إلى مادةٍ بحثية تخضع للمتاح من المعرفة البشرية، ومن ثمة القطيعة مع المناهج التراثية كافة.

- كانت المرحلةُ الأولى من أسئلة الرفاعي مخصصةً للفكر السياسي الإسلامي، ومفهومِ الدولة فيه، وشكل النظام السياسي، وحين تَساءل عن الديمقراطية ربطَها بالبيئة الغربية ومجتمعاتها الداخلية، ولكنه مع ذلك أثار قضيةَ انتخاب الحاكم الإسلامي، ومسألة البيعة وتشكيل الأحزاب، وحدود الحريات في النظرية الإسلامية (انظر: حواره مع محمد باقر الحكيم، ومحمد حسن الأمين في العدد الثاني). وهذه الأسئلة وإن كانت جريئة في ظل نظام سياسي ديني يدير الدولةَ الإيرانية، ولكنها تمثل جزءًا مألوفًا من المشهد الثقافي الإيراني، الذي بدأ حينها بطرح هذه الأسئلةِ (يتضح هذا من حواراتِ العدد الأول الثلاثة المترجمة عن الفارسية؛ والتي تحدّث فيها ثلاثةٌ من أبرز الباحثين السياسيين الإيرانيين عن الموضوع، هم: عباس عميد زنجاني، حسين بشيريه، محمد جواد لاريجاني).

- في المرحلة ذاتها نجد ثمة انفتاحًا حذرًا على المشاريع الفكرية العربية في قراءة التراث، ومحاولة التعرّف على المشهد الثقافي العربي (كان هذا مرتبطًا بمطلع عقد التسيعنيات بعد انتهاء "الحرب العراقية/ الإيرانية"، وتدفّق الكتاب العربي على إيران واشتهاره في جامعاتها ونواديها الثقافية)، وفيها بداية التساؤل عن إعادة تعريف الغرب: هل هو استعماري فقط أم أن هناك أشكالًا أخرى للغرب يتمايز فيها التاريخيُّ الاستعماريُّ عن "الديمقراطيِّ المعاصر" (حوارات العدد الثالث، وخصوصًا مع محمد حسن الأمين). 

- كانت مسألةُ فهم النصوص المقدسة حاضرةً في العدد الرابع المخصص لاتجاهات التفسير، والحوار كلّه مع إسلاميين صميمين (محمود البستاني، وجودت سعيد) ولكن السؤال المركزيَّ هو (ما هو الموقف من اتجاهات التفسير الحديثة التي تربط النصَّ بأفقه وبيئته وقارئه؟).

- تستمر أسئلةُ الرفاعي في الأعداد التالية عن التراث ونصوصه المقدسة، محاولًا منحَ النقد والمراجعة مشروعة من داخل التراث؛ فتعدُّد القراءات يقابلها انفتاحُ التجربة الإسلامية على النقد، وشرعية الاتجاهات الحديثة في التَّعاطي مع النصّ يأتي في سياق بلورة نظرية إسلامية للنقد، ونقد الممارسة السياسية يتغذى من تجربة الأنبياء في تقوبم سلوك المجتمعات الغابرة (انظر حوارات العدد الخامس، ١٩٩٩).

-  حظِيت مسائلُ فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة بتغطية موسعة في أسئلة هذه المرحلة (الأعداد ٧ إلى ١٣). ولكن مع العدد ١٤ فصاعدًا يبدأ الانفتاحُ على فئةٍ أخرى من الإسلاميين (حسن حنفي، محمد عمارة، يحيى محمد، محمد حسين فضل الله، طه عبد الرحمن، وغيرهم) حول علم الكلام الجديد والسؤال عن مجاله وإشكاليّاته، والخشية من نزعته "الالتقاطية". نحتاج أن نصل إلى العدد المزدوج (٢٠-٢١) حتى يبدأ الكلامُ عن (التسامح ومنابع سوء التفاهم) مع محمد أركون، ولكنَّ ذلك لا يمضي دون مساءلةٍ لفكرة "تعدد المناهج" ومخاطر التعمية في التحليل، ومسألة علاقة البحث التاريخي بالتوراة والإنجيل دون القران (تتم الاستعانة هنا بأعمال طه عبد الرحمن)، ونقد التجربة العلمانية، وأمور أخرى كانت بمثابة النقد العنيف لأركون (ينبغي التذكيرُ أن سعيد شبار هو من أجرى الحوار مع أركون، وليس واضحًا مقدار اجتهاده في طرح الأسئلة أو حتى استقلاله الكامل فيها).

- تشهد خاتمةُ هذا المرحلة مع الأعداد (٢٣) حيث بقيت الحواراتُ تستضيف المسيري ليتحدث عن "انحيازات المعرفة"، وحديث التحرير (الرفاعي نفسه) عن (استيعاب النقد للتراث والمعرفة الحديثة) والاستيعاب هنا يعني الشمول، وكأن النقد للتراث يصاحبه نقدٌ للمعرفة الحديثة (التي وصفها المسيري بالمنحازة، وفي نفس السياق تأتي الحواراتُ مع عبد الله إبراهيم عن "المركزية الغربية").

- تبدأ المرحلة الثانية من الأسئلة في العدد (٢٤-٢٥) الذي يتزامن مع تغيير النظام السياسي في العراق (صدر العدد في صيف/ خريف عام ٢٠٠٣). تُدشّن هذه المرحلة بالحوار مع الجابري والشرفي (هناك تمييز بين لغة الحوارَين يحملني على تأكيد اجتهادِ سعيد شبار في الحوار مع الجابري، لأنه ما زال يتحدَّث عن "حقيقةِ" الصحوة الإسلامية! وهو ما يختلف تمامًا عن الحوار مع الشرفي الذي أجراه الرفاعي، وينص على نظرة الإسلاميين السكونية ذات الطابع الجدلي، وعدم وجود هويات نقية، ونزعة الأيديولوجيا في تفكير الإسلاميين). أما العدد (٣٣-٣٤) فيصعد بالنقد حدًّا أعلى مع محمد الطالبي حينما يبتدئ في وضع مسألة إمكان حوار المسلم، الساكن داخل ديانته الخاصة، مع الأديان الأخرى موضع تساؤل جذري.

- لن تتأخر المرحلة الثالثة من الأسئلة كثيراً، إذ يبدو أن انفجار العنف في العراق قد أتى متزامنًا مع صدور العدد (٣٧-٣٨) الذي حمل حوارًا مع برهان غليون تحت عنوان (حين تنحسر الثقافةُ ينفجر العنف). في هذا الحوار تحديدًا يبدأ الحديثُ عن فشل مشروع التحديث، وعن العنف العدواني الذي نشأ عن هذا الفشل، وضرورة "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" وأن الموقف التعبوي في التعامل مع الغرب، وثقافته، ومناهجه، وفكره، وقيمه، وفهمه للحقوق والحريات هو الذي أفضى إلى أجواء الاحتراب التي نشهدها.

10- منذ الحوار الأخير مع غليون، ومرورًا بالحوار الغنيّ جدًّا مع محمد أركون في العدد (٤٣-٤٤) (٢٠١١)، ستنتقل أسئلةُ الرفاعي إلى مرحلة الاكتمال والنضج كما تمثلها مجلة (قضايا إسلامية معاصرة)، وسلسلة مؤلفات الرفاعي حول الدين (الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الدين والكرامة الإنسانية ... إلخ)؛ تتخلص الأسئلةُ في هذه المرحلة من سطوة التراث ومناهجه (يتزامن هذا مع استقرار الرفاعي في العراق سكنًا ووظيفةً) ولا تتردد في تحويله إلى مادة تاريخية يُعاد تفكيكُها وتحليلها وفقًا للمعرفة البشرية، بل وتتجه المجلةُ إلى نقل حواراتِ الباحثين الغربيين في المسألة الدينية دون غضاضة.

٧ – رحلة استعادة الأسئلة واليقظة العقلية:

لقد عكست هذه الأسئلة مراحل شاقة من التفكير والتحرر من ثقل التراث؛ فبعد أن بدأت بالسؤال عن الإصلاح الفكري من داخل التراث وبمناهجه، انتهت المسيرةُ في عام ٢٠٢٤ إلى أن يكتب الرفاعي عن (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث)؛ الكتاب الذي يمثّل مراجعةً نقديةً للكثير مما كان يتبناه الرفاعي نفسه، بل وتحررًا من الأسئلة القديمة التي كان الرفاعي يطرحها على الأشخاص ذاتهم، الذين ينتقدهم في هذا الكتاب: (حسن حنفي، ومحمد عمارة، وجودت سعيد، وداريوش شايغان، وغيرهم).

يطيب لي أن أختم هذه السطور بثلاثة اقتباسات تختصر تحولاتِ الرفاعي مع الأسئلة، اثنان منهما وردا في الكتاب المذكور، والثالث في آخر مقال كتبه إبان تدويننا هذا البحث؛ في الاقتباس (الأول) يتحدث الرفاعي عن علاقته بـكتابات "سيد قطب" وما تركه كتابُ "معالم في الطريق" في نفسه حول مصير "الأسئلة"، وفي (الثاني) يشير إلى مآلات الرفاعي بعد رحلته مع الأسئلة في المهجر، وكيف استقبله أصدقاؤه القدامى بعد طول انقطاع. أما (الثالث) فيوضح نتيجة هذه الرحلة للرفاعي، وهي الشعورُ العميق بضخامة الكينونة البشرية وضرورة مقابلتها بـ "تواضع" حيث تتحول الأسئلة إلى "مهنة" شخصية تقوم على مهمة "دحض" الأجوبة الخاطئة. ومن الاقتباسات هذه يتضح أن هذه الأسئلة التي سلّطنا الضوء عليها كانت "استعادة" للتفكير النقدي الذي دثرته التنظيرات الأيديولوجية الإسلامية من جهة، ويقظة للعقل السليم وُلدت في أحضان تجربة مؤلمة مع المنفى من جهة ثانية. إنَّ ما يميز انتقالة الرفاعي، التي تحدثت عنها في أول مقال لنا قبل عقد، هو ذاته ما أسميناه حينها بـ "تجربة الإيمان النقدي"، من جهة ثالثة.

وإليكم الاقتباسات الثلاثة:

الاقتباس الأول:

(كنتُ معذبًا محرومًا فاختطفني "معالم في الطريق". سيد قطب أديب ساحر، يتقن كتابة الأناشيد التعبوية للمراهقين البؤساء أمثالي. أناشيد تذكي العواطف، توقد المشاعر، تعطّل العقل، يتوقف عندها التفكير النقدي، وتموت في كلماتها كلُّ الأسئلة) (مفارقات وأضداد، ٢٠٢٤: ١٦٢).

الاقتباس الثاني:

(في أول زيارة للوطن شهر حزيران ٢٠٠٣، بعد غياب نحو ربع قرن في المنفى، التقيتُ بعد عودتي بأصدقاء من الذين مكثوا مرابطين في العراق. كانوا يسألون كثيرًا في الدين أسئلة متنوعة، فوجئوا بجوابي عن شيء من أسئلتهم، قائلين بأنها لا تتطابق مع ما كنت أقوله لهم سنوات السبعينيات من القرن الماضي. قلت لهم: هذه علامة سلامة عقلية. العقل الذي يواصل إثارة الأسئلة العميقة، ومراجعة القناعات الراسخة، ومساءلة ما يقرأ ويتعلم، هو عقل يَقِظ) (مفارقات وأضداد: 85، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005: 5-6).

الاقتباس الثالث:

(في الكتابة عن هذا الموضوع [يقصد المتخيّل الديني] وغيره أقترح إجابات، لم أراهن يومًا على أنها جزمية أو نهائية. القارئ الذكي يتنبه إلى أن كتابتي تحاول إثارةَ الأسئلة، أكثر من تقديم الإجابات الجاهزة. هذه الأسئلةُ أسئلتي الشخصية، فقد كنت ومازلت مشغولًا بأسئلة الوجود، وأسئلة المعنى. في أسئلتي أفكّر عدة سنوات، وألاحق كلَّ كتاب ومعلومة حولها، وأقرأ كلَّ شيء أظفر به يتناولها، وأسعى لاكتشاف الطرق المتنوعة لتفسيرها والجواب عنها، وأحاول أخيرًا تقديم تفسيري وجوابي. من يراقب سيرتي الفكرية يرى كيف عبرَ عقلي عدةَ محطات ولم يتوقف، بفضل تلك الأسئلة. ليست هذه الرحلة الشيقة عبر المحطات إلا سلسلة دحض للأجوبة الخاطئة عن أسئلة الوجود والمعنى في حياتي). (جريدة الصباح البغدادية، الصادرة بتاريخ 28-4-2024).

***

د. علي المدَن

كاتب وباحث عراقي متمرس في الفلسفة الإسلامية والدراسات الشيعية.

.......................

ملاحظة: هذه افتتاحية العدد الجديد من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 79-80، (2024 م- 1445 ه). المجلة تحت الطبع، تصدر عن مركز دراسات الدين في بغداد قريبا.

 

بقلم: آنا فيرينا مولر/ ميديكا مونديال

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يعد العنف ضد المرأة أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعا. فهو يشكل تهديدا لحياة المرأة، ويعرض صحتها الجسدية والنفسية للخطر، ويشكل تهديدا لرفاهية أطفالها. إن للعنف ضد المرأة عواقب على المجتمع ككل. ويمكن العثور على مرتكبي هذه الجرائم في كل الأوساط الاجتماعية والاقتصادية، وأغلبهم من الذكور.

في المجتمعات التي شكلتها السلطة الأبوية ، يعد العنف ضد المرأة تعبيرا عن علاقات القوة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة. لذا فإن أسباب هذا العنف لا يمكن العثور عليها على المستوى الفردي فحسب، بل أيضا، وبشكل خاص، على المستوى الهيكلي للمجتمعات. ويجب القضاء على هذه الأسباب لمنع المزيد من العنف. لا يمكن تحقيق العدالة بين الجنسين ما لم يتم حل الهياكل الكارهة للنساء . عندها فقط ستتمكن النساء والفتيات من عيش حياة خالية من العنف.

ما هي الأشكال التي يتخذها هذا العنف؟

هناك طرق مختلفة يظهر فيها العنف: العنف الجنسي، والجسدي، والنفسي، والاجتماعي، والمالي. العنف الجنسي هو أحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي وهو تعبير عن التمييز. لا يتم التمييز ضد النساء على أساس جنسهن فقط. وكثيرا ما يتعرضون أيضا لأشكال إضافية من التمييز ، مثل العنصرية أو رهاب المثلية أو التمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تؤثر على بعضها البعض وتعززها.

ما هو "العنف المنزلي"؟

يشير العنف "المنزلي" أو "العائلي" ، المعروف أيضا باسم "عنف الشريك الحميم"، إلى أي عنف يرتكبه أشخاص ضمن علاقات اجتماعية وثيقة. وهذا انتهاك معترف به دوليا لحقوق الإنسان. والغرض من هذا العنف هو ممارسة السيطرة والسلطة. على الرغم من أن مصطلح "المنزلي" قد يُنظر إليه على أنه يشير إلى منزل أو أسرة معيشية، إلا أن العنف غالبًا ما يُرتكب داخل الأسرة الأوسع أو من قبل شريك سابق. ليس مكان الحادث هو الذي يحدد هذا الشكل من العنف، بل الشخص الذي يرتكب العنف، لذلك تفضل ميديكا مونديال استخدام مصطلحات مثل "عنف الشريك الحميم" أو "العنف في بيئة اجتماعية قريبة" بدلا من "العنف المنزلي". '.

ما هو العنف النفسي؟

يشير العنف النفسي إلى الأفعال التي تؤدي إلى إصابات عاطفية وعقلية للمتضررين. ويتجلى العنف النفسي في شكل تخويف من خلال النظرات أو الإيماءات أو الصراخ، أو الإكراه أو التهديد - مثل التهديد بإبعاد الأطفال عن المرأة أو التهديد باستخدام العنف الجسدي. إن الإذلال والتعليقات المهينة والتمييزية والسخرية العامة هي أيضًا أشكال من العنف النفسي. غالبا ما يكون العنف العاطفي مصحوبا بسلوك السيطرة أو السيطرة أو الغيرة الشديدة أو عزلة المتضررين. يمكن أن يحدث العنف النفسي أيضا عبر الإنترنت في شكل "عنف عبر الإنترنت".

ماذا يعني مصطلح "العنف الجنسي"؟

يشير العنف الجنسي إلى الأفعال الجنسية ضد إرادة الشخص الآخر. وهذه جريمة ضد الحق المحمي قانونا في تقرير المصير الجنسي. العنف الجنسي هو أحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي. وهي تتراوح بين التحرش اللفظي مرورا باللمس غير المرغوب فيه ووصولا إلى الاغتصاب وبتر الأعضاء التناسلية للإناث.

لماذا يتم ارتكاب العنف الجنسي؟

العنف الجنسي هو دائمًا وسيلة لممارسة السلطة، أو السيطرة على شخص ما، أو قمع الشخص الآخر. ويأخذ هذا شكل أفعال جنسية عنيفة لا تتم بالتراضي. بمعنى آخر، يتم التركيز على "العنف"، وهذا ذو طابع جنسي: فالهدف ليس الإشباع الجنسي في المقام الأول.

تحت أي ظروف يتم ارتكاب العنف الجنسي؟

ويشكل العنف الجنسي انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان. في حالات الأزمات والحرب يتم استخدامه بشكل شائع كأداة للقوة ويستمر استخدامه في أوقات السلم أيضًا. وهو تعبير عن الهياكل الأبوية، وهو منتشر في جميع أنحاء العالم في جميع الثقافات والأديان والمجتمعات. يمكن العثور على العنف الجنسي في جميع الأوساط الاجتماعية والاقتصادية.

ما هي عواقب العنف الجنسي في زمن الحرب؟

في الحروب، أحد أسباب استخدام العنف الجنسي ضد النساء هو إذلال الرجال على الجانب الآخر. إنها رسالة رمزية شنيعة لها جذور في طرق التفكير الأبوية . في الواقع، جزء من السبب وراء إمكانية استخدام العنف الجنسي في زمن الحرب لتحقيق هذه التأثيرات هو أن جميع أطراف النزاع تشترك في طريقة التفكير هذه. في جميع أنحاء العالم، لا تزال النساء، وخاصة أجسادهن، تُعامل على أنها ملك لأزواجهن وآبائهن وعائلاتهن.

ما هي الرسالة الرمزية للعنف الجنسي في زمن الحرب؟

إذا تعرضت امرأة للاغتصاب، فغالبًا ما يعتبر ذلك بمثابة ضرر لممتلكات الرجل (أي جسدها). والرسالة للعدو أنه لم يتمكن من حماية امرأته. غالبًا ما تنطوي حالات الاغتصاب في زمن الحرب أيضا على مزيج من الدوافع الجنسية والعنصرية: حيث يُنظر إلى المرأة على أنها رمز لمجموعة عرقية أخرى، ويُظهر اغتصابها التفوق المفترض للمجموعة التي ينتمي إليها مرتكب الجريمة على تلك المجموعة الأخرى.

من هم مرتكبو العنف ضد المرأة؟

ومن بين مرتكبي العنف ضد المرأة أشخاص من كل مجتمع أو جنسية أو دين أو عمر أو مستوى تعليمي أو خلفية اقتصادية. غالبية مرتكبي الجرائم في جميع أنحاء العالم هم من الذكور، وفي حالة العنف الجنسي فإنهم تقريبا من الذكور. ويأتي معظمهم من البيئة الاجتماعية القريبة للمتضررين. إن الصورة المنتشرة على نطاق واسع عن حالات الاغتصاب التي يتم ارتكابها ليلا في الحديقة من قبل شخص مجهول هي في الواقع أكثر ندرة. ويتحمل مرتكبو هذه الجرائم المسؤولية الفردية الوحيدة عن أفعالهم ويجب تقديمهم إلى العدالة. ومع ذلك، من المهم أيضًا الاعتراف بالأسباب الهيكلية للعنف ومكافحتها.

ما هي أسباب العنف ضد المرأة؟

إن الشخص المتأثر بالاغتصاب ليس هو الشخص المسؤول عن هذا العنف أبدا. فلا سلوكها ولا مظهرها ولا ملابسها يمكن أن يبرر العنف. ومن أمثلة الأسباب على المستوى الهيكلي العنف المتأصل في التمييز الذي تمارسه المؤسسات الخاصة والعامة أو كجزء من التدابير السياسية. وتستند المعاملة غير المتساوية للمرأة إلى قوالب نمطية عفا عليها الزمن وتحديد الأدوار بين الرجل والمرأة. يتم بناء جنس الشخص اجتماعيا. لا يوجد تحديد "طبيعي" أو "بيولوجي" حصري للجنس. وهذا يعني أن الذكورة هي أيضًا بناء اجتماعي. ونظرا لإطار توقعات الدور الأبوي ، فإنه غالبًا ما يرتبط بالعدوان. ومن أجل مواجهة العنف ضد المرأة على جميع مستويات المجتمع واتخاذ تدابير وقائية، طورت منظمة ميديكا مونديال نهجها المتعدد المستويات .

التعريف: الأسباب الهيكلية للعنف ضد المرأة

ولا يحدث العنف ضد المرأة على أساس نوع الجنس على مستوى الفرد فحسب، بل إنه متجذر في الهياكل الثقافية والمؤسسية للمجتمعات. ويشار بعد ذلك إلى التفاعل بين السلوكيات التمييزية على المستويات الثلاثة بالعنف "البنيوي". ويمكن رؤية العنف الهيكلي، على سبيل المثال، في القواعد والقوانين والتقاليد والعادات التمييزية، وكذلك في اللغة الكارهة للنساء. ولتأثيرات هذه الهياكل تأثير لا واعي وواعي على الناس في طريقة تفكيرهم وفي طريقة تصرفهم. في المقابل، يستمر الأشخاص الذين تم تكوينهم اجتماعيا داخل هذه الهياكل في الحفاظ عليها، مما يؤدي إلى دورة تضمن استمرار وجود التمييز الجنسي وظهوره، وبالتالي الحفاظ على العنف ضد المرأة الناتج عن هذا التمييز الجنسي.

أمثلة على الأسباب الهيكلية للعنف ضد المرأة

في حين يُنظر إلى الهيمنة والسلطة والقوة على أنها ذكورية، فإن صفات مثل الخضوع أو السلبية أو التساهل يتم تخصيصها للنساء. وحتى يومنا هذا، تؤدي هذه الصفات إلى استبعاد النساء من عمليات ومناصب صنع القرار السياسي المهمة. ويؤدي هذا النقص في التمثيل في المجالات ذات الصلة في المجتمع إلى إهمال احتياجات المرأة وترسيخ العنف. ويمكن رؤية انعكاسات ذلك أيضا على مستوى التشريعات: على سبيل المثال، ربع جميع البلدان فقط لديها قوانين تتعلق بالاغتصاب في إطار الزواج. وحتى في ألمانيا، لم يصبح الاغتصاب في إطار الزواج غير قانوني إلا في عام ١٩٩٧. مثال آخر على العنف الهيكلي هو التحيز الجنسي في مكان العمل. ويشمل ذلك الخطاب المعادي للنساء، وانخفاض الأجور والرواتب بشكل كبير لنفس العمل، ونسبة أقل بكثير من النساء في المناصب الإدارية.

ما هي عواقب العنف على النساء المتضررات؟

يمكن أن يؤدي العنف إلى عواقب جسدية أو نفسية أو اجتماعية خطيرة، أو حتى الموت. وينطبق هذا أيضًا على العنف الجنسي. يمكن أن تشمل عواقب العنف الجنسي العقم والأمراض المنقولة جنسيًا والصدمات النفسية والاكتئاب والقلق ونوبات الذعر. أحد أسباب الشكاوى النفسية الجسدية هو قمع تجربة العنف، وهو أمر ترى العديد من النساء أنفسهن مجبرات على القيام به. وكثيرا ما يتم إلقاء اللوم على النساء لإثارة العنف، أو لا يتم تصديقهن، أو يتم وصمهن في بيئتهن الاجتماعية.

ما هي عواقب العنف على عائلات المتضررين؟

إن العنف ضد المرأة هو دائما أيضا عنف ضد أطفالها، حتى لو لم يتعرضوا لهجوم مباشر. فمجرد مشاهدة العنف، على سبيل المثال، يمكن أن يكون كافيًا للتسبب في اضطرابات النوم أو اضطرابات النمو أو العدوانية أو القلق. علاوة على ذلك، هناك جانب آخر خطير للغاية يجب أخذه بعين الاعتبار وهو توريث السلوك العنيف والصدمات إلى الأجيال اللاحقة. يتعلم الأطفال الذين يتعرضون للعنف أو يشهدونه وعواقبه قبول هذا العنف كوسيلة لحل النزاعات. يمكن للنساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي أن ينقلن التجربة المؤلمة إلى أطفالهن وأحفادهن دون وعي كصدمة عبر الأجيال ، والتي تظهر على شكل قلق أو توتر أو استجابات وقائية. وهذا يمكن أن يكون له تأثير سلبي على الترابط داخل الأسرة.

"يجب أن يكون هناك تغيير في التفكير هنا، وبعد ذلك سنرى الحكومات والمجتمع المدني يظهران المزيد من التضامن مع النساء والفتيات في مناطق النزاع."

ما هي عواقب العنف ضد المرأة على المجتمع ككل؟

للعنف ضد المرأة عواقب بعيدة المدى على المجتمع. الصدمة عبر الأجيال ، والتي يمكن أن تنتقل من الناجين من العنف الجنسي إلى أطفالهم، تؤثر سلباً على الصحة النفسية لأسر بأكملها. لا سيما في حالة العنف الجماعي، مثل العنف الجنسي في زمن الحرب ، يمكن أن تشعر الشبكة الاجتماعية بأكملها بالآثار الضارة لأجيال. إن الهياكل الأبوية، القائمة على التحيز الجنسي وغيره من أشكال التمييز، تخلق بشكل مباشر مناخاً من العنف لا تشعر فيه النساء بالأمان عند التنقل في الأماكن العامة أو عيش حياتهن بشكل كامل.

ونظرا للقيود المفروضة على النساء فيما يتعلق بحصولهن على التعليم أو اختيار المهنة، فإن المجتمعات غير قادرة على الاستفادة من إمكانات نصف سكانها. وترتبط هذه الفرص التعليمية الضعيفة للفتيات والنساء ارتباطًا مباشرًا بالفقر ووفيات الأطفال والأمهات، فضلاً عن أزمة المناخ. يمكن للكوارث الطبيعية أن تعيق الوصول إلى التعليم . وتدمر الفيضانات الطرق المؤدية إلى المدارس والفصول الدراسية، ويؤدي الجفاف إلى سقوط الأسر في براثن الفقر. ومع ذلك، يحتاج العالم إلى فتيات وفتيان متعلمين جيدا يمكنهم تطوير استراتيجيات للتخفيف من عواقب أزمة المناخ ولعب دور نشط في تشكيل مجتمعهم.

ما هي عواقب العنف ضد المرأة على الدولة والاقتصاد؟

إن مشاركة المرأة في العديد من القطاعات السياسية والاقتصادية مقيدة بشدة بسبب التمييز ضدها. وتشير الدراسات إلى أن مدى مشاركة المرأة له تأثير مباشر على استقرار الدولة ونجاحها الاقتصادي . وتعاني النساء اللاتي تعرضن للعنف بشكل متكرر من إصابات جسدية ونفسية، مما يؤدي إلى غيابهن عن مكان العمل، مما يقلل من إنتاجية الشركات ويضر بالاقتصاد الوطني.

ويتحمل المجتمع أيضا تكاليف العنف ضد المرأة في شكل تكاليف البيوت الآمنة للنساء، والقضايا أمام المحاكم، وعمليات الشرطة، والعلاج النفسي أو الطبي. علاوة على ذلك: وكما هو معترف به في قرار الأمم المتحدة رقم 1325 ، فإن العنف الجنسي يشكل عقبة خطيرة أمام مفاوضات السلام الناجحة، كما أنه يشكل تهديدًا للسلام والاستقرار على المدى الطويل. إن اتفاقات السلام التي يتم التوصل إليها دون مشاركة المرأة أو النظر في احتياجاتها لا يمكن أن تكون ناجحة على المدى الطويل.

العنف ضد المرأة: قضية تخص الدولة

ولا ينبغي التعامل مع العنف ضد المرأة باعتباره قضية شخصية، بل كمشكلة مجتمعية يمكن، بل ويجب، منعها. ومع ذلك، فإن حالات العنف على أساس النوع الاجتماعي، مثل قتل الإناث، غالبًا ما تظهر في وسائل الإعلام أو حتى في قضايا المحاكم تحت المصطلح التافه "الدراما العائلية". إن اختيار اللغة هذا هو جزء من المشكلة الهيكلية التي تجعل العنف ضد المرأة يبدو أقل ضررا. كما أنها لا تحدد بوضوح الأسباب أو المسؤولين عنها. وعلى الدولة واجب منع العنف ضد المرأة. كما أنها ملزمة بتوفير الحماية والدعم للمتضررين وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم. وما لم تكن هناك استراتيجية حكومية شاملة ومتماسكة تأخذ في الاعتبار أسباب العنف ضد المرأة، فلن يكون هناك تطوير للتدابير التي لها تأثير فعلي.

أمثلة على فرص تدخل الدولة

يمكن تقديم دورات تدريبية للموظفين في قطاعي الرعاية الصحية والقانونية لرفع مستوى وعيهم بالعنف ضد المرأة. وعلى وجه الخصوص، فإن العمل الإعلامي، ورعاية الأطفال والتعليم المنصفين بين الجنسين، والتثقيف في مجال حقوق الإنسان، وسياسة عدم التسامح مطلقًا مع العنف، كلها تدابير يمكن أن تمنع العنف وتساعد على التصدي للمواقف المعادية للنساء.

ما الذي يمكن أن يفعله المجتمع لمكافحة العنف ضد المرأة؟

يمكن لكل فرد أن يكون نموذجًا يحتذى به في السلوك المنصف بين الجنسين. إن التساؤل والتفكير في سلوكنا ومعايير المجتمع يمكن أن يكشف أين قمنا دون وعي بتبني طريقة تفكير وسلوك متحيزة جنسيًا والتي تم تصميمها لنا من قبل مجتمعنا أو داخله.

التضامن مع المرأة يقوي التماسك الاجتماعي. كما أنه يقلل من المساحة المتاحة للعنف ضد المرأة. إن الإشارة بوضوح إلى أننا ضد كل أشكال العنف ضد المرأة والتمييز يساعد على إرسال الإشارات الصحيحة.

هناك طريقة أخرى لاتخاذ موقف وهي مقاطعة المنتجات التي تكره النساء وانتقاد أي تنسيقات ترفيهية تظهر التمييز. وهذا يساعد على وقف إدامة القيم الكارهة للنساء.

إن الأشخاص الذين يعملون في قطاعات مثل التعليم والإعلام والثقافة والإعلان، أو حتى تطوير ألعاب الكمبيوتر، لديهم وظيفة معينة كنماذج يحتذى بها ويمكنهم المساعدة في توسيع نطاق تأثيرات الصور الأكثر إنصافًا بين الجنسين.

يتحمل الأشخاص الذين يمارسون العنف مسؤولية فردية عن أفعالهم، حيث يمكنهم هم أنفسهم اتخاذ القرار ضد العنف.

يمكن لشهود العنف الاتصال بمراكز الاستشارة المناسبة والمساعدة في ضمان ترتيب الدعم.

المراقبة واتخاذ الإجراءات: أمثلة على عملنا

تعمل منظمة ميديكا مونديال والمنظمات الشريكة لناعلى رفع الوعي العام بالعنف الجنسي وتثقيف الناس حول أسباب وعواقب العنف ضد المرأة. إن عامة الناس وصناع القرار مثل السياسيين مدعوون للتعامل مع قضية العنف ضد المرأة. وتشمل أهدافنا اتخاذ تدابير ضد العنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس، فضلا عن تقديم المساعدة الخالية من التمييز للناجين.

1. العمل التوعوي العام: كسر محرمات العنف الجنسي:

وكجزء من عملنا للتوعية العامة، فإننا نتواصل مع مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة من أجل كسر المحرمات في المجتمع بشأن هذه القضية، وإحداث تحول هيكلي. على سبيل المثال، قامت منظمتنا البوسنية الشريكة " أطفال الحرب المنسيون" بتنظيم معرض للصور بعنوان "التحرر" للفت الانتباه إلى المواقف التي يواجهها الأطفال المولودون نتيجة للعنف الجنسي في زمن الحرب وأمهاتهم. تقدم منظمتنا الشريكة ميديكا ليبيريا برامج إذاعية لتثقيف سكان القرية حول حقوق المرأة. يمكن للمستمعين الاتصال أو إرسال أسئلتهم إلى المستشار القانوني كرسالة نصية. ويتم أيضًا مخاطبة الرجال بشكل مباشر، من أجل إقناعهم بدعم النساء والفتيات بشكل فعال.

2. الدعم المتكامل للنساء والفتيات المتضررات من العنف:

تقدم منظماتنا الشريكة مساعدة متكاملة وطويلة الأمد للناجين من العنف الجنسي، من خلال اعتماد نهجنا المراعي للإجهاد والصدمات  وتشمل أمثلة الدعم الاستشارة الطبية والنفسية والاجتماعية والمساعدة القانونية والتدابير المدرة للدخل. تنظم منظمتنا البوسنية الشريكة بودوغنوصت التدريب البستاني والزراعي للنساء والفتيات حتى يتمكن من تأمين معيشتهن بشكل مستقل.

ومن خلال القيام بأعمال المناصرة السياسية ، تعمل منظمة ميديكا مونديال مع المنظمات الشريكة لها لدعوة الجهات الفاعلة السياسية إلى تنفيذ السياسات التي تلبي احتياجات الناجين من العنف الجنسي. نعمل على رفع مستوى الوعي بين السياسيين والحكومات في جميع أنحاء العالم حول قضية العنف ضد المرأة، ونطالبهم بدعم حقوق المرأة وإنفاذ القوانين القائمة لحماية المرأة. ويجب أن تؤخذ مصالح واحتياجات الناجين في الاعتبار في عمليات صنع القرار السياسي. ولا بد من تحطيم الهياكل التي تديم العنف حتى يمكن منع العنف على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، نقوم بحملة نشطة لضمان حصول الناجين من العنف الجنسي (في زمن الحرب) على الدعم المناسب و/أو التعويض.

أمثلة من ألمانيا وجنوب شرق أوروبا وأفغانستان

في ألمانيا، تدعو منظمة ميديكا مونديال إلى الالتزام باتفاقية اسطنبول لمناهضة العنف ضد المرأة وجدول أعمال الأمم المتحدة "المرأة والسلام والأمن". كما نطالب الحكومة الألمانية بتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم ١٣٢٥ بشكل صحيح من أجل ضمان حماية النساء والفتيات في مناطق النزاع وإتاحة الفرصة لهن للمشاركة في عمليات السلام. وفي كوسوفو، ساهمت ميديكا جاكوفا في الجهود التي أدت إلى منح معاش شهري للنساء والفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب خلال حرب كوسوفو. وفي تموز ٢٠٢٢، أصدر برلمان البلاد في البوسنة والهرسك قانونا بشأن الاعتراف القانوني بالأشخاص الذين ولدوا نتيجة الاغتصاب في زمن الحرب، بعد سنوات عديدة من الحملات التي قامت بها المنظمات الشريكة لنا.

***

.......................

المصدر

https://medicamondiale.org/en/violence-against-women/causes-and-consequences

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

هذه التجارب - التي هي مجرد وهم أكثر من كونها هلوسة - يمكن أن تكون جزءًا صحيًا من عملية الحزن

***

في الأسابيع التي تلت وفاة طبيب الأعصاب أوليفر ساكس، رأى صديقه جوناثان وينر ساكس يقف في شارع مزدحم في نيويورك. ثم حدث الأمر مرة أخرى: على بعد حوالي عشرين قدمًا، كان هناك رأس ساكس الأصلع، ولحية بيضاء كثيفة، وجسم طويل، يجلس على مقعد في الحديقة.

لم يركض وينر بعد ظهور ساكس هذا، أو جلس بجانبه على المقعد ليسأل عن صحته. كان يعلم أنه لم يكن هو حقًا. "لم تكن هناك لحظة من البحث"، يتذكر وينر، وهو كاتب علمي. "مجرد التفكير في أنني رأيت ذلك وتذكره على الفور كان مستحيلاً"

عندما يموت شخص قريب منك، فإنه يختفي ولا يمكن العثور عليه بعد الآن. هذه هي اللحظة المحددة التي يبدأ فيها بعض الأشخاص المكلومين برؤية ذلك الشخص مرة أخرى: في شارع مزدحم، في السوبر ماركت، بالقرب من الزاوية أمامنا. وهي تجربة كتب عنها ساكس بنفسه في كتابه الهلوسة (2012). في تجربته السريرية، رأى ما يصل إلى ثلث الأشخاص الثكالى أو سمعوا عن أحبائهم بعد وفاتهم، حتى أن الكثير منهم رأوا قططهم الميتة. توقف وينر عن رؤية ساكس بعد مرور المزيد من الوقت، لكنه لا يزال يلمح والده الذي توفي عام 2016.

هناك مجموعة واسعة من هلوسات ما بعد الفجيعة كما يشير إليها علماء النفس. يقول آلان وولفلت، مستشار الحزن ومدير مركز الموت وانتقال الحياة: "لقد قيل لي هذا ألف مرة". "يوجد شخص ما في المركز التجاري ومن مسافة بعيدة يرى والده." غالبًا ما يواجه الناس شخصًا ما للتأكد من أنه ليس هو.

في دراسة أجريت عام 1971 بعنوان "هلوسة الترمل"، وجد طبيب من ويلز أن ما يقرب من نصف الأرامل لديهم تجارب هلوسة مع أزواجهم. وقد حدثت هذه الحالات في أغلب الأحيان في السنوات العشر الأولى من الترمل، لكل من الرجال والنساء، وكانت أكثر احتمالاً كلما طالت مدة زواج الزوجين. وقد كررت دراسة أجريت في عام 1985 هذه النتائج بناءً على مقابلات مع سكان دارين لرعاية المسنين، ووجدت دراسة أحدث من عام 2015 أن 30 إلى 60 في المائة من الأرامل تعرضن لتجارب هلوسة بعد الفجيعة. في بعض الأحيان، لا يرى الأشخاص أحبائهم فعليًا، ولكن لديهم شعور أو إحساس بوجودهم.

تقول ماري فرانسيس أوكونور، التي تدير مختبر الحزن والخسارة والضغط الاجتماعي في جامعة أريزونا: تلك اللحظة في الشارع، عندما يظهر من تحب في زاوية عينك، أو أمامك، هي مجرد وهم أكثر من كونها هلوسة. عادة ما تأتي الهلوسة مصحوبة باعتقاد يدوم إلى ما هو أبعد من مجرد لقاء بصري، على سبيل المثال، أن الشخص لا يزال على قيد الحياة. ولكن هذا ليس ما يحدث عادة عندما يرى الناس أحبائهم المفقودين.

يقول وولفلت إنه أقرب إلى سلوك الشوق والبحث، وهو جزء أساسي من الحزن وقبول حقيقة وفاة الشخص. يقول: "أستطيع أن أعرف في رأسي أن والدي قد مات". "لكننا لم نخلق كبشر للوصول إلى حقيقة الموت بسرعة وكفاءة.

عادة ما تحدث هذه الأوهام البصرية عندما نكون في وضع الطيار الآلي أو عندما نكون شاردين. بصفتها عالمة أعصاب في مجال الحزن، تشرح أوكونور هذه الظاهرة في سياق الطريقة التي يقوم بها الدماغ باستمرار بالتنبؤات حول العالم. وتقول: "إنها تساعدنا على تخيل ما يمكن أن يحدث وكيف يمكننا الاستعداد له".

تظهر الأبحاث أن 71% من الأشخاص "العزيزين" يشعرون بأحبائهم بعد وفاتهم

بعد الخسارة، بينما يقوم الدماغ بتصفية المعلومات الإدراكية الواردة، فإنه يستمر في القيام بذلك من خلال الاعتقاد العنيد بأن من نحب لا يزال موجودًا؛ بمعنى ما، فإن الخلفية التي تساعد في تشكيل تصورنا لم يتم تحديثها بعد. تقول أوكونور: ""إذا كان هناك أي إشارة إدراكية في البيئة قد تكون مرتبطة بما سيكون عليه الأمر عند رؤية أحبائنا في هذا المكان، فإن دماغهم سوف يملأها لنا". "إن الدماغ جيد حقًا في اكتشاف الأنماط وملء الأجزاء التي قد لا تكون موجودة."

إن معتقداتنا حول العلاقات هي التي كانت مهمة جدًا ومن المرجح أن يتم تحديثها بشكل أبطأ. عندما ترتبط بشكل وثيق بشخص ما، خاصة عندما تكون طفلاً لأحد الوالدين، فإن هذا الارتباط يخلق اعتقادًا بأن هذا الشخص سيكون موجودًا دائمًا من أجلك. تقول أوكونور: "لهذا السبب يقول الناس: "أعلم أن هذا يبدو جنونًا، لكنني أشعر أنهم سيدخلون من الباب مرة أخرى".

معظم هذه التجارب الوهمية حميدة. حتى أن معظم الأرامل الذين درسوا في عام 1971 وجدوها مفيدة؛ ووصف 6% فقط اللقاءات بأنها غير سارة. في عام 2021، عندما سأل الباحثون أكثر من 1000 شخص عن شعورهم برؤية أحبائهم بعد وفاتهم، قال 71% منهم "يعتزون بذلك"، وقال 20% إنهم سعداء بحدوث ذلك، واعتقد 68% أن هذه التجربة مهمة لعملية حزنهم.

وقد وجد وولفلت، من خلال الروايات المتناقلة، أن الأشخاص الذين يكونون بعيدًا عن أحبائهم عندما يموتون يكونون أكثر عرضة لرؤيتهم بعد ذلك. ويقول: "في حين أن الأشخاص الذين يرون جثة ميتة، يبدو أن لديهم سلوكًا أقل بحثًا وشوقًا".حتى عندما تكون بعيدًا عن شخص ما، فأنت تعرف مكانه. تقول أوكونور: "سوف تعرف كيفية الوصول إليه".إنهم يعيشون في مكان ما. عندما نحزن بشدة، يحاول دماغنا أن يفهم: أين هذا الشخص؟

تشعر أوكونور بالقلق فقط إذا كانت رؤية أحد أفراد أسرته ميتًا تؤدي بالشخص إلى تجنب مواقف أو أماكن معينة، أو إلى تغيير سلوكياته بشكل كبير. اعتقدت إحدى عملائها المكلومين الأوائل أنها رأت والدها، وكانت قلقة للغاية بشأن رؤيته مرة أخرى. وتقول: "كان هذا إلى حد كبير لأنه تعرض لحادث صادم حقًا، وكانت خائفة من الشكل الذي سيبدو عليه". بمجرد أن تحدثت هذه العميلة عن مخاوفها مع أوكونور، تبددت مخاوفها. بالنسبة لمعظم الناس، على الرغم من الشعور بالشوق أو خيبة الأمل، إلا أنها ليست تجربة مزعجة. يقول وولفلت: "إنه ليس بالأمر السيئ، على الرغم من أنه يسبب الألم".

في كتاب صدر عام 1983 بعنوان "تشريح الفجيعة"، وصف الطبيب النفسي بيفرلي رافائيل هذه اللقاءات بأنها "تفسيرات إدراكية خاطئة "، مرددًا صدى بعض أفكار فرويد حول الحزن. في مقال "الحداد والكآبة" (1917)، كتب سيجموند فرويد أن الناس يمكن أن يكون لديهم مثل هذه المعارضة لفكرة أن أحباءهم لم يعدوا موجودين وأن "الابتعاد عن الواقع والتعلق بالشيء يتم من خلال ذهان الهلوسة والرغبة".

لكن أوكونور يقول إن التفكير مؤقتًا في أنك رأيت شخصًا ميتًا على قيد الحياة لا يحتاج إلى تأطيره على أنه "ذهان" على الإطلاق. هذا يعني أنك لا تزال مرتبطًا بهذا الشخص، وليس عليك قطع هذه الروابط لتحزن بشكل صحيح، كما كتب عالم النفس كريستوفر هول، الرئيس التنفيذي للمركز الأسترالي للحزن والفجيعة. وكتب: "الموت ينهي الحياة، وليس بالضرورة العلاقة". "بدلاً من "قول الوداع" أو البحث عن خاتمة، هناك احتمال أن يكون المتوفى حاضراً وغائباً في نفس الوقت." قد يعني هذا رؤية صديقك أو والدك في بعض الأحيان خارج زاوية عينك. ويمكن أيضًا أن يكون الأمر أكثر وضوحًا: التحدث معهم بصوت عالٍ، أو زيارة الأماكن التي يحبونها عمدًا والشعور بوجودهم هناك.

"لا أستطيع مقاومة الرغبة في إعادة التأكيد على أنه ليس هو حقًا"

من الشائع أن يمر الناس بتجارب مع أحبائهم المتوفين عبر العديد من الثقافات، على الرغم من أنه يمكن تفسير ذلك بطرق دينية أو روحية أو نفسية مختلفة. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت على الأرامل اليابانيات أن أولئك الذين تركوا الطعام للموتى لديهم مرونة نفسية أكبر.في الصين، وصف الناس أحبائهم الذين يزورونهم بأنهم حشرات، "نادرا ما تطير بعيدا، كما تفعل الحشرات عادة، مما يتيح للمفجوعين فرصة التحدث إلى الحشرات كما لو كانوا يتحدثون إلى المتوفى"

كان لدى ساكس نفس التجربة التي مر بها وينر مع والديه. قال في مقابلة حول الهلوسة مع الإذاعة الوطنية العامة (NPR) في عام 2012: "بعد وفاة والدتي، ظللت أفكر أنني كنت أراها في الشارع. أعتقد أنه ربما كان هناك بعض التشابه الطفيف في المشية أو الوضعية أو الحجم". ". في كتابه "الهلوسة"، كتب ساكس عن بعض الأشخاص الذين يدركون أشياء غير موجودة بعد فقدان حاسة السمع، مثل سماع أشياء متخيلة بعد فقدان السمع. يمكن التفكير في فقدان شخص تهتم به بنفس الطريقة. وقال: "من المؤكد أن المرء يتساءل عما إذا كان الأمر بهذه الطريقة". "إن وفاة شخص محبوب ومألوف يترك فجوة في حياة المرء."

في عام 2020، توفي أحد أصدقائي المقربين. في العام السابق، كان قد عاد إلى منزله في كاليفورنيا، لذلك لم نر بعضنا البعض منذ أشهر. ومع ذلك، لم أكن أنظر أحيانًا من فوق كتفي إلا بعد وفاته، إذا رأيت شخصًا ببنيته البدنية، أو أعبر سيارة مترو أنفاق مزدحمة لأقترب من شخص يرتدي مثله. يقول صديق آخر، كينجو، الذي شاركني هذه الخسارة، إنه مر بتجارب مماثلة - غالبًا عندما يرتدي شخص ما قبعة صغيرة بالطريقة التي اعتاد عليها صديقنا، أو يرتدي بنطال جينز بأساور أو سترة متماسكة جيدة.

سوف يشعر كينجو، في البداية، بفرحة مفاجئة. "أرى مؤخرة رأس صديقي وهو لا يراني. أستطيع أن أفاجئه!" ثم يتوقف الزمن ويصبح هناك انقسام بين هذا الشعور والواقع. يقول: "هذا الشعور الذي تشعر به عندما تفوت خطوة على الدرج". "ثم صورة بانورامية بطيئة وحزينة بينما أحاول رؤية الشخص من زوايا أخرى. أنتقل إلى جانبه. الوجه يؤكد ذلك. قد يتبعهم كينجو لفترة أطول مما يعتقد. "سرقة النظرات، لا أستطيع مقاومة إغراء إعادة التأكيد على أنه ليس هو في الحقيقة."

***

....................

المؤلفة: /Shayla Love كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

رابط المقال على سايكى / PSYCHE  بتاريخ 2 أبريل 2024:

https://psyche.co/ideas/why-so-many-of-us-see-our-loved-ones-after-they-have-died

إنَّ الآية التاسعة والعشرين من (سُورة التوبة)، التي يردِّدها مُشوِّهو الإسلام من الإرهابيِّين: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»، لو فُهِمت بصياغتها اللُّغويَّة المشيرة إلى «القتال»، لا إلى «القتل»، لانتفت دلالتها على المبادأة بالعُدوان، بغير عُدوان من الطَّرَف الآخَر. ثمَّ لو جُعِلت في سياقها القرآني، الناهي عن العُدوان أصلًا، بأيَّة صورة من الصُّوَر، لَما بقي لأولئك فيها من استدلال. حتى إنَّ «الجِزية» المشار إليها في نهاية الآية إنَّما تبدو عِقابًا مفروضًا على من تُفرَض عليهم لبدئهم بالعُدوان، وكشَرطٍ للكفِّ عن مقاتلتهم، ولكيلا يعودوا إلى مثلها من بَعد. ذلك أنَّه ما دام «القرآن» ينهى عن العُدوان، ويرفع لافتة «لا تعتدوا»، ولافتة «لا عُدوان»، ولافتة «لا إكراه في الدِّين»، فإنَّ كلَّ مخاطَبٍ يفقه اللُّغة، ويربط الكلام بعضه ببعض، سيُدرِك أنَّ الأمر كلَّه دفاعيٌّ لا هجومي، وحِمائيٌّ لا حماسيٌّ لقَسْر الناس وعَسْفهم والتسلُّط عليهم.

كذا استطرد (ذو القُروح) في نقده الفكري الثقافي لبِنية العقل الاتباعيَّة، على اختلاف المِلل والنِّحَل والأزمان ومذاهب الاتِّباع. مُردِفًا: على أنَّ من الناس من يظنُّ مفهوم الاتِّباع هو اتِّباع الماضي فقط، ويظنُّ الإبداع في المقابل والتجديد يرادفان الانسلاخ من الهُويَّة، والتراث، واللُّغة، ومن الشخصيَّة الحضاريَّة، جهلًا أو اعتقادًا!  ومَن يرى هذا هو أضلُّ من حمار أهله، مع الاحترام لحمار أهله، طبعًا! ذلك أنَّ العقليَّة الاتِّباعيَّة للآخَر، أو للسائد، أو لثقافة القطيع المعاصر، أدهى من العقليَّة الاتباعيَّة للتراث وأَمَر. من حيث إنَّ العقليَّة الاتباعيَّة للتراث مرضُها جزئي، وقابلٌ للعلاج، لكن العقليَّة الاتباعيَّة الأخرى (للآخَر) تعاني مسخًا بنيويًّا، يتعذَّر إصلاحه. قلتُ:

  - لكن هؤلاء الذين أشرتَ إليهم إنَّما ينتقون ما يشاؤون، ويقتطعون ما يظنُّونه يخدم خِطابهم الأيديولوجي، وأهواءهم السياسيَّة، من سياقه النصِّي والواقعي، فإنْ لم يجدوا ما يبغون، استمدُّوا معين المرويَّات، التي يفرح بها أربابُ العُنف والإرهاب وأربابُ الطَّعن معًا؛ لأنَّ فيها- ممَّا يدعم خِطابهم وأغراضهم- ما لا يعثرون عليه في كتاب الله.

- وحسبك بهذا وذاك من انحرافٍ قرائيٍّ للنُّصوص، بعد الانحراف الفِكري، يبعث على الإشفاق!  وهؤلاء- بطبيعة الحال- يستندون إلى ممارسات طوائف متطرِّفة جاهلة من المسلمين، تَلِج من باب ما يُمكِن أن يُسَمَّى التعسُّف في فهم الحقِّ واتِّباعه أو فرضه. حيث يتحوَّل «الحَقُّ»- وَفق فهم تلك الطوائف- وعلى يديها إلى شعارٍ مطلَق، مبتوتٍ من سياقاته، وأسبابه، وواقعه، يُستباح تحت رايته كلُّ شيء!  فيصبح غايةً تُبرِّر الوسيلة. وليست في الإسلام غايةٌ تُبرِّر الوسيلة، حتى لو كانت الغاية عبادة الله. غير أنَّ هذا السلوك- المعروفة نظائره في كُلِّ أنظمة التاريخ السماويَّة والأرضيَّة- ليس بحُجَّةٍ، لا على الحَقِّ، بما هو كذلك، ولا على النَّص، طِبق سياقاته الصحيحة، والمعبِّرة عنه في بناءٍ متكامل. ويقف إلى جوار المهوِّنة والمهوِّلة هؤلاء- أي أصحاب الخِطاب المهوِّن ممَّا كان يواجهه الرسول الكريم من تحدِّيات، والمهوِّل ممَّا اتَّخذه من إجراءاتٍ للمواجهة- خِطابٌ رديفٌ يسير على النهج نفسه، مهوِّنًا من حال الثقافة الاجتماعيَّة في الجزيرة العَرَبيَّة قبل الإسلام وبعده، بما في ذلك من تصوُّراتٍ أُسطوريَّةٍ وظُلْمٍ وسلوكيَّاتٍ منكَرة.

- كيف ذاك؟

- لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى إنكار الواقع الاجتماعيِّ والثقافيِّ الجاهلي، الذي امتدَّ في الناس إلى وقتٍ قريب، بل ربما ما زال ممتدًّا إلى الوقت الراهن، من عقائد، وعنصريَّات، ووَأْد بنات- وإنْ معنويًّا- إلى غير ذلك ممَّا جاء الإسلام ثورةً عليه، قبل ألف سنة وبضعة قرون!  فتراهم ما يفتؤون يهوِّنون من تلك الأحوال، ويلتمسون لأهلها المعاذير، ولشواهدها التأويلات، وكأنَّ العَرَب كانوا على سراطٍ مستقيم؛ فلا شِرك فيهم، ولا ظُلْم، ولا غَدْر، ولا وَأْد، وبالجملة لا فرق بين ما قبل الإسلام وما بعده! 

- عجيب!  مَن هؤلاء؟

- زمرةٌ من القوميِّين المعاصرين، وبعض القَبَلِيِّين، من العَرَب البائدة العائدة!  وهي قوميَّةٌ مَقيتةٌ وقَبَليَّة، تَدُسُّ رأسها في رِمال الرُّبع الخالي، تقديسًا للقبيلة، والآباء، والأعراف المتوارثة. متأوِّلين، مثلًا، مقولات مثل «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق».

- يبدو أن رؤوس هؤلاء هي التي ما زالت تعيش ثقافة «الما قبل»، أو تحنُّ إليها!

- أجل، هم أحفاد (أبي جهل) غربًا، و(قيس بن عاصم المنقري) شرقًا. فصاحب خِطابٍ كهذا يحاول أن يزعم لك أن «مكارم العَرَب» ثابتة منذ ما قبل الإسلام، محتجًّا بقوله: إنَّ الرسول قد قال: «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق». مع أنَّ الحديث وردَ بلفظ «بُعِثتُ لأُتمِّم حُسْنَ الخُلُق»، أو «حُسْنَ الأخلاق».(1) والفرق واضحٌ بين عموميَّة «مكارم الأخلاق» ونسبيَّتها المطلقة، وبين خصوصيَّة «حُسْن الخُلُق» ومعياريَّتها المشروطة بصِفة «الحُسْن». ومن هنا فلفظ الحديث يتَّجه إلى إحسان التعامل السلوكيِّ بين الناس، على حين تتجه عبارة «مكارم الأخلاق» لفتح المعنى على مصراعيه، ليستوعب كلَّ ما يمكن أن يُتأوَّل على أنه من «المكارم»، من عادات وتقاليد وأعراف، يراها أهلوها من جملة مكارمهم. وإذا وَلَجَ المرء هذا الباب، فقد كان من مكارم الأخلاق عند العَرَب وكان من شيمهم: «الظُّلْم»- مثلًا- و«الغَدْر»، و«شرب الخمر»، و«وَأْد البنات». ثمَّ إنَّ «الأخلاق» التي بُعِث الرسول لتتميمها لم تَرِد منسوبةً لا إلى «ما قبل الإسلام» زمنًا، ولا إلى «العَرَب» عِرْقا. وأكثر من ذلك، فإنَّ صفة «الجاهليَّة» نفسها، التي أُطلِقت على العَرَب، هي صفة تَنْسِبُ إلىهم البُعْدَ عن «المكارم» و«حُسْن الأخلاق» معًا؛ لما كان يتَّصف به معظمهم من طَيش، ونَزَق، وسَفَه، وظُلْم، وغَدْر، وتَرَوٍّ من الحياة بأيِّ ثمن.(2)

- هذا تمجيدٌ للعُروبة الجاهليَّة، على طريقة كُفَّار (قُريش): «اِمدحْ آلهتنا»!

- العِرق دَسَّاس!  لذا يمتدُّ هذا، من بَعد، إلى إنكار ما أنكره المصلحون الدِّينيُّون والاجتماعيُّون عبر العصور الإسلاميَّة؛ فهؤلاء- حسب ذلك الخِطاب- محض متطرِّفين، عدوانيِّين، سَطَوا على مجتمعاتٍ آمنةٍ مسالمة، خيِّرة نيِّرة، ولمآرب سياسيَّة، أو لهوسٍ دِينيٍّ عنيفٍ بحت، شعاره:

وما نَيل (المناصبِ) بالتمنِّي  :::  ولكن تُؤخذ الدُّينا غِلابا

- لا تُنكر أنَّ أولئك المصلحين لم تخل حركاتهم من العُنْف والعَسْف والغُلُو!

- نعم، لكن إذا صَحَّ انتقاد ما يقع من أولئك المصلحين من العُنْف والعَسْف والغُلُو، فما يعني ذلك تبرئة المجتمعات التي ثاروا عليها، والزعم أنه لم يكن فيها من العُنْف والعَسْف والغُلُو مثل ذلك أو أشد. ولو تجرَّد هؤلاء من الأهواء، لأقرُّوا أنَّ الحال في الجزيرة العَرَبيَّة، حتى خلال القرون المتأخِّرة، ما كانت بِدْعًا من حال العالم العَرَبي والإسلامي، بل حال العالم بصفةٍ عامَّة. واقرأ إنْ شئت- على سبيل النموذج- ما سجَّله الرحَّالة، من مستشرقين وغير مستشرقين، حول عقائد العَرَب وممارساتهم في الجزيرة العَرَبيَّة، خلال العصور الإسلاميَّة المختلفة، لترى العجب العجاب. واقرأ إنْ شئت أيضًا- على سبيل النموذج- ما سجَّله الباحثون من المؤرِّخين والآثاريِّين حول بعض المجتمعات إلى جوار الجزيرة العَرَبيَّة كذلك، لترى مثل ذلك.

- هل من شاهد؟

- الشواهد كثيرة. خُذ، على سبيل المثال، ما سجَّلوا حول مكانٍ اسمه (جبل المنيجة)، جنوب (وادي فيران) بجنوب (سيناء)، حيث ارتبط المكان بأساطير دِينيَّة قديمة لدَى عَرَب سيناء، تُعَدُّ استمرارًا لتقاليد وثنيَّة نَبَطيَّة، بقيت حتى العصر الحديث. فمن عادتهم أن يزوروا الجبل- الذي يبدو، كما يرجِّح بعض الدارسين، أنَّ المقصود به (جبل المناجاة)، الذي ناجى منه (موسى) ربَّه- وذلك في كلِّ سنة، آخِر الصيف، بعد موسم البَلَح، فيذبحون للجبل عند سفحه، فوق النبع الكبير هناك. وتفصيل ذلك: أن يَذبح كُلُّ فريقٍ من أولئك الأعراب «ذبيحة عامَّة، فيأكلون منها، ويوزِّعون على الفقراء، ويقرؤون الفاتحة لموسى وملائكة فيران! ويقولون إنَّ كلَّ مَن أحبَّ الاشتراك في الذبيحة العامَّة، ربطَ مِقْوَدَ الجمل بخِرقة، علامةً لذلك؛ حتى إذا ذُبِح الجمل علَّقوا مِقْوَدَه في شجرة طرفاء هناك تبرُّكًا. وبنَى العَرَب قديمًا على رأس الجبل مزارًا، لعلَّه المعبد النَّبَطي.»(3) 

- هذا هو الواقع في بعض المجتمعات، وبعضه ما زال إلى اليوم.

- ولكن إذا سجَّل المؤرخون هذا، أو أنكره المنكرون- عقلًا أو ديانة- قفز على المنصَّة غيورٌ أعور ينافح عن سمعة آبائه، وما لَهُ من وسيلة سِوَى وسيلة النَّعام، أو المغالطات، أو الهجوم بهدف الدفاع. فيُضحي منكرو المنكرات متَّهمين بالتطرُّف، لدَى أصحاب الخِطاب المطبِّل لما وجد عليه الآباء، من خيرٍ أو شرٍّ، على طريقة «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون»: لماذا يُتَّهم المسلمون بالشِّرك؟ ويُتَّهم العقلاء الحكماء، ومنهم (أبو الحَكَم/ أبو جهل)، بأنه ذو عقلٍ خرافي، ومتعصبٌ أعمى لموروثه؟  يفعلون ذلك تمامًا كما فعل أسلافهم، وكما يفعل معاصروهم من ذوي الأهواء، حين يتَّهمون (محمَّدًا) بالتطرُّف في مواقفه من مشركي الأعراب وغير الأعراب، بما توارثوه من أباطيل ذهنيَّة وعَقديَّة وسلوكيَّة. ولا غرو، فتلكم عقليَّةٌ واحدةٌ اتِّباعيَّة، ومِلَّةٌ سرمديَّة، قديمًا وحديثًا، عربًا وعجمًا، غربًا وشرقًا، تبدو «باقية وتتمدَّد».

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  يُنظَر: وِنْسِنْكْ، أ. ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (إستانبول: دار الدعوة)، 1: 194 (بعث)؛ 2: 75 (خلق).

(2)  يُنظَر كتابنا: (2006)، نَقْد القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّةٌ لمنهاجٍ عِلمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العَرَبي)، 56-58.

(3)  يُنظَر: الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 239- 240.

 

(لو أن الإنترنت كانت اقتصادًا قوميًا أو اقتصاد دولة، فإنها كانت ستُصنّف بين اقتصادات العالم الخمسة الأولى، أي بعد الولايات المتحدة والصين والهند واليابان مباشرة) ـ ديفيد دين في تقرير ماكينزي  2012

تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقات الاجتماعية، مثل الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في صداقات المراهقين اليوم. أسئلة خطيرة تطرحها أخلاقيات التعامل، وقواعد الاتصال الاجتماعي الجديد إزاء استخدامات الهاتف الذكي بصحبة الآخرين، وكيف تؤثر على المواعدة والعلاقات المتعددة في عالم اليوم.

كيف تكون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جزءًا من عمليات صياغة الهوية والتعبير عنها، مثل إنشاء ملفات تعريف على وسائل التواصل الاجتماعي على المواقع الشهيرة.

كيف تكون صور السيلفي وتمثلاتها الفنية والشعورية، جزءا من تلك العملية؟ ، وإلى مدى تكون هناك فوائد أو عيوب تترجم أنماطا أو أنساقا للتعبير عن أنفسنا عبر الأنترنيت؟

هناك هواجس أخرى، يثيرها علماء الاجتماع، في سياق تحليل ظاهرة المجتمعات عبر الأنترنيت، من بينها تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي على التعبيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأنشطة المجتمعية والحملات الموازية.

ويستحضر السؤال السوسيولوجي هنا، مظاهر التحفيز وتنوعه، خصوصا فيما يتعلق بتأثير الأنشطة وتداعياتها على القيم المجتمعية والسلوكات الاجتماعية. وهو ما يحدد بالتالي حضور التأثير الموازي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والويب في عمليات بناء الانتماء الاجتماعي، لاسيما بين المجموعات المهمشة أو الهامشية، وبخاصة الأقليات العرقية والثقافية وما إليها.

وتأسيسا على ذلك، أضحى علم الاجتماع الرقمي، يبرر تأويلاته الفلسفية انطلاقا مما تختزله الفجوات ، مع  يرافق ذلك من وسائل وطرق احتيالية يصل بها سماسرة الثروة إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وجميع موارد الويب المتصلة بها.

قطعا ولابد وأن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، تأثيرات على المجتمع، ويستمر مع تدحرج رغباتنا في تشكيل عالمنا بطرق ما زلنا في بداية فهمها.

لكن الفجوات الرقمية اليوم، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقات الافتراضية للأشخاص، من جميع أنحاء العالم، قد غيرت المجتمع بطرق عديدة، من التبادل الثقافي إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فقد أعادت كتابة العديد من قواعد الاشتباك، كما أتاح مجتمع الإنترنت العديد من الطرق الجديدة للتفكير والتواصل، وهو ما سيمكن من الوصول إلى مصدر غير محدود تقريبًا من المعلومات، بدءًا من المواقع الإخبارية وحتى مصادر الأخبار المحلية.

 الآن، يمكننا الوصول إلى أي مصدر للأخبار من أي مكان. ومن زاوية معكوسة، يمكن استيعاب طفرات هذا التحول الرقمي، وإدراجه ضمن عالم رؤيوي يطور التفكير بالوجود وقدرة البشرية على الامتداد فيه والتعايش معه.

لكن تختلف سرعة الاستيعاب تلك، حسب المنظومة المستعملة والتكلفة ومدى توفر النطاق الترددي وانحيازاته الفنية والتكنولوجية.

وعلى الرغم، من هذا التفوق، فقد أدى استخدام الإنترنت إلى تقسيم رؤيتنا كمرافقين للتجربة إياها، على مستوى نوعية الحياة وتداعيات الصور المبثوثة من مواقع اجتماعية مختلفة، حيث تترجم أحيانا أشكال الرفاه المجتمعي وطبقياته. ما يشكل خطرا في الشعور بالتمايز والطبقية والتقعير الهامشي لشرائح معينة من المجتمع.

لكن الأبعاد الأكثر حضورا في تينك الفجوات، دخول مثالب النصب والاحتيال في حقل الدراسات والأبحاث والتصنيفات والمدونات الأدبية والعلمية. فعوض أن يمكن هذا التنوع معاشر الباحثين والدارسين من تعزيز أطاريحهم ورؤاهم، من خلال تبادل المعلومات والمعارف والبيانات عبر الأنترنيت، أضحى الذكاء الاصطناعي المنذور حديثا عبر تلويناته الخدماتية عالية الدقة، كتطبيق شات جي بي تي، المتخصص في المحادثة والإجابة على الأسئلة المختلفة، ومحاكاة المحادثات البشرية عبر تقنيات حديثة ومتطورة، وذلك باعتماد

تطبيقات منفردة على مجموعة من المراجعات البشرية التي تساعده على التعلم لإجراء محادثات ناجحة كالتي تحدث بين الأفراد، (أضحى) يسبب خرقا فاضحا في متلازمات الأخلاقيات وقيم البحث والترقي العلمي، استدعى من علماء الاجتماع الرقمي، التفكير بعمق في مستقبل العدالة عبر الأنترنيت، وتقاطعات ذلك مع منظومة التعليم وعلوم الجامعة والانتقالات التكنولوجية ذات الصلة.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

تعددت الآراء، وأحتدمت النقاشات حول موضوع البعد السياسي في الأسلام، ومجال أشتغاله في المجال السياسي، وهل يشكل البعد السياسي كباقي الأبعاد الأخرى الأخلاقية والعقدية والتشريعية، التي تشكل الهيكل الفكري للأسلام، وهل تمثل السياسة وحدة من وحدات بناءه الأيديولوجي، وهل هناك مداليل تؤكد أنتماء هذا البعد الى الأسلام، وهل هناك مبررات تجعله جزء لا يتجزء من الكل الأسلامي كدين متعدد الأبعاد، ويمثل نظرة كونية للوجود، وشاملة للحياة. من خلال التعرف على نطاق الأسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة تتضح لنا واقعية،أو عدم واقعية الأسئلة التي طرحناها أعلاه، ومن خلالها سوف نعرف بأن فلسفة السياسة في الأسلام جزء طاريء على الدين الأسلام، أم تشكل جزء عضوي منه، وهنا أود أن أُبين أهمية هذا البعد في حياة الفرد والدولة والمجتمع، وعلى أساس هذه الأهمية يصبح البعد السياسي أحد الأبعاد التي أكد عليها الأسلام بأعتباره المجال العملي لتطبيق العناصر الأخلاقية والقيمية والعقدية في عالم الممارسة والتطبيق بأعتباره ديناً جاء لبناء الحياة وتشيدها على تصورات ورؤى من صميم الأسلام بأعتباره ديناً شمولياً، بل ويمثل أتباعاً لأمر ألهي الى البشر لأعمار الأرض وأقامة العدل الألهي عليها (هو الذي أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها)(هود61). أعمار الأرض وأقامة بناء أنساني عليها يتطلب خريطة عمل، وأستقرار أجتماعي عماده العدل، وهذا لايمكن القيام به إلا بأقامة نظام سياسي ينظم العلاقة بين بني البشر، ويفرض النظام ويمنع الأختلاف والفوضى، لكي تتهيأ أرضية مستقرة وصلبة للبناء والتنمية.

قبل البدء بتقديم المدلولات على وجود البعد السياسي في الأسلام، نتطرق قبل ذلك الى أهمية حضور البعد الديني في تلبية حاجات الأنسان وتحقيق سعادته في الحياة، وأن العقل والتكنلوجيا أثبتت بأنها غير كافية، بل أثبتت قصورها بتلبية كل الحاجات النفسية والروحية، لأن هناك أبعاد في طبيعة الأنسان لم يدركها العقل والعلم الأنساني، وهنا نُشيرالى ما ذكره الطبيب والمفكر الفرنسي الكسيس كارل في كتابه الشهير (الأنسان ذلك المجهول) في صفحة 41 (ومن الواضح اننا نحن المراقبين، غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد أليها، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن)، ويُشير في صفحة 13 من كتابه (وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فمعظم الأسئلة التي يوجهها أولئك الذين يدرسون الجنس البشري الى أنفسهم تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية مازالت غير معروفة)، وينتهي الى القول بأن (معرفتنا بأنفسنا مازالت بدائية في الغالب)، ويقتبس عن مفكر أسمه (برجسون) يصف فيه عقل الأنسان بأنه يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة)ص16، أضافة لما سبق أود أن أنقل لكم في هذا الصدد ما نقلته صحيفة الكومبس السويدية في مقال منشور فيها بتاريخ 27/ 3/2024 م مفاده (عن مكتبة في مدينة نورشوبنك في السويد، حيث يزور الكتاّب هذه المكتبة من كل أنحاء العالم المهتمين بالظواهر التي لا يجد العلماء لها تفسير، وبقيت غامضة لهذا اليوم)، فمادام العقل الأنساني عاجز عن الفهم الكلي لطبيعة الأنسان، تأتي هنا الحاجة الماسة الى الأستعانه بخالق الأنسان، نستلهم منه ما عجزنا من معرفته، وهذا ما يقتضي منا الأستعانة بالوحي كمصدر من مصادر المعرفة في فك أسرار كينونة الأنسان، لأن البشر أعترف بعجزه عن المعرفة التامة لحقيقة الإنسان وأبعاده الوجودية، وقد أشار الأمام علي (ع) الى عالم الأنسان المليء بالأسرار الشديدة التعقيد فيقول : وتحسب أنك جرم صغير   وفيك أنطوى العالم الأكبر.

وقبل أن نتطرق الى المساحات التي يشتغل عليها الدين نذكر تعريف للدين على حد تعريف الشيخ محمد حسين الطباطبائي في كتابه الشيعة في الأسلام، فيقول (الدين هو منهج الحياة البشرية ومنحاها الذي صدر من الله عن طريق الأنبياء، ويشتمل على التعاليم النظرية والرؤية الكونية، ويتضمن القوانين والأحكام العملية المتلائمة مع تلك الرؤية الكونية والعقائد النظرية، لغرض هداية الإنسان وتحقيق سعادته الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهذا الدين يتمثل بالأسلام الأصيل)، ويُشير الطباطبائي في تفسير الميزان الى حد الدين في مجال تدخله في حياة الأنسان، فيقول (حد الدين هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الأحتياج). بعد أن قدمنا تعريف للدين، والذي يتضح من خلاله بشكل مجمل الأبعاد والمجالات التي يشتغل عليها، وهي مجالات مكانية وزمانية وموضوعية، ولكن الذي يهمنا هنا هو المجال الموضوعي، وخاصة السياسي منه، بأعتباره أحد الموضوعات التي تدخل ضمن النطاق الذي يشتغل عليه الدين.

هناك مداليل كثيرة تدل دلالة واضحة على العلاقة الصميمية بين الدين والسياسة، بل تؤكد الصلة العضوية للوظيفة السياسية في الأسلام، وذلك بلحاظ قيام الدين بتنظيم علاقة الإنسان مع سائر الناس، ومع المجتمع الإنساني بشكل عام، كما إن الدين يمثل أطاراً للسياسة، فمثلاً أذا أراد المجتمع أن يرسم منهج سياسي، ويتطور في مساره السياسي في أدارة المجتمع، فالأسلام يترك للناس زمام الأمور، ويفوض لهم أمرهم السياسي، ولكن الإسلام يضع أطاراً لتصوراتهم وممارساتهم السياسية، بحيث لا يخرجوا من حدود الله في حرامه وحلاله، وأن يكون الجانب الأخلاقي له محوريته في العمل السياسي، وهذا ما يختلف فيه عن النظرية التي قدمها السياسي الأيطالي نيكولاي مكيافيلي في السياسة التي يبعد فيها مكيافيلي العامل الأخلاقي والتي يجعل من غياب الأخلاق في السياسة عامل مهم في تثبيت حكم الحاكم، وأدامة سلطانه.

من المهم الأشارة الى نقطة مهمة وهي إن الأسلام قدم فلسفة سياسية، لأن الفلسفة السياسية ترتكز على كليات، وهذا يعطي مرونة كبيرة للإنسان في العمل والأجتهاد السياسي، في مجابهة التغيرات، وتلبية الحاجات المتغيرة للإنسان، فالتشريع الأسلامي يشتمل على قواعد كلية، وأصول عامة تفي بأستنباط الكثير من الفروع التي يحتاجها المجتمع البشري على أمتداد الزمن، فالشارع المقدس لا ينظر الى خصوصية المصاديق، بل يركز على المغزى العام الذي يمكن أستخدامه عبر الزمن، والذي يستوعب المتغيرات، فمثلاً نأخذ قاعدة (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج:78). هذه الآية تعطينا قاعدة كلية تحت عنوان (لاضرر ولا ضرار)، وهي تمثل عنوان ثانوي في الفقه العام، وفي الفقه السياسي بشكل خاص، حيث يعالج الكثير من المشاكل والمواقف السياسية التي تواجه السياسي في عمله الحزبي والحكومي، والأمر نفسه ينطبق على الآية الكريمة (وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدو الله وعدوكم)(الأنفال:60)، حيث تمنحنا هذه الآية قاعده كلية في واجب محاربة الأعداء، وضرورة أعداد القوة لهم، وهناك من النصوص المكملة في السنة النبوية التي تحدد الأصول والضوابط الأخلاقية والشرعية للحرب أذا وقعت مع العدو، (فالمنظومة التشريعية والقيمية التي يطرحها الأسلام لا يمكنها أن تستغني عن الأطار السياسي الذي يؤمن بها من أجل أن تجد طريقها الى التنفيذ)(العقل السياسي الأسلامي:ص13 قاسم شُعيب). يتبع

***

أياد الزهيري

بقلم : مارك فيرنون

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

انسَ المفهوم الرومانسي الحديث لـ "هذا النوع من الحب ". الحب الحقيقي يعني النظر إلى ما هو أبعد من الزوجين والتوجه نحو الحياة.

إنها لإحصائية معبرة أن السؤال "ما هو ...؟" السؤال الأكثر شيوعاً على جوجل العام الماضي كان: ما هو الحب؟ربما تكشف هذه الحقيقة المزيد عن المجتمع الذي يسأل محرك بحث على الإنترنت شيئًا كهذا، أكثر مما تكشفه أي إجابة عن طبيعة الحب.ولكن إذا لم يكن جوجل، فأين يمكننا أن ننظر لفهم الحب؟ تصر آلات صنع الخيال في هوليوود وبوليوود على أن هناك إجابة واحدة فقط تستحق الانغماس فيها: النوع الرومانسي. ويبدو أن معظم الناس يوافقون على ذلك، ولو بشكل افتراضي. فيُجرون إلى البحث عن الشخص الذي سيجعلهم "كاملين" عبر موقع المواعدة، أو من خلال شعور أقل وضوحًا، على الرغم من شعورهم بالرغبة الشديدة التي تزرعها نفس الثقافة السائدة التي تصر على أنه يجب علينا العثور على "الشخص". لا يعني ذلك أن أصولها حديثة. منذ أن كتبت الشاعرة سافو، في القرن السابع قبل الميلاد، عن الحب الذي يتموج تحت جلدها مثل الريح عبر الأشجار، تم تصور الحب الرومانسي على أنه لا يقاوم، وهي تجربة حاسمة تمثل ذروة الوجود الإنساني.

ومع ذلك، تشير إحصائيات جوجل إلى أن هناك بحثًا عالميًا صامتًا يجري أيضًا - ومن الواضح أن الكثير منا غير راضين عن الرومانسية كإجابة. قد تكون المشكلة الحقيقية إذن هي أن الثقافة المعاصرة تتركنا غير مستعدين للتفكير في الحب بأي شكل من الأشكال سوى بطريقة أحادية البعد. وكما استولى الزواج على احتكار التأكيدات العامة على الحب، فإن فكرة الرومانسية قيدت ما يمكننا أن نتخيله كعلاقة حب.

لم يكن لدى اليونانيين القدماء، على عكسنا، كلمة واحدة للحب، بل كلمات كثيرة. كما يُلاحظ    كثيرًا، كان لديهم philia (الصداقة) و eros (الرغبة)، و storge (المودة)، و agape (الحب غير المشروط). ولعل هذا جزء آخر من مشكلتنا. تدعونا لغتنا إلى التفكير في الحب كشيء واحد وموحد، في حين أنه ليس شيئًا من هذا القبيل. وأظن أن الكلمات ليست كافية لمعالجة هذا النقص الحديث. ما نحتاجه هو إحساس جديد بتجارب الحب المتنوعة. ومن حسن الحظ أن هناك مخزناً آخر يمكننا أن نعتمد عليه من أسلافنا القدماء: وليست كلماتهم، بل أساطيرهم، هي التي يمكن أن توضح لنا الأمر.

بمعنى ما، نحن مثقلون بهيمنة الحب الرومانسي؛ فلا يمكن تجنبها ببساطة لصالح الصداقة، على سبيل المثال. هذا لن ينجح أبدًا: فالإثارة الجنسية هي ببساطة قوية للغاية. لكن الأساطير القديمة يمكن أن تساعدنا في إدراك سبب نجاح الرومانسية، حتى لو كانت قصيرة الأجل. ولعل الأسطورة التي تجسد جاذبية الرومانسية بشكل أفضل هي فكرة أريستوفانيس عن رفقاء الروح، من ندوة أفلاطون. تقول القصة أن البشر كان لديهم في الأصل رأسان وأربعة أذرع وأربعة أرجل. لقد كان شكلنا مثل الكرات المستديرة وسقطنا على وجه الأرض بسرعة كبيرة. انزعجت الآلهة من عرض القوة هذا. ومن ثم وضع زيوس خطة. من شأنه أن يقطع البشر إلى نصفين، ويترك لكل منهم رأسًا واحدًا وذراعين وساقين فقط.

كان هؤلاء الأنصاف المشوهون مشهدًا مثيرًا للشفقة. وعلى وجه الخصوص، فقد اعتادوا على تكريس جزء كبير من طاقتهم المحدودة الآن للبحث عن نصفهم المفقود. كانت الرغبة في العثور على النصف الآخر المفقود لا تقاوم. استمر الأفراد في البحث على الرغم من الانفصال المتكرر والكوارث الرومانسية معتقدين لا يعرف الكلل أن الشخص المناسب - "الشخص" - موجود هناك. لقد شعروا أن الوعد بالحب لم يكن أقل من الكمال.

لقد عاشت الأسطورة حياة طويلة، وهي تصف بدقة حتى يومنا هذا التجربة الداخلية لأولئك الذين يشعرون أن الحياة غير مكتملة بدون هذا الحب. في الواقع، لم تصل طريقة تفكير أريستوفانيس حول الحب إلى نهايتها المنطقية إلا في القرن الثامن عشر، عندما كتب جان جاك روسو عن كيفية وقوعه في الحب عندما كان شابًا. وقال إنه فقط بعد تلك التجربة، يمكنه التأكد من أنه عاش حقًا. وكانت النتيجة أن الحب الرومانسي أصبح الهدف في حد ذاته. لا يهم من وقعت في حبه، طالما أنك وقعت في الحب. المثالي التجريبي يغتصب الواقع الشخصي المعقد. هذا هو السبب في أن الرومانسية تمسك بنا في قبضتها وتفرغنا في هذه العملية. الأمر نفسه ينطبق على البحث العقائدي عن السعادة.

لكن من الأهمية بمكان أن أسطورة توأم الروح الأصلية لأفلاطون لا تنتهي بسعادة عبثية ووهمية، بل تتطور. وهنا قد يكون لديها ما تعلمنا إياه، حيث تقترح مخرجًا للهروب من معقل الرومانسية. زيوس يشفق على البشر النصف. يقوم بتحريك أعضائهم التناسلية بحيث يمكنهم عند لقائهم أن يتعانقوا ويجدوا القليل من التحرر لشغفهم. الجنس هو طعم مؤقت للوحدة، وهو يساعد، ولو إلى حد ما. لذلك عندما يمر هيفايستوس، إله الحرفيين، ويتمنى للزوجين، تتحدث هذه الشخصيات المأساوية بصوت واحد. دعونا معًا، يصرخون: دعونا نذوب في بعضنا البعض!

لكي يكون للحب مستقبل، يجب أن يكون الأزواج قادرين على الانتقال من الوقوع في الحب إلى الوقوف في الحب

يتكرّم هيفايستوس. ويصبح الاثنان واحدًا. ويكشف الوضع الجديد عن طريقة أخرى يمارس بها الحب. يصبحان ملتصقين معًا، يحدقان في عيون بعضهما البعض فقط، يفقد العشاق الاتصال ببقية الحياة . يأخذ الموت لونًا جذابًا، بسبب عدم الاهتمام بأي شيء آخر، ويحلمون بمشاركة آخر نفس معًا - وهو خيال يستمر في التعبير الفرنسي الملطف، الموتة الصغرى ، وفي الذروة الرومانسية لروميو وجولييت. ولكن كما قال عالم النفس إريك فروم في كتابه "فن الحب" (1956)، لكي يكون للحب مستقبل، يحتاج الأزواج إلى أن يكونوا قادرين على الانتقال من الوقوع في الحب إلى الوقوف في الحب. يجب أن يتعلم العشاق احتضان ما يكمن خارج الثنائي المريح من أجل البقاء. وكما أوضح فرويد، فإن الحب الثنائي يمكن أن يكون راعيًا، لكنه يمكن أن يكون أيضًا خانقًا ومنفرًا، وتشير حكاية أريستوفانيس إلى أنه يجب تجاوزه.

السؤال هو كيف؟ كيف يمكن توجيه الطاقة التي تطلق الرغبة الرومانسية إلى الخارج بحيث تغذي الشغف ليس فقط بالحياة المشتركة، بل بالحياة التي نعيشها معًا نفسها؟ هناك أسطورة قديمة أخرى، والتي أصبحت الآن شبه منسية، تقدم لنا الإجابة على هذا السؤال. إنه يدور حول إله الحب الرضيع الذي نعرفه باسم إيروس، ولكنه يقدم لنا أيضًا شخصية أخرى أقل شهرة، وهو أخوه.

وُلد إيروس لأفروديت وبدا كل شيء على ما يرام في البداية. ولكن بعد ذلك، لاحظت أفروديت شيئًا أزعجها. لم يكن الطفل ينمو. وبقيت أجنحته كالبراعم. فشل جسده السمين في تطوير العضلات. كان الأمر كما لو كان ممسوسًا بروح تشبثت بالطفولة، ورفضت أن تصل إلى مرحلة النضج. أصبحت أفروديت قلقة واستشارت أختها الحكيمة ثيميس. نصحتها إلهة المشورة الجيدة (التي يُترجم اسمها حرفيًا بـ "ما ينجح") بأن تنجب طفلًا آخر، هذه المرة من آريس، إله الحرب الشجاع. أمرت ثيميس أن يُسمى الرضيع الثاني أنتيروس، وسيكون مساويًا لإيروس. فعلت أفروديت كما قالت أختها، ونجح الأمر. كان الابنان متنافسين. لقد تزاحما وتشاجرا وتقاتلا، ومع ذلك أحبا بعضهما بعضًا أيضًا، وطالما لعبا جنبًا إلى جنب، كان إيروس يتطور بشكل طبيعي. ومع ذلك، عندما كانا منفصلين، لاحظت أفروديت أن إيروس  يتراجع.

ما يجلبه أنتيروس هو العائق، وهو المعادل الرومانسي للتنافس بين الأشقاء الذي يكرهه الأطفال الصغار كثيرًا في تدافعهم لجذب انتباه الوالدين، على الرغم من أنه، مثل التوترات في علاقة البالغين، يمكن أن يكون هو من يصنعهم، عندما يتم التعامل معه بحساسية. يجلب أنتيروس الشجاعة اللازمة لمقاومة الخيال المحيطي المتمثل في الاختفاء بين ذراعي شخص آخر، وبدلاً من ذلك يشرع في العملية الصعبة المتمثلة في تكوين حياة خالية من الحب.  ويمكننا القول إن ما يمثله هو الروحانية الصحية التي تكمن وراء مشاجرات العشاق وشجارهم، والتي إذا أمكن التفكير فيها والتعلم منها، فإنها تؤدي إلى النضج. ينقل مثل القرن السادس عشر هذه الديناميكية الأنتروتيكية: "شجار العشاق هو تجديد للحب". إذا كان إيروس هو إله الحب الذي يطلق سهامه على الناس ويثير جنونهم بالرغبة، فإن أنتيروس هو إله الحب الذي يعارض الجنون بمزيج من براجماتية عمته وقوة والده.

بالنسبة للمشاهدين، من غير الواضح ما إذا كان الاثنان يمارسان الحب أم أنهما متورطان في شكل من أشكال الانتهاك المتبادل

لكن الأسطورة تخبرنا أكثر. كانت ثيميس، عمة أنتيروس، معروفة أيضًا بمهارتها في جلب الطاقات المتضاربة إلى عملية الشفاء. اليوم، أصبح خلفاؤها معالجين للأزواج: فهم يميلون إلى الاهتمام أكثر بكيفية تعامل الأزواج المضطربين مع المشاعر التي تطلقها خلافاتهم، بدلاً من اهتمامهم بكيفية تجنب الخلافات في المقام الأول. الغضب والكراهية والخوف والضعف في العلاقات الصعبة يمكن أن يكون فرصة. هذا ليس نصفك المفقود، كما يشير المعالج، ولكنه شخص قد تجد معه المزيد من التكامل والكمال لنفسك. لا تكتمل الحياة من خلال الحب، كما يوحي الخيال الرومانسي، ولكن من خلال الحب يمكنك العثور على المزيد من الحياة. وعلى العكس من ذلك، فإن عدم القدرة على التعامل مع الصراع يعد مؤشرا جيدا للطلاق.

من الجدير التأمل في التفاصيل التي تقول إن أنتيروس كان يساعد شقيقه فقط أثناء اللعب معًا. وعندما انفصلا، تراجع إيروس. ربما ينقل هذا قيمة الالتزام في العلاقات، وهو الالتزام الذي يوفر حاوية للصعود والهبوط، مما يسمح بتجاوزها. ليس هناك "السعادة الأبدية" الثابتة، بل هناك حاجة مستمرة للعب معًا. فهي تشير إلى أن العلاقة الجيدة تأتي من المستقبل، وليس الماضي، كما توحي أسطورة أريستوفانيس. الحب مصنوع أكثر منه موجودا.

في كتابه أنتيروس: أسطورة منسية (2011)، يجمع كريج ستيفنسون أدلة على أن شقيق إيروس ربما لم يختف بعد كل شيء. يناقش قصيدة دانتي جابرييل روسيتي "مصباح البطل" (1875)، والتي تدور حول مصباح مخصص لأنتيروس والذي لا يمكن إضاءته إلا إذا استمر الحب مدى الحياة - على عكس الحب المجنون الذي كان يكنه ليندر لهيرو، مما دفعه إلى محاولة عبور البحر للوصول إليها عدة مرات ويغرق.

في الوقت نفسه، يمكن قراءة مشهد المصارعة الشهير من رواية دي إتش لورانس "نساء في الحب"، كما يقول ستيفنسون، باعتباره وصفًا للتنافس بين إيروس وأنتيروس. روبرت بيركين وجيرالد كريش يتقاتلان "بسرعة، وحماس، وإصرار، وفي نهاية المطاف بلا جدوى". يتعلم بيركين من العدوان، الذي يتم التعبير عنه بثقة ولكن بشكل كامل في القتال: زواجه من أورسولا برانجوين يجب أن يجمع بين عناصر الوحدة والتعاسة حتى ينجح. لا يمكن تحقيق الانفصال في الاتحاد إلا من خلال إبقاء الأضداد في حالة توتر، كما قرأ الناقد فرانك كرمود عن لورنس. يجب على العشاق أن يصلوا إلى " توازن يتجاوز المفهوم العادي للحب الجنسي".

في الأساس، تدور أسطورة إيروس وأنتيروس حول شكل مثلث من الحب. يتقاتل الأخوان كأخوة، ويتنافسان لجذب انتباه أفروديت. هذا النوع من الحب هو الذي يمنح الحياة، لأن إيروس وأنتيروس يمكن أن يرغبا في شيء خارج اهتماماتهما الثنائية المباشرة. حبهما ثلاثي: يشتعل من شخص أو شيء يتجاوز حبهما لبعضهما البعض. إن التنافس بينهما يجذبهما نحو العناصر الخارجية في الحياة، أي الحياة نفسها. ومن ثم، ينضج إيروس.

لقد بنى أفلاطون أسطورة أنتيروس في أحد حواراته. يبدو أن العنصر الثلاثي أثار اهتمامه بشكل خاص. في محاورة= فايدروس، يصف ما يحدث عندما يقع الأفراد في الحب (وهذا أمر مألوف): تجبرهم الحوافز الرومانسية على الاندفاع معًا، مدفوعين بالرغبة. بالنسبة للمشاهدين، من غير الواضح ما إذا كان الاثنان يمارسان الحب أم أنهما متورطان في شكل من أشكال الانتهاك المتبادل. لكن بعض العشاق ينعمون بما يسميه أفلاطون بالديناميكية المضادة. يبدو الأمر كما لو أنهما قادران على تمييز أنفسهم عن بعضهما البعض، والتراجع قليلاً، وملاحظة ما يجري. تنفتح بينهما مساحة ثالثة. فهو يجلب القدرة الأساسية للوعي الذاتي.

يمكن للزوجين أن يكتشفا ليس فقط كيفية العيش معًا، بل أيضًا كيفية العيش معًا بشكل جيد.

هذه الفجوة لها تأثير كبير على العلاقة. لم يعودا مدفوعين فقط بشهوتهما لبعضهما البعض. وبدلاً من ذلك، بمرور الوقت، تتطور علاقة حميمة أكثر اتساعًا، والتي لها صفة تشبه الصداقة. تتبادر إلى ذهني كلمات الكاتب والشاعر الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري: "تبين لنا التجربة أن الحب لا يتمثل في التحديق في بعضنا البعض، بل في النظر معًا في نفس الاتجاه". كعاشقين، ينظر شخصان إلى عيون بعضهما البعض فقط؛ كأصدقاء، يمكنهما التطلع إلى الأمام معًا. لقد بدأا في رؤية الحياة التي تكمن وراءهما، وبدعم من بعضهما البعض - يقفان الآن في الحب - لديهما الموارد اللازمة للخطو إلى المستقبل معًا.

الأمر المثير للاهتمام في رواية أفلاطون هو أنه يعتقد أن هذه الصداقة المعززة للحياة هي نتيجة الحب المثير. فلسفته ليست إنكارًا للأيروس، بل توجيهها بمهارة، رغم صعوبة تحقيقها. وهذا ما يفسر المعنى الأصلي لعبارة "الصداقة الأفلاطونية" - ليس أن الإثارة الجنسية لم تكن أبدًا محسوسة بين هؤلاء الأصدقاء (وهي فكرة كان سيعتبرها أفلاطون شكلاً من أشكال الإنكار)، بل بالأحرى أن التعبير الجنسي عن الصداقة الأفلاطونية لا يمكن الشعور به أبدًا بين هؤلاء الأصدقاء. بل يتم دمج التعبير الجنسي للعنصر الرومانسي وتجاوزه. في المصطلحات الفرويدية، تتسامى الغريزة الجنسية. وتصبح طاقتها متاحة للسعي الشغوف للفلسفة - وهو احتمال جذاب بالنظر إلى أن الفلسفة، بالنسبة لأفلاطون، تعني تنمية الحياة التي تؤدي إلى الازدهار. وللتعبير عن نفس المشاعر بطريقة أقل خطورة، يمكن لمثل هؤلاء الزوجين أن يتوصلا ليس فقط إلى كيفية العيش معًا، بل أيضًا إلى كيفية العيش بشكل جيد معًا.

الحب الثلاثي، حيث يتم تخصيص مساحة في العلاقة للحياة (والحب) خارج حدود الزوجين، هو أعلى أشكال الحب الإنساني لأنه يجعل الحياة الجيدة ممكنة. وكما يقول الفيلسوف أنتوني برايس في كتابه "الحب والصداقة عند أفلاطون وأرسطو" (1989)، فإن "الروح الواعدة وذات الدوافع الجيدة تكون متقبلة ومستجيبة لفتح آفاق جديدة". إنه حب أقل خوفًا وأنانية من حب نرجس، وفيه مجال للآخرين على عكس عشاق أريستوفانيس الملتصقين ببعضهم البعض. وباستخدام عبارة إيريس مردوخ في قراءتها لأفلاطون، فإن هذا الحب لديه "وعي وحساسية أكبر تجاه العالم الذي يتجاوز الذات".

ولكن هذا يثير سؤالا مهما. إذا أردنا طريقة للخروج من الحدود الرومانسية، فأين يمكننا أن نشيد بأنتيروس اليوم؟ يشير كريج ستيفنسون إلى أن ما نسميه شعبيًا تمثال إيروس الموجود على نافورة شافتسبري التذكارية في بيكاديللي هو في الواقع أنتيروس. الذى نُحت عام 1893 على يد النحات ألفريد جيلبرت الذي شعر أن حياته تعكس صراعات إخوته المتنافسين على الحب. رأى جيلبرت في إيروس انعكاسًا لشخصيته المندفعة وأراد أن يختبر بنفسه الواقعية المرتبطة بأنتيروس. لا بد أنه شعر أن أنتيروس هو الإله الأنسب لاستحضاره في قلب هذا الجزء الرومانسي من لندن. أنا شخصياً أقدم لأنتيروس انحناءة خفية وموقرة في كل مرة أمر فيها. إنه شكر حذر للجانب المعقد من الحب.

(تمت)

***

............................

المؤلف: مارك فيرنون/Mark Vernon  معالج نفسي وكاتب يعمل أيضًا مع Project Love. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة اليونانية القديمة، ودرجات علمية في اللاهوت والفيزياء. وهو مؤلف كتاب التاريخ السري للمسيحية: يسوع، الحبر الأخير، وتطور الوعي (2019)، كوميديا دانتي الإلهية: دليل للرحلة الروحية (2021)، والذكاء الروحي في سبع خطوات (2022). يعيش في لندن.

رابط المقال على أيون/ AEON بتاريخ 13 فبراير 2013:

https://aeon.co/essays/true-love-lies-beyond-the-claustrophobia-of-romance

نهى الإمام عليّ أعوانه أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبى وهو فى رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال: إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقتاله منى على الصدر والنحر.

وصاح بهم يوم صفين: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم». وسن لهم آداب البطولة التى تتأسس على سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مُدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا ستراً ولا يمدوا يداً إلى مال.

ولم يكن ليغتنم الفرصة التى تأباها سنة النخوة أو تحول بينها وبين شرف البطولة إنْ فى الحرب أو فى السلم. كان عمرو بن العاص يجترئ عليه بما يغض من حقه ويقدح فى دعوته، وطفق ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة ويأمر بسبِّه على المنابر حتى وجب ردّه وإدحاض زعمه، فقال رضى الله عنه فى بعض خطبه:

 عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيِّ دعابة وأنى امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس (أمازح وأغازل النساء). لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أمَا وشر القول الكذب: إنه ليقول فيكذب، ويَعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الآل (القرابة والرحم). فإذا كان عند الحرب فأى زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إنى ليمنعنى من اللعب ذكر الموت.

وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وأنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أُتية (عطية) ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (القلة مثل العطية).

وقد جاءته الفرصة مواتية وابن العاص مُلقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالى أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفاً أن يصرع رجلاً يخاف الموت هذه المخافة التى لا يرضاها من مُنَازله فى مجال الصراع، ولو غير عليّ أتيح له أن يقضى على عمرو بن العاص لعلم أنه قاضٍ على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه.

هذه البطولة النادرة التى تأبى الهوان للأعداء لا تجهز على الضعفاء وهم أشبه بالأموات، ولا تعادى امرأة ولا رجلاً موالياً ولا جريحاً عاجزاً عن نضال ولا ميتاً ذهبت حياته ولو ذهبت فى سبيل حربه، هى بطولة لم تنفصل فى ميدان الحرب والنزال عن شواغل المعرفة الإلهية واستنباط حقائق الأشياء، ولا نسيان الآخرة أو التفكر والاعتبار بجعل ذكر الموت وطلب الحق مصادر تأسيس للعقيدة التى قامت عليها نوادر البطولة.

وهى كذلك لا تنفصل مطلقاً عن التجرد للحق والجهاد فى الله. وكذلك كان ديدن الإمام يطلب الحق من حيث هو كل لا يتجزأ ولا يعرف التفرقة بين دنيا وأخرى، لأنه حق فى الدنيا وحق فى الآخرة، وفيه يجاهد مجاهدة الشريف المستقين بما عند الله، إذ ذاك يصنع الأبطال التاريخ، وتظل الأجيال اللاحقة تستمد منهم الآمال والآفاق، ولا يزال كل أمل مع كل أفق بحاجة شديدة إلى تلمس خطى البطل، لتفتح أمام باصرته سبل الهداية ومباشرة اليقين فى طريقة السير، وتستهديه ليرشده خارطة التوجه، هنالك يكون البطل حاضراً لا يغيب.

ولذا كان لسير الأبطال وتراجم العظماء ممّن صنعوا التاريخ وأسهموا فى بناء الحضارة دورٌ فى وعينا الحاضر، وهو بلا شك دورٌ عميق بحجم الحضارة وبحجم المعرفة التى تقوم فيها.

لا يغيب دور البطولة من وعينا إلا إذا غابت عنه القيم، ولك أن تتخيل عالم نعيش فيه بغير قيم!

هذه القيم العلويّة التى يجسدها البطل كما جسدها الإمام، نحن أحوج ما نكون إليها فى مواجهة معاول القيم الرخيصة الساقطة الهدامة: قيم الغفلة والنكسة والنكوص والتردى.

فالبطولة صناعة إلهية، والأبطال فى التاريخ هم الأعلام البارزة، الرزق المبارك للبشرية، وحين يكون البطل ربيب رسالة وصفى صاحب الرسالة يكون أجدر بالبقاء فى حاضرة الوعى المعاصر وحاضنة القيم العلوية التى لا يغفلها الشباب فى كل زمن أو فى كل عصر إلا واستبدلوها، مع الغفلة، بقيم ساقطة هدّامة.

هكذا يصبح الحال مع الأبطال: مقياس تفوق وامتياز إذا وجدوا فى الأمة، ومقياس تخلف وتردى إذا فقدت الأمم وجودهم أو ظهر فيها من يتشبّه بهم لمجرد التشبه على الدعوى العريضة لا يقوم عليها دليل.

 «وللحديث بقيّة»

***

د. مجدي ابراهيم - مصر

 

مفتتح: مع مطلع كل سنة جديدة ونهاية شهر أكتوبر من كل سنة ميلادية نستذكر شخصية فكرية وثقافية أثرت في العديد من المعطيات الثقافية العربية والإسلامية، وتركت بصمتها في ذاكرة الثقافة العربية والإسلامية من طبنجة إلى جاكرتا، مثقف فكره نال قسطا كبيرا من التفكر والتأمل، ومحاضراته جابت ربوع العالم من الجزائر إلى تونس وباريس والقاهرة ودمشق وبيروت وبكين وطوكيو، لم يتوقف عن دق أجراس الوعي ويرفع الصوت عاليا من أجل النباهة الثقافية والوعي الحضاري، إنه المفكر المهندس المرحوم مالك بن نبي، هذا المثقف الثائر على الاستعمار وقابليته والمنادي بالاتحاد والوحدة والتعاون والتحرر من كل قيود الامبريالية، المفكر الذي كشف مكامن الضمور الحضاري في النفس والإجتماع العربية والإسلامية، إنه ابن الجزائر البار الذي ترك تاريخا مفعما بالعقلانية والحكمة والنباهة لمنحيات النهضة وشروطها، سنحاول في رحاب هذه السلسلة من المقالات الوقوف على أهم حيثيات نظريته الثقافية ورؤاه ومطارحاته حول الثقافة والحضارة والتربية والتاريخ والأخلاق، مع الوقوف عند بعض المنعطفات الهامة في حياته الفكرية والثقافية والتي حاولت تشويه صورته والتقليل من مشاريعه النقدية والإصلاحية، حيث نركز أساسا على رسم معالم تأسيسه الفكري والثقافي ومشواره الثقافي الممتد لقرابة خمسة عقود من الزمن...

مالك بن نبي المثقف

عرف فكر مالك بن نبي -رحمه الله -اهتماما كبيرا في العقدين الأخيرين، وشهدت صفحات الجامعات ودور النشر ومواقع الشبكة العنكبوتية العديد من الدراسات والمؤلفات والكتابات حول فلسفة الحضارة ونظريات الثقافة والحضارة والتربية عند مالك بن نبي، ونالت كتب مالك بن نبي إقبالا عظيما في معارض الكتب عبر العالم العربي والإسلامي وهناك من ذهب لمحاولة مقاربة فكر بن نبي مع مفكرين آخرين ضمن المجال العربي والإسلامي أو خارجه، فكانت مرحلة حافلة باكتشاف هذا المفكر الفريد في جغرافية العرب والمسلمين، كما كان هناك جدل حول أفكاره التجديدية وآرائه النقدية وثورته الثقافية في عصر الفكر القومي والمخاض الأصولي ضمن مهب المعركة العربية ضد المستعمر الغربي، وفي سياق كل هذه الموجة الجديدة من مكاشفة فكر مالك بن نبي تلك،هناك أسئلة مهمة، تطرح على كل من يعبر بدراسة فكر مالك بن نبي: ماذا عن مالك بن نبي المثقف؟

أصناف التعامل مع فكر بن نبي:

قد يبدو السؤال السابق للوهلة الأولى إما عجيبا أو عاديا، لكن بلحاظ كل النظرات الثقافية من طنجة إلى جاكرتا بخصوص فكر مالك بن نبي نقف على ثلاث متعاملين:

1. أولئك الذين يستغرقون في التبجيل والاطناب في عرض سطحي لافكاره الحية دون استلهام لما وراء ذلك الفكر من منهج ورؤية ومشروع وتطلع

2. أولئك الذين يستصغرون اجتهادات مالك بن نبي وتضحياته ومواقفه وآرائه التنويرية التجديدية لحاجة تاريخية في أنفسهم عطلت إرادة العبور من الفردانية إلى الشخصانية في ذواتهم والعجيب انه اغلبهم متدينون متناسين الآية من سورة فصلت..

3. أولئك الذين درسوا مالك بن نبي بروح علمية موضوعية منفتحة على تفاصيل مشروعه زمكانيا وثقافيا وانثروبولوجيا فلم يبخسوا مالك بن نبي حقه بل شكلوا جسرا للتواصل بين جيل بن نبي والزمن العربي والإسلامي المعاصر بمنهج نقدي إبداعي لا يركن عند السطح بل يغوص في الاعماق ويتجه نحو الآفاق، مؤمنا بأن التجديد تراكمي بين الأجيال لا مكان للقطيعة الكلية أو الأحادية الفكرية والتسقيط فيه، هؤولاء هم من عانقوا فكر بن نبي للنهضة وليس الخمول أو الاستهزاء..

كيف ننظر لآثار مالك بن نبي؟

الثقافة في نتاج مالك بن نبي تحتل المساحة الأكبر والمفهوم الأبرز، لكن ما وراء الثقافة بإشكالياتها ومشكلاتها ونظريتها وعلاقتها بالحضارة ومفهومها الجدلي كان هناك تجديد الرشد الاجتماعي، لأن المتفحص لمسيرة مالك بن نبي الثقافية منذ ثلاثينات القرن الماضي ولآخر يوم من حياته يكتشف أن الرجل لم يتوان لحظة عن إرشاد من حوله بمعاملات الوعي الثقافي للفرد والمجتمع..

وهنا أتساءل: متى ننظر لمالك بن نبي واقرانه من المجددين نظرة تليق بمستويات التضحية والإجتهاد والإبداع التي صنعوها في واقعهم ولاتزال تستقطب أولي الألباب؟

إن النظرة التي صورها عبد الوهاب حمودة رحمه الله ورشيد بن عيسى وعبد العزيز حمودة ومولود عويمر وأسعد السحمراني وزكي الميلاد وعبد الجبار الرفاعي وصائب عبد الحميد وغيرهم الكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، تمثل قفزة نوعية في استدعاء مرحلة الروح من جديد لدى جيل الأمة العربية والإسلامية المعاصر..

يفهم من أغلب القراءات المعمقة لفكر مالك بن نبي، أن الثورة الثقافية المعلنة من مالك بن نبي على التخلف بشتى تمثلاته، لم تكن ثورة إلتقاطية أو انتقامية، ولا ثورة بسيطة أو مصلحية ضيقة، ولكنها كانت ثورة عقلانية بسلاح العلم والمعرفة والحكمة، التقت ضمنها العلوم والقانون والتاريخ والفلسفة والأدب والفقه المقارن ومقارنة الأديان والفنون والسياسة -بمفهومها الخالص من الدجل والسحر- والإقتصاد والتربية والسوسيولوحيا والإستراتيجية وما هنالك من معارف استثمرها في بحثه لمشكلات الثقافة الكبرى. ولازلت هذه الثورة مستمرة إلى يومنا هذا، الأمر الذي يدفعنا نحو تعميق النظر والفحص والتحليل لرؤى ومطارحات مالك بن نبي الثورية الثقافية..

حتى لا نبخس بن نبي تضحياته

لكن هناك من المفكرين من وجد في أبحاث مالك بن نبي ما يدفع نحو الانقلاب عليها، وذلك بعد أن بالغ البعض في التبجيل وسطحية النظر وعدم اقتحام النسق الخاص الذي يقصد به المفكر السعودي زكي الميلاد (ما بعد مالك بن نبي)، مما دفع بفكر مالك بن نبي إلى ذروة التحنيط بدل التواصل والإبداع، هذه الوضعية أغضبت بشدة شيخ من أمثال غازي التوبة الذي اتجه نحو قلب فكر مالك بن نبي من التبجيل إلى التسقيط لنظرية الحضارة عند مالك بن نبي، متبنيا الجدلية السلفية في مقابل الجدلية الفلسفية، ومنحازا لنظرية صراع المفاهيم في مقابل نظرية صراع الأفكار عند مالك بن نبي (يمكن العودة إلى كتابه الفكر الإسلامي المعاصر ص77، دار القلم 1977،)...

خلاصة الأمر: إن التنوع حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع الحقائق، بما يؤدي إلى استثمار هذا التنوع في سياق إثراء الوعي الثقافي ورسم معالم التطلع الحضاري وتعميق خيار اكتشاف ما بعد مالك بن نبي دون أن نبخس مالك بن نبي وغيره من رواد الثقافة والوعي والنهضة في عالمنا العربي مآثرهم وأفكارهم ونضالهم وتاريخهم الحافل بالانجازات المهمة حتى اللحظة الراهنة...

(يتبع)

***

مراد غريبي - كاتب وباحث / الجزائر

 

بقلم: أنيتا غيريرو، نيكاراغوا

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

إن العنف ضد النساء والفتيات متأصل في الأعراف الاجتماعية المقبولة على نطاق واسع والتي تساهم في كثير من الأحيان في عدم المساواة بين الجنسين، بما في ذلك استحقاقات الذكور وهيمنتهم وسيطرتهم على أجساد النساء.

"من المخيف أن تعتقد أنك قد لا تعود إلى المنزل حيا في يوم من الأيام."

***

تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء  للعنف الجسدي أو الجنسي في حياتها. وفي حين لا يوجد سبب واحد لهذا العنف، فإن بعض العوامل الأقوى والأكثر ثباتا هي الأعراف الاجتماعية الضارة التي تساهم في عدم المساواة بين الجنسين.

وتستند هذه المعايير إلى المعتقدات والتوقعات المشتركة حول كيفية تصرف الناس. وهي تشمل استحقاق الذكور، والهيمنة والسيطرة على أجساد النساء والفتيات، والأدوار الصارمة للجنسين، كما أبرزها بحث أجرته منظمة أوكسفام في 12 دولة عبر أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.

تعرف على عشرة من هذه الأعراف الاجتماعية التي تدفع إلى العنف ضد النساء والفتيات.

1. يجب على المرأة أن تكون خاضعة لأفراد أسرتها الذكور في كافة جوانب حياتها:

غالبا ما تؤدي الأدوار الصارمة بين الجنسين إلى توقع خضوع المرأة لأفراد الأسرة الذكور. عندما تتزوج، يُتوقع من المرأة أن تطيع زوجها، وأن تتصرف وفقا لرغباته، وألا تسعى جاهدة من أجل اتخاذ القرار على قدم المساواة. وإذا انتهكت هذه المعايير فقد تواجه العنف الجسدي الذي يستخدمه الأزواج كعقاب أو تأديب.

وفي جزر سليمان، وافق 49% من المشاركين على أن الزوجة الصالحة يجب أن تطيع زوجها حتى لو كان مخطئا.

2. من المتوقع أن يمارس الرجال سيطرة قسرية:

في حين يُتوقع من النساء والفتيات أن يكن خاضعات، يُتوقع من الرجال أن يمارسوا السلطة والسيطرة في أسرهم وعلاقاتهم، وهو ما يمكن أن يظهر إليه بطرق مختلفة. في العلاقات التي يرجع تاريخها، يمكن أن تظهر هيمنة الذكور في شكل مراقبة الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي.

توصل بحثنا في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي  إلى أن الشباب لديهم سيطرة كبيرة على استخدام شركائهم لوسائل التواصل الاجتماعي وهواتفهم - حيث يقول 80% من الشباب أن أصدقاءهم الذكور يراقبون هواتف شركائهم الإناث.

في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي يمثل العنف ضد النساء والفتيات مشكلة كبيرة ومستمرة. على سبيل المثال، قُتلت 1831 امرأة على يد رجال في عام 2016، وتقع 14 دولة من أصل 25 دولة بها أعلى معدلات قتل الإناث في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

3. للرجال الحق في تأديب النساء بسبب سلوكهن "غير الصحيح":

كشف بحثنا أن هناك اعتقادا قويا، بين النساء والرجال على حد سواء، بأن العنف مقبول، بل وضروري، عندما يستخدمه الرجال لتأديب النساء لعدم قيامهن بمسؤولياتهن أو عندما ينتهك سلوكهن الأعراف الاجتماعية. ووجد البحث التونسي أن العنف الجسدي مبرر عندما لا تطيع المرأة زوجها.

وفي جزر سليمان، وافق 65% من النساء و35% من الذكور على عبارة "من المقبول أن يضرب الرجل زوجته ويؤذيها إذا لم تقم بالأعمال المنزلية حسب رغبته".

4. لا تستطيع المرأة إنكار جنس شريكها الذكر:

في العلاقات الحميمة، تخضع خيارات النساء والفتيات فيما يتعلق بأجسادهن لسيطرة شركائهن الذكور والاعتقاد بأن أجساد النساء يجب أن تكون متاحة دائمًا للرجال. وتساهم هذه المعايير في اغتصاب الشريك الحميم وغيره من أشكال سوء المعاملة، وهي أكثر أشكال العنف شيوعا ضد النساء والفتيات.

يقول الشباب في تونس أن المرأة يجب أن تكون مستعدة دائمًا لإشباع رغبات الرجل الجنسية. وفي جزيرة سليمان، يعتقد 52% من الرجال أن المرأة ملزمة بممارسة الجنس مع زوجها حتى لو لم ترغب في ذلك.

5. التحرش الجنسي أمر طبيعي:

تساهم الأنماط السائدة حول الحق الجنسي للذكور في السيطرة على أجساد النساء في التحرش الجنسي وغيره من أشكال العنف الجنسي. وفي كولومبيا، قالت امرأة شابة: "أعتقد أن كل شيء ينشأ من حقيقة أن الرجال ينظرون إلينا كأشياء جنسية وكأشخاص يحتاجون إليهم لإشباع احتياجاتهم الجنسية".

ويتجلى ذلك بقوة من خلال البحث الإقليمي الذي أجرته  والذي وجد أن 75% من الشباب ذكروا أن أصدقائهم الذكور يعتقدون أن التحرش أمر طبيعي.

في كل عام، تتزوج 15 مليون فتاة قبل سن الثامنة عشرة. وأغلب هؤلاء الفتيات محرومات من حقوقهن الإنسانية الأساسية في الصحة والتعليم والسلامة والسلامة البدنية.

6. تتعرض النساء للعنف بسبب ارتداء ملابسهن "الاستفزازية":

من بين البلدان المشاركة في الدراسة، من الشائع رؤية المجتمعات تلقي اللوم على تصرفات المرأة لتبرير الحق الجنسي للذكور والعنف. غالبا ما يتم وضع وصمة العار على أولئك الذين تعرضوا للعنف - وإلقاء اللوم على الناجين بسبب سوء المعاملة.

وفي البحث الإقليمي الذي أجرته لاك LAC، ألقى سبعة من كل 10 شبان تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاما باللوم على النساء في العنف الذي تعرضن له بسبب ارتدائهن ملابس "استفزازية" أو الخروج إلى الشارع في وقت متأخر من الليل.

7. يجب أن تصبح جميع النساء أمهات:

تعود جذور العنف ضد النساء والفتيات إلى اختلال توازن السلطة الأبوية بين الرجل والمرأة، وإلى الاعتقاد السائد بأن الرجال يحمون أسرهم ويعولونها ويتمتعون بالسلطة عليها، وأن النساء الصالحات يعطين الأولوية لصحة ورفاهية أسرهن. إن أهم أدوار المرأة بعد الزواج هي خدمة زوجها وإنجاب الأطفال وتربيتهم.

وجدت دراسة  لاك  أن 79% من الشابات يعتقدن أن "جميع النساء يجب أن يصبحن أمهات". وهذه المعتقدات قوية للغاية لدرجة أن إحدى الشابات في كوبا قالت: "أعتقد أن كل امرأة هي أم، حتى لو لم يكن لديها أطفال".

8. يتم تقدير الفتيات كزوجات وليس كأفراد:

بالنسبة للفتيات، فإن التوقع الاجتماعي لإظهار الخضوع يمكن أن يؤدي إلى الزواج المبكر، والذي يستخدم أيضا للتحكم في حياتهن الجنسية. غالبا ما يُنظر إلى أجساد الفتيات على أنها أصول يمكن أن تنخفض أو تزيد قيمتها اعتمادا على تصورات المجتمع ومفاهيمه حول مساهمة "الشرف" في الزواج المبكر. في نيجيريا، تم تلخيص ذلك على النحو التالي: "أنت تستحقين كزوجة أكثر من كونك ابنة."

لقد أُجبرت أكثر من 700 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم على الزواج قبل سن الثامنة عشرة. وهؤلاء الفتيات أقل احتمالا للذهاب إلى المدرسة، ويميلن إلى المعاناة من مشاكل الصحة الجنسية والإنجابية، وأكثر عرضة للتعرض للانتهاكات من قبل أزواجهن.

"نحن بحاجة إلى كسر دائرة العنف. لفضح الوحوش في المنزل. يجب علينا تثقيف جيل جديد حول إنهاء العنف ضد المرأة. لوريتا تايكا، من جزر سليمان، التي تستخدم فن الشارع لتقول كفى للعنف ضد النساء والفتيات.

9. العلاقة بين الجنسين هي التوجه الجنسي الوحيد المقبول:

يؤدي التمييز والتهميش إلى جعل بعض النساء والفتيات أكثر عرضة للعنف، وهذا يشمل النساء والفتيات ذوات الإعاقة، والمطلقات والأرامل، والعاملات في مجال الجنس، والنساء المثليات والمتحولات.

وجد البحث الإقليمي الذي أجرته LAC أن 73% من الشابات (20-25) و67% من الشباب (20-25) يعتقدون أن أصدقاءهم يعتقدون أن المثليات لا ينبغي أن يظهرن ميولهن الجنسية في الأماكن العامة.

10. المطلقة أقل قيمة:

تواجه النساء المطلقات والأرامل أشكالا معينة من العنف بسبب المعتقدات التمييزية حول أدوار المرأة وقيمتها.

وفي بابوا غينيا الجديدة، سلط البحث الضوء على تهميش النساء المطلقات والأرامل، اللاتي يُنظر إليهن على أنهن أقل قيمة - لأنهن لم يعد لديهن القيمة النقدية لمهر العروس. علاوة على ذلك، فهي تعتبر ملكا لعائلة القانون التي دفعت ثمنها في المقام الأول. ولذلك، فإنهم لا يحظون بالاحترام في عائلاتهم، وفي كثير من الأحيان لا يتمتعون بالحماية من العنف.

وجد البحث الإقليمي الذي أجرته لاك أمريكا اللاتينية والكاريبي أن 59% من الشباب والشابات (20-25) يعتقدون أن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل النساء يعانين من العنف هو افتقارهن إلى الاستقلال المالي.

دعونا نتوقف عن التفكير أنه أمر طبيعي

في كل يوم، وفي كل مكان، وفي جميع أنحاء العالم، تواجه النساء والفتيات العنف. يمكننا تغيير هذا.

إن حملة أوكسفام العالمية "كفى" لإنهاء العنف ضد الفتيات تجمع الناس من جميع الأجناس والأعمار والخلفيات معًا لتغيير الوضع الطبيعي. ويهدف إلى تحدي وتغيير الأعراف الاجتماعية الضارة التي تبرر الانتهاكات، إلى تلك التي تعزز المساواة بين الجنسين واللاعنف.

***

.......................

حقوق الطبع والنشر © 2024 أوكسفام الدولية. كل الحقوق محفوظة.

https://www.oxfam.org/en/ten-harmful-beliefs-perpetuate-violence-against-women-and-girls

 

إشكالية فكر وعجز تجربة وفواتير باهظة

 غصّت الحياةُ السياسية العربية منذ مطالع القرن العشرين بالصيغ والتجارب الحزبية السياسية التي تشكلت على خلفية تحولات سياسية وعسكرية واجتماعية عربية ودولية، لم يكن فيها للعرب والمسلمين الدور المهم والكبير لناحية إثبات الحضور والمشاركة في البناء الوطني والقومي.. فقد كان للدول الكبرى الأثر الأكبر والأشد تأثيراً في اقتسام كعكة النفوذ والمصالح الاقتصادية في منطقتنا هذه..

ومن الواضح أن نشوء الأحزاب العربية في تلك الفترة لم يكن يحظى بالشعبية المطلوبة لإحداث التغيير الداخلي المنشود، بل كانت بمجملها صدى للآخر، رغم رفعها شعارات نوعية كبرى لناحية الاستقلال والتحرر، ومحاولة تنظيم انقسامات المجتمع وصراعاته الأفقية والعمودية، ومن ثم ضرورة العمل على البناء والنهضة..

أطلق على تلك الأحزاب التي حملت لبنات الاستقلال الوطني الأولى بالأحزاب الوطنية التي حكمت بعض بلداننا العربية بعد نهاية عهد الاستعمار الخارجي..

لكن الواضح أن الصيغ والتجارب الحزبية الأشد تأثيراً وقوة في مجمل الحياة السياسية العربية كانت تجارب حكم الأحزاب الواحدية التي رفعت شعارات كبرى للبناء السياسي والاجتماعي العربي، باسم التحديث والتنمية والتقدم والنهضة العلمية، فسيطرت على كل الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، ولكن للأسف دونما تحقيق لأدنى تلك الشعارات الكبرى..!!. حيث بقي الصراع والعنف والعصبيات الحزبية والتاريخية مهيمنة رغم محاولات قمْعها وحبْسها في القمقم.

لقد قامت الأحزاب العقائدية الشمولية "المشحصنة" بنزع السياسة من المجتمع، واقتصار ممارسة السياسة على إطار واحد، ممسك بكل مفاصل المجتمع، ومنعه خارج هذا الإطار، باعتباره القائم على السلطة "متعهد التنمية"، أي أنها بنت وجودها كله على حكم الفرد والإيمان بقدراته الخارقة، وأنتجت هياكل إدارية بيروقراطية واسعة وعميقة، وبنت أيضاً أنظمة قوية متماسكة وصلبة، ولكن كل ذلك جاء على حساب تضعيف ما تبقى من مؤسسات وهياكل الدولة-الأم، مما أفقدها قدرتها على السير الطبيعي الطوعي نحو أهدافها التنموية السياسية والاقتصادية كأية دول أخرى، عبر الاشتغال اليومي الروتيني الطبيعي على تأمين مصالح الناس والمجتمع، خاصة وأنها (أي الدول الشمولية العقائدية) قدمت نفسها على أساس أنها "دولة-رعاية" و"دولة-أم"، اجتماعية وعملية..

هذا الفهم والنهج والموروث السياسي القومي الذي سلكته أحزاب القومية العربية بالذات (يسارها ويمينها على حد سواء)، والذي لم يبدأ مرحلة الانحسار الحقيقي الآن، بل منذ زمن الناصرية وخروج حزبها من السلطة في مصر، مروراً بحركات التحرر القومية في عدة دول عربية أخرى، أقول: هذا الفهم والمنهج المكرّس لعقلية الاستفراد وسلوكية الحكم الشمولي الواحد هو الذي مهّد الطريق وهيأ الأجواء لتعمق الأمراض الاجتماعية والسياسية وإثارة الضغائن الداخلية وتفجر الغضب الشعبي ضد فواتير حكم تلك الدول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي فواتير باهظة التكاليف والأثمان على كل المستويات والأصعدة.. حيث أضحى كل الناس يتساءلون عن ماهية الحصيلة الإنتاجية الوطنية والقومية لعقود طويلة من تطبيق استراتيجيات السياسة والاقتصاد والتنمية والتقدم العلمي وغير العلمي المفترض أنها كرستها وتبنتها وطبقتها تلك الأحزاب المشخصنة.. فماذا تحقق؟! وأين هي الإنجازات النهضوية العمرانية التنموية الكبرى بالمقارنة مع دول أخرى سبقتها أشواطاً في البناء والتنمية والتقدم والتطور العلمي ووإلخ؟! هل تمت الاستفادة من ثرواتها ومواردها الهائلة في طريق الصالح العام المجتمعي أم في طريق الذات الفردية؟!..

لقد دفعت كثير من مجتمعات العرب المحكمة عقائدياً وشمولياً الأثمان والتكاليف المادية والمعنوية لتلك السياسات الاجتماعية من مستقبلهم ومستقبل أجيالهم الاقتصادي والاجتماعي، وهم الذين تحمّلوا أيضاً عبء المعاناة الشديدة المتواصلة من هيمنة وسطوة قوانين الفشل التنموي والاقتصادي وأحكام الاستثناء وسطوة البيروقراطية المستبدة، وتعطيل العمل بالقوانين والدساتير، والقفز فوق العدالة، بعد الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع، وإخراجه بالقوة من فضاء السياسة العام الذي كان من المفترض أن يتحمل هؤلاء الناس أنفسهم -عبر مختلف أنواع الجسور والتوسّطات ما بين الدولة والمجتمع- مسؤولية المشاركة في تحديد مسيرته واتجاهاته وبرامجه ومختلف سياساته.. لكي يكون لهم دور مهم في بناء بلدهم ومجتمعهم..

وبالنظر لعدم وجود إمكانية لنشوء تلك التوسّطات المجتمعية المدنية القادرة على تأمين مصالح المجموع العام في مواجهة سطوة النظام وهيمنته على كل مفاصل الدولة، بحيث أصبحت الدولة القائمة دولة النخبة لا دولة الأمة، كان من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى تكوينات مجتمعية أهلية محلية تساعدهم في قضاء حوائجهم وكسب معاشهم وقوتهم، وتلبية الحدود الدنيا من عيشهم..

إن انزياح الدول العقائدية المشخصنة –كسلوك عمدي انتهجته نخب الحكم الطغيانية- عن مهمتها الأساس في البناء المؤسسي المدني المتين الراسخ والقائم على حكم المواطنة والقانون والحقوق، وخدمة تطلعات أبنائها وتنمية اجتماعها ومواطنيها، وتحقيق درجة متقدمة من التطور السياسي والعدالة الاجتماعية والمساواة لهم، بعد تأمين متطلبات عيشهم الوجودي المادية والرمزية كمواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، من دون تمييز ولا تفرقة طائفية أو جهوية أو اثنية أو قومية، واتجاهها لتكون دولة "النخبة" الخاصة و"الطليعة الحزبية الثورية" العاجية، إن ذلك الانزياح المقصود هو الذي دفع وبقوة الغالبية العظمى من مكونات مجتمعها الاثنية والطائفية والأقوامية والمذهبية إلى كراهية تلك الدول النخبوية، والحقد عليها، وتبني عداوتها بصورة عمياء، بل والرغبة العارمة في مواجهتها وإسقاطها.. أي إصدار حكم إعدام نهائي بحقها.

وقد جاء انحسار الدولة أو المرحلة السابقة من السلطة في خضمّ تلك الصراعات الدموية، نتيجة الدفع بعامل القسر والإكراه والضغط الذي مارسته تلك الأحزاب الشمولية النخبوية التي استنزفت دولها، بحق أبنائها ومجتمعاتها الأهلية.

من هنا يمكن القول بأن التعايش الاضطراي الذي فُرض على مجمل المكونات السياسية والتكوينات المجتمعية في تلك البلدان (أقليات عرقية ودينية وأقوامية ومذهبية) التي حكمها حزب واحد وفرد واحد ومنظومة واحدة حديدية صلبة، لم يستمر طويلاً حتى انكشف ما تحته من تصدعات وتخلخلات وتشظيات، كانت محجوبة زمناً طويلاً بحجاب سميك من شعارات: المصلحة القومية العليا، وحتمية المواجهة التاريخية والصراعات الكبرى، وغيرها.. ولكن سرعان ما تبين أن حضور تلك المكونات القديمة المخفية في ذاتية الأفراد والمجتمع أقوى وأرسخ وأكثر تجذّراً من حضور أية شعارات ومقاصد وأهداف سياسية عامة أو خاصة بهذا الحزب أو ذاك، وأنّ كلَّ محاولات السيطرة عليها أو تطويعها أو إلغائها طوعاً وقسراً لم ولن تجدي نفعاً على الإطلاق.. كما تبين أن اندماج تلك التنوعات والمكونات المجتمعية لم يحدث بصورة عملية واقعية، ولم يكتمل بصورة طبيعية حقيقية في صلب المشروع الوطني العام، بسبب سياسات القهر والردع والكبت والقسر والوصاية والهيمنة السلطوية الفوقية التي طبّقتها عليه تلك النخب المستأثرة بالثروة والقوة والسلاح.

ولأنَّها استُبْعِدتْ قسرياً، لمْ تشارك تلك المكوّنات في بناء الهيكل الوطني التاريخي العام لبلدانها الأم، حتى مع بعض حالات الاختراق التي نجحت فيها تلك السلطات في كسب ود بعض ممثلي تلك المكونات القومية والدينية، ولكن بقيت الغالبية العظمى منها مستبعدة عن ساحة المشاركة الوطنية، ومقصيّة عن ساحة العمل الوطني العام التي يفترض أن يتشارك فيها الجميع، وأن تتسع للجميع بحكم أن النتائج ستؤثر على الكل سلباً أم إيجاباً..

ولهذا يأتي تأكيدنا الدائم على أن الأيديولوجيات الشمولية والقناعات الشعبوية الثابتة (دينية كانت أم علمانية) التي تبنتها دول النخبة العقائدية، وأحزاب العقائد الاصطفائية الخلاصية العربية (على المقاس والنمط الهتلري الألماني والشيوعي الستاليني السوفييتي العتيق الراحل لغياهب التاريخ) والتي حكمت بعض بلدان العرب والمسلمين بقوة الحديد والنار وقهر الناس والمجتمعات، وفرضتْ رؤاها وقناعاتها وسياساتها الذاتية والموضوعية الفاشلة والعقيمة (بحكم التجربة التاريخية المريرة التي مررنا بها معها طيلة ستين سنة تقريباً) على الجميع (أقليات وغير أقليات) لا تبني أكثر مما تهدم، ولا تقدم أكثر مما تؤخّر، ولا تطوّر المجتمعات والدول أكثر مما تجعلها عرضة باستمرار وعلى الدوام للفتن والاضطرابات والعنف والصراعات والحروب الأهلية بين وقت وآخر.. كما أنّ الأفكار والقناعات "الهوياتية" المغلقة (الزائفة بطبيعة الحال) لا تحضر الشعوب والأمم، ولا تمنحها صفة المدنية والحداثية، وتضع أمامهم كل معوقات التنمية الإنسانية.. خاصّة مع توظيفها لمقدرات الدولة لخدمة أجندات مصلحية ونفعية خاصة.. وهذا ما قامت به تلك النخب التي بنت نظماً قوية تضخمتْ وتورمتْ مختلف أبنيتها وأجهزتها الإكراهية الذاتية على حساب تآكل و"تقزيم" و"تفشيل" مؤسسات وهياكل الدولة الأساسية البنيوية التي تعيش في كنفها، وتستنزف خيراتها وتنهب مقدراتها.

إنّ تلك الأحزاب العقائدية -ودول ومجتمعات النخب العقائدية- لا يمكن أن تؤسس أو تبني فعلياً وواقعياً (كما جرى وحدث في كثير من دولنا ومجتمعاتنا العربية وغير العربية على امتداد عقود طويلة من حكمها التسلطي البوليسي الأرعن والدموي) مجتمعات التنمية الإنسانية، ودول الحكم المدني الصالح، لأنها تقوم وجودياً على النقيض الوجودي من فكرة الإنسانية ذاتها ومن فكرة التنمية نفسها، فالشمولية والمركزية والهيمنة والتحكم والتّسلُّط والفردية هي عناصر الحكم العقائدي، بينما التنمية تشارُك، وخدمات ومؤسسات، وتبادل أفكار ومعطيات، والتنمية تنمية الفرد، وتنظيم مهاراته، باعتباره حجر الزاوية في بناء وتطوير ومن ثم تنمية أي مجتمع، حيث أنه لا يمكن لأي بلد أن ينمو وينهض ويتنامى ويتقدم على طريق الرقي الحضاري العلمي والتقني من دون تنمية أفراده ثقافياً وعلمياً ومعرفياً، وهذا شرط أساسي لازم، وكذلك العمل أيضاً على رفع مستواهم ومداخيلهم عبر زيادة إنتاجية الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف الكبير.

كما لا يمكن السير في طريق التنمية الصحيح من دون وجود نظام معرفي قيمي عملي يمكنه دفع وتحريض وتحفيز أجمل وأرقى ما في داخل الفرد من طاقات ومواهب وإمكانات هائلة للبناء والعمل المنتج الخلاق.. فالإنسان العربي –الذي لم يرق ليصبح مواطناً بعدْ نتيجة عهود الطغيان وحكم الأيديولوجيات العقائدية الشمولية- يمتلك قدرات وطاقات خلاقة ومبدعة إذا ما تم استثمارها على طريق العمل والبناء والتطوير بعد معرفتها ووعيها من الداخل أولاً، وثانياً بعد خلق الأجواء المجتمعية الملائمة لنموها وتكاملها على مستوى الخارج والفعل العملي التجريبي.

ومسؤولية المثقف على هذا الطريق كبيرة، وهي تتركز على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه المساهمة في بناء الوعي الفعّال لدى أفراد الأمّة لمواجهة (وإسقاط) ثقافة العسكرة والقطيع و"الإمّعية"، وتفكيك منظومات العقليات الأيديولوجية التي تسببت في إعاقة هذا النمو، و"تفشيل" التنمية والتقدم الحقوقي المدني الحر.

***

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

يبدو أن المعلوماتية تتحول بالتدريج إلى أسرع القطاعات نمواً في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريباً. وإذا صحت هذه الفرضية، فيمكن استنتاج أن هذا القطاع سيكون مصنع الثروات في السنين القليلة القادمة.

هذه فكرة متداولة يعرفها معظم الناس على الأرجح. لكنني أتساءل دائماً: كيف نحول الأفكار إلى مصدر للثروة؟ دعني أضرب مثالاً بجان كوم، وهو مهاجر أوكراني شارك زميله برايان أكتون في تطوير برنامج التراسل الشهير «واتساب» عام 2009. وفي 2014 دفعت شركة «فيسبوك» 19 مليار دولار للاستحواذ عليه. لا أتوقع –بطبيعة الحال– أن أرى مثل هذه التجربة كل يوم؛ لكنني أستطيع القول من دون تحفظ إن الجزء الأعظم من الثروة القومية للولايات المتحدة الأميركية يأتي من هذا المصدر، أي تحويل الأفكار إلى أموال.

في السنوات الماضية، كان يقال إن تجارة الأراضي هي الطريق السريعة والآمنة لصناعة الثروات؛ لكننا نعلم أنها طريق لعدد محدود جداً من الناس؛ لأنها تحتاج إلى رساميل ضخمة. كما أن هذا يبقى عملاً فردياً في الغالب، ولا يعود بثمرات مهمة على الاقتصاد الوطني.

أما اليوم، فإنني أدعي أن اقتصاد المعرفة -لا سيما قطاع المعلوماتية والبيانات بكل تفرعاته- يمثل الطريق الحقيقية للثروة، ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على المستوى الوطني أيضاً. ثمة ميزات في هذا القطاع تجعل المجتمعات العربية قادرة على المنافسة على المستوى العالمي، إذا حولت اهتمامها بصناعة المعلوماتية، وخصوصاً البرامج، من الاستهلاك أو المتاجرة البسيطة، إلى الابتكار والصناعة في كافة المجالات، بدءاً بألعاب الأطفال حتى إدارة المدن الكبرى.

سأركز هنا على ميزتين أراهما واضحتين لكل قارئ:

الأولى: أن هذا الحقل الاقتصادي لا يعمل إلا ضمن شبكات. لا يربح الفرد إلا إذا ربح كثيرون آخرون. وهذه حقيقة اكتشفها مبكراً عالم الاجتماع الأميركي– الإسباني مانويل كاستلز، وكتب عنها بالتفصيل في ثلاثيته المسماة «عصر المعلومات- 1996». ومن هنا فإن ثمرات العمل لا تنحصر في شخص أو عدد محدود؛ بل تتسع لمئات وآلاف من الناس. إن برنامج الكومبيوتر يشبه الفكرة التي يبدعها شخص، ثم يطورها شخص آخر، ويستثمرها ثالث في استنباط فكرة مختلفة، وهكذا تتواصل وتتعدد استعمالاتها وعدد المستفيدين منها، في الإنتاج والاستعمال. تخيل الآن عدد الناس الذين يستعملون «واتساب» في أعمالهم، وحجم الأرزاق والمعايش التي تمر عبره، والفوائد المالية التي يجنيها ملايين المستعملين في أصقاع العالم، والعوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الأميركية بسببهم.

الميزة الثانية: لقد تأخرنا في دخول حقل الصناعة؛ لا سيما في مستوى التقنيات العالية. وقد بدأت المجتمعات الأخرى منذ قرن أو أكثر، فاللحاق بهم يتطلب مضاعفة السرعة في التعلم والتطبيق والاستثمار لاختصار الطريق. أما حقل المعلوماتية، فالعالم كله حديث العهد به. خذ مثلاً الصين التي انضمت إلى هذا المجال في مطلع القرن الجديد، وباتت اليوم تنافس الدول الأكثر تقدماً في مختلف جوانبه. ومن هنا فإن المسافة الزمنية بيننا وبين الأكثر تقدماً، تعد ببضع سنوات وليس أكثر. ما نحتاج إليه في الحقيقة هو الثقة بالذات؛ إضافة إلى الإجراءات العملية البعيدة المدى.

يهمني جداً التأكيد على «الثقة بالذات» لأنني أشعر بأن العرب يفتقرون إليها. ولعل هذا سر تفاخرهم الكثير بأشخاصهم وأنسابهم. وأبسط دليل على افتقارنا لهذا، هو أن تطوير الحوسبة باللغة العربية جرى في كندا وإسرائيل، وليس في أي بلد عربي، بخاصة بعد إخفاق التجربة الكويتية الرائدة التي تزعَّمها المرحوم محمد الشارخ، صاحب مشروع «صخر» الكومبيوتر العربي الرائد.

أود اختتام هذه الكتابة بالتأكيد على أن إقامة بيئة حاضنة ومحفزة لصناعة المعلوماتية على المستوى الوطني، في كل بلد عربي، تحتاج إلى مقدمات، تبدأ من إدراج البرمجة في الصفوف الابتدائية، ثم جعلها منهجاً إلزامياً في المرحلة المتوسطة. هذا سينتج جيلاً كاملاً من رواد الصناعة. وهناك عوامل أخرى ربما نعود إليها في كتابة لاحقة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

كيف تقوم شبكة من المفكرين بتحويل الرأسمالية بعد عقود من هيمنة اليمين، حيث تعمل حركة عبر الأطلسي من الاقتصاديين اليساريين على بناء بديل عملي لليبرالية الجديدة.

تمكن التيار اليساري منذ سبعينيات القرن الماضي من تغيير طريقة تفكير الكثير من الناس حول التحيز والهوية الشخصية والحرية. وكشف قسوة الرأسمالية وتوحشها. لقد فازت بعض الأحزاب اليسارية في بعض الأحيان بالانتخابات، وفي أحيان أخرى تولى اليسار الحكم بفعالية بعد ذلك. ولكن الأحزاب اليسارية لم تكن قادرة على إحداث تغيير جذري في الكيفية التي تعمل بها الثروة والعمل في المجتمع ــ أو حتى تقديم رؤية مقنعة لكيفية القيام بذلك. باختصار، لم يكن لدى اليسار في الدول الغربية سياسة اقتصادية منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان.

وبدلاً من ذلك، كان لليمين رؤية واحدة تتمثل في الخصخصة، وإلغاء القيود التنظيمية، وخفض الضرائب على الشركات والأغنياء، ومنح المزيد من السلطات لأصحاب العمل والمساهمين، وتقليص السلطات للعمال ــ كانت هذه السياسات المتشابكة سبباً في تكثيف الرأسمالية، وجعلها أكثر انتشاراً في كل مكان أكثر من أي وقت مضى. لقد بُذلت جهود هائلة لجعل الرأسمالية تبدو حتمية؛ لتصوير أي بديل على أنه مستحيل.

في هذه البيئة المعادية على نحو متزايد، كان النهج الاقتصادي الذي يتبناه اليسار قائماً على رد الفعل ــ فيقاوم هذه التغيرات الضخمة، دون جدوى في كثير من الأحيان ــ وغالباً ما يكون متخلفاً، بل وحتى حنيناً إلى الماضي. ولعقود عديدة، استمر نفس المحللين النقديين للرأسمالية، كارل ماركس وجون ماينارد كينز، في الهيمنة على خيال اليسار الاقتصادي. توفي ماركس في عام 1883، وكينز في عام 1946. وكانت المرة الأخيرة التي كان فيها لأفكارهما تأثير كبير على الحكومات الغربية أو الناخبين الغربيين قبل أربعين عاماً، خلال الأيام الأخيرة المضطربة للديمقراطية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية. منذ ذلك الحين، قام اليمينيون والوسطيون بتصوير أي شخص يجادل بأنه يجب كبح جماح الرأسمالية -ناهيك عن إعادة تشكيلها أو استبدالها- بشكل كاريكاتوري على أنه يريد إعادة العالم "إلى السبعينيات". لقد تم تقديم تغيير نظامنا الاقتصادي باعتباره ضرباً من الخيال، وليس أكثر عملية من السفر عبر الزمن.

ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأ هذا النظام في الفشل. وبدلاً من الرخاء المستدام والمشترك على نطاق واسع، فقد أنتج ركود الأجور، وتزايد أعداد العمال الذين يعانون من الفقر، والمزيد من عدم المساواة، والأزمات المصرفية، وتشنجات الشعبوية، والكارثة المناخية الوشيكة. وحتى كبار السياسيين اليمينيين يعترفون أحياناً بخطورة الأزمة. يعتبر جزء من المحافظين في الغرب بأن هناك فجوة انفتحت بين النظرية حول كيفية تحقيق اقتصاد السوق والواقع، حيث يشعر الكثير من الناس أن النظام لا يعمل لصالحهم.

هناك إدراك واضح للحاجة إلى نوع جديد من الاقتصاد: أكثر عدالة، وأكثر شمولاً، وأقل استغلالاً، وأقل تدميراً للمجتمع والكوكب. نحن في وقت أصبح فيه الناس أكثر انفتاحاً على الأفكار الاقتصادية المتطرفة. لقد ثار الناخبون الغربيون ضد الليبرالية الجديدة. واعترفت المؤسسات الاقتصادية الدولية ــ البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ــ بجوانبها السلبية. من ناحية أخرى، تسببت الأزمة المالية في عام 2008 والتدخلات الحكومية التي لم يكن من الممكن تصورها في السابق والتي أوقفتها في تشويه اثنتين من المعتقدات النيوليبرالية المركزية: أن الرأسمالية من غير الممكن أن تفشل، وأن الحكومات لا تستطيع التدخل لتغيير الكيفية التي يعمل بها الاقتصاد.

شبكات ناشئة بديلة

في بريطانيا والولايات المتحدة، وهما الدولتان الغربيتان الأكثر رأسمالية من نواحٍ عديدة، وتلك التي تكون فيها مشاكلها أكثر وضوحاً، انفتح مجال سياسي ضخم. بدأت شبكة ناشئة من المفكرين والناشطين والسياسيين في اغتنام هذه الفرصة. إنهم يحاولون بناء نوع جديد من الاقتصاد اليساري: اقتصاد يعالج عيوب اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ولكنه يفسر أيضاً بطرق عملية، كيف يمكن للحكومات اليسارية المستقبلية أن تخلق اقتصاداً أفضل.

يهدف أعضاء هذه الشبكات إعادة الاقتصاد إلى الأساسيات. يدفعون الاقتصاديون للتساؤل حول من يملك هذه الموارد؟ من يملك السلطة في هذه الشركة؟ لأن الخطاب الاقتصادي التقليدي الحالي يحجب هذه الأسئلة لصالح أصحاب السلطة.

ويريد الاقتصاديون اليساريون الجدد أن يشهدوا إعادة توزيع القوة الاقتصادية، بحيث يملكها الجميع ــ تماماً كما يحتفظ الجميع بالسلطة السياسية في ظل ديمقراطية سليمة. يمكن أن تتضمن عملية إعادة توزيع السلطة هذه حصول الموظفين على ملكية جزء من كل شركة، أو الساسة المحليون الذين يعيدون تشكيل اقتصاد مدينتهم لتفضيل الشركات المحلية الأخلاقية على الشركات الكبيرة، أو الساسة الوطنيون الذين يجعلون التعاونيات قاعدة رأسمالية.

هذا "الاقتصاد الديمقراطي" ليس خيالاً مثالياً: إذ يجري بالفعل بناء أجزاء منه في بريطانيا والولايات المتحدة. وبدون هذا التحول ـ كما يقول الاقتصاديون الجدد ـ ستزداد عدم المساواة في العالم، وقريباً ستجعل القوة الاقتصادية الديمقراطية نفسها غير قابلة للتطبيق. وهم يؤمنون بأنه إذا أردنا العيش في مجتمعات ديمقراطية، فعلينا أن نسمح للمجتمعات بتشكيل اقتصاداتها المحلية.  كتب الاقتصاديان البريطانيان "جو جينان" Joe Guinan و"مارتن أونيل" Martin O’Neill وكلاهما من المدافعين عن الاقتصاد الجديد، في مقال نشر مؤخراً لمعهد التنمية العامة. أبحاث السياسات (IPPR) – مؤسسة فكرية كانت مرتبطة سابقاً بحزب العمال الجديد. "لم يعد من الجيد بما فيه الكفاية أن ننظر إلى الاقتصاد باعتباره مجالاً تكنوقراطياً منفصلاً لا تنطبق عليه القيم المركزية للمجتمع الديمقراطي بطريقة أو بأخرى". علاوة على ذلك، يزعم جينان وأونيل أن جعل الاقتصاد أكثر ديمقراطية من شأنه أن يساعد في واقع الأمر في تنشيط الديمقراطية: فمن غير المرجح أن يشعر الناخبون بالغضب، أو اللامبالاة، إذا تم إشراكهم في القرارات الاقتصادية التي تؤثر بشكل أساسي على حياتهم. كما أصدر الاثنان في عام 2020 كتاب "قضية بناء الثروة المجتمعية" The Case for Community Wealth Building والذي تم اختياره كأحد أفضل الكتب السياسية لصحيفة الغارديان لعام 2021.

ثورة لا عنفية

إن المشروع الطموح للغاية الذي يتبناه الاقتصاديون الجدد يعني تحويل العلاقة بين الرأسمالية والدولة، بين العمال وأصحاب العمل، بين الاقتصاد المحلي والعالمي، وبين من يملك أصولاً اقتصادية ومن لا يملكها. أعلن تقرير في العام الماضي صادر عن مؤسسة الاقتصاد الجديد (NEF)، وهي مؤسسة بحثية راديكالية في لندن عملت كحاضنة للعديد من أعضاء الحركة الجديدة وأفكارها: "يجب أن تكون القوة الاقتصادية والسيطرة متساوية بشكل أكبر".

في الماضي، حاولت حكومات يسار الوسط الغربية إعادة تشكيل الاقتصاد من خلال فرض الضرائب ــ التي تركز عادة على الدخل وليس الأشكال الأخرى من القوة الاقتصادية ــ ومن خلال التأميم، الذي كان يعني عادة استبدال نخبة إدارة القطاع الخاص بنخبة إدارة الدولة المعينة. وبدلاً من مثل هذه التدخلات المحدودة الناجحة على نحو غير مكتمل، يريد الاقتصاديون الجدد أن يروا تغييراً أكثر منهجية واستدامة. إنهم يريدون ــ على الأقل ــ تغيير الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية. ولكن الأهم من ذلك أنهم يريدون أن يتم البدء بهذا التغيير والإشراف عليه بشكل جزئي فقط من قبل الدولة، وليس السيطرة عليها. وهم يتصورون تحولاً يحدث بشكل عضوي تقريباً، مدفوعاً بالموظفين والمستهلكين ــ وهو نوع من الثورة اللاعنفية التي تتحرك ببطء.

والنتيجة، كما يزعم الاقتصاديون الجدد، ستكون اقتصاداً يناسب المجتمع، وليس مجتمعاً خاضعاً للاقتصاد ـ كما هي الحال الآن. ويشيرون إلى أن الاقتصاد الجديد ليس اقتصاداً على الإطلاق. إنها "رؤية جديدة للعالم".

في عالم السياسة الغربية المثير للانفعال والهدوء الفكري في كثير من الأحيان، فإن وصول مجموعة جديدة مهمة من الأفكار يميل إلى توليد استجابات معينة، حيث ينجذب إليها الباحثون الشباب الطموحون، والمفكرون الأكبر سنا، وكذلك يُفتن بها المغامرون. ويتم إنشاء مؤسسات فكرية جديدة حولها.

خلال الأعوام الماضية، اكتسب اقتصاد اليسار الجديد هذه المكانة. رغم أن الكثيرين فشلوا إلى حد كبير، في إقناع السياسيين الغربيين الوسطيين بأن الاقتصاد يحتاج إلى إعادة تشكيل جذرية.

يصف البعض الشبكة الناشئة من الاقتصاديين الجدد بأنها "نظام بيئي". مثل تلك التي أنتجت التاتشرية في السبعينيات، قد لا تضم هذه الشبكة سوى بضع عشرات من الأشخاص، الذين يتابع جمهور بالمئات مجادلاتهم ومحادثاتهم وأوراقهم السياسية، ولكن هناك شعور مسكر بكسر المحرمات السياسية والاقتصادية. وولادة إجماع جديد محتمل.

"هناك مواقع بريطانية وأمريكية تنشر الكثير من أفكار الشبكة، وهناك أشخاص ينتجون أشياء بينما يعملون لحسابهم الخاص في مراكز الأبحاث - أو يقومون بإنشاء مراكز بحثية جديدة. إن وسائل التواصل الاجتماعي تعني انتشار الأفكار والتعاون بشكل أسرع بكثير مما كانت عليه عندما كان الاقتصاد اليساري يقتصر على الاجتماعات والمنشورات فقط. كما تدير شبكة منظمي الاقتصاد الجديد (نيون)، وهي مؤسسة فرعية منبثقة عن مؤسسة NEF ومقرها في لندن، ورش عمل للناشطين اليساريين، لتعلم كيفية "بناء الدعم لاقتصاد جديد" ــ على سبيل المثال، من خلال سرد "قصص" فعالة عنه في العالم. "تحرك نحو العمل" Move towards action وهي منظمة ناشطة مقرها في بريدبورت في دورست Bridport in Dorset، تنشر "مجلة للاقتصاد الجديد" Journal of New Economics ربع سنوية، وتنظم جلسات مشورة في المدن ذات الميول اليسارية مثل "بريستول" Bristol و"أكسفورد" Oxford: التعاونيات العمالية: كيف تبدأ، المجتمع الملكية: ماذا لو قمنا بتشغيلها بأنفسنا؟

يقول محرر المجلة "جوني جوردون فارلي" Johnny Gordon Farley الذي شارك سابقاً في احتجاجات مناهضة للرأسمالية وبيئية: "هناك دافع جديد تمامًا للنشاط المتعلق بالاقتصاد الآن". "لقد انتقلت الحركة من المعارضة إلى الاقتراح".

توزيع عادل للدخل القومي

يمر الاقتصاد الجديد خارج دائرة اليسار الراديكالي عبر الأطلسي، دون أن يلاحظه أحد إلى حد كبير ــ أو أنه يتعرض للسخرية عرضاً. بسبب الثقوب السوداء المتمثلة في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتنافس على زعامة الأحزاب المحافظة التي تُعتبر مسؤولة جزئيا عن ذلك، حيث جذبت الانتباه بعيدا عن كل شيء آخر. ولكن هذه هي الحال أيضاً مع الطبيعة الراديكالية للاقتصاد الجديد ذاته. إن تحويل الرأسمالية أو إنهائها كما نعرفها ــ ويختلف الاقتصاديون الجدد حول الهدف ــ يشكل فكرة يصعب على أغلب الساسة والصحفيين الغربيين أن يتقبلوها. وبعد نصف قرن من قبول الوضع الاقتصادي الراهن، فإنهم يربطون أي بدائل يسارية له إما بالديمقراطية الاجتماعية التي عفا عليها الزمن في فترة ما بعد الحرب ــ المعروفة باسم "السبعينيات" ــ أو بالاستبداد اليساري، مع فنزويلا أو روسيا.

ولكن مع اعتلال الليبرالية الجديدة، وحرمان اليمين من أفكار اقتصادية أخرى، كما يُظهِر التنافس على زعامة المحافظين حالياً، فقد يكون لاقتصاد اليسار الجديد مستقبل. لقد ظل حلم الاقتصاد الديمقراطي يلوح على هامش السياسة اليسارية لمدة قرن من الزمان على الأقل. خلال أوائل عشرينيات القرن العشرين، كتب المنظران الاشتراكيان البريطانيان "جورج دوجلاس هوارد كول" George Douglas Howard Cole و"ريتشارد هنري تاوني" Richard Henry Tawney كتبا استفزازية جديدة يزعمان فيها أن العمال يجب أن يديروا أنفسهم، بدلاً من الخضوع لأصحاب العمل أو المساهمين - أو للدولة، كما تصور المفكرون العماليون الأكثر تشددا. في الحياة الاقتصادية، كما في السياسة، قال تاوني في عام 1921، "لا ينبغي للناس أن تحكمهم سلطة لا يمكنهم السيطرة عليها".

كان المقصود من تمكين العمال أن يكون الخطوة الأولى في تحول أكبر. كتب كول في عام 1920: إن الهدف الحقيقي يجب أن يكون «انتزاع القوة الاقتصادية التي تمارسها هذه الطبقات شيئًا فشيئاً من أيدي الطبقات المالكة»، وذلك في نهاية المطاف «لجعل التوزيع العادل للدخل القومي ممكناً وتحقيق المساواة، وإعادة تنظيم معقولة للمجتمع ككل ".

ومع ذلك، كان كول غامضاً بشأن كيفية حدوث هذا الانقلاب في النظام التقليدي. لقد استبعد الثورة والإضراب العام، على أساس أن العمال لم يكن لديهم القدرة اللازمة للحصول على الأسلحة، أو الموارد الاقتصادية اللازمة للتغلب على أصحاب العمل في صراع صناعي طويل الأمد. ومن الناحية النظرية، تستطيع حكومة عمالية جريئة أن تمرر التشريعات اللازمة؛ لكن الإدارات العمالية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين كانت حذرة، ولم تستمر طويلا.

ماذا يريد الاقتصاديون الجدد بعد الرأسمالية النيوليبرالية؟

وفيما يتعلق بـ "الشركات المحلية" و"الوظائف المحلية"، يقول الاقتصاديون الجدد "علينا أن نكون عمليين". "ما زلنا في بيئة السوق الحرة. وهم لا يرون الشركات المحلية كرأسمالية كبيرة، لأن غالبية الشركات العظمى لديها شخص أو شخصين فقط يعملون لديهم. لا يوجد أحد تقريباً لاستغلاله. المساهمين لا يشاركون. ولن ينظر كل من ينتمي إلى اليسار إلى الشركات الصغيرة ــ التي غالبا ما تكون من المؤيدين المتحمسين للأحزاب اليمينية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية الصارمة ــ بمثل هذه العبارات الحميدة. لكن الأحزاب العمالية على المستوى الوطني، تبتعد عن الحجة القديمة المؤيدة لقطاع الأعمال والمناهضة لقطاع الأعمال، وفقاً لمبدأ إن خلق القيمة الاجتماعية هو ما يهم.

كثيرا ما يستشهد بعض الاقتصاديون الجدد بألمانيا باعتبارها دولة أخرى تكون فيها الرأسمالية أكثر اعتدالا. ينظرون إلى أنه في الطريق إلى مجتمع اشتراكي، قد تكون هناك لحظات تظهر فيها رأسمالية مختلفة - أي رأسمالية أكثر اعتدالا.

ومع ذلك، فإن مشكلة اليسار في القبول بـ "رأسمالية مختلفة"، مهما كانت مؤقتة، هي أنها قد تمكن الرأسمالية ببساطة من إعادة تجميع صفوفها، ثم استئناف تقدمها الدارويني. ويمكن القول إن هذا هو بالضبط ما حدث في بريطانيا خلال القرن الماضي على سبيل المثال. بعد الركود الاقتصادي المتفجر سياسيا في ثلاثينيات القرن العشرين ــ الذي كان بمثابة مقدمة لأزمة الرأسمالية اليوم ــ خلال سنوات ما بعد الحرب، بدا أن العديد من قادة الأعمال يقبلون الحاجة إلى اقتصاد أكثر مساواة، وطوروا علاقات وثيقة مع السياسيين العماليين. ولكن بمجرد استقرار الاقتصاد والمجتمع، وبدأ اليمينيون مثل تاتشر في تقديم حجة مغرية للعودة إلى الرأسمالية الخام، وغير رجال الأعمال ولاءهم.

ومن الصعوبات الأخرى التي يواجهها الاقتصاديون الجدد وحلفاؤهم السياسيون إقناع الناخبين ــ الذين نشأوا على فكرة مفادها أن الربح والنمو هما النتائج الاقتصادية الوحيدة التي تهم ــ أن القيم الأخرى لابد أن تكون أكثر أهمية من الآن فصاعداً، مثل إنقاذ البيئة الذي لا يزال أمراً صعباً. إن تأثير النمو الاقتصادي على الكوكب ليس قضية يتم الحديث عنها بما فيه الكفاية في التيارات اليسارية. أما بالنسبة لتراجع النمو ــ المصطلح الأخضر الحالي الذي يشير إلى إسقاط النمو كهدف اقتصادي ــ فإن الأحزاب العمالية لم يتم يمسه. إن تراجع النمو مجرد وصف مروع لأن المشكلة ليست مجرد عرضية، فلم يتم بعد اختراع سياسة خفض النمو القادرة على إقناع الجمهور الغربي.

وبدلا من ذلك، بدأت بعض الأحزاب الغربية مؤخرا في الترويج لنسخة من الصفقة الخضراء الجديدة: وهي خطة جذابة، ولكنها لا تزال نظرية إلى حد كبير ويدعو إليها عدد متزايد من اليساريين والمدافعين عن البيئة في أوروبا والولايات المتحدة على مدى العقد الماضي. وهي تهدف إلى معالجة حالة الطوارئ المناخية وبعض مشاكل الرأسمالية في وقت واحد، من خلال زيادة هائلة في الدعم الحكومي للتكنولوجيات الخضراء والوظائف التي تتطلب مهارات عالية، والتي نأمل أن تكون جيدة الأجر، اللازمة لخلق هذه التكنولوجيات.

يراهن الاقتصاديون الجدد على أن يكون هذا المشروع أكبر مشروع للغرب في وقت السلم منذ تحويل الاقتصاد من الحرب إلى السلام خلال الأربعينيات. فهم يدعون إلى "ثورة صناعية خضراء"، بما في ذلك توربينات المياه العميقة في بحر الشمال، والتي "يمكن أن توفر أربعة أضعاف إجمالي الطلب على الكهرباء في أوروبا.

الديمقراطية الصناعية

هناك قضية أخرى ضخمة يتجاهلها الاقتصاديون الجدد عادة، وهي ما إذا كان العديد من العاملين اليوم يريدون حقاً أن يكون لهم صوت أكبر في أماكن عملهم. عندما كانت "الديمقراطية الصناعية" آخر فكرة شائعة على اليسار في السبعينيات، كان العمل أكثر إشباعاً ومحورياً في حياة الناس من أي وقت مضى. حلت الوظائف المكتبية محل وظائف المصانع، وكان العمل محركاً قوياً للحراك الاجتماعي

لقد ساهمت العضوية في النقابات العمالية القوية في تعويد غالبية الموظفين الغربيين على التشاور معهم، وأن يكون لهم دور ما في حياتهم العملية. لكن في عام 2019، أصبحت تجارب التمكين في العمل أقل شيوعاً. وبالنسبة لأعداد متزايدة من الناس، مهما كانوا مؤهلين تأهيلاً جيداً، فإن التوظيف يصبح قصير الأجل، ومكانته متدنية، وغير مجزية ــ ولا يكاد يشكل جزءاً من هويتهم على الإطلاق.

أمضى العديد من الاقتصاديين سنوات في محاولة إثارة اهتمام الناس بتكوين تعاونيات، ولم ينجحوا دائماً. يرون أن الرأسمالية المعاصرة أنتجت قوة عاملة مسالمة وسلبية. وإن الكثير من الناس يحبون أن يشعروا بالغربة قليلاً بسبب الرأسمالية - حتى لا يفهموا حقاً كيف تعمل. إنهم بحاجة إلى إعادة مهاراتهم سياسياً.

القواعد المالية الجديدة في أوروبا

في الآونة الأخيرة، اتفق وزراء مالية الاتحاد الأوروبي على إصلاح القواعد المالية للكتلة. ولا يزال يتعين موافقة المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي على الحزمة التشريعية بحلول نهاية أبريل/نيسان 2024. ووسط الوعود بتحفيز الاستثمار العام، وتعزيز النمو، وخلق فرص العمل، تحدد القواعد الجديدة الحد الأدنى من متوسط العجز وخفض الديون. والتي يتعين على دول الاتحاد الأوروبي أن تحترمها وإلا فقد تتم معاقبتهم. وهي قواعد يعتقد عدد من المختصين أنها تلحق الضرر بالعمال والنساء، وتعزز المتطرفين اليمينيين. وأن وراء الوعود الزائفة بتوفير فرص العمل وتحقيق النمو الاقتصادي تكمن أجندة خطيرة لتمزيق شبكات الأمان الاجتماعي.

تنتشر المعلومات المضللة حول مواضيع قليلة بنفس السهولة التي تنتشر بها الديون الوطنية والعجز، والتي كثيرا ما تضخمها وسائل الإعلام المؤثرة. في الاتحاد النقدي، يريد الجميع تجنب الموقف الذي تتبع فيه البلدان سياسات مالية تصبح فيها نسب الدين غير مستدامة. وهذا ينطوي على مخاطر على استقرار الأسعار.

وقد تم تنفيذ القواعد المالية في معاهدة ماستريخت في عام 1991 (تم التوقيع عليها في عام 1992)، مع نسبة دين تعسفية بلغت 60% ونسبة عجز قدرها 3%، كشرط مسبق للدخول إلى الاتحاد النقدي الأوروبي. وقد تم تشديدها على التوالي، أولا مع ميثاق الاستقرار والنمو في عام 1997، ثم في عام 2012 مع الميثاق المالي. في أعقاب أزمة التقشف في منطقة اليورو، تم تخفيف القواعد إلى حد ما، وخلال الوباء وأزمة الطاقة، سمح بند الهروب للدول الأعضاء بالتعامل مع الأزمات المتعددة. والآن، ولأول مرة منذ عقد مضى، ستصبح القواعد مقيدة مرة أخرى. منذ البداية تعرضوا للكثير من الانتقادات. وينبغي تصميم القواعد المالية بطريقة معقولة اقتصاديا وينبغي أن تكون بسيطة. وإلا فإن المساءلة الديمقراطية ستضعف. وكلا المبدأين بعيد كل البعد عن التحقق في ظل القواعد المالية الجديدة.

ومقارنة بالاقتصاد الأمريكي، فقد خرج اقتصاد الاتحاد الأوروبي من الأزمات الماضية وهو ضعيف بشدة. وفي هذه الحالة فإن الاتحاد الأوروبي يخاطر بجولة أخرى من التقشف، وهو ما يشكل مشكلة كبيرة. لقد قامت الولايات المتحدة باستثمارات عامة ضخمة من خلال مبادرات مثل قانون خفض التضخم. كان هناك زخم صناعي هائل للاقتصاد. الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى الاستثمار العام، ولكن تدابير التقشف تعرض هذا الأمر للخطر.

من اللافت للنظر أن دول الاتحاد الأوروبي الكبيرة هي البلدان التي لديها أعلى نسب الدين العام. وباستثناء ألمانيا، التي تفرض قيوداً مالية خاصة بها، فإن البلدان ذات الديون المرتفعة مثل إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا، وبولندا، وبلجيكا، تواجه أكبر المطالب بضبط الديون. على سبيل المثال، يتعين على إيطاليا أن تعمل على خفض عجزها المالي بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. ويتعين على فرنسا أن تعمل على تعزيز نفس القدر تقريبا.

تشكل هذه الدول الكبيرة نصف الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي. وهذا أمر مهم لأنه إذا اضطروا إلى توحيدهم جميعا في وقت واحد، فسيكون لذلك تأثير كبير على النمو الاقتصادي. ويهدد هذا بموجة أخرى من التقشف، وهو الوضع الذي يتراجع فيه النمو، وهو ما يزيد بدوره من صعوبة تحقيق أهداف نسبة الدين لأن الهدف يتم تعريفه على أنه الدين العام مقسوما على الناتج المحلي الإجمالي.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

مراجعة: جايد روبرتس

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في مراجعة لدليل أكسفورد لتاريخ القانون الدولي، أشاد ويل هانلي بإنجاز المجلد في الإشارة إلى التحول بعيدًا عن السرد الأوروبي المركزي للقانون الدولي، لكنه استمر في الإعراب عن أسفه لأوجه القصور في الدليل في تحدي مركزية الدول في الحسابات التقليدية لهذا التخصص.(1) واقترح أن التفكير في القانون الدولي من خلال انعدام الجنسية- وهي قضية تجاهلها الدليل إلى حد كبير - يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق هذا الهدف. تتبنى ميرا سيجلبيرج هذه الدعوة في كتابها "انعدام الجنسية: تاريخ حديث". ومن خلال بحث مفصل، تكشف النقاب عن الجدل الدائر حول بناء الاستجابات القانونية والمؤسسية لظهور حالات انعدام الجنسية الجماعية في القرن العشرين. ومن خلال القيام بذلك، فهي لا توسع السرد التقليدي لتاريخ انعدام الجنسية فحسب، بل توضح أيضًا كيف تحدى انعدام الجنسية الأفكار الأساسية حول الدولة والعلاقة بين الدول والأفراد في القانون الدولي.

تحدد معظم تواريخ انعدام الجنسية نقطة البداية للاهتمام الدولي بهذه القضية في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.(2) وفي هذه الروايات، بلغت الاستجابات الدولية لانعدام الجنسية ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية(3) مع إبرام معاهدتين: اتفاقية عام 1954 المتعلقة بوضع انعدام الجنسية (4) واتفاقية عام 1961 بشأن خفض حالات انعدام الجنسية.(5) وتعرضت المعاهدتين للإهمال حتى أوائل التسعينيات،عندما أدى تفكك يوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي إلى ترك عشرات الآلاف من الأشخاص بدون جنسية أو وضعهم غير مؤكد مما أعاد مسألة انعدام الجنسية إلى جدول الأعمال الدولي.(6) ويخلص التفسير التقليدي إلى أن هذه القضية أصبحت خارج نطاق الموضة مرة أخرى إلى أن تم إطلاق خطة العمل العالمية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لإنهاء انعدام الجنسية في عام 2014.(7)  وتوسع سيجلبيرج هذه الرواية بطريقتين. أولاً، تكشف أن العلماء فكروا لأول مرة في مسألة انعدام الجنسية في أواخر القرن الثامن عشر. في هذا الوقت، افترض المنظرون السياسيون مثل إدموند بيرك أن عديمي الجنسية يجب أن يكونوا قادرين على الاعتماد على "الإنسانية المشتركة" أو قانون الأمم للحصول على الحماية (ص 25). بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كان موضوع انعدام الجنسية وإمكانية تنظيمه بموجب القانون الدولي قد تم تناوله في المعاهدات القانونية الدولية (الصفحة 35). وبينما جادل البعض بأن وجود الأشخاص عديمي الجنسية يشكل "إحراجاً" للدولة التي يعيشون فيها، والتي ينبغي أن تمنحهم الجنسية، اقترح آخرون أنه إذا لم يكن الشخص مؤهلاً للحصول على الجنسية من خلال القنوات القائمة، فيجب الاعتراف به كشخص عديم الجنسية. عديم الجنسية في القانون الدولي (الصفحة35).

ثانياً – وهي مساهمة مركزية للكتاب – هي توضيح ذلك، وبعيداً عن أن يكون مجرد نقطة انطلاق للاهتمام بهذه القضية، وفترة أهملها الباحثون إلى حد كبير لصالح التركيز على "ذروة" هذه القضية بعد الحرب العالمية الثانية،(8) كانت سنوات ما بين الحربين العالميتين فترة من النقاش المكثف حول كيفية معالجة حالات انعدام الجنسية. تستكشف سيجلبيرج كيف أن ظاهرة انعدام الجنسية الجماعية، في زمن الاضطراب السياسي العميق، ووسط انهيار الإمبراطوريات والأشكال الجديدة للحكم الدولي، أثارت تأملات على أساس سلطة الدول ووضع الأفراد في القانون الدولي. خلال هذه الفترة، تصارع المسؤولون في عصبة الأمم حول كيفية الاستجابة لمشكلة المشردين سياسيًا. وكانوا يخشون أن يؤدي الاعتراف بعدد كبير من السكان باعتبارهم عديمي الجنسية إلى إعاقة مشروع عصبة الأمم الأكبر المتمثل في إعادة تأسيس النظام الدولي على أساس السلطة السيادية للدول. في نهاية المطاف، اختار مسؤولو الجامعة تأطير انعدام الجنسية باعتباره نتاجًا لقوانين الجنسية المتضاربة، واقترحوا أن تبرم الدول اتفاقية لتنظيم قوانينها (الاتفاقية التي لم يتم التصديق عليها بشكل جيد وغير فعالة بشأن بعض المسائل المتعلقة بقانون الجنسية المتضارب).(9)

ومع ذلك، تكشف سيجيلبيرج أن الاستجابة الموازية لأزمة انعدام الجنسية ولدت دعوات للاعتراف بأشخاص عديمي الجنسية كأشخاص اعتباريين دوليين، على عكس الموقف السائد القائل بأن الأفراد لا يحصلون على مكانة في القانون الدولي إلا من خلال عضويتهم في الدول. قدمت الرابطة وثيقة سفر دولية (تُعرف باسم جواز سفر نانسن، الذي سمي على اسم مستكشف القطب الشمالي المقدام الذي أصبح المفوض السامي فريدجوف نانسن) للمواطنين الروس والأرمن السابقين، ومنحهم حق السفر والعمل والوضع القانوني المنبثق من عصبة الأمم. دعا بعض السكان عديمي الجنسية إلى توسيع نظام جوازات السفر، بينما أشار آخرون إلى جوازات السفر لتعزيز دعواتهم للرابطة للاعتراف بهم كمواطنين عالميين.  أشار غاندي، وهو يراقب الطبقة المتنامية من عديمي الجنسية في أوروبا والجهود المبذولة لحمايتهم، إلى أن الغربيين يستيقظون على "هذا القيد الخطير للغاية لحضارتهم ويبذلون جهدًا جادًا للتغلب عليه" (ص 78). وللحظة واحدة خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين، كان يُنظر إلى انعدام الجنسية على أنه أكثر من مجرد أزمة إنسانية؛ لقد كانت أداة مفاهيمية لإعادة التفكير في نموذج الدولة للحكم ومسألة الموضوعات النهائية للقانون الدولي.

وتواصل سيجلبيرج شرح كيف أنه في ثلاثينيات القرن العشرين، في سياق صعود الفاشية والممارسة المتزايدة للدول التي تجرد الأفراد من جنسيتهم لأسباب سياسية و/أو عنصرية، ابتعد المنظرون القانونيون عن النظر إلى انعدام الجنسية كأداة لتحدي هيمنة الدول وبحثوا بدلاً من ذلك عن قيود في القانون الدولي على سلطة التجريد من الجنسية. وعندما لم يتم العثور على أي قيود، سعوا إلى إيجاد حل عملي لمشكلة التجريد من الجنسية والتشريد. وقد جسدت اتفاقية دولية بشأن اللاجئين أُبرمت في ذلك الوقت ــ اتفاقية عام 1933 المتعلقة بالوضع الدولي للاجئين (10) ــ هذا النهج؛ لقد وفر  الحماية بدلاً من الدولة، لكنه لم يتحدى حقيقة استبعاد الأفراد من الدولة في المقام الأول. إن إدراج الحق في الجنسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(11) أعاد التأكيد على الدولة باعتبارها حامية الحقوق الفردية والمساواة في السيادة كأساس للنظام العالمي بعد الحرب. وكما كتبت سيجلبيرج،لقد تحول انعدام الجنسية من مورد نظري مركزي لأولئك الذين يدافعون عن النظام السياسي "والقانوني خارج نطاق الدولة إلى محك لأولئك الذين يحاولون تأسيس الشرعية المعيارية للدولة ذات السيادة وأولوية الدول في السياسة الدولية' (ص 194).

ومن الجوانب الجديرة بالملاحظة بشكل خاص في مسألة انعدام الجنسية هو اتساع المصادر التي يعتمد عليها. قامت سيجلبيرج بتمشيط أرشيفات عصبة الأمم والأمم المتحدة، وكشفت عن مجموعة من وجهات النظر بين المسؤولين حول أفضل السبل للاستجابة لمشكلة انعدام الجنسية. تشمل المصادر الأخرى كتابات علماء القانون من القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا، في محاولة لفهم أهمية انعدام الجنسية؛ قرارات المحاكم المحلية تواجه مسألة ما إذا كان يجب الاعتراف بأن الأفراد لا يمكن أن يكونوا مواطنين أو أجانب بل أشخاصًا بلا جنسية؛ وتصوير ما يعنيه أن تكون شخصًا بلا وطن في الأعمال الخيالية. والأهم من ذلك، أن سيجلبيرج تأخذ في الاعتبار أيضًا تقارير الأشخاص عديمي الجنسية أنفسهم، بما في ذلك من خلال رسائل إلى الجامعة والأمم المتحدة، يطلبون من الوكالة التدخل لإنهاء حالات انعدام الجنسية الخاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من العلماء والمحامين والمدافعين الذين يشير إليهم سيجلبيرج، مثل مارك فيشنياك، وبول فايس، وحنةأرندت، تم تجريمهم و/أو تهجيرهم. ومن خلال الاعتماد على هذه الأصوات، يستجيب برنامج انعدام الجنسية للدعوة للاعتراف بأن "الناشطين عديمي الجنسية هم [أيضًا] مؤلفون وكتاب أكاديميون ومفكرون سياسيون [و] صانعو تغيير".(12) ومع ذلك، وكما لاحظ آخرون،(13) فمن الممكن تمثيل آراء النساء وغير الأوروبيين بشكل أفضل.

إحدى المساهمات المهمة للكتاب هي مناقشة موضوع انعدام الجنسية والشخصية الاعتبارية. على الرغم من أن انعدام الجنسية هو الحالة المثالية في القانون الدولي لمسألة وضع الأفراد، إلا أن العلاقة بين انعدام الجنسية والشخصية الاعتبارية لم يتم بحثها حتى الآن إلا قليلاً. عند طرح الشخصية الاعتبارية في سياق انعدام الجنسية، غالبًا ما يتم التعامل معها كمرادف للجنسية(14). أو مرتبطة بالمفهوم الغامض للهوية القانونية. (15) وحتى المسح الشامل الذي أجرته آن بيترز للمعايير القانونية الدولية الموجهة نحو الأفراد يغفل مناقشة انعدام الجنسية.(16) من خلال تسليط الضوء على المناقشات التي دارت في فترة ما بين الحربين العالميتين حول ما إذا كان يمكن لعديمي الجنسية أن يتمتعوا بحقوق وواجبات مباشرة في القانون الدولي،يضيف انعدام الجنسية فارقًا بسيطًا إلى السرد التقليدي القائل بأن الأفراد أصبحوا موضوعًا للقانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية مع تحديد المسؤولية الجنائية الفردية ووضع القانون الدولي لحقوق الإنسان. وتؤكد سيجلبيرج اقتراح هانلي بأن التفكير في تاريخ القانون الدولي من خلال انعدام الجنسية يتحدى مركزية الدول، حتى لو لجأ أولئك الذين يبحثون عن حلول للحرمان من الحقوق بسبب انعدام الجنسية في نهاية المطاف إلى الدول لضمان تلك الحقوق.

وباعتباره عملًا يجمع بين القانون الدولي والنظرية السياسية، فإن تركيز سيجلبيرج لا ينصب على الاتفاقيات التي تهيمن على التحليلات القانونية الدولية لانعدام الجنسية. ومع ذلك، بما أن الهدف كان "إعادة بناء وتوضيح الحجج التي شكلت الاستقرار النهائي للفهم المشترك للمواطنة وعدم المواطنة في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية" (الصفحة 3)، كان من الممكن أن يستفيد الكتاب من المزيد من المناقشة حول كيفية نقاش المناقشات. لقد شكلت هذه الاستطلاعات الاستجابات الرئيسية لانعدام الجنسية. وكان من الممكن تحليل عناصر اتفاقيات عامي 1954 و1961 بشأن انعدام الجنسية والتي تعود أصولها إلى المناقشات التي دارت بين الحربين العالميتين. على سبيل المثال، لم تناقش سيجلبيرج ما إذا كانت المادة 11 من اتفاقية عام 1961، التي وعدت بإنشاء هيئة داخل الأمم المتحدة يمكن أن ينطبق عليها شخص عديم الجنسية الذي يسعى للحصول على الجنسية بموجب شروط المعاهدة، تعكس الدعوات في فترة ما بين الحربين العالميتين لمنح الجنسية. سلطة دولية تتمتع بصلاحية تسوية النزاعات المتعلقة بالجنسية. على الرغم من أنه من الواضح أن "الأحكام الواردة في الاتفاقيات لا تعكس بشكل كامل الإطار الأوسع لمشكلة انعدام الجنسية في الفكر الدولي في فترة ما بعد الحرب" (ص 227)، حيثما توجد صلة بين المعاهدات والتاريخ الذي تمت مناقشته، كان من الممكن رسمها بشكل أكثر وضوحًا.

بشكل عام، يعد كتاب سيجلبيرج مساهمة قيمة للغاية في الأدبيات المتنامية حول انعدام الجنسية. كما أنه في الوقت المناسب. تنتهي استراتيجية المفوضية الحالية بشأن انعدام الجنسية، والتي تعتمد على الدول لإنهاء حالات انعدام الجنسية من خلال منح الجنسية، في عام 2024. (17) لن يتم تحقيق هدف القضاء على حالات انعدام الجنسية بحلول عام 2024. وبدلاً من ذلك، بدأت تظهر مخاطر جديدة تتمثل في انعدام الجنسية. وفي ولاية آسام الهندية، تهدد عملية التحقق من الجنسية باستبعاد 1.9 مليون مقيم من الجنسية ــ وهي العملية التي وصفها المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بقضايا الأقليات بأنها ربما تكون أكبر ممارسة لانعدام الجنسية القسرية منذ الحرب العالمية الثانية.(18) وفي جميع أنحاء العالم، تضيف الدول إجراءات تجريد المواطنة إلى ترسانتها لمكافحة الإرهاب، مما قد يجعل الأفراد المستهدفين عديمي الجنسية. تسلط هذه الاتجاهات الضوء على صعوبة الاعتماد على الدول – وهي نفس الجهات الفاعلة المسؤولة عن إنتاج حالات انعدام الجنسية بشكل متعمد في كثير من الأحيان(19) - لحلها. وفي الوقت نفسه، يؤدي تغير المناخ إلى إثارة حالة من عدم اليقين بشأن الوضع القانوني لأولئك الذين سيفقدون أراضيهم بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. وبينما تضع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين اللمسات الأخيرة على استراتيجية ما بعد عام 2024 التي تشمل هذه المخاطر، فإن انعدام الجنسية ينبهنا إلى الحلول البديلة للحرمان من الحقوق الناجمة عن انعدام الجنسية التي تم اقتراحها وفقدانها. وقد أثيرت مسألة إعادة تقديم جوازات سفر نانسن كأحد الاستجابات البديلة، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يواجهون "انعدام الجنسية المناخية" (الذين، إلى جانب غيرهم من النازحين بيئياً، من المحتمل ألا يكونوا مؤهلين لحماية اللاجئين).(20) يمكن لكتاب سيجلبيرج أن يؤثر على هذه الدعوات. فمن ناحية، فإن وجهات النظر المختلفة لمتلقي بطاقة نانسن بشأن قيمتها يجب أن تكون مادة للتفكير. أو، تماشيًا مع تدخلات أخرى حديثة في هذا المجال،(21) قد يساعد الكتاب في إعادة صياغة "مشكلة" انعدام الجنسية باعتبارها مشكلة المواطنة ونظم الحكم وعدم المساواة، وبذلك يمهد الطريق لحلول أفضل. مثل كل التواريخ الجيدة، لا يخبرنا انعدام الجنسية عن الماضي فحسب، بل يجهزنا أيضًا بشكل أفضل للمستقبل.

(تمت)

***

............................

* جايد روبرتس/ Jade Roberts مرشح لدرجة الدكتوراه: كلية الحقوق في ملبورن وباحث، مركز بيتر مكمولين المعني بانعدام الجنسية، جامعة ملبورن، ملبورن، أستراليا.

الحواشي:

1-هانلي، "انعدام الجنسية: موضوع غير مرئي في تاريخ القانون الدولي"، العدد 25 من المجلة الأوروبية للقانون الدولي (2014)، 321.

2- تتبعت ديردري برينان هذه الرواية التقليدية في مقالتها "البصيرة النسوية في حالات انعدام الجنسية: حملات المساواة في المواطنة منذ قرن من الزمان"، وهي في حد ذاتها تصحيح للادعاء بأن الحملات الدولية ضد قوانين الجنسية التمييزية بين الجنسين لم تظهر إلا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. برينان، "البصيرة النسوية في مجال انعدام الجنسية: حملات المساواة في المواطنة منذ قرن من الزمان"، 2 مراجعة انعدام الجنسية والمواطنة (2020) 43، في 45.

3- روروب، "يعيش في طي النسيان: انعدام الجنسية بعد الحربين العالميتين"، 49 نشرة المعهد التاريخي الألماني واشنطن (2011) 113، في 130.

4- الاتفاقية المتعلقة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية 1954، 360 UNTS 117.

5- اتفاقية خفض حالات انعدام الجنسية 1961، 989 UNTS 175؛ ل. فان فاس، مسائل الجنسية: انعدام الجنسية بموجب القانون الدولي (2008)، الصفحة 15.

6- فان كريكن، "التفكك وانعدام الجنسية"، 12 مجلة هولندا الفصلية لحقوق الإنسان (NQHR) (1994) 23. من وجهة نظر كريستي بيلتون، باستثناء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأوائل التسعينيات، "لم يظهر انعدام الجنسية إلا بالكاد في العالم" رادار المجتمع الدولي». بيلتون، "إنهاء انعدام الجنسية من خلال الانتماء: أجندة تحويلية؟"، 28(4) المجلة الدولية لقانون اللاجئين (2016) 419، في 420.

7- فان واس، ""هل وصلنا بعد؟": ظهور حالات انعدام الجنسية على جدول الأعمال الدولي لحقوق الإنسان"، 32 NQHR (2014) 342؛ راجع. كينجستون، ""أزمة حقوق الإنسان المنسية": انعدام الجنسية ومسألة (عدم) الظهور"، 14 هيومن رايتس ريفيو (HRR) (2013) 73.

8- روروب، الحاشية 3 أعلاه.

9- اتفاقية بشأن بعض المسائل المتعلقة بتنازع قانون الجنسية 1930، 179 LNTS 89.

10- الاتفاقية المتعلقة بالوضع الدولي للاجئين 1933، 159 LNTS، no. 3663

11- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، GA Res. 217 أ (ثالثًا)، 10 ديسمبر/كانون الأول 1948، المادة. 15.

12- بهرام، حول النشاط عديمي الجنسية والمشاركة الحقيقية (2020)، متاح على:

https://law.unimelb.edu.au/centres/statelessness/resources/critical-statelessness-studies-blog/on-stateless-activism- and-true-engagement.

13- أ. شولت، المائدة المستديرة H-Diplo XXII-51 حول سيجلبيرج. انعدام الجنسية: تاريخ حديث، 19 يوليو 2021، متاح على:

https://networks.h-net.org/node/28443/discussions/7937655/h-diplo-roundtable-xxii-51-siegelberg% C2%A0-statelessness-modern; B. Lehman, Statelessness: A Modern History by Mira L. Siegelberg, available at www.europenowjournal.org/2021/10/18/statelessness-a-modern-history-by-mira-l-siegelberg/.

14- يظهر الخلط بين الشخصية القانونية والجنسية في المبدأ 9.5.2 من مبادئ الحرمان من الجنسية كإجراء أمني وطني: معهد انعدام الجنسية والإدماج، مسودة تعليق على مبادئ الحرمان من الجنسية كتدبير أمني (2020)، متاح في:

www.refworld.org/docid/5f3bf2d24.html. Discussing how the right to legal personhood supports the right to a nationality, see W.E. Conklin, Statelessness: The Enigma of the International Community (2014), at 150.

15- ك. ستابلز، إعادة النظر في انعدام الجنسية: نظرية خلفية للعضوية في السياسة العالمية (2012)، الصفحة 5.

16- أ. بيترز، ما وراء حقوق الإنسان: الوضع القانوني للفرد في القانون الدولي، ترجمة ج. هيوستن (2016).

17- مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، خطة العمل العالمية لإنهاء حالات انعدام الجنسية 2014-2024، متاحة على

www.unhcr.org/ibelong/global-action-plan-2014-2024/.

18- ر. راتكليف، ""فوضى كابوسية": الملايين في ولاية آسام يستعدون لفقدان المواطنة"، صحيفة الغارديان (30 أغسطس 2019)، متاح على www.theguardian.com/global-development/2019/aug/30/nightmarish-mess - الملايين من آسام تستعد لفقدان الجنسية في الهند.

19- جاين، “تصنيع حالات انعدام الجنسية”، 116(2) المجلة الأمريكية للقانون الدولي (2022) 237.

20- جي. ميريت، انعدام الجنسية مشكلة كبيرة، لذلك دعونا نعيد إحياء جوازات سفر “نانسن” (2021)، متاح على:

www.friendsofeurope.org/insights/statelessness-is-a-big-problem-so-lets-revive-nansen-passports.

21- بلوم وكينغستون، "مقدمة: فتح محادثة حول انعدام الجنسية والحوكمة ومشكلة المواطنة"، في T. Bloom وL.N. كينغستون (محررون)، انعدام الجنسية والحوكمة ومشكلة المواطنة (2021) 1؛ إل. إن. كينغستون، إنسان كامل: الشخصية والمواطنة والحقوق (2019).

المقال منشور على : المجلة الأوروبية للقانون الدولي، المجلد 33، العدد 2، مايو 2022 ، الصفحات 695-699،

European Journal of International Law, Volume 33, Issue 2, May 2022, Pages 695–699, https://doi.org/10.1093/ejil/chac033

Published:

21 July 2022

رابط المقال الأصلى :

https://academic.oup.com/ejil/article/33/2/695/6647712

يستعرض سام جيلكريست هول الحماقة والحكمة في عالم شكسبير وخارجه.

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

عندما كان أباطرة الرومان يركبون مواكب النصر، كان يركب معهم أحمق في العربة، يهمس لهم باستمرار بشيء على غرار "أنتم مجرد بشر. أنتم أيضا سوف تموتون، تماما كما يفعل المتسولون والعبيد." يعود شكسبير إلى فكرة الفناء بشكل مهووس في هاملت (حوالي ١٦٠٠)؛ على سبيل المثال، عندما يقول الأمير الغريب: "قيصر المتسلط، مات وتحول إلى طين، / قد يسد حفرة لإبعاد الريح." في الواقع، إحدى الصور الأكثر لفتا للانتباه في أواخر العصور الوسطى في أوروبا هي "الرقصة المروعة" أو "توتنتانز"، حيث تتعاون جميع الطبقات مع الموت. في روما، كما في أوروبا في العصور الوسطى، كان شبح الموت مصدرا لتسوية كل الصراعات والمشكلات. لا يهم من أنت، عاجلا أم آجلا سوف يصرمك الله. تذكرنا هذه الرؤية أيضا بأن المؤسسات والخطابات التي تبدو غير قابلة للتغيير ليست منقوشة على الحجر، ولكنها تتجسد في أكثر الأشياء قابلية للفناء، ألا وهي اللحم البشري.

الحماقة

مع نشر كتاب "مدح الحماقة" لإيراسموس (Moriae encomium) في عام 1509، تم محو النظام القديم للحماقة. في حين أن مؤلف كتاب سفينة الحمقى (نارينشيف، 1494)، سيباستيان براندت، قد انتقد الفساد الأخلاقي للبشرية، فإن الحماقة في أيدي إيراسموس أصبحت وسيلة ليس فقط لفضح نفاق واستبداد أولئك الذين هم في السلطة، ولكن أيضا وسيلة للفهم. وهي أن نفهم أنفسنا ومكانتنا في العالم، لأسباب ليس أقلها أنها توفر أداة لفهم حدود العقل.

الحمقى والشعراء  أرواح متقاربة، حيث لا يؤكد أي منهما على حقيقة لا لبس فيها. وكما لاحظ فيليب سيدني المعاصر لشكسبير في كتابه «الدفاع عن الشعر» (١٥٨٧)، «الشاعر لا يكذب أبدا، لأنه لا يؤكد أبدا». بمعنى آخر، الشعراء ليسوا غير أمناء، لأنهم بحكم كونهم يكتبون روايات، فإنهم لا يحاولون أن يكونوا صادقين. وبالمثل، فإن الحمقى لا يطالبون بالسلطة لأن أفكارهم، مهما كانت عميقة أو هدامة، تأتي من فم أحمق. ولعل هذا هو السبب وراء عدم تنظير ظاهرة الحماقة من قبل فلاسفة تلك الفترة بقدر ما تجسدت في الأعمال الخيالية لكتابها، مثل إيراسموس، ورابليه، وثيربانتس، وبالطبع شكسبير.

وكما سنرى، فإن الحماقة جعلت أشكالا معينة من الكتابة والتفكير ممكنة، ويتجاوز اختصاصها بكثير الثرثرة المطولة لمهرجي شكسبير والرؤى الساخرة لمهرجيه، مثل فيستي وتاتشستون. ستوضح هذه المقالة بعض الجوانب الفلسفية لحماقة شكسبير، وتتساءل لماذا انجذب هذا المفهوم إلى بعض ألمع العقول في عصر النهضة؟ وللقيام بذلك، سأوضح مركزية الحماقة في التقليد الفلسفي الذي انبثق منه شكسبير، أي النزعة الإنسانية في عصر النهضة، قبل أن أسلط الضوء بإيجاز على بعض جوانب أهميتها في التقليد الفلسفي الذي كان مستوحى جزئيا من شكسبير، أي النظرية النقدية في القرن العشرين.

الإنسانية

الإنسانية مدرسة فكرية تضع البشر في مركزها (بدلا من محاولة فهم الألغاز اللاهوتية، على سبيل المثال). في حين أن هذا قد يبدو غير ضار بدرجة كافية، إلا أنه على مدار الأربعين عاما الماضية أو نحو ذلك، أصبحت كلمة "الإنسانية" بمثابة كلمة قذرة في دراسة العلوم الإنسانية، والتي تشترك مع ذلك في جذرها الاشتقاقي: كلتا الكلمتين تنحدران من المفهوم اللاتيني للليبرالية. الفنون أو الدراسات الإنسانية. أصبحت الإنسانية غير شعبية لأن الفلسفة التي تضع البشر في مركزها يمكن أن تؤدي إلى الاعتقاد الجوهري بوجود شيء لا يتغير يسمى "الطبيعة البشرية"، وكذلك إلى المركزية البشرية. يمثل هذان الموقفان إشكالية عميقة لأنهما يمكن أن يؤديا، من ناحية، إلى اضطهاد مجموعات تختلف تقاليدها ومعتقداتها عن تلك التي يتبناها الإنسانوي الجوهري، ومن ناحية أخرى، إلى موقف فلسفي يبرر تدمير الطبيعة لغايات إنسانية. ومع ذلك، فأنا أزعم أن النزعة الإنسانية، على الأقل في بدايتها، لم تكن جوهرية ولا متمركزة حول الإنسان بغطرسة، وأنها تتجنب هذه المزالق بسبب فهمها للحماقة.

في الثلث الأول من مسرحية "مدح الحماقة" لإيراسموس، يغرب الراوي، المدعو ستولتيتيا (الحماقة)، الوجود اليومي، مشيرا إلى أننا منذ الولادة وحتى الموت مجرد ممثلين في مشاهد مختلفة في "مسرحية عظيمة للحماقة" - وهي فكرة تخلصت منها مسرحية شكسبير الكئيبة. وقد ردد جاك لاحقا صدى مونولوجه الشهير في "كما تشاء" (1599)، "كل العالم مسرح / وكل الرجال والنساء مجرد ممثلين" (III.i).

على الرغم من أن هذا الإدراك قد يبدو الآن وكأنه عبارة مبتذلة، إلا أن فكرته الأساسية مهمة: فالمؤسسات والخطابات والأفكار التي تبدو صلبة واهية مثل المجموعة المسرحية - وهي إحدى الطرق التي سعى الفلاسفة والكتاب في هذه الفترة إلى تحديها. كان الفهم التقليدي يتم من خلال الكشف عن هشاشة وتوقيتية الطريقة التي تسير بها الأمور. وعلى وجه الخصوص، فقد تحدوا الطرق القديمة لفهم العالم من خلال تفضيل البدء في فهم الأشياء من خلال الخبرة بدلا من السلطة القديمة. وكما كتب الشاعر ورجل الدين الإنجليزي جون دون في القرن السابع عشر: «إن الشباب لا يصلحون أبصارهم بارتداء نظارات كبار السن؛ ومع ذلك فإننا لا ننظر إلى العالم إلا بعين أرسطو، وإلى جسد الإنسان إلا بعين جالينوس.» لكن في مديحه الساخر وفي كتاباته اللاهوتية الأكثر جدية، هاجم إيراسموس العقيدة بشكل عام وخاصة ضد الطرق التي تعمينا بها العادات عن الحقائق: "ليس هناك ما هو أكثر خبثًا أو قسوة من أن يحظى بالقبول، إذا أوصت به العادة". يكتب إيراسموس بسخرية في أحد كتبه المدرسية عن اللغة اللاتينية.

كان الفيلسوف المفضل لدى شكسبير، عالم النهضة الإنساني ميشيل دي مونتين (1533-1592)، يدرك تمام الإدراك أيضا الطرق التي لا تشكل بها العادات عائقا أمام التفكير الواضح والنقدي فحسب، بل إنها أيضا مشروطة ثقافيا. كتب في مقالته «عن أكلة لحوم البشر»: «أجد... أنه لا يوجد شيء في تلك الأمة [أمريكا] همجي أو وحشي، إلا إذا أطلق الناس على تلك الهمجية اسما غير شائع بينهم. إذ ليس لدينا أي هدف آخر من الحقيقة أو العقل، سوى المثال والفكرة من آراء وعادات البلد الذي نعيش فيه” (مقالات، عبر جون فلوريو، 1613). هنا يتوصل مونتين إلى نتيجة نزيهة مفادها أنه حتى المحرمات التي تبدو طبيعية مثل عدم تناول طعام الآخرين هي في الواقع نتيجة للتكيف الثقافي، وليست طبيعة بشرية أساسية؛ وأن ما نعتبره “غير متحضر” هو في الواقع مجرد ما هو غير مألوف؛ وأن مفاهيمنا عن «الحقيقة» و«العقل»، التي يمكن أن نبني عليها خيال «الطبيعة البشرية» ليست عالمية، ولكنها مشروطة ثقافيا. ومع ذلك، فهو يعترف أنه في "المسرح العظيم للحمقى" (الملك لير، السادس) من العالم اليومي، تعد العادة قوة ذات طاقة هائلة؛ وكما يقول هاملت: «تلك العادة الوحشية التي تأكلها كل الحواس» (III.iv).

في حين أن نفور مونتين من التعميم متجذر في منهجيته الفريدة ("الآخرون هم رجال الموضة"، كما يكتب؛ "أنا... أمثل شخصا معينا")، فإن نقد شكسبير للنزعة الإنسانية المفرطة إلى استخدام فئات زائفة تم التصديق عليها من قبل العرف يتجسد على المسرح. في عطيل وروميو وجولييت، على سبيل المثال، يتم إحباط الإمكانات الثورية الكامنة في الحب لتجاوز التمييز بين العرق والفصيل على وجه التحديد لأن الشخصيات القوية تظل مفتونة بالقوالب النمطية والافتراضات العرفية.

من الواضح أنه لا يمكن اتهام النزعة الإنسانية في هذه الفترة بأنها قدمت حججًا جوهرية فقط، كما أنها ليست مركزية بشرية بشكل مباشر. بل إن من رؤاه المتكررة أن الفكر الإنساني متجسد، وبالتالي قابل للفناء. وفي الوقت الذي كانت فيه فكرة الحق الإلهي للملوك بارزة ــ فكرة أن الملوك هم "النواب المنتخبون من قبل الرب" (ريتشارد الثاني، III.ii) ــ كانت رؤية التجسيد هذه تنادي بالمساواة بشكل جذري. وكما لاحظ مونتين بصراحة، "على أعلى عرش في العالم، نحن نجلس على مؤخراتنا".

هذا الإدراك لطبيعتنا المتجسدة يتقاسمه لير، الذي، كان غارقا ويرتعش في العاصفة، يدرك أن ممطريه قد ملأوه بقوى لا يمتلكها ببساطة: "لقد أخبروني أنني كل شيء؛ لقد أخبروني أنني كنت كل شيء؛ لقد أخبروني أنني كنت كل شيء". "هذه كذبة، أنا لست مقاوما للضجة" (الملك لير، الرابع. السادس). الملوك والمجانين والحمقى يشعرون بالبرد بنفس الطريقة. لكن تجسيدنا تمت صياغته بشكل لا يُنسى في "تاجر البندقية" (1597)، في أنشودة شايلوك العظيمة عن المساواة العرقية III.i

"أليست له عيون يهودية؟

أليس عند اليهودي يدين وأعضاء وأبعاد وحواس وعواطف وأهواء؟

ألا يتغذى بنفس الطعام، ويتألم بنفس الأسلحة، ويتعرض لنفس الأمراض، ويشفى بنفس الوسائل، ويدفئه ويبرده الشتاء والصيف، مثله مثل المسيحي؟

إذا وخزتنا، ألا ننزف؟

لو قمت بدغدغتنا، ألن نضحك؟

إذا قمت بتسميمنا، ألا يموت؟ وإن ظلمتنا أفلا ننتقم؟»

على الرغم من أن هذا الخطاب يُستخدم لتبرير سبب حصول شايلوك على رطل من اللحم، فإن صدى هذه التأملات يتجاوز سياقها الدرامي المباشر، مما يوفر حجة منطقية قوية للتسامح الديني والعرقي. بغض النظر عن العقيدة أو الطبقة أو اللون، فإننا نشترك في ضعف جسدي معين، ناهيك عن السخافة. كما أن ما كشفه لير عندما واجه المتسول العاري في العاصفة من أن "الإنسان الغني لم يعد سوى حيوان فقير عارٍ متشعب مثلك" (III.ii) لا يوحي بأننا نتقاسم الضعف فحسب، بل يشير أيضا إلى أن هذه المرتبة هي الخيال والجلباب الملكي ما هي إلا مجرد أزياء، أو كما يسميها لير، "الإقراض"، في إشارة إلى الممارسة المعاصرة المتمثلة في استعارة الشركات المسرحية أزياءها من الرعاة الأثرياء.

يتضح إذن أن السمة البارزة في النزعة الإنسانية في عصر النهضة ليست المطالبة بالسيادة الإنسانية على كل شيء. بل إنه يسلط الضوء على سخافة وهشاشة البشر، المعرضين للمرض، والسموم، والمطر، وبالطبع الحماقة بالمعنى الازدرائي. إن الفلسفة الإنسانية والأدب المتضمن في هذا التقليد لا يتوج البشر كسادة، بقدر ما يتأمل بشكل نقدي حدود الجسد، وكما سأبين الآن، العقل وأهميته.

النظرية النقدية

على عكس "الإنسانية"، فإن مصطلح "النظرية النقدية" يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين. ومع ذلك، و من أجل هذا المقال، ربما يكون من الأفضل فهمه على أنه التحول الذي اتخذته الفلسفة القارية في منتصف وأواخر القرن العشرين والذي تأثر بشدة بهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، والذي سعى إلى فهم الطبيعة الإشكالية الناجمة من تحقيق العقل. وهذا على النقيض من محاولة تطبيق المنطق لتوضيح طبيعة المصطلحات والخبرات اليومية، على طريقة الفلاسفة التحليليين الناطقين باللغة الإنجليزية في نفس الفترة.

بالنسبة لثيودور أدورنو (1903-1969)، وهو شخصية بارزة في مدرسة فرانكفورت التي نشأت منها النظرية النقدية، فإن المشكلة الأساسية مع العقل هي الطريقة التي يفهم بها الأشياء. وكما كتب في كتابه الرائع "الحوار السلبي" (1969):

"المفهوم دائما أقل مما يندرج تحته. عندما يتم تعريف B على أنه A، فإنه دائما يختلف عن A وأكثر منه، وهو المفهوم الذي يندرج تحته... ومع ذلك، بمعنى ما، كل مفهوم هو في نفس الوقت أكثر من الخصائص التي تندرج تحته. إذا… كنت أتحدث عن “الحرية”، فإن هذا المفهوم ليس مجرد وحدة خصائص جميع الأفراد الذين يمكن اعتبارهم أحرارا على أساس الحرية الشكلية ضمن دستور معين. إن مفهوم الحرية يحتوي على مؤشر إلى شيء يتجاوز تلك الحريات المحددة، دون أن ندرك بالضرورة ما يعنيه هذا العنصر الإضافي.

وبعبارة أخرى، فإن كل هوية (التي يقصد بها كل مفهوم، وليس المجموعة الاجتماعية أو العرقية التي نربطها الآن بهذه الكلمة بمعنى "سياسة الهوية") يظللها ما ليس كذلك ("لاهويتها"). ') على نحو ثلاثي. أولا، الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن شيئين ليسا متماثلين تماما يتم التغاضي عنهما في الحكم الذي يسعى إلى تصنيف التفاصيل كأمثلة لفئة معينة بدلا من البحث في الخصوصيات. ثانيا: مفهوم الشيء خارج عن الشيء نفسه. على سبيل المثال، الجدول الدوري ليس العناصر الكيميائية نفسها. ثالثا، في المفاهيم الكبرى والمجردة، يتجاوز المفهوم بكثير أي تجربة ممكنة له. وبالتالي، فإن الحرية لا تعني مجرد الحرية التشريعية بالنسبة لمعظم الناس، كما أن مفهوم الحب يدل على علاقة رومانسية محددة بين شخصين. لهذه الأسباب، يرى أدورنو أن المفاهيم تكون دائمًا «أقل» و«أكثر» مما «يندرج تحتها».

في حين أن هذا "نقد الهوية" قد يبدو مجردا إلى حد ما (حتى غامضا)، ضع في اعتبارك أن أدورنو اعتبر أهوال القرن العشرين وكوارث التاريخ نتيجة "التفكير في الهوية" - وهو نوع من الفكر الذي ينفي الاختلاف. فالتعصب العنصري يعتمد في نهاية المطاف على النظرة إلى شخص آخر باعتباره مجرد مثال لفئة ما ــ مسلم، أو يهودي، أو أفريقي ــ وليس كشخص بعينه.

ومن المثير للدهشة أن مونتين يقدم حجة مماثلة حول كيف أن طبيعة الإدراك تعيق نفسها: “الامتياز الذي تتباهى به روحنا هو أن نصل إلى حالتها التي نتصورها، ونجردها من أي صفات بشرية وجسدية تنتمي إليها … أن تجردها وتحرمها من أحوالها الفاسدة، وتجعلها ملابس زائدة ودنيئة: سماكة وطول وعمق ووزن ولون ورائحة وخشونة ونعومة وصلبة ونعومة وسائر الحوادث المعقولة، لتناسبها وتناسبها. حالة خالدة وروحية "(مقالات). يقترح مونتين أن من طبيعة الذاتية أن تستوعب أو “تعيد إلى حالتها” كل ما تدركه، وتخلق خيالات مفروضة على الموضوع تمنع فهم الشيء (أو الشخص) نفسه. يجعل العقل كل كائن نموذجًا لفئة متصورّة مسبقًا، ويتم استبدال السمات المحددة للكائن بصفات مفترضة مسبقًا، والتي، على عكس "الصفات البشرية والجسدية" ليست مشروطة: فالأجسام تتعفن، لكن "الصفات" لا تتعفن. في مكان آخر، يتوقع مونتين الجزء الثالث من نقد هوية أدورنو، الحجة القائلة بأن المفاهيم المجردة تصل إلى ما هو أبعد من أي تجربة محددة محتملة لها: “نحن ننطق بسهولة بالقوة، والحقيقة، والعدالة؛ إنها كلمات تشير إلى مادة عظيمة، لكنها شيء لا نراه ولا نتصوره.» ومن المفارقة إذن أننا نستطيع خلق مفاهيم تتجاوز قدرتنا على فهمها.

يوضح شكسبير مخاطر التفكير في الهوية التي يحذر منها أدورنو. على الرغم من أنه يفعل ذلك من خلال إظهار العديد من الدول والأفراد الذين أعمتهم التحيز العنصري أو كراهية النساء، إلا أن المشكلة ربما تكون أكثر وضوحًا في حوار متبادل قصير في كتاب "واحدة بواحدة"، V.i. (أنا مدين بهذه الرؤية لديفيد باكستون):

الدوق فنسنتيو: ماذا، هل أنت متزوجة؟

ماريانا: لا يا مولاي.

الدوق فنسنتيو: هل أنت خادمة؟

ماريانا: لا يا مولاي.

الدوق فنسنتيو: أرملة إذن؟

ماريانا: لا يا مولاي.

الدوق فنسنتيو: لماذا؟ إذن أنت لا شيء: لا خادمة ولا أرملة ولا زوجة؟

على الرغم من حقيقة أن ماريانا أمامه مباشرة، لأنه لا يستطيع تصنيفها، يخلص الدوق إلى أنها "لا شيء".

ومع ذلك، في مشهد المقبرة في هاملت (V.i)، يتحرك الدافع لتحديد الهوية في الاتجاه المعاكس، من لا شيء إلى شيء ما. إن محاولات هاملت لتمييز الجماجم - "قد يكون هذا هو شكل سياسي / قد يكون هذا ربي مثله" - هي أكثر من مجرد تمثيل درامي للفكرة الكامنة وراء رقصة الموت. وكما يوحي استخدام اللقب الوهمي «اللورد مثل هذا»، فإن تجربة هاملت بين الجماجم تنطوي على اختزال إلى عبثية إجبار العقل على إنشاء فئات، وهو ما يوضح أنه يعتقد أنه لا يمكن القيام بذلك دائما. حتى عندما يواجه شيئا مجهول الهوية حرفيا - جمجمة خالية بشكل واضح من أي سمات مميزة - فهو يعين له هوية، أو حتى مهنة. (من المثير للسخرية أنه على الرغم من نقد شكسبير المرح للتصنيف هنا، فإن منتقدي هذه المسرحية قد سكبوا كمية لا تصدق من الحبر في محاولة لانتزاع سر كل من المسرحية وبطلها العنيد من خلال تصنيفها وتحديد دوافعه).

هناك فرع آخر من النظرية النقدية طوره ميشيل فوكو (1926-1984). ركز فوكو على العلاقة بين السلطة والمعرفة، وعلى وجه الخصوص، كيفية توزيع السلطة من خلال المؤسسات الاجتماعية، مثل المدارس والمصحات. في كتابه الذي صدر عام 1961 بعنوان «تاريخ الجنون»، يحاول فوكو تتبع تجربة الجنون المتغيرة من أوائل العصر الحديث إلى القرن التاسع عشر، مجادلًا بأنه «لا يمكن أن يكون هناك سبب بدون جنون». في حين أن إيراسموس ومونتين وشكسبير يبذلون قصارى جهدهم للإشارة إلى أنه لا يوجد شيء أكثر حماقة من اعتبار المرء نفسه حكيما، يذهب فوكو إلى حد القول بأن تأكيد المرء على عقله يكشف دائما عن أثر للجنون. إنه يهتم بـ "تلك الحيلة الأخرى التي من خلالها يقوم الرجال، في لفتة من العقل السيادي، بحبس جارهم [و] التواصل والتعرف على بعضهم البعض بلغة اللا جنون القاسية". ولكن مثل أي إجراء تصنيفي، فإن تعريف شخص ما بأنه "مجنون" هو، في بعض النواحي، غير عقلاني. إن القيام بذلك لا يضع فقط إيمانًا مطلقًا بقدرات الحس السليم على السيطرة على ما لا يستطيع فهمه بحكم تعريفه (لأن الجنون بحكم تعريفه يتجاوز العقل)، بل إنه يفشل أيضا في إدراك ذلك، كما يعكس مونتين في في الصفحات الافتتاحية من مقالاته، "الإنسان هو موضوع رائع، وعبثي، ومتنوع، ومتذبذب: ومن الصعب جدا أن نبني عليه أي حكم مباشر وثابت وموحد." إن طرح معايير مطلقة يتعارض في نهاية المطاف مع التقطع الأساسي للوجود.

يتضح أن رؤية فوكو هي بالتأكيد رؤية شكسبيرية. في رواية شكسبير الرومانسية المتأخرة، سيمبلين (VV)، يجد بوستوموس نبوءة جوبيتر الغامضة،

ويشير إليها على النحو التالي:

"... لا يزال حلما، أو أشياء مثل المجانين

اللسان، والدماغ لا؛ إما كلاهما أو لا شيء

أو كلام لا معنى له، أو كلام مثل هذا

كما لا يمكن للحس أن يفك ".

هنا، يرتبط العقل والهراء، العقل والجنون، في علاقة محددة بشكل متبادل. على الرغم من أن الكلام “الذي لا معنى له” لا يمكن دمجه بدقة في مجال العقل، إلا أنه لا يمكن الاعتراف به دون تصنيف العقل له كشيء غريب، خارج نطاق اختصاصه، “لا يمكن لحديث مثل المعنى أن يفك قيوده”.

أود أن أقترح أن الحماقة والحكمة يقعان أيضا في مثل هذه العلاقة المتبادلة. وفي حين أن الحماقة تمكننا من الضحك على ادعاءاتنا بالسيادة، فإنها لا يمكن أن توجد بدون ما يسميه مونتين "العقل البشري الجيد [الذي] يتأرجح في كل مكان، متسلطا ومسيطرا، يشوش ويربك وجه الأشياء وفقا لغروره".

ما الفائدة من فهم حدود العقل والجسم البشري؟

حسنا، بصرف النظر عن جعلنا ننظر إلى النزعة الإنسانية في هذه الفترة على أنها مناهضة للماهية وغير مركزية الإنسان، إذا فهم المرء عملية التنوير على أنها تتكون من "خروج الإنسان من عدم نضجه الذي جلبه على نفسه" (كما عرّف إيمانويل كانط التنوير في مقالته عام 1784 "ما هو التنوير؟")، إذا يمكن القول إن شكسبير ينير عقول جمهوره من خلال خطاب الحماقة، لأنه من خلال هذا الخطاب في المقام الأول يحرر جمهوره من انبهارهم بالأفكار التقليدية والأساليب الراسخة الفكر. ومع ذلك فإن الحكمة المتناقضة للحماقة تكمن، أولا وقبل كل شيء، في رفضها المتشكك للثقة في نفسها ــ للتأكيد إما على أن مضامينها صحيحة بشكل مباشر أو أن طرقها في إدراك العالم صحيحة بشكل مباشر. لذلك فإن الحماقة لا تعلم المرء أن يثق في فهمه. إنه يفعل شيئًا أكثر أهمية بكثير. إن حكمة الحماقة المتناقضة تعلمنا عدم الثقة في حكمتنا.

***

....................

الكاتب: سام جيلكريست هول هو زميل ما بعد الدكتوراه في OSUN-EHCN، قسم دراسات النوع الاجتماعي، جامعة أوروبا الوسطى. نُشرت رسالة الدكتوراه تحت عنوان حماقة شكسبير: الفلسفة والإنسانية والنظرية النقدية (روتليدج، 2017).

© قاعة الدكتور سام جيلكريست 2024

المصدر:

Shakespeare: Folly, Humanism & Critical Theory, Sam Gilchrist

©Philosophy Now 2024. All rights reserved.

 

حدَّثنا (ذو القُروح) قال: إنَّ الآية «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُمُ، فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَـهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» ليست بأمرٍ بالقتل، هكذا ضربةَ لازب، وبلا مناسبة، وبلا سبب، كما يفهم من لا يفهم الخِطاب، أو لا يُحبُّ أن يفهم، فيجتزئ ما يريد لما يريد، وإنَّما هي لبيان أنَّ ذلك مأذونٌ به، إذا انتهت الأشهر الحرم.  غير أنه بشروطه، لا عُدوانًا ولا همجيَّةً، وأوَّل تلك الشروط أن يقع العُدوان.  بَيْدَ أنَّ ذوي الأغراض، أو حتى ذوي الجهالات القرائيَّة، يفهمون النصَّ على أنَّه أمرٌ بإطلاق اليَد بالقتل بمجرد انسلاخ الأشهر الحرم.  قلتُ:

- وهذا ما لم يقله النَّص، حين يُقرأ في سياقه. ومعلوم أنه لم يستجب لمثل هذا الفهم أحدٌ من المسلمين أصلًا، ولم يحدث تاريخيًّا، على الإطلاق، أن شُنَّت حملات تطهيريَّة تحرق الأخضر واليابس!  أ فنقول: إنَّ الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان لم يفهموا ما يفهمه مَن يستشهدون بـ«القرآن» على عنف الإسلام؟! 

- أو ما يفهمه في المقابل المتطرِّفون من المسلمين.  وما يفهمه المنظِّرون لجهاد الطَّلب، بمعنى: طلب الحاكميَّة الإسلاميَّة طوعًا أو كرهًا.  فهذا (سيِّد قطب)(1)، مثلًا، يستشهد بالآيات من (سُورة النساء): «فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ.  وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا . وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنكَ نَصِيرًا.   الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ؛ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.»  يستشهد بها، وغيرها من الآيات، على أنَّ المَدَّ الإسلاميَّ هو، بنَصِّ «القرآن»، مَدٌّ قتاليٌّ، لا دفاعيًّا، وأنَّ فترات الكُمون، كما حدث في (مَكَّة) قبل الهجرة، أو مع اليهود في بداية استيطان (يثرب)، ما كان إلَّا على سبيل الإجراءات التكتيكيَّة المرحليَّة، وأنَّ القائلين بضِدِّ هذا، والزاعمين أن الدِّفاع هو قاعدة الحركة الإسلاميَّة، هم المهزومون أمام الواقع.  إنَّه لا يرى أنَّ مَن أباح للبَشر حُريَّة الاختيار بين الكفر به أو الإيمان، أي بين سُلطة الله وسُلطة غيره، قد أباح لهم حُريَّة الاختيار بين سُلطة الحُكم الإسلامي وسُلطة غيره!  فللإنسان- بحسب قوله- أن يؤمن أو يكفر، أمَّا مسألة الإيمان أو الكفر بسُلطان الدولة الإسلاميَّة، فلا! 

- أي لا بأس أن يكفر الإنسان بالله، لكن عليه أن يُسلِّم لخَلق الله من الحُكَّام! 

- وبذا صار الرضوخ لحاكميَّة الدولة الإسلاميَّة هو الأساس، وهو أهمُّ من الرضوخ لحاكميَّة الله، في المعتقد والسلوك والضمير.  وكأنَّ فلسفة الإسلام إقامة دولة «فاشيَّة»، شموليَّة عالميَّة، حاكمها مسلم، ونظامها إسلامي، وإنْ كان شعبها كافرين بالله أو برسوله!

- ذلك لا يهم، ما داموا يدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون! 

- أيُّ تصوُّرٍ غريبٍ للدِّين، على أنَّه نظريَّة سياسيَّة لتأسيس دولة- قمعيَّة بالضرورة ما دامت تلك مبادئها ومنطلقاتها- وليست نظريَّة هدايةٍ للبشر ورحمةٍ بخلق الله؟! 

- وهو الخطاب نفسه الذي يُنسب من خلاله الإسلام إلى العنف، بل يوصف بالدمويَّة والبربريَّة. 

- نعم.  كأنَّ صاحبك لا يقرأ الآيات، وإنَّما يقف نظره على مادة «قتل»، طَرِبًا بها، حيثما جاءت.  كأنَّه لا يقرأ في الآيات مبرِّرات ذلك القتال: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا».  ولا يسأل نفسه عن تلك القرية الظالم أهلها، ولا ما فعلوه بالمسلمين من قبل الهجرة ومن بعدها، ليرى أنَّ ذلك هو المبرِّر الأخلاقي والحقوقي للدِّفاع عنهم، وتحريرهم من ربقة استعبادهم.  ومن أولئك المستضعفين الأهل والولد والأقارب. 

- إذن، الأمر كلُّه مقرون بأسبابه في قتال المشركين، وقتال اليهود، وليس لإرغامهم على أن يكونوا مسلمين، أو لحُكمهم، والتسلُّط عليهم، والهيمنة على حياتهم؛ وذلكم فصل الخِطاب. 

- وهو سببٌ بَدَهيٌّ أن يدافع الناس عن أنفسهم، وقد فُرضت عليهم المواجهة فرضًا، لا مفرَّ منه. لكنَّ هؤلاء القراء يحتالون حتى على البدهيَّات حينما لا يجدون حُجَّة معقولة يحتجُّون بها.  مع جهلٍ أساس أحيانًا باللغة، والأساليب، والتاريخ، أو تجاهلٍ مقصود. 

- يفعل هذا من يسعى إلى رمي الإسلام بالعُنف، ومَن يسعى إلى توظيف الإسلام للعُنف. 

- صدقت.  فإنْ أعياهم التماس شواهدهم من نصوص الكتاب، التمسوها في مرويَّات التاريخ، أو عن سلوكيَّات المسلمين. 

- وكأنَّ أصحاب تلك السلوكيَّات لا يصدرون إلَّا عن أمر الله، أو عن أمر رسوله، فلهم الحُجيَّة نفسها التي لنصوص الكتاب! 

- وشتان!  وبين الفريق الأوَّل (المشوِّهة) والفريق الثاني (المتطرِّفة) فريقٌ ثالث، لعلَّه يمثِّله (محمَّد أركون)(2) في محاولته استقراء الخطاب في (سُورة التوبة). فأركون يراه خِطابًا يشرعن العُنف بالجهاد في سبيل المعتقَد، وفي سبيل الحقِّ المطلَق، بحسب اعتقاد أهله، وهذا عُنفٌ مشروع، وحربٌ عادلة باسم الله ورسوله، وَفق الأنثروبولوجيا الثقافيَّة، لدَى العَرَب وغير العَرَب، هدفها سحق المعارضين وانتصار الإسلام. 

- هذا تبريرٌ أكثر إدانة للخِطاب القرآني من غيره، وكأنَّما هو محض تعبيرٍ عن أعراف سياسيَّة تاريخيَّة، لها ما يبرِّرها في زمانها القديم، ولا يصحُّ إسقاطها على زمنٍ آخَر. 

- ومن ثَمَّ كأنَّ الخِطاب القرآني خِطابٌ تاريخي، محكومٌ بحقبةٍ زمنيَّةٍ محدَّدة، ظرفيًّا وقيميًّا!  وفي هذا- بعيدًا عن ماهيَّة المعتقَد أو التصوُّرات عن «القرآن»- تغافلٌ غريبٌ كذلك عن السياقات النصوصيَّة، أوَّلًا، والسياقات الموضوعيَّة الواقعيَّة، ثانيًا، لمجيء تلك الآيات.  والسبب دائمًا في تلك القراءات أنَّ الآيات تُعلَّق هكذا معزولة عن السياقَين، كما لو كانت أُحجيات، علينا أن نَفُكَّ طلاسمها في حدود كلماتها، بعيدًا عن معطيات الأسباب الواقعيَّة للتفسير، بل حتى بعيدًا عن العلاقات النصيَّة للآية.  ولست أدري أيُّ قراءةٍ تحترم الأصول القرائيَّة يمكن أن تُبيح لنفسها مثل هذا السلوك القرائي، بل تُقدِّمه على أنه «أسلوبٌ جديدٌ في القراءة والنظر».  وما هو في حقيقته إلَّا أسلوبٌ قديمٌ بليدٌ في القراءة والنظر. ولا جَرَمَ أنها بذلك إنما تُقدِّم بدَورها (قراءةً سياسيَّةً منحازة)، من أجل (طرح خطابٍ فكريٍّ يعنيها)، وهو غايتها الأساس، التي إنما تتذرَّع بدعوَى القراءات الجديدة من أجلها. 

- ولمَّا كان ذلك كذلك، فإن النصَّ نفسه، ومن السُورة نفسها، (سُورة التوبة)، أتى بعد الآية السابقة ليقول: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟!  أَتَخْشَوْنَهُمْ؟!  فاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.»

- صحيح.  كما جاء من السُورة التي أُذِن فيها بالقتال، (سُورة الحج)- وهي سُورة «مَدنيَّة»، في بعض الأقوال، لا «مكِّيَّة»، ومكِّيَّتها تُفرِح هؤلاء المطفِّفين في الأحكام، كما رأينا من قبل- ليقول: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئِينَ، وَالنَّصَارَى، وَالمَجُوسَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا؛ إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.»  فواضحٌ الأمر، إذن، واضحٌ السبب في القتال، واضحةٌ قيوده. 

- وبذا فليس من شأن الرسول أن يَفْصِل، فضلًا عن أن يُدخِل الناس في دِينه، لكنَّه شأن الله وحده، يوم القيامة. 

- ولقد أُدخِل «الذين آمنوا»، برسالة محمَّد، ضمن هذه الطوائف الدِّينيَّة المختلفة، كما أُدخِل «الذين أشركوا».  هذا هو منطق «القرآن»، الإنساني العادل، لا منطق المتنطِّعين والمتشدِّدين والإرهابيِّين، ولا منطق الطاعنين في المقابل، لأهواء خاصة، وأيديولوجيَّات ضاغطة، وتشوُّهات فكريَّة استقرائيَّة شتَّى.  ولأجل هذا ظلَّ «القرآن» يُسائل محمَّدًا، مساءلة استنكار: «إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ.  فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا! إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَـمَّا آمَنُوا، كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟!  وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.  قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ.» [سُورة يونس].  وفي (سُورة الكهف): «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا؟!»  ومثل هذا في مستهلِّ (سُورة الشعراء).  ولم يبق إلَّا أن نسرد آيات «القرآن» كلَّها لتبيان تواتر هذا فيه، وأنَّ الدخول في الإسلام ليس كرهًا، ولا يُقاتَل الناس حتى يدخلوه.  وهو ما توشك بعض القراءات المعاصرة- على تباين توجُّهاتها- أن تضاهئ فيه قوم (موسى) في ما فعلوه بكتابهم؛ إذ كانوا يجعلونه قَراطيس يُبدونها ويخفون كثيرًا! 

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1979)، معالم في الطريق، (بيروت: دار الشروق)، 71- 00.

(2)  يُنظَر: (2005)، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدِّيني، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، (بيروت: دار الطليعة)، 57- 00.

 

كثيرة هي المفاهيم والمصطلحات التي اقتحمت بيئتنا الثقافية الراكدة، وتسللت الى أروقة تصوراتنا الفكرية المبتسرة، بحيث كان دخولها المفاجئ واقتحامها السريع أشبه ما يكون بزلزال يضرب أرضا"جرداء وبيئة جدباء لا أمل فيها ولا رجاء. أي بمعنى أنه برغم خطورة تلك المفاهيم والمصطلحات، وجسامة ما تحمله من معاني ودلالات، فيما لو أحسن فهمها على صعيد تنمية الوعي بالتاريخ الوطني المتهتك، وأجيد توظيفها على مستوى الارتقاء بالبناء الحضاري المتصدع. إلاّ أن أغلبها - وللأسف الشديد - بقيت كصرخة في واد مقفر لا يعكس سوى رجع الصدى ومن بعدها صمت القبور.

ولعل مفهوم (الذاكرة التاريخية) الذي بات من جملة المفاهيم الأكثر شيوعيا"مثلما الأكثر إشكالية في الدراسات والبحوث الإنسانية المعاصرة، حيث تتقاسم مهمة الانشغال فيه والاهتمام به والرهان عليه ثلاثة علوم اجتماعية أساسية هي ؛ التاريخ والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا، بعد أن ساهمت كل من مباحث (العولمة) الثقافية ونظريات (ما بعد الحداثة) وطروحات (ما بعد الاستعمار)، باستثارة كل ما يقع تحت طائلة الثوابت والمسلمات في مجال السرديات التاريخية الكبرى، التي عاشت على مواريثها المؤمثلة في المخيال الجمعي سلسلة من الأجيال كما لو أنها حقائق مقدسة. 

وبصرف النظر عن ماهية تكوينها وقيمة محتواها، فان (الذاكرة التاريخية) هي القسمة العادلة بين جميع أعضاء الأسرة البشرية، بحيث يستحيل العثور على كائن إنساني سليم لا تحمل بطانة وعيه مخزون – يزيد أو ينقص – من أرشيفات تلك الذاكرة المؤمثلة، والتي تحتوي على خليط متنوع من خلفيات ومرجعيات حقب تطور الشعوب والأمم وفقا"لمسرات تاريخية وحضارية شتى، تتهادى بها بين ارتدادات وانكسارات تلزمها الركون الى أطوار بدائيتها الأولى تارة، وبين تطلعات وانطلاقات تسوقها للانخراط في أطوار ثقافات وحضارات إنسانية تارة أخرى. إذ كلما تعرضت هذه الذاكرة الى التصدع والتشظي على خلفية إيحاءات تلك الخلفيات والمرجعيات المأزومة، كلما شهد المجتمع المعني مرحلة من الانتكاس القيمي والنكوص الحضاري، والعكس بالعكس.

ولأن التجارب التي يخوض غمارها الجنس البشري تختلف من مجتمع لآخر ومن مكان لآخر ومن زمان لآخر، بحسب اختلاف الجماعات القومية وتباين المكونات الثقافية ؛ ان من حيث الأصول السلالية التي تنحدر منها، أو البيئات الايكولوجية التي تسكن فيها، أو الاعتقادات الدينية التي تؤمن بها، أو الأرومات اللغوية التي تتحدث بها. فان مسألة التنوع في الدلالات التي تحملها (الذاكرة التاريخية) بالنسبة لتلك الجماعات والمكونات تبدو مسألة طبيعية لا تشي بأي شذوذ أو انحراف، فضلا"عن كونها تتسق مع منطق الظواهر الاجتماعية والإنسانية التي تتسم بالتعدد والتنوع والاختلاف. هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار ان كل جماعة معينة تمتلك – حتى ولو كانت لا تعي ذلك - ذاكرة تاريخية خاصة بها تتماهى مع سرديتها وتجتاف قيمها، مثلما تعبر عن اختلاف – ان لم يكن تعارض – رموزها مع بقية الذاكرات التاريخية للجماعات الأخرى. 

وعلى الرغم من وضوح هذه الوقائع، فقد لبثنا أحقابا"نلوك الكلمات الطنانة ونجتر الخطابات الرنانة التي لا تغني ولا تسمن من جوع حول دور (الذاكرة التاريخية) في لملمت شعث الجماعات، وصهر تناثر الأصوليات، فيما الواقع الاجتماعي يغلي من حولنا بالكراهيات ويتفجر بيننا بالصراعات، دون أن تعترينا لحظة صحوة نتأمل من خلالها أسباب هذه السيول من المآسي الطاحنة والاهتداء الى مصادر دوافعها المكبوتة، كما لو أن سحر الكلمات الناعمة بات أمضى من وقع السلوكيات الخشنة. فكون الذاكرة تحمل صفة (التاريخية) لا يجعل منها اتوماتيكيا"مسار (تلاق) بين المكونات الاجتماعية والثقافية، مثلما لن يحيلها الى بؤرة (اتفاق) بين تلك المكونات تحت مسميات (المواطنة) الفضفاضة أو (الهوية) الملتسبة.

فقد تكون الذاكرة التاريخية – وقد كانت بالفعل – سببا"أساسيا"في تصدع مداميك الكيان الاجتماعي وتشظي مكوناته وتذرر ثقافته، بحيث ساهمت سردياتها الطافحة بالحساسيات الاقوامية، والفائضة بالمنافكات القبائلية، والمترعة بالكراهيات الطوائفية، في تعميق هوة خلافاتنا، وتوطين عوامل صراعاتنا، وإطالة أمد معاناتنا. ولعل ما تسببت به (الذاكرات التاريخية) للجماعات العراقية المتصارعة من مآس وفواجع على مدى عقود – ان لم تكن قرون - كفيل بحملنا على التريث في الرهان على اعتبارها (ميزة) سوسيولوجية لسمتنة النسيج الفسيفسائي للمجتمع، بدلا"من تحولها الى معول لهدم كيانه وتذرر مكوناته !.   

*** 

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

كتب أندريه مالرو ذات مرة: "أن ثمة ما يحجب عنا ضياع الأهداف، عندما نساوم أنفسنا أن نتيه في الفيافي دون بوصلة، دون أن نبحث عن بعوث بديلة لإحياء الأمل". يجب علينا أيضاً، عندما ندعي ممارسة مهنة الإعلام، ألا نبخسها حقها في الانتقاد والتصريف الفكري والمباغتة الصادمة، لأن علة الاستقواء والتردي تبعثها على الصدأ والاندثار، لكن مع نفور هادئ وحازم ومنهجي لا يقطع الجسر العابر إلى النهر.

أعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتحرر من الانبهار المضطرب الذي تثيره حالة من التوتر الشديد، يغديها أحيانًا الحضور المهووس للأنانية والتفريط في القيم والعبث بالمآلات.

ومن ثم، نحن مضطرون لمحاولة فك رموز القضايا الخفية، والتنافس على تدويرها واستنطاقها، وإجلائها من حالة الكمون والكلام الفارغ.

سأكون موجزا ومجازا. فالذي قيل ولا زال يقال عن أزمة الإعلام والصحافة في بلادنا العربية، كفيل بأن يبني حضارة واسعة من اليوطوبيا، وينهي عصرا فريدا من التخبط واللامعنى، في ظرفية صعبة وشاذة أضحت فيها العشيرة الفريدة من قبيلة الإعلام تتصادم وتتنابز وتثور دون إحداث تغيير.

ما الذي نحتاجه اليوم، لإعادة تصحيح المسار؟ فلدينا نظام، يحتكم لقوانين فصلت على المقاس، واستدرجت للعب أدوارها بمسافات مناسبة، حد أن نشك في مثاراتها ونحن نقف قريباً بالقدر الكافي لفهم القوة الدافعة وراءها، ولكن بعيداً بالقدر نفسه حتى لا نصبح أداة لها.

ما الذي يفاقمه الحال الذي نحن عليه الآن، حتى التردد في إصلاح المنظومة، وهي على مبعدة فارقة من القبض على جمرها، دونما إجحاف أو تردد أو مناكفة؟

هل يتصل هذا الهم السيزيفي بما تعيشه المهنة السلطانية الموهومة، باقترابات القانون والأخلاقيات وبعض من حاجياتنا المعيشية، من الخبز إلى الصحة والتقاعد والتنفس دون رهق أو حسرة على العمر؟

في متاهة اليومي، نقاوم من أجل محاولة استعادة تفكيك هذه الأسئلة والإجابة عنها، وفي أحسن الأحوال تمكين المهنيين إلى جانب علماء الفكر والاختصاص، من تأمين القابلية لدحض نظرية الرداءة في إدارة الصراع إياه، حتى لا تستمر مأساة تحطيمنا وإتلاف جذوة مستنفرة تعيد الروح إلى أجسادنا المخرومة، لأننا بتنا نعتقد أن الصراع داخل عقر الفيلة لا يعكس سوى جزء دقيق جدا من تشكيل رؤية معيبة للعالم ونظام قيمه.

وانطلاقا من المتغيرات التكنولوجية الحديثة والمتسارعة، ومع ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، شهدت الساحة الإعلامية إعادة تشكيل أساليب تنظيم وإنتاج وتوزيع المحتوى من خلال وسائل الإعلام التقليدية. وبالتالي، الاندماج السريع في استخدام التكنولوجيا الرقمية. ليس فقط، من أجل إنتاج محتوى مرئي متنوع وتوجيهه من أجل جذب الجمهور، وملامسة أنواع عديدة من الكتابات الصحفية، منها المقالات والتقارير والمحتوى الذي يتعلق بالمنتجات والخدمات والمواضيع والقضايا الراهنة والمهمة، ولكن، أيضا، ليكون الهدف من هذه الصناعة، نقل الأحداث والمعلومات وتقديمها للجمهور بشكل شامل ودقيق، من خلال البحث عن مجالات جديدة من الجمهور والربحية الاقتصادية.

ومع ذلك، فإن التحولات الملحوظة أدت إلى التطور السريع للصحافة الرقمية، ما جعلها تواجه صعوبات مرتبطة باحترام المعايير والممارسات المهنية والأخلاقية والتنظيمية .

وفي هذا الإطار، شهدت الصحافة الإخبارية في السنوات القليلة الماضية، تدهورا كبيرا حيث أنّ التكنولوجيا قد غيّرت من طرق التواصل بين الناس وطريقة عمل وسائل الإعلام. واليوم، يحصل معظمنا على الأخبار من خلال الهواتف النقالة ومن المنصات الإلكترونية التي نمت بكثرة باستغلال البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت، وبالحوز على الإعلانات المربحة التي كانت تنتفع منها وسائل الإعلام التقليدية.

وهو ما يستدعي بالضرورة، طرح سؤال الإلتزام بالمعايير الأخلاقية، في سياق من التحولات الاجتماعية التي ألقت بالمنظومة العالمية للاتصالات في مرحلة إنتقالية فوضوية. وبالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام ولأيّ شخص يسعى للحصول على وسائل اتصال موثوقة وآمنة، في المستقبل، أصبح الدفاع عن الصحافة الأخلاقية وتعزيزها أكثر ضرورة من أي وقت مضى.

وبفعل الأخبار الزّائفة والدعاية السياسية والمؤسسية إضافة إلى الانتهاكات المتداولة عبر الإنترنت، أصبحت أسس الديمقراطية مهدّدة وفُتحت خطوط أمامية جديدة للمدافعين عن حرية التعبير والمسؤولين السياسيين والإعلاميين. وعلى نطاق أوسع، أدى هذا المزيج السام من التكنولوجيا الرقمية، وغياب الضمير السياسي والاستغلال التجاري لمشهد الاتصالات الجديد إلى زعزعة منظومة الإعلام الجماهيري وإنهاكها.

وفي بيئة تكافح فيها المنظومة القانونية لتنظيم أنشطة إنتاج المحتوى على الويب والمواقع الاجتماعية والإلكترونية، حيث يتجه الاتجاه نحو إضفاء الشرعية على "الأخبار المزيفة"، وحيث يحتل "خطاب الكراهية" والمعلومات المضللة مكانًا مهمًا في الفضاء العام الرقمي. أضحت تحديات الإعلام الرقمي مثار نقاش مستفيض ومفتوح على كل الواجهات، تنميه العلامات الجديدة في الحقل السوسيولوجي والثقافي والقانوني، مدفوعة بالضرورة والوثوقية باتجاه بلورة ميثاق ائتماني قابل للتشكل والتداول.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

يحدث أحياناً أن تسير في طريق لترى موقفاً مضحكاً فتبتسم دون ارادة من عندك على ذلك، فيحدث شعوراً بهيجاً في النفس، وذلك الشعور يجعلنه نشعر بالراحة والسرور والرضا، وهذه الصفات هي التي عرف به الجرجاني  الجمال والحسن . فهل هذا الشعور هو الجمال حقاً ؟

 أختلف معنى الجمال في الفكر الإنساني عبر العصور، فمنهم من وجد الجمال في الخير والنفع  كسقراط،وآخر في الشيء الكامل أو الكمال عند أفلاطون، أو في الانسجام عند ارسطو، أو في اللذة والمتعة وعدم الألم عند الابيقورية والرواقية، أو في الاتحاد مع الله عند فلاسفة العصور الوسطى، أو كسلاح للمجتمع مع ماركس، أو تطهير النفس من ادران انفعالاتها وكبتها مع فرويد، أو كشعور وانفعال ولغة بين الأنفس مع تولستوي.

كل ذلك يجعل الجمال مفهوم سائل يخضع لظروف الإنسان وتحدياته، فكل جيل أو عصر مفهوم جمالي يخضع المجتمع والأفراد له، والذي لا يستجيب لذلك المفهوم في عصره يعتبر خارج الزمن، فالجمال سلطة قبل أن يكون شعور،، كما أن هذا الشعور اتجاه الجمال  يخضع لذات الفرد، وليس للثقافة والمعرفة والبيئة، فبحسب تولستوي وكروتشة ليس بالضرورة أن يكون الجمال شيء مفرح، قد يكون شيئاً محزناً، وقد يكون ألماً بحسب  الروائي السريالي دي ساد، وهذا يعارض رؤية توما الأكويني الذي عرف الجمال: بأنه ذلك الذي لدى الرؤية يسر .

 أمّا مع الفيلسوف والروائي الروسي  تولستوي (١٨٢٨) صاحب رواية  الحرب والسلم،  الذي ارتأى أن يعيش حياته بالقرب من الفقراء على الرغم من أنَّ عائلته كانت من العائلات الملكية آنذاك، ويبدو ذلك قد انعكس على جميع فلسفته ومنها الجمالية والفنية .

فالجمال عندهُ شعور يحدث انفعالاً في النفس الإنسانية  وهذا الشعور خاضع لفهم الفرد ومزاجياته، فالجميل لا يكون جميلاً اذا اتفق عليه العقل والفهم بحسب كانت في ملكة الحكم الجمالي، بل يقول تولستوي  في كتابه (ما هو الفن ) أن الشيء يكون جميلاً إذا أحدث عدوى في نفس المتذوق، وهذه العدوى ليست بالضرورة إيجابية أو سلبية، بل أنَّ نجاح الفن والفنان بنقل الاحاسيس والمشاعر التي ترتابه إلى الآخرين عن طريق الفن يعد إبداعاً فنياً وجمالياً . " فإن الأحاسيس مهما تنوعت ... إذا انتقلت بالعدوى إلى القارئ أو المشاهد والمستمع فهي بذلك تصبح مادة للفن ...الفن هو نشاط إنساني يكمن في أن يقوم إنسان ما بوعي وبواسطة إشارات خارجية معروفة، بنقل الأحاسيس التي يعاني منها إلى الآخرين، والآخرون يعدوّن بهذه الأحاسيس ويعايشونها" .

فبحسب هذا القول يصبح الفن إذن ليس حكراً على المبدعين  والموهوبين فقط أو إلهياً كما عده أفلاطون قديما ً، بل إنّ أيَّ إنسان يمكن أن يصبح فناً إذا تمكن من نقل أحاسيسه إلى الآخرين بأي طريقة معروفة . وهذا الذي جعل نجاح العمل الفني ونوعيته تعود إلى الكم من المتذوقين وليس الكيف . فالفن عنده للفقراء وليس حكراً على الأثرياء كونه يعدونه شيئاً كمالياً، فنظرة تولستوي جيدة من جانب تخليص الفن من سطوة وبلاهة الأثرياء، اذ يعدوه احد ممتلكاتهم أو من أجل المتعة واللهو، أما الفن مع الفقراء فيكون إحساساً عن يعبر عن ذواتهم ومعاناتهم ، لذلك وصف تولستوي الفنان بانه يقوم بدور اجتماعي عندما ينقل أحاسيسه إلى الآخرين، كما عد الفن وسيلة اختلاط مهمة وضرورية بين الناس من أجل الحياة ولصالح تطور الإنسانية .

فنظرة تولستوي التي جعلت من الجمهور العام هو المعيار لحقيقة الفن والجمال أكدت  على الإنسانية، ونست أن الفن لا يرقى ولا يتطور إلا من خلال النخبة المثقفة من الأكاديميين أو الفنانين أو الفلاسفة والمفكرين . إلا أن نقد تولستوي للفن قد يكون نقداً لمفهوم الثقافة آنذاك، فالثقافة مفهوم سائل ومتغير من عصر إلى آخر ومن حضارة إلى اخرى، إذ كان يرتبط هذا المفهوم بالغنى والثراء والخروج من حدود المكان، وليس من حدود الاختصاص، وما زالت هذه النظرة سائدة عند الفقراء وعامة الناس إلى اليوم  . 

لكن العدوى التي عدها تولستوي فناً نجدها اليوم في الترندات على التواصل الاجتماعي  وهو يعد الموضوع أَو الحدث الذي يحضى بإهتمام الناس خلال فترة زمنية معينة . وهذا لا يتناسب مع السمات التي يجب أن يتصف بها الشيء الجميل الذي يكون روحياً وليس وقتياً كنوع من الحاجة، وهذا المفهوم الجمالي الذي طرحه تولستوي هو من أجل الفقراء لا من أجل الفن للفن ، فالفن لغة  رمزية تنقل من خلالها الانفعالات .

***

كاظم لفتة جبر

بين طموحات الحكومة وتحديات الواقع.. في ضوء كلمة رئيس الوزراء في جامعة جون هوبكنز..

اثارت زيارة رئيس الوزراء الى جامعة جون هوبكنز في واشنطن اهتماما واسعا في الوسط الاكاديمي، حيث شدد في الندوة الحوارية التي عقدتها الجامعة على اهمية الجامعات في تعزيز التنمية المستدامة، مستعرضا خطط الحكومة لتطوير التعليم العالي، بما في ذلك زيادة الاستثمارات وتشجيع الابتكار والبحث العلمي.

تُبرز زيارة رئيس الوزراء وندوته الحوارية التزام الحكومة بتطوير التعليم العالي في العراق، ومع ذلك يصعب الحكم على مدى اهمية خطط وسياسات ومشاريع حكومية لا تبدو وانها تتفق مع التحديات التي يمر بها التعليم العالي.

اكد سيادته على رغبة الحكومة في الارتقاء بالقطاع الاكاديمي وتعزيز مجتمع البحث العلمي، وهو ما يتطلب استراتيجيات وتخطيطا دقيقا. هنا يُطرح السؤال عن كيفية تحقيق هذه الاهداف وما هي الخطوات المحددة التي ستتخذها الحكومة.

من جهة اخرى، اكد سيادته على استعداد الحكومة لمواكبة التطورات العالمية في مجال التعليم الرقمي والذكاء الاصطناعي، وهو امر يتطلب استثمارات كبيرة وتدريب الكوادر البشرية لكون البلاد في بدايات هذه المجالات ولا توجد سياسات واضحة واموال مخصصة لهذه المجالات. فهل يعد السعي لمواكبة التطورات العالمية مجرد آمال بعيدة المنال، ام انه يتماشى مع استراتيجية محددة الاهداف والمعالم؟ وما هي الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لتحقيق هذه الاهداف وضمان جودة التعليم المقدم؟

اما بالنسبة لمشروع الحكومة لمواءمة "المناهج الجامعية مع احتياجات سوق العمل، وزيادة التنوع في تكوين اعضاء هيئة التدريس والموظفين" ، فإن المهمة تبدو عسيرة التحقيق بدون تغييرات جذرية في الهياكل الجامعية والبرامج الاكاديمية والمناهج التدريسية، مما يفرض السؤال عن كيفية تحقيق التوازن المفترض بين المتطلبات الاكاديمية واحتياجات سوق العمل.

وبخصوص الاشارة الى ان "الجامعات العراقية مستقلة، ولا تمثل مصالح خاصة او حزبية او سياسية او دينية، ولا تحضّ على الكراهية"، وان جامعاتنا تتوفر فيها "حرية التعبير والبحث العلمي، وترفض اي خطاب عنصري او طائفي داخل جدران الحرم الجامعي"، فإنها مسألة لم تثبتها الاجواء التي تعيشها الجامعات ولم تؤكدها الاحداث التي جرت داخل الجامعات منذ عقود. ولم نشهد اجراءات مهمة تعمل على تعزيز التفاعل بين الوزارة والجامعات لتعزيز المساواة والحريات الاكاديمية ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب. ويبدو هناك تناقض في تصريحات رئيس الوزراء حول حرية التعبير الاكاديمية مع الواقع المُعاش في الجامعات العراقية، التي تفتقر الى بيئة اكاديمية حرة وتتعرض للتدخلات الخارجية. ونتساءل عن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لضمان حرية التعبير داخل الجامعات ولمنع التدخلات السياسية والطائفية، وهل هناك قوانين او تعليمات بهذا الخصوص؟ وهل تم معاقبة او طرد اي فرد انتهك حرمة الجامعات او تدخل في شؤونها؟

اكد سيادة رئيس الوزراء على ان "الانحرافات التي لا تنتمي لاتجاه البحث العلمي الحقيقي ستنكشف وستبعدها مؤشرات التقييم الجامعي الرصين". وهذا ما يدفعنا لطرح تساؤل حول وجود استراتيجية واضحة للحكومة لمنع الانحرافات في مجال الابحاث العلمية ( والتي يمكن ان يعني بها سيادته النشر الزائف وتزوير الشهادات) وكيف سيتم تطبيقها؟ بالتأكيد، نحن نتوق بحماس للتعرف على المعايير والاجراءات التي ستظهر وتقصي الشهادات والأبحاث المزيفة.

لذا، تبقى خطط الحكومة لتطوير التعليم العالي في العراق وعودا طيبة النية طالما لم تترجم الى برامج ملموسة مع اليات واضحة للمتابعة والتقييم.

يتطلب تحقيق تقدم حقيقي وضع خطط مفصلة مع تحديد الميزانيات والجدول الزمني، وتخصيص الموارد اللازمة واجراء اصلاحات جذرية لخلق بيئة تعليمية حرة ومنتجة تساهم في نهضة العراق.

بشكل عام، يبدو ان زيارة رئيس الوزراء وندوته الحوارية في جامعة جون هوبكنز تبرز التزام الحكومة بتطوير التعليم العالي في العراق، ولكن من المهم متابعة تنفيذ الخطط المعلنة وضمان التحقق من النتائج الملموسة، والفاعلية في تحقيق التحسينات المطلوبة في المجال الاكاديمي.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

لا أحد يستطيع أن ينكر أن عصرنا هو عصر المعلومات. المعلومة العسكرية والاقتصادية والسياسية. وقد تؤدي معلومة واحدة لمكسب مهول أو خسارة فادحة، كما حدث أيام أزمة الاقتصاد العالمي في أواخر التسعينيات التي بدأت بانهيار العملة التايلاندية، ثم بسقوط البورصة في مختلف دول آسيا كأحجار الدومينو.

 في تلك الأزمة انهارت شركات، وخسر رجال أعمال ملايين من أموالهم، إلا أن هناك آخرون كانوا يتوقعون الأزمة واستطاعوا الانتفاع منها قبيل ساعات قليلة من حدوثها، إنها معلومة وحيدة خافضة رافعة، ملايين تذهب وملايين غيرها تأتي في غمضة عين، وهنا تصبح المعلومة الواحدة تساوي وزنها طناً من ذهب!

 المعلومة معناها الثقافة، أي أن تعرف أكثر وتبحث أعمق. فالثقافة كلمة واسعة تشمل كل نواحي الحياة اليومية، على المستوي الفردي والجماعي. والدول المتحضرة، أي المثقفة، هي دول غنية؛ لأنها تستطيع توظيف ثقافتها لخدمة اقتصادها، هكذا تأتي الثقافة أولاً. فقط عند الدول المتقدمة !

نظرية هوركهايمر

 تلك هي النظرية النقدية التي طرحها الألماني ماكس هوركهايمر(1895: 1973) في مواجهة النظرية التقليدية للرأسمالية، واتخذت اسم "مدرسة فرانكفورت". إن كتاب ماكس حول "النظرية النقدية والنظرية التقليدية" يقدم رؤية مختلفة عن منظري الليبرالية الجديدة الذين يرون أن تاريخ الاقتصاد يسير بطريقة عمودية فيتجه دوماً نحو التقدم، غير أن النظرية النقدية تري العكس: أن التاريخ إنما هو سلسلة من التناقضات الذاتية ويتحرك في طفرات. وأن الإنسان كلما أخضع الطبيعة لمشيئته، كلما زادت سيطرة الإنسان على الإنسان وقهره، أي يسود قانون القوة. وهنا يتحرك المجتمع ككل حركة عكسية، ظاهرها الترقي الاقتصادي، وجوهرها الانحدار الاجتماعي والأخلاقي.

 إن الرأسمالية اليوم في أزمة صنعتها بنفسها ولا تستطيع تجاوزها ولا التخلص منها، لأنها أزمة تراكمت على مدي عقود طويلة هي عمر الرأسمالية بمختلف مراحلها وتطوراتها. ولعل أشد ما يعيبها اتخاذ قانون القوة أساساً للإثراء، والقوة أي الحرب والعنف وكل أساليب الاستغلال وقهر الضعيف، سواء على المستوي الفردي أو حتى على مستوي الدول والمجتمعات.

 لقد ادعت الرأسمالية كنظام اقتصادي غربي أنها تضمن تحقيق الحرية والرفاهية، لكن لمن؟ فقط لأنصارها وأتباعها. أما البقية الباقية فهم المستهلكون. هكذا تصبح هناك فئة مستغِلة منتجة يتحرك مؤشر اقتصادها باستمرار لأعلي حد ممكن، وفئة عاملة مستهلِكة تبذل كل ما يستطاع فلا تنال إلا الفتات، ودورها يقتصر على شراء ما ينتجه أصحاب رؤوس الأموال. لا مكان هنا للرحمة أو التوزيع العادل للأنصبة. فإذا كانت الشيوعية أثبتت عدم جدواها كنظام اقتصادي، فإن الرأسمالية توحشت فصارت نقيضها الذي سوف يثبت فشله أقرب مما نتخيل !

كساد عالمي قادم

 كتب العالم الأمريكي (جيمس بتراس) دراسة مهمة حول ضرورة التخلص من أفكار الليبرالية الجديدة والتي تحولت في بعض أحوالها إلى كليشيهات بالية حمقاء، جعلت الاقتصاد الغربي يقوم على النهب والسرقة والاستغلال وغسيل الأموال، وتحول فيها كل ما هو تافه أو بذيء إلى شيء راقي مطلوب يباع بالملايين، فالدعارة المقنعة يسمونها موديلينج، والفورميولا تصبح رياضة الأثرياء!

يقول جيمس: لقد تحطمت كل أصنام الرأسمالية التي نُصبت طوال العقود الثلاثة الماضية وهوت بلا أسف عليها. هناك فرضيات ونماذج ومقولات تم اختبارها حول التقدم اللانهائي في ظل السوق الحر والرأسمالية الليبرالية، وثبت بلا جدال فشلها الذريع.

  نحن اليوم نعيش نهاية حقبة كاملة: حيث يشهد الخبراء في كل مكان على نهاية النظام المالي العالمي والأمريكي بسب غياب الإقراض من أجل الإتجار ونقص تمويل الاستثمارات. ويلوح جلياً في الأفق كساد عالمي ستفقد فيه ربع قوة العمل العالمية وظائفها.

  إن ما يحدد معالم المستقبل القريب هو أكبر انخفاض في التجارة العالمية في التاريخ وبنسبة تجاوزت 40%من حجم التجارة السنوي، لهذا يقض مضاجع قادة العالم الغربي شبح الافلاس المرتقب لكبريات الشركات الصناعية في العالم.

  انتهى اليوم مفهوم السوق كضابط في ذاته لتوزيع الموارد، وانتهى معه الدور القيادي المزعوم للولايات المتحدة بوصفها قاطرة الاقتصاد العالمي! هذا الكلام تقوله "الفاينانشيال تايمز" هذه الأيام. لقد ثبت بوضوح أن كل فرضيات السوق التي تصحح أحوالها بنفسها ما هي إلا فرضيات زائفة بلا معنى.

   لقد انهارت كل نظريات رفض التدخل الحكومي في السوق حتى عند عتاة من كانوا يتبنونها ويبشرون بها. وحتى الدوائر الرسمية تعترف الآن بأن أهم أسباب بداية الأزمة والانهيار الاقتصادي هو عدم المساواة الفظيع في الدخول، وأن هذا الأمر يجب تصحيحه.

 الآن صار التخطيط والملكية العامة والتأميم من المفاهيم المطروحة بشدة على الأجندة الاقتصادية العالمية بل استعادت البدائل الاشتراكية احترامها لدى الكثير من الخبراء ومع بداية الكساد تهاوت كل آلهة أوليمب العقد الماضي فقد فشل الاقتصاد الموجه نحو التصدير فشلا ذريعا وعادت سياسات بدائل الاستيراد إلى الظهور بقوة.

البديل الثالث

 الغريب في الأمر أن الذين يرون أن الرأسمالية تنهار يفزعون دائماً إلى بديل أسوأ هو الاشتراكية، وكأنه لا حل ثالث! والصين الآن لا هي اشتراكية ولا رأسمالية وإنما وسط بينهما.

  معني هذا أن العالم اليوم يبحث عن هذا البديل لفلسفة اقتصادية جديدة تتحاشى الأخطاء.

 النظريات الجديدة التي تقوم الآن في محاولة لإيجاد حل وسط لا تصلح للتطبيق في أغلبها، لأن أكثرها يعتمد في الأساس على نقد النظريات القديمة، ثم إنشاء رؤي هي في الأصل أفكار قديمة بثوب جديد. أي أننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، بدلاً من البناء على نماذج موجودة بالفعل.

 هناك قوي اقتصادية ناشئة، وتكتلات اقتصادية بات لها اليوم وجود حقيقي، ودول تسير في نموها الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل وتتجاوزها، وسرعان ما ستتمكن من التقدم على مؤشراتها، مع التراجع الذي يحدث باستمرار للاقتصاد الأمريكي والأوروبي بسبب الحروب أولاً، ثم بسبب سياساتها الخارجية الخاطئة.

 وإذا أردنا أن نبحث عن بديل ثالث فلا يوجد أمامنا إلا تجارب هذه الدول التي تنمو بأسرع من النمو الأمريكي في الاقتصاد. فلا وقت لتجربة نظريات على الورق قد يكذبها الواقع بعد سنوات.

النمو الثقافي

 وإذا عدنا من حيث بدأنا. ووضعنا يد الثقافة خلف عجلة الاقتصاد تدفعها للأمام. فإننا في حاجة إذن إلى تطوير أنفسنا معلوماتياً في كل مجالات المعرفة والثقافة والفكر والفلسفة.

 إن الرأسمالية والاشتراكية لم تنهضا إلا بفعل فلسفة اقتصادية. أي أن نشأتهما الأولي كانت بسبب الفكر والثقافة وأصحاب الرؤي النافذة المتجاوزة لحدود الزمان والمكان. أمثال هؤلاء تضج بهم مؤسسات صنع القرار والهيئات المسماة: "think tank" في الولايات المتحدة الأمريكية . وهذا ما يجعل مثل تلك المؤسسات تسبق الجميع بخطوة واحدة، هي خطوة المعلومة والفكرة العبقرية القائمة على دراسة ميدانية وتخيل مستقبلي للأحداث.

صحيح أن الفن والأدب والبحث العلمي ودراسة التاريخ جزء من الثقافة، إلا أن كل تلك الروافد إذا انفصلت عن واقعنا اليومي وتحولت إلى إغراق في الوهم والشعوذة والخيال، وابتعدت عن التنظير لحالة المجتمع وما يجب أن يكون عليه. وتوقفت عن التفكير في صناعة المستقبل على أساس متين قوامه فهم حركة الاقتصاد العالمي، وإدراك المتغيرات الحادثة في قوانين المال والتجارة العالمية وسلاسل الإمداد، ومعرفة ما يدور في كواليس الاقتصاد العالمي من اتفاقيات الغرف المغلقة، وتحالفات ما بعد انهيار الرأسمالية!

***

عبد السلام فاروق

تساعدنا رؤى نيكولو مكيافيلي العميقة حول البدايات العنيفة للمجتمعات السياسية على فهم عالم الحاضر

مقال: ديفيد بولانسكي*

ترجمة: الحبيب الواعي**

***

 كتب فريدريك نتشه ذات مرة: «إن البشرية تحب أن تتجاهل تساؤلات الأصول والبدايات». مع كامل اعتذاري لينتشه، فإني أقول بأن «أسئلة الأصول والبدايات» هي في الواقع الأشد إثارة للجدل والنقاش الساخن فقد أعادت الحرب الجارية بين إسرائيل وغزة فتح النقاش القديم حول ظروف تأسيس إسرائيل وأصول أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الآن نفسه، أصر فلاديمير بوتين في الخطاب الذي ألقاه عشية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 على أن روسيا "منذ الأزل" كانت دائمًا تضم أوكرانيا، وهو الوضع الذي توقف سريان مفعوله مع تأسيس الاتحاد السوفيتي. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أثار مشروع نيويورك تايمز لعام 1619 قدراً لا يستهان به من الجدل بإصراره على أن الأصول الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية لا تكمن في دستورها الرسمي بل في إدخال العبودية إلى أمريكا الشمالية.

بعبارة أخرى، تمثل العديد من النزاعات السياسية البارزة اليوم وسيلة تعيدنا إلى بدايات الاشياء، وتنتج وتُشن جزئيًا من خلال حجج قوية حول الأصول بالرغم من أنه نادرًا ما يساعد ذلك على حل تلك النزاعات. ولأن هذا النقاش أصبح يكتسح جميع جوانب الحياة فقد لا ندرك مدى غرابة انشغالنا بالأصول السياسية. فالبدايات، في نهاية المطاف، بعيدة كل البعد عن القضايا المطروحة بحيث لا يمكن أن تكون مصدرا للتأثير في الخلافات الجارية أو مصدرًا للخلاف نفسه. لماذا يجب أن يكون الماضي البعيد أكثر أهمية من الماضي القريب أو الحاضر؟ لكي نفهم بشكل أفضل لماذا لا تزال مشكلة الأصول تؤرقنا، وربما لكي نفكر فيها أساسا بشكل أوضح قد يفيدنا اللجوء إلى مصدر مألوف ولكن غير متوقع ألا وهو مكيافيلي.

اشتهر نيكولو مكيافيلي بنصائحه السياسية المتشددة -فهو الذي كتب «من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك» –غير أنه كان أيضًا منشغلًا بدور العنف في تأسيس (وإعادة تأسيس) المجتمعات السياسية. قلة قليلة من المفكرين الذين تناولوا موضوع الأصول السياسية بشكل شامل ومقلق مثل مكيافيلي مما دفع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسر إلى أن يطلق على مكيافيلي لقب "منظّر البدايات". بالنسبة لمكيافيلي فإن أهمية الأصول تعود إلى سببين: أولاً، لأنها تكشف عن حقائق أساسية حول حتمية تغير الحياة السياسية التي تحجبها السياسة العادية؛ وثانياً، ظروفها العنيفة القابلة مبدئيا للتكرار في كل زمان ومكان.

علاوة على ذلك، يفيدنا موقف مكيافيلي لأنه يقف خارج تقاليدنا الليبرالية. على مر العصور، كان لكل مجتمع قصصه الأصلية، لكن مسألة البدايات تطرح تحديات خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون منا في أنواع الدول الحديثة التي بدأت تتشكل لأول مرة في القرن السابع عشر، ويعزى ذلك إلى شرعيتها التي تعتمد على طابعها التشاوري والتمثيلي. فجميع الدول القائمة تقريبًا -حتى غير الديمقراطية منها –تدعي إلى حد ما بأنها تمثل شعبا معينا. فالحكومة التمثيلية هي إحدى الطرق التي نؤكد بها أن السلطة السياسية ليست مجرد هيمنة، وأن قواعدها وعملياتها تهدف إلى الحفاظ على حقوق الشعب الذي يؤسسها، وبالتالي فإننا نحدد أصول المجتمع السياسي بلحظة التأسيس تلك. فعلى سبيل المثال، يؤكد الفيلسوف الليبرالي الكبير جون لوك في كتابه "رسالة ثانية في الحكم" (1689) على أن «بداية المجتمع السياسي تعتمد على موافقة الأفراد على الاندماج وتكوين مجتمع واحد؛ والذين يمكنهم بعد اندماجهم إقامة أي شكل من أشكال الحكومة التي يرونها مناسبة.»

ولكن، ماذا عن حق أي شعب معين في إقامة نظام سياسي في المقام الأول؟ وإذا طالب البعض بتأسيس نظام سياسي جديد، فمن الذي سيحدد الأفراد الذين يندرجون ضمن "الشعب" وأولئك الذين يتواجدون خارجه؟ ومن الذي يقرر بشأن الأراضي التي يحق لهم انشاء الحكومة عليها؟ وكيف يحدث ذلك في المقام الأول؟

هذه أسئلة تعجز الليبرالية الحديثة إلى حد كبير عن مواجهتها، ويعترف جون رولز في كتابه "نظرية العدالة" (1971)، الذي ربما يعتبر أشد الأعمال تأثيرًا في النظرية السياسية في السنوات الخمسين الماضية، بأن وجهات نظره عن العدالة تفترض ببساطة وجود مجتمع قومي مستقر ومكتفٍ بذاته. في العصور الماضية، بت توماس هوبز ولاحقًا إيمانويل كانط في هذه المسألة بشكل صريح، لكن كلاهما حذرا اطلاقا من الاستفسار عن أصول مجتمعاتنا لأنه، كما كتب هوبز في عام 1651، "قلما يوجد في العالم كومنولث يمكن تبرير بداياته بناءً على ضمير حي".

ولا يعني هذا ببساطة أن التقليد السياسي الليبرالي (وهو التقليد السائد في معظم دول العالم المتقدمة) لا يعي ببساطة الأصول السياسية؛ بل يتعامل معها بطريقة تميزها الروية والتجريد بعيدا عن الحقائق التاريخية الفوضوية التي كانت وراء تشكيل الدول والأمم. لقد تم طرح هذا التساؤل في المقال الافتتاحي لجريدة "الفدرالي" الذي كتبه ألكسندر هاملتون دفاعًا عن الدستور الأمريكي الحديث قبل قرنين ونصف:

 «هل تستطيع المجتمعات البشرية حقًا إقامة حكومة جيدة على أساس التفكير والاختيار، أم أنه مقدر لها إلى الأبد أن تعتمد على الصدفة والقوة في صياغة دساتيرها السياسية.»

وبعبارة أخرى، سعى مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية بوعي إلى إنشاء مجتمع جديد تمام الجدة يقوم على مبادئ عادلة بدلاً من الأحداث العرضية التي أدت إلى نشوء الحكومات السابقة، وبالتالي تقديم نموذج للدساتير الليبرالية المستقبلية. الصدفة والقوة هما ببساطة وفي جميع الأحوال دعامتان أساسيتان للتاريخ وهما أيضًا لب فكر مكيافيلي وزبدته.

يفتتح مكيافيلي اثنان من أعماله السياسية الرئيسية— " بحث حول ليفي" والذي يتناول فيه بجزم الجمهورية الرومانية القديمة وكتابه "تاريخ فلورنسا" واللذين صدرا بعد وفاته عام 1531-1532 – بنقاش حول أصول السكان أنفسهم. لا تزال مثل هذه الأسئلة المتعلقة بأصول السكان ملحة حتى في الحاضر كما يتضح من نزعة مفهوم "الأصلانية" -أي محاولة تحديد شعب أصيل له حق في الأرض يسبق كل الشعوب الأخرى -والذي تم تطبيقه على أماكن متباينة مثل كندا وفلسطين وفنلندا وتايوان. ويرى المرء دافعًا مشابهًا وراء بعض المطالب القومية اليمينية، مثلا عند جان ماري لوبان الذي يصر على أن الأمة الفرنسية الحقيقية تعود إلى تتويج كلوفيس الأول في القرن الخامس الميلادي.  نريد نقطة بداية نشأة واضحة يمكن أن نؤسس عليها المطالبة المشروعة بالأرض إلا أن مكيافيلي يحرمنا من مثل هذه النقطة الثابتة.

يقول مكيافيلي في مستهل "بحوثه" أن جميع المدن شيدها إما السكان الأصليون أو الأجانب، ثم يقدم أمثلة-روما وأثينا والبندقية -تشمل فقط شعوبا تشتت أو أجبرتها قوة غازية على الفرار من مكانها الأصلي إلى مكان جديد. وفي كثير من الحالات، كان الغزاة الذين دفعوا السكان الأصليين الى الفرار هم أنفسهم فارين من ظروف الحرب، فمن الصعب جدًا منع الهجرة، سواء كانت قسرية أو طوعية. من الصعب جدًا منع الهجرة، فعلى سبيل المثال قد لا يضمن تحسين الظروف المعيشية للعامة الاستقرار الديموغرافي، فاليأس هو كذلك أحد الأسباب التي تؤدي إلى الهجرة. في حالة الفرنجة والجرمان مثلا، لم يكن اليأس بل الازدهار الذي أدى إلى الاكتظاظ السكاني مما أجبر الناس على البحث عن أراضٍ جديدة ليسكنوها. وفقًا لميكيافيللي، كانت هذه بداية السكان الذين دمروا الإمبراطورية الرومانية وأعادوا إنتاج دورة العصر التي أنتجت روما في البداية بغزو إيطاليا وتأسيس ممالك في أوائل العصور الوسطى.

وهكذا يوضح ميكيافيلي أن جميع السكان الأصليين كانوا في يوم من الأيام أجانب (إما أن تكون إمكانية وجود شعب "أصلي" مستبعدة أو أنهم من القدماء بحيث لا يمكن الحديث عنهم)، وعلاوة على ذلك يمكن افتراض أن وضعهم ليس سوى نتيجة نهائية لغزو سابق (وربما منسي).

في خضم مناقشتة لتأسيس روما، يوضح مكيافيلي كيف أن الأصول "الشرعية" مصطنعة. فهو يدعي في البداية أن لروما مؤسسًا أصليًا يعرف برومولوس ومؤسسًا أجنبيًا في سلفه يسمى أينياس والذي استقر في لاتيوم بعد هروبه من دمار طروادة، غير أن هذا الأمر يضعف فورا أي احقية سلالية لرومولوس في الأرض لكونها مستمدة من غزو الطروادي أينياس لللاتينيين (هذا الحدث مؤرخ له في كتاب فيرجيل أينيد).

بالإضافة إلى ذلك، فإن رومولوس اضطر إلى تكرار أفعال سلفه لأن تأسيس مجتمع جديد كما يرى مكيافيلي يكون دائمًا فعلا عنيفا يستلزم جريمة جسيمة. ويشكل رومولوس المثال النموذجي على ذلك بقتل أخيه ريموس وحليفه تيتوس تاتيوس. وهكذا يصدر مكيافيلي عن هذه الأفعال الفظيعة ملاحظته الشهيرة التي تقول: «في الحين الذي يدينه الفعل، فإن النتيجة تصفح عنه». وهذا يعني أن الفعل الاستثنائي المتمثل في تأسيس مدينة جديدة (وفي نهاية المطاف إمبراطورية) يبرئ، بل ويقتضي، الجرائم التي ارتكبت خلال هذه العملية. ورومولوس هو فقط أحد المؤسسين من بين عدد من المؤسسين الشبه أسطوريين الذين يمجدهم مكيافيلي في كتاب الأمير باعتبارهم أمثلة "جديرة" إلى جانب ثيسيوس وكورش وموسى. جميعهم أمّنوا تأسيس مجتمعاتهم الجديدة عن طريق العنف، وحتى بالنسبة لموسى فإن الفعل الأهم ليس الهروب من مصر أو تلقي الوصايا في سيناء، بل القضاء على 3000 من بني إسرائيل (وهو رقم يرفعه مكيافيلي إلى «عدد لا نهائي من البشر») بسبب خطيئة عبادة العجل الذهبي.

إن الحقائق الأسطورية التي تقدمها المجتمعات عن أصولها يمكن أن تظل حقائق حتى وإن بقيت البدايات الأولى محاطة بالأساطير. يقول مكيافيلي أن بإمكانه تقديم "أمثلة لا حصر لها" -وهو مصطلح يفضله للغاية -عن دور العنف في تشكيل وإصلاح المجتمعات السياسية. وهكذا يضيف أن مثال هييرو، ملك سيراكيوز، قد يكون أيضًا نموذجًا مفيدًا، غير أن هذه الخطوة تنحرف كليا بالمناقشة عن مسارها لسببين: أولًا، لم يؤسس هييرو أي شيء -فمدينة سيراكيوز كانت موجودة بالفعل عندما تولى السلطة؛ وثانيًا، على الرغم من أن مكيافيلي لن يخبرنا بذلك في هذا السياق، فإن هييرو معروف لدى الجميع بكونه طاغية، أي شخصا يستولي على السلطة الملكية بدل أن يرثها. كان وصف مكيافيلي لكيفية استحواذ هييرو على السلطة وصفا طريفا ومختصرا حين يقول: "قضى هييرو على الجيش القديم ونظم جيشاً جديداً، وتخلى عن صداقاته القديمة وكوّن أخرى جديدة. وعندما ربط صداقات وأصبح له جيش يملكه، استطاع أن يشيد أي بناء على هذا الأساس. لذلك فقد بذل جهدًا كبيرًا للاستيلاء على السلطة لكنه لم يبذل ما يماثله للحفاظ عليها". وفي الصفحات الموالية، يكشف مكيافيلي أن هييرو وصل إلى السلطة من خلال مؤامرة -حيث استخدم المرتزقة للاستيلاء على سيراكيوز ثم قطع أجسادهم بوحشية في الحين الذي كان يطالب فيه بالسلطة السياسية لنفسه. بعبارة أخرى، إذا أردنا أن نفهم كيف تبدو أصول الأمور حقًا، فعلينا الرجوع إلى مثل هذه التواريخ المقلقة.

في بداية كتابه "الأمير"، يقول مكيافيلي عن أولي الأمر: "في عراقة واستمرارية السيادة، تزول ذكريات وأسباب التجديد..." أي أن معظم الحكام -ما يسميه مكيافيلي "الأمراء الذين يرثون الحكم" -هم المستفيدون من بعض الأعمال الرهيبة السابقة التي قام بها أحد الأسلاف الغزاة والذين تولوا العرش في البداية. بالنسبة لنا، قد لا تكن أيديهم ملطخة بالدماء، ولكن عندما نعود إلى الماضي بما فيه الكفاية فسنجد رومولوس -أو هييرو.

في وقت لاحق في نفس الكتاب، يشير مكيافيلي إلى أنه من السهل نسبيًا على الحاكم أن يسيطر على أقاليم لها عادات متشابهة سبق له أن سيطر عليها لفترة طويلة، غير أنه يقدم لنا على سبيل المثال حكم فرنسا في بورغوندي وبريتاني وغاسكوني ونورماندي؛ ومن بين هذه الأقاليم لم يتم احتلال الإقليمين الأولين منها إلا في حياة مكيافيلي نفسه، والثالث في عام 1453، أي قبل أقل من عقدين من ميلاد مكيافيلي. ولا تعزى السهولة التي سيطر بها التاج الفرنسي على هذه الممتلكات -فضلاً عن حقيقة أن هذه المناطق يُنظر إليها الآن ببساطة على أنها فرنسية -إلى الروابط الدائمة التي تربطها بها بل إلى النجاح الذي كلل تهدئتها في البداية.

كلما وقف المرء عند حالة من حالات الحكم المستقر والمنظم، فيمكن إرجاعها إلى شكل من أشكال الغزو، سواء كان قديمًا أو حديثًا. إن قصة المجتمعات السياسية تشبه إلى حد كبير تعريف وودي آلن للكوميديا: مأساة مع فائض من الزمن. وكما تشير أمثلة مكيافيلي الفرنسية، فإن مقدار الوقت المطلوب قد لا يكون مهمًا حتى وإن كان فعل الغزو ناجحًا.

يؤكد مكيافيلي على أن العنف الذي يصاحب تأسيس المجتمعات لا يمكن تجاوزه كليا، ويشيد بكليومينيس إسبرطة لأنه ذبح القضاة الذين ثاروا ضده حين أراد أن يجدد قوانين وضعها مؤسس المدينة ليكورغوس –وهو فعل يشرعن مقارنتة برومولوس نفسه. كما أنه يعترف أيضًا لحكام فلورنسا في القرن الخامس عشر ببصيرتهم عندما ادعوا أنه كان من الضروري قذف "ذلك الرعب والخوف في قلوب البشر" العنيفين المؤسسين "كل خمس سنوات'".

يواجه العديد من قراء مكيافيلي صعوبة في التوفيق بين روايته عن الأصول وبين تجربتنا العملية في الحياة السياسية. قد يظنون أنه من الجيد أن يعرفوا أنه قد تضطر إلى قتل أخيك لتأسيس مدينة عظيمة، ولكن ماذا لو كنت تريد فقط إيجاد فرصة لاقتراحك بشأن إنارة الشوارع في المدن؟ أو كيف تساعدنا تعاليم مكيافيلي حول الأصول السياسية في فهم العالم الراهن؟ فمن ناحية، يقدم لنا نظرة ثاقبة لأشكال العنف المتكررة التي لا تزال (وستظل) تندلع على طول الحدود الغير المستقرة وفي الأماكن التي لا تزال الدول فيها في طور التكوين.

تشمل قائمة الأهوال والفواجع التي صاحبت إنشاء الدول القومية في القرن العشرين وحدها (من بين أمور أخرى): الطرد الجماعي للأرمن عام 1915؛ وعمليات الطرد المتبادل للهندوس والمسلمين من باكستان والهند (على التوالي) أثناء التقسيم عام 1947؛ والطرد المتبادل للعرب واليهود من إسرائيل وجيرانها (على التوالي) من 1947-1949؛ وفرار المستوطنين الأوروبيين من الجزائر عام 1962؛ وتهجير الأرمن والأذريين من ناغورني كاراباخ في الثمانينيات والتسعينيات؛ والتطهير العرقي المتبادل خلال حروب البلقان في التسعينيات وغيرها. ومع ذلك، ما زلنا نعتبرها استثناءات داخل قاعدة النظام السياسي. إن سلسلة الأحداث التي نربطها بتكوين دولنا الحديثة (والتي تشكل مصدر الكثير من الجدل المستمر) ليست في الحقيقة سوى آخر سلسلة من الحلقات في سلسلة أطول بكثير ولا نهاية لها.

لا تزال الصدفة والقوة تقبعان تحت المظاهر الخارجية لسياستنا اليومية، وتهدد بالظهور من جديد. هذا أمر يصعب علينا قبوله، فحتى في الأزمنة الأشد استقرارا، لا تزال ضمائرنا تؤرقنا تماما مثل بولينبروك شكسبير بعد أن أسقط حكم ريتشارد الثاني. فضلا عن ذلك، نحن لا نكتفي فقط بالنظر إلى أسسنا باعتبارها عادلة بل نتوق إلى اعتبارها آمنة. عندما نتصورها على خلاف ذلك فنحن نعترف بأن ظروفنا لا تزال في حالة تغير مستمر، وإذا كانت كل الأشياء في حالة حركة، فما مصيرنا؟

يبدو أن شيئًا من هذا القلق يكمن وراء الطريقة التي نتحدث به عن الأصول السياسية اليوم، وبالتفكير مع مكيافيلي يمكننا أن ندرك كيف أن التقليد الليبرالي للفكر السياسي الذي يعود إلى مئات السنين حتى الآن لم يزودنا بقدرات تمكننا من التفكير بشكل أخلاقي في أصولنا التاريخية، وعندما نواجه هذه المسألة تكون النتيجة إما الهروب نحو القومية الدفاعية أو الإدانة الأخلاقية. وفي الحين الذين يمكن أن تبسط فيه قراءة عمل مكيافيلي واعتباره تهكما واستهزاء، فإن قدرًا لائقًا من التهكم لا يعدو أن يكون شيئا من الواقعية، ويمكن لموقف الواقعية من الحياة السياسية أن يحصّننا من التقية واليأس، مما يسمح لنا بالاعتراف بصدق بالجرائم التي ساهمت في تشكيل مجتمعاتنا السياسية دون أن يتطلب منا الأمر احتقار أوطاننا.

وعلى نحو مماثل، سيكون من السهل أن نقرأ مكيافيلي على أنه يفضح السرديات التنويرية التي تحيط بتأسيس المجتمعات الجديدة، بدءًا من أساطير اليونان القديمة إلى احتفالات عيد الاستقلال الحديثة. يبدو أن لسان حال مكيافيلي يقول: "هذا ما حدث بالفعل،" إلا أنه من المهم أن ندرك أن مواقفه عن أصول السياسية لا تهدف إلى التجريم بل إلى الإرشاد.

إن عمل مكيافيلي يحمل أيضًا تحذيرًا يقول بأن الظروف المتقلبة والمخالفة للقانون التي تحيط بأصولنا تعكس احتمالات ثابتة في الحياة السياسية. إنها لحظات حاسمة تكشف فيها قوانيننا القائمة عن عدم كفايتها لأنها صيغت في ظل ظروف مختلفة عن تلك التي قد نواجهها في الوقت الحاضر، مما يتطلب فعلا اصلاحيا جريئا يضطلع به وفق المنطق ذاته الذي وضعت فيه هذه القوانين في الأصل.

قد لا نكون ملزمين بالسير مباشرة على خطى شخصيات استبدادية مثل كليومينيس في إسبرطة أو آل ميديتشي في فلورنسا خلال العصور الوسطى، وجميعهم استخدموا العنف الرهيب أثناء الإصلاح؛ غير أننا قد نتعلم من هذه الأمثلة دروسا حول الرهانات الدراماتيكية التي يرتكز عليها حفظ نظامنا السياسي كما قال الفيلسوف كلود لوفورت في عمله العظيم عن مكيافيلي والصادرعام 2012: «هذه هي حقيقة العودة إلى الأصل؛ هي ليست عودة إلى الماضي، بل ردًا في الحاضر يشبه الرد الذي تم تقديمه في الماضي «.

تكمن قيمة المكاسب التي نجنيها من قراءة مكيافيلي في مايلي: إن مواجهة التداعيات المقلقة لأصولنا قد تعيننا على الاستعداد بشكل أفضل للتقلبات المستمرة في الحياة السياسية. في نهاية المطاف، قد يكون نظامنا القائم هو الشيء الوحيد الذي يقف في طريق الأصول أو البدايات الجديدة لشخص آخر.

***

..................

العنوان الأصلي للمقال:

The battles over beginnings،

ونُشر في موقع  Aeon، في 8 مارس 2024.

رابط المقال:

https://aeon.co/essays/machiavelli-on-the-problem-of-our-impure-beginnings

* ديفيد بولانسكي: زميل باحث في معهد السلام والدبلوماسية. ظهرت كتاباته في مجلات: كويليت Quillette، والمعيار الجديد New Criterion، ومراجعة السياسة The Review of Politics، وغيرها. ويعيش في تورونتو، كندا

** الحبيب الواعي: أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب. نشر مقالات عدة في مجلات وجرائد دولية. صدر له ديوانين شعريين بالإنجليزية بالإضافة إلى ترجمات أهمها المطر القديم لبوب كوفمان، رسائل ثورية لديان دي بريما، وحبس لأجل غير مسمى لمايكل روتنبرغ, و ما الجهاز ومقالات أخرى لجورجيو أغامبن.  

 

أهمية النص الفلسفي في المسعى الديداكتيكي:

ولا يزال أساتذة الفلسفة في مرية من توظيف النص الفلسفي أثناء تدريسهم لهذه المادة، التي تستوجب الإبداع والتفكير والنشاط الحر، وتدعو التلميذ إلى التأمل المنتج وتحفز قدراته العقلية وتحرك إمكانياته الفكرية نحو الإيجاد والخلق لا التكرار والحفظ.

فالإبداع والإيجاد لا يتأتى ويتضح إلا من خلال النص الذي يحتل مكانة بارزة وأهمية كبرى من الناحية الديداكتيكية ضمن حقل بيداغوجيا التدريس بواسطة النصوص الغير مفعلة في تعليمنا الثانوي أو بالأحرى غيبت من طرف البعض من مدرسي الحكمة الفلسفية أو تخويف التلميذ من تناول النص، بحكم أن الطالب المقبل على الامتحان النهائي سينال علامة غير مرضية في شهادة البكالوريا، فعليك بالمقال فهو حشو للأذهان ولا يحتاج منك الدليل والبرهان.

ألم ير هؤلاء أنهم يغيبون العقل والحوار، النقد والبناء، محاورة النص والشك فيما يقدمه الفيلسوف وفي هذا الصدد يقول الغزالي:« إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة والضلال»1.

فلا نترك الطالب مبصرا للمقال مغمضا العينين عن النص .

فكيف يتعامل الأستاذ مع النصوص الفلسفية في الدرس ويوظفها؟

أستاذ الفلسفة اليوم الحالم الطامح بتحقيق كفاءة محاورة النص وخلق تواصل علائقي إستطيقي بين تلميذ قارئا للنص، متفاعلا مع عباراته، شارحا للمصطلح، مدركا لمبدعه الذي يضمر الكثير من خلال شبكة المفاهيم.

كيف يمكن تحقيق كفاءة توظيف النص؟

النصوص الفلسفية بين المحاذير والصعوبة:

إننا نعيش مع النص الفلسفي، نميزه عن بقية النصوص الأخرى برمزيته ومفاهيمه، بناءه وأدواته، أفكاره ودلالاته، لغته وأنساقه، وظيفته وكلماته؛في الميزة يؤسس الفيلسوف ملكته الرمزية التي تمتلك دلالات.

إذن النصوص الفلسفية هي حوافز ومثيرات لتحريك حيرة التفلسف لدى التلميذ،تدفع به نحو التحرر الفكري من قيود الرأي السائد،يعي هذه الرمزية وينفتح على لغة الفيلسوف ويشعر بخطورة اللغة وما تحمله من شمولية؛ شمولية التفكير الحر المرتبط بالتساؤل. كما يعتبر النص الفلسفي وجه عملي في تعليمية مادة الفلسفة سواء في التعليم الجامعي أو التعليم الثانوي، فلا يمكن التفكير بطريقة فلسفية، إلا في إطار النصوص التي أبدعها الفلاسفة عبر الزمن.

"كلمة نص في الأصل اللاتيني تعني النسيج"2. فهو إذن نسيج الكلمات المنظمة والمنسقة في خطاب تأليفي، يحتاج من التلميذ خلخلة الخطاب النصي وتفكيك كلمات هذا النسيج.

فهل يستطيع التلميذ التعامل مع النص من خلال تعليمية المادة؟

يحتل التدريس بواسطة النصوص الفلسفية، ركنا أساسيا من أركان الدرس الفلسفي، فبينما يتجه هذا الدرس إلى خلق تواصل فكري بين المتعلم وخطاب الفلسفة، فإنه يجد في النص الفلسفي مادة هذا التواصل؛ تواصل يضعنا مباشرة أمام مشاكل فلسفية، شغلت الفلاسفة، وتمكننا من الكشف عن أفكارهم أثناء معالجة النص.

لكن أثناء معالجة النص وكتابة المقال حول مضمونه في تعليمية المادة، نجد صعوبات ومحاذير في استخدام الطريقة النصية منها:

1- تتطلب دراستها وقتا طويلا يأتي على حساب المنهاج المقرر، وفي بعض الأحيان النص الفلسفي المدروس، لا يوافق المنهاج.

2- تربك المعلم في البحث عنها وانتقائها، إلا إذا كانت قد وضعت من قبل واضعي المناهج، وأدخلت في الكتاب المدرسي.

3- موقف الطلبة السلبي من النصوص، لأنها تحتاج إلى جهد ومهارة بخاصة إذا كان هؤلاء اعتادوا على تلقي معلومات جاهزة مستهلكة.

4- صنم الخوف لطلاب البكالوريا من تناول النص في شهادة المرحلة النهائية، وفكرة الرسوب إذا أقدموا على الموضوع الثالث.

6- مطالبة الطلاب بصياغة النص، صياغة منطقية على شكل قياس استثنائي، لكن بعض الشعب لم تدرس مشكلة انطباق الفكر مع نفسه، على سبيل المثال: شعبتي التقني الرياضي، والاقتصاد والتسيير.

في حين يمكن القول:على الرغم من هذه الصعوبات، فلا يمكن تدريس الفلسفة بعيدا عن النصوص، فهي وسيلة للولوج إلى عقل الفيلسوف والتعرف على طريقته في التفكير، التي قادته إلى بناء نظامه المتكامل الراقي و تجاربه الإنسانية؛ تجربة الفيلسوف المفكر في الإنسانية جمعاء والمعتنق للإنسان أين وجد وفي كل مكان لهذا يقول إيمانويل كانط: "إن الفلسفة الأعلى، بالنسبة للغايات الجوهرية للطبيعة البشرية، ليس في وسعها أن تؤدي إلى أبعد مما تفعله القيادة الممنوحة للحس المشترك"3

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

....................

1- أبو حامد الغزالي: ميزان العمل ، ص 204.

2- المربي، المجلة الجزائرية للتربية العدد 16 ص 06.

3- جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، ص 37

قائمة المراجع:

1- أبو حامد الغزالي: ميزان العمل، طبعة أولى 1964، دار المعارف مصر

2- جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، تعريب، أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، طبعة أولى 1997، بيروت.

3- المربي، المجلة الجزائرية للتربية العدد 16.

لَكَ اَللَّهُ أَيُّهَا اَلتِّلْمِيذُ اَلْجَزَائِرِيُّ اَلْبَئِيسُ!

وَإِذا المُعَلِّمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ

جاءَت عَلى يَدِهِ البَصائِرُ حولا

وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم

فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا

أحمد شوقي

***

في السادس عشر من أبريل من كل سنة تحتفل الجزائر بذكرى يوم العلم وهو يوم وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمة الله واذا كان من الواجب التذكير بعبقرية وجهود وإخلاص هذا الرجل العظيم وامثاله من رجال العلم والإصلاح وشهداء الثورة التحريرية، ممن كان لهم فضل على الامة الجزائرية والإسلامية ، فانه من حق هؤلاء علينا ان نتساءل بعمق عن المكتسبات المحققة وان ننظر بعين النقد وميزان الواقع الى اخطائنا وان تكون لنا الشجاعة لمحاسبة انفسنا وفضيلة الاعتراف بإخفاقنا وفشلنا وبين المكاسب والحدود مساحة لا يمكن لهذه الورقة في حدود ما ارتسمت له تغطيتها، وقد كان الباعث على كتابتها الإحساس بالألم ونحن نعيش زمن الانكسار وتراجع قيمة العلم والاستخفاف بمكانة العلماء واذا شئت انظر من حولك في حال مؤسساتنا التعليمية  ووامعن النظر وارجع البصر سينقلب اليك حزينا من سوء ما رأى " فالمدرسة  التي هي المؤسسة الاجتماعية الرسمية التي تقوم بوظيفة التربية ونقل الثقافة وتوفير الظروف المناسبة للنمو جسميا وعقليا وانفعاليا واجتماعيا... المدرسة التي يتعلم الطفل فيها  المزيد من المعايير الاجتماعية في شكل منظم ، ويتعلم أدوارا اجتماعية جديدة، يتعلم الحقوق والواجبات وضبط الانفعالات، ويتعلم التعاون..." أضحت اليوم اقسامها مهجورة من تلامذتها بالإكراه في الاطوار النهائية بالتعليم الثانوي في اغلب ثانوياتنا وقد اشارت بعض الصحف عندنا الى ان نسبة العزوف عن اختبارات الفصل الثاني عند هذه الفئة قاربت الثمانين بالمئة وفي باقي الاطوار تراجع منسوب المعرفة بشكل مرعب والتحصيل العلمي بشكل مخيف واصبح تلميذ اليوم مكبلا بقيود السذاجة تائها بين مستودعات الدرس الخصوصي واغراءات منصات التواصل الاجتماعي يعيش أوهام العالم الافتراضي  وهو لا يستطيع النظر فكريا ابعد من قدميه وأمسى المعلم المخلص اليوم عملة نادرة مهموما تتجاذبه اكراهات الحياة المادية وذلك التفاوت في المكاسب وهو يرى البغاث في ارض الثوار والاحرار تستنسر .

مدرسة جزائرية مريضة تعاني الهزال الفكري أنهكها الانفاق المادي المصطنع على الدروس الخصوصية في ازدواجية غير مبررة مدرسة حزينة اتسعت بداخلها دائرة الغش بكل اشكاله لا يشعر فيها التلميذ الغشاش بأي حرج امام زملائه " ظاهرة الغش الحاضرة بقوة في الجزائر، التي يمكن رصدها من داخل العائلة وهي تقوم بمساعدة أبنائها في توفير وشراء أجهزة الغش لهم، وهم على أبواب أي امتحان مهم. غش في الامتحان يتعامل معه الجزائري كجزء من غش عام يسود المجتمع على مختلف الأصعدة، يتهادن معه ولا يرى فيه حرجا كبيرا، بل يتعامل معه كشطارة «قفازة» كما يعبر عنه بلغته الدارجة.." فلك الله أيها التلميذ الجزائري البئيس مساعدا ونصيرا من ظلم الزمن وحيف الانسان وعدوانه .

ان الأمم الحية والعريقة منذ الأزمنة القديمة تنظر الى التعليم نظرة تقديس وتعلن النفير على كل من تسول له نفسه التلاعب بعقول أطفالها وشبابها وتروي كتب التاريخ ان السيد فشر وضع  سنة  1918وهو من اعضاء مجلس النواب البريطاني مسودة  مشروع قانون لإصلاح التعليم في انكلترا وعرضه على مجلس النواب  فقررت الحكومة تأجيله إلى فرصة أخرى. فثارت معاهد التعليم الكبرى في البلاد وتعالت أصوات النخبة بل وعامة الناس على إثر هذا التأجيل وملأوا البلاد احتجاجاً وكتبوا كتب الاعتراض على هذا القرار في الصحف. وقالوا انه ليس امام الامة مسألة مستعجلة مثل اصلاح التعليم وانشاء منظومة تعليمية تزيد ارتقاء النشء الجديد جسماً وعقلاً وخلقاً وان عدم اغتنام الفرصة الحاضرة يعد نكبة على البلاد . وأضافت هذه الأصوات المنددة ان الامة انذرت مراراً وتكراراً في العشر السنوات الماضية بانها اذا تركت نصف اولادها تقريباً يغادرون المدارس قبل اتمام السنة الرابعة عشرة من سنهم واكثر من ثلاثة ارباع الذين سنهم بين 14 و18 لا تمسهم المراقبة التعليمية نشأ من ذلك مشكلة ادبية واقتصادية لا تحل فيما بعد ولو بذلت اقصى الجهود في حلهاو ، وراهن المدرسة الجزائرية اليوم ونحن نحتفل بيوم العلم يبدو مشابها لماضيها  فالتعليم عندما كما يقول الدكتور عبد الحكيم بليليطة :"  يعاني الكثير من العجز والقصور ففي مقابل الانفاق المادي  للدولة وتزايد عدد المتمدرسين الا ان النتائج تبدو هزيلة فالمدرسة  الجزائرية اليوم يجد فيها معظم التلاميذ انفسهم خارج اسوارها اما لان هناك مطالب اجتماعية تظهر في الأفق في ظل وضع اقتصادي متأزم ،مدرسة تأثرت بالمحيط الخارجي واضحت غير قادرة على التأثير ."

مدرسة منكوبة من خلال ما تقدمه من معارف هزيلة عجزت عن بناء الانسان القادر على ان يعيش عصره، انسان عاجز عن التكيف مع عالمه الخارجي وعن مواكبة تحديات العولمة .  وقد أكد الأستاذ عبد الحكيم بليليطة ان الواقع أصبح يتكلم حسرة وهذا باعتراف من أسندت لهم مهمة تسيير قطاع التربية فعدد الناجحين في البكالوريا ممن لم يعيدوا السنة الدراسية في جميع الاطوار لا يتجاوز 04 بالمئة ونسبة التسرب المدرسي حوالى 32 بالمئة والتلميذ الذي درس اثنى عشر سنة اللغة العربية نراه اليوم عاجزا في النهاية عن تكوين فقرة، يدرس عشرة سنوات لغة فرنسية ويجد نفسه غير قادر على كتابة اسمه على ورقة الامتحان، يدرس سبعة سنوات لغة انجليزية ولا يميز بين كلمتين ...

وحال المدرسة الجزائرية لا يختلف كثيرا عن حال التعليم في عالمنا العربي والإسلامي فقد احتلت الجزائر حسب المركز الدولي للتعليم «اليونيفيك» التابع لليونيسكو سنة 2018 المرتبة 22 عربيا حول جودة التعليم الابتدائي، فيما احتلت المرتبة 189 عالميا، متخلفة عن أغلب دول إفريقيا مثل مالي التي جاءت في الرتبة 160 والنيجر في الرتبة 172 على التوالي. ومن قبل اشارت تقارير التنافسية العالمية الى ضعف وتردى القدرة التنافسية لنظام التعليم الجزائري، فقد أوضح التقرير الخاص بعام 2015/2016 إلى تأخر ترتيب الجزائر إلى المركز 87 من إجمالي 140 دولة.

واحتلت الجزائر المرتبة 119 عالمياً في مؤشر جودة التعليم ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻋﻦ المنتدى ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ دافوس 2021، في وقت كشفت القائمة خروج 6 دول عربية من التصنيف بشكل كامل وفي مقال له حدد الدكتور  ضياء الدين زاهر سبعة عوامل لعقم العملية التربوية في العالم العربي معتبرا هذه العوامل خطايا ، وهذه  الخطايا السبع  تتمثل فيما يلي: 1-تنمية تربوية هشة.2- تفاقم الفجوة بين الخطابين الرسمي والواقعي الممارس.03- تعظيم التمايزات.04- ارتفاع التكلفة مع انخفاض المردود.05-تنمية البطالة.06- تهافت محتوى التعليم.07-غياب التخطيط المستقبلي للتعليم.جذور أزمتي التربية والتّعليم في العالم ا ويرى الدكتور عبد الرزاق بلعقروز أنّ الوعاء التعليمي يحتاج منا  إلى مساءلة جذرية تطالعنا بالأسباب الفعلية لعطالة المنظومة التعليمية في أفقنا الثقافي، ما هي الأسباب؟ ما هي الموانع الحقيقية التي تمنع من فاعلية المنظومة التّعليمية؟ وأجاب اننا قد وجدناها في: الجذر الحداثي وصورته في الاستتباع الثقافي، الجذر الذّاتي وقصور المنظومات المعرفية الموروثة، والجذر العولمي واختزال المعرفة في القيمة الاقتصادية، والجذر التاريخي الذي يعدّ الاستعمار عنوانه الأكبر.

ومن قبله نبه محمود يعقوبي رحمه الله الى انزلاقات ديمقراطية التعليم في الجزائر فاذا  أمعنا النظر بكل موضوعية في ما حصل في سياسة التربية والتعليم في الجزائر خلال نصف القرن الماضي، فإنه يمكننا أن نستشف حصيلة لا ينكرها إلا الممارون وهي أن ديمقراطية التعليم قامت على التسوية بين المواطنين في التعلم. لكن هذه التسوية في التعلم سرعان ما انزلقت من التسوية في الحقوق إلى التسوية في الاستحقاق الذي قام هو الآخر على فكرة إهمال الفروق الفردية في الكفاءة والتفوق. وبذلك أصبحت المدرسة الجزائرية مجرد حاضنة يتباه فيها بعض السذج بالأرقام المحققة والتي يعاد التذكير بها عشية موسم الامتحانات النهائية ونحن هنا ننبه الى خطورة هذا الامر فلا يجب يكون هدف التعليم هو غرس وعاء للمعرفة، وإنما تطوير ملكات أساسية كالقراءة والكتابة والعد، وكذلك ملكة التصرف بمسؤولية تجاه الآخرين، واتخاذ المبادرة، والعمل الخلاق والجماعي. وأهم هذه الملكات، والتي أخفق التعليم التقليدي في رعايتها، هي القدرة على مواصلة التعلم والإقبال عليه، فالإسراف في التعليم يقتل الرغبة في التعلم."

وكتخريج  لمقالنا نعيد ماقاله المتنبي

عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ.

بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ.

***

علي عمرون

أستاذ مادة الفلسفة

تأليف: إميلى سيلوف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان الطفيلى في العصور الوسطى أكثر من مجرد شخصية مرحة وخفيفة الظل؛ فقد لعب دورًا معقدًا في حكايات الأخلاق العربية.

كان الجهضمي، أحد علماء العراق في القرن التاسع، يُدعى دائمًا إلى أفضل الولائم. كان جاره يعرف ذلك، وكان يرتدي أفضل ثيابه ويتبعه على مسافة قريبة بما يكفي بحيث يظن المضيف أنهما كانا معًا، فيسمح لهما البواب بالدخول. وهكذا يقتحم جار الجهضمي أفخم   تجمعات الإمبراطورية العباسية الجبارة، والتي، بالنظر إلى الثروة الثقافية والمادية للمنطقة، ربما كانت من أرقى الولائم على وجه الأرض.

في أحد الأيام، عندما دُعي الجهضمي إلى وليمة أمير البصرة، قرر أن يضع حدًا لانتهازية  جاره، وفي منتصف الوليمة، أمام جميع الضيوف الآخرين، أشار ضمنيًا إلى أن النبي محمد نهى عن التطفل والمطفلين (نظر بارتياب إلى المتطفل) . رد جاره على الفور بقول آخر عن النبي - وهو اقتباس ذو مصدر أكثر موثوقية من الذي ذكره الجهضمي: "طَعامُ الواحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وطَعامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأرْبَعَةَ، طَعامُ الرَّجُلِ يَكْفِي رَجُلَيْنِ، وطَعامُ رَجُلَيْنِ يَكْفِي أرْبَعَةً، وطَعامُ أرْبَعَةٍ يَكْفِي ثَمانِيَةً. " هذا التذكير بأهمية الضيافة أصاب الجهضمي بالخجل؛ وهكذا انتصر المتطفل .

كانت قصص اقتحام الولائم (التطفيل) موضوعًا شائعًا في الأدب العربي في العصور الوسطى، وقد ألهمت هذه القصة بالذات الخطيب البغدادي-  وهو مؤرخ في بغداد في القرن الحادي عشر - لتجميع مجموعة من هذه الحكايات. كانت هذه القصص أكثر من مجرد أشكال ترفيهية خفيفة. كما هو واضح من الحكاية أعلاه، مع الإشارة إلى النبي وقيمة الضيافة، فإن المتطفلين العرب في العصور الوسطى كان يمكن تصنيفهم طبقات؛ سأكشف لك هذه الطبقات هنا، واحدة تلو الأخرى.

الطبقة الأولى هي التى يمثلها  الشخص الذي تعرفه بالفعل: كما هو الحال في موائد حفلات الزواج، يذهب هذا الشخص إلى الحفلة دون دعوة، وعادةً ما يبحث عن الحب أو الطعام، ويترتب على ذلك مفاجآت. لديه حيل في جعبته: يمكنه التظاهر بأنه متعهد تقديم الطعام أو الاندماج مع مجموعة من الضيوف. حدث هذا بشكل رئيسي في بغداد في العصور الوسطى، وتم تقديم القصص المشار إليها بعناية عن تصرفاته الغريبة على أنها حقيقية. ربما نتعلم شيئًا من هذه القصص، على سبيل المثال، حول كيفية التصرف في إحدى الحفلات، لكننا، قبل كل شيء، مستمتعون. هذه هي الطبقة التي جذبتني لأول مرة. كنت طالبًة أبحث عن الضحك، ولم يخيّب كتاب "التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم " للخطيب البغدادي ظني. تظهر النكات والقصائد الذكية جنبًا إلى جنب مع النصائح حول كيفية تحقيق أقصى استفادة من الحفلة الجيدة. (إليك نصيحة هامة: "إذا كان مكانك على الطاولة صغيرًا جدًا، فقل لمن يجلس بجانبك: "معذرة، ربما أزاحمك قليلاً؟" وسيتراجع قليلاً ويقول: "" لا، الحمد لله، لدي مساحة كبيرة، مما يوفر لك مساحة أكبر!')

النبي محمد نفسه سمح للضيوف الجائعين غير المدعوين في مشاركة الوليمة. لذا فإن الحتمية الأخلاقية واضحة.

الطبقة الثانية من المتطفلين هي التعليق على قيمة الضيافة. لن يتصرف المضيف الجيد أبدًا على أنه بخيل ويطرد متطفلًا جائعًا، سواء كان الضيف غير المتوقع معروفًا له أم لا. صحيح أن قيمة الضيافة هذه تتناسب بسهولة أكبر مع "الأيام الخوالي"، عندما كانت الحياة القاسية والبسيطة في الصحراء تتطلب من العرب مساعدة وإطعام بعضهم البعض من أجل البقاء. لقد كان الأمر أقل راحة في مدينة بغداد المتعددة الأديان والأعراق والحافلة بالمحتالين واللصوص. لكن النبي محمد نفسه ساعد الضيوف الجائعين غير المدعوين على الدخول إلى وليمة. لذا فإن الواجب الأخلاقي واضح: فلابد أن يكون المضيف كريماً ومنفتح اليد.

وفي الواقع، فإن الخطيب البغدادي (الذي يعني اسمه 'الواعظ البغدادي') مشهور ليس بجهوده في جمع الحكايات المخالفة للتطفل، بل كعالم في رواية الحديث (أفعال وأقوال النبي محمد). قبل أن يدخل في الأمور السخيفة حقًا في كتابه الخاص بالتطفيل والطفيليين، فإنه يورد روايات من الحديث النبوى يثبت فيها أن النبي نفسه كان صديقًا للضيف غير المدعو. علاوة على ذلك، قبل وصول الإسلام بفترة طويلة، كانت الثقافات في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط تقدر قيمة الضيافة بشكل كبير. يستغل المتطفل المكانة المميزة للضيف في الأدب اليوناني أيضًا؛ فندوة أفلاطون يتم سردها جزئيًا من قبل أحد المتطفلين. تتطور الولائم الأدبية العربية في العصور الوسطى وتتلاعب بالعديد من الموضوعات العزيزة على أسلافها القدماء - وهي غارقة في النبيذ تمامًا مثل الندوة اليونانية.

الطبقة الثالثة تجعل من المتطفلين بمثابة استعارة لمجموعة متنوعة من الأغراض. على سبيل المثال، قد يمثل "المال الجديد": شخص يستخدم بلاغته لينهض من الحضيض ويتحدث عن طريقه إلى أفخم الولائم. أو قد يمثل المتطفل شخصًا تعتبر معتقداته خارجة عن المألوف، وبالتالي قد تستبعدها من تعريفك للعقيدة التقليدية.ولكن، هذا يعني ضمنيًا، من أنت حقًا لتحكم؟ اكتشفت هذه الطبقة مع إدراكي أن إحدى الحكايات في كتاب التطفيل للخطيب البغدادي، والتي تم تقديمها هناك بشكل غير قابل للتصديق كقصة حقيقية، تظهر مرة أخرى كخيال خالص في مجموعة ألف ليلة وليلة.

تحكي الحكايتان عن أحد المتطفلين الذى ظن أن قارب السجن رحلة بحرية ممتعة، فتسلل على متنه بحثًا عن قضاء وقت ممتع، ليجد نفسه مهددًا بالإعدام إلى جانب المجرمين الذين انضم إليهم بحماقة. وفي نسخة الخطيب البغدادي، فإن هؤلاء “المجرمين” هم زنادقة، لكن وجود متطفل بينهم يعني الإشارة إلى أن استبعاد الناس من “الوليمة” هو عمل من أعمال البخل غير المقبول دينيا. في ألف ليلة وليلة، يقوم حلاق فضولي كثير الكلام بدور المتطفل على قارب، فيجد نفسه مقيدًا بمجموعة من قطاع الطرق المدانين. لكنه تمكن من الإفلات من العقاب ووصل أخيرًا إلى بلاط الخليفة. يوضح هذا موضوع "المال الجديد"، حيث أن الحلاق مهنة متواضعة، ولكن مع ادعاءات بالمكانة الرفيعة للطبيب المؤهل. ولذلك فإن الحلاق البليغ يكون في وضع جيد يسمح له أن يشق طريقه إلى المجتمع الراقي، على الأقل وفقًا لمنطق الأدب العربي في العصور الوسطى.

هل تستحق حقًا أن تكون في الجنة، أم أن الله هو أكرم الأكرمين؟

الطبقة الرابعة صوفية: المتطفل صوفي . في القصص، يُنسب للصوفيين ( ربما على سبيل السخرية) معرفة الغيب:

لو طُبخت قدرٌ بمطمورةٍ

أو فى ذرى قصرٍ بأقصى الثغور

*

وكنتَ بالصينِ لوافيتها

يا عالمَ الغيبِ بما فى القدور

وقد سخر منهم بعض منتقدي الصوفيين ووصفوهم بالمستغلين والمحتالين: أي ذلك النوع من الأشخاص الذين قد يقتحمون إحدى الموائد للحصول على وجبة مجانية. ومن ناحية أخرى، يمكن للرجل المقدس أن يتبنى مثل هذا المظهر عن طيب خاطر لأغراضه الصوفية الخاصة. هل الخلط بين الصوفي والمتطفل هو نتيجة عدم أمانة "الصوفي" عندما يتظاهر بأنه على طريق مقدس بحيث تميل أكثر إلى إطعامه الطعام؟ أم أن مذهب المتعة الواضح لديه يخفي روحانية أعمق، ومعرفة بالمجهول، مما يسمح له بعبور الحدود والجدران، والتنبؤ، بشكل مستحيل، بما حلمت به الليلة الماضية لتناول وجبة الإفطار اليوم؟ هذا النوع من المتطفلين  لديه هالة المهرج الطقسي.

لقد أصبحت هذه الطبقة واضحة بالنسبة لي عندما تعمقت في عمل عربي آخر من القرن الحادي عشر، وهو "حكاية أبي القاسم". يروى هذا العمل قصة المتطفل البغدادي المسمى أبو القاسم، الذي يصل دون دعوة إلى وليمة في أصفهان وهو يرتدي ملابسه ويتصرف كرجل دين، لكنه يستمر في شرب الخمر بشكل مفرط، ويرقص، ويذم، ويغازل الذكور والإناث والخدم على حد سواء، قبل أن يستأنف سلوكه التقي ويرتدى ملابس رجل الدين في استراحة اليوم التالي. إن القراءة السطحية لهذه الشخصية من شأنها أن ترسمه على أنه منافق أو محتال بسيط، ومظهره المقدس ليس سوى تمويه مكشوف. إلا أن القراءة الأعمق قد تعترف به كرجل مقدس وخاطئ في ذات الوقت، لأن المقصود من الحكاية هو إظهار أن الإنسان كعالم مصغر يحتوي على العديد من التناقضات.

وأخيرًا، الجنة نفسها تشبه الوليمة: وأنت – ربما – تكون المتطفل المقتحم، إن تجاوزاتنا الخاطئة على الأرض هي انعكاس لها. ويقال إن الخليفة عمر بن الخطاب، والد زوج النبي، قال إن ولائم الزفاف فيها "رشة من طعام الجنة". في الجنة، تشرب وتأكل، وتتسكع في صحبة جميلة في الحدائق الوارفة.ولكن هل تستحق حقًا أن تكون هناك، أم أن الله هو حقًا أكرم المضيفين؟ لذا فإن الطبقة الخامسة هي مادة الآلهة. هل يمكن أن يكون هذا المتجول الرث الذي يطرق بابك هو الله نفسه الذي يدعوك تحت ستار متسول؟ ومن ثم يجب أن تسمح له بالدخول، إذا كنت ترغب في أن يرد لك الجميل يومًا ما.وهكذا، كما هو الحال مع فليمون وباوسيس - الأسلاف الوثنيين للمضيف المسلم الكريم - فقد يتحول منزلك إلى معبد، فقط إذا فتحت قلبك المسكين لهذين المتشردين، زيوس وهيرميس، الألوهية مقنعة.

***

..............................

المؤلفة: إميلي سيلوف / Emily Selove (دكتوراه 2012، جامعة كاليفورنيا) محاضرة أولى في اللغة العربية وآدابها في العصور الوسطى في جامعة إكستر في المملكة المتحدة. تشمل كتبها مختارات من فن التطفيل في عراق العصور الوسطى (2019)، وبوباي وكيرلي: 120 يومًا في بغداد في العصور الوسطى (2021)، وصورة أبى القاسم البغدادي التميمي (2021).

https://psyche.co/ideas/party-crashing-was-a-serious-business-in-medieval-arabic-tales

الهوامش:

1- التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم ـ تأليف أبى بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادى (392ـ 463هـ / 1002 ـ 1071م )

معظم أغاني البيتلز تشبه أغاني البوب، تدور حول الحب. ولكن مع تطور موسيقى المجموعة، انتقل موضوعها الى ما وراء ذلك "هي تحبك نعم، نعم، نعم" و "وانا اريد الإمساك بيدك". بعض أفضل أغاني المجموعة التي تعبّر وتوضح وترتبط بمزيد من الأفكار الفلسفية. هذه عشر من الأغاني:

1- لا يمكن ان تشتري لي حبا:

اغنية "لا يمكن ان تشتري لي حب" كتبها بول مكرتيني في مارس 1964 وهي بيان كلاسيكي عن اللامبالاة التقليدية الفلسفية تجاه الثروة المادية مقارنة بما هو خير للروح. النقود لا يمكنها شراء العائلة السعيدة او الأصدقاء الذين يمكن ان تثق بهم. الفكرة من وراء الاغنية ان جميع الممتلكات المادية هي جيدة لكنها لا تمكّن الفرد من شراء ما يريده حقا. من الواضح ان سقراط كان أكثر اهتماما بالحقيقة والفضيلة منه الى "الحب" (الذي جرى تصويره في الأغنية ليس حبا افلاطونيا خالصا). تجدر ملاحظة  ان بول ذكر لاحقا ان مجموعته كان يجب ان تغنّي اغنية "النقود يمكنها ان تشتري الحب" في ضوء تجربته في الشهرة والثروة. مع ذلك، تظل المشاعر الأساسية، "انا لا أهتم كثيرا بالنقود، النقود لا يمكنها ان تشتري لي الحب"، تحظى بموافقة العديد من الفلاسفة منذ العصور القديمة وحتى الحاضر.

2- ليلة بعد نهار عصيب:

كارل ماركس كان بوسعه ان يحب "ليلة بعد نهار عصيب". حينما كتب عن "العمل المغترب"، يصف ماركس كيف ان العامل هو فقط ذاته عندما يكون في البيت. عندما يكون في العمل، هو ليس ذاته، كونه اختُزل الى مستوى الحيوان المُجبر لعمل كل ما يُطلب منه . المدهش ان "أووووووو"  في وسط الاغنية يمكن ان تكون صرخة النشوة في كون المرء وحيدا مع الحبيب او عواء حيوان يصدر من شخص "كان يعمل كالكلب" كل يوم .

3- رجل بلا اتجاه او رؤية:

هي وصف كلاسيكي لشخص ما ينجرف بدون هدف وينعزل عن العالم الحديث. نيتشه فكّر بجواب ملائم لخسارة المعنى في أعقاب "موت الإله" ربما يكون نوعا من الرعب. لكن "رجل بلا اتجاه" يبدو يشعر فقط بالتعب الشديد وعدم الرغبة بفعل أي شيء .

4- اليانور ريجبي Eleanor Rigby:

انتشار الفردانية هو الذي ميّز المجتمع الرأسمالي الحديث، والفردانية تخلق وحدة وعزلة حتمية. هذه الاغنية تتحدث عن شخصية امرأة ماتت في الكنيسة ودُفنت الى جانب اسمها. هذه المرأة تشهد زواج الآخرين لكنها تعيش الى نهاية حياتها مع ذاتها فقط ، بلا أصدقاء لدرجة ان لا أحد هناك في جنازتها. " اغنية "اليانور ريجبي" تثير سؤالا: "منْ أين جاء جميع الناس الوحيدين؟" العديد من المنظّرين الاجتماعيين سيقولون انهم نتاج نظام يهتم بالمنافسة والتجارة أكثر من الجماعة.

5- مساعدة  Help

"عندما كنت شابا، واكثر شبابا من اليوم

انا لم احتج ابدا لأي شخص يساعدني

لكن تلك الأيام قد ذهبت، وانا الان لا اشعر بالإطمئنان

انا غيّرت رأيي الآن وفتحت الأبواب.

اغنية "مساعدة" تعبير موجع للقلب عن الشعور بعدم الأمان من جانب شخص يتحول من الثقة العمياء بالشباب الى اعتراف اكثر صدقا بمدى حاجته للآخرين. في "اليانور ريجبي"، تعبّر اغنية "مساعدة" عن القلق الشديد. في الأساس، انها اغنية حول الوعي الذاتي وإسقاط الاوهام.

6- بمساعدة قليلة من أصدقائي:

هذه الاغنية تأتي في الطرف النقيض من اغنية "مساعدة". مع لحنها الممتع، هي تعبّر عن الآمان الذي يشعر به شخص  لديه اصدقاء. هو لايبدو كشخص ذو مواهب كبيرة او طموحات، بل ان وجود أصدقاء للتعامل معهم يكفي. الفيلسوف اليوناني القديم ابيقور قال ليس هناك ما هو ضروري جدا للسعادة ، ولكن بالنسبة لتلك الاشياء التي هي ضرورية، فان الأعظم أهمية هو الصداقة.

7- في حياتي:

"في حياتي" هي اغنية مربكة، واحدة من أشهر أغاني جون لينون . انها حول الرغبة بالإمساك بموقفين في وقت واحد، حتى عندما يتصادمان. هو يريد ان يتمسك بذكرى الاشتياق للماضي، لكنه ايضا يريد ان يعيش في الحاضر ولا يلتصق في ذكرياته او يتقيد بها. مثل اغنية "مساعدة" هي ايضا تفكير في عملية الانتقال الى ما وراء شباب المرء.

8- أمس:

"امس"، هي احدى أغاني بول الشهيرة، تعرض تضاربا ملفتا مع اغنية "في حياتي". هنا المغنّي يفضل الماضي على الحاضر – "انا اؤمن في الأمس" – وهو محشور كليا داخله دون رغبة للاتفاق مع الحاضر ابدا. انها من اكثر الأغاني انتشارا حيث هناك اكثر من الفي نسخة مسجلة. ماذا تقول تلك عن الثقافة المعاصرة؟

9- اغنية Hey Jude :

هذه الاغنية تمجّد فضيلة المرح والتفاؤل والنظرة غير الساخرة للحياة. العالم سيبدو مكانا اكثر دفئا لشخص ذو قلب حار. بينما " أحمق من يلعب ببرودة، ويجعل هذا العالم اكثر برودة". انها تخبرنا ايضا بتواضع، "ان نعيش بشكل خطير"، كما يذكر نيتشة في "العلم المرح". بعض الفلسفات ترى ان أحسن طريقة لتعيش هي ان تجعل نفسك آمن ضد وجع القلب او سوء الحظ. لكن جوج قيل له ان يكون جسورا، ويجعل الموسيقى والحب ايجابيان جدا في إبعاد كل ما يزعجه ، لأن تلك هي الطريقة للتعامل مع العالم بالكامل.

10- فليكن: Let it be :

"فليكن" أغنية القبول، حتى في الإستقالة. هذا الموقف المدمر هو الذي نصح به العديد من الفلاسفة القدماء كأضمن طريقة للرضا. لا تصارع ضد العالم: إخضع نفسك له. اذا لم تحصل على ما تريد، أرد ما يمكنك الحصول عليه.

***

حاتم حميد محسن

 

تكاد الحرية فى فقه الاصطلاح الصوفى أن تكون أعلى مراتب الولاية تحقيقاً؛ وهى ألا يكون العبد بقلبه تحت رق شىء من المخلوقات، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة؛ فإنَّ الاسترقاق لشىء دون الله قادحٌ على الجملة، فضلاً عن التفصيل فى الولاية عموماً، فضلاً عن قدحه على التعميم فى العبوديّة وفى الدين.

والرجل الذى يملك الشجاعة ويستوفيها إلى غايتها مع قوة التبتل وقدرة التوجه إلى الملأ الأعلى، ويملك الزهادة فى الدنيا فلا يبالى نعيمها بل يستخف به، ويعرف الحقيقة الدينية معرفة الباحث المنقب المتحقق؛ لهو هو الرجل الذى يخاطب الدنيا خطاب المتعالى عنها العارف بحقيقتها ومصيرها، المتحرر غاية التحرر من آفاتها وغرورها فيقول مع الاستخفاف بها بمثل ما قال (رَبَّانيُّ الأمة) : «يا دنيا غُرى غيرى.. غيرى غيري»!

وهو بلا شك خطاب الذى امتلك الحرية فى أوسع آفاقها وأكمل معطياتها، فلم يعدْ هنالك شيء ما يسترقه من مطالبها إلا أن تكون مطالب الحق الذى يعرفه بقلبه، فيمضى على لسانه ويجريه واقعاً فى الحياة قابلاً للتنفيذ الفعلى : شجاعة لا تبالى الحياة، وزهادة لا تخشى النعيم، وجراءة على الدنيا من طالب الحقيقة الكبرى؛ لتكون مبلغه إلى الغاية التى من ورائها.

فهى إذن لن تغرَّه فى شىء ولن يغرَّه منها شىء، وقد غرَّت حوله كل إنسان فى زمن تدفقت فيه الأموال من الأمصار على نحو لم تعهده الجزيرة العربية قط فى تاريخها، وأقبل الناس على الدنيا العريضة، بل هرولوا إليها، وإذا بخليفةٍ عرف الحقيقة، وملك الشجاعة كما ملك الزهادة، ودانَ للحرية الأسمى كما دانت له الحرية كأرقى ما تدين لإنسان، يصدُّهم عنها كما يصد الطوفان وهو مندفع من وراء السدود، أو يصد الطبيعة الإنسانية وهى منطلقة من عقال التقوى، فهو مستشهد لا محالة ولو مات على سريره؛ فإنّ الإنسان قد يعيش عيشة الشهداء، ولا يلزم بعد ذلك أن يموت ميتة الشهداء كما قال العقاد، طيَّب الله ثراه، فى عبقريّة الإمام.

روحُ التصوف وعمق التبتل فى الإمام عليّ رضوان الله عليه، خصالٌ بادية فى جلاء، لا تخطئها النظرة العابرة، بمجرَّد أن تقرأ كلامه فى نهج البلاغة أو تنظر أوصافه كما جاءت على ألسنة أحبابه وصفاً لأعدائه؛ فقد دخل أحد تلاميذه الذين أخذوا العبادة عنه وأحبوه باعتباره عابد المسلمين الأول، وساروا على طريقته، دخل على معاوية فيطلب منه أن يصف علياً فيقول التلميذ لمعاوية فى أجمل وصف لأجمل عابد زاهد: (كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّرُ العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته.

كان والله عزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفَّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جَشب.

كان والله كأحدنا يُدْنِينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرَّبُه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإنْ تبسم؛ فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوى فى باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأشهد بالله، لقد رأيته فى بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل فى محرابه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين؛ فكأننى أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرّعُ إليه، ثم يقول للدنيا : إليّ تغرَّرتِ، إليّ تشوّقتِ، هيهات هيهات، غُرى غيرى، قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير ومجلسك حقير).

هذا وصف لربَّانى الأمة الأمام عليّ، وتلك بعض أوصافه التى لا تخرج عن وصف حقيقى للزاهد الإسلامى المتقلب فى القرآن الكريم يعيش فيه ويرى الدنيا من خلاله.

وما من عجب؛ فإنَّ الذى تحرَّر من عبادة السِّوى وتحقق من الحرية، وهى أعلى مقامات الولاية، لهو الذى تتلمذ لربِّه وعاش القرآن وتقلب فيه، وتربى فى حجر نبيه ليصبح إماماً للأولياء من بعده، وإماماً لكل من لم تغرّه الدنيا بغرورها وإنْ غرت غيره.

ولم تكن للولاية علامة وهو أمام الأولياء وربانيُّ الأمة غير هذا التحرّر من عبادة السَّوى وقد بلغ فيه الاعتماد على وحى البصيرة الهادية، كما بلغ فيه الاجتهاد مبلغه الذى يرجع بالحكمة إلى رياضة النفس على سنة النُّسَّاك، وتمحيص الفكر على سنة العلماء الربانيين المستبصرين.

 (وللحديث بقيَّة)

***

د. مجدي ابراهيم

ليس هناك ما يثير الدهشة إذا أحصينا أو سعينا لإحصاء الحركات الصوفية في بلد يستمد حماسته الدينية منها، فقلما نبغ مفكر، أو سياسي، أو أديب في “مهد الحضارات” كما يحلو للسودانيين أن ينعتوا وطنهم بهذه الصفة، إلا وأنه حتماً يدين بالولاء لأحد الحركات الصوفية التي نظمت حياته الروحية، وأنشأت في نفسه تصوراً مستقلاً لكيفية تعبده، تصوراً فيه ما فيه من القوة والعمل والتفاني، تصور يدعوه لأن يدرس نفسه فإذا استوفى تفاصيلها دعاه لأن ينتقل إلى ما عداها، ويسلك إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها وهو التدبر، وألا تثور في نفسه رغبة غير تزكية النفس وتطهيرها، “يوجد في السودان ما يقترب من أربعين طريقة صوفية، يمتد أغلبها في نطاق جغرافي واسع، ولكل طريقة منها مركز ثقل في منطقة جغرافية بعينها؛ حيث تتمركز الطريقة السمائية في وسط السودان وفي غرب أم درمان، وتنتشر الطريقة التيجانية في دارفور، وفي شندي، والدامر، والأبيض، وفي الخرطوم، وفي أم درمان، أما الطريقة الختمية فيوجد مريدوها في شرق السودان، وفي شماله، والخرطوم بحري، أما الطريقة القادرية فيوجد أنصارها في وسط السودان، وفي منطقة ولاية النيل، أما الطرق الحديثة البرهانية، والدندراوية، والأدارسة، فتوجد في أماكن متفرقة بالقرب من الحدود المصرية”.

وتتفاوت مناهج التربية في تلك الطرق التي لا نجد بين أهلها وشيعتها أستاراً صفاقا أو رقاقا، وكأن الشيطان أخفق أو استيأس أن يوقع بينهم ويجري تلك العداوة والبغضاء التي نألفها بين أهل الضرب الواحد، فأقطاب التصوف لا يبغضون شيئا كما يبغضوا الوشاة والكائدين، فهم مسرفين في الشدة عليهم وغمرهم باللوم والتعنيف، فمن أركان التصوف التي تعارف الناس عليها وكالوا لها المدح والثناء التسامح، ونكران الذات، والبعد عن الغيبة والنميمة، والشيخ يحتمل في شيء من الجهد هنات مريده، ويستصلح في كثير من الرفق مثالبه حتى يجد المريد بؤساً ممضاً إذا وقع في اللمم، ولن يخرج من ندمه وحزنه إذا تلطخ بذنب له ما له من الضخامة والارتفاع.  “وتختلف مشايخ الطرق الصوفية في السودان في طريقتها فقد يسلك بعض المشايخ طريق الشدة في تربية المريدين، فيأخذونهم بالرياضات الشاقة مثل كثرة الصيام والسهر، وكثرة الخلوة والاعتزال عن الناس، وكثرة الذكر والفكر، وقد تسلك بعض الطرق اللين في تربية المريدين، والبعض الآخر يتخذ الطريق الوسطي في التربية”.

أما من أين وفد علماء الصوفية؟ فليس من المغالاة أن نزعم أن كثيراً من العرب الذين هاجروا لتلك الديار قبل تكوين مملكة الفونج التي نشأت نتاجاً لهجرتهم تلك، قد حطوا رحالهم في السودان وهم يحملون أبجديات تصوفهم وأركانه، هذه الجموع التي خفت إلى أرض السودان حتماً قد جاهدت عدوها فأحسنت الجهاد، وأبلت في ساحات الوغى فأحسنت البلاء، ولكنها لم تتجرع بعد كل هذا غير مرارة الهزيمة وتنكيل الخصوم، فلم تجد بُداً ولا بديلاً سوى أن تهاجر حتى تنجو بنفسها، “ولا شك أن معظمهم كان من الذين ألجأتهم الظروف السياسية إلى الفرار بحيلتهم ودينهم، وجاءوا إلى السودان من الحجاز والعراق والشام ومصر وشمالي أفريقيا بالذات يوم آلت  كلها إلى حكم الفاطميين من الشيعة، فكان السودان بأفواجه الضخمة النازحة مجالاً رحباً لنشر دعوة جديدة من قوم أصابتهم جراحات سياسية فجنحوا إلى الزهد والتصوف، وهذا ولا شك أرسى من قواعد هذا الديني الصوفي الوافد المهاجر، بكل إمكانياته وجراحاته وآماله، وقد فسر شيخنا الكبير العقاد أن شيوع الطرق الصوفية في السودان قد نجم عن الشقاق بين الدول الإسلامية المتعاقبة، فانتشرت فيه الجماعات الصوفية”.

وحتى نأخذ عقولنا بمناهج البحث العلمي، يجب أن نسعى خلف الأسباب التي جعلت حياة العرب متصلة في عالمهم الجديد، هل لأنهم قد حصروا همهم في تفادي الخلاف مع السكان الأصليين، وقصروا جهدهم على الانزواء وعدم الاحتكاك بهم؟ أما أن السكان الأصليين لا يوجد من أوفى منهم بعهد، ولا أبقى منهم على مودة؟ ألم تجيش قلوب السودانيون لهم بالغل، وتضطرم بالعداوة؟ سعينا أن نجد بين نتاف الكتب، ومطويات الصحف، وخطفات الأحاديث، وفي أضابير النت الجواب الشافي لكل الأسئلة التي أوقعتنا في بيداء الحيرة، فــوجدنا بين طيات عدة مقالات حقائق وأسباب كفلت لهؤلاء المهاجرين إلى تلك البلاد البكر عيش هانئ، ورزق رغد، فمما لا شك فيه أن تلك الطائفة التي آثرت المخاطرة والمغامرة والتعرض للمكروه على البقاء في أرضها فيفنيها عدوها، قد قدمت إلى أرض السودان وهي تحمل معهاـ قيم التسامح، وقبول الآخر، ونبذ العداوة والبغضاء، والبعد عن الغلو والتطرف، فوضعت بذلك أول لبنة للوجود الإسلامي في أرض النيلين.

وحتماً قد امتزجت الأعراق، واختلطت الأنساب، بفضل التصاهر الذي يحرص عليه كل غريب يريد أن يحظى بالخفض والأمن والنعيم، وسط أقوام لا يمت لهم بصلة، وتخبرنا كتب التاريخ ومصادره عن ذلك الحلف الذي انعقد في مدينة سنار بين زعيم العبدلاب عبد الله جماع وعمارة دنقس عظيم الفونج وسيدهم عام 1504م، وهما بهذا التحالف قد وضعا نواة أول مملكة إسلامية في السودان، بعد أن انتشر الإسلام في ربوعه، والتي عرفت فيما بعد بالسلطنة الزرقاء، وكان الهدف منها هو القضاء على مملكة علوة المسيحية، المملكة النوبية الثانية القوية في العصر الوسيط في السودان.

“ولم تكن سنار حاضرة أول سلطنة إسلامية في السودان فقط، بل أصبحت عنوانا للبلاد، ومركزا مهماً للإشعاع الثقافي والإسلامي في أفريقيا، وكان أهل السودان في عهد مملكة سنَّار يعرفون بالسنَّارية، وربما وصفوا بالسنانير، عرفت تلك المملكة التي ازدهرت وذاع صيتها، وقوي مركزها لقرون من الزمن بأسماء متعددة، فتارة يطلق عليها مملكة الفونج، وأحيانا السلطنة الزرقاء، وأحيانا أخرى تسمى الدولة السنارية، واستمرت زهاء 360 عاما.

ولعل الحقيقة الناصعة التي لا تقبل شكاً أو جدالا، أن السودان يعد من أكثر البلاد الإسلامية استجابة وطواعية للروح الصوفية، لسلامة فطرته، وصدق طبيعته، ولنزوع أهله إلى الانطلاق من صراع العصبيات القبلية إلى مرفأ وسكن للروح النازعة إلى الأمن والأمان، وإلى سمو روح الرواد والحكام، وكان أهم الآثار التي ترتبت على انتشار التصوف في السودان أن عظم شأن شيوخها وأعلامها أكثر مما ينبغي، فالمريد الذي تثور في نفسه العواطف أضحى يعتقد في شيخه المعجزات التي لا يحصرها خيال أو يحتويها مكان، معجزات أعلاها الأرض التي تطوى له، وأدناها علمه بكل من يتربص به ويدبر له السوء، وشيوخ هذه الطرق أعزهم الله على مر الحقب لم يغيروا هذا الاعتقاد، ولم يعينوا أحداً على التغيير، وكأنهم يخشون إذا سعوا لإزالة هذه الاعتقادات الساذجة من قِبْل محبيهم، أن يزهد الناس في التقرب إليهم والدنو منهم، وسواء أردنا أم لم نرد هذه هي الطريقة التي انتشر فيها الإسلام في بلاد النيلين، ونضجت تعاليمه في نفوس قاطنيه نضجاً بطيئا.

وبعيداً عن التعمق والاستقصاء يقر الباحث أن تقدير المريدين لشيوخهم قد اتخذ أشكالاً عدة، وألواناً مختلفة، و”كانت درجة نجاحة الصوفية في هذا المسمى تعتمد إلى درجة كبيرة على ما يتمتعون به من علم وخلق وورع وزهد وانقطاع عن الدنيا، وصلاح وبركة ولاعتقاد الأحباب المريدين والأتباع، أن من يخالف شيخ الطريقة أو يغضبه قد تصيبه اللعنة، ويلاحقه سوء الطالع، وكانوا يرون أن في مقدور الشيخ لما يتمتع به من بركة وكرامات، أن يكون خير معين للمريد في دنياه وآخرته، وبسبب هذا الوضع المتميز صار الشيوخ يشكلون قوة روحية ذات سلطان عظيم في النفوس، وفي نفس الوقت كانوا مصدر خير للفقراء، وسنداً للضعفاء، وحماة من غدر الحُكّام وظلم السلاطين ونوازل الدهر، وساعدت هذه الوشائج الروحية بين المشايخ والوطنيين على انتشار الإسلام وترسيخ تعاليمه”.

كان هدف الصوفية الأوائل، وغايتهم التي سعوا من أجل تحصيلها، هي بث المزاج الصوفي في بلاد تعد أشد تنوعاً واختلافاً عن رصيفاتها، وكسب أتباع جدد للعقيدة الإسلامية، يرضون حاجتهم بهم للبذل والعطاء، فالساذج منهم إلى أقصى حدود السذاجة، والكيس الفطن إلى أبعد آماد الكياسة والفطنة، كان لا يرمي إلا أن تسير العمليتان معاً جنباً إلى جنب في مجتمع ما زال يتسكع في بيداء الغواية، “وما زالت جيوب الوثنية ماثلة فيه، وكذلك رواسب النصرانية في بعض الممارسات الاجتماعية، واتبع رواد الصوفية الذين حلوا بالبلاد منهجاً مبسطاً في سبيل نشر الإسلام وتعميق مبادئه بين المواطنين، قوامه فيما ترجح إلزام المؤيدين باتباع منهج تعبدي، وسلوك خلقي، مع المداومة على قراءة أذكار وأوراد معلومة، ولتفشي الأمية يبدو أنهم لجأوا إلى التلقين، واستعمال الترانيم، والمدائح والطبول في الأذكار بغرض نشر تعاليم الدين، وكان لهذا الأسلوب غير المتزمت أثره في جلب العامة، وتحبيبهم في حلقات الذكر، والالتفاف حول مشايخ الطرق”.

ولعل في كل الأسباب التي ذكرتها تعليل كاف لشغف المجتمع السوداني بالتصوف، وهيامهم به، واحتفائهم بشيوخه، فهو المذهب الذي بهرهم وسحرهم وفرض نفسه عليهم، بعد أن وجدوا فيه كل ما يعرب عن ضمائرهم، وتذخر به عاطفتهم، كما كانوا راضين مطمئنين إلى تعاليمه، التي لا يجدون عند الوقوف عليها إطالة أو إملالا، وكان شيوخ التصوف كما أسلفنا يغذون عقولهم، ويرهفون خوالجهم، ويلهبون شعورهم، بتلك الطرق التي كانت خليقة بأن تزيدهم قوة وتمسكاً بأهداب الدين، ولكنها مع نجاعتها، وحرصها على الجهاد والسهاد أسرع إليها الضعف، وأحاط بها الهزال، فقد كان “آثار النمط التقليدي لانتشار الإسلام في السودان، حيث التعويل جله على استذكار القرآن، ومخطوطات الفقه الأولية دون تفهم، وعلى نقل شعائر الصوفية وشعاراتها عن طريق التقليد، أن تمكن الجهل بمعاني الدين في مصادرها الأصلية، وخالطت عقائد الناس وأعمالهم رواسب وخرافيات وأعراف جاهلية، بأثر الخلفية التاريخية الوثنية التي استبقاها ضآلة ثقافة العرب الوافدين بالإسلام إلى السودان، إضافة إلى شيء من الانحراف التقليدي في السودان، شيء من الباطنية في التصور، ومن ضعف الالتزام بالشعائر والآداب والأحكام، ويتصل ذلك أيضاً بضعف التراث الفقهي عامة، وغياب الممارسات الدينية التي تعهد في المجتمعات المؤسسة رسمياً على الدين”.

***

د.الطيب النقر

 

أولا: تبادل الأدوار الروحية بين الطفل والوالدين

إذا كان الأب محافظا على نسب ابنه الروحي فإن هذه العلاقة الروحية بين الأب والابن ستبقى مستمرة حتى بعد الوفاة، إذ الفائدة متبادلة بين الطرفين في تدعيم التواصل ونتائج النسب وتبعاته...

ويتجلى هذا الحكم من خلال نصوص قرآنية وحديثية مؤسسة لهذا المبدأ، أذكر من بينها قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ومسألة بناء الجدار والحكمة من ورائه كما في قوله تعالى: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزلهما فأراد ربك أن يستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا"1.

على عكس إفادة الأبوين الصالحين لولديهما فإن الولد الصالح هو بدوره قد يكون مضرا أو مفيدا لوالديه، كما نجد في نفس السورة صورة منه حيث يقول الله تعالى عن الغلام الذي قتله الخضر في حضرة موسى عليه السلام "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما "2. والأقرب رحما هو الذي يفيد والديه في الحياة وبعد الممات كما يدل عليه الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"3.

إذن، فالعلاقة بين الوالدية والمولودية مترابطة ومتواصلة إلى يوم القيامة، والمحدد لهذه الرابطة على الدوام هو النسب الذي كما سبق وبينا يتأسس على القاعدة الشرعية المحددة للزواج الصحيح وما في حكمه مما هو قابل شرعا لإعطاء النسب الشرعي للطفل.

ثانيا: الحقوق الروحية للطفل وضمان استرسالها

وإذا ما حوفظ على حقوق الطفل الروحية قبل ولادته فإنه سيحافظ عليه في الإسلام باستمرارية ذلك الرصيد عندها وبعدها، وذلك من باب ترسيخ الاسترسال الروحي التوحيدي في تكوين الطفل، كما تدل عليه الأحاديث المبينة لوعي الصحابة رضوان الله عليهم بهذا البعد الروحي في الحفاظ على هوية الطفل وارتباطه بأصوله الدينية ولاجتماعية الأسرية، أذكر بعض النماذج منها: ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت قباء فولدت بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغتها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له فبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا له فرحا شديدا لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم"وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليه وكان أكبر ولد أبي موسى"4.

فهذه الأحاديث وغيرها تبين لنا إجراءات جد مهمة في الحفاظ على صفاء نسب الطفل ونسبته الروحية وذلك للقيام بأعمال المباركة والدعاء والآذان والإقامة في أذنيه، وبالتالي اختيار الاسم المناسب له عند العقيقة على قاعدة روحية ومتناسبة مع طينته وفطرته، والتفاؤل به حتى تكون له آثار جيدة على سلوكه ومستقبله وارتباطه بأصالته.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يطبق هذا الحكم على الكبير وليس على الصغير فقط من باب اختيار الأسماء التي تمثل دعامة معنوية والتشبث بجذوره واستمراره وحسن تذكره كما يروي البخاري "باب اسم الحزن"عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما إسمك ؟قال: حزن. قال: فأنت سهل قال: لا أغير إسما سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعد"5. ويروي الإمام مالك بن أنس في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة عنده: من يحلب هذه؟فقام رجل فقال له: ما إسمك ؟فقال له: مرة. فقال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام رجل فقال له: ما اسمك؟قال: حرب، قال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام آخر فقال: ما اسمك ؟قال: يعيش، قال: احلب".

فاختيار الاسم عند المسلمين لم يكن عفويا أو اعتباطيا، وإنما هو مِؤسس على ضوابط روحية ومعنوية ذات بعد ديني عقدي، يؤسس للنسب في صورته الشرعية ويكفل الاستمرارية لتواصل الخلف مع السلف وتواصل الظاهر مع الباطن والعقيدة مع السلوك والجسد مع الروح والماضي مع الحاضر والتطلع للمستقبل، كما أن الاسم وحده لا يكفي لأن يطبع الشخص بمعناه، وإنما هناك التفاؤل بالمسمى ؛وهو الرجل الصالح الذي ينظر بنور الله تعالى المعبر عنه شرعا بالفراسة، فينطق بالاسم المناسب لواقع الطفل ومكانته الروحية والاجتماعية...

هذه كانت سنة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم ورثها المسلمون في اختيار أسماء أبنائهم على يد صلحاء الأمة من أولياء وعلماء قد يكونون من الأقرباء وغيرهم، إذ المهم في مراعاة هذا الأمر يكون هو مستوى الصلح والتفاؤل به حتى يتحقق المراد.

من هنا يطرح على مستوى عصرنا ضرورة مراجعة هذا السجل من الأسماء الذي أصبح يتناسل في مجتمعنا مع تطور أجهزة التواصل السمعي والمرئي بغير ضوابط لغوية أو تاريخية وبالدرجة الأولى روحية، حتى إننا بدأنا نسمع تسميات فاحشة وخسيسة لغة ومعنى قد يخجل الإنسان من سماعها أمام الملأ وتؤثر على الطفل في معنوياته أو أنها قد تسلبه هويته لأنها مستوردة من الغرب أو الشرق على حد سواء وهي تحمل معاني غير سليمة عقديا وأخلاقيا! أو أنها غير ذات معنى أصلا وليست لها أية نسبة أو اشتقاق لغوي يبشر بالخير أو تحقيق العصبية الإيجابية والتكاتف الاجتماعي الذي يوحي به الاسم من وجه ما.

***

الدكتور محمد بنيعيش - الفكر والحضارة

المملكة المغربية

.....................

1- سورة الكهف آية 81

2- سورة الكهف آية 79-80

3- رواه سلم

4- رواه البخاري في كتاب العقيقة

5- رواه البخاري في كتاب الأدب

 

الإسلام كدين في جوهره، تكمن مقاصد خيرة تدعوا الناس إلى المحبة والتسامح والعدل والمساواة وتعليم الإنسان والرقي به، وهو أيضاً دعوة إلى احترام الرأي الآخر وعدم التنطع والايمان بالحركة والتطور والتبدل، والإسلام دعوة لرفض الاستسلام والتمسك بالشك بما يراه الإنسان أو يعرض عليه للوصول إلى الحقيقة واطمئنان القلوب، وهو دعوة للتشاور بين الناس بما يخص قضاياهم المصيريّة الكبرى، كقضية الحكم واتخاذ الحرب والسلم، واتباع الطرق والأساليب الصحيحة التي ترتقي بهم. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكونوا خير أمّة أخرجت للناس.

لا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين ما يسمى إسلام المقاصد الذي أشرنا إلى طبيعته وجوهره أعلاه، وبين الإسلام السياسي، الذي تطالب بتطبيقه قوى سياسّية، غالباً ما تكون مؤدلجة وجهاديّة، هذا وقد  ظهر مصطلح (الإسلام السياسي) الذي يدعو إلى حاكميّة الله. في تاريخنا الحديث والمعاصر من قبل حركات سياسيّة دينّة تؤمن بأن الإسلام في تكوينه يُشكل نظاماً سياسيّاً للحكم، أي هو  عندها ليس ديانة أو عقيدة فحسب، وإنما هو تعبير عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي واجتماعي وثقافي، يدعوا إلى بناء الدولة والمجتمع معا وضبط آليّة حركتهما. ورغم ربط هذا المصطلح ببعض الأسماء بعينها مثل -حسن البنا- وتياره -الإخوان المسلمون- وبعض الجماعات والحركات التي تبنت المشروع ذاته كالحركة الوهابيّة والقاعدة وفصائلها كجبهة النصرة وداعش وغيرهما. وإن هذه القوى السياسيّة الجهاديّة الأيديولوجيّة راحت تتعامل في هذا السياق مع نصوص مقدسة من القرآن والحديث، تختارها وتقوم بتفسيرها وتأويلها في الغالب خارج السياق التاريخي للواقع المعيوش، أي هي لا تراعي خصوصيات أسباب النزول، وإنما تتعامل مع ظاهر النص على اعتباره عندها صالحاً لكل زمان ومكان، وهنا تقوم بليّ عنق الواقع وفقاً لأجندات سياسيّة ترمي من ورائها إعادة الحياة في المجتمعات الإسلاميّة وحتى غير الإسلاميّة باسم (الحاكميّة) عن طريق القوة والعنف إلى السراط المستقيم الذي رسمه الدين  وفقاً  لقيم وسلوكيات القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، بعد أن انحرف الناس عنها سياسيّاً واجتماعيّا واقتصاديّاَ وثقافيّاً. وبالتالي تمسكت هذه التيارات السياسيّة الجهاديّة في رفضها للمختلف، وتكفيره وزندقته وقتله عند الضرورة، وبالتالي لم يعد الزمن عندهم متحركاً، بل واقف لا يتحرك، واستخدام العقل سبّة يجب اقصائه والتمسك بالنقل، فالحديث الضعيف عندهم خير من الرأي على حد تعبير"ابن حنبل"، والتشريع بينت دلالاته النصوص المقدسة وشرحها  فقهاء هذه الأمّة وأسسوا قواعدها بمدارسهم الفقهيّة المعروفة وأغلقت أبوابه، وكل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة، فكل جديد يجب أن يتفق مع ما ورد في النص المقدس، وما أفتى به فقهاؤها، فالأصل في الأشياء لم يعد الإباحة، وإنما أصبح الحرام والمكروه عندهم هما الأصل.

أما إسلام السلاطين موضوع بحثنا هنا: فهو تيار إسلامي عُرف تاريخيّاً بالتيار (المدخلي)، أي التيار الذي يمثله مشايخ السلطان عبر مؤسسات الدولة، هذا ويشكل طرفا معادلته سلطة حاكمة مستبدة، ومشايخ سلطان في قلوبهم زيغ، عملا ويعملان معا على تفسير وتأويل وبالتالي فرض نصوص دينيّة من القرآن والحديث معاً، لها خصوص أسباب (نزولها) بالنسبة للنص القرآني، وأسباب (وضعها) بالنسبة للحديث، توظف لخدمة مصالح السلطان وحاشيته، وتبرير مفاسدهم واستمرارهم في السلطة، حتى لو تعدى هذا الحاكم وحاشيته حدود الله في الرعيّه، من اغتصاب لأموالهم العامة والخاصة، أو التعدي على أعراضهم وأبشارهم وتشريدهم وتجويعهم وغير ذلك. وهذا التيار استمر في وجوده منذ الخلافة الأمويّة إلى اليوم.

إسلام السلاطين والإتجار بالدين:

ما يلفت الانتباه هنا أن (السطات الحاكمة المستبدة) تدعي تدينها وحمايتها للدين أمام شعوبها، وذلك من خلال إيجاد مؤسسات دينيّة لها طابع رسمي، يقود ويشرف على نشاطها رجال دين باع أكثرهم ضميره ودينه لقاء منافع ماديّة ومعنويّة  لإرضاء السلطان والحفاظ على حكمه ومصالحه وتبرير مفاسده وتعديه على حقوق المواطنين التي يقرها الإسلام ذاته قبل أي شيء آخر. هذه الحقوق التي تمثل من حيث المبدأ، احترام جوهر الإنسان، هذا الجوهر القائم على عدالته ومساواته واحترام رأيه، وضرورة مشاركته في قيادة الدولة والمجتمع، والتأكيد على الشورى في أمور الناس وقضاياهم المصيريّة، وفي مقدمتها إدارة شؤون بلادهم، أو بتعبير آخر تطبيق كل ما يدل على مقاصد الدين الخيرة التي أشرنا إليها أعلاه، والتي همها احترام الإنسان والرفع من شأنه وتنمية حياته الماديّة والروحيّة معا. وفي الوقت الذي تدعي فيه هذه السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخها بأنها هي من يمثل الدين الصحيح، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع لإدارة شؤون الناس، نجدهم يخالفون الكثير من قيم الدين الخيرة التي أشرنا إليها، باذلين كل جهدهم في الدعوة إلى تبني الفضيلة من قبل الشعب قبل أي شيء آخر، وهي الفضيلة التي يريدونها هم، وعلى هذا الأساس سخروا لنشرها آلاف الدعاة والداعيات عبر دور العبادة وقنوات التلفاز والصحف والمجلات التي أقيمت لهذا الغرض بمعرفة سلطة الدولة. هذا في الوقت الذي نجد أن (الفضيلة المجردة) التي يدعون إليها في واد، وما يجري على الواقع المعيوش من سلوكيات في واد آخر. وهذا في الحقيقة  ما يوقعهم في تناقض بين ما يطرحونه من تبنٍ لقيم الفضيلة وممارستها في الواقع، وبين ممارستهم هم للرذيلة ونشر للفساد.

إن هذه الحكومات المستبدة في الواقع، هي أكثر من يقوم بالابتعاد عن الفضيلة وحقوق الله. ففي الوقت الذي تدعي فيه بأنها تعمل على تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الناس، نراها تتفرد في السلطة وتقصي المختلف عنها وتسجنه، وتركز السلطة الفعليّة والقابضة علي مفاصل الدولة الأساسيّة بيد عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو ثلة المستبد الحاكم، أو بيد حزب و(قائد ملهم) لا يأتيه الباطل أبداً، بينما يُبعد كما قلنا بقيّة الشعب عن إدارة شؤنهم السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وفي الوقت الذي يؤكدون فيه عبر الجوامع ووسائل الإعلام، بأن الفرد مسؤول عما كسبت يداه، تراهم لا يوفرن لهذا المواطن الوسائل الشرعيّة التي تكفل له تحقق الأمن والاستقرار ولقمة العيش وحريّة الرأي والعمل والمسكن، والأهم تخليصه من سلطة الخوف التي تحاصره بها عبر أجهزة أمنيّة في حياته اليوميّة المباشرة، لحديث له أو إبداء رأيٍ في قضايا تهم وطنه. هذا ويظل السؤال المشروع الذي يطرح نفسه هنا بقوة وهو: كيف تكون طبيعة العلاقات القائمة بين الناس عادلة، وهم يفتقدون إلى تطبيق التشريع الإسلامي الذي يحاكم السيد والمسود معا على ما يمارسونه من فساد؟. (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

عموماً نقول في هذا السياق: (إن السلطات الحاكمة المستبدة)، تريد من الناس أن يتمسكوا بالفضيلة، وأن يؤدوا لله (الغني عن العالمين) الفرائض، شاكرين وساجدين وصائمين وساكتين ممتثلين مستسلمين، إلى أن يموتوا ويدخلوا الجنة. وخلال كل هذه المرحلة الطويلة من تأدية الطقوس للوصول إلى العالم الآخر، لا يملك المواطن خلالها الكثير من حقوقه لضمان ما يريد فعله من أجل تحقيق أمنه وأمانه ولقمة عيشه ومصيره في واقعه المعيوش أو حتى في آخرته، طالما هو يعيش تحت رحمة هذه السلطات المستبدة، ومشايخ السلطان، من محترفي السياسة والدين.

حقيقة منذ قيام الدولة الشموليّة بقيادة السلطات المستبدة، ظل الحكم بيد القلة القليلة، وظل المواطن مجرد بيدق على رقعة شطرنج، يعيش ويموت بإرادة اللاعبين، مع ضمان من سيقوم بتشيعه من أهله وجيرانه وأصدقائه إلى مثواه الأخير، داعين له بحسن الختام وحسن الجوار في قبره خير من أهله، وأن تكون له في النهاية الجنة وحور العين وأنهار من الخمر والعسل واللبن.

لا شك أن الدين جاء أساساً لفك الحصار عن الإنسان نفسه من مستبديه ومن ظلمه وقهره وجوعه، والحد من سلطة الحاكم المستبد. وإن مسؤوليّة الإنسان عما كسبت يداه لا يمكن إقرارها إلا في مجتمع قائم على العدالة والمساوة والشورى، أي الاقتراع الحر، حيث يملك هنا كل إنسان مواطنيته وحقوقه وواجباته وفي مقدمتها حق اختيار من يحكمه. وإدارة شؤون البلاد والعباد وصياغة قوانين الدستور الذي يضبط شؤونهما، فبدون هذا المبدأ لا أحد يحتاج إلى شريعة من السماء لأن كل هذه القضايا قابلة للحل على أرض الواقع ومن قبل الناس أنفسهم بعقد اجتماعي يتفقون عليه.

إن الدين الذي تسوّق له السلطات المستبدة وينتحل لنفسه صفة القداسة بالذات، والذي لا يضمن العدل للأغلبيّة في نظام إداري مسيج ومحمي بدستور يقره الشعب، لا يستحق اسم دين، لأنه في الحقيقة غير قادر أصلاً على تجميع الناس حوله إلا بالوعد والوعيد، وهذه هي في الحقيقة مشكلة إسلام السلاطين منذ بدء الخلافة الأمويّة التي حولت الخلافة إلى ملك عضوض  إلى اليوم.

إن تبني الإسلام ديناً للناس من قبل السلطات المستبدة، دون الايمان بسلطة الأغلبيّة كما يقول (صادق النيهوم): (ليس ديناً، بل جثة دين فقدت حيويتها ومقاصدها الخيرة، أي هو ليس أكثر من مجرد توليفة من الوصايا التي تدعوا إلى الفضيلة ممثلة بالخير والإصلاح والعدل. بيد أنها وصايا من ورق مدفونة بين دفتي الكتب الصفراء لا تمتلك قوة القانون ولا تستطيع أن تفرض نفسها، إلا بقدر ما يسخرها الحاكم في خدمة أغراضه الخاصة ومصالحه واستمراريته في السلطة.) (1). لقد أفرط الحكام المستبدون في استغلال ظاهرة تسييس الدين وحتى أدلجته أشعريّاً أو صوفيّاً لمصلحتهم، من خلال تأسيس المؤسسات الدينيّة، وبناء آلاف الجوامع وعشرات معاهد وثانويات الدراسات الإسلاميّة وجامعاتها، ودور أخرى ذات طابع ديني تتعلق بتعليم القرآن وأحاديث الرسول وتفسيرها وعلومها وبالتالي توظيفها لمصلحة الحاكم. إن كل الذي تسعى إليه القوى الحاكمة المستبدة من تبني الإسلام هو المتاجرة به والعمل على خطى سلفنا في العصور الوسطى من منطلق (..إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف الآية 22)، وهي وصفة عمليّة كما يقول (الصادق النيهوم) أيضاً: (من شأنها أن تغلق باب الاجتهاد وحتى النقاش، وتضمن للرعيّة أربعة عشر قرناً أخرى من تقليد سلفنا الصالح، تقضيها في حماية رعاة هذه الرعيّة من الملوك والرؤساء والسلاطين ومشايخهم الذين نجحوا حتى الآن في أن يكفلوا لنا موقع الصدارة في التخلف بين أمم الأرض في مشرقها ومغربها، وبالتالي يظل معظم المواطنينَ يعيشون على الصدقات والهبات، وتظل الشعوب تعاني قساوة الحروب الأهليّة الطائفيّة منها والعرقيّة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، هذا إضافة لما يلقاه المواطنون من هزائم  تلو الهزائم على جميع الجبهات الصغيرة منها والكبيرة، و هم يرزحون تحت أسوأ أنظمة حكم قروسطيّة المبدأ والإدارة في العالم، الأمر الذي تبدو فيه الأمور هنا مضحكة ومبكية معاً،). (2). ص16

إن الإسلام الذي يسير تحت مظلة أنظمة الحكم المستبدة الشموليّة اليوم، يمثل في الحقيقة إسلام الفقر والجوع والتشرد والحرمان والفحشاء والمخدرات. أي الفساد بكل أشكاله.

من هنا نقول لمستبدي هذه الأمة: أتركوا الدين لا تتاجروا به، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾. (إبراهيم - 42). وكذلك فإن الشعوب المغلوبة على أمرها ليست بغافلة عما تعملون، فهم يراقبونكم بصمت، ويشاهدون فسادكم فوق الأرض، وهم لن يغفروا لكم إن سنحت لهم الفرصة، وهذا ما عبرت عنه ما سميت بثورات الربيع العربي، فكل المؤسسات الدينيّة والجوامع التي بنيتموها لادعاء إيمانكم أمام شعوبكم المستلبة الإرادة، تحولت إلى مراكز تحريض ضدكم من قبل ثورات الربيع العربي، وذلك من خلال دروس الداعيات والدعاة الذين وثقتم بهم ووظفتموهم لخدمة التبشير بإسلامكم، بينما كانوا في السر يعلمون الأطفال فكر الفرقة الناجية. لذلك لا تكونوا كالنعام، فالدين عقيدة وفطرة، وهو بالأساس ملاذ المحرومين من قهر ظلم الظالمين. فكل الثورات والاحتجاجات التي قامت في تاريخ الخلافة الإسلاميّة اتكأت على الدين، كثورة الزنج والخرميّة والقرمطيّة، والزيديّة وكل الحركات المهدويّة وغيرها الكثير. (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).( القصص - 5)، فعندما يبلغ البغيُ مداه، ويصل الشرُّ إلى منتهاه، لن يبقى في يد المستضعفين حيلةٌ لكبح ذلك، سوى الثورة على الظلمة المستبدين وفسادهم. من هنا نقول حيدوا الدين، فالدين لله والوطن للجميع، وليس هو للسلطان ومضادي السلطان من الأصوليين التكفيريين، لذلك أوجدوا مؤسسات دينيّة تحت سلطتكم لعمل الخير والإحسان والاشراف على أمور الأوقاف، واتركوا التعليم الديني ومناهجه وفضيلته التي تخدم الفرد والمجتمع والدولة، لمدارس الدولة الرسميّة، وكل من يخرج عن مقاصد الدين الأساسيّة ويحاول أدلجته وتسييسه يجب أن يحاسب من قبل الدولة وفق القانون الذي يقره الدستور. تمسكوا بالعلمانيّة التي تؤكد على العقل في معرفة الخطأ والصواب، وأن العقل سيد الأحكام، أما المواطنة فهي من يحقق الاستقرار والأمان لكل مكونات المجتمع إذا كنتم تريدون للفرد والمجتمع الاستقرار، وحتى برطكم بين العروبة والإسلام فأنتم تقصون غير المسلمين من مكونات الدولة والمجتمع، وتجعلوهم أقل شأناً من المسلمين، أي تجعلونهم يشعرون بأنهم رعايا لا مواطنين. أما ادعاؤكم بأنكم مع كل المكونات الدينيّة في أوطانكم، فالذي يتلقاه الأطفال في دروس الجوامع حول الفرقة الناجية وتكفير المختلف يقول غير ذلك، فهذه القوى الأصوليّة قامت بتدمير الكنائس ودور عبادة غير المسلمين، وسبوا نساءهم وباعوهم في ساحات النخاسة. مثلما كفروا المذاهب والفرق المختلفة في توجهاتهم الدينيّة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة.

...............................

الهوامش

1- الصادق النيهوم – إسلام ضد الإسلام – سلسلة كتب الناقد – رياض الريس للكتب والنشر- ط3 – عام 2000. ص14.

2- الصادق النيهوم المرجع نفسه. ص16

الضائقة النفسية التي نصنعها عند أخطائنا لها تأثيراتها الاجتماعية الخطيرة علينا

قصة كعب بن مالك نموذجاً

تفكر في موقف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وما حدث لهم من المقاطعة خمسين يوماً، حيث نزل بهم قرآنا يتلى ليوم الدين، قال الله تعالى {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.. (التوبة:118،119).

يقول كعب بن مالك أحد الذين تخلفوا عن الغزوة، " فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعاً من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك ؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة.

ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتبنا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي. بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول لي: الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك، قلت: هذا من البلاء أيضاً، فحرقت الرسالة، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي فقلت: الحقي بأهلك، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً. فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة، قال كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني.1]

ثم قال: فلبثنا [بعد ذلك] عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله ". قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ". قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: وأنزل الله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[2]

هذه دروس نتعلمها أن الذنوب والأخطاء التي نحن نحدثها ينتابنا خوف وجزع عند مواجهة الحقيقة والقائد الذي يسيطر على الموقف، وقد نستخدم مبررات كالكذب ونخلق الأعذار الواهية غير الصادقة حتى ننجو من عيوبنا الذي فعلناه ومع ذلك أصحاب المبادئ مهما زلت أنفسهم ووقعوا في في تقصيرهم يكون صدقهم سمة بارزة في شخصوهم، فلا يستطيعون التحايل والتملص بطريقة غير مهذبة من فعلتهم وما حدث منهم، فصدقهم ميزة أخلاقية ينظرون على أنها مناجاة وفرصة لعبور المنعطفات التي يسلكونها، وإن دفعوا فاتورة وعقاب ما قصروا به وفعلوه. فالاعتراف ميزة في صفاتهم وخصالهم مهما بلغ السيل الزبا، بالرغم من تقريعه ومعاتبته من أهله بأنه لم يقدم عذراً لغيابه عن المشاركة في الغزوة حتى يستغفر له الرسول عليه السلام وينتهي الموقف لصالحه، " فكان صادقاً بعيداً عن الكذب بالرغم من أن نفسه حدثته بذلك حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة " والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم اعتذر ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي"[3]، وبالرغم من ملامة الأقرباء على عدم تقديم الأعذار إلا أنه بقي صادقاً في قوله، وهذا بحد ذاته تحد وصمود على القيم والمبادئ الأخلاقية السمحاء التي نادى بها الأسلام، إلا أنه بقي على مبادئه وشفافيته ووضوحه لا يعرف التلاعب والتحايل في سلوكه وما بدر منه.

وبالرغم من أصحاب كعب (مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية) بقوا في منازلهم إلا أنه ظل يصلي في المسجد ويجوب الأسواق دون أن يكلمه أحد، وهذا بحد ذاته قوة ومنعة وحرص على أداء الشعائر والعبادات والتواصل مع من حوله من الناس المحيطين به. ناهيك عن استجابة كعب بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في فقم حتى يقضي الله فيك وأمره أن يعتزل زوجته، فهذه قمة الانضباط والالتزام بتعليمات القائد العظيم عليه الصلاة والسلام بالرغم من الموقف الذي أحدثه والنفسية والظروف التي لازمته في محنته.

وأن الأحداث التي نسلكها ونحدثها في واقع حياتنا لها تبعات نفسية واجتماعية ومجتمعية، تفرض نفسها علينا وتؤثر فينا وتحاصرنا وتقيد حركتنا ومسار حياتنا، فنقع تحت الضغوط والتوترات والمخاصمات والمقاطعات التي تجعلنا في هم وغم، فالضيق الذي نشعر به من التقصير الذي صنعناه والتبعات والإجراءات التي الذي يحدثها المجتمع من حولنا، فإذا كان هناك تخلف عن الغزوة وتكاسل دون مبرر أو عذر، " ورغم ما حدث من مقاطعة وحصار لمدة خمسين يوماً، فكان الـتأثير النفسي شديد والاجتماعي أشد من شعور المتخلفين عن الغزوة لمدة لست هينة، حتى قال كعب " قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض"، وهذا مؤشر مهم على أن الضيق الذي يحدث من علل وأمراض نفسية وجسدية يكون تأثير المجتمع المحيط أبلغ وأشد إيلاماً من وقع السيوف على المرء، يجعله في حيرة من أمره وفي وضع لا يحسد عليه. " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه)..( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها. فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق). (ضاقت عليهم أنفسهم) كأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم. (وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه، وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات. ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب.. ثم يجيء الفرج.. ( ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم ).[4]

وضِيقُ الأرْضِ: اسْتِعارَةٌ، أيْ حَتّى كانَتِ الأرْضُ كالضَّيِّقَةِ عَلَيْهِمْ، أيْ عِنْدَهم. وذَلِكَ التَّشْبِيهُ كِنايَةٌ عَنْ غَمِّهِمْ وتَنَكُّرِ المُسْلِمِينَ لَهم. فالمَعْنى أنَّهم تَخَيَّلُوا الأرْضَ في أعْيُنِهِمْ كالضَّيِّقَةِ، و(رَحُبَتْ) اتَّسَعَتْ، أيْ تَخَيَّلُوا الأرْضَ ضَيِّقَةً وهي الأرْضُ المَوْصُوفَةُ بِسِعَتِها المَعْرُوفَةِ.

وضِيقُ أنْفُسِهِمُ: اسْتِعارَةٌ لِلْغَمِّ والحَزَنِ لِأنَّ الغَمَّ يَكُونُ في النَّفْسِ بِمَنزِلَةِ الضِّيقِ. ولِذَلِكَ يُقالُ لِلْمَحْزُونِ: ضاقَ صَدْرُهُ، ولِلْمَسْرُورِ: شُرِحَ صَدْرُهُ.[5]

ومن التحديات والمعضلات التي تعرض لها كعب أن ملك غسان أراد أن يستغل الهموم والوضع النفسي والاجتماعي الذي حدث له، بإغرائه أن يلحق بهم وقال له تعال بنا نواسيك ومع ذلك لم يترك لنفسه فرصة للتفكير بالأمر رغم ضعفه وهمه والحالة التي مر بها، فقد مزق الرسالة ولم يستجب لها مهما كان الظرف أو الحال الذي مربه. ومع هذا الضنك والضيق والهم جاء الفرج بعد مرور فترة من الزمن وحرص بعضاً من الصحابة رضوان الله عليهم على البشارة والتهنئة له" عندما قال" سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله "."[6]. فأصحابه لم يستغلوا الموقف وينبذونه ويوصفونه بأوصاف لا تليق به، أو يخرجونه من دائرتهم، بل حرصوا على دعمه وتهنئه وبشارته بأن الله تاب عليه، وحرصوا على إبلاغه بذلك وهم فرحون به يباركون له ويعانقونه حباً وكرامة له. ولم ينسى موقف طلحة بن عبيد الله عندما صافحه وهنأه.

حرص كعب على تقديم هدية لمن بشره بأن الله تاب عليه بالرغم من أنه لم يملك غيرهم، بالفرحة والسعادة تكمن في التقرب إلى الله والحزن والضيق في العقوبة ألتي فرضت عليه نظراً لحبه لله عزوجل ومبته لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بالصدقة بكل ماله تقرباً لله عز وجل كتكفير للذنوب والمعاصي والآثام والعودة من جديد بنفسية متجردة من صفاتها السلبية والأخطاء التي حدثت معه إلى جادة الصواب والاستقامة"فقد اشار كعب رضي الله عنه " فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ص]، قال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه أحسن مما أبلاني اللّه تعالى، واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي. وأنزل اللّه: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين. [7]

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2024

....................

[1] https://www.islamweb.net/ar/article/17674

[2] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html

[3] https://www.islamweb.net/ar/article/17674

[4] https://quran-tafsir.net/qotb/sura9-aya118.html

[5] https://tafsir.app/ibn-aashoor/9/118

[6] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html

[7] https://quran-tafsir.net/qotb/sura9-aya118.html

بقلم: أنجيلا هاوبت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد ظهر أحد أيام الأسبوع الأخيرة، دخلت شوان تشاو إلى مكتب البريد قبل وقت قصير من إغلاقه. كان الرجل الذي ساعدها صبورًا بشكل لا يصدق وبذل قصارى جهده لمساعدتها في كومة من الطرود. لذا قبل أن تغادر، سلمته بطاقة مجاملة من تصميمها. وجاء في المقدمة: "إن استعدادك لبذل جهد إضافي لن يمر دون أن يلاحظه أحد أبدًا". ومن الجانب الآخر يُقرأ: "أنت تتلقى هذه الثناء لأن روعتك تستحق تحية كبيرة"، ومع ذلك، فهو تذكير بأن الكلمات الطيبة لديها القدرة على إضفاء البهجة على يوم شخص آخر أكثر مما يمكن أن نتوقعه، واقتراح لدفع ذلك للأمام. وتتذكر قائلة: "كانت لديه ابتسامة كبيرة على وجهه"

أشرفت تشاو، عالمة السلوك في جامعة ستانفورد، وهى الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة Flourish Science الناشئة، على بحث يشير إلى أننا نميل إلى التقليل من أهمية التأثير الإيجابي للمجاملات على أنفسنا وعلى المتلقي. ونتيجة لذلك، فإننا لا نعطي الكثير كما ينبغي. وتقول: "إن المجاملة هي واحدة من هذه الأفعال الصغيرة القوية التي تضيء يومك وتضيء يوم شخص آخر". "ولا تكلف شيئًا."

لماذا المجاملة مؤثرة جدا؟ تقول فانيسا بونز، عالمة النفس الاجتماعي وأستاذة السلوك التنظيمي في جامعة كورنيل، التي أجرت أبحاثًا عن المجاملات، إن أحد أهم الأشياء بالنسبة للإنسان هو الشعور بالتقدير والاحترام من قبل الآخرين، وأن يكون لينا شعور بالانتماء. وتقول: "إننا نتفهم دائمًا أي قصاصات من المعلومات التي نحصل عليها حول كيفية نظر الآخرين إلينا"، ولكن نادرًا ما نتلقى أيًا منها. "عندما نتلقى مجاملة، فإن ذلك يعطينا ردود الفعل التي نرغب بشدة في معرفتها حول ما يعتقده الآخرون عنا." وتضيف أن التعبير عن الإعجاب يوفر "بصيصًا من الأمل" الذي يُنظر إلينا بشكل إيجابي في بعض السمات، مثل العمل أو الموضة، مما ينشط مركز المكافأة في الدماغ ويعزز أرواحنا. وفقاً لبحث بونز، يشعر الناس "بتحسن كبير" بعد تقديم المديح وتلقيه، مقارنة بما كانوا يشعرون به من قبل.

ومع أخذ ذلك في الاعتبار، طلبنا من الخبراء مشاركة بعض مجاملاتهم المفضلة، ولماذا يتردد صداها.

1- "لقد تعاملت مع هذا الموقف بشكل جيد."

استخدمت بونز مؤخرًا مجاملتها المفضلة عندما رأت الخادم يمر بموقف صعب مع أحد العملاء في الحانة. وتقول: "أنا أحبها كثيرًا لأنك تستخدمها في اللحظات المشحونة التي يكون فيها الشخص الآخر غير متأكد في كثير من الأحيان مما إذا كان قد تعامل مع الموقف بشكل جيد . إنه يطمئن الشخص إلى ما فعله ويظهر له أن جهوده لنزع فتيل الموقف أو مساعدة شخص ما لم تمر دون أن يلاحظها أحد."

في المواقف التي تتطلب المجاملة، لا تتردد. انشروها بسخاء. يشعر الناس أحيانًا بالقلق من المبالغة في الإطراء وسيبدأون في الظهور بمظهر غير صادقين. وتقول بونز إن هذا القلق لا أساس له من الصحة. وتشير إلى أن "الحد الأدنى لعدد الإطراءات التي نعتقد أننا يجب أن نقدمها أقل مما يعتبره الناس مقبولاً". "لست بحاجة إلى أن تصاب بالجنون، ولكن من المحتمل أنك قد تمدح بشكل متكرر أكثر مما تعتقد." طالما أنك تقصد ما تقوله بصدق، بدلاً من اختلاق شيء ما على أمل تحقيق مكاسب شخصية، فاعتبر أن الإذن بالمجاملة قد تم منحه.

2- "أنت تجعل حتى اللحظات العادية تبدو غير عادية."

هذه المجاملة - وهي إحدى المفضلات لدى تشاو - تنجح بشكل جيد بين الشركاء الرومانسيين وأفراد الأسرة المقربين. وتقول: "إنها طريقة جميلة وعميقة لتسليط الضوء على كيف يحول وجودهم الحياة إلى شيء ذي معنى وجدير بالاهتمام، لى الرغم من الروتين الدنيوي والاعتيادي في حياتنا اليومية".

إذا كنت تخشى أن يبدو تقديم مجاملة كهذه أمرًا غريبًا، فأنت لست وحدك. يميل الناس إلى القلق المفرط بشأن كيفية تقديم المجاملة بكفاءة. نشعر بالضغط من أجل الأداء الجيد، كأننا إذا لم نتلفظ بكلماتنا الرقيقة بشكل مثالي، فسوف نتعرض للسخرية. تقول إيريكا بوثبي، عالمة النفس الاجتماعي في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، والمؤلفة المشاركة لبحث المديح الذي أجرته بونز، إن إحدى طرق التغلب على هذا الخوف هي القيام بالتمرين. تقول: "إذا كان ذلك يجعلك تشعر شخصيًا بأن المستوى قد انخفض بالنسبة لك لتعطي مجاملة إذا كتبتها، أو إذا كنت تتدرب على قولها بصوت عالٍ أو إعطاء قطتك الأليفة المجاملة أولاً، فافعل ذلك". إن جعل نفسك تشعر بالراحة – من خلال الإطراء أمام المرآة، إذا كان هذا هو ما يتطلبه الأمر – فهو أمر يستحق كل هذا الجهد.

3- "أنا معجب حقًا بقدرتك على العمل تحت الضغط."

الاحترام ضروري عند تقديم المجاملات. يمكن لمعظم النساء أن يتذكرن ما يسمى بـ "المجاملات" التي لم تصلهن - فكرن في التهكم والملاحظات الأخرى غير المرغوب فيها حول المظهر الجسدي. تقول بونز: "هذه ليست مجاملات حقًا لأنها لا تظهر الاحترام". قبل أن تقول شيئًا لطيفًا لشخص ما، تأكد من أنك تفعل ذلك بطريقة مدروسة ومناسبة. إذا كانت زميلتك قد انتهت للتو من تقديم عرض عمل مثير للإعجاب، على سبيل المثال، فلا تمدح مظهرها. وتوضح بونز أن القيام بذلك "لا يعني القول: "إننا نقدرك في سياق العمل هذا، حيث يعتبر العمل هو السمة المهمة". "إنها مثل، "محاولة جيدة، لكنك تبدو جميلًا أثناء القيام بذلك". ومن المهم أيضًا تجنب المجاملات غير المباشرة، والتي قد تبدو غير ضارة ولكنها في الواقع تحتوي على انتقادات أو إهانات مخفية - والتأكد من أن لغتك لا تقارن بشكل خفي بين شخصين.

4- "أنا أحب الطريقة التي تبرز بها أفضل ما في الناس."

كن دقيقا. التفاصيل يمكن أن ترفع الإطراء البسيط إلى إطراء رائع، لذا اجعلها انطلاقة أساسية لتسليط الضوء على صفات أو أفعال معينة. وتقول تشاو إنها تحب هذه الفكرة لأنها "تعترف برغبة الفرد وجهده وعقلية النمو في التعرف على الإمكانات الموجودة لدى الآخرين وتنميتها - غالبًا قبل أن يراها هؤلاء الأفراد في أنفسهم". "هذا ثناء كبير لأي شخص يسعى إلى إحداث تأثير إيجابي، مثل القائد أو المعلم."

على سبيل المثال، إذا شاهدت شخصًا ما يلقي خطابًا مقنعًا في أحد المؤتمرات، فأخبره عن الجزء الذي لفت انتباهك أكثر. بدلًا من قول "عمل جيد" بشكل عام، قل: "كان حديثك ملهمًا حقًا"، تقترح تشاو. "إذا كان بإمكانك أن تقول المزيد عن كيفية إلهامك للتفكير في شيء ما بطريقة جديدة، فهذا أفضل." يمكنك أيضًا تخصيص مجاملة، على سبيل المثال من خلال ملاحظة التقدم الذي أحرزه الشخص في مجال ما، الاعتراف بالأشياء التي عمل بجد عليها. - مثل إبطاء سرعته أو حذف كلمات الحشو من جمله - لإظهار أنك تقدر تقدمه وجهوده.

5- "يا لها من أقراط رائعة!"

لا تتردد في مجاملة الغرباء. في بحث بونز، طُلب من الطلاب في الحرم الجامعي أن يقتربوا من شخص غريب من نفس الجنس وأن يثنوا عليه - على سبيل المثال، على قميصه الجميل. قبل الخروج، طُلب من المشاركين في الدراسة تخمين مدى تأثير المجاملة على الشخص الآخر. وتبين أنهم قللوا من شأن التأثير الإيجابي، في حين بالغوا في تقدير مدى الإزعاج الذي قد يسببه إيقاف شخص غريب عشوائيًا. تقول بونز: "في جميع الظروف، يشعر الناس بتحسن أكثر من المتوقع" . من المرجح أن يشعر الغرباء بالاطراء أكثر من الحيرة. بالإضافة إلى ذلك، من يدري؟ يمكنك تكوين صداقات جديدة بالإضافة إلى إسعاد شخص ما.

6- "كان أداؤك رائعًا."

نادرًا ما يتعب الناس من تلقي المديح، لذلك إذا كنت مع صديق يفكر في تقديم مجاملة، فشجعه على القيام بذلك. يقول بوهنز: "إذا لم تكن أنت الشخص الذي يتعين عليه اكتشاف الصياغة الصحيحة والتحدث مع شخص غريب، فيمكنك أن ترى بشكل أكثر وضوحًا أن ذلك سيجعل الشخص يشعر بالارتياح". قل شيئًا مثل: "لقد استمتعت حقًا بحديث هذا الشخص، اذهب وأخبره كم كان رائعًا." وإذا اعترضوا قائلين إن المتحدث ربما سمع ذلك مليون مرة؟ ذكّرهم أنه قد يكون هناك زينة على الكعكة مرة أخرى.

7- وعندما تتلقى واحدة: قل "شكرًا".

يشعر الكثير منا بالحرج عند قبول المجاملات - فقد نحمر خجلاً، أو نتجنب التواصل البصري، أو نبدأ في الغمغمة بسبب الإحراج، أو حتى نستخف بأنفسنا. إذا كنت أنت هذا الشخص، تذكر مدى شعور الشخص الذي يمدحك بالرضا، وابتسم أثناء الرد،"، تقترح بوثبي أن تقول: شكرًا لك، هذا يعني الكثير. وتضيف أنه على الرغم من أنه قد يكون من الصعب التفكير خارج نفسك في الوقت الحالي، فاعتبر ذلك "فرصة لبناء أو تعزيز تواصلك مع الشخص الآخر". سيترك كل منكما الآخر وأنتما أكثر سعادة، وسيضفي الحيوية على بقية يومك.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: أنجيلا هاوبت/Angela Haupt: أنجيلا هاوبت هي محررة الصحة والعافية في TIME. إنها تغطي السعادة والطرق العملية للعيش بشكل جيد.

 

الثقافة، ما معناها، ما تعبيراتها وأي الحقول تشمل وهل إستقر الرأي عند تعريف محدد وثابت لها. هذه الأسئلة وغيرها سنحاول التوقف عندها قدر المستطاع ولتكون محور مقالنا هذا وكيف تم تناوله من قبل المختصين وذوي الشأن.

ففي الحديث عن هذا المفهوم الذي بين أيدينا، يمكننا القول بأن العديد من الأوساط المهتمة وذات الصلة، كانت قد خاضت فيه حتى إستُنفِذَ أمره وبلغ مداه وليستقر على ما وصلنا من صيغة وبما يحمل من دلالة. وعلى وفق ما ورد ومن أكثر المصادر رصانة وأظنها أصابت التقدير وغطَّت الى حد كبير هذا المفهوم وما يتصل به، فهو بمجمله وبحسب العديد من المواقع المعتمدة، قد حمل المعنى الآتي وَشَمِلَ: المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع ما. وإستنادا الى التوضيح الآنف، فسنشتق منه أحد أهم تجلياته وتعبيراته بل والذي سيشكل ركنا أساسيا منه وواحداً من أبرز مكوناته، وبما يتسق وطبيعة مقالنا والأهداف المرجوة منه، والحديث هنا عن مفهوم الأدب تحديدا ومن هو الأديب، ما طبيعة نشاطه وما هو منتجه وكيف يتم التعامل معه.

وإستنادا الى ما ذُكِرَ وعلى ما أجمع عليه الأولون وذوي العلاقة والإختصاص من قَبلِنا، فإن مفهوم الأدب وما سيقوم به ويقدمه، فسيتمثل في جملة من القضايا، منها وفي مقدمتها: إفراغ الأفكار والخواطر والتعبير عنها. كذلك هو مجموعة من النصوص الشعرية أو النثرية التي تُكتب بلغة من اللغات. وبذا سيشمل الأدب أشكالًا وألواناً متعددة ومتنوعة، ستأخذ منحى وميول الأديب نفسه وطبيعة أدواته التي سيستخدمها والتي ستختلف بكل تأكيد من شخص الى آخر، وهذا عائد الى عدة إعتبارات، من بينها الخلفية الأدبية والثقافية عموماً لكل منهم، كذلك مدى الخزين المعرفي الذي بين أياديهم، وأيضاً يرتبط بدرجة قدرتهم على توظيف ملكاتهم وبأسلوب يفي بالغرض ويصل غاياته. (الى هنا ينتهى الإقتباس والذي تعاملنا معه بتصرف).

وبذا سيعني الأدب وتلخيصًا لما فات: بأنه ممارسة الفعل الإبداعي وفي حقول عدة، والذي سيفضي في محصلته النهائية الى خلق أحد أشكال المتعة أو أكثر. كذلك سيدخل في باب تحسين الذائقة عند المتلقي وتجميلها، فضلاً عن دفع الأخير وإذا ما أحسن الصلة والتعامل مع النص المنتج وتفاعل معه بحماسة ورغبة ومارس كذلك رؤيته وبعين القارئ الناقد وبمستوى ما، ستجده بلا ريب وقد تحول الى أن يكون جزءاً وركناً أساسياً منه بل وحتى مكملاً له. هنا وفي لحظة كهذه سيجد الكاتب نفسه وقد إضطر الى أن يضع نصب عينيه قدرات المتلقي وأن يحسب له حسابا ومع أي عمل أدبي قادم، بل سَتُعَدٌ واحدة من قواعد النص وشروطه، وبذا سيتحول المتلقي الى ما درج على تسميته بالقارئ الضمني، حيث سيرافق الكاتب خلال سيرورة كتابته. كذلك فالمنتج الأدبي وبصرف النظر عن درجة إتقانه وإجادته، فسيُحدث لدى القارئ ما يمكن أن نطلق عليه بالإنعكاسات أو ردات الفعل، والتي ستختلف وتتفاوت بكل تأكيد بمستوياتها ونتائجها ودرجة إستقبالها بين هذا وذاك.

في كل الأحوال فما يسعى اليه الكاتب وليس أي كاتب وإنما المقصود هنا بالملتزم أو حامل الرؤيا، والذي يستهدفه من وراء صياغته لنصّه، هو محاولته بلوغ الآخر وصولا الى خلق حالة من التسامي والراحة النفسية لديه، فضلا عن أهداف أخرى قد تكون غير منظورة أو غير مُدركة، وهذا سيعتمد بالضرورة وبشكل أساسي على ملكات الكاتب نفسه وما يبتغيه وما رسم وخطط له. وتعليقاً على النقطة الأخيرة، فردات الفعل سوف لن تكون وبما لا يدع مجالاً للشك بمستوى واحد بين كاتب وآخر، فالأمر سيتوقف على قدرات كل منهم. كذلك ستكون للقوانين المعمول بها ودرجة الحريات المتاحة في بلده، تأثيرها أيضا على الكاتب وما ينتجه من نصٍّ..

ومما يُجدَرُ ذكره وتعليقا على ما ورد في الفقرة الأخيرة، فهناك من منتجي الأدب ممن سيجدون أنفسهم وقد إضطروا الى ممارسة نوع من التورية في كتاباتهم، هادفين (الإلتفاف) على ما ترصده عيون الرقيب وما يمكن أن يتسبب ذلك في إلحاق الأذى بهم وربما بعوائلهم وصولا الى الأقرباء منهم وحتى الدرجة الرابعة، وهذا ما حدث فعلاً وينطبق وبنسبة كبيرة على مثقفي وكتاب ما نسميه بالعالم الثالث بشكل خاص، المبتلين بأنظمة حكم ديكتاتورية، فضلاً عن بعض دول العالم الأخرى، على الرغم من قطع الأخيرة أشواطاً متقدمة على طريق التطور والتحضر وسنّها لقوانين تحفظ كرامة الأنسان وحقوقه الأساسية، والشواهد على ذلك كثيرة.

وعلى الجانب الآخر وإذا ما أردنا التوسع أكثر والأخذ ببعض النماذج والأمثلة الناجحة في بناء تجاربها، فلا بأس من الإلتفات الى ما حققته بعض دول أوربا وأخرى غيرها من نهضة شاملة، كانت قد طالت مختلف الأصعدة، من بينها ما هو حديث ساعتنا أي عالم الأدب والثقافة عموماً. فمنذ عقود ليست بالقليلة وهي في سيرورة وتطور مستمرين، ساعية الى توظيف رصيدها المعرفي والذي بلغ من الثرى والغنى مستوى لا يستهان به، بل لا يمكننا التقليل من شأنه ومن مدى تأثيره وما يشغله من مكانة في ثقافة شعوبها. كذلك في قطعه لأشواط بعيدة، على طريق تهيئة الأجواء والمناخات المريحة لللأجيال الجديدة القادمة وخاصة لفئة المثقفين منهم، لتفسح لها المجال رحبا، كي تمارس دورها المؤمل والمرتجى والذي ستحمله بفخر وزهو.

ولكي لا تبدو الصورة وردية ونذهب بعيداً في الوهم، وفي الحديث عن قطع هذه الدول لأشواط بعيدة على طريق نيل حقوقها الأساسية وبما يتصل منه بالشأن الثقافي تحديداً، فمثقفو أوربا وتجارب أخرى غيرها ممن تقع خارج القارة البيضاء، لم يكونوا ليصلوا أهدافهم والمتمثلة في ممارسة حرية التعبير وبتلك الخفة والإنسيابية والثقة، لو لم يسبق ذلك خوضهم لصراعات كانت قد إمتدت لعقود ليست بالقليلة، والتي بلغت في بعض مراحلها من الشدة والذروة ما إستوجب تقديمها خيرة مثقفيها ومفكريها نذورا وقرابين على هذا الطريق، بل حتى بلغت الحماقة بأصحاب السلطة أن رَموا معارضيها والمتنورين منهم ورعيلها الأول بتهمتي الإلحاد والخروج عن الملّة، وذلك على وفق ما أنبأتنا به الأخبار التي كنّا قد قرأناها وباتت منهلاً نستعين به في صراعاتنا مع الآخر أو إن شئت تسميته بالضد النوعي المتربص، الشديد الضلالة والذي لا زال معتكفاً في كهوف يثرب حتى اللحظة، ما إفك يلقي علينا خُطبه وبما يطيب له من الجهالة ومن عقم في الفكر والرؤى، كي نبقى نلهث خلفه.

وإذا ما أردنا التوقف وإلقاء نظرة سريعة والتحدث بالتالي عن شكل العلاقة التي تربط ذلك المثقف الملتزم بواقعه اليومي وما يتصل به من تطورات ومتغيرات، فستجدها قد بُنيت وجاءت كثمرة وإستحقاق طبيعي لنضالات تلك الفئة كما سبق القول، ولسعيها الدؤوب كذلك من أجل تحقيق إستقلاليتها وعلى قاعدة من الحرص والمسؤولية العالية. لذا بات من نافل القول أو على الأقل ما نتأمل منه: أن يكون زاهدا صادقا في  مواقفه، ثابتاً مستقرا في قناعاته.

وطالما نتحدث عن إستقلالية المثقف الأوربي عموما ومن يخوض في عالم الأدب بشكل خاص، ولما لهذه الميزة من أهمية في صياغة نصّه وما يقوم به من دور،  فلا بأس من التوقف عندها لنقول: نجاحه في بلوغ هذه الغاية أي الإستقلالية ، لم تفتح له الباب واسعا للمشاركة وبفعالية في رفد الثقافة الإنسانية فحسب وانما تحول الى جزءٍ فاعل وحيوي في رسم معالم وشكل الوسط الذي ينشط ويعيش فيه أيضاً. وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وفي الحديث عن الدول الرصينة التي تحترم تأريخها، فكان من بين تقاليدها وما درجت عليه ومن أسباب تفوقها، هي العودة الى فنانيها وأدباءها ومفكريها، والإستعانة بهم، من أجل المساهمة الجادة والفاعلة في رسم معالم سياساتها بشكل من الأشكال، إن كان ما يتصل بالحاضر منه أو بالمستقبل، بل وحتى ما متعلق منه بقراءة وتحليل إرثها وبالشكل الذي يساعدها على إمكانية وشكل توظيفه للقادم من الأيام. أمّا عن مساحة وحدود مشاركة هذه الفئة أي المثقفة، فهي لا تقتصر على مؤسسات دولها فحسب وانما تجاوزت لتصل مدياتها الى ما هو خارج الحدود، حتى تجدها وقد لعبت دورا ملحوظا ونشطا في العديد من الهيئات والمنظمات الانسانية العالمية ذات الصلة.

وعلى صعيد المواجهة والتصدي للوضع القائم الذي كانت تعاني منه تلك البلاد البعيدة، وإذا ما أردنا الإستشهاد ببعض الأسماء التي لعبت دورا لا يمكن التجاوز عليه أو تخطيه في هذا المجال، فهناك الكثير من الأمثلة الحية والقريبة. فمن بينها على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب المسرحي الجيكي فاتسلاف هافل، الحائز على جائزة (اراسوس) حيث تَقَلَّدَ رئاسة الدولة بعد الاطاحة بالنظام القائم آنذاك والذي كان يطلق عليه بصاحب القبضة الحديدية. فبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في رؤيته السياسية وانتماءه وخلفيته الأديولوجية، فقد سجَّل له التأريخ وبحروف ساطعة عناده وتصديه للسلطة الحاكمة، وعلى اثرها فقد صدر بحقه قرارا، غير قابل للإستئناف أو الطعن، يقضى بموجبه حكماً بالسجن ولبضعة سنين، بسبب إنتمائه السياسي المعارض للوضع القائم. نموذج كالذي أتينا على ذكره قد لا يروق للبعض، وهذا عائد على ما أظن الى إنحيازتنا المسبقة لأديولوجيات بعينها. وإذا كان لنا من إضافة وتعليق في هذه الصدد، فحدود منح الديمقراطية وسقفها كما نرى، لا تتوقف ولا ينبغي لها أن تقتصر على نوع  فكري أو حزب سياسي بعينه،  دون غيره.

وفي الحديث أيضاً عن هذه الفئة والتي سميناها بالمثقفة وهي تستحق لقب كهذا وبكل تقدير وإجلال، فقد شَكَّلت في بعض دول اوربا قوة ضغط وتأثير لا يقلان شأنا عن الأحزاب السياسية الحاكمة وكذلك عن دور معارضيها الرسميين في صياغة توجهات ومواقف الرأي العام، إن لم تكن لها الريادة في حركة الشارع، خاصة فيما يتعلق بالمطالبة بالحقوق المشروعة والعادلة لها، بل إمتدت نشاطاتها لتتبني حقوق الشعوب الأخرى المتطلعة والتواقة للحرية والدعوة الى تقرير مصيرها بنفسها وإقامة دولها المستقلة على أراضيها، لتكون في ذلك قد حققت تفوقاً في أداءها وفي بعض الحالات والمنعطفات التأريخية حتى على الدور الذي من المفترض ان تقوم به وتتصدى له المنظمات والاحزاب المعارضة الرسمية، وبكل إنتماءاتها وتشكيلاتها السياسية والفكرية.

وفي ذات السياق ومن أبرز الاسماء في هذا المجال والتي لعبت دورا وتأثيرا مهمين وواضحين على الشارع الثقافي الاوربي في توجهاته وخياراته السياسية بل وحتى الفكرية، هو ما قام به الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، من خلال فلسفته الوجودية وإنعكاساتها على ذهنية أجيال متعاقبة من الشباب، حيث توقَّفَ طويلاً عند مفهومي الحرية والمسؤولية وكيفية الربط بينهما وتوظيفهما نحو تحقيق الأهداف السامية. وقد عدَّه الأعداء بل وأعترفوا بدوره وقبل الأصدقاء من الراصدين والمتابعين لطروحاته، بأنه أحد العقول اليسارية المدافعة عن حقوق الانسان في العالم. وبسبب من ذلك، فقد لاقى صدى إيجابياً واسعاً ليس من قِبَل الشارع الأوربي فحسب بل من شعوب العالم الأخرى ومن بينها الشارع العربي، خاصة بعد أن تُرجمت له الكثير من الأعمال، والتي  كان من أبرزها كتابه الموسوم بــ(عاصفة من السكر)، حيث تحدَّث فيه عن الثورة الكوبية. كذلك كتابه الآخر (عارنا في الجزائر) والذي كان محوره ما اقترفته من جرائم أيادي الاحتلال الفرنسي بحق ذلك البلد. وفي هذا المنحى سيلتقي صاحب الذكر وعلى ذات الخط والطروحات مع المفكر الفرنسي اندريه مالرو، المتبني هو الآخر لحقوق الشعوب المضطهدة، حيث شارك في تأسيس أولى الصحف المناوئة للإستعمار الفرنسي في المنطقة المسماة آنذاك بالهند الصينية، فضلا عن إصداره للعديد من الكتب، والتي لا تخرج في خطوطها العامة عن ذات السياق الذي أتينا عليه.

وإذ أردنا التوقف عند المزيد من الأمثلة فلا بأس هنا من التطرق الى تجربة المفكر الكبير روجيه غارودي، المنتمي لصفوف الحزب الشيوعي الفرنسي مبكرا، ليخوض مع أبناء جيله غمار التصدي للنازية الألمانية المحتلة لبلاده في أربعينات القرن الماضي. بعدها سيجري إعتقاله من قبل تلك القوات، ويُنقل على أثرها الى إحدى مدن الجزائر، يوم كانت خاضعة آنذاك لنير الإحتلال الفرنسي. من هناك حيث المنفي الإضطراري بدأت تتشكل لدى غارودي بدايات قراءة الأحداث بعين مغايرة. على أثرها وبعد أن غاص في تجارب الشرق وعرف عن قرب حقيقة أوضاعها وما تدعو اليه، راح غارودي متناولا الإسلام والقضية الفلسطينية برؤى تختلف عمّا قيل له. فشرع بعد ذلك في الكتابة عن الصهيونية وما أحدثته في الأراض المحتلة وشعبها من مآسي، كذلك أقدم على فضح وبأسلوب علمي وبأدلة تأريخية دامغة، حقيقة ما سمّي بالهلوكوست (المحرقة اليهودية) وما رافقها من ضجيج إعلامي ممنهج، واضح في أهدافه وغاياته، مما تسبب له في أن يوضع في عين العاصفة، حيث لم تتوقف الدولة العبرية عن شن أبشع الحملات بحقه، بهدف تشويه سمعته والتصدي لطروحاته. ومن بين ما خطَّته يدي غارودي كذلك والتي تستحق التوقف عندها لما لها من أهمية والتي جاءت كذلك منسجمة ومستجيبة لتحولاته الفكرية، مجموعة من الكتب المهمة جداُ، من بينها على سبيل المثال: (أميركا طليعة الإنحطاط). (الشيوعية ونهضة الثقافة الفرنسية). (فلسطين أرض الرسالات السماوية) وغيرها الكثير الكثير.

وأخيرا ولكي لا نبخس حق مثقفينا في التصدي لآلة القمع الوحشية التي تعرضوا لها في بلادنا، وعلى يد السلطات الديكتاتورية الحاكمة وعلى مختلف العهود، والتي أجبرت العشرات بل المئات منهم على إختيار المنفى ملاذا لهم، نقول ربما ستكون لنا عودة لطرح هذا الموضوع مستقبلاً.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

يأتي هذا السؤال في سياق ثقافي يعاني أزمة بنيوية حقيقية، ومتجذرة في أعماق الفعل الثقافي، بل في الممارسة الثقافية الحالية التي لم ترق إلى مستوى تطلعات بلد يسعى إلى إحداث تقدم وتطور في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ذلك أن لهذه الأزمة طابعا أخطبوطيا يجعل من إمكانية حلها عملا جبارا يستدعي مجهودا جماعيا، وليس عمل فرد أعزل لا يملك إلا الكلمة التي كانت سلاحه المعتاد في سبيل التغيير والتجديد. ففي هذا السياق المتأزم، تظهر أصوات من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية تطالب بكلمة المثقف بصدد ما يجري في بلده، وتنظر منه حلا سحريا سريعا لأزماتها المزمنة، ولعمري إن هذا ضرب من اليوتوبيا التي تمنع الأفراد، على اختلاف مستوياتهم ومنسوب وعيهم، من التفكير الجاد والمستمر في الأزمة، والعمل على تفكيكها وتبسيطها بغية وضع الإصبع على مكمن الداء ومصدره، ومن ثم، الإسهام في التغيير والتجديد المطلوبين من قبل مختلف الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين.

تمثل صورة المثقف أمامنا كلما توغلت الأزمة في حياتنا، وحاصرتنا مظاهرها وتجلياتها السلبية من كل ناحية، بيد أننا لم نتساءل، تساؤلا بريئا غير مؤدلج، عن أسباب صمت المثقف، وغيابه الطويل عن المشهد الثقافي العام.

يعلم من قرأ كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو "نظام التفاهة" أن هذه الأخيرة داء منتشر في كل المجالات والممارسات المختلفة، وأنها نظام مقصود ذو توجهات وأهداف مخطط لها. لعل هذا النظام الذي اكتسح المشهد العام، وجعل التافهين يحسمون المعركة على حد تعبير آلان دونو، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى فعالية المثقف، أي فعالية كلمته التي تعد سلاحا له؛ لأن بها يعبر عن تصوراته وأفكاره حول قضايا مجتمعه، وهي وسيلته لمخاطبة الفاعلين السياسيين والثقافيين، وبوصلته التي يوجه بها الرأي العام نحو الصالح العام، ويطلعه على حقيقة ما يجري حوله، ومن ثم تنبيهه إلى النتائج التي يمكن أن تترتب على التحديات والأزمات التي تواجهه، وتؤثر على مسيرته تقدمه الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

بم ستفيد الكلمة الأعزل إن لم تجد تربة خصبة ومناخا ملائما؟ من يسمع صوت المثقف في زمننا الراهن؟ ومن يحس صمته وغربته واغترابه عن مجتمعه؟ ألأن الأفراد قد طبعوا مع الوضع السقيم الذي يتجرعون ويلاته، أم أن ثمة خيبة أمل متبادلة بين المثقف وأفراد مجتمعه؟

يترتب عن السؤال الأخير القول إن هذه الخيبة متبادلة بالفعل؛ ذلك أن المثقف تلمّس اللا جدوى كلمته وعدم فعاليتها في الأذهان والأفهام، ومن ثم لاذ إلى مراقبة المشهد العام من بعيد، وليس من برج عاجٍ ما دام المثقف منشغلا، ولو من مسافة بعيدة، بما يجري داخل مجتمعه لأنه فرد من أفراده، ولعله ينتظر بصيص أمل يتراءى له في الأفق البعيد. أما عن الأفراد، فإنهم سايروا التوجهات التي تتهم المثقفين بالخيانة والتنصل من مهامهم تجاه مجتمعاتهم، وحكموا على المثقف، نتيجة تهمة الخيانة، بأن له أهدافا ومآرب شخصية تمنعه من قول كلمته التي تزعج المسؤولين والمهتمين بالشأن العام.

نميل إلى القول إن الأزمة الثقافية، وهي مربط الفرس في هذا المقال، أزمة بنيوية ومتجذرة في قلب الممارسة السياسية الثقافية، وفي صلب توجهاتها العامة؛ إذ إن أزمة الثقافة تتغذى من توجهات وأهداف جهات معينة، ما دامت قد توغلت في مفاصل المجالات الاجتماعية. فأن تجد التفاهة في التعليم، والإعلام، والسياسة، والمجتمع.. إلخ، فهذا يدل على كون الأزمة أكبر من فرد أعزل، أي من مثقف يرى نفسه شمعة احترقت بما فيه الكفاية حتى تضيء ليل مدلهما لكائنات مغتربة وشاردة أمام ما يجري حولها. لهذا، نرى أن صمت المثقف ليس دليلا على فشله واستسلامه، وليس فعلا ناتجا عن خيانة أو الحفاظ على مكانة اجتماعية وسياسية واعتبارية، وإنما يعزى الأمر إلى انتظار فرصة مناسبة تتيح الكلمة للأفراد الاجتماعيين وللمثقفين على حد سواء؛ لأن نهاية الأزمة الثقافية ترتبط، في جانب كبير منها، باختيار اجتماعي وثقافي يشترك فيها الطرفان المعنيان بالتغيير والتجديد.

يبدو أن كلامنا لا يعفي المثقف من دوره، كما أنه لا يبرئه مما يجري الآن، وإنما يهدف إلى إطلاع الجماهير على كونها معنية بأي تغيير ثقافي اجتماعي، وأن المسؤولية منقسمة بين المثقف وأفراد المجتمع، والتعاون على بناء فعل ثقافي جاد ومتين، يقصد إلى التغيير والتجديد الجذريين والمنتظرين. وهكذا، نقول إن للمثقف واجب الإنصات لهموم مجتمعه والتفاعل مع قضاياه، وإن على أفراد المجتمع تحمل مسؤولية تجويد الفعل والممارسة الثقافيين، ومناقشة تصورات المثقف واقتراحاته في ما يتعلق بسبل الإصلاح والتجديد.

يبقى السبيل الأساس لحل أي أزمة مجتمعية هو تقريب الشقة بين مختلف الفاعلين السياسيين والثقافيين والاجتماعيين؛ بهدف تحديد أهداف مشتركة تخدم الصالح العام، وليست إرضاء مبتذلا للخواطر والنزعات الأدلوجية المتضاربة؛ لأن هذا الإرضاء من شأنه أن يسهم في تمييع الفعل الثقافي، وجعل الفاعلين يتنصلون من مسؤولياتهم برميها على هذا الطرف أو ذاك بحسبانه سببا للنتائج الراهنة.

سنكون مسؤولين عن تقدم مجتمعنا وصون فعله الثقافي حينما نقر في أعماقنا أننا مسؤولون عن الأوضاع الحالية، ومساهمون في التطبيع معها بشكل أو بآخر.

***

محمد الورداشي

 

كان مفهوم عبادة الشخصية في السياسة العالمية ظاهرة متكررة عبر التاريخ، حيث يزرع الزعماء السياسيون صورة لأنفسهم كشخصيات أكبر من الحياة وتتمتع بهالة إلهية تقريبا. وغالباً ما تنطوي هذه الممارسة على تمجيد وتمجيد القائد، الذي يتم تصويره على أنه مصدر القوة والاستقرار في أوقات عدم اليقين. ويمكن رؤية عبادة الشخصية في أنظمة سياسية مختلفة، بدءا من الأنظمة الاستبدادية مثل كوريا الشمالية في عهد كيم جونغ أون، إلى ما سمي بالديمقراطيات مثل تركيا في عهد رجب طيب أردوغان. وفي هذه الحالات، استخدم القادة الدعاية والرقابة وإظهار الولاء علناً للحفاظ على صورتهم كشخصيات معصومة من الخطأ ولا غنى عنها. على سبيل المثال، تقدم وسائل الإعلام التابعة لكيم جونغ أون، التي تسيطر عليها الدولة، الزعيم المحبوب والموقر، في حين يتم إسكات المعارضة بسرعة. وبالمثل، عزز أردوغان سلطته من خلال تصوير نفسه كزعيم قوي وحاسم، وقمع أصوات المعارضة ومركزية السلطة تحت حكمه. سوف يستكشف هذا المقال تأثير عبادة الشخصية على السياسة العالمية، ويدرس آثارها على الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقات الدولية.

الأفكار الرئيسية:

- إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة يقوم فيها القادة السياسيون بتنمية صورة عامة أكبر من الحياة لكسب الدعم والإعجاب من أتباعهم.

- من أمثلة القادة الذين استغلوا عبادة الشخصية جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة.

- من الممكن أن يكون لعبادة الشخصية عواقب سلبية، مثل خنق المعارضة وتقويض الديمقراطية، كما رأينا في حالات مثل كوريا وروسيا والعديد من الدول الأفريقية والأسيوية.

- ومع ذلك، يمكن أيضا استخدام عبادة الشخصية لأغراض إيجابية، كما رأينا في حالة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذي كان قادرا على إلهام الأمة وإحداث تغيير إيجابي من خلال قيادته الكاريزمية.

- رغم أن عبادة الشخصية يمكن أن تكون أداة قوية يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم، فإنها تنطوي أيضا على مخاطر وينبغي التعامل معها بحذر من أجل الحفاظ على ديمقراطية سليمة.

- إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة يعمل فيها الزعماء السياسيون على تنمية صورة عامة أكبر من الحياة لكسب الدعم والعشق من أتباعهم.

التفاصيل:

إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي ظاهرة مدهشة كانت موجودة عبر التاريخ، حيث تُظهر قوة الصورة والكاريزما في تشكيل التصور العام وحشد الدعم من الأتباع. في هذه الظاهرة، يقوم القادة السياسيون بشكل استراتيجي بتنمية صورة عامة مبالغ فيها وأكبر من الحياة لخلق شعور بالإعجاب والعشق بين مؤيديهم. ومن خلال الحملات الإعلامية المصممة بدقة، والظهور العلني المنظم بعناية، وجو من الغموض، يسعى هؤلاء القادة إلى تصوير أنفسهم كشخصيات ملهمة تمتلك قدرات استثنائية وحكمة وجاذبية. ومن خلال تقديم أنفسهم على أنهم يجسدون آمال وأحلام ومُثُل أتباعهم، فإنهم يخلقون إحساسًا بالارتباط الشخصي والولاء الذي يتجاوز الولاء السياسي التقليدي. من أمثلة القادة الذين نجحوا في تنمية عبادة الشخصية شخصيات مثل أدولف هتلر، وجوزيف ستالين، وكيم جونغ أون. استخدم هؤلاء القادة الدعاية والرمزية والعروض الكبرى للقوة لإبراز هالة من المناعة والعصمة، وإسكات المعارضة بشكل فعال وتعزيز سلطتهم على دولهم. إن عبادة الشخصية في السياسة العالمية هي أداة قوية يمكن استخدامها لتحقيق أهداف إيجابية وسلبية. وفي حين استخدمه بعض القادة لإلهام شعوبهم وتوحيدها في أوقات الأزمات، استخدمه آخرون للتلاعب بسكانهم والسيطرة عليهم من خلال الخوف والترهيب. إن فهم ديناميكيات عبادة الشخصية يمكن أن يسلط الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها للقادة السياسيين تشكيل التصور العام، والتلاعب بالعواطف، وحشد الدعم الثابت من أتباعهم. في الأقسام التالية، سوف نتعمق في أمثلة محددة لعبادة الشخصية في السياسة العالمية، وندرس الاستراتيجيات التي يستخدمها القادة لبناء والحفاظ على صورتهم العامة الأكبر من الحياة، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على مثل هذه الممارسات على الديمقراطية. الحوكمة والمساءلة. ومن خلال استكشاف دراسات الحالة هذه، يمكننا الحصول على فهم أفضل لكيفية استمرار عبادة الشخصية في تشكيل المشهد السياسي العالمي والتأثير على سلوك كل من القادة والأتباع على حد سواء.

ومن أمثلة القادة الذين استغلوا عبادة الشخصية جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة.

إن عبادة الشخصية هي ظاهرة سائدة عبر التاريخ، حيث يستخدم القادة جاذبيتهم ونفوذهم للتلاعب بالجماهير وتعزيز سلطتهم. ثلاثة أمثلة على القادة الذين نجحوا في استغلال عبادة الشخصية هم جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ودونالد ترامب في الولايات المتحدة. لقد خلق جوزيف ستالين، دكتاتور الاتحاد السوفييتي الذي لا يرحم، عبادة شخصية حول نفسه من خلال الدعاية والتلاعب الجماهيري. فبعد تصويره كزعيم قوي ومعصوم من الخطأ، كانت صورة ستالين حاضرة في كل مكان في الحياة السوفييتية، حيث كانت التماثيل والملصقات والشعارات التي تمجد قيادته. عملت عبادة شخصية ستالين على تعزيز حكمه الاستبدادي وقمع المعارضة، مما خلق مناخا من الخوف والطاعة بين الشعب السوفييتي. وعلى نحو مماثل، عمل كيم جونج أون، الزعيم الحالي لكوريا الشمالية، على زرع عبادة الشخصية حول نفسه من أجل الحفاظ على سيطرته على النظام القمعي. تم تصوير كيم جونغ أون على أنه شخصية شبيهة بالإله، ويعبده رعاياه ويتم تصويره على أنه زعيم خير يجسد مُثُل النظام. ومن خلال الدعاية ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، تم تصميم صورة كيم جونغ أون بعناية لإظهار القوة والسلطة، في حين قمع أي معارضة لحكمه. في الولايات المتحدة، استخدم دونالد ترامب عبادة الشخصية لجذب أنصاره ودفع نفسه إلى الرئاسة. وبفضل خطابه المنمق وشخصيته الأكبر من الحياة، استغل ترامب إحباطات العديد من الأميركيين وقدم نفسه باعتباره دخيلا شعبويا يتحدى المؤسسة. ومن خلال التجمعات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعلامات التجارية، تمكن ترامب من تنمية أتباعه المخلصين الذين احتشدوا وراء سياساته المثيرة للانقسام والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان. في الختام، كانت عبادة الشخصية أداة قوية استخدمها القادة عبر التاريخ للتلاعب بالجماهير والسيطرة عليها. وسواء كان ذلك من خلال الدعاية أو الإكراه أو الكاريزما، فقد استغل زعماء مثل ستالين وكيم جونج أون وترامب عبادة الشخصية لتعزيز سلطتهم وتشكيل المشهد السياسي في بلدانهم. وهذا بمثابة تذكير صارخ بمخاطر السلطة غير الخاضعة للرقابة وأهمية محاسبة القادة على أفعالهم.

ومع ذلك، يمكن أيضا استخدام عبادة الشخصية لأغراض إيجابية، كما رأينا في حالة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، الذي كان قادرا على إلهام الأمة وإحداث تغيير إيجابي من خلال قيادته الكاريزمية.

إن نيلسون مانديلا، الرجل الذي يحظى بالتبجيل في مختلف أنحاء العالم لقيادته الرائعة، يقف كمثال ساطع لكيفية تسخير عبادة الشخصية لتحقيق أغراض إيجابية. لقد ألهمت شخصية مانديلا الكاريزمية وتفانيه الذي لا يتزعزع في الحرب ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أمة وأدت في النهاية إلى تفكيك هذا النظام القمعي. كسجين سياسي لمدة 27 عاما، برز مانديلا كرمز للصمود والأمل لشعب جنوب أفريقيا. إن قدرته على البقاء ثابتا على معتقداته على الرغم من الصعوبات الهائلة، إلى جانب حضوره الكاريزمي وخطبه البليغة، جعلته محبوبا لدى الملايين حول العالم. لقد مكنته الكاريزما التي يتمتع بها مانديلا من التواصل مع الناس من جميع مناحي الحياة، وتجاوز الانقسامات العرقية وتوحيد أمة مزقتها عقود من الفصل العنصري. ومن خلال قيادته، جسد مانديلا قوة التسامح والمصالحة، وقاد جنوب أفريقيا من خلال التحول السلمي إلى الديمقراطية. لقد احتضن مضطهديه السابقين وسعى إلى بناء مجتمع قائم على المساواة والعدالة للجميع. امتد تأثير مانديلا إلى ما هو أبعد من رئاسته، تاركا إرثا دائما من السلام والوحدة في جنوب إفريقيا وكان بمثابة مصدر إلهام للقادة في جميع أنحاء العالم. وفي المجمل، فإن عبادة الشخصية، عندما تمارس بنزاهة وهدف، يمكن أن تكون قوة للتغيير الإيجابي في السياسة العالمية. إن القيادة التحويلية التي يتحلى بها نيلسون مانديلا هي بمثابة تذكير قوي بإمكانية القادة ذوي الكاريزما في إلهام الأمم وتوحيدها نحو مستقبل أكثر إشراقا.

رغم أن عبادة الشخصية يمكن أن تكون أداة قوية يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم، فإنها تنطوي أيضا على مخاطر وينبغي التعامل معها بحذر من أجل الحفاظ على ديمقراطية سليمة.

إن عبادة الشخصية سلاح ذو حدين في السياسة العالمية. وفي حين أنها يمكن أن تكون بلا شك أداة فعالة يستخدمها القادة السياسيون لحشد الدعم وكسب الشعبية، إلا أنها تجلب معها مخاطر كامنة تهدد نسيج الديمقراطية ذاته. لقد أظهر لنا التاريخ مراراً وتكراراً كيف يمكن للتمجيد المفرط لفرد واحد أن يؤدي إلى تآكل المؤسسات والمبادئ الديمقراطية. فعندما يتم التبجيل للزعيم إلى أبعد الحدود، يتم إسكات الأصوات المعارضة، ويتم قمع المعارضة، وتضعف الضوابط والتوازنات. وهذا يمكن أن يمهد الطريق للاستبداد والفساد وتركيز السلطة في أيدي قلة من الناس. علاوة على ذلك، فإن عبادة الشخصية غالبا ما تصرف الانتباه بعيدا عن القضايا الجوهرية ونحو السمات السطحية للقائد. وهذا يمكن أن يعيق المناقشات السياسية الهادفة، ويعوق التحليل النقدي، ويمنع المساءلة. عندما يتم وضع القائد على قاعدة التمثال، يكون هناك ميل إلى التغاضي عن عيوبه وأوجه قصوره، مما يؤدي إلى شعور خطير بالعصمة من الخطأ. لذلك، من الضروري أن نتعامل مع عبادة الشخصية في السياسة العالمية بحذر. ورغم أن الكاريزما والسحر قد تكون أدوات فعالة لكسب الدعم، فلا ينبغي لها أن تطغى على قيم الشفافية والمساءلة والنزاهة. ولابد من مساءلة القادة عن أفعالهم، ولابد أن تخضع قراراتهم لتدقيق صارم، ولابد من موازنة سلطتهم من خلال مؤسسات ديمقراطية قوية. في نهاية المطاف، تتطلب الديمقراطية السليمة وجود مجال عام نابض بالحياة حيث يتم سماع أصوات متنوعة، ومناقشة الأفكار، ومحاسبة القادة. إن عبادة الشخصية، إذا تركت دون رادع، لديها القدرة على تقويض هذه المبادئ الأساسية وتقويض أسس الديمقراطية. وباعتبارنا مواطنين وأعضاء في المجتمع العالمي، تقع على عاتقنا مسؤولية جماعية أن نحترس من التملق المفرط للقادة وأن ندعم مبادئ الديمقراطية بيقظة وعزم. ومن خلال القيام بذلك فقط، يمكننا ضمان بقاء أنظمتنا السياسية مرنة وشاملة وممثلة حقا لإرادة الشعب.

لا تزال عبادة الشخصية تلعب دورا مهما في السياسة العالمية، حيث تشكل صورة القادة وتصورهم في نظر الجمهور وتؤثر على السياسات المحلية والدولية. ومن خلال تحليل أمثلة مثل أدولف هتلر، وجوزيف ستالين، وكيم جونغ أون، فمن الواضح أن التلاعب بالرأي العام من خلال بناء عبادة شخصية قوية يمكن أن يكون له عواقب بعيدة المدى. كمواطنين ومراقبين للسياسة العالمية، فمن الضروري أن نظل يقظين وننتقد القادة الذين يسعون إلى زرع عبادة الشخصية، كما أظهر لنا التاريخ المخاطر التي يمكن أن تنشأ عندما يتم ترقية القادة إلى مكانة شبه أسطورية. ومن خلال فهم ديناميكيات القوة المؤثرة في هذه المواقف، يصبح بوسعنا أن نعمل على تعزيز أنظمة حكم أكثر شفافية وخضوعا للمساءلة من أجل منع إساءة استخدام السلطة التي كثيرا ما تصاحب عبادة الشخصية في السياسة العالمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.......................

المراجع:

- Pohl, Rüdiger. The Stalin Cult: A Study in the Alchemy of Power. Yale University Press, 2012.

- Akcali, Pinar. “Cult of Personality and Turkish Party system.” Democratization, vol. 27, no. 7, 2020, pp. 1220- 1240.

- Smith, T. O. (2014). The Cult of Personality: How Personality Drives Leadership. Harvard Business Review Press.

- Tucker, R. (2018). Political Cult of Personality and Its Impact on International Relations. Cambridge University Press.

- Roberts, Adam. "The Cult of the Leader: A Manifestation of Totalitarianism?" Totalitarian Movements and Political Religions, vol. 11, no. 1, 2010, pp. 31- 46.

- Todorova, Maria. "Politics as a Performance: A Study of the Cult of Personality in Bulgarian Politics." East European Politics and Societies, vol. 34, no. 1, 2020, pp. 51- 67.

- Geller, Ellen. "Cult of Personality: How Donald Trump Uses It to Win Supporters." The Washington Post, 5 March 2018.

تُعتبر رواية "الحرب والسلم"، للأديب والفيلسوف الروسي ليو تولستوي (1828 - 1910)، الرواية الأكثر شهرة وانتشارًا، والتي شاهدنا فيلمًا مقتبسًا عنها في ستينيات القرن الماضي، من  بطولة أودري هيبورن و هنري فوندا، ومن إخراج فكتور كينغ، لكن آراءه بخصوص النبي محمد (ص)، لم تكن قد اشتهرت، إلّا في العقود الخمسة المنصرمة، وإن كان كتابه "حِكَم النبي محمد" قد نشر قبل ذلك بفترة طويلة، وترجمه سليم قبعين إلى اللغة العربية  في العام 1912 (مطبعة التقدم - مصر).

وكان مالك منصور، حفيد محمد عبده مفتي الديار المصرية وأحد أركان حركة الإصلاح الديني منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قد أشار إلى أن متحف تولستوي يحتوي على رسالتين متبادلتين بينهما، علمًا بأن تولستوي كان قد وجّه رسالةً إلى عبده أبدى فيها رغبته في تأليف كتاب عن النبي محمد (ص)، وطلب منه مساعدته في جمع الأحاديث الشريفة وتدقيقها، والتي تُعدّ من كَلِمْ النبي، لاعتقاده إن أحاديث النبي ومواعظه وحِكَمِه، هي ما يحتاجه بني البشر، بغضّ النظر عن دينهم وملّتهم، لأن الأنبياء هم ملك للبشرية جمعاء.

وقد شجّع الشيخ محمد عبده تولستوي على ذلك، دون النظر إلى أنه من دين آخر، وقال يكفي أن يكتب تولستوي، أديب روسيا، وأعظم كتابها عن النبي (ص). وبالفعل فقد جمع تولستوي في كتابه نحو 600 حديثًا من أحاديث الرسول الكريم، وضمّها في باقة ملوّنة ومتنوّعة، تُمثّل القيم الإنسانية السامية.

وكان تولستوي قد أبدى انبهاره بالنبي محمد (ص)، واعتبره من كبار المصلحين في التاريخ، الذين خدموا البشرية خدمةً جليلةً، ويكفيه شرفًا أنه هدى أمةً برمّتها إلى الحق، وجعلها تجنح إلى السلام وتجد طريقها إلى المدنية والتقدم.

ويعود سبب اهتمام تولستوي بالسيرة المعطرّة للرسول الكريم، هو انهمامه بقضايا الخير والشر والدين والأخلاق، وانفتاحه على الثقافات العالمية بحثًا عن القيم الإنسانية، حيث كان قد تعرّف على الأدب العربي، وأراد الاستزادة من الإسلام ورسالته الإنسانية لتعميق جوهر ثقافته، بالاطلاع على فلسفة النبي محمد ورؤيته الاجتماعية.

وكان قد قرأ  منذ وقت مبكّر حكايات "علاء الدين والمصباح السحري" و"ألف ليلة وليلة" و"علي بابا والأربعون حرامي" و"قمر الزمان بن الملك شهرمان"، وقد أشار إلى ما تركته الحكايتان الأخيرتان في نفسه من أثر كبير، وهو لم يبلغ الرابعة عشر من عمره، ولغرض إشباع رغبته بالتعرف على نفائس الأدب العربي، اتّجه لدراسة اللغتين العربية والتركية في كلية الدراسات الشرقية بجامعة قازان (كازان) الروسية (1844)، لكنه لم يستمر في الدراسة، التي لم تعجبه فيها طريقة التدريس العقيمة، كما قال.

لقد دافع تولستوي عن الإسلام وقيمه السمحاء، رادًّا على الاتهامات التي كانت توجّه إليه وإلى نبيّه، والتي كان يتم ترويجها من جانب "جمعيات المبشّرين"، ولذلك اتّجه إلى تأليف كتابه المذكور، وفي مقدمته ذات البُعد الإنساني كتب قائلًا: إن تعاليم الشريعة الإسلامية لا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية. وبهذا المعنى أراد تولستوي أن يؤكّد أن قيم الأديان مشتركة ومتقاربة، وأن رسالة النبي محمد (ص) هي امتداد لرسالة النبيين موسى وعيسى عليهما السلام، وهو ما يؤكّده القرآن الكريم.

كما اعترف تولستوي بمكارم أخلاق الصحابة وزهدهم وطهارة سيرتهم واستقامتهم ونزاهتهم، مشيرًا إلى أن من فضيلة المسلمين أن دينهم أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود، وكتب ذلك في مقدمته الجليلة عن حِكَم الرسول، وربما قصد بذلك صحيفة المدينة، التي سنّها الرسول بعد هجرته من مكّة إلى يثرب (المدينة المنورة).

وتُعتبر تلك بمثابة نواة لفكرة المواطنة في الدولة العصرية، وإن كانت بصورة جنينية، ومن أهم الحكم التي تأثر بها هي "لا يؤمن أحدكم حتى ليحب لأخيه ما يحب لنفسه"، بمعنى إيمانه بالمشترك الإنساني الجامع لبني البشر.

اتفق تولستوي ومحمد عبده أن الدين والإنسان يشكلان أساس الحياة، وأن قيمة الإنسان لا يمكن تقديرها بأي ثمن، ووظيفة الدين هي النهوض بالإنسان وعقله، كي يبني الحياة ويعيش بسلام.

وجاء في رسالة محمد عبده المؤرخة في 8 نيسان / أبريل 1904، أي قبل 6 سنوات على رحيل تولستوي 1910 ، مخاطبًا إياه: "أيها الحكيم الجليل، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكن لم نُحرم التعارف بروحك، فقد سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك آلفت بين نفوس العقلاء ونفسك...".

وردّ تولستوي عليه بخطاب رقيق قال فيه: أيها الصديق العزيز، إن خطابك أدخل في نفسي عظيم السرور، حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أصل ملّة غير الملّة التي ولدت عليها وربيت في أحضانها، فإن دينك وديني سواء، وإن كانت المعتقدات مختلفة، وهي كثيرة، ولكن لا يوجد إلّا دين واحد هو الصحيح... وكلّما نزعت المعتقدات إلى البساطة وخلصت من الشوائب، اقتربت من الهدف المثالي الذي تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعًا.

الرسالة الأخلاقية التي تمسّك بها تولستوي في أعماله الإبداعية، هي التي كانت وراء قناعاته بالمشترك الإنساني للأديان وفي بحثه عن السلام واللّاعنف والتسامح، بما فيها مراسلاته مع المهاتما غاندي، وهذه الرسالة هي التجسيد العملي لقول الرسول الكريم: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وحين سئل من أحب عباد الله إلى الله، قال: "أحسنهم خلقًا" و"خالق الناس بخلق حسن". ورُوي عن الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن، "أحسن الحُسن الخلق الحسن".

***

د. عبد الحسين شعبان

الحرية هي جوهر كيان الإنسان وماهيته وبدون الحرية يتقهقر الكيان الماهوي للإنسان في سلم الوجود الى رتبة الحيوان بل إلى أدنى من ذلك حيث يتحول إلى كائن شرير أناني تتحجر عاطفته وتتصحر روحه فيصير كائنا غريبا مغتربا.

وليس هناك دليل أوضح وأجلى من الإنسان المسجون سجنا طويلا. وليس هناك سجن أطول ولا أشد من سجن الممنوعات والمحرمات وما يرتبط بها من عادات وتقاليد وأعراف في وعينا الاجتماعي والسياسي حيث أرست نسقاً ثقافياً قهرياً من خلال عملها على تحويل المجتمع إلى سلطة رقابية صارمة تتدخل بأدق تفاصيل حياة الناس حيث لا خصوصية فيها للفردية والإبداع.

وعندما تٌطرد الحرية تأخذ معها وليدها الذي لايستطيع أن يعيش بدونها أنه الإبداع.

ومن سوء الحظ أن الإبداع في لغتنا يأتي متساوقا مع البدعة والبدعة في الدين- أي دين- ضلالة وكل ضلالة في النار. تماما مثلما كانت كلمة الهرطقة في الديانة المسيحية أيام محاكم التفتيش السوداء.

 لكن الكهنوت -في كل دين- لايعارضون الإبداع حتى النهاية بعد أن يثبت جدواه وتعم فائدته.

فالقساوسة والرهبان في المسيحية بعد أن عذبوا وأحرقوا المبدعين أذعنوا في النهاية للحقيقة والعلم.

ورجال الدين عندنا كذلك أعداء كل جديد وابداع فقد حرموا المدرسة وعارضوا تعليم المرأة ثم أصبحت بناتهم مدرسات ومهندسات وطبيبات وحرموا التلفزيون ثم دخل الى بيوتهم سرا ثم علنا وهكذا يحرمون ثم يذعنون لما حرموه!

مسيرة التحرر:

بأبسط تعريف للحرية نقول: هي قدرة الإنسان على الاختيار بين عدة بدائل متاحة بدون أرغام أو اكراه خارجي.

وبدون اكراه لايتعلق فعل الإرادة على رضا الغير أو رغباته ويصير (أريد) ولا (أريد) فعلا إراديا فرديا خالصا من أي تأثير.

وعلى الضد من هذا فإن العبودية هي العجز عن الاختيار أي تعليق الارادة الفردية على موافقة الغير السيد أو المالك أو المرجع.

ولو تأملنا قليلا في كفاح المتنورين من فلاسفة وعلماء ومفكرين لأمكن تلخيص كفاحهم بجملة واحدة هذه الجملة هي (توسيع مساحة الحرية أمام الإنسان ليرتقي بإنسانيته الى أسمى ممكن أخلاقي وأرقى منتج ابداعي).

معلوم أن التخلص من القيود والمعوقات التي يفرضها نظام العلاقات السياسية والدينية والاجتماعية الظالمة يجعل الإنسان  يبدع حياة تستحق أن تعاش لأن الهدف الحقيقي للحرية يتجلى أساسا في تحصيل المعرفة العلمية التي ترتقي بالإنسان إلى حياة أكثر رفاهية وسعادة.

ونحن ندرك أن الحرية حالها حال كل المفاهيم لها معاني مختلفة- بشرط الزمان والمكان- من فرد إلى آخر ومن مجتمع الى آخر ومن عصر الى آخر.

وعلى نفس النسق فإن تصور كل شخص لحريته الخاصة يختلف كثيرا عن تصوره لحرية الآخرين لا سيما أولئك الذين يخضعون واقعيا أو يمكن أن يخضعوا لسلطته.

ونجد أقرب مثال على هذا التفاوت في العلاقة بين الفئات التالية:

1- الآباء والابناء.

2- العلماء وطلبتهم.

3- الزعماء وأتباعهم.

في هذه الأمثلة الثلاث يؤمن الطرف الأقوى- الأب أو العالم أو الزعيم- بأن حقه في حرية أوسع قائم على معرفة أوسع أو ميزة أرفع أو نسب أشرف.

أي بمعنى آخر قدرة أفضل على ادارة الخيارات الاضافية التي تتيحها الحرية.

هذا التفاوت المدعى هو أصل فكرة السلطة السياسية والاجتماعية والدينية.

وأخطر هذه الزعامات هي الزعامات الدينية وخطرها يأتي من ادعائها بأنها تمثل الله وظله في الأرض فهم وكلاء الله المنتحبين.

بذلك توحد هذه الزعامات بين إرادتها البشرية القاصرة وإرادة الله الكاملة ولك أن تتصور هنا مدى التأثير السلبي على المجتمع لهذا التشبه بالإله.

مبرر الخضوع لرجال الدين:

عندما تسأل الفقيه عن حجة التقليد يجيبك:

حجته عقلية وهي حاجة رجوع الجاهل إلى العالم مع صعوبة وصول الجاهل لما وصل إليه العالم لتعذر ذلك من جهات عدة.

وعندما تسأله عن حجته النقلية يجيبك:

ذلك ما يمكن استفادته من كلام الإمام الصادق (ع):

(فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه)1.

بهذا التنميط يحشر العقل المقلد في بوتقة التبعية عندها يفقد الفرد التابع المبادرة في خلق قيمه وبالتالي سلوكه ثم ينسحب الأمر على المجتمع ككل فيفقد المجتمع جوهره الحقيقي كمجتمع إنساني قائم على الحرية والتنوع والفردانية حيث يتحول إلى قطيع مسلوب الإرادة لأن الفرد فيه مغيب في إيديولوجيا الحشد تماما وإرادته مشلولة معطلة فهو تابع مقلد لغيره لا رأي له ولا قرار.

وبهذا يكون عاجزا عن مواجهة كافة الصعوبات والتحديات التي تواجهة فوعيه زائف لأنه وعي مسلوب فهو لا يرى في التحديات التي يفرضها عليه الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي تحديات طبيعية ولذلك لا يستجيب استجابة عقلية لإيجاد حل ولايستخدم عقله ومهاراته وملكاته لمواجهة هذه التحديات ومحاولة تغييرها أو التغلب عليها بل سيضع كل هذا جانبا ويتجه لأقرب رجل دين يستشيره ويسأله أفعل أم لا أفعل!

وسيقف ممن ينتقد سلوكه هذا موقف العداوة والبغضاء فلا هو يعلم ولا يريد أن يتعلم.

أما إذا ترسخت سلطته السياسية القائمة على عقيدته فيعمد بكل قوة وقسوة إلى فرض حقيقته التي يراها “مطلقة” على الآخرين بالقوة لأنه يراهم ضالين قد حادوا عن طريق الهداية والإيمان الحق في نظره.

وهذا ما يشكل لدى الإنسان المؤمن تلك القناعة الثابتة بمفهوم الإصطفاء لأنه يعتقد أن الله اصطفاه من دون عباده لتنفيذ ارادته الأزلية.

بهذا المنهج يكون رجال الدين (الكهنوت) قد حولوه لأداة من أدوات فرض إرادتهم على المجتمع وينجحون في إقناعه بأن هذا التكليف هو من صميم الإيمان الذي لا يكتمل بدونه. هنا يتحول الإنسان المتدين المذعن لرجال الدين رقيبا على المجتمع وحارسا للعقيدة.

وهنا يبدأ صراع المذعنين مع مع من لا يرى رأيه حيث يصطدم المذعن برفعه راية الخلاف مع كل مختلف لأنه لا يدرك أن الإختلاف كمعطى  هو من صميم ماهية الإنسان ككائن حي.

فالبشر كلهم يسعون غريزيا نحو الإختلاف عن بعضهم البعض في عدة جوانب وهذا في حد ذاته رد فعل طبيعي على سلطة الدولة والمجتمع سواء كان ممثلا في العائلة أو القبيلة أو المدينة أو حتى البلد الذي يعيش فيه وأي محاولة لإلغاء هذا الحق في الإختلاف أو قمعه ومنعه وطرده من المشهد العام عادة ما تنتهي إلى مواجهات عنيفة وصدامات دموية قد تتطور بسرعة لتتحول لحروب وصراعات دامية ﻷن محاولة إلغاء حق الإختلاف هي قمع لحرية غريزية لدى البشر. وعادة ما تكون النتيجة المباشرة مجتمعات مفككة يقاتل بعضها بعضا في إطار حروب أهلية طائفية أو دولا فاشلة وعاجزة عن التطور والإرتقاء لما هو أفضل على كافة المستويات سواء كانت حضارية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية لكونها منشغلة بصراعات تافهة تبحث عن مواطن الإختلاف وتحاول قمعها عوض البحث عن نقاط الإلتقاء التي توحد المجتمع في إتجاه يعود بالنفع الإيجابي على أفراده وبالتالي فهي مجتمعات متحجرة لا تنتج شيئا ذا قيمة وتكتفي بإستهلاك ما ينتجه الآخرون. بينما تتقاتل لفرض رؤية طائفية بدائية غيبية على الجميع لأنها تؤمن ضمنيا بأن ما تريده الآلهة للبشر هو ما يصح بالضرورة وعلى الجميع الإمتثال له حتى بالقوة دون أن تأخذ بعين الإعتبار تلك الحقائق التي يفرضها واقع عالمي يتغير ويتطور بسرعة متزايدة كل يوم.

إن شخصا يدعي لنفسه الحق في التحكم بالآخرين لأنه يرى في نفسه أنه ظل الله في أرضه سوف يقود هذا المجتمع إلى الهلاك حتما.

من هذا نفهم إن كل دولة دينية تخشى من الحرية لما تتصوره فيها من زوال أو ضعف الضوابط الاجتماعية التي تحفظ القيم ومعايير السلوك الفردي التي تترجم في النهاية إلى خضوع سياسي يخدم أغراضهم السياسية. ولو لاحظتم فإن كثيرا من كتابات رجال الدين وخطبهم تتعمد المبالغة في التحذير من عواقب التحرر وتذكير القارئ والمستمع بأن الحرية قد جرت على العالم مفاسد اجتماعية واخلاقية.

بمعنى آخر ان الخوف من الحرية ومعارضتها كان ولا يزال يبرر على أساس الحاجة الى صيانة القيم الاخلاقية.

هذا الخوف ناشئ بطبيعة الحال عن حقيقة إن "الانضباط السلوكي" هو الذي يمثل الهم الأكبر للمجتمع المتدين ولو كان التقدم العلمي - اي الارتقاء الإنساني والحضاري- هو الهم الأكبر للمجتمع لكان الخوف من الحرية في المستوى الأدنى أو ربما كان منعدما.

ما ينبغي أن يقال في هذا الصدد هو إن حرمان المجتمع من الحرية لا يجعله فاضلا أو نظيفا بل يزرع فيه بذور النفاق. وتدل تجارب التاريخ المعاصر على إن الناس قد نجحوا في توفير بدائل لما منعوا منه.

القمع والمنع القسري دائما يجعل الحريات الفردية والثقافية والاجتماعية تمارس في السر وهي تشكل أسلوب حياة متكامل لشريحة غير صغيرة في المجتمعات التي تطبق قوانين دينية متشددة.

وقيام مجتمع سري ليس هو المشكلة الوحيدة التي تترتب على تحديد الحريات الفردية والعامة.

إن أخطر الآثار هو اغتراب الإنسان وينتج عن الأغتراب واقعة سايكولوجية معقدة ولها تداعيات خطيرة هي:

- الاستسلام السلبي: الاستسلام السلبي يخلق في نفس الفرد عزوفا شديدا عن المساهمة في أي عمل اجتماعي مشترك ذو نفع اجتماعي عام حتى في المستويات الدنيا بإستثناء الممارسات الطقوسية التي ينتجها التخلف الطائفي والتي تنمو تدريجيا عبر تراكم الأسطورة المؤسسة حتى تخرج بالكامل عن حيز المعقول.

وعندما ينتهي حشد حفلة اللامعقول يعود المغيبون إلى جحورهم يمارسون نفس رذائلهم التي اعتادوا عليها حيث يصير كل فرد جزيرة مستقلة ومنعزلة عن الآخر لا يشارك في الفعل الاجتماعي العام ويعيش حياة بلا معنى مغترب وغريب مثلما كل من حوله مغترب وغريب حياة سلبية بالكامل تلفها العزلة كالكفن.

تعد العزلة -زمانية ومكانية- من أخطر موانع تطور العقل الإنساني وهي من العوامل الموضوعية الذي أدت سابقا وتؤدي حاليا الى تحجر العقل وسجنه في نسق ادراكي متدني لا يتفاعل مع ما حوله بشكل إيجابي فيظل خارج التاريخ بهوية منغلقة والهوية الإنسانية حالها حال أي علاقة اجتماعية تاريخية تتحدد من خلال الشرط التاريخي الفاعل في صياغة تفاصيلها الحاضرة وتطورها.

وهناك أيضا عامل ذاتي كمانع من موانع تطور العقل الإنساني يكمن في النسق المعرفي للدين ذاته فالدين كفاعل معرفي يتخذ شكل تمثلات وتصورات بدائية ملتبسة تحيل معرفيا إلى متخيل وهمي يتخارج مع كل إدراك عقلي مبني على العلم والمنطق. فهو عالم ممكنات محض كل شيء فيه قابل لأن يكون وجودا لأن وجوداته وجودات بلا شروط منطقية ولا يخضع لأي قانون من قوانين الإدراك العقلي.

ويعتبر الدين أحد أهم المرتكزات الأساسية في تشكيل الهوية وإدامة وجودها في المجتمعات المتخلفة.

غير أن الدين هو ذاته - كمعطى تاريخي- يخضع إلى التغير والتغيير كلما أحدث الواقع التاريخي منعطفا على أساسه يتم تجاوز الأشكال التي يظهر هذا الدين من خلالها وهذا ما يجعل الهوية أيضا معطى يعاد بناؤه وفق خصوصيات المرحلة التاريخية ووفق أشكال تدخل الفاعل في تحديد معالم هذه الهوية والتي يكون لها أثر في أشكال وجود الإنسان وثقافته التي يتمثل العالم من خلالها.

هذان العاملان- العزلة ونسق الوهم- يؤكدان الفرضية العقلية التي تقول إن الفكر الإنساني وليد عوامل ومعطيات صاغها الوجود الإنساني. فالفكر الإنساني مرتبط وجوديا بتلك القوانين التي يحددها التاريخ ويفرضها على العقل الإنساني.

نستنتج من ذلك أنه ليس هناك خلود لفكرة معينة سواء كانت فكرة دينية أو اجتماعية فكل شيء يخضع لقانون التطور التاريخي وبناء على ذلك أيضا ليس هناك انتماء حقيقي لزمن مضى وانقضى فذلك الزمن حدث بشروط تاريخية وينتهي بشروط تاريخية ويظل الانتماء الحقيقي هو الانتماء لقانون التطور والترقي والتحول الجوهري في المضمون والوظيفة.

هذه هي محصلة الفهم النهائي لفلسفة التاريخ.

نعم جوهر خطاب الدين وشعاره (لا جديد تحت الشمس) فلحظة انبثاقه التاريخية هي نفسها لحظة نهاية التاريخ بالنسبة له ولذلك تجد المتدين مشدود إلى تلك اللحظة يريد استعادتها بكل ما يستطيع من قدرة وإلا يظل معذب الوجدان يشعر بالغربة ذاتا وموضوعا.

وعلى أساس هذا الفهم نستطيع أن نصف الدين (بالرجعية) كنسق مفهومي وفكري وهو في مواجهة دائمة مع التغير والتغيير.

كهنة الدين يدركون هذا الحكم العقلي ويعرفون إن المستقبل ليس في صالحهم لذلك لجؤوا الى تطوير دفاعات علها تنجيهم من النهاية المحتومة ومن هذه الدفاعات ما يسمى بالتأويل وهو في الأصل عبارة عن ترقيع لما ينخرق من أركان الدين به أرادوا التغطية على التناقصات الفاضحة والواضحة في متبنياتهم الفكرية.

الفكر الحر والحامل لروح التجدد قادر وبحسب طبيعة تكوينه والعوامل التي ولدته وهي المخزنة من التجربة البشرية الطويلة تاريخيا أن يفهم بصورة أكثر عمقا مشاكل عصره من عمق الرؤية ومن عدة زوايا ومسارات للواقع والبحث عن الإشكاليات التي تنتاب المجتمعات نتيجة استحقاقات التطور هذا بالطبع ليس قولا نظريا افتراضيا خاليا من حجة أو

أثر حقيقي ولكنه من صميم طبيعة الفكر المتحرر من العزلة الفكرية أو الانتماء لمحدد أخر غير العقل.

عندما يتحرر الإنسان من علاقة التبعية يصبح أكثر جرأة فيكتشف الأفق الممتد من حوله ويتعرف على مساحة أوسع من واقع جديد لم يألفها من قبل تحمل له الكثير من المعطيات الفكرية الجديدة وتساهم في جعله يتحرك بحرية أكبر تزداد في توسعها يوما بعد يوم.

عندها سيتضح له جملة من الحقائق منها:

1- أن الكون أكبر وأوسع وأعقد بكثير من تصوره وهو يعيش على كوكب صخري يعتبر ذرة غبار في مجرة التبانة.

2- أن الدين موروث اجتماعي وتنشئة أسرية فلم يختر أحد دينه بمحض عقله وإرادته.

3- أن الإختلاف قانون كوني وطبيعة إنسانية وعليه لا يجب الخلاف على الإختلاف.

4- أن الخير والشر محض أوصاف للعلاقة الإنسانية فليس هناك خير مطلق وليس هناك شر مطلق وهذه هي طبيعة فهم الإنسان للواقع.

5- أن العدالة الاجتماعية هي الهدف الأسمى لكل متنور للتقليل من اختلاف الاستعدادات وتقليصها إلى أقل قدر ممكن نحو عدالة إنسانية فاضلة.

أعتقد إن من المناسب القول ختاما أن حملة الفكر النير وكل من يسلك سلوكا إنسانيا مستنيرا عليهم أن يدركوا حقيقة مهمة للغاية هي:

أن أي فكر  مشروط بزمانه ومكانه -وإن كان صالحا- هو علامة لمرحلة تاريخية معينة أو محل تقدير وتفهم في فترة ما لكن ذلك ليس دليلا على بقائه فاعلا إلى الأبد لأن أي فكر مهما كان متينا محتاج لوقت لكي يكشف عن التفصيلات الصالحة منه للتطور ويختبر قدراته على المعايشة الزمنية لمرحلة ما كما أن هذه الفترة تمثل له فترة حضانة للفكر القادم الذي سيغير قواعده كما غير هو قواعد الفكر الذي سبقه وهذا هو مفهوم الديالكتيك.

***

سليم جواد الفهد

...............

1- الاحتجاج، ج2، ص263.

 

الصمت وجوه من وجوه الكلام، والتأمل وجوه من وجوه التفلسف، وبين الصمت والتأمل تنبثق الذات الواعية، المفكرة، المتسائلة بغية التنقيب والتفتيش  لتسبر أغوار المسكوت عنه الذي تلوكه الألسن وتكشف عن المحجوب، الخفي، المستتر للمفكر المبدع والفيلسوف المتأمل الذي يوجس خيفة هذا الصمت، حتى تنبلج أفكاره في فضاء الدرس الذي هو جواب على مشكلة فلسفية أو رأي من آراء الفلاسفة والأساتذة، فلا تقتصر أهمية التدريس الفلسفي إلا على المواصفات الايجابية التي تسعى إليها بيداغوجيا الكفاءات في منهاجنا التربوي الجزائري،المتمثل في تكوين مواطن له شخصية فاعلة تساهم في تنمية المجتمع الذي ينتمي إليه،ويكون فاعلا حقيقيا في تفاعله البناء مع محيطه المحلي والوطني، متفتحا على مكتسبات المجتمع الإنساني عامة.ولا شك أن الدرس الفلسفي أرضية خصبة لتكوين هذه الشخصية ونموها ونضجها ورسوخها، إذا تم استغلاله استغلالا تربويا، ففي طبيعة التدريس القائم على الدرس الفلسفي وفي خصائصه ومنطقه ما يبرز ذلك، علما أنه:

- الدرس التفكيري: يكسب المتعلم قدرات عقلية تمكنه من ممارسة أفعال السؤال والشك، الحجاج والنقد، البحث والتمحيص.هي أفعال تؤسس فكر التحليل والتركيب والتقويم والإبداع.

- الدرس التحديثي: يساهم في تطوير نوعية الثقافة المدرسية،لدى المتعلم ويفتح أمام تكوينه المعرفي مسلك وضرب التنوير العقلاني وهو جزء لا يتجزأ من كل حداثة منشودة،نتوخاها في التدريس.

- الدرس المنهجي النقدي: يجعل الذات واعية في التعامل مع قضايا العالم المعاصر الذي تتسارع ثقافته ومعلوماته وتتجه إلى الهيمنة على العقول والأفكار والمعتقد، إذن هناك علاقة تكامل وارتباط عضوي بين ما يميز تدريس الفلسفة في الجزائر، من جهة، وبين ما تستهدفه التربية التعليمية من جهة أخرى.

لكن كيف نحقق إستراتيجية ناجعة وفعالة في منظومتنا التربوية لإنجاح كفاءات التدريس الفلسفي في الثانوية العامة قاطبة؟ وكيف يتم كسر جليد الجمود والركود في المنهاج المغيب للدرس الممتع؟

لا يتجلى هذا إلا بالاعتماد على موارد أساسية، تعتبر القاعدة الصلبة المتينة في التدريس الناجح وهي:

المكون، الأستاذ، المنهاج.

المكون: إذا كان هذا هو المنتظر من أستاذ الفلسفة في الثانوية تحقيق كفاءة تدريس، يحق لنا أن نتساءل عن تكوين هذا الأستاذ.

هل التكوين الذي يخضع له أستاذ الفلسفة بهذه الشعبة بالمدرسة العليا للأساتذة والجامعة الجزائرية عبر المعمورة ملائم لما ننتظره من تدريس الفلسفة بالثانوية العامة؟

وهل يؤهله هذا التكوين بالشروط التي رسمتها بيداغوجيا الكفاءة في التدريس؟

ثم ما هي مواصفات هذا التكوين؟

من هنا تبرز ضرورة الاهتمام الجدي الفعال بالتكوين لكل مقبل على عملية التدريس،لأنه المعول عليه بالدرجة الأولى في الحفاظ على مكسب تدريس المادة،وتوسيع الفئات المستهدفة به وتعميميه هو العناية أولا بالأستاذ نظرا لخطورة المهمة وجسامتها فالشهادات الجامعية وحدها لا تؤهل لممارسة التدريس الممتع، فالمعول عليه في كل هذا تكوين المكون الذاتي المتجدد والمستمر،وغاية التكوين في جزئه الأكبر هو جعل المكون يشعر بثقل المسؤولية ونبلها وخطورتها.

إن هذا النوع من الوعي ثمين جدا،لأن الواعي بالشئ أفضل بكثير من الجاهل به، وهو الوعي الذي سيجعل المكون يراجع الأنا أو الذات باستمرار ويشك فيها « إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة والضلال»[1]، منتقدا إياها أولا باعتبارها محور العملية التعليمية التعلمية،بدل توجيه سهام النقد للأخر المتعلم أو الظروف الخارجية كما نجده عند بعض المدرسين، لهذا يجب الإقرار بأن هناك مشكلة في المكون، وإشكالية كبرى في التكوين كذلك، فالأول يغلب عليه الجانب النظري والتنظيرات السطحية،ويفتقر إلى العمق فلا بد من تكوين تربوي ديداكتيكي، يكسب المكون مؤهلات ومهارات وقدرات للقيام بهذه المهمة باعتبارها ممارسة واعية سليمة تربوية.والثاني يجب أن يخضع لمواصفات تتمثل في الحصول على مرونة معرفية وبيداغوجية وديداكتيكية باستعمال الآليات الضرورية وتحويلها إلى مادة دراسية ملائمة. وتتحدد ملامح النموذج الأمثل للتكوين، في المهارات الأساسية لإنجاز درس فلسفي بالمواصفات التربوية وفق بيداغوجيا الكفاءة في الثانوية « إن الفلسفة الأعلى، بالنسبة للغايات الجوهرية للطبيعة البشرية، ليس في وسعها أن تؤدي إلى أبعد مما تفعله القيادة الممنوحة للحس المشترك»[2]

الأستاذ: يحتل مكانة بارزة في العملية التعليمية التعلمية لما يقدمه من مجهود جبار في إنجاح الدرس الفلسفي، لكن كيف يدرس الأستاذ في الصف؟

كيف يقدم درسه الفلسفي ويمرر المنهاج ويطبق معلوماته وفق الإستراتيجية الجديدة؟

من الناحية البيداغوجية والتشريعية والمؤسساتية الأستاذ ملزم ببرنامج، وليس له هامش من الحرية للتصرف،ولكن الأستاذ هو أولا وقبل كل شئ حصيلة تكوين وبحث مما يحيلنا إلى سؤال التكوين في مدارسنا العليا وجامعتنا ومعهدنا،فنقول إن التكوين تم ضمن تلك الظروف الصعبة،لدى يجب الإقرار بالخلل الذي يعانيه الأستاذ،والمشكلة الكبرى لا يملك الأستاذ المقدرة على تحسين مستواه،ولا تمكنه المؤسسة الجامعية إلا من خلال تربصات وبحوث نعتبرها محدودة للغاية.وعلى مستوى التكوين الإضافي للأستاذ المتخرج بشهادة اللسانس من الجامعة، بالنسبة لمعاهد تكوين الأساتذة وتحسين مستواهم،لا يصبو إلى تطلعات هؤلاء وطموحاتهم،إذ يغلب عليه الطابع النظري لا التطبيقي،فمقياس علم النفس المراهق ،يبقى تدريسه في المعهد نظريا،لا نجد تشخيص للمشكلات الصفية التي يعاني منها الأستاذ، وكيف يعالجه؟

وما هي الحلول التشخيصية العلاجية للمشكلات الصفية؟

أما مقياس علوم التربية لا يرقى إلى الجانب التطبيقي الإجرائي،حيث يركز على النظريات التربوية القديمة في شقها النظري،ولا يقدم نظريات تربوية عملية تعلم الأستاذ كيف يربي التلميذ ؟كيف يتعامل مع المشاكل الصفية في حجرة الدرس؟

منهاج مادة الفلسفة: قد نتفق على أن الدرس الفلسفي عبارة عن لغة فلسفية تتميز ببعض المميزات الخاصة كالتجريد والدقة والمعنى الخاص للفيلسوف « ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير»[3]، وهي تحمل أفكار وأدلة وسياقات ثقافية مختلفة مما يحتم علينا طرح هذه الأسئلة:ما الهدف من تدريس الفلسفة اليوم؟ ماذا نريد من هدف التدريس؟ هل نريد إكساب التلاميذ مناهج في البحث النظري المجرد؟ هل نريد تدريب التلاميذ على التفلسف الذي يشغل الفكر والعقل ويكسب العقلانية والتعقل، ومهارات الحجاج المنطقي؟ وأي برنامج ومحتوى يلزم وضعه للدرس من أجل تحقيق ما نصبو إليه؟

الإجابة مع الفلسفة بغية نقد منهاج مادة الفلسفة بالأمس كان برنامج الفلسفة يُمتع التلميذ وُيسعد الأستاذ متسلسل في دروسه من فلسفة العمل إلى نظرية المعرفة،يخدم الإطار الفكري العام،أما اليوم نحن نعتقد أن البرنامج الحالي للفلسفة يفتقد إلى الإطار الفكري العام والوحدة النظرية والمنهجية للدروس.إننا نشعر عندما ننتقل من درس إلى درس ومن إشكالية إلى إشكالية،أننا ننتقل من فجوة إلى فجوة،ومن جزيرة إلى جزيرة دون أدوات ربط منهجية أو فكرية – فالفلسفة تناغم وانسجام حسب المدرسة الفيتاغورية- وهذا ما يجعل الوعي الفلسفي للتلميذ مشتتا بين كل دروس البرنامج السنوي.

لماذا مشكلة الحقيقة ومشكلة المعرفة موجودة في آخر البرنامج؟

ألا نعتقد أنها من الدروس الافتتاحية، لأن التلميذ بفضل هذه المشكلة يتعلم مصدر معارفه، وأهم التيارات الفلسفية المكونة للفكر الفلسفي منذ القديم إلى اليوم.ثم ما الفائدة من تدريس مشكلة العلوم البيولوجية بالمفاهيم الكلاسيكية، والوقوف على إشكالية الآلية والغائية في علم البيولوجيا، وإهمال المفاهيم الحداثية والمعاصرة في علوم الحياة والعلوم البيولوجية مثل الهندسة الوراثية والاستنساخ وأطفال الأنابيب.لماذا نزج بمحاور إنسانية فكرية روحية كالتصوف والذوق، رغم التباين الأيديولوجي والتكوين النفسي للتلميذ،مع هكذا مواضيع تحتاج إلى درجة من عملية الرشد الذهني.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

.....................

قائمة المراجع:

أبو حامد الغزالي: ميزان العمل، طبعة أولى 1964، دار المعارف مصر

جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، تعريب، أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، طبعة أولى 1997، بيروت.

رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، طبعة أولى سنة 2021، أدليس بلزمة للنشر والترجمة، باتنة، الجزائر.

هوامش

[1] أبو حامد الغزالي: ميزان العمل ، ص 204.

[2]  جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، ص 37

[3]  رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، ص: 31.

 

بقلم: ماندي أوكلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد ملأ برادلي جولدمان قميصًا كبيرًا الحجم طوال حياته البالغة. بصفته لاعب كمال أجسام، كان يعلم أن التدفق المستمر من البروتينات الخالية من الدهون والأوزان الثقيلة والمنشطات من شأنه أن ينمى عضلاته ويجعهلها اكثر بروزا .

لكن على مدى الأشهر الستة الماضية، شاهد جولدمان، مستشار اللياقة البدنية والتغذية في لوس أنجلوس، جسده المرفوع يلين ويتقلص. ويقول: "لقد أصبت بحالة من الكسور منذ بضعة أسابيع، واضطررت إلى شراء قميص بمقاس أصغر بالكامل". لقد جربه لزوجته بريتاني، وكان معلقًا على إطاره. يقول: "لقد هززت رأسي نوعًا ما". كان يعلم أنها رأت التغييرات أيضًا.

بدأ جولدمان، البالغ من العمر الآن 30 عامًا، بتناول المنشطات في عمر 18 عامًا. وقد سمع أنها يمكن أن تتداخل مع الخصوبة - حيث يمكن للستيرويدات إيقاف إنتاج الجسم الطبيعي لهرمون التستوستيرون - ولكن مثل العديد من الشباب، كان مهتمًا بعدم إنجاب الأطفال أكثر من اهتمامه بإنجابهم.. والآن يحاول هو وزوجته الحمل، وعلى الرغم من أنه تخلى عن المنشطات منذ عامين، إلا أنه يبدو أن الضرر قد حدث.

عندما أجرى تحليل السائل المنوي في شهر مارس الماضي، عاد عدد الحيوانات المنوية لديه إلى الصفر. يقول: " لقد كان الأمر مزلزلاً للأرض".

بدأ بتناول أدوية الخصوبة لمساعدة خصيتيه على التعافي. ولكن بعد مرور ثلاثة أشهر، لم يكن لديه أي حيوانات منوية. كان يحقن نفسه بهرمون التستوستيرون لأن جسده لم يعد قادرًا على إنتاجه بشكل طبيعي، لكن طبيبه أوصى بالتوقف لجعل أدوية الخصوبة أكثر فعالية. الآن يتزايد عدد الحيوانات المنوية لديه ببطء، لكن دافعه الجنسي قد ذبل، إلى جانب طاقته و30 رطلاً من العضلات. صار لديه دهون في أماكن لم تكن موجودة من قبل، بما في ذلك أنسجة الثدي. لقد أصبح مكتئبا.

على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، قام جولدمان بتقليل عدد الصور بدون قميص ونشر بدلاً من ذلك المزيد من الصور بأكمام طويلة. ولكن إلى جانب ثقته بزوجته، لم يشارك علنًا ما يحدث بالفعل. يقول: "لدي أكثر من 10000 شخص يتابعونني على إنستغرام، والذين لا يعرفون من أنا بحق الجحيم".

يُنظر دائمًا إلى العقم على أنه مشكلة تخص المرأة، وصحيح أن المرأة تتحمل العبء الأكبر منه. إنهن هن اللاتى في النهاية إما أن يحملن أو لا يحملن، وبغض النظر عن الشريك الذي يعاني من مشكلة الخصوبة، فإن جسد المرأة عادة ما يكون موقع العلاج. على سبيل المثال، يتطلب التخصيب في المختبر (IVF) في كثير من الأحيان عينة من الحيوانات المنوية من الرجال فقط، ولكنه يتطلب أكثر بكثير من شركائهم الإناث: حقن الهرمونات الاصطناعية، واختبارات الدم، والموجات فوق الصوتية.

ومع ذلك، فإن ما يصل إلى 50% من الحالات التي لا يتمكن فيها الأزواج من إنجاب الأطفال ترجع بطريقة أو بأخرى إلى الرجال. يتحدث المزيد من الرجال عن هذا الأمر الآن، لكنه لا يزال مدعاة للخجل أو العار، خاصة في الولايات المتحدة. الرجال غائبون إلى حد كبير عن الحديث العام حول العقم، وحتى أولئك الذين بحثوا عن الدعم يترددون في تعريفهم على أنهم شخص يعاني من العقم عند الذكور.

يقول جولدمان: "أشعر وكأنني رجل ذو مظهر ذكوري نمطي". "أنا موشوم. لدي عضلات. أمارس الرياضة. وأنا عقيم. كم عدد الرجال الآخرين الذين لديهم هذه الرجولة، وهذه العقلية، هم في مكاني أيضًا؟"

بعض الرجال، مثل جولدمان، يعرفون سبب إصابتهم بالعقم. أحد الأسباب الأكثر شيوعًا هو دوالي الخصية. في بعض الأحيان، تنمو الأوردة الموجودة في كيس الصفن بشكل كبير جدًا وتتشابك، مما قد يؤدي إلى ارتفاع حرارة الخصية وإضعاف وظيفة الحيوانات المنوية. ويمكن في كثير من الأحيان إصلاح هذا عن طريق الجراحة. ومن المعروف أيضًا أن بعض الأدوية، بما في ذلك المنشطات وأدوية تساقط الشعر، تؤثر على الخصوبة لدى الرجال، وكذلك السمنة وغيرها من المشكلات الطبية. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن العمر عامل مساهم آخر، حيث أن جودة الحيوانات المنوية، وليس فقط جودة البويضات، تقل كفاءة مع مرور الوقت.

لكن العديد من حالات العقم عند الرجال تكون مجهولة السبب، مما يعني أن سببها يظل لغزا بالنسبة للأطباء. قد يكون للوراثة أو العوامل الصحية الأخرى دور في ذلك، أو قد يكون لشيء بيئي. النظام الغذائي، والكحول، وتلوث الهواء، والإجهاد، والمبيدات الحشرية، والمركبات الموجودة في البلاستيك،حتى ارتداء الملابس الداخلية الضيقة بدلا من البوكسرات الواسعة . لقد أشارت الأبحاث إلى تورط كل هذه العناصر في التدهور المحتمل للخصوبة، ويحاول العلماء معرفة ما هو الأكثر أهمية. يبدو أن الأمر أصبح أكثر إلحاحا. وجد تحليل للدراسات لعام 2017، نُشر في مجلة التكاثر البشرى الحديثة ، أنه بين الرجال الذين يعيشون في الدول الغربية، انخفض عدد الحيوانات المنوية بأكثر من 50٪ في أقل من 40 عامًا.

خلال السنوات الثلاث التي قضاها الدكتور جيمس كاشانيان في ممارسة طب المسالك البولية في كلية طب وايل كورنيل في مدينة نيويورك، لاحظ تحولًا في كيفية تعامل الرجال مع هذه القضية. اعتاد الأزواج على افتراض أن المشكلة تكمن في المرأة، فيلجأون إلى التلقيح الاصطناعي والتلقيح داخل الرحم (IUI) - حيث يتم إدخال الحيوانات المنوية مباشرة في الرحم - قبل استكشاف المشكلات مع الرجل. ويقول: "الآن، أصبح الأطباء والمرضى والأزواج أكثر وعياً بهذا العامل الذكوري، ويتطلعون للحصول على إجابات عاجلة".

ومع ذلك، بعد أن يغادر الرجال عيادة الطبيب، غالبًا ما يواجهون مشاعر قاسية: الشعور بالذنب، لأن شريكتهم لا تستطيع أن تنجب طفلهم البيولوجي، وما يجب أن تمر به للقيام بذلك؛ العار، لعدم القدرة على أداء العمل الفذ الأساسي للتكاثر؛ الوحدة، لأنهم يشعرون أنهم الوحيدون في هذه الحالة.

تقول إسمي حنّا، الباحثة في العقم عند الذكور في جامعة دي مونتفورت في إنجلترا: "كانت هناك فكرة تاريخياً مفادها أن الرجال لا ينزعجون من العقم أو الإنجاب أو الأطفال، وهذا غير صحيح". في استطلاع عام 2017، سألت حنا وفريقها  من الباحثين 41 رجلاً عن مدى تأثير العقم على حياتهم؛ قال 93% أن ذلك كان له تأثير سلبي على صحتهم واحترامهم لذاتهم. استمرت نفس المواضيع في الظهور: شعر الرجال بالاكتئاب والوحدة والقلق بشأن مستقبل بدون أطفال - وحتى الانتحار. ومع ذلك فإن ما يقرب من 40% منهم لم يطلبوا الدعم.

العقم أمر خاص بالنسبة لكثير من النساء أيضا. لكن لدى النساء خيارات للعثور على مجتمع يمكن أن يرتبط بما يمررن به، بما في ذلك مجموعات الدعم، ومنتديات المناقشة عبر الإنترنت، ومجموعات الفيسبوك. على الرغم من أن 12% من الرجال الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و44 عامًا يعانون من العقم، إلا أن هناك مجموعات قليلة - شخصيًا أو عبر الإنترنت - مخصصة لعقم الرجال. تضاعف حجم إحدى المجموعات الأكثر شعبية على فيسبوك المخصصة للرجال فقط، وهي Mens Fertility Support، في عام 2017. ومع ذلك، لا يزال عدد أعضائها أقل من 1000 عضو.

ومن بين هؤلاء أندي هانسن، وهو تقني أشعة سينية يبلغ من العمر 33 عامًا ويعيش خارج سانت لويس. في عام 2015، علم أنه يعاني من انخفاض عدد الحيوانات المنوية بسبب دوالي الخصية. ارتفعت أعداده بعد الجراحة، ولكن بعد خمس سنوات من المحاولة، وخمس جولات من التلقيح الصناعي والتلقيح الاصطناعي، وإجهاضين، ظل هو وزوجته بدون أطفال. ويقول إن "اللوم" تحول ذهابًا وإيابًا. "كلانا يعرف ما يعنيه أن تكون في هذه النهاية."

لقد حضرا مناسبة في عيادتهما على أمل مقابلة الأزواج في وضعهما، ولكن كما يتذكر هانسن، كان هناك عدد قليل من الرجال، إن وجدوا. لقد جرب مجموعة فيسبوك للعقم تضم أكثر من 20000 عضو. ويقول: "لم يكن هناك رجال، ربما واحد أو اثنان".

وأخيرا، وجد دعم الخصوبة للرجال، والذي من خلاله يستطيع هو والرجال الآخرون تقديم النصح لبعضهم البعض والمواساة. يقول هانسن: "إن إيقافه أمر مرهق". ومع ذلك، فقد تم إدراك أن معظم أعضاء المجموعة يقيمون في المملكة المتحدة. يقول هانسن: "في أمريكا، "يميل الرجل إلى الشعور بأنه يجب أن يكون الصخرة".

تقول ليبرتي بارنز، عالمة الاجتماع الطبي ومؤلفة كتاب "تصور الذكورة: العقم والطب والهوية" الصادر عام 2014: "إن الكثير من الرجولة في أمريكا تدور حول كونك قويًا ومستقلًا وقادرًا مثل الرجال الآخرين" "إذا لم تتمكن من حمل زوجتك، فلا يمكنك إلا أن تقارن نفسك بالرجال الآخرين وتشعر بالنقص".

لكن الأفكار حول الذكورة يمكن أن تكون مرنة بشكل مدهش في مواجهة العقم، كما تقول بارنز. فمن أجل إنجازكتابها، أجرت مقابلات مع 24 زوجًا أمريكيًا، مرة بعد تشخيص إصابة الرجال بالعقم، ومرة أخرى بعد عامين تقريبًا. تقول بارنز: "يمكنك أن ترى أنهم كانوا يعملون بجد لمحاولة معالجة تجربتهم وإعادة تعريف معنى الرجولة بالنسبة لهم". أكد الرجال على دورهم كزوج صالح أو استعدادهم ليكونوا أبًا صالحًا. بالنسبة للكثيرين، كونك رجلاً يعني الخضوع لجميع أنواع إجراءات الخصوبة - مهما كانت مؤلمة - "لتثبت لزوجتك أنني قوي، وأنني شجاع، وأنني على استعداد للقيام بكل ما يتطلبه الأمر".

تجنب جولدمان الانضمام إلى مجموعة فيسبوك لمدة شهر بعد أن أخبرته زوجته بذلك. يقول: "لم أكن على استعداد لمشاركة ما مررت به مع مجموعة من الأشخاص العشوائيين". ومع ذلك، فقد رضخ في النهاية. عندما قرأت له منشورًا لرجل دفعه صراعه مع العقم إلى التفكير في الانتحار، عند ذلك انهار جولدمان باكيا. يقول: "هذا ما يمر به الكثير من الرجال ويبقون أفواههم مغلقة".

تعتقد فيليس زيلكويتز، مديرة الأبحاث في الطب النفسي في المستشفى اليهودي العام في مونتريال، أن المجموعات عبر الإنترنت تحمل الكثير من الأمل لأنها تعمل على تطبيع تجربة العزلة. وتقول إنه من الصعب على الرجال التحدث عن هذه القضايا، "لأنهم غير متناغمين مع أقرانهم - فمعظم الأشخاص الذين يعرفونهم ينجبون أطفالًا، وهم ليسوا كذلك". وتقوم الآن هي وفريقها باختبار تطبيق قاموا بتطويره، يسمى العقم / Infotility، والذي يقدم للرجال خطوات يجب اتخاذها لتحسين خصوبتهم بالإضافة إلى لوحة رسائل.

نشر جولدمان ذات مرة على مجموعة الفيسبوك الخاصة؛ علاوة على ذلك، فهو لا يتحدث علانية عن عقمه على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن في الآونة الأخيرة خطرت له فكرة إنشاء سلسلة على اليوتيوب حول تجربته. قال: "لا يجعلك الحديث عن ذلك ناعمًا". "هذا لا يجعلك أقل من رجل." إذا كان بإمكانه إخبار رجل آخر بأنه ليس وحيدًا، "فإن رواية قصتي والتعرض للخطر أمر يستحق ذلك بالتأكيد".

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: ماندي أوكلاند/ Mandy Oaklander تكتب ماندي أوكلاند وتحرر الأخبار الصحية لمجلة TIME.

رابط المقال على مجلة تايم:

https://time.com/5492615/male-infertility-taboo-society-shame/

تعد قضيّة (أنسنة التراث) من القضايا المهمة والتي تحاول أن تجسد في التراث صفة "الإنسانية"، باعتباره نتاجًا بشريًا وجهدًا إنسانيًا، ينزع عنه صفة "العصمة" التي اكتسبها العقل الإسلامي بتفاعله مع الوحي الإلهي، وقد هدف هذا البحث إلى بيان أبرز الجهود الفكرية الإسلامية المعاصرة في أنسنة التراث.

وعندما نغوص في فكر حسن حنفي فنجده انه قد تمكن من رسم مساحته الخاصة في خارطة الفكر الحداثي العربي، وتميز مشروعه الفكري بتنوع موضوعاته وغزارة انتاجه، وكذلك المزاوجة بين ما هو فكري وما هو سياسي . وحسن حنفي على خلاف المفكرين الذين دعوا إلى القطع مع التراث للوصول إلى الحداثة، إذ رأى أن التراث الديني بعد اخضاعه لعمليات التفكيك والتركيب صالح ليكون أساسا لفكر أيديولوجي يحمل مشروعا سياسيا تغييريا، وهذا الربط بين الفكر والسياسي نجده في مجمل مشروع حسن حنفي، فاستكانة الشعب ورضاه بما يمن به الحاكم كحالة سياسية – اجتماعية، تميز النظم الشمولية،تأسس فكريا حين تم تقديم الإيمان على المعرفة، وجعل هذا الإيمان فوق النقد والتمحيص؛ أي أن تغيير الواقع السياسي لا يتم دون تفكيك الأسس الفكرية المُشكلة لهذا الواقع وإعادة بناءها من جديد.

تُرى هل نحن بحاجة لإعادة قراءة التراث؟، وكيف؟، وهل التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة؟، وكيف تتم إعادة بناء التراث بالنظر في علم أصول الدين وبناء نظرية معرفية جديدة داخله؟ وهل التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية عند حسن حنفي؟

التراث في نظر حسن حنفي ليس قيمة فى ذاته إلا بقدر ما يعطى من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره؛ فهو ليس متحفًا للأفكار نفخر بها وننظر إليها بإعجاب، ونقف أمامها فى انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل، وموجِّه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية؛ فالتصنيع والإصلاح الزراعي قد يتحطمان؛ لأن الإنسان وهو العامل والفلاح، لم تتم إعادة بنائه ووضعه في العالم، وظل متخلفًا عن مظاهر التقدم، فالثورة الصناعية والزراعية في البلاد النامية لا تتم إلا بعد القيام بثورة إنسانية سابقة عليها وشرط لها؛ لذلك تعثر العمل السياسي في البلاد النامية وفشلت الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه.

ومن جهة أخرة فقد كان لنشأة حسن حنفي في ظل نظام جمال عبد الناصر، ثم احتكاكه بالفلسفة الأوروبية أثر بلا شك على مشروعه الفكري، حيث أراد أن يُعمل أدوات الفكر الحديث في التراث الإسلامي للخروج بفهم جديد يناسب العصر ومهمات التحرر والاستقلال والتحديث التي حاولت الدول العربية أن تتصدى لعا، وكان حسن حنفي من المفكرين الذين أمنوا بقدرة مجتمعاتنا على النهوض استنادا على تراثها، لا بالقطع معه، فحاول التأسيس للاهوت تحرير إسلامي، وبناء ما اعتبره يسارا إسلاميا حاصا في كتابه " من العقيدة إلى الثورة"، وجاء ذلك في ظل صعود الإسلام السياسي اليميني إن صح التعبير، خاصة أن حسن حنفي يقول :" إن للإسلام وجها سياسيا آخر وإنه يتسع لآثار التحرر والحداثة.

وحسن حنفي يوصف دائما في بداية عهده الفلسفي بأنه فقيه قديم، وإن كان معاصرا فإنه يستمد من الفقه القديم، حيث درس الفقه الإسلامي من داخله، ومن خلال أصول لغوية متينة، وقد جمع ما بين اللغة والشريعة والفلسفة، شأته شأن أغلبية الأزاهرة وأبناء المؤسسات الدينية الذين يتعلمون في الكتاتيب .

وعندما انتقل إلى أوروبا للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون أستوقفه كثير من المفكرين في الغرب، وتأثر بهم، ونقل ذلك في كتاباته بشكل يستوحي منهم ما وجده مثريا ليكمل ثقافة التراث في وقته وإعطائه نوع من المحاولة التوفيقية وليس التلفيقية بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي .

وهنا أقول بأن أفضل ما تميز به حسن حنفي هو أنه قارب التراث بعقل فلسفي، وهو قد استند إلى ثلاث مرتكزات ثالوثية إن صح التعبير : التراث، والإرث الغربي، والواقع، حيث يلجأ إلى إعادة بناء التراث بما يناسب ضرورات الواقع وحاجاته، والتعامل مع الإرث الغربي تعاملا نقديا لا مجرد نقل وترجمة وتلقي، وإنما إعادة إنتاجه وإرجاعه إلى أصوله، بحيث يكون لنا الوقل الأخير لنا في دلالة هذا الإرث، ولكن لا يتم ذلك إلا من خلال إطار نظري للواقع، حيث نجد أن فلسفة حسن حنفي ترتكز علي بناء نظرية للواقع، ففي رأيه أننا لا نتلقى التراث ونستدعيه بطريقة فوضوية فلا نتلقاه كما هو وبأي طريقة كانت، أو نتلقنه أو نردده بطريقة الحفظ والتلقين، لأن هذا التراث قد أُنتج في زمنا تاريخي، وهنا نكتشف أن حسن حنفي اهتمامه بالتراث جاء من هم واقعي؛ وذلك من خلال بناء نظرية للتعامل مع الواقع والاستجابة لحاجاته وضروراته، بحيث أننا حسب اعتقاده أخذنا من الفكر الغربي فلا نأخذه بحيث أن نتغرب، وإذا تعاملنا مع التراث لا نستطيع أن نتعامل بلغة القطيعة معه، وذلك لكونه جزء من تكويننا الثقافي، وجزء من بنيتنا الشعورية .

ولكن أين تكمن مشكلة التراث ومعوقاته في نظر حسن حنفي؟

تكمن في نظر حنفي في المسبقات ذات الطبيعة اللاهوتية التي تتمحور حول الذات الإلهية والصفات الإلهية، وهذا النوع من التفكير في نظر حنفي يحدث نوع من الاستلاب للشخصية الإنسانية، وهنا نجد حسن حنفي يريد أن ينقل التراث بأن يكون الإنسان هو محور قراءة هذا التراث، أي أن يكون الإنسان محور فهم التراث والنصوص الدينية، فالعقل الفلسفي تكمن اهمية في نظر حسن حنفي بأنه الآلة الوحيدة التي تستطيع أن تتعمق في فهم النص، لأن العقل الفقهي مشكلته الأساسية أنه عقل نصي ؛ أي يبقي في دائرة الدلالة اللفظية للنص، ولا يستطيع ان يخرج من هذه الدائرة، والوحيد الذي يستطيع أن يأخذنا إلى المساحات العميقة والخصبة في النص هو العقل الفلسفي والذي كما قال حسن حنفي هو الوحيد الذي يستطيع أن يسبر أغوار النص حتى النصوص المقدسة.

ولذلك نجد عند حنفي ثلاث مرتكزات مرجعية غربية استند إليها في أنسنة التراث، وهم : أسبينوزا، وفيورباخ، وهوسرل، وذلك على النحو التالي :

1- اسبينوزا: أول من كسر في نظر حسن حنفي المنظومة الدينية وكسر هيبتها في المجال المسيحي – اليهودي، فقد جعل النص ألو من فتح علوم الدين، أي أن تكون العلوم الدينية مادة علم ودراسة وبحث وتحليل وتفسير، كما أرجع الله إلى العالم، وا، الله لا يوجد خارج العالم .

2- فيورباخ: فلسفة فيورباخ، على علاتها، تكمن أهميتها الأساسية والكبرى في أن «الإنسان هو المبدأ الأساس فيها. لأن القانون الأسمى لعالم الإنسان يتطلع إلى خير الإنسان بالذات»، ما يعني أن فيورباخ وضع المبدأ الأنثروبولوجي في تناقض تام مع المبدأ الميتافيزيقي القديم. ولهذا نجد أنه عندما قال بالاغتراب هو لم يقل أن الإنسان قد اغترب عن الله، بل قال أن الله هو الذي اغترب عن الإنسان، أي أن فكرة الله تم اغترابها عن الإنسان، والأساس عن الله حسب كلام فيورباخ أنها فكرة إنسانية، ولكن جاء اللاهوت وجعل منها حقيقة أنطولوجية وجودية قائمة مستقلة، فاستقلت عن الإنسان وانفصلت عنه، فكانت فلسفة فيورباخ تريد أن تُؤسن الله بطريقة أو بأخري، فهي تريد أن ترفع الإغتراب بين الإنسان والله، وان يعود الله إلى الإنسان لا أن يعود الله إلى الإنسان.

3- هوسرل: هو مؤسس الفينومينولوجيا التي تهتم بدراسة ظواهر الوعي، حيث تكمن مهمة الفينومينولوجيا حسب هوسرل في "الفحص عن ماهية المعرفة فحصا من شأنه أن يفض المُشكلات التي يختزنها التضيق بين المعرفة والمعنى المعرفي وموضوع المعرفة. من هذه المُشكلات ما يختص بإيضاح معنى الماهية الذي للموضوع المعروف أو الذي للموضوع بعامة سواء بسواء". وبعبارة أخرى، فالفينومينولوجيا تضطلع بمهمة فهم جميع الموضوعات القصدية المُرتبطة بأفعال الذات.

وهنا لم يقف حنفي عند قراءة سبينوزا فحسب، بل قام باستدعائه محاولا إسقاط المادة التي عمل عليها، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على نفس المنهج، أي إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، هو التراث الإسلامي، وكان سبينوزا نفسه يودّ تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى.

أما عن أثر فيورباخ علي حنفي، فقد رأينا أن حنفي يريد أن يؤنسن التراث على طريقة فيورباخ ويجعل الإنسان هو محور التأمل ومحور التفكير ومحور النشاط والسلوك في كل العلوم المتعددة في المجال الإسلامي، ومن ثم إذا أردنا أن نصل إلى الله فلا نصله إلا من خلال الإنسان، ومن ثم فإن حنفي أردا أن يعيد إنتاج التراث الذي أنتج في القرن الرابع والخامس الهجري ووصل ذروته على قاعدة كلامية، غيبية، إلى الإنسان حيث البقاء، إلى الحياة، والوجود، والابداع الإنساني.

ومن جهة أخرى يُشكل مشروع الدكتور حنفي أحد أهم تطبيقات المنهج الفينومينولوجي في فكرنا العربي المُعاصر، ويتضح هذا المنهج لديه في تناوله للعلمين الأساسيين: علم أصول الفقه، وعلم أصول الدين خصوصا، وعلوم اللغة والتاريخ، والحكمة، والكلام، والتصوف، وعلوم الحديث، وعلوم السيرة عموما. وينتمي هذا التطبيق إلى فينومينولوجيا الدين وإلى فينومينولوجيا الوعي التاريخي التي ينظر إليها على أنها فينومينولوجيا الحضارات المُقارنة. لقد تناول حسن حنفى علم أصول الفقه في الجزء الأول من رسالته للدكتوراه مناهج التفسير: دراسة في علم أصول الفقه سنة 1965م، وتناول علم أصول الدين في كتابه “من العقيدة إلى الثورة: محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين” سنة 1988م. ومنه إلى إعادة ترتيب العلاقة مع التراث بالشكل الذي يجعله حيا فينا وبنا ومعنا، كيف لا وهو المُفكر المُعاصر الذي كرس كل حياته في الدراسة والبحث عن أصناف المناهج والطرائق، مُرتبا للمعارف، ومُصنفا للأنساق، ومبوبا للمذاهب عبر تاريخ الفلسفة كله؛ قديمه وحديثه ومُعاصره. لقد استفاد حسن حنفي حقا من صيرورة التفكير دروسا ذات قيمة بالغة الأهمية. يظهر هذا في مشروعه من خلال عودته إلى التاريخ، وتتبع المراحل الكبرى التي يمر منها الفكر الإنساني، ليكشف لنا عن حقيقة مفادها أن الخاصية المُميزة للفكر البشري هي خاصية التجدد.

وهذا التجدد يرتبط بثلاثة عناصر أساسية :

1-الموقف من التراث القديم (ألأنا).

2- الموقف من التراث الغربي (الآخر).

3- نظرية التفسير (بناء العلاقة بين الأنا والآخر).

إن التراث والتجديد إذن هو صلب المشروع الفلسفي والحضاري عند حنفي، وهو مشروع ذو جبهتين : الجبهة الداخلية، والجبهة الخارجية، جبهة الأنا وجبهة الآخر، مشروع يسعى إلى ترميم صورة الأنا كما ورثناها من حطام الماضي السحيق بكل سلبياته وإيجابياته، وبناء صورة جديدة للآخر في إطار نسبيته وتاريخيته وشرطه المنتجة له... وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي

.....................

المراجع:

1- حسن حنفي.. نحو إعادة بناء التراث/ يتفكرون.. يوتيوب.

2-احمد إبراهيم: مفهوم التراث والتجديد فى كتب المفكر الراحل حسن حنفى، اليوم السابع المصرية، الخميس، 21 أكتوبر 2021 04:50 م.

3- فهد عبد القادر عبد الله الهتار: أنسنة التراث وأثرها على الفكر الإسلامي المعاصر، مؤسسة الدليل للدراسات والبحوث.

في المثقف اليوم