قضايا

ان لحظات الشدائد، على قسوتها، غالبا ما تحمل في طياتها دروسا لا تقدر بثمن. انها تدعونا الى اعادة تقييم مسلماتنا والى النظر بعمق في الاسباب الحقيقية وراء تقدم الامم وصعودها او تخلفها وانكسارها. ان ما نشهده اليوم من تفوق عسكري واقتصادي لدول معينة ليس وليد الصدفة، ولا هو نتاج لمعتقدات او شعائر دينية، بل هو حصيلة تراكم معرفي هائل، واستثمار طويل الامد في العلم والتكنولوجيا. هذا التراكم والاستثمار لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مباشر للصراع المعقد داخل المجتمع وتطور الظروف المادية السائدة.

لقد اثبت التاريخ والحاضر على حد سواء ان القوة الحقيقية للامم تكمن في قدرتها على الابداع والابتكار. عندما تقارن امة استثمرت مليارات الدولارات في البحث والتطوير لتنتج احدث المنتوجات بأمة اخرى لا تزال تعتمد على تقنيات قديمة في صناعاتها الاساسية او توفيرها من قبل دول اخرى، فان النتيجة تكون واضحة. ان الفارق ليس في الايمان او الولاء لمذهب معين، بل في امتلاك ناصية العلم الذي يحول الافكار الى واقع، والاحلام الى انجازات ملموسة على ارض الواقع.

ان المعارك الحديثة، سواء كانت عسكرية او اقتصادية او حتى اجتماعية، تحسم بالعقول المبدعة، بالمهارات التقنية المتقدمة وبالبنى التحتية المتطورة التي يوفرها العلم. الدعاء وحده لا يبني المصانع، ولا يصمم الرقائق الالكترونية، ولا يبتكر الادوية المنقذة للحياة. القائد الديني لن يقود القوات المسلحة على الارض او في الجو، انما هو العلم وحده من يقود ويحسم المعركة. هو الذي يمد المقاتلين باحدث الاسلحة ويزود الاطباء بانجع العلاجات ويمنح المهندسين القدرة على بناء مدن ذكية.

هنا يبرز الدور المحوري للدولة المدنية العلمانية. الدولة العلمانية ليست دولة ضد الدين او القيم الروحية، بل هي دولة تفصل بين مؤسسات الحكم وادارة شؤون البلاد وبين العقائد الدينية والمذهبية. هذا الفصل الحيوي يسمح للدولة بالتركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة، تقوم على الكفاءة والجدارة وتعنى بتحقيق مصالح جميع المواطنين دون تمييز على اساس القومية او الدين او المذهب. عندما تكون الدولة مدنية وعلمانية، فانها تضع العلم في صدارة اولوياتها وتشجع البحث العلمي وتنشئ الجامعات ومراكز الابحاث وتوفر البيئة الخصبة للابداع والابتكار. هي لا ترهن مستقبلها بالخرافات، بل تبنيه على الحقائق والمنطق.

ان الامم التي حققت قفزات نوعية في التطور والتقدم هي تلك التي ادركت هذه الحقيقة. لقد استلهمت من تجاربها، وتعلمت ان السبيل الوحيد للتغلب على التحديات وهزيمة الاعداء ليس بالاعتماد على الشعارات الرنانة، بل بالبناء الجاد للعلم وتطوير التكنولوجيا وارساء دعائم دولة مدنية حديثة. انها دعوة صادقة لان نتعلم من تجاربنا، وان نعيد ترتيب اولوياتنا، وان نجعل من العلم والتكنولوجيا ركيزة اساسية لنهضتنا، ومن الدولة المدنية العلمانية اطارا لحكمنا الرشيد. عندها فقط، يمكننا ان نطمح الى بناء مستقبل افضل لاجيالنا القادمة، مستقبل يسوده التقدم والنصر، لا الهزيمة والخيبات.

***

محمد الربيعي (ا.د.)

 

تُعدّ اللغة من أعمق الأدوات التي تتشكّل عبرها رؤيتنا للعالم، لا سيما في الفضاءات الميتافيزيقية والدينية. إنّها قناةً ناقلةً للمعنى ونسقًا معرفيًّا يُعيد إنتاج الواقع وفق حدود مفاهيمية تضبط تصنيفنا له وتوجّه إدراكنا لمراميه. ومن هذا المنطلق، يرتبط الدين باللغة ارتباطًا وثيقًا يتجاوز مستوى التعبير إلى مستوى التكوين المفهومي. فالمصطلحات الدينية، التي قد تبدو تسمياتٍ لحالات ميتافيزيقية، تنطوي في بنيتها اللغوية على تصور للعالم وطبيعة الإله والعلاقة بين الإنسان والمقدّس.

تُستأنس هذه الرؤية بفرضية «النسبية اللغوية» التي صاغها إدوارد سابير وطوّرها بنيامين لي وورف، حيث يرى الأخير أنّ اللغة تشكّل نظرتنا إلى العالم وتحدد أنماط تفكيرنا وتصوراتنا للعلاقات الكونية. عند تطبيق هذا التصور على الحقول الدينية، نجد أنّ التصوّرات اللاهوتية أو العقائدية تعكس الخصائص البنيوية والدلالية للغة التي تُنتَج فيها.

من خلال مقارنة المفاهيم التأسيسية في الإسلام (الناشئة من العربية) بنظيراتها في الهندوسية (المنبثقة من السنسكريتية)، يتّضح دور اللغة في بناء النظام المفهومي للعقيدة. فالعربية ببنيتها الجذرية الصارمة وميلها للإفراد والتحديد تولّد منطقًا توحيديًّا محكمًا. في المقابل، تتيح السنسكريتية بمرونتها الاشتقاقية وتعدّدها الدلالي نشوء رؤية دينية تقوم على التراتب والتعدّد والتأويل المختلف. وهنا نقصد بالاختلاف الدولوزي، كما يعتقده بوصفه الأصل في الوجود.

 مصطلحات الإسلام: الوحدة والتحديد

يُعدّ لفظ الجلالة "الله" مثالاً ومدخلًا مركزيًا لفهم النظام التوحيدي الإسلامي. يتميّز هذا الاسم في العربية بتركيبه المغلق: فهو غير قابل للجمع أو الاشتقاق أو التأنيث. هذه البنية الدلالية تُضفي على الاسم طابع التفرّد وتقصيه لغويًا عن إمكانيات التعدد أو التشبيه، مما يعكس منطق التوحيد الأصيل. كما يشير جون سعيد إلى أنّ البناء الاشتقاقي للكلمة يُحدّد إدراك معناها ووظيفتها، ويتجلّى ذلك في تصميم لفظ "الله" الذي يُغلق احتمالات التعدد.

يُظهر الجذر العربي (و-ح-د) – المصدر لمفاهيم "واحد" و"أحد" و"توحيد" – كيف توجّه البنية اللغوية المفاهيم نحو الحصر والتفرد. هذه الاشتقاقات تُشكّل نظامًا دلاليًا مغلقًا يحاصر المعنى ويقصي نقيضه (الشرك). فمصطلح "التوحيد" يتجاوز الإيمان بإله واحد ليكون إطارًا شاملًا للعقيدة والسلوك والعلاقات الوجودية، وهو ما أكّده إيزوتسو في تحليله للدلالة القرآنية.

حتى الصفات الإلهية في الإسلام، رغم تنوعها، تُفهم كمظاهر كمالية للذات الواحدة الكاملة ضمن إطار وحداني لا يقبل التجزئة. هذه الصرامة في التحديد تُرسّخ فاصلاً مفهوميًا بين العقيدة الإسلامية والتصورات التعددية للذات الإلهية.

مصطلحات الهندوسية: المرونة والتعددية التأويلية

تنبثق المفاهيم الهندوسية من اللغة السنسكريتية ببنيتها الغنية بالاشتقاق والتعدد الدلالي، مما يُنتج تصورات دينية منفتحة على التأويل والتجليات المتعددة.

يُعبّر مصطلح "براهمان" عن الحقيقة الكونية المطلقة، لكن السنسكريتية تقدّمه عبر نفي متوالي (Neti Neti) واستعارات متقابلة كالقول بأنه "أصغر من الذرة وأكبر من الكون". هذه البنية اللغوية تمنح التصور عمقًا وتُعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والمقدّس كأداة للتماهي والتلميح.

أما مصطلح "ديفا" (المُترجم غالبًا كـ"إله") فيحمل في جذره "div" معنى "الإشراق"، مما يفتح مجال تأويله ككائن نوري أو قوة طبيعية أو صفة روحية. هذه السيولة تسمح للهندوسية بتبني تصور تعددي حيث تتجلّى الآلهة (كشيفا وفشنو) في صور متعددة (أفاتارات) كمظاهر للحقيقة المطلقة. وكما تُوضح تمكّن القوة الاشتقاقية للسنسكريتية من بناء نظام ديني تتعايش فيه المستويات الرمزية المتنوعة دون تناقض.

 الخاتمة

وعليه يتضح أنّ اللغة تتجاوز حد نشر المفاهيم الدينية كما هي، لتساهم إيجابًا في خلق التصورات وتؤطّرها ضمن بنيتها الدلالية. فالعربية بصيغتها الجذرية المحدّدة تشكّل منطقًا لاهوتيًا قائمًا على التوحيد والصرامة المفاهيمية. بينما توفّر السنسكريتية بمرونتها أفقًا دينيًا يتسم بالتدرّج والتعدد والتجسد.

بهذا تصبح اللغة عنصرًا بنيويًا يُنتج التصوّر الديني ذاته، يتداخل مع الوحي والتاريخ لخلق النسق اللاهوتي. وفهم الدين يستلزم فهم لغته التأسيسية، لأنّ الكلمة هنا مادته التكوينية.

***

خالد اليماني

......................

المصادر

 إيزوتسو، توشيهيكو. (1964). الله والإنسان في القرآن: دلالة الرؤية القرآنية للعالم

وورف، بنيامين اي. (1956). اللغة، الفكر والواقع

هولدريج، باربرا. (1997). الفيدا السنسكريتية وقوة اللغة

سعيد جون (2023). علم الدلالة

ليبنر، يوليوس. (2010). الهندوس: معتقداتهم وممارساتهم الدينية

لعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أقيم لك الدليل على تردي الأخلاق وتراجعها، فانهيار القيم التي يلوكها كل لسان في وقتنا الراهن، أزعم قبل كل شيء، أن عقلي المكدود لا يسيغ قط وجود أي قوة تدفعها، وتمضي بها نحو الأحسن، خلاف ثوابت ومعتقدات الدين الخاتم الذي تتجسد فيه أسمى الغايات الأخلاقية، التي ينبغي أن نتحلى ونتمسك بها، وندعو هذه الأجيال المستلبة التي يملأ وجوهها ضحكة ساخرة من سذاجة دعوتنا، أن تتشبث بها، وتحرص عليها، فهذه الأجيال المسكينة قد دبت الحياة في أعطافها، وهي مشدوهة ومأخوذة بسحر الحضارة الغربية، بعد أن ارتسمت في أذهانها صورة قوية رائعة عنها،  ندعوها في الحق، للتمسك بالمفاهيم الأخلاقية التي بسطها الدين الإسلامي بسطاً وافياً، لأنها تحقق لها، ولكل المجتمعات البشرية، الغاية الحيوية التي ترسم توازنها، وتبني لها قاعدتها الصلبة التي تكفل تماسكها واستقرارها.

الأخلاق الركن المنيع الذي تعتمد عليه المجتمعات في صون حياتها الاجتماعية:

والأخلاق التي تضبط حياة  المجتمعات، وتنظم سلوكها،  لا أريد أن أبسط لكم هنا طبيعتها، أو أشنف أسماعكم، بأحاديث رتيبة مملة، عن أصولها وتوجيهاتها، التي بتنا لا نظهر لها الشغف البالغ، والانجذاب المحض، فنحن نعلم أنها هي التي تضع الأسس، والركائز الصحيحة للتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، وأنها بمثابة الدروع الواقية التي نحتذيها، في صد هجمات المتوغلين من "طغام" المجتمعات الذين غابت عنهم التصورات العقلية، والحجج المنطقية لنجاعتها، بوصفها الحصن الذي يقينا من الفوضى الغاشية التي أمسينا نتردى فيها،  تلك الفوضى التي تريد هذه الفئات أن تتفنن فيها، وتكثر منها، باعثهم عليها النقص الذي يحيط بها، وكونها لم تتصل بكل قيم هذه التشريعات أو بعضها، اتصالاً ممكناً أو ضرورياً تحتمة ظروف النشأة، فليس في نشأتها ما يحملها على اكتساب واتخاذ معايير هذه القوانين ولوائحها، هذا هو الحاجز الذاتي الذي يفصل هذه الفئات عن مجتمعاتها، العامل الأخلاقي الذي نجده عند هذه الناجمة واهياً، شاحباً، ضعيفاً، لا يحمل صورة، ولا يؤدي معنى، ولن يزول هذا الحاجز الذي ليس له قاع، أو مستقر، إلا إذا بذلت هذه الجماعات جزءاً من قواها في سبيل التمكين لهذه الأخلاق، واضطرت لمسايرة المثل العليا، والمعايير الاجتماعية،  وتخضع لها خضوعاً كلياً، يزيل عنها هذه الفوارق، ويحقق لها دوماً الانصهار في بوتقة مجتمعاتها.

العامل الأخلاقي في الإسلام:

 والعامل الأخلاقي في الإسلام، الذي يعصم المجتمعات من الزلل، رأينا كيف تقاعست بعض الشرائح في أداء واجباته، بسبب نزعاتها الفردية، نزعم أن هذا العامل بدون أدنى شك، عقمت الأيام أن تلد مثل ه، فهو يصد النفس من أن تكون حافلة بمظاهر الجور، ويمنحها التصورات الصحيحة، والأحكام الصادقة، عن العواقب التي تتمخض عن هذه المظاهر، بعد أن وهبها صورة جلية واضحة، عن مآلات الروح بعد الرحيل، إذن العامل الأخلاقي يعلم أن الطرق بيننا وبين الخطايا قريبة كل القرب، وممهدة كل التمهيد، ولكن مع هذا القرب، وهذا التمهيد، نجد أن هذه الفجاج كثيفة منيعة، لا سبيل إلى اقتحامها، ولا إلى النفوذ منها، لأن مهجنا الوجلة المذعورة، لا تستطيع التخلص من براثن صورها المفزعة التي شخصتها لنا منظومة الدين، صور لا عزاء فيها ولا سلوى، لمن أراد أن يمضي وراء هتك الأخلاق، واصابتها في مقتل.

إن القواعد الأساسية التي ينهض عليها النظام الأخلاقي في الإسلام، لا يمكن ردها إلى عوامل أبسط منها، لأنها في غير ضجيج ولا عجيج، تستوفي جميع أنماط السلوك التي مهما اختلفت وتباينت من حيث مضمونها، فهي تسيطر على النفس، وتكبح جماحها، ولا تنحرف عن الطريق المرسوم الذي يربط شؤون الحياة العامة التي نضطرب فيها، ربطاً محكماً، وثيقاً، قوي الأثر، ويقي العادات، والمشاعر، والأفكار، من الغلو، والجموح، والتطرف.

***

د. الطيب النقر

الأربعاء 25/6/2025

 

من بين فلاسفة اليونان القدماء الفيلسوف بيرو Pyrrho الذي أثبت تماسكا ورباطة جأش أمام مشاكل الحياة.هذا الفيلسوف أصبحت لامبالاته الثورية حجر الاساس لمدرسته الفكرية التي يتّبعها انصاره الى يومنا هذا.

شكّه المطلق ورحلته مع الاسكندر الاكبر

وُلد بيرو عام 360 قبل الميلاد في زاوية من زوايا المدينة القديمة إليس Elis(غرب بيلوبونيز)، وبقيت حياته المبكرة لغزاً. ما هو واضح ودون شك اعتماداً على النصوص اللاحقة لكاتب السير ديوجينس لايرتيوس، هو ان بيرو لم يكن من الفلاسفة الكبار. هذا الرجل في الحقيقة لازم الاسكندر الاكبر في مسيرته الاسطورية للانتصار على الشرق، ورافق الجيش المقدوني على طول الطريق الى الهند.

لنتصور التراب، العظمة، الخوف من اللايقين. في تلك الرحلة الملحمية التقى بيرو بالجمبازيين gymnosophists (افراد طائفة هندية قديمة يلبسون القليل من الملابس ويمارسون الزهد والتأمل). اولئك الفلاسفة العراة انفصلوا عن الاهتمامات الدنيوية واثّروا بعمق على بيرو. كيف يمكننا ان نتصور بيرو وسط فوضى انتصارات جيش الاسكند، واولئك الرجال الغرباء الحكماء الذين بدوا بعيدين عن ضجيج العالم؟. هذا المشهد بقي عالقا في ذهن بيرو طوال حياته. انه كان طريقة مختلفة كليا في رؤية العالم والتي أثّرت على جوهر فلسفته.

البساطة الثورية لبيرو

اصبحت فلسفة بيرو اللاحقة تُعرف بالبيرونية Pyrrhonism. هذه الحركة الفلسفية هي من حيث الجوهر، تركز على رفض اصدار أحكام نهائية في حياة المرء. انها من الواضح لا تتحدث عن انكار وجود الاشياء كما يظن البعض عند محاولتهم تشريح البيرونية. هذا بعيد عن الحقيقة. انها حول الاعتراف بان حواسنا يصعب الوثوق بها. وكذلك، عقلنا هو دائما محدود، ولهذا السبب، لايمكننا ابدا فهم الطبيعة الحقيقية للعالم.

اذاً، اذا كان الانسان يستطيع القول بشكل قاطع ان شيئا ما جيد او سيء، صحيح ام زائف، لماذا يبدد الناس طاقاتهم الثمينة في جدالاتهم وتأكيداتهم وتحمّلهم للألم في ذلك؟. هذه الروح اصبحت مشهورة في القصة الشعبية لبيرو وهو يناقش الفلسفة اثناء عملية جراحية متجاهلا الألم. هذا المشهد سواء كان حقيقيا او زائفا، يجسد الانفصال الراديكالي عن الاشياء التي عادة يمضي فيها الناس حياتهم يفكرون ويكافحون ويجادلون بشأنها.

قصة اخرى مشابهة حول بيرو وموهبته في الانفصال عن الواقع هي حكاية الكلب الذي هاجمه، حينها اكتفى بدعوة اصدقائه للتعامل معه بدلا من الذعر والفرار بعيدا. هذان الموقفان يبيّنان ان بيرو كان رجلا يفعل ما يؤمن به. بالنسبة له، الهدف من فلسفته لم يكن كشف الحقائق النهائية المخفية عن العين المجردة. هدفه العثورعلى الهدوء arataxi، وهي الفكرة اليونانية للهدوء العميق الذي لا يتزعزع، سلام داخلي عميق يأتي ببساطة من رفض اتخاذ موقف نهائي حول أي شيء. في عالم يغرق بشكل مطلق في آراء قوية ويقينيات مطلقة، نجد في اتجاه بيرو ما يجعلنا نشعر بالراحة، حينما يحررنا من عصر الاستقطاب الذي نعيش فيه.

واذا كان اتجاه بيرو الفلسفي اكثر مرونة من البيانات الجريئة لإفلاطون وارسطو، فان تأثيره أثبت وبجدارة استمراريته بسبب طبيعته الفكرية . افكار بيرو جرى الاحتفاظ بها بعناية و توسيعها من جانب الشكاك مثل سكتوس امبيريكوس، الذي كانت أعماله هي الاساس لفهم البيرونية اليوم. وانه من خلال هؤلاء الورثة الفكريين لرؤى بيرو، واصراره على تجنّب الحكم، وصلت تلك الافكار ولو ببطء الى عصرنا الحالي، وهو ما صاغ الكيفية التي يتصرف بها العديد من الناس حتى يومنا هذا.

لو أخذنا التنويرعلى سبيل المثال، اصبح فيه التحقق من كل شيء فضيلة، وتحطيم العقائد القديمة مهّد الطريق لفتوحات علمية خلقت عالمنا الحديث. حتى الان، في عصرنا الصاخب وحيث "الأخبار الكاذبة" والسعي اللامتناهي لإجابات نهائية تقود عادة الى استقطاب شديد، تقدم افكار بيرو حلا ملائما ذو اهمية كبيرة.

***

حاتم حميد محسن

..........................

GreekReporter, May31, 2025

 

نحن على دراية تامة بأن الدولة العلمانية الحديثة هي تلك التي تمتلك قيمًا ثابتة كالديمقراطية، ومبادئ أخرى من بينها توفير الأمن والحرية لمواطنيها، واحترام التعدد في الدين والأفكار والرؤى المختلفة. إلا أننا حين نتعامل مع الواقع، نجد أن الجانب التطبيقي يختلف كثيرًا عن الجانب النظري.

إذا ما ضربنا مثالًا على ذلك، فسوف نبدأ بفرنسا في مقدمة الذكر، باعتبارها تمثل الأرضية الأولى التي اندلعت منها شرارة العلمانية المتمثلة في قلب الموازين وتغيير مسار الدولة من نظام ملكي إلى جمهوري.

لقد حازت الكنيسة على أكبر ما يمكن من أرباح، كالأراضي الإقطاعية وتكديس الثروات، والحصول على أموال الشعب من خلال صرفهم عن الدنيا والتغذي بالعلوم الإنسانية، واعتماد العقل مقابل إشباعهم بالأمور اللاهوتية واعتبار أن هذه الأرض "مملكة الشيطان" ، وأن الآخرة أحسن وأبقى. فهذه الجرعة السحرية التي اعتمدتها الكنيسة في أوروبا لإخماد أوجاع الناس وإسكاتهم دامت قرونًا طويلة دون التفكير في سبل النهوض والصحوة.

لكن مجريات الأحداث سرعان ما تغيرت بعد عام 1789، حينما امتلأت حناجر الثائرين بالمطالبة بإسقاط النظام وتصفية الحسابات، فتمت مصادرة أملاك الكنيسة، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته، واتُّخذ أهم قرار سياسي تاريخي يتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة، لتكون فرنسا في لحظة تدشينية مع أول تأسيس لجمهورية على أرضها بعد حكم ملكي دام طويلًا.

هذه التجربة العلمانية في فرنسا أكسبتها خصوصية تاريخية وثقافية في كونها حركة مضادة للدين المسيحي، وجاءت كردة فعل عنيفة على الانتهاك الذي مسّ بحرمة الذات والتلاعب بمشاعر الناس الإيمانية باسم المقدس لخدمة مصالح رجال الدين والساسة من الطبقة المخملية.

بهذا، تأسست العلمانية على جملة من المبادئ تكشف في جوهرها فصل الدين عن مهام الدولة، والأهم احترام بقية الأديان، دون أن تشكل ممارستها أيّ ضغط على الحكومة أو المجتمع، ما دامت هذه الممارسات ضمن فضاء الدولة العلمانية.

إلا أن ما نشهده على أرض الواقع يخالف كل هذه التصورات ويجرّدها من نزاهتها، خاصة ما تُكنّه فرنسا من عداءٍ للإسلام، وتعاملها معه باحتراز شديد يحتم القول بأن مشكلتها باتت مع الإسلام بالذات، لأنه أولًا يشكل تهديدًا ديموغرافيًا سكانيًا، وثانيًا لأن أوروبا لم تنسَ حتى الآن الطعنات الحادة التي نالتها في الحروب الصليبية، وفي حربها مع الإمبراطورية الإسلامية، وشنّ الأخيرة غزوات طالت مساحة واسعة من الرقعة الجغرافية في العالم.

إذن، الآن صار بالإمكان الإجابة عن سؤال: لماذا كل هذا الضغط على الإسلام في ظل نظام علماني قائم في فرنسا يشرّع كل الديانات ويختار الحياد؟

ثم إن هذا التوتر ناتج أيضًا عن ترويج مغالطات من طرف بعض الإسلاميين نتيجة تعصبهم وتشددهم، مما أدى إلى ربط الإسلام بالإرهاب، والتطرف، والقتل. فأصبح المنظور الأوروبي والعام يتجه إلى أن الإسلام دين عنف وتخلّف وتعصّب فكري، يشكل خطورة على المجتمعات الراقية والمتحضرة داخل أراضيها.

كما أن لهذا الترويج أصولًا قديمة، إذ بدأ مع أول لحظة اتصال المستشرقين بالعرب عقب الاستعمار، في محاولة للتنقيب عن حفريات وآثار الماضي العربي. فتكاثرت أبحاثهم بدافع الفضول والاستكشاف، إثر فترات الأزمنة الخانقة زمن الاستعمار، فخرج الإسلام حينها في صورة التخلف والهمجية، بينما تصدرت أوروبا المرتبة الأولى في التطور والازدهار، فظلت هذه الصورة راسخة إلى حدود اليوم.

بعد أن صارت الفجوة بين الغرب والشرق الإسلامي واضحة، وبدأت الصحوة تلامس وعي التيار الإصلاحي النهضوي، في محاولة للنهوض والبحث عن أسباب تقدم الغرب على حسابهم، كانت القوى الاستعمارية تسعى لتأصيل هوية الدين الإسلامي على أنه دين عنيف همجي يشكل تهديدًا مباشرًا لدولتها القومية العلمانية، ما نتج عنه الإسلاموفوبيا، وشنّ هجومات عدائية على المقيمين في أراضيها، ما يناقض علمانيتها ودستورها القائم على احترام التعدد وحق توفير الأمن للمواطنين مهما كانت انتماءاتهم الدينية.

***

خلود بن عبد الله

 

السياقات الثقافية المختلفة تحمل ذكريات تاريخية متباينة، في مجتمعات شهدت حروبًا أو قمعًا، يستخدم الاسترجاع لتسليط الضوء على تجارب الألم والمعاناة التي يمكن أن تعكس كيف يتذكر المجتمع أحداثًا معينة، مما يؤثر على الهوية الجماعية ،تلعب القيم الثقافية والسياقات التاريخية دورًا مهما في كيفية تفسير الاسترجاع، في الثقافات التي تركز على العائلة والروابط الاجتماعية، يُسلط الضوء على الاسترجاع الذي يعكس العلاقات العائلية والتاريخ الشخصي اما في السياقات الثقافية العامة التي تشير الى المقاومة وردود الفعل والتجارب النفسية التي يمر بها الأفراد أو الجماعات في مواجهة الضغوط والقيود التي تفرضها السلطة،  يشعر الأفراد بالخوف من العقوبات أو الانتقام، مما يؤدي إلى شعورهم بالعجز  نتيجة الفشل في تحقيق التغيير يتعزز شعور الأفراد بالإحباط وفقدان الأمل ويمكن أن تؤدي هذه الارتجاعيات النفسية إلى تغييرات في القيم والمعتقدات ويسهم في تشكيل هوية مقاومة جديدة في مواجهة القيود، اذ يلجأ الأفراد إلى أساليب جديدة للتعبير عن آرائهم في مقاومة السلطة ،تتداخل هذه الارتجاعيات مع الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة، مما يجعل فهمها أمراً معقداً ومتنوعاً ،قد يستخدم الاسترجاع لتسليط الضوء على صراعات الأفراد في مواجهة التوقعات الاجتماعية أو التاريخية يشكل  السياق الثقافي اطارا يتم من خلاله تفسير الاسترجاع، مما يؤثر على دلالاته وعمقها، هذه العلاقة المعقدة بين الثقافة والسرد تفتح آفاقًا لفهم أعمق للتجربة الإنسانية عبر الزمن.

الاسترجاع مؤلم نفسيًا

استحضار الذكريات يؤدي إلى مشاعر الحزن أو الندم أو الفقد، مثل فقدان شخص عزيز أو تجربة صادمة، تذكّر الصراعات أو القرارات الصعبة يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالذنب أو الشك، الأشخاص الذين تعرضوا لصدمات نفسية قد يشعرون بألم شديد عند استرجاع ذكريات التجارب السلبية التي تؤثر على صورة الشخص عن نفسه وتعزز مشاعر العزلة أو عدم القيمة، لذا الاسترجاع يمكن أن يكون تجربة مؤلمة نفسيًا، خاصة عند استحضار ذكريات سلبية أو صعبة التجارب المؤلمة يمكن أن تؤدي إلى مجموعة متنوعة من ردود الفعل النفسية والجسدية قد يشعر الشخص بقلق مستمر أو توتر مرتبط بالتجربة المؤلمة يمكن أن تؤدي إلى مشاعر الحزن وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية انخفاض الثقة بالنفس، يمكن أن تؤثر على ثقة الفرد بنفسه وقدرته على التعامل مع المواقف الاجتماعية.

التحيز التأكيدي

التحيز التأكيدي هو ميل الأفراد للبحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم الحالية وتجاهل ما يتعارض معها ويساعد في تعميق التمسك بالمعتقدات ، مما يمكن من إدراك كيف تؤثر هذه المعتقدات على تقييم المعلومات و يساعد في التعرف على مصادر الاسترجاع عند كتابة السرد التاريخي، استخدام الوعي لفحص المصادر والأدلة بشكل أكثر موضوعية يُعزز القدرة على التعامل مع الآراء المختلفة وتقبلها بدلاً من تجاهلها، أن السعي لتضمين وجهات نظر متنوعة بدلاً من الاعتماد على المعلومات التي تؤكد التحيز يشجع على قبول النقد البناء والملاحظات من الآخرين كما يساعد في تحسين السرد من خلال التعلم من الأخطاء وتجنب التحيزات في المستقبل ، الوعي الذاتي له دور مهم في المساهمة في تجنب التحيز التأكيدي من خلال تعزيز الفهم الشخصي، وتحفيز التفكير النقدي، والمساهمة في جعل الأفراد اكثر تقبلا لوجهات نظر متنوعة كما ويُسهم في تقديم معلومات أكثر موضوعية ودقة في السرد التاريخي . يمكن أن يؤثر التحيز التأكيدي على كيفية تذكر المجتمعات لأحداث معينة، مما يؤدي إلى سرد تاريخي قد لا يعكس الوقائع بشكل دقيق حيث يتمسك كل جانب بروايته الخاصة التي تدعم مشاعره وتجربته، فهم التحيز التأكيدي يمكن أن يساعد في معالجة التجارب المؤلمة بطريقة أكثر توازنًا وشمولية

السرديات التاريخية والارتجاع النفسي

السرديات التاريخية تستخدم الارتجاع النفسي لتقديم الشخصيات بشكل أعمق وتفسير سلوكياتهم. استخدام الارتجاع النفسي قد لا يساهم في تعزيز مصداقية السرد التاريخي التي توضح تجارب الشخصيات التاريخية التي تحاول ان  تجعل تصرفاتهم ودوافعهم أكثر منطقية ومقنعة وتوضح كيف أن الأحداث التاريخية تؤثر على الشخصيات، في محاولة لإضافة بُعدًا إنسانيًا للسرد من خلال استرجاع ذكريات معينة، و تقديم معلومات إضافية حول السياق التاريخي قد يعزز فهم القارئ للأحداث ويساعد في ربط الأحداث الحالية بتجارب اثرت في الماضي لإظهار كيف أثرت الحروب أو الكوارث على الأفراد والمجتمعات، مما يعكس الجوانب النفسية للتاريخ وتوضح كيفية تشكيل التجارب التاريخية لهوية الشخصيات، مما يعزز مصداقية رواية الأحداث واستخدام الارتجاعيات النفسية تجعل الفرد يتعاطف مع الشخصيات، مما يزيد من تفاعلهم مع النص ويجعل الأحداث التاريخية أكثر تأثيرًا ،تعكس الارتجاعيات النفسية تجارب جماعية تعيشها المجتمعات تاريخيا، مما يعزز الإحساس بالمصداقية من خلال دمج الارتجاعيات النفسية مع الأحداث التاريخية، يمكن الحفاظ على توازن بين السرد الواقعي والخيالي، مما يعزز مصداقية الوهمية للنص ، الارتجاعيات النفسية ليست مجرد تقنية سردية، بل أداة قوية لتعزيز مصداقية السرد التاريخي الوهمي  من خلال تقديم عمق إنساني وتجربة عاطفية غنية.

حدود الارتجاعيات النفسية

تؤدي الارتجاعيات النفسية إلى تحريف الأحداث التاريخية إذا لم تُستخدم بحذر، مما يضعف مصداقية السرد وفقدان الوضوح، الإفراط في الاستخدام يجعل السرد معقدًا وصعب الفهم، مما يؤدي إلى تشويش القارئ حول تسلسل الأحداث، تجاهل السياق التاريخي والتركيز المفرط على الجوانب النفسية يعزز من الطابع الشخصي على حساب التفاصيل التاريخية، مما يقلل من فعالية السرد التاريخي، الانعزال عن الأحداث التاريخية والاعتماد الكبير على الارتجاعيات النفسية يؤدي إلى إغفال السياقات الاجتماعية والسياسية الأوسع وتصوير الشخصيات بشكل مبالغ فيه مما يقلل من واقعية السرد ، تفسر الارتجاعيات النفسية بطرق متعددة من قبل القراء، مما يؤدي إلى تباين في فهم الرسالة الأصلية ،يجب أن يُستخدم التوازن الزمني والذكريات بشكل مناسب لتفادي تشتت القارئ بين الأزمنة وفقدان الأثر إذا تم الاستخدام بشكل متكرر لأنها تفقد تأثيرها العاطفي وتصبح نمطية ، يجب أن تكون الارتجاعيات النفسية أداة تدعم السرد التاريخي بدلاً من أن تكون وسيلة تشتت أو تحريف.

الخيال والارتجاعيات النفسية

يمكن للخيال أن يوسّع من فهم الأحداث التاريخية من خلال إضافة أبعاد جديدة للتجارب النفسية، مما يساعد القارئ على استيعاب العواطف والدوافع وراء القرارات ويمنح الشخصيات خلفيات غنية ومعقدة، مما يجعل الارتجاعيات النفسية أكثر واقعية ،يمكن للخيال أن يساعد في تصوير التجارب النفسية بشكل مبدع، مثل الألم أو الفرح، مما يعزز من تأثير الارتجاعيات على القارئ من خلال الخيال، ان تحويل الذاكرة الى عنصر ديناميكي يربط بين الأزمنة، يجعل الارتجاعيات النفسية أكثر تفاعلًا مع الأحداث الحالية ،كما يمكن للخيال أن يوفر تفسيرات بديلة للأحداث التاريخية، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق للأسباب النفسية وراء تصرفات الشخصيات، يساعد الخيال في جعل الشخصيات أكثر إنسانية، مما يعزز التعاطف مع تجاربهم ويزيد من مصداقية الارتجاعيات، يمكن للخيال أن يوفر خلفيات اجتماعية أو ثقافية جديدة، مما يساعد في تفسير الارتجاعيات النفسية بشكل أكثر فعالية.

دقة المعلومات التاريخية وجمالية الخيال

ان تحديد نطاق الخيال كي يكون واضحًا بشأن ما هو خيالي وما هو تاريخي، واستخدامه لتطوير الأحداث مع الالتزام بالحقائق الأساسية والتوازن في التقديم وان هذا التوازن يجب ان يكون مناسبا بينهما ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر في استكشاف العواطف ويستخدم لتجسيد المشاعر والتجارب الإنسانية، يجعل الأحداث التاريخية أكثر واقعية وجاذبية ،ان  احترام الحقائق هو احترم للشخصيات والأحداث التاريخية، وكذلك تجنب التحريف الذي يؤثر سلبًا على الفهم العام و يعزز التجربة و استخدام اللغة بأسلوب سردي يجمع بين الوضوح والجمال، ويجعل المعلومات التاريخية أكثر جاذبية ويمكن إنشاء سرد يجمع بين دقة المعلومات التاريخية وجمالية الخيال، مما يعزز من التجربة السردية ويعطي قيمة للعمل. الأشخاص الذين عاشوا تحت أنظمة قمعية قد يركزون على تجاربهم السلبية، مما يؤدي إلى تشكيل رؤية محددة عن النظام والتاريخ كذلك الأفراد من مجتمعات تعرضت للتمييز أو الإبادة قد يكون لديهم تحيز تأكيدي تجاه سرد تاريخي يدعم معاناتهم وحقوقهم، مما يعزز شعورهم بالهوية الجماعية. الأشخاص الذين عاشوا تحت أنظمة قمعية قد يركزون على تجاربهم السلبية، مما يؤدي إلى تشكيل رؤية محددة عن النظام والتاريخ كذلك الأفراد من مجتمعات تعرضت للتمييز أو الإبادة قد يكون لديهم تحيز تأكيدي تجاه سرد تاريخي يدعم معاناتهم وحقوقهم، مما يعزز شعورهم بالهوية الجماعية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

أن تكف بمحض اختيارك عن الاعتلاء والظهور، وتقيم بينك وبين الناس سياجاً كثيفا، وتحرم على نفسك أن تعبره، أو تنفذ منه، بعد أن بات وجودك في عالم الحرب، والبطش، والنكال، وجوداً أجوف لا طائل منه، ولا غناء فيه، هو أمر في الحق يتطلب منك وضوحاً تاماَ، وتمييزاَ مطلقا،  فأنت وحدك الذي قررت ألا تتفاعل في حيز الزمان والمكان، وأن تركن إلى حياة الوحدة، والسكون، والانزواء، أنت من خضعت إلى هذه النزعة الغامضة المبهمة، غير حافل بأبعاد وطبيعة العادات التي تسود في تلك البيئة، فتركيبتك الشائكة المعقدة، خالفت النظم، وخالفت نهج الأسر، وأكثرت من الوفاء والتقدير لهذه

الانطباعات الحسية التي عبثت بها، وللأفكار التي ترتبت عليها، الظنون التي جعلتك تقاوم حياة الاختلاط هذه ما وسعتك المقاومة، ألزمت نفسك التي لا بد لها من وجود شيء تبغضه وتحاربه، أن تتمرد على حياة المدينة، وعلى أحكامها العرفية التي تقتضي الامتزاج والمخالطة، وأن تؤثر حياة العزلة، لتتفرغ إلى بناء عالم الروح الذي أزرت به المدنية المعذبة البائسة.

البحث عن الذات

أنت إذن بازاء قضية عصيبة ملتوية، تسعى فيها أن تبحث عن ذاتك، التي تشعر أنها في كنف حياة التفاعل والاندماج، غير موجودة على الاطلاق، وترى من الضروري أنك حتى تتغلغل في عوالمها، وتحيط بها احاطة السوار بالمعصم، تحتاج أن تختلي بها، وتتحدث إليها، وأن تقف على الشروط الحاكمة لنظمها ومعتقداتها، وحتى تظفر منها ببعض ما تطمع فيه، يجب أن تتحرر من النظريات الشائعة، والأفكار المسبقة، التي سعت جاهدة أن تقعنك بأنك تستطيع أن تلم بماهيتها، وتستوعب جميع صفاتها وخصائصها، هذه الأفكار الجامدة، والتصورات الباهتة، التي تستحق الدحض والتقويم، تتطلب ثورة جارفة تقصيها عن عقلك، فكل المزاعم والأفكار التي تراها تتحرك أمامك، وتذهب وتجيء، لا تتصل بجوهرك من قريب أو بعيد، فأنت حتى تدرك ذاتك بصورة مباشرة، يتعين عليك أولاً، أن تتيقن أن النفس البشرية، ليست هي في الحق "وحِدة" متماسكة، خاضعة لقوانين انسجام أزلية، كلا فالنفس البشرية هي الشيء الوحيد الذي لا يخضع لضروب الحدس، ولا يستطيع باحث أو عالم مهما بلغ شأوه، أن يتاح له وسط تناقضاتها العديدة المترفة، أن يقف على جميع صورها وأشكالها.

عناصر الذات: العقل والحس

إن البداية الفجة في طريق معرفة الذات، نمط التفكير الذي ينتهي إلى ما انتهى إليه أصحاب الحدس والشعور، فهناك من حصر سبر أغوار النفس، في خانة الحدس الخالص، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أننا لا نستطيع أن نزعم أن الحدس وحده هو الذي يقدر أن يعرف انفعالات النفس، ويحسن تعريفها، لقد نسي هؤلاء حقيقة أساسية، وهي خلاف المجموعة الضخمة من المعطايات الحسية، توجد المعرفة التي ترتبط بالطفل الغرير منذ نشأته، فالأسس اليقينية التي يكتسبها الإنسان عبر مدار حياته ،مردها الاستدلال والتأويل، القائم على التجانس بين الذاكرة، والتجربة، والخبرات التراكمية، وكلها تستوجب عقلاً نابهاً يستطيع أن يحلل، ويقارن، ويتدبر، ويعرف الأشياء على حقيقتها.

نحن إذن لا نتردد في اتخاذ هذا النحو، فالشيء المتصل والمستطيل واللامع عندنا، أن الذات التي ننهض بأثقالها، ونجاهد في سبيلها، ليس الإدراك الحسي وحده هو الذي يفسر لنا طبيعتها المعوجة، فنحن لا نستطيع أن ندقق في طبيعة اضطرابها وهيجانها، ونصدر عليه أحكامنا، إلا إذا قسنا هذا الهيجان والاضطراب بمجسات الحس، وجهد العقول.

***

د. الطيب النقر

 

توطئة: يشهد العالم المعاصر ظاهرة متسارعة تتسم بارتفاع غير مسبوق في كثافة الاتصال الرقمي. تبدو هذه الظاهرة في ظاهرها علامة على اقتراب البشر من بعضهم البعض، واتساع نطاق التفاعل والتواصل بين الأفراد على امتداد الجغرافيا. غير أن النظرة المتأنية إلى النتائج النفسية والاجتماعية لهذا التوسع تكشف عن مسار موازٍ ينمو بصمت: شعور متصاعد بالوحدة، وتفتت داخلي في الخبرة الوجدانية للفرد، وضعف متزايد في قدرة الإنسان على استشعار الحضور الحقيقي للآخرين.

هذا المفارقة، بين ما هو ظاهر من التواصل الرقمي وما هو باطن من العزلة الشعورية، هي ما تدفعنا إلى التفكير مجددًا في بنية الاتصال المعاصر. فالعزلة هنا لا تبدو وليدة غياب العلاقة، وإنما نتاج وجود علاقة مشوّهة تُبنى على أرضية تقنية مصممة وفق منطق اقتصادي قائم على مراقبة السلوك الإنساني وتوجيهه. وهذا ما يستدعي استحضار المنهج التفكيكي بوصفه أداة فلسفية تسعى إلى كشف البنية الخطابية التي تُنتج هذا الشكل الجديد من العزلة، وتتبع المسارات التي يُعاد من خلالها تشكيل التجربة الإنسانية في ظل منظومة اقتصادية-رقمية متكاملة.

المناقشة

يتأسس الاقتصاد الرقمي الراهن على مبدأ جوهري يتمثل في جذب الانتباه، وتحويله إلى مورد اقتصادي قابل للاستهلاك. ولكي يتحقق هذا الهدف، تُصمم المنصات الرقمية بطريقة تجعل المستخدم في حالة تفاعل دائم مع تدفق مستمر للمحتوى، وإشعارات متلاحقة، وخوارزميات مدروسة تدفعه إلى العودة والتكرار دون توقف. هذه الحالة لا تسمح للذات بالتوقف والتأمل، إنما تُبقيها في حركة دائمة، تستهلك الوقت والطاقة الذهنية والعاطفية.

في هذا السياق، التجربة الرقمية تتحول إلى مجال يعاد فيه تشكيل الإدراك. الجسد، بما هو وسيط أولي للوجود في العالم، يفقد حضوره الفاعل. لم تعد اليد التي تلامس الشاشة تشعر بحرارة الآخر، ولم تعد العين تنظر لتدرك العمق؛ تمرّ الصور والمقاطع في مخيلتنا بين الحقيقي والافتراضي. ومع هذا التراجع في الحضور الجسدي، يتراجع أيضًا الإحساس بالزمن كاستمرارية. تصبح اللحظة مقطوعة، موزعة على إشعارات، وردود، وتحديثات معلوماتية وإخبارية، تُفقد التجربة الزمنية الآنية الأصدق والأحق وحدتها الداخلية.

تشير الدراسات الميدانية الحديثة، ومنها ما أجرته الباحثة شيري توركل، إلى أن غالبية المستخدمين يشعرون بفراغ داخلي بعد فترات طويلة من التفاعل الرقمي. هذا الفراغ لا ينتج عن الاستخدام السطحي أو الخاطئ، بل عن التصميم البنيوي للمنصات التي تعتمد على تأجيل الإشباع العاطفي، وإبقاء المستخدم في حالة دائمة من الترقب والانتباه. يتم هنا استدعاء مفهوم «الإرجاء» كما صاغه جاك دريدا، وهو عملية يتأجل فيها المعنى باستمرار، ويظل الحضور ناقصًا، غير مكتمل. المنصات الرقمية تفعل الشيء ذاته مع العاطفة، حيث لا يتحقق الامتلاء، إنما يُعاد تدوير النقص كي يظل المستخدم في حركة مستمرة نحو وعد لا يتحقق.

من جهة أخرى، لا تتوقف البنية الرقمية عند تشكيل الذات، بل تمتد إلى ابتلاع كل أشكال المقاومة. النقد الذي يوجَّه إلى هذه المنصات، والتطبيقات التي تدّعي تقنين الاستخدام الرقمي أو الحد من الإدمان، تتحول بسرعة إلى منتجات استهلاكية، يُعاد تسويقها ضمن نفس البنية التي نشأت فيها. حتى لحظة الانسحاب أو التأمل تُعاد صياغتها ضمن الاقتصاد الرقمي، مما يجعل من الصعب التمييز بين الفعل الناقد والفعل الممتثل.

النتائج

تُظهر هذه الظواهر نتائج ثلاث يمكن الوقوف عندها:

أولًا، أن الاتصال الرقمي لا يقود بالضرورة إلى تقارب إنساني، بل قد يُنتج شكلاً جديدًا من العزلة، عزلة تتأسس على التفاعل المتكرر الخالي من العمق.

ثانيًا، أن الخوارزميات والتصاميم التقنية لا تعمل في فراغ، هي تتجذر في خطاب أيديولوجي يعيد تشكيل الزمن، والعاطفة، والعلاقة، و يؤطرها وفق منطق السوق.

وثالثًا، أن محاولات المقاومة الفردية، ما لم تتأسس على وعي نقدي بالبنية الكلية، قد تُستوعب بسهولة وتُعاد تدويرها، مما يتطلب إعادة التفكير في أشكال التنظيم والتأمل الجماعي القادرة على استعادة معنى الحضور، والزمن الحي، والجسد الفاعل.

الخاتمة

هناك حاجة ملحة وجودية لوعي جمعي فلسفي يضع الإنسان من جديد في مركز التجربة. وعي يستدعي الإرث التفكيكي، بوصفه تراثًا يتجاوز النظرية إلى مساحة كشفية للإنصات لما صمتت عنه الخطابات التقنية، ولفهم ما لم يُعلن في صميم تصميمها. بهذه الروح وحدها يمكننا أن نتقدم نحو علاقة رقمية تعزز الحضور وتفتحه على إمكانات أوسع للمعنى، والاتصال، والتجربة المشتركة.

***

خالد اليماني

قراءة نقدية في بنية الأسئلة وإشكالاتها

(أولاً وقبل كل شيء، يجب أن تعرف كيف تطرح المشكلات. ومهما قيل [...] فالمشاكل لا تنشأ من تلقاء نفسها)... غاستون باشلار

فرش إشكالي

يثير امتحان الفلسفة في البكالوريا - لدى الدول التي تتسم بتقاليد فلسفية عريقة وراسخة - نقاشًا عموميًا واسعًا يشارك فيه الفلاسفة والمفكرون بل وحتى السياسيون. يعكس هذا التقليد المكانة الرمزية التي تحتلها الفلسفة كفضاء للتفكير الحر والمساءلة النقدية، ليس في جانبها الأكاديمي فحسب، بل في أبعادها الوجودية والقيمية. ذلك ان امتحان الفلسفة في البكالوريا، لا يجب اختزاله في مجرد تمرين تقويمي، بل هو في جوهره ممارسة ديمقراطية تُختبر فيها قدرة المجتمع على إنتاج السؤال الحر، وقدرة المنظومة التربوية على صون الاستقلالية الفكرية لما نطلق عليه مصطلح "المواطن الحر والمسؤول". مواطن يفكر بعقلانية ويتقبل الاخر المخالف له بغيرية كريمة.

لكن المشهد يختلف جذريًا في السياق الجزائري، فأسئلة بكالوريا 2025 في مادة الفلسفة (خاصةً في شعبة آداب وفلسفة، وبدرجة أقل في شعبة اللغات الأجنبية) لم تُثِر نقاشًا فكريًا، بل خلَّفت صدمةً نفسية جماعية تحولت إلى موجة إحباط وعنف لفظي موجَّه نحو الأساتذة. وهنا يبرز سؤال مركزي: لماذا فشل الامتحان في أن يكون مناسبةً للمساءلة النقدية، وتحول إلى فضاء للتفريغ العاطفي؟ أليس هذا التحول دليلاً على أزمة بنيوية في تعليم الفلسفة في بلادنا؟ أزمة لا تقتصر على صعوبة الأسئلة أو غموضها، بل تتجاوز ذلك إلى غياب ثقافة النقد المؤسساتي، واستبدال الحوار العقلاني بلغة التهم المتبادلة.

إن جوهر المشكلة لا يكمن في ردود الأفعال العاطفية للتلاميذ، ولا في النكت السلبية والتعليقات التهكمية التي يتبادلها بعض الأساتذة، ولا في شعار "أنا ضد امتحان الفلسفة الذي يخالف المقالات المتوقعة إذن أنا موجود" التي يروج لها بعض السذج من الدخلاء على تدريس الفلسفة او المنتسبين إلى السياسة ممن يعانون من عطب فكري ويفتقرون إلى ملكة النقد. بل تكمن المشكلة في السياق التربوي الذي يحوّل الامتحان من أداة للتقييم إلى مصدر للقلق بدلاً من أن يكون فرصة للتأمل. فبينما يُنظر إلى الامتحان الفلسفي في الدول ذات التقاليد الفلسفية على أنه "مختبر للأفكار"، فإنه يتحول عندنا إلى "محكمة إقصاء" تعاقب غياب التلميذ ولا تُقيِّم أفكاره. تفضح عجز الأستاذ عن احتواء تلامذته داخل الثانوية وتضعه لوحده في قفص الاتهام.... هذا الاختلاف الجوهري يُظهر أن الإشكال ليس تقنيًا (كيف نُصمِّم الأسئلة؟) بل هو إشكال ثقافي وسياسي: فأي نموذج للعقلانية نريد ترسيخه عبر نماذج امتحانات الفلسفة؟ وهل نطمح إلى فلسفة تحرر العقول، أم إلى فلسفة تُدجنها تحت شعارات جوفاء؟

تحاول هذه الورقة تحليل هذا الانزياح من النقد إلى العاطفة، ليس من خلال تبني الخطاب الانفعالي، بل عبر مساءلة الشروط الهيكلية التي حوَّلت الامتحان من فعل فلسفي (على حد تعبير فوكو) إلى أزمة نفسية-اجتماعية.

في الواقع، لا تدَّعي هذه المقالة أنها دراسة في "ديداكتيك الفلسفة" بمعناها الأكاديمي، ولا هي "تقويم تربوي" بالمعنى الدقيق (الذي يقوم على جمع البيانات وتحليلها لقياس مدى تحقق الأهداف التعليمية). بل هي قراءة نقدية تحاول تفكيك المضامين الفلسفية لمواضيع البكالوريا 2025، ومساءلة مدى اتساقها مع:

- المنهاج الرسمي ودليل بناء الاختبارات

- المقاربة بالكفايات التي تؤكد على بناء القدرات النقدية عوضًا عن الترديد

- العدالة البيداغوجية عبر مراعاة الفروق الفردية ومستويات التلاميذ

وهنا نطرح التساؤلات التالية:

- هل نجحت المواضيع المقدمة في قياس الكفايات الفلسفية (كالتحليل والنقد والمقارنة...) أم أنها كرَّست منطق الأجوبة الجاهزة، فحولت الامتحان إلى مجرد استدعاء لـمقالات مستنسخة معدَّة سلفًا؟

- ما مدى التزام النصوص المختارة بالمشكلات الفلسفية الحقيقية التي تنمي الفكر، بدلاً من أن تكون نصوصًا مُفرغة من الإشكالية؟

- هل ساهمت هذه المواضيع في تحرير التلميذ من هيمنة الدرس الخصوصي والتبعية للأستاذ، أم أنها أعادت إنتاج منطق التبعية عبر صيغ نمطية يمكن "حشوها" دون فهم؟

- لماذا تم إقصاء منهجية الاستقصاء (بالرفع أو النقد) من الامتحان، رغم أنها الأقرب إلى روح الفلسفة النقدية؟ وما مبرر تغييب المقالة المقارنة في الشعبة الأدبية؟

- هل النصوص المختارة مناسبة لمستوى "التلميذ المتوسط"، أم أنها تكرس فجوة بين المضمون الفلسفي العميق وضعف الأدوات اللغوية والمعرفية لدى التلاميذ؟

- ما الجدوى من تضمين المنهاج محاور وموارد معرفية لا حضور لها في الامتحان، مما يُربك الأستاذ ويحمله مسؤولية لا تتسق مع الغاية المعلنة؟

من التفسير والتبرير الى النقد والتقييم

أولا: الموضوع الثاني شعبة آداب وفلسفة:

يرى بول ريكور:" أن التحليل النفسي أقرب إلى التأويل منه إلى العلم" – دافع عن هذه الأطروحة.

تحليل الشكل والمضمون:

يُعتبر السؤال صياغةً مقبولةً من حيث الشكل، إذ يستوفي شروطَ المقال الاستقصائي الذي يقيس كفاءةَ الدفاع عن موقفٍ بالبرهنة. ومنطوقه حسب ما يفرضه منطق العبارة يحيل إلى إشكاليةٍ فلسفيةٍ تتعلق بطبيعة التحليل النفسي: هل هو علمٌ أم تأويل؟

وبالعودة إلى كتاب "فرويد والفلسفة" (1965)، او الفصل المعنون من التحليل النفسي إلى سؤال الذات، - ثلاثون عامًا من العمل الفلسفي- وهو جزء من كتاب حوارات النقد والاقتناع مع بول ريكور؛ فرانسوا أزوفي؛ مارك بي دي لوناي . نجد أن العبارة الواردة في نص السؤال تتعارض مع رؤية بول ريكور للأسباب التالية:

أ. وجود أخطاء في الصياغة:

1. الاختزال: المقولة الواردة في السؤال حولت رؤية ريكور إلى مقارنة كمية من خلال عبارة ("أقرب إلى")، بينما هو يرفض هذه الثنائية أساسًا التي تفصل بين التأويل والعلم.

2. التحيز: افتراض أن التأويل نقيض العلم، في حين أن ريكور يطرح "العلم التأويلي" كتصورٍ ثالثٍ يتجاوز هذا الانقسام بين النظرة العلمية والفهم الفلسفي.

3. التجاهل: إغفال مصطلحه المحوري "العلم التأويلي"، الذي يجمع بين المنهجية الصارمة وفهم المعنى.

ب. ريكور يمثل رؤية تركيبية

فهو لا يرى التحليل النفسي لا كـ"علم طبيعي" (بالمعنى الوضعي) ولا كـ"تأويل أدبي"، بل كـممارسة تأويلية مؤسسة علميًا، تتميز بـمعايير علمية خاصة: من حيث ان له منهجية صارمة (التداعي الحر، تحليل الاعراض العصابية ).ولكونه يشتمل على نظرية متماسكة (الهو، الأنا، الأنا الأعلى)ويمتلك القدرة على إنتاج معرفة قابلة للتطوير.

وبالتالي نصل الى ان المقولة تفتقر الى الدقة لان العبارة تخلق وهما لدى الطالب بأن ريكور ينفي العلمية عن التحليل النفسي، بينما هو في الحقيقة:

- يرفض النموذج الوضعي للعلم (الفيزياء/الكيمياء) فقط.

- يقترح نموذجًا بديلًا للعلمية في العلوم الإنسانية، قائمًا على:

- فك الشفرات الرمزية (كما في التاريخ أو الأنثروبولوجيا)

- البناء السردي (إعادة صياغة التجربة الإنسانية). وبالمحصلة المقولة تُخفي إسهام ريكور الرئيسي الذي اشتغل على تجاوز ثنائية "علم vs تأويل" وتتجاهل مفهومه عن "التأويل العلمي" الذي يرفض الاختيار بين المنظورين.وتُبسِّط موقفًا فلسفيًا معقدًا إلى مقارنةٍ كميّةٍ غير ذات معنى.

- بالعودة الى تدرجات الفلسفة في محور الشعور واللاشعور نجد من حيث الموارد المعرفية عنصرين هما: نظرية التحليل النفسي والحياة النفسية، اللاشعور بين الحقيقة العلمية والتصور الفلسفي ويقتضي السير المنهجي المرور الى هذا التساؤل: هل لمكبوتاتنا النفسية دخل في تحديدا مدركاتنا؟ وهذه العناصر الثلاثة لا تساعد على معالجة المشكلة التي يثيرها نص السؤال وربما كان من الاصوب ادراج هذا السؤال (هل لمكبوتاتنا النفسية دخل في تحديدا مدركاتنا؟) ضمن مواضيع البكالوريا لانه يتوفر على الخصوبة الفلسفية

الموضوع الأول: "هل الفعل الأخلاقي هو امتثال لسلطة العقل فحسب؟"

- تفكيك البنية المفاهيمية للسؤال:

أ- الأداة الاستفهامية "هل": تشير إلى طبيعة الإشكال المطروح الذي يتطلب حلا جدليا، حيث تفتح المجال أمام احتمالين متعارضين: التأسيس العقلي المحض للأخلاق من جهة، وإمكانية وجود مصادر أخرى للفعل الأخلاقي من جهة أخرى.

ب- المفهوم المحوري "الفعل الأخلاقي": يحيل إلى السلوك الإنساني الخاضع للحكم القيمي، والذي يشكل موضوع الدراسة الجوهرية للفلسفة العملية. يتضمن هذا المفهوم إشكالية التمييز بين:

- البعد المعياري (ما ينبغي أن يكون)

- والبعد الوصفي (ما هو كائن)

ج- مصطلح "سلطة العقل": يحتاج إلى تحليل دقيق بسبب حمولته الإشكالية:

- من الناحية الاشتقاقية: يعود الجذر (س ل ط) إلى معاني القهر والغلبة (ابن فارس، مقاييس اللغة)

- في الاستعمال الفلسفي: يشير إلى ثنائية إشكالية بين:

- العقل كمشرّع ذاتي (كانط)

- والعقل كسلطة خارجية (في التصورات الدوغمائية)

نقد الصياغة الاصطلاحية: اذا كان المقصود بالسؤال هو توظيف المذهب العقلي في الاخلاق ( افلاطون، كانط ....) فانه يجب الإشارة الى ان كانط لم يستخدم مصطلح "سلطة العقل" بالمعنى الحرفي في كتاباته الأخلاقية، بل تحدث عن:

- سيادة العقل، الأمر المطلق، الإرادة الخيّرة كمشرّع ذاتي للأخلاق..... ومصطلح "سلطة العقل" يُشكل تناقضا في فلسفة كانط، لان الأخلاق الكانطية تقوم على استقلالية الإرادة (Autonomie)، حيث الفعل الأخلاقي ليس خضوعًا لسلطة خارجية (حتى لو كانت العقل)، بل هو تشريع ذاتي من خلال الإرادة الخيرة والعقل ليس "سُلطة" بل "مشرّع داخلي" ففي "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"، يؤكد كانط أن القانون الأخلاقي يصدر من الإرادة العاقلة نفسها، لا من سلطة مفارقة. ومن ثمة اللغة الكانطية الدقيقة:تستخدم مصطلحات مثل:

- "حكم العقل" (Urteil der Vernunft)

- "قانون العقل" (Gesetz der Vernunft)

- "ضرورة عقلية" (Notwendigkeit der Vernunft).

هذه المصطلحات تُظهر أن العقل يُوجّه ولا يُسيطر.

كذلك لم يستخدم سقراط مصطلح "سلطة" بالمعنى السياسي أو الإكراهي، لكنه طرح فكرة "حكم العقل" كمرجعية أخلاقية:ففي حوارات أفلاطون ( مثل دفاع سقراط وجورجياس )، يؤكد سقراط أن الفضيلة معرفة، وأن الشر ينبع من الجهل.فالعقل هنا ليس "سلطة" بالمعنى الاستبدادي، بل "قوة إرشادية" تكتشف الحقائق الأخلاقية عبر الحوار .

في "الجمهورية أفلاطون يتحدث عن "هيمنة طبيعية" للعقل كجزء من تناغم النفس، لا عن "سلطة" بمعنى القسر.، يصف أفلاطون العقل كجزء من النفس "يحكم" الجزأين الآخرين (القوة الغضبية والقوة الشهوانية)، لكنه يستخدم مصطلحات مثل:

- "القيادة: أي توجيه العقل للرغبات، لا قمعها.

- "العدالة: كتوازن تحققه حكمة العقل.

- في "فيدون"، يشبّه العقل "سائق العجلة" الذي يضبط الخيل (الرغبات)، لكن هذا تشبيه بـ"توجيه" لا بـ"قهر".

- - نلاحظ ان هذه الصياغة مستهلكة فقد ورد مايتطابق معها في بكالوريا 2020 (هل تستند الاخلاق في مرجعيتها الى المجتمع فقط؟) وكان من الحكمة الانفتاح على تساؤلات أخرى اكثر عمقا من قبيل:( هل يجدر بالإنسان أن يكون فاضلاً حتى ولو كان ذلك سببًا في شقائه؟)، هل يمكن أن تكون الرأسمالية أخلاقية؟ هل تؤدي العولمة الاقتصادية إلى تفكك الروابط الأسرية؟

- نسجل أيضا ان المخطط الجدلي (أطروحة،نقيضها، التركيب ) نمطي مستهلك وكان ينبغي، مراعاة الجدّة والإبداع في وضع مخططات أخرى كما هو معمول به في دول كثيرة . والمخطط الجدلي في صورته الحالية تعرض لانتقادات كثيرة لانه اسقاط تعسفي لصيغ جاهزة والمترشحون يرون فيه حلا سهلا ومغريا إما بالحفظ او الغش ...

الموضوع الثالث: (النص):

1- الشكل:

- النص المقترح سواء في إخراجه أو تقديمه لا يلتزم بمقاييس انتقاء النصوص الفلسفية: كتوظيف تقنيات الكتابة بحيث يحترم الرجوع إلى السطر، وتحدد الفقرات بحيث تكون وظيفية، وتشكل كل الكلمات بالضرورة، وتشرح المستغلقات منها عند الضرورة .

- ومع ذلك، النص مقبول من حيث الحجم واللغة والترجمة.

2- المضمون:

- النص يركز على السرد التاريخي لتحوّل علم النفس أكثر من كونه يُثير إشكالية فلسفية قابلة للنقاش (مثل: هل يمكن دراسة الحادثة النفسية دراسة علمية؟ كيف تجاوز العوائق التي تطرحها الظاهرة النفسية؟). بحكم ان النص يفترض ان له علاقة بمحور العلوم الإنسانية وتحديدا الظاهرة النفسية من حيث (خصائصها –العوائق التي تطرحها– تجاوز العوائق من خلال تعدد المناهج وتكييف التجربة).

- يُشبه النص نصاً تاريخياً أو علمياً أكثر منه فلسفياً، لأنه يصف وقائع دون طرح تساؤلات نقدية مما افقده البعد الإشكالي:

- هذا النص يُجيب أكثر مما يُسائل، مما يحدّ من قدرة الطالب على تقديم تحليل فلسفي عميق.

- يفتقر الى الدقة في ذكر تاريخ تدشين فونت لأول مختبر في علم النفس حيث ربطه بسنة 1875 والاصح هو ان التاريخ الرسمي المُعترف به دوليًا لتأسيس أول مختبر مخصص لعلم النفس التجريبي هو 1897وهذا ما أكده فونت في مذكراته:" عندما انتقل المعهد إلى مبناه الجديد في خريف عام 1879، تم اتخاذ جميع الاستعدادات لبدء العمل والتدريبات على الفور. يعمل مختبر علم النفس التجريبي، الذي لا يزال موجودًا حتى اليوم، في هذه المباني منذ ذلك الحين. يتكون من أربع غرف كبيرة وعشر غرف أصغر. إلى جانب مكتب المدير ومكتبي المساعدين، يضمّ المركز جناحًا من الغرف المطلة على الجنوب، مُخصّصًا للأبحاث البصرية، بينما يُخصّص جناح آخر مُطلّ على الفناء، مُحميّ من الضوضاء الخارجية بنوافذ مزدوجة، لأغراض أخرى. كما تتوفر قاعة قراءة واسعة وورشة ميكانيكية صغيرة كغرف مساعدة. وتُكمّل هذه المرافق غرفة تحميض بجدران وأثاث مطليّين باللون الأسود، وغرفة هادئة، مبنيّة بجدران مزدوجة "

حيث:

- تم الاعتراف بالمختبر من قبل الجامعة.

- نُشرت أبحاث فونت بشكل منهجي (مثل دراساته عن الزمن العقلي والإدراك).

- بدأ قبول طلاب رسميين (مثل إدوارد تيتشنر، الذي نقل الأفكار إلى أمريكا).

- التواريخ في التاريخ العلمي ليست مجرد أرقام، بل تعكس مراحل تطور المنهجية

وإغفال هذا الفرق قد يُضعف مصداقية النص أمام القارئ المتمكن.

- المصادر الموثوقة:

- موسوعة بريتانيكا

- كتاب "تاريخ علم النفس" لـ إدوين بورينغ (Boring, 1929).

- لم يكن فونت "وحده" سبب الاستقلال: يقول في مذكراته:" لطالما اعتبرتُ منحةً خاصة من القدر أن أُتيحت لي فرصة لقاء الرجلين اللذين أثّر عملهما في دراساتي النفسية في لايبزيغ أكثر من أي شخص آخر أستطيع ذكره: إرنست هاينريش فيبر وغوستاف ثيودور فيشنر. لقد تمكنتُ من التواصل مع فيشنر لعدة سنوات. تذكرتُ بامتنان ساعات هذا التفاعل التي لا تُنسى في خطابي الذي ألقيته نيابةً عن جمعية العلوم الساكسونية في 11 مايو 1901، في الذكرى المئوية لميلاده (خطب ومقالات، ص 254 وما بعدها). أطلق فيشنر، الذي كان أصغر منه ببضع سنوات، على إرنست هاينريش فيبر لقب "أبو علم النفس الفيزيائي". أشك في ذلك. هذا الاسم مناسب. مُبتكر علم النفس الفيزيائي هو في كل الأحوال فيشنر نفسه. لكنني أُفضّل أن أُطلق على ويبر لقب أبو علم النفس التجريبي. من وجهة نظر علم النفس المعاصر، هذا أبعد من ذلك بكثير، ولكنه في كل الأحوال شيء مختلف تمامًا. إن إنجاز ويبر العظيم هو أنه كان أول من استوعب وطبق فكرة قياس الكميات النفسية وإقامة علاقات دقيقة بينها"

- الحديث عن معمل فونت التجريبي واستخدامه للأجهزة العلمية دون الإشارة إلى منهج الاستبطان يُعدّ قصورًا جوهريًا في فهم وإيصال حقيقة إسهاماته لان الاستبطان هو "العمود الفقري" لمنهج فونت واستخدام الأجهزة في مختبره لم يكن غايةً في حد ذاته، بل وسيلة لـ ضبط الاستبطان وجعله علميًا. وإغفال الاستبطان يُوحي بأن فونت كان سلوكيًا (وهو خطأ تاريخي).

-  فونت نشر أبحاثه في سلسلة مستقلة بعنوان "دراسات فلسفية" (1883-1902)وسبب هذا الاختيار:

01- احتواء بعض الأبحاث على أسس نظرية فلسفية

02- الرغبة في تأكيد ان علم النفس الجديد لا يمكن فصله فصلا مطلقا عن الفلسفة فهو علم ذو بعد فلسفي

03- الرد على منتقدين وصفوا علم النفس التجريبي بـ"المادية القديمة"

وعليه يجب التأكيد على النص الفلسفي المتميز له خصوصيات تميزه قياسا بالنص العلمي او الادبي مثلا، نص يجب أن يقرأه التلميذ بعناية ويولي اهتمامًا ليس فقط لما يقوله، ولكن أيضًا لما لا يقوله. وبالتالي، يمكن قياس المسار المتخذ عند تحليله بين القراءة الأولية غير النقدية والقراءة المستنيرة، ويجب علينا أن ندرك أن النص ليس أمرًا مسلمًا به بل مشكلة لذلك يجب على النص في شهادة البكالوريا ان تكون: لديه قوة التوضيح والتساؤل، وقوة المعرفة، وكذلك قوة النقد التي تشكل الفكر. نص يربط التلميذ بتاريخ الفلسفة وتاريخ الأفكار بقطع النظر عن كاتبه. ففي الفلسفة تكون المشكلة مخفية، مُغلّفة ببيان الموضوع: وحدها قراءته الصحيحة والدقيقة (التي تُعدّ في الأصل تفسيرًا، ومنحًا للمعنى) تُمكّن المرء من الانتقال من الموضوع إلى المشكلة.

من هنا يُمكننا استنتاج أن الطلاب أقلّ ميلًا للانخراط في أسئلة عامة ومُجرّدة، لا معنى لها بالنسبة لهم لعدم القدرة على الإجابة عليها؛ أسئلة، علاوة على ذلك، لا تفرضها الحياة نفسها، أو ضجيج العالم وغضبه، بل في إطار منهج دراسي مُكتمل بمنظور الامتحان والتقييم. وعليه لابد من الانفتاح على طرق جديدة وتساؤلات ونصوص تتضمن مشكلات يشعر الطالب بطريقة ما بأنه تلامس واقعه متجاوزًا موقف المُشاهد المُنعزل.

ملاحظة

تم التركيز على شعبة اداب وفلسفة كنموذج اما باقي الشعب فهي لاتزال تحت رحمة الأسئلة النمطية المكررة وقد أشرنا الى هذا المأزق في مقالات سابقة.

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة

في قصيدته "الخطوب الخلّاقة" عام 1967 كان الجواهري يمارسُ ضربًا من الجلدِ للذات العربية، تلك الذات المخذولة أو المتخاذلة – كلاهما الشيء نفسه – إزاءَ عدوٍّ لم يكن قويًّا إلا بسبب ضعف الدول العربية أمام الكيان الصهيوني الذي تمادى في طغيانه؛ فلذلك أراد أنْ ينتهز فرصة التصدِّي الشجاع للزعيم الراحل جمال عبد الناصر في وقوفه بوجه ذلك العدوان، أنْ يسبر تلك النفسَ المتخاذلة، بوقوفها على الحياد من الصراع الدائر آنذاك بين الكيان الغاصب وآخر جبهات التصدِّي لذلك العدوان الغاشم، فيطلبُ من أوَّل بيتٍ في القصيدة أنْ تأتي الطوارق بأحداثها الجسام لتكشف ما تخبّئه النفوس، بقوله:

دعِ الطوارقَ كالأتّونِ تحتدمُ

وخلِّها كحبيكِ النُسجِ تلتحمُ

**

وخُذ مكانكَ منها غير مكترثٍ

دهدى بك الموجُ أو علّتْ بك القِممُ

**

كفاكَ والخطبُ فخرًا أنْ تُصارِعَهُ

إنَّ المُصارعَ أنّى صارَ محتَرَمُ

والأبيات لا تُخفي ما يُضمرُهُ الشاعر من نفَسٍ ثوريٍّ يدعوهُ للمُضيِّ قُدُمًا في مقابلة الطوارق/ الخطوب بجأشٍ ثابتٍ، وكأنَّ القدَرَ لا يتغيرُ في النأي عن مواجهة ذلك الخطبِ الذي من شأنهِ الاستبداد أكثرَ وأكثرَ من دون رادعٍ يقفُ بوجهه، فلا بُدَّ من اتّخاذ الموقف الحازم في منازلة ذلك الخطب، ومصارعة ذلك الخطبِ في كلِّ الأحوال تُعدُّ مرتبةً من مراتب الشرفِ والاحترام؛ وذلك لأصالة المبدأ الذي ينطلقُ منه ذلك المُصارِع. ومثلُ هذه النتيجة التي يضعها الجواهريُّ أمامنا، يقدِّم لنا استدلالاً آخر يُعربُ من خلاله عن المنزلة الرفيعة التي ينالها من يتصدّى لدرء خطر ذلك الخطب، وذلك في قوله:

ومثلَ بلواكَ في غمّى تدافُعها

تكونُ عقباكَ إذ تُستكشفُ الغُمَمُ

بمعنى أنّ بمقدار عظيم الابتلاء الذي يقع على الفرد أو الجماعة في تصدِّيها لدفع الشدّة عنها، تكون النتيجةُ عظيمةً، وهذا المعنى مستفادٌ من أحاديث وأشعار، منها قول أحدهم في مدح الإمام علي: "وبِمقدارِ ما حباهُ ابتلاهُ" وكلُّ ذلك يُدلِّل على منطقٍ طبيعيٍّ للسلوك البشري في كل الأحوال، وليس هنالك مطامحَ ينالها الفردُ أو الجماعة تأتي من دون جهودٍ تُبذل في تحقيق نيل تلكم الطموح. ومن هذا المنطق، يستمدُّ الشاعر صورة الصبح الذي لا يأتي إلا بعد ليلٍ طويل، وذلك في قوله:

تعسّرَ الصبحُ واستعصتْ ولادتُهُ

حتى تشابكتِ الأنوارُ والظُلَمُ

أو في قوله مُباركًا نزول الخطبِ الجلل بوصفه ابتلاءً يكشفُ خبايا النفوس من جواهر ثمينة أو معادن رخيصة، بما ينعكس من تلكم النفوس من سلوكيات تنكشف عمَليًا عبر ذلك الابتلاء:

تباركَ الخطبُ تبلوهُ وتحصدُهُ

إنَّ الخُطوبَ إذا ما استُثمِرتْ نِعَمُ

وهذه المُباركةُ للخطبِ في حقيقتها ليس لذات الخطب، وإنما لما يُنتِجهُ ويكشفهُ من نوازع لا تظهر إلا بعد وقوع الخطب، ومن هذه الزاوية تُعد الرزيّة/ الخطب نعمة في حال استثمارها وبيان حقائق تلكم النوازع. وهذا المعنى مستفادٌ أيضًا مما قاله الشافعي في المنسوب إليه من شعر، وهو:

جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي

**

وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن

عرفتُ بها عدوي من صديقي

ولا يكتفي الشاعر بالخروج من هذه المقدِّمات التي تُبرهنُ للقارئ أو المستمع، ما لهذه الخطوب من منافع تكشف صدقَ الادّعاءات من شعارات أو مبادئ، ومن ترجمةٍ عمليةٍ لها في الواقع الذي تنزل فيه تلك الشدائد، فيستعيرُ لنا صورة عود البَخور الذي لا يُطلق عبق رائحته الزكية، إلا بعد الاحتراق، وذلك في قوله:

عودُ الرجالِ بكفِّ الخطبِ يُعجمُهُ

كالمَندلِ الرطبِ يذكو حين يضطرمُ

وفي هذه الصورة الاستعارية، يجعل الشاعر من الخطبِ رجلاً بلازمة كونه يعجم " العود، وحذف المشبه وأبقى تلك اللازمة، ومعلومٌ أنَّ عجم العود هو عضُّهُ ليُعلَمَ صلابتُهُ من خَوَرِه، ومن هذا المعنى قول أبي الطيب المتنبي:

إنّ نُيُوبَ الزّمَانِ تَعْرِفُني

أنَا الذي طالَ عَجْمُها عُودي

والمراد بذلك أنَّه مثلما يكشف ذلك العضُّ للعود لصاحبه من قوّةٍ أو ضعفٍ لذلك العود، كذلك الرجال، لا ينكشف عودُهُم إلا من خلال تمرُّسهم بتلك الخطوب وصبرهم عليها، أو كعود البخور الذي لا يُعطيك عبقه إلا بعد اضطرامه بالنار.

ثم بعد تلكم المقدِّمات الحِجاجية التي وضعها لمن يفترض به الشاعر إنكار ما للخطوب من أثرٍ إيجابيٍّ على الفرد أو الجماعة، يتوجّه إلى مخاطبه، فيُطالبُه بخوض الكوارث، وهي تسميةٌ أخرى للخطوب أو الشدائد التي أشار لها في الأبيات السابقة، بقوله:

خُضِ الكوارثَ لا نِكسًا ولا جزِعًا

واترُكْ إلى الغيبِ ما يجري به القلمُ

**

لو كانَ يُضمَنُ نصرٌ قبلَ موعِدهِ

لكانَ أرخصَ ما في الأنفسِ الهِمَمُ

وهو في حواره، مع طلبه بفعل الأمر (خض، اترُك) يبذل أقصى درجاتِ الإقناعِ بجدوى القيام بوجه تلكم الكوارث، وكأنّه يجيب عن سؤالٍ مُضمر يتوقّعه من ذلك المُتخوِّف من عدم مواتاة الفرصة بالظفر، ونيل الوطر، باتّكائه على القضاء والقدر، أنَّ في ذلك التعويل تسويفًا للفُرصة، وتضييعًا لنيل ما يرجوه، وهو في ذلك لا يريد إلا شحذ همّة المُخاطب، وتثوير عزيمته، فالنصرُ له شروطُهُ الموضوعية، ولا يمكن أنْ يُضمَن بمجرّد أنْ ينوي صاحبُهُ تحقيق النصر،

ولو كان النصر مضمونًا يُهدى دون عناء، لانطفأت جذوة الطموح، وأضحت الهمم رخيصة لا تُساوي شيئًا. لكن لأن المجد لا يُنال إلا بالمجاهدة، فإن الهمم تبقى أغلى ما في الإنسان، بل هي جوهر إنسانيته وسرُّ تميّزه وخلوده.

وإذا تمَّ له هذا الجانب، يقف رائيًا مستلهمًا عبر التاريخ الإنساني، إذ لم يجد في طيّاته خيرًا إلا وقابله شر، هذه الثنائية الضِدّية تخضع أيضًا لفلسفة الحياة منذ الأزل وإلى ما شاء الله، ومن خلالها تظهر حقائق الناس مختلفةً بحسب الاستعدادات المختلفة بينهم، وذلك في قوله:

إنّي وجدتُ الليالي في تصرُّفِها

تأوي إلى حكمٍ عدلٍ وتحتكمُ

**

تدُسُّ في الشرِّ خيرًا يُستضاءُ به

وتنزعُ الخيرَ من شرٍّ ويلتئمُ

**

إنَّ الشدائدَ تُستصفى النفوسُ بها

مثلَ الحظوظِ على أصحابِها قِسَمُ

**

يُلقينَ ظلاًّ على وجهٍ فيُلتَطَمُ

ويزدحمنَ على وجهٍ ويبتسِمُ

**

يا جَمرةَ الخَطبِ ساقينا على ظمأٍ

للمُصلياتِ فأنتِ الباردُ الشَبَمُ

والأبيات أعلاه، تؤدّي الفكرة التي يريد الجواهري تثبيتها في ذهن متلقّيه، من حتميّة انتصار الخير على الشرِّ مهما استقوى الطغيان واستبدّ، وكأنه يريد أنْ ينظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس وليس الجزء الفارغ، من خلال رصد ما رشح من تلك الخطوب/ الشدائد من هممٍ عاليةٍ عند البعض لم تظهر إلا بفضل تلك الشدائد، في قبال انكشاف زيف ادعاءات البعض بالشعارات البرّاقة، وبما يتظاهرون به من هممٍ لم يكن لها في الواقع أثرٌ يُدفَعُ من خلاله خطرٌ أو بلاء.

وفي فقرةٍ أخرى، ينتقل الشاعر بالقول:

قالوا: أتتْ أَزمَةٌ جُلّى، فقلتُ لهم:

أهلاً وسهلاً، فنِعمَ الطارقُ الأزَمُ

**

يا جارتا: مَن يَضِق ذرعًا بنازلةٍ

فليسَ مِنّا وإنْ مَتّتْ به رَحِمُ

**

سَلي بنا الأزماتِ السودَ كم غَنِيَتْ

إذ كان عند سوانا الفقرُ والعَدَمُ

**

ما شِئتِ فامتحني نَزددْ ندىً وقِرىً

هل كان إلا ليومِ المِحنةِ الكَرَمُ

**

عِشنا وإياكِ أحقابًا مُناوَبَةً

ننسلُّ منك على رفقٍ وننسَجِمُ

**

جُلِّي بنا تجِدي من أزمةٍ قدَمًا

عفّى على رسمِها مِن أزمَةٍ قِدَمُ

يُريد الشاعر أنْ يردّ على زعم من ارتعدت فرائصهم من مجيء الخطب أو الأزمة، فقابلهم بما يحملُهُ من وثوقٍ بالذات، أنَّ مثل هذه الأزمة سببٌ لما تكشفه من دخائل النفوس وبما تكشفه من مواقف لأصحابها، فجديرٌ بنا أنْ نرحِّبَ بمجيئ هذه الأزمات، لا أنْ نعبّس بمقدمها، وفي البيت الذي يليه، يرى – وهو يخاطب تلك الجارة المفتَرَضة مثل ديدن كثير من الشعراء بوصفها معادلاً موضوعيا – أنّ الذي يشكو أو يتشكّى من وطأة هذه الأزمات ليس من هذه الجماعة – ويعني بهم العرب – التي شهد لها التاريخ على مدار قرونٍ طويلة، بعلوِّ هممهم في الشدائد التي مرّت عليهم – وما أكثرَها – فكانوا أهلاً للتصدّي بوجه الشرّ هزّامين أعداءهم، وإنْ لم تصدّق ما يقول، يطالبها أنْ تسأل الأزمات نفسها، كم مر بها وقومه وقد خرجوا منها أقوياء، في حين كان سواهم حين مرّ عليهم ما هو أخفُّ منها وطأةً، كان قد عانى الفقر والعجز من مواجهتها والصمود بعدها، فتوالي الامتحانات من وقوع الشدائد مدعاة لازدياد الصلابة والقوّة في الخروج منها بحالةٍ أفضل من السابق.

ويعود الجواهري في آخر ثلاث أبيات من مقدّمة هذه القصيدة، إلى تأكيد ما ذهبَ إليه من عرضٍ لفكرته في أول الأبيات، عبر ما يطلبه من هذه الجارة المفترضة – التي يمكن أنْ نقول إنَّ الشاعر أراد التقليل من قيمة الذي يتخوّف من مجيء هذه الأزمات بجعله موصوفا بالجارة وهي المرأة التي في أغلب أحوالها تخاف من الشدائد أو النوازل، بمعنى أنّ الرجال الأشدّاء الذين تربّوا على الشدائد يستحيل أنْ يدبّ الخوف في قلوبهم من مجيء هذه الشدائد – أنْ تمتحنَه بشتّى ضروب المكاره، فهي إنْ وقعت عليه أو على أمثاله من رجالٍ أشدّاء، لا تزيدهم إلا عطاءً، وإلا ثباتًا على مواقفهم، ويستدلُّ على ذلك بالكرم الذي لا يُعرف له طعمٌ إلا من خلال وقوع المحن. أما البيت الذي يليه – عشنا وإياك أحقابًا .. إلخ – فكأنّه يريد أنْ يصوِّر لنا مدى الألفة مع هذه الأزمات حتى صارت جزءًا من حياته اليومية التي يعيشها، وقد انسجمَ معها مثلما تنسجم الخيوط حين تُنسج في القماش، فلماذا يخاف من وقوعها الآن، وواضحٌ أنَّ الشاعرَ يتحدّث عن جماعته الذين يُثيرُ فيهم تلك الحمية للوقوف بوجه الأزمات والشدائد.

وفي البيت الأخير، يخاطب أصحاب تلك الدعاوى من خلال ذلك الوسيط "الجارة" بما يؤكّد الفكرة التي يريد ترسيخها في ذهن المخالف له، بأنْ لو اقتربتِ ودقّقتِ فيما وقع من رزايًا سابقة، سوف تتأكدين أن كل أزمة جديدة نقابلها بأزمات أسبق منها قد مررنا بها وتجاوزناها، حتى لم تترك السابق منها أي أثر لما بعدها.

***

د. وسام حسين العبيدي

أكاديمي من العراق

هب أني دعوتك عزيزي القارئ لنتسامر ونتحاور ليسهل علينا التواصل والاتفاق على ما دفعنا إليه البوح بآرائنا وأفصحت عنه كتاباتنا من الخلاف فيه وحوله، حتى تبيت مواضع الخصومة ميدان فسيح تتآلف فيه الآراء بعد نقدها وغربلتها وانتقاء الأصلح منها لمعالجة ما نعانيه من مشكلات الواقع وهل هناك أجمل وأروع من التساجل الذي يُفضي إلى الوفاق والأتلاف بعد الخلاف؟

ووسط السكون والهدوء الذي حاط بي قبيل الفجر أرجفني صوتًا يصيح إني أعترض ولا أوافقك ولا أرغب في قبول دعوتك، ثم قال أهدأ لا تنزعج فأنا الذي تحتضنه أناملك أنا قلمك، ألست أول قرائك؟ ولسانك ورسول وحي أفكارك؟ فأستمحيك أن تصغي إلى.

فقد عهدتني أمينًا في نصحي وماكرًا في نقداتي: أمّا إذا أبيت وعصيتني فليس أمامنا سوى الفراق فأذهب وقل ما شئت فجل الآذان لا يروق لها الإصغاء لحديثك الذي رغب عن إحيائه العارفون وسخر منه المحدثون وتندر به المتفككون والمتفقهون والمتفلسفون.

وأنت أيها الكاتب الذي استملحت عشرته فإليك أبوح بعلة رفضي لتلك الدعوة التي لا محل لها من الإعراب في مجتمع شاغل بالصراع والخصومة والاعراض فأقولها صراحة غير عابئ بكل العواقب فمدادي أملكه ونفاده فيه نفاذي وصريري لا أكره على إسكاته أو البوح بما لا أؤمن به ولست من المعتقدين بفقه الضرورة ولا حجة الجبرين فقد عهدتني حرًا لا ترهبني المصادرة ولا الممانعة.

وأرجوك أن تعزرني فأنا قلمك المهموم والمهتم ويعز عليا مخالفتك وحجتي في تبريري واعتراضي يبدو في بنية دعوتك تلك التي جاء فيها أن بغيتك هي المسامرة والمحاورة أفلا تعلم أن المسامرات والمحاورات في هذا العصر المتدني الرزيل فيه نوعان مغون ولغو مبتذل وتفكه متدني لا يحتمل والتحاور فيها أفك تستبيح الألسن فيه الخداع والتلاعب بالألفاظ التي يلوكها السوقة والرعاع والنادر منها عبارات مقعرة مهجورة دلالتها شأن الأشباه والنظائر والأشتات والشتات.

كما تزعم في دعوتك أن بغيتك التواصل والوصال والوفاق والاتفاق فأخبرني بربّك كيف يستقيم الحوار بين المخادعين ومنهم كذوب يلوح بالسياط في يدًا وفي الأخرى صندوق (بندورة) الشاغل بكل ألوان الشرور والشهوات والمفاتن، وآخر مداهن يحسن السكات خوانًا مرتعشًا يجود بكل شيء غير ممانع التفريط في محارمه ودينه ووطنه وما يستر عورته ويقسم بالشرف ونبل الأصل وأصالة النسب ويصف أبليس بأنه خير العباد وأصدق النساك العارفين، وفيهم الذي يزعم امتلاكه الصواب والحقيقة وهو الجهول الذى لا يعلم أن لليقين درجات وأن الحكمة التي لا تفضي إلى حكم يقبله العقل تعد نقمة لا يقبلها إلا الحمقة المثرثرون وتجار الكلمة والمطنطنون.

تلك هي دفوعي يا صديقي اللدود وخصمي الودود فأرجوك أن تكتب على الدعوة لا يلبيها إلا الغائبون الذين أخرسهم طول السكات.

أنا الكاتب: أجل يا رفيقي فأنا سميع بصير، وأعلم عن هذا العصر الكثير، فتئنى واصبر لأكشف لك العلة وأفضح أمامك بعض المخبئ والمسكوت عنه فالمعارف وما حاق بالملة وأوجز لك حقيقة الأمر وأكشف لك ما خفي تحت رماد الجمر: -

فما برحت مصطلحاتنا ومفاهيمنا العربية شاغلة بالخلط والمتداخلات في المعنى والدلالة الأمر الذي يثير العديد من المشكلات في التحاور والتساجل بين العوام والمتخصصين على حد سواء ومن ثم يتحول معه الالتباس إلى إشكاليات ولاسيما في قضايا العقيدة والسياسة بل في شئوننا العامة أيضًا وقد فطن اللغويون القدماء إلى تلك المفارقات التي تثير في الذهن الكثير من القضايا الخلافية لذا قد اجتهد جل المعنيين بدراسة المعاني والدلالات لمعالجة ذلك الخلل الذي لا يرجع إلى اللغة وتشابه حروفها الصوتية بل إلى مستخدمي الالفاظ والمصطلحات المتداخلة والمتشابهة دون تحقق أو تدقيق يمكنهم من استخدامها في السياق المناسب لمعناها ودلالاتها البيانية أو المجازية والامثلة على ذلك عديدة ومتباينة منها الخلط بين (الراكد والراكض والراقد، الأُح والمح، التأصيل والتأثيل، الكحل والكاحل، الجنوح والجموح، النكوث والنكوص، النفاد والنفاذ)

ومن أشهر اللغويين العرب الذين كان لهم السبق في معالجة هذا الخلل ووضعوا مؤلفات قيمة في هذا الباب "الخليل بن أحمد الفراهيدي (718: 790) صاحب معجم العين "   " أبو هلال العسكري (920: 1005) صاحب كتاب الفروق اللغوية " " أبو حيان التوحيدي (923: 1023) صاحب كتاب الامتاع والمؤانسة "   " أبو الفتح عثمان بن جني (934: 1002) صاحب كتاب الخصائص".

والغريب أن هذا العطب اللغوي الذي نعيشه الآن لم يلتفت إليه المثقفون قبل العوام؛ بل ذاع ذلك الخلط في كتابات المتخصصين شأن كراسات طلاب المدارس والجامعات وأصحاب الأقلام من الصحفيين وأحاديث المتحاورين في شتى قنوات التواصل في ثقافتنا المعاصرة. وما أكثر المصطلحات والكلمات التي طمست دلالتها وتبدلت معانيها وذاعت مفاهيم لها مغايرة تمامًا لمنابتها اللغويّة وأصولها المعرفية نذكر منها (عالمية الإسلام، والعولمة الدنيوية، والوحدة الإنسانية (والكوكبة)، العلمانية نسبة للعلم، والعَلمانية نسبة للعالم المادي اللاديني) ناهيك عن الخلط المتعمد بين المصطلحات مثل الأصول التي باتت مرادفًا للجمود والرجعية، وأضحى مفهوم الأصولية هو الجهل والتخلف والإرهاب والعنف والاستبداد والتسلط والفاشية، وأمسى مفهوم اليسار هو سوء النية وانعدام الحياء أخلاقيًا والمعادي للسلطة سياسيًا والمخالف للعادات والتقاليد اجتماعيًا.  وأضحى الناقض للثوابت والمبدد للقيم مجددًا ومستنيرًا، والفحش والعري والعبث مرادفات للحرية، وينعت المتعصب بالسلفية والمجترئ والمجدف على المقدس ناقضًا ومجتهدًا وما بعد حداثيًا.

ثم تعثر قلمي وراح يقاطعني من جديد: أيها الراوي الحصيف والحاكي الحريف أخبرني من فضلك عن علة ذلك العبث الذي جعل من ثقافة العصر لغوًا مطموس المعاني وباتت فيه النهوج الفلسفية سفسطة في غير المفهوم أو البهرجة التي ينفصل فيها الدال عن المدلول، وتقنع فيها الفاجر ولبس عباءة المكلوم.

وحدثني عن التكفير والإلحاد، وفساد الذمم ونحيب الضمائر الذي ذاع وساد، وغيبة زاد الوعاظ المتفقهين، وتزاحم المتعالمين وكثرة المدعيين، وضياع كتاب الأغاني وابتهالات المنشدين، وعلو مقام الكهنة والمشعوذين وأحاديثهم عن المنتظر وحروب الساسة ويوم الدين، وأشرح لي العلاقة بين تباين المعاني واختلاف الدلالات في المفاهيم والمصطلحات وعلاقة الأكاذيب والتدليس والتزييف والتحريف، والنكوث في العهود والخيانة في الوعود، وانقلاب القيم وتحريف الكلم وفلسفة الملابس، وهجرة طلاب العلم للمدارس، وهجر العباد للمساجد والكنائس، وأسلحة الجيل الثالث والرابع في حروب النظريات وبهرج المعتقدات والشرائع.

وعليك يا صديقي بإخلاص النية لنكمل المقامة؛ فللحديث بقية.

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

ثمة صفات وسمات عديدة، تتصف بها المجتمعات الإنسانية المتخلفة والمتأخرة عن الركب الحضاري، وغير القادرة على النهوض في مختلف جوانب الحياة.

وهذه الصفات والسمات، ليست متعلقة بحياة الأفراد فحسب، بل هي متعلقة بحياة المجتمعات وأنظمة العلاقة الداخلية بين مختلف الشرائح والفئات، وأنماط العيش، وسبل التعامل مع الثروات والإمكانات الطبيعية والاقتصادية المتوفرة..

كما أن هذه الصفات تؤثر على طبيعة الثقافة السائدة وأولوياتها ومعايير التفاضل على مستوى القيم الاجتماعية والعملية..

وما أود أن أتحدث عنه في هذا المقال، جانب واحد، يتعلق بالجوانب المعرفية والمنهجية وهذا الجانب هو طبيعة العلاقة العقل والعقلية السائدة في المجتمعات المتأخرة والمتخلفة..

وقبل الخوض في هذا الجانب من الضروري في هذا السياق التفريق بين مفهوم العقل وهو ما وهبه الله سبحانه وتعالى لجميع الناس الأسوياء بالتساوي، والعقلية وهي نتاج الثقافة والبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان فردا أو جماعة..

فنحن جميعا كبشر أسوياء، نمتلك العقل، ومواده الخام إذا صح التعبير واحدة سواء عشنا في الغرب أو الشرق، في هذه اللحظة الزمنية الراهنة أو في أي لحظة زمنية أخرى.. وبين العقلية وهي نتاج طبيعة وضروري لنوعية وطبيعة الثقافة التي يتلقاها الإنسان وطبيعة الظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الإنسان... فعقليات البشر مختلفة ومتنوعة ومتفاوتة، باختلاف وتنوع وتفاوت حصيلة الإنسان الثقافية وطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الإنسان..

وعلى ضوء هذا نستطيع القول: أن عقلية الإنسان الذي يعيش ف ي مجتمعات متقدمة ومتطورة علميا وإنسانيا، تختلف في منظومتها وأولوياتها وهمومها واهتماماتها، عن تلك العقلية التي تشكلت في مجتمعات متخلفة حضاريا ومتأخرة اقتصاديا واجتماعيا..

وانطلاقا من هذا التباين والاختلاف في عقليات البشر، تبعا إلى طبيعة حياتهم الحضارية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يمكن الإشارة إلى طبيعة العقل بمعنى (العقلية) التي تتشكل لدى الآحاد والمجموعات في المجتمعات المتقدمة والمتأخرة في آن..

فالعقلية التي تسود في المجتمعات المتأخرة، هي عقلية سجالية، لا تراكم المعرفة، ولا تتجه صوب تظهير وتجلية الحقيقة أو الحقائق، بل تتجه إلى الشخصنة والدخول في معترك سجالي يتجه صوب الإفحام والإحراج والخروج من لحظة السجال الأعمى بحالة من القبول والرضا عن الذات وأداءها.. لذلك نجد أن في المجتمعات المتأخرة تكثر السجالات والنقاشات، والتي في أغلبها حول موضوعات خارج نطاق الواقع المعاصر والمعاش.. وهذه السجالات في أغلبها، لا تؤسس لمعرفة جديدة، ولا تعمل في صياغة رؤية أو نظرية للخروج من المآزق الراهنة التي تضغط سلبا على حركة المجتمع بكل فئاته وشرائحه.. ولعل من أهم سمات العقلية السجالية هي أنها تتجه في سجالاتها صوب الأشخاص والذوات وليس حول القناعات والأفكار.. لذلك حينما أرفض فكرة تبعا لذلك أرفض صاحبها وفي بغض الأحيان أمارس الإساءة إليه..

لذلك يبقى المجتمع يعيش السجالات تلو السجالات، دون أفق عملي واجتماعي لهذه السجالات، سوى المزيد من الاحتقان والتأزيم الاجتماعي..

كما أن من سمات هذه العقلية السجالية، هي أنها لا تبحث عن الحقيقة وتوسيع المساحات المشتركة بين البشر.. بل كل إنسان أو طرف راض دون فحص عملي دقيق وموضوعي بما عنده، ويرى أن وظيفة كل السجالات هو إثبات أن ما لدى الذات هو كل الحقيقة وما لدى الآخر هو كل ما يخالف الحق والحقيقة.. فجدل وصراخ واستماتة في الدفاع عن قناعات الذات وأفكارها، دون أن يكلف الإنسان نفسه فحص ما لدى الإنسان وفق معايير علمية وموضوعية..إن هذه لا تؤسس لمعرفة موضوعية سواء عن الذات أو عن الآخر.. وكل ما تعمله هذه السجالات هو المزيد من الشحن النفسي والاحتقان الاجتماعي..

فالسجال لا يبحث عن حلول ومعالجات لأزمات العلاقة بين المختلفين، وإنما يزيد من الإحن والأحقاد، ويوفر المزيد من المبررات والمسوغات لاستمرار القطيعة والاحتراب المادي والمعنوي بين المختلفين.. فالإنسان المنخرط في حروب السجال لا ينظر إلى ما قيل، وإنما ينظر إلى من قال.. ولكون هذا القائل من الضفة الأخرى فكل ما يقوله ويتفوه به، ليس مادة للتأمل والنقاش العلمي الهادئ، بل كل ما يقو له الآخر هو محل الرفض والازدراء بكل صنوف الازدراء..

فالعقلية السجالية تحول المختلف إلى خصم فكري واجتماعي.. لذلك فإن العقليات السجالية هي المسئولة إلى حد بعيد عن خلق البغضاء والعداوة بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.. ولعل من أخطر سمات العقلية السجالية، هي قلية لا تستهدف خلق التفاهم بين المختلفين، بل تغطية الممارسات العدوانية على المختلف والمغاير.. لأن هذه العقلية تنتهك الحرمة المعنوية والمادية للمختلف، كمقدمة لنبذه واستئصاله وشن الحرب المعنوية والمادية عليه. لذلك فإن الاختلافات الطبيعية تتحول بالعقلية السجالية إلى اختلافا ت جوهرية.. لكونها عقلية تعتمد في عملية التقوي على رأيين لا ثالث لهما ثالث لهما، فهو إما معي فهو يستحق التبجيل حتى لو لم تكن ثمة مبررات حقيقية للتبجيل، أو ليس معي فهو وفق النسق السجالي ضدي ولا يستحق مني إلا النبذ والتشويه وإطلاق التهم بحقه جزافا وكذبا وبهتانا..

و نحن نرى إن استمرار العقلية السجالية هي السائدة في المجتمعات، يعني المزيد من الحروب العبثية والمزيد من التآكل الداخلي لمجتمعاتنا.. لأننا   نريد جميع الناس   على رأينا وقناعاتنا أو نحاربهم ونعاديهم بكل السبل والوسائل..

و لا سبيل للخروج من الكثير من المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا على صعيد علاقاتها الداخلية بين جميع مكوناتها إلا التحرر من ربقة العقلية السجالية وتأسيس العقلية النقدية القادرة على خلق بيئة معرفية واجتماعية محفزة على الوئام والتضامن الاجتماعي مهما كانت موضوعات الاختلاف..

فالعقلية النقدية المطلوبة، هي التي تخرج ذواتنا وأشخاصنا من كل جولات الحوار والنقاش.. فالحوار لا يتم بين ذوات، وإنما بين أفكار وقناعات، ولا شك أن هذه الآلية تساهم في إزالة البعد النفسي الذي يحول دون القبول بالحق أو الحقيقة..

كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي، لا يستهدف الإفحام وتسجيل النقاط على الطرف الآخر، وإنما تجلية الحقائق وتعريف الذات بعلمية وموضوعية تامة.. فالآخر المختلف ليس فضاءا للنبذ وإطلاق التهم جزافا بحقه، بل هو مساحة للفهم والتفاهم، للحوار والتعارف، بعيدا عن القناعات المسبقة والمواقف الجاهزة.

كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي، مهمته الأساسية هو تعزيز الجوامع المشتركة وسبل تفعيلها في الواقع الاجتماعي، ومعرفة الآخر معرفة حقيقية ووفق نظامه العقلي والثقافي الداخلي.. فالنسق النقدي يعمل على خلق أصدقاء ومنظومات اجتماعية متداخلة مع بعضها البعض بعيدا عن الرؤى النمطية، التي تستسهل الخصومة والعداوة مع المختلف والمغاير. 

وجماع القول في هذا السياق : أن المجتمع الذي تسود فيه العقلية السجالية، سيعيش في كل لحظاته أسير صراعاته الحقيقية والوهمية، دون إرادة حقيقية للمعالجة والبحث عن حلول ممكنة..

والمطلوب ليس الخضوع إلى متواليات العقلية السجالية، وإنما معالجة الأمر، وتفكيك كل الحوامل المعرفية والاجتماعية التي تعزز عقلية السجال ف البيئة الاجتماعية، والعمل في آن واحد على بناء أسس ومرتكزات العقلية النقدية لكونها العقلية القادرة على مراكمة المعرفة، وضبط الصراعات الاجتماعية والأيدلوجية بعيدا عن الاحتراب والعنف..

كما أنها عقلية تستهدف معرفة الحقيقة بدون افتئات على أحد. فالعقلية السجالية صانعة أزمات ومشاكل باستمرار حتى بمبررات واهية أو ناقصة أو غير حقيقية، والعقلية النقدية تبحث عن استقرار اجتماعي على قاعدة معرفة عميقة ومتبادلة بين المختلفين..

العقلية السجالية من أولوياتها إسقاط حرمة المختلف، بينما العقلية الأخرى تعمل على صيانة وحماية حرمة المختلف.. العقلية السجالية تبحث عن التباينات التي تبرر لصاحبها البقاء على موقفه العدائي من الآخر، بينما النسق النقدي يبحث عن تدوير الزوايا وعن الحلول الممكنة لمشكلات واقعه وراهنه.. لذلك لا خروج من مسلسل الأزمات والمشاكل العبثي ة والصغيرة، إلا بتفكيك حواضن العقلية السجالية لأنها المسئولة عن الكثير من الأزمات والمشكلات على المستوى الاجتماعي – الداخلي..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

 

على الرغم من أن كلمتي المثقف والثقافة تتداول بكثرة بين افراد المجتمع العربي إلاّ أنه لا يوجد لأي منهما تعريف واحد متفق عليه عند الجميع، وبالتالي يكون مفهومها غير واضح عند أكثر الناس. وقد قيل إن هناك ما يقرب من مائتي تعريف لكلمة الثقافة. يذكر زكي الميلاد في كتابه "المسألة الثقافية" تعاريف كثيرة، مختلفة ومتباينة لكلمة الثقافة. وذَكَر امثلة متعددة لمفكرين ومثقفين كبار من مختلف انحاء العالم وضعوا تعاريف مختلفة للثقافة، لكن لم يلق أي من هذه التعاريف القبول من قبل الجميع. يبدوا أن هناك خلط عند معظم الناس حول مفاهيم المثقف والثقافة والحضارة والعلم. ولسنا هنا لندخل في جدل التعاريف بل لنقول كلمة في المفاهيم.

في اللغة العربية، فإن كلمة الثقافة مأخوذة من الفعل "ثَقَفَ" بمعنى حِذْق وفِطنة وحدة الذكاء، وتشمل مفهوم ثقافة الفرد وثقافة المجتمع. يمكن تعريف ثقافة المجتمع بأنها "تشمل كل العادات والعقائد والتقاليد والأعراف التي يتمتع بها افراد المجتمع، بالإضافة إلى السلوك ونمط التفكير وكل نواحي الحياة الاجتماعية التي يتعايش بها افراد المجتمع". فالثقافة هي نمط سلوك افراد المجتمع، ونمط أفكارهم وعاداتهم وعقائدهم (بضمنها الدينية والمذهبية)، التي اكتسبوها من ثقافة المجتمع الذي عاشوا وترعرعوا فيه. وبتوصيف عام نقول إن الثقافة: هي كيفية تعامل الفرد أو المجتمع مع الآخرين ومع المشاكل والأفكار التي يواجهونها في حياتهم اليومية. ذَكَر مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الثقافة" مثالاً لتوضيح تأثير نمط سلوك الفرد على تصرفاته الشخصية في المجتمع (ثقافة الفرد) فقال؛ لو قارنا مثلا، سلوك طبيب إنكليزي بسلوك مزارع إنكليزي (في انكلترة) فسنلاحظ اختلافاً في سلوكهم المهني، كونهم يعملون في مجالين مختلفين، لكننا سنلاحظ تشابهاً في سلوكهم الاجتماعي، كونهم نشأوا في نفس البيئة. ولو قارنا سلوك طبيب إنكليزي مع سلوك طبيب صيني (في انكلترة)، فسنلاحظ تشابهاً في سلوكهم المهني، كونهم تعلّموا في مجال تخصصي واحد، لكننا سنلاحظ تبايناً في سلوكهم الاجتماعي، كونهم نشأوا في بيئتين مختلفتين. هذا التشابه والاختلاف في سلوك الافراد تجاه القضايا الفكرية والاجتماعية ينتج عن تأثير البيئة عليهما ويعكس مفهوم الثقافة (ثقافة الفرد وثقافة المجتمع). وعلى هذا الأساس، يمكن أن توصف ثقافة مجتمع مُعيّن (وثقافة افراده) بثقافة التسامح إذا ساد مبدأ التسامح في سلوك وفكر افراد المجتمع. أو يوصف بثقافة التديّن أو العنف أو العلم، أو غيرها من الصفات والمسميات إذا ما سادت هذه الصفات على سلوك افراده. ويكون المجتمع (وافراده) متعصبون أو طائفيون إذا عمّت هذه الأفكار عقولهم وتصرفاتهم، وهكذا.

وأود أن أركّز على نوعين مهمين من الثقافات؛ الأولى تسمى بثقافة النقل والتقليد (وأسَمّيها ثقافة التخلف أو ثقافة الجهل). والثانية تسمى بثقافة الإبداع والابتكار. وكلاهما يبحثان في طريقة التفكير وأسلوب استعمال العقل في التفكير.

أمّا ثقافة النقل والتقليد (والتي أسميتها ثقافة التخلّف والجهل) فهي، مع الأسف، السائدة في مجتمعنا. وفيها، إن أسلوب التفكير والتعامل مع المعلومات المعرفية عند افراد المجتمع، يكون مبنياً على أساس قبول المعلومة كما هي بحذافيرها، دون التفكير والتشكيك والتمحيص بصحة المعلومة قبل أن يتقبلها الفرد ويؤمن بها. وهو يعمل على نقلها تماماً كما هي، دون أي محاولة لتحويرها أو تطويرها، بمعنى أنه يقلدها، خصوصاً إذا كانت المعلومة غير صحيحة وغير مقبولة فكرياً. هذه الطريقة في التفكير والتعامل مع المعلومات المعرفية أثبتت فشلها وعقمها، لأنها تُغيّب استعمال العقل وتعتمد على نقل المعلومة كما هي.

أمّا ثقافة الإبداع والابتكار، والتي يتسم بها الفكر الأوروبي، فهي تمثل الأسلوب الصحيح لطريقة التفكير العقلاني، الذي يستعمل، ويعتمد استعمال العقل في التفكير، ويعتمد على المنطق في قبول المعلومة المعرفية. هذا النوع من التفكير السليم لا يقبل أسلوب النقل للمعلومات أو تقليد المعلومة، بل يجب أن يتم تفحّص المعلومة والتشكيك بصحتها للتأكد من صحتها ومن ثم قبولها. وهذا هو مبدأ الشك الذي قال به وعمل به ديكارت (وهو يعتبر مؤسسي النهضة الأوروبية). ومن قبله بأربعة قرون، عمل به الإمام الغزالي، أعني مبدأ الشك في المعلومة، وعمل به أيضاً الدكتور طه حسين. وكذلك يرفض هذا النوع من الثقافة مبدأ التقليد الأعمى للأفكار. إن ثقافة الإبداع والابتكار تعتمد على محاولة تغيير المعلومة وتطويرها للحصول على نموذج أفضل من الأصل، ورفض نقل المعلومة كما هي حتى لو كانت صحيحة، لأن التقليد يمنع العقل من التفكير فتسْبت العقول. هذا هو الابداع والابتكار الفكري الذي يعمل على طرح أفكار جديدة ونقاشات عقلانية منطقية تؤدي إلى تفتّح العقول وتنوع الافكار. وهذا ما يجب أن نسعى إليه ونحث الجميع على العمل به، أعني تغيير أسلوب تفكيرنا الحالي، الذي لا يعتمد على استعمال العقل والمنطق بل يركن إلى القبول والتقليد دون التفكير.

أمّا مفهوم المثقف، فهناك أيضاً تعاريف كثيرة، مختلفة ومتباينة لمصطلح المثقف. ونُجمل القول بأن المثقف هو من كانت لديه مجموعة جيدة من المعلومات المعرفية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل التاريخ والسياسة والاجتماع والفقه والدين واللغة وما شابه ذلك. والمثقف غير المتعلم، فالمتعلم هو من حصل على تحصيل دراسي أو جامعي أو عالي. فهو متخصص في مجال دراسته، ويكون بارعاً ومتمرساً في مجال تخصصه. ولأن مجال دراسته لا يشمل ما سميناه بالعلوم المعرفية، لذلك لا يعتبر المتعلم مثقفاً بالضرورة. لكن يمكن أن يَجمع المتعلم العلوم المعرفية إضافة لعلومه التخصصية فيصبح متعلماً ومثقفاً. وهناك الكثير من المثقفين الكبار ممن لديهم تخصص علمي مهني. وبنفس القياس، ليس بالضرورة أن يكون المثقف متعلماً أو له تحصيل دراسي معين. عباس محمود العقاد، على سبيل المثال، لم تتاح له فرصة اكمال تعليمه بعد الابتدائي لظروفه الخاصة، لكنه تمكن أن يصبح واحداً من كبار مثقفي عصره، ومنح شهادة دكتوراه فخرية من جامعة القاهرة لكنه رفضها.  وكذلك ينطبق القول على جبران خليل جبران وهو من أبرز ادباء وشعراء المهجر.

يمكن تصنيف المثقفين إلى طبقات ثقافية متباينة حسب عطاء المثقف الفكري لمجتمعه. فهناك المثقف المبدع أو المتميّز. وهو الذي يتمتع بقابلية عالية لاستنباط الأفكار القيّمة، ودراسة مشاكل المجتمع وتحليلها وإيجاد الأسباب والحلول المناسبة لها. وهو يملك القدرة والقابلية على جمع العلوم المعرفية وربط بعضها ببعض، واستنتاج خطط وأفكار جيدة تنير عقول افراد المجتمع وتنبههم إلى مشاكل المجتمع وكيفية التعامل معها. ليس المهم أن تكون هذه الأفكار مقبولة من جميع افراد المجتمع، لأن إرضاء الجميع غاية مستحيلة، لكن المهم ان تكون افكاراً جديدة توسع افق الناس وتفتّح عقولهم وتبعدهم عما هو تقليدي ومتعارف عليه، في القضايا الفكرية تحديداً.

وهناك المثقفون من الطبقة الوسطى. وهم الذين عندهم، تقريباً، نفس مميزات المثقف المبدع لكن بدرجة أقل وتأثير أقل على أفراد المجتمع، ويلاحظ لهم نشاط فكري واجتماعي معيّن، ويشكلون جزءاً مهماً من النسيج الثقافي للمجتمع. ويأتي بعد ذلك المثقف البسيط، وهو الذي يستمتع بالثقافة والفكر والمعرفة، ويسعى إلى دراستها وفهمها لكنه يفتقر إلى النشاط الفكري المجتمعي، فليس له مشاركات كتابية أو نقاشية أو أفكار تميّزه عن غيره. وهو ليس عيباً أو نقصاً فيه بل على العكس فهو من طبقة المثقفين الذين يرتفع بهم المستوى الثقافي للمجتمع. ومن الطبيعي أن يكون البشر متفاوتين في الطبقات.

يمكن تركيز الخطاب النقدي على فئة المثقفين والكتاب والمؤلفين العرب دون غيرهم من باقي أبناء الامة العربية، لأن هذه الفئة من الناس تتحمل العبء الأكبر في أسباب عدم نهضة الفكر العربي، باعتبارهم الفئة النخبة من المجتمع. ومن المفترض أنهم الفئة الواعية لما حدث ويحدث للمجتمع، ويفترض أيضاً أن تكون لهم القابلية والقدرة على التعرف على أسباب التدهور الثقافي وإيجاد الحلول المناسبة والناجعة. والسبب كما أوضحنا، فإن المثقف هو الشخص الذي يستطيع أن يرى مشاكل المجتمع ويقوم بدراستها وتحليلها بهدف الوصول إلى طرق مناسبة وناجحة لحل مشاكل المجتمع. مثل هؤلاء المثقفين هم قلة في المجتمع، اقل من 10%، كما هو متعارف عليه. ويشكلون النخبة في المجتمع.

عندما تُذكر نهضة المجتمع الاوروبي فإنها تقترن بأسماء المثقفين الذين قادوا النهضة الفكرية، مثل دانتي ومونتسكيو وفولتير وديكارت...الخ، وهم يشكلون النخبة من مجتمعهم. وهؤلاء استطاعوا بعلمهم وذكائهم أن يكتشفوا عوامل تخلّف مجتمعهم، ووجدوا الوسائل الناجحة لاستبدال التخلف بالنهضة، فأخرجوا شعوبهم من الظلام إلى النور. إنهم لم يلوموا شعوبهم على تخلّفهم، ولم يقللوا من شأن شعوبهم أو قدرتهم على النهوض، بل أوقدوا طرق التخلف المظلمة بشعلة نور من الثقافة، فكانوا كالذي قال "بدلاً من أن تلعن الظلام، أشعل شمعة". هؤلاء المثقفون هم قدوة المجتمع وقادته. فإين نضع المثقفين العرب بالمقارنة مع مثقفي الغرب الأوروبي؟

انبهر المثقفون العرب بالحضارة الاوربية انبهاراً لا مثيل له. واعتبروا النهضة الأوروبية الطريق الوحيد والأسلوب الصحيح لنهضة الفكر العربي، فأصبحت النهضة الأوروبية المثال القدوة التي يقتدي بها مثقفونا بكل حسناتها وسيئاتها على السواء. يقول طه حسين " يجب أن نأخذ كل شيء من الحضارة الأوروبية من حسناتها وسيئاتها".  أخذ المثقفون العرب يقلدون الحضارة الاوربية تقليدا اعمى جعلهم لا يفرقون بين ما هو مناسب للمجتمع العربي وما لا يلائم أو حتى يتعارض مع القيم والأعراف والفكر العربي.

دأب المثقفون العرب منذ بداية مسيرتهم إلى اليوم، على تحميل انهيار الحضارة الإسلامية كل عوامل تخلّف الفكر العربي، وعابوا على شعوبهم حالة تخلفهم، وانتقصوا من كيان شعوبهم ووجودها، وما زالوا يلومون افراد مجتمعهم ويعيبون تخلفهم الفكري والحضاري، وكأن هؤلاء المثقفون العرب ليسوا افرادا من هذا المجتمع يتحملون مسؤولية كل مآسيه ومشاكله وتخلّفه. وكذلك نسي هؤلاء المثقفون، أو تناسوا، أن انهيار الحضارات سنة من سنن التاريخ، فلم تدم حضارة من الحضارات السابقة ولن تكون الحضارة الإسلامية ولا الأوروبية استثناءً من سنة التاريخ.  فجعلوا أنفسهم لاعنين للظلام فقط، وما زالوا يلعنون الظلام دون ايقاد شمعة واحدة. لم يشعلوا شمعة واحدة لتنير طريق الثقافة والتقدم لتنهض شعوبهم، بل إنهم كانوا وما زالوا يلعنون الظلام، وشغلهم الشاغل هو التأكيد على تخلف مجتمعهم وسقوط وانهيار الحضارة الإسلامية. يلومون هذا المجتمع الذي يفترض أن يكونوا هم جزءاً فعالاً منه. إن الاستمرار بالتذكير بالفشل والتأكيد عليه، باعتباره ملازماً لأفراد المجتمع إنما يرسخ حالة الإحباط التي يمر بها المجتمع، ويقلل من حماسه للتطور والتحَضّر، ويجعله يشعر بالعجز وعدم القدرة على النهضة والتطور والابداع.

عندما انتبه الاوربيين في عصورهم المظلمة، إلى الفرق الحضاري الشاسع بينهم وبين المجتمع الإسلامي، ولاحظوا التطور الحضاري الهائل للمجتمع الإسلامي في كل مجالات الحياة، أدرك مثقفيهم انهم متخلفين عن حضارة العرب، وعرفوا أن عليهم أن يطوّروا أنفسهم ليصلوا إلى ما وصلت إليه حضارة الإسلام. بدأ مثقفيهم بتطوير أنفسهم، وعملوا على إيجاد الحلول والسبل التي تقود إلى النهضة. لم يُذّكِروا أمتهم أنهم متخلفين وفاشلين، بل شرحوا لهم معنى النهضة والطرق التي تؤدي إليها، وقادوا مجتمعهم على الطريق الصحيح. كانوا متأكدين ومؤمنين أنهم قادرين على أن يصلوا إلى ما وصل إليه المسلمون من الحضارة، بل وإنهم قادرون على يبدعوا ويبتكروا فيسبقوا غيرهم، ويكونوا أفضل من غيرهم. أذكر على سبيل المثال، ما قدّمه مونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو للامة الفرنسية لحثّهم على التغيير والتطور، بحيث أن ذكر الثورة ومبادئها أصبح مقروناً بأسماء هؤلاء المثقفين، وبعد جهد جهيد نجحوا في اشعال فتيل الثورة ووضع أسس ومبادئ الثورة الفرنسية، التي مازال الشعب الفرنسي يتغنى بها. هذا مثال مما قدمه المفكرون الغربيون فماذا قدّم المفكرون العرب، لحد الآن، من أفكار وآراء تنعش الفكر والثقافة؟

ها هو الدكتور فؤاد زكريا، من كبار المثقفين العرب وكبار العلمانيين، يقول في كتابه الصحوة الإسلامية في ميزان العقل " الكل في بلاد العالم الثالث، ينهضون، وإن لم ينهضوا يقاومون، وتنتفض قلوبهم بروح الثورة والسخط على الأوضاع، ويتملكهم الأمل في مستقبل يتغير فيه مجتمعهم وانسابهم إلى الأفضل... إلّا العالم الإسلامي، فكل شيء فيه هامد خامد، وكل شيء فيه مبعثر ومنقسم، وكل روح فيه منطفئة مكدوده، أما الأمل، قصارى الأمل، ففي أن يدوم الحال، ولا يطرأ "مكروه" يقلب الأوضاع ويعكر الهادئ ويغير المستقر". فأي تشاؤم وسلبية وإحباط في حق العالم الإسلامي يمكن أن يقال أكثر مما وصف به مثقفنا الكبير عالمنا الإسلامي. هو يعلم بالتأكيد، أن كوسوفو والبانيا والبوسنة والهرسك، هي دول إسلامية غير متخلفة، وكذلك تركيا وإيران واندونيسيا تعتبر دولاً ناهضة. فلماذا ينتقص من دول العالم الإسلامي؟ أم أنه يقصد دول العالم العربي كونها تعتبر الدول المتخلفة من العالم الإسلامي! وإذا كان يصف مجتمعه المصري بتلك الصفات البائسة واليائسة، أليس المجتمع المصري جزءً من المجتمع العربي ويتصف بصفاته. ألم ينشأ فؤاد زكريا فيه وتربى فيه وتعلم فيه، وبالتالي فإن كل ما ذكره عن سلبيات مجتمعه تعود عليه أيضاً. أم إنه يعتبر نفسه أفضل من أبناء مجتمعه وأرقى منهم. إن دور المثقف في المجتمع هو دور قيادي. فهو يقود المجتمع بإيضاح الطرق والوسائل التي تقود المجتمع إلى النجاح والتقدم وليس عن طريق التجريح وإظهار الفشل والعجز واليأس. لكن مع الأسف، هذا ما دأب عليه المثقفون العرب. وهذه دعوة لكل المثقفين أن يكونوا متسامحين مع افراد المجتمع، وأن يكونوا محبين لهم، ويحترمون آرائهم وعقائدهم.

يمكن وصف ثقافة مجتمعنا العربي، مع الأسف، بثقافة التخلف، ذلك أن عقولنا وتعاليمنا وثقافاتنا بنيت على مبدأ النقل والنقل الاعمى، الذي لا يعتمد مبدأ التفكير ولا التقييم للرأي الآخر الذي نسمعه أو نقرءه. وهذا ما فعلناه وما زلنا نفعله، أقصد القبول بالرأي الأوروبي على أنه القدوة التي يؤخذ بها دون الاهتمام بقيمنا وتراثنا وعاداتنا، لأنها أصبحت بالية متخلفة لا تصلح للنهضة والتقدم، وهذا منطق من لا ثقة له بنفسه ولا بشعبه ولا تراثه. لذلك علينا العمل على تغيير أسلوب تفكيرنا من نقل وتقليد إلى ابتكار وابداع.

ونتساءل أيضا، لماذا يبدع الفرد العربي في مجال اختصاصه عندما يمارس عمله التخصصي في الدول الغربية، ويكون عاجزا عن الابداع في بلده العربي؟ من المنطقي أن الجواب لا يشير إلى تخلّف الفرد العربي، بل إن السبب يكون في فشل المجتمع، وتحديداً السلطة السياسية والإدارية، التي لم توفر له عوامل التقدم والابداع، وذلك بسبب كونها سلطة مستبدة لا تهتم بمصلحة الشعب والوطن، وبالتالي يبقى المجتمع متخلفاً. وهنا يبرز دور المثقف في تنوير المجتمع بدور السلطة وتحميلها مسؤولية أدائها لدورها في تقدم المجتمع، وتحديد سلطاتها التنفيذية عن طريق فصل السلطات.

***

د. صائب المختار

 

في عالم يُقاس فيه الإنسان بعدد إنجازاته، وتُقاس الراحة فيه بعدد خطواتها على السلم الوظيفي، تبدو فكرة "اللاشيء" فعلاً مستحيلاً، بل وخطيئة تُرتكب في وضح النهار. فالزمن الراهن لا يتيح لأحد أن يتوقف دون أن يشعر بالذنب. حتى حين نستلقي، علينا أن "نرتاح بفعالية"، أن "نأخذ استراحة منتجة"، أن "نعيد شحن طاقتنا" لنعود فوراً إلى حلبة الركض.

لكن ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟ ماذا لو كان الكسل – ذاك المتهم الأبدي – هو لحظة الوعي الأكثر صفاءً؟ وماذا لو كانت فترات التوقف هي التربة التي تُزرع فيها بذور الإبداع؟ ماذا لو كانت "اللا إنتاجية" عملاً في حد ذاتها، فعلاً مضاداً لصخب العالم، وصوتاً خافتاً يذكرنا بأننا بشر قبل أن نكون آلات؟

بعد الجائحة، حين أُجبر الناس على التوقف قسراً، بدأ سؤال الكسل يعود من الظل: هل نملك حقاً وقتاً لأن نكون؟ وهل الراحة خطيئة أم فريضة إنسانية؟ الكل شعر بذلك التوتر بين الحبس الجسدي والانفلات الزمني، بين العطالة وبين الوعي بأن لا أحد يطلب منك شيئاً، ولا حتى نفسك.

هذا القلق من السكون ليس جديداً. منذ أكثر من قرن، كتب بول لافارج "الحق في الكسل"، مذكّراً بأن الحضارة لا تقف على أكتاف العمّال وحدهم، بل تنهار حين تُرهقهم. اقترح تقليص ساعات العمل لا كسلاً بل كي يستعيد الإنسان دوره ككائن يشعر، ويتأمل، ويعيش. ومن بعده جاء الفيلسوف خوان إيفاريستو فالس، ليعطي الكسل بعداً وجودياً، فـ"العمل"، كما قال، أصبح شكلاً من أشكال السيطرة، بينما الكسل مقاومة ناعمة لنظام لا يعترف إلا بمن يركض.

لكن المشكلة أعمق من ذلك. نحن لا نعمل فحسب، بل نحمل العمل في جيوبنا وهواتفنا وعقولنا، حتى ونحن في السرير. الحدود بين العمل والحياة الشخصية انمحت، والجيل الجديد – جيل الألفية – لم ينل من "حرية العصر" سوى عبء الاختيار الدائم، وسوط المقارنة، وهاجس الإنجاز الذي لا يهدأ.

وكما كتب أنتوني غوتيريز روبي، لقد أصبح التفكير، والقول، والفعل، يتلاحقون بسرعة البرق. لم يعد هناك زمن بين اللحظات. كل شيء يجب أن يحدث الآن. لكن ميهالي تشيكسينتميهالي يذكّرنا في كتابه "الإبداع" أن الإبداع يتطلب ترف الانتباه، ورفاهية الوقت، وهامشاً من اللاجدوى.

وهكذا، يصبح الكسل ليس كسلاً، بل فعلاً مقاوماً، لحظة نادرة نعود فيها لأنفسنا، لا لننتج، بل لنستمع. وكما أن بعض الثقافات باتت تعترف بالموت من فرط العمل – كما في "كاروشي" اليابانية – فإن السؤال المطروح اليوم ليس كيف ننجز أكثر، بل: كيف نعيش أكثر؟ كيف نوازن بين أن نكون فاعلين وأن نبقى أحياء؟

ربما لا توجد إجابة نهائية. لكن لعل أول خطوة نحو الحل تبدأ من منح أنفسنا إذناً مؤقتاً بالكسل... لا باعتباره لحظة ضعف، بل قصيدة تُرتّل بصمت ضد ضجيج العالم.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

ما معنى الخوف؟ ولماذا يخاف الإنسان؟ وما هي أنواع الخوف؟ وكيف يتعالج الإنسان من الخوف غير الطبيعي؟ وهل الخوف غريزة إنسانية فقط؟

كل هذه التساؤلات تُعدّ محاولة لفهم جوهر الخوف، وفيما يلي محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات من زاوية فلسفية نفسية، لأن الخوف ليس مجرد فكرة، بل هو حالة وسلوك إنساني تجاه موقف ما.

أولًا- الخوف الوجودي لدى الإنسان البدائي  والمعاصر:

منذ العصور البدائية القديمة، كان الخوف أنيس الإنسان، فلم يكن يعلم بعد أسباب التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية كالزلازل والأمطار والبراكين، كان يواجه الحيوانات المفترسة أثناء تأمين لقمة عيشه الروتينية القائمة على الصيد. هذا ما جعله يبحث عن مأوى، فشقّ الكهوف، وجعله يعيش في جماعات ليقلل من شعوره بالخوف.

وكذلك الإنسان المعاصر؛ فبالنسبة له، أصبح الخوف هو الجني الذي يصادفه في كل مكان، بسبب انتشار الحروب وما ينتج عنها من دمار، والقتل، والسرقة، وهتك الأعراض.

أصبح يخاف على وجوده، مُلبِّيًا نداء غريزة البقاء، فأخذ يُطبّق شروط الصحة والسلامة المهنية، ويؤمّن المنشآت بأعلى المستويات، سواء من خلال العناصر البشرية أو الأجهزة الإلكترونية.

كل ذلك لماذا؟! بسبب الخوف بمعناه الشامل: الخوف على النفس من الأذى، وعلى الممتلكات من السرقة، وعلى الأبناء من الاختطاف.

ثانيًا- معنى الخوف بين الفلسفة وعلم النفس:

الخوف فلسفيًّا:

نجد التعريفات نسبية، تختلف من فيلسوف إلى آخر، فهذا سُقراط يتحدث عن الخوف ويقول: "الخوف يجعل الناس أكثر حذرًا، أكثر طاعة، وأكثر عبودية"

ومن زاوية أخرى، يحدثنا أرسطو طاليس بقوله عن الخوف: "الخوف هو الألم الناتج عن توقّع الشر"

ومن وجهة نظرنا، نرى أن الخوف هو حالة متشابكة ومعقّدة، تؤدي إلى ردود أفعال ناتجة عن استشعار أو توقّع خطر قريب

الخوف في علم النفس:

نجد عاِلم النفس النمساوي سيجموند فرويد يربط الخوف بخطر يهدد الإنسان، ويعزوه إلى صراع داخلي نتيجة الغرائز المكبوتة في اللاوعي، ولا نعجب من تعريفه هذا، لأن فرويد يبني كل آرائه على نظرية الغرائز، ويفسر الإنسان ودوافعه من زاوية الجنس فقط، وهي فرضيات قد تكون صائبة أو خاطئة، وليست مسلّمات، فالإنسان أكبر وأعقد من أن نُفسّر دوافعه وسلوكه بنظرة أُحادية.

فالإنسان كائن اجتماعي، يتأثر ويؤثر في المحيط الذي يعيش فيه، كما أن تاريخه الشخصي يلعب دورًا مهمًّا في فهم سلوكه.

كما نجد أيضًا عالم النفس والفيلسوف إيريك فروم يحدثنا عن الخوف، ولكن من زاوية ارتباطه بالحرية.

فيرى أن الإنسان اعتاد ثقافة الانصياع والتبعية، وعندما تُتاح له الفرصة للتحرر، يبدأ الخوف، لأنه يرتبط بالمسؤولية، ويُصبح مسؤولًا عن أفعاله وسلوكه، ولهذا ربط فروم بين الخوف والحرية.

ثالثًا- أنواع الخوف عند الإنسان:

على نفس النمط الديكارتي، نقول إن هناك نوعين من الخوف

الخوف المنهجي: وهو الخوف السويّ الطبيعي الذي يهدف إلى تحقيق هدف ما، حيث يلعب دورًا تحفيزيًّا مشجعًا على بذل الأفضل أثناء أداء المهام

الخوف المذهبي (إن جاز التعبير): ونقصد به الخوف المرضي غير   الطبيعي، كأن يخاف شخص من أشياء مألوفة، مثل الخوف من القطط، رغم أنها رمز للوداعة والبراءة عند كثيرين،

ففي هذا السياق، يصبح الخوف كما لو كان مذهبًا لا إراديًّا.

رابعًا- كيف يتعالج الإنسان من الخوف غير الطبيعي؟

نقول "الخوف غير الطبيعي" لأن الإنسان لا يستطيع التخلص من الخوف تمامًا، فهو غريزة دفينة فيه.

لكن يمكن التخفيف منه أو التحكم فيه عبر طريقتين:

الأولى الوصفة الفلسفية: من وجهة نظر الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي قال: "المعرفة هي الترياق للخوف". فمن وجهة نظرنا، الإنسان يخاف مما يجهله وينفر منه. وفي الموروث الشعبي يُقال: "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش"

وأعتقد أن أفلاطون كان يقصد كسر حاجز الخوف من خلال الشجاعة في معرفة ما نجهل.

الثانية الوصفة النفسية

وتتمثل في العلاج السلوكي المعرفي حيث يتم تغيير أنماط التفكير السلبية لدى الشخص المصاب بالخوف المرضي إلى أنماط إيجابية، ويتم ذلك تحت إشراف مختصين نفسيين.

خامساً- هل الخوف غريزة إنسانية فقط؟

بالطبع لا:

فالحيوانات والحشرات أيضًا تخاف، سواء بفطرة غريزية أو أحيانًا باكتساب التجربة.

فالخوف الفطري يظهر في ردود أفعالها تجاه الحيوانات المفترسة أو الحركات المفاجئة أو الأصوات العالية.

أما الخوف المكتسب، فقد يظهر نتيجة مراقبة الحيوانات لبعضها البعض، فتتعلم من ردود أفعال الآخرين ضمن مجموعتها.

خاتمة:

نرجو أن نكون قد قدّمنا إجابات وافية للتساؤلات المطروحة حول الخوف.

ونختم بمقولة طريفة للفيلسوف اليوناني سقراط عن الخوف والقلق:

"تخاف المرأة على المستقبل حتى تجد زوجها، ولا يخاف الرجل على المستقبل حتى يجد زوجته، حينها يبدأ في القلق".

***

محمد أبوالعباس الدسوقي

يمكن أن يُنظر إلى الخوف كحالة نفسية تؤثر على الوعي الفردي والجماعي، مما يؤدي إلى تقبل القمع، غالبًا ما يتم استخدام الخوف في السرديات التاريخية* لتبرير الأفعال السياسية، مثل الحروب أو القمع. دراسة السرديات التاريخية وسلطة الخوف تسلط الضوء حول كيفية تشكيل الأفكار والمعتقدات من قبل قوى السلطة، ان فهم تأثير سلطة الخوف يتطلب النظر في كيفية تداخل هذه السرديات مع الواقع الاجتماعي والسياسي ويمكن استنطاق الأسئلة حول الحرية، والسلطة، والهوية، مما يؤدي إلى تعميق دور الخوف في الحياة الإنسانية.

تبرير الاستبداد

التهديدات الخارجية أو الداخلية، مثل "الإرهاب" أو "الفوضى" تبرر اتخاذ تدابير قاسية كما تستخدم قصص الحروب أو الأزمات كأدلة على الحاجة إلى سلطة قوية لحماية الأمة ،يتم تصوير الحكام كمنقذين أو أبطال تاريخيين، مما يخلق ولاءً عاطفيًا للشخصيات الحاكمة، اي أنهم ضروريون لحماية القيم الوطنية أو الثقافية، مما يُعزز من قبول الجمهور لهذه الشخصيات، تُصوّر المعارضة كخيانة أو تهديد للأمن القومي، مما يجعل من السهل تبرير القمع ضدهم، تُظهر السرديات التاريخية كيف أن الأمة أو الشعب يمتلك تاريخًا عريقًا مما يُعزز من شعور الفخر القومي ويزيد من قبول السياسات الاستبدادية وتوجيه المعلومات التي يتلقاها الجمهور، مما يحد من النقاشات النقدية حول السلطة، تُعتبر السرديات التاريخية أداة قوية في يد الأنظمة الاستبدادية، حيث تساعد في تشكيل الهوية الوطنية وتوجيه الرأي العام نحو قبول السلطة. من خلال إعادة صياغة الأحداث، يمكن للأنظمة خلق بيئة تجعل من الاستبداد يبدو كخيار منطقي وضروري.

تأصيل الخوف

تعمل السرديات التاريخية على تأصيل الخوف في الذاكرة الجماعية من خلال روايات الأزمات، الحروب، والكوارث، مما يخلق شعورًا دائمًا بالخطر كما تُستخدم أحداث تاريخية كتحذيرات للأجيال الجديدة، والذي يعزز من فكرة أن الإذعان للسلطة ويجعلها هي الحل الوحيد ،كذلك يتم خلق صورة للعدو تُحدد من قبل  السرديات التاريخية مما يُبرر استخدام القوة للحفاظ على النظام وتحويل الخوف إلى ولاء .ان  تصوير الصوت الاخر كتهديد حقيقي يمكن النظام من تعزيز ولاء بقية المواطنين كما يساعد على إضفاء الشرعية على الخوف من خلال تصوير الاستبداد ضرورة، وهو السبيل الوحيد للحفاظ على الاستقرار والأمان في نفس الوقت كذلك  تبييض السلوك القمعي وكأنّه وسيلة لحماية الشعب من التهديدات، مما يجعل الخوف من العواقب سببًا لقبول الاستبداد ، ان استمرارية الخوف وعدم الثقة في البدائل  يعزز من الاستبداد كما تستخدم السرديات التاريخية لتعزيز الهوية الطائفية و خلق شعور بالانتماء الذي يجعلهم أكثر قابلية لتأكيد التفوق الثقافي ، تُظهر السرديات التاريخية كيف أن الأمة التي تقف بوجه التحديات التاريخية  تتمكن من تعزيز فكرة البقاء  تتطلب سلطة قوية حتى لو كانت استبدادية. تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم السلطة المبنية على الخوف وتُستخدم لتأسيس شرعية الأنظمة وتوجيه الرأي العام من خلال خلق شعور دائم بالخطر كي تتمكن السلطات من خلاله فرض سيطرتها وتعزيز ولاء المواطنين، ما يجعل من الخوف وسيلة فعالة للحفاظ على السلطة.

لعنة الفهم

يمكن اعتبار الفهم "لعنة" عند النظر إلى دور السرديات التاريخية في تأصيل الخوف لان الفهم العميق للسرديات التاريخية يساعد على تطوير وعي نقدي يمكن الأفراد من تحليل الأحداث بطريقة موضوعية، كما يمكن أن يؤدي إلى فضح الأكاذيب والتلاعب، مما يعزز الدعوات للعدالة والمساءلة في أكثر الأحيان. الفهم يؤدي إلى إدراك أعمق للتهديدات الحقيقية أو المتصورة، مما يقلل من مشاعر الخوف والقلق ،يمكن أن يستخدم الفهم كأداة لكشف السرديات الوهمية، حيث يعري استخدام المعرفة لتبرير القمع أو الاستبداد وكيف يمكن للقوى الاستبدادية أن تستغل قلة الفهم التاريخي لتوجيه السرديات لصالحها، مما يجعل من السهل على الأفراد مقاومة السلطة، الفهم يمكن أن يكون سلاحًا يوفر أدوات للتفكير النقدي والعدالة، ويمكن أن يُستخدم أيضًا لكشف التأثيرات السلبية لسلطة الخوف وشرعنه الاستبداد ، يجب ان يكون الفهم مصحوبًا بتفكير نقدي ومساءلة مستمرة.

معارضة السلطة مغالطة سردية

تصور السلطة المعارضة كخيانة وتُستخدم السرديات لتصوير المعارضين كخونة أو أعداء*، مما يُعزز من قبول الجمهور للقمع ،من خلال تسويق الخوف يتم تقديم المعارضة على أنها تهديد للأمن والاستقرار، مما يُبرر استخدام القوة ضدها، تُقلل السرديات من أهمية حقوق الأفراد في التعبير والتجمع، مُصورةً أن الاستبداد هو الحل الوحيد ،تُغفل السرديات أهمية التنوع في الآراء وضرورة الحوار، مما يُضعف من قدرة المجتمع على النمو والتطور ، تُعزز السرديات من فكرة أن أي معارضة تعني الفوضى، مما يُخوف الناس من التعبير عن آرائهم وتُشجع على تجريم النقاشات حول السلطة، مما يُعزز من هيمنة الأفكار السائدة في العديد من الأنظمة الاستبدادية. تُظهر التجارب التاريخية أن المقاومة يمكن أن تكون ضرورة للحفاظ على الحقوق والحريات، ان استخدام السرديات التي تصور المعارضة كتهديد مغالطة سردية، حيث تُستخدم لتبرير القمع وتعزيز الخوف، من المهم تفكيك هذه السرديات لفهم ان دور المعارضة جزء أساسي من الحياة الديمقراطية وحق الأفراد في التعبير.

سرديات الاستبداد وحكم القبيلة

في كل من الاستبداد وحكم القبيلة، تتجمع السلطة في يد القائد أو الزعيم، مما يقلل من المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات، يُعتمد الولاء الشخصي للزعيم، سواء كان حاكمًا استبداديًا أو شيخ قبيلة، مما يعزز من سلطته ،يرتكز كل من النظام الاستبدادي وحكم القبيلة على الخوف كوسيلة لتأكيد السيطرة، حيث يُستخدم التهديد بالعقوبات للحفاظ على النظام ،تُعتبر المعارضة في كلا النظامين خيانة تُعرض الشخص للخطر، مما يُعزز من هيمنة السلطة .تُعزز صورة الزعماء كأبطال تاريخيين، مما يُزيد ولاء الشعب لهم في أوقات الأزمات كما يُستخدم كل من الاستبداد السردي وحكم القبيلة لتقديم السلطة كحل وحيد لحماية الجماعة لذا تُستخدم إجراءات قمعية في كلا النظامين لتأكيد السيطرة، في أوقات الاضطراب يتم الالتقاء بين الاستبداد السردي وحكم القبيلة والاعتماد على الخوف في تعزيز الهوية الجماعية، هذه الديناميات تبين أن القيم التقليدية يمكن أن تُستخدم لتثبيت الأنظمة الاستبدادية، سواء في السياقات القبلية أو الطائفية.

التطور التكنولوجي

تتيح التكنولوجيا الحديثة، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، للأفراد الوصول إلى معلومات متنوعة، مما يساعدهم في كشف الحقائق وتحدي السرديات الرسمية ،يمكن أن تؤدي المعلومات المتاحة إلى زيادة الوعي السياسي والاجتماعي، مما يعزز من قدرة الأفراد على التفاعل والنقاش، تتيح التكنولوجيا للمعارضين تنظيم أنفسهم بسرعة وفعالية، مما يسهل من حركات الاحتجاج والمقاومة ،يمكن أن تُستخدم التكنولوجيا لتوثيق الانتهاكات الحقوقية، ويزيد من الضغط على الحكومات لتحسين سلوكها تساهم الشبكات العالمية في نشر المعلومات حول الانتهاكات، مما يرفع من مستوى الوعي الدولي ،يمكن أن تؤدي التكنولوجيا إلى تغييرات ثقافية، حيث يتم ُتعزيز قيم الديمقراطية والشفافية والمساءلة كما تواجه الأنظمة الاستبدادية تحديات في السيطرة على المعلومات، حيث يمكن أن تتسرب المعلومات بسهولة، مما يقلل من فعالية الرقابة  . ومع ذلك، يعتمد النجاح على قدرة الأفراد على استخدام هذه التكنولوجيا بفعالية لتحقيق التغيير، بينما يمكن أن تلعب التكنولوجيا دورًا مهمًا في تحدي الأنظمة الاستبدادية، فإن هناك حدودًا تؤثر على هذا التأثير، تشمل هذه الحدود الرقابة، الاستجابة القمعية، الفجوة الرقمية، والانقسامات الداخلية، لذا، يتطلب تحقيق التغيير جهودًا متكاملة تشمل التعليم، التوعية، والتنظيم.

***

غالب المسعودي

..........................

* في القرون الوسطى، استُخدم الخوف من الطاعون لتعزيز السرديات حول العقاب الإلهي، مما أدى إلى زيادة الاضطهادات ضد الأقليات.

* فترة مكارثي، التي امتدت من أوائل الخمسينيات إلى منتصفها، كانت مرحلة مثيرة للجدل في التاريخ الأمريكي، حيث تم استخدام استراتيجيات قوية لقمع المعارضة.

تكونت رفقة نضالية وصداقة شعرية بين ادوارد سعيد ومحمود درويش عبر خوضهما تجربة سياسية مشتركة ولقد تمتع المثقفان بصداقة رائعة امتدت لثلاثين عامًا، اتحدا خلالها في النضال من أجل الاستقلال في وطنهما فلسطين. كان إدوارد سعيد ومحمود درويش من أهم رواد المؤسسة الثقافية الفلسطينية. نشأت صداقة مميزة بين سعيد، الأكاديمي المعروف، ودرويش، أحد أبرز شعراء جيله الفلسطينيين، بعد لقائهما الأول. كان للشاعرين تاريخٌ مشترك، فقد هُجّرا من ديارهما خلال النكبة، ورفعا الصوت الفلسطيني في الشتات طوال حياتهما. غادر سعيد مسقط رأسه القدس الغربية إلى المنفى في القاهرة، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بينما دُمّرت قرية درويش، مسقط رأسه البروة في الجليل الأعلى، على يد قوات الاحتلال الصهيوني. أمضى درويش حياته متنقلاً بين عواصم عربية مختلفة، منها القاهرة وتونس، قبل أن يستقر في باريس. في عام ١٩٧٤، التقى سعيد ودرويش لأول مرة في نيويورك. كان كلاهما يُقدّر المثقفين، وأصبحا سفيرين ثقافيين لمنظمة التحرير الفلسطينية. صاغ الاثنان خطاب ياسر عرفات التاريخي عام ١٩٧٤ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كتب درويش الخطاب بالعربية، وصاغ سعيد ترجمته الإنجليزية الرسمية. برزت مؤهلات كاتبي الخطاب الشعرية عندما أعلن الزعيم الفلسطيني للعالم: "جئتُ حاملاً غصن زيتون في يدي، وبندقية المناضل في الأخرى". أخيرًا، شعر المثقفان بخيبة أمل تجاه القيادة السياسية الفلسطينية خلال توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقيات أوسلو عام ١٩٩٣، حيث أعلن درويش أن الاتفاقية تُمثل نهاية المؤسسة السياسية الفلسطينية، بينما وصفها سعيد بـ"فرساي فلسطين". أصبح درويش لاحقًا رئيس تحرير مجلة "الكرمل" الأدبية والثقافية القبرصية، حيث كان سعيد ينشر مقالاته الأكاديمية وتعليقاته باستمرار. في عام ٢٠٠٣، توفي سعيد بعد صراع طويل مع سرطان الدم. رثى درويش حياة صديقه القديم، ونضاله من أجل الحرية الثقافية، وهويتهما المشتركة كمهاجرين فلسطينيين في قصيدته "طباق". انشد درويش

يقول: أنا من هناك،

أنا من هنا،

لكنني لستُ هناك ولا هنا.

لديّ اسمان يلتقيان وينفصلان...

لديّ لغتان، لكنني نسيتُ منذ زمنٍ طويل

أيّهما لغة أحلامي.

لديّ لغة إنجليزية للكتابة،

بعباراتٍ طليقة،

ولغةٌ تتواصل بها السماء والقدس، بإيقاعٍ فضيّ،

لكنها لا تُخضع خيالي.

هذا الشعر السياسي كان تحية محمود درويش المُغيّرة للنوع الأدبي لإدوارد سعيد وفي هذا السياق نقدم تحليلاً لقصيدة "طباق"، وهي قصيدة رثاء كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش تكريماً لإدوارد سعيد. وإذ أشير إلى أن القصيدة تُظهر جوانب من عدد من الأنواع الأدبية وتُظهر نهج درويش المُبتكر عموماً في التعامل مع الأشكال الأدبية التقليدية، فإنني أتناول كيفية تحويله للمرثية، ذلك النوع الرثائي الذي شكّل جزءاً من التراث الأدبي العربي منذ العصر الجاهلي. وأُجادل بأن درويش استغل مناسبة كتابة المرثية للتعليق على سياسات سعيد، وللاستخدام المُحترم لأساليبه النقدية، ولا سيما استعارته متعددة التخصصات للطُباق، وهو مفهوم يُستخدم عادةً في تحليل الموسيقى. بإعادة صياغة المرثية التقليدية لتمثيل حياة سعيد في المنفى وأعماله المتنوعة، وتطبيق أسلوبه الطُباق في الحوار المُصوّر في القصيدة، يرثي درويش صداقة طويلة الأمد، ويدعم قضية سياسية مشتركة. اما سعيد فقد تحدث عن الاسلوب المتأخر في ادارة المعركة، نتناول هنا نقديًا مفهوم إدوارد سعيد لـ"الأسلوب المتأخر" في ضوء الأحداث الكارثية المستمرة في فلسطين. ويجادل بأن "تأخر البدايات" يمثل أعمق مقاومة للمثقف الفلسطيني ضد الكارثة، والموت الوشيك، والتشريد، والاستعمار. في مواجهة الكارثة المستمرة، تُنعش المقاومة في فلسطين ما بعد الألفية حاليًا بفضل إبداع الأجيال الفلسطينية الجديدة، التي حققت تأخرًا مجازيًا من خلال تكرار الكارثة. يستكشف الفصل إعادة تشكيل مقاومة الأسلوب المتأخر في أعمال إدوارد سعيد ومحمود درويش ومريد البرغوثي، مجادلًا بأن أعمال هؤلاء المثقفين مهمة في إبراز نقد معارض في مواجهة الأجندات الانقسامية في هذه اللحظة الأكثر حرجًا في استمرار النضال الفلسطيني. نحاول هنا التركيز على المثقف السعيدي الذي يؤدي دورًا نموذجيًا في مقاومة التضليل الأيديولوجي الذي تمارسه ثقافة مهيمنة على ثقافة ضعيفة، والذي يؤدي في النهاية إلى الإمبريالية والاستعمار. هذه المقاومة فكرية بامتياز، وترتبط ببعض الممارسات النقدية للمثقف نفسه. هذه المقاومة، غير قسرية في جوهرها، تستلزم منه أسلوبًا نقديًا علمانيًا في معارضته للهوس العقائدي، وهاويًا في تحرره من فخاخ الاحتراف، ومنفيًا في تبنيه وجهات نظر تعددية. تتطلب مهمة المقاومة أيضًا من المثقف، كناقد، أن ينظر إلى عمل ثقافي كالرواية على أنه نتاج ظروف دنيوية، تتأثر بشدة بالموقف الأيديولوجي للمؤلف نفسه. وهذا بدوره يتطلب من الناقد أن ينتقل من النقد البنيوي، الذي يرى أن النصوص متجانسة تقليديًا، إلى النقد التبعي، الذي يرى أنها تحمل بصمات التأثيرات المهيمنة للثقافات، وغالبًا ما تكون إمبريالية. بالاستفادة من كل هذه الرؤى، يمكن للمثقف أن يشارك في نمط مقاومة ثقافي، وخاصة أدبي، من خلال إنتاج خطاب مضاد يُطلق عليه اسم "رحلة في". في نهاية المطاف، تُولّد هذه الممارسات شجاعة أخلاقية لدى الناقد، وتُمكّنه من قول الحقيقة للسلطة بجميع أشكالها ومظاهرها. فكيف مثلت القصيدة الشعرية سياسة مقاومة وسردية ثورية عن الشعب الفلسطيني عند درويش وكانت الأنثربولوجيا عند سعيد معادية للامبريالية ومنتصرة للقضية الفلسطينية؟.

***

د. زهير الخويلدي

السرديات التاريخية تُعتبر وسيلة لفهم الماضي وتفسير الأحداث التاريخية، وغالبًا ما تُستخدم لتشكيل هوية المجتمعات. من خلالها يشعر الناس بأن لديهم جذورًا وتاريخًا يعزز من هويتهم، تعكس السرديات التاريخية قصص النجاح والصمود في وجه التحديات، مما يمنح الأمل للأجيال القادمة ويحفزهم على العمل من أجل مستقبل أفضل، من خلال سرد أحداث الماضي يمكن للمجتمعات أن تتجنب الشعور بالفراغ الوجودي. هذه السرديات تعطي انطباعًا بأن هناك معنى للتجارب البشرية وتُعزز الهوية الجماعية، مما يخلق شعورًا بالانتماء بين الأفراد هذا الانتماء يمكن أن يكون مصدر قوة في مواجهة التحديات كما يساعد في تشكيل الذاكرة الجماعية، حيث يتم تخزين الأحداث والتجارب التي تُعتبر مهمة في ثقافة ما، ويضمن استمرارها، غالبًا ما يتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتناسب أيديولوجيات معينة، مما يخلق سرديات قد تكون بعيدة عن الحقيقة لكنها تعزز الشعور بالنجاة، تعتبر السرديات التاريخية أدوات قوية لتشكيل فهمنا للوجود والهوية. رغم أنها قد تحتوي على أوهام، فإنها تلعب دورًا حيويًا في كيفية تعامل الأفراد والمجتمعات مع فكرة العدم.

السرديات التاريخية دعاية سياسية

تقوم بعض الحكومات أو الجماعات السياسية بتوجيه السرديات التاريخية لتناسب أهدافها، مما يؤدي إلى تحريف الأحداث أو تهميش بعض الجوانب، تُستخدم السرديات التاريخية لتعزيز الهوية ، حيث تُبرز إنجازات معينة وتُقلل من الأزمات أو الأخطاء، مما يساعد في بناء ولاء جماعي، يمكن أن تُستخدم السرديات لتأجيج المشاعر الوطنية أو القومية، مما يؤدي إلى خلق مشاعر الكراهية تجاه جماعات أو دول أخرى، تُستخدم بعض السرديات التاريخية لتسويغ السياسات ، حيث يتم الاستعانة بمواقف تاريخية لتبرير الأفعال المعاصرة، يتم إعادة تفسير الأحداث التاريخية لتناسب الأجندات السياسية، مما يؤدي إلى تغيير الفهم العام للتاريخ بينما تسعى السرديات لتوفير معنى وهياكل للوجود، يمكن أن تتحول أحيانًا إلى أوهام تُخفي الواقع القاسي، ،هذا يتطلب وعيًا نقديًا لفهم المصادر والتوجهات التي تُقدّم هذه السرديات.

السرديات والنجاة من العدم

كثير من الفلاسفة، مثل هايدغر، تناولوا مسألة الوجود والعدم. يُعتبر العدم تهديدًا للوجود البشري، السرديات تُستخدم كوسيلة لمواجهة هذا التهديد من خلال منح معنى وهدف للحياة. وفقًا لفلاسفة مثل فوكو، تتأثر الهوية بالسرديات الاجتماعية والتاريخية، مما يسمح للأفراد بالنجاة من الشعور بالوحدة، الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) اعتبر أن السرد يمتلك القدرة على إعادة تفسير الماضي وإعطائه معنى. من خلال سرد الأحداث، يمكن للناس أن يجدوا قيمتهم وهدفهم في الحياة من خلال البحث عن المعنى الذي ُيعتبر جزءًا أساسيًا من الوجود، السرديات تساعد في تشكيل المعنى والسعادة، من خلالها يمكن للناس تجاوز شعور العدم، حيث يمنحهم القدرة على رؤية أنفسهم كجزء من قصة أكبر، مما يخلق شعورًا بالانتماء والأهمية، السرديات تلعب دورًا محوريًا وتساعد الأفراد والمجتمعات في مواجهة التحديات الوجودية، مما يساهم في تشكيل فهمهم للواقع.

النقد التاريخي

النقد التاريخي يعمل على تحليل السرديات السائدة، مما يساعد في الكشف عن التحيزات التي قد تُخفي الواقع. من خلال فحص المصادر التاريخية، يمكن أن نرى كيف تم تشكيل تصورات عن المعنى و السعادة، يساهم النقد التاريخي في إظهار الأحداث والتجارب التي تم تجاهلها أو تهميشها كما يمكن أن يُظهر أن السعادة المزعومة قد تكون مبنية على تجارب سلبية أو معاناة لم يعترف بها، يساعد النقد التاريخي في فهم السياقات الاجتماعية والسياسية التي تُنتج السرديات، من خلال دراسة الظروف التي أدت إلى تشكيل تصورات معينة عن المعنى والسعادة، يمكننا أن نفهم كيف تُستخدم هذه السرديات لأغراض سياسية أو اجتماعية، من خلال نقد السرديات التاريخية، يمكن إعادة تعريف القيم المرتبطة بها. يُظهر النقد كيف أن بعض القيم قد تكون مشوهة أو غير واقعية، مما يساعد الأفراد على التفكير بعمق فيما يعنيه تحقيق المعنى والسعادة كما يشجع النقد التاريخي على تعزيز التفكير النقدي، مما يجعل الأفراد أكثر وعيًا بالوسائل التي تُستخدم لتشكيل أفكارهم. هذا الوعي يمكن أن يُساعد في تحطيم الأوهام المتعلقة بالمعنى والسعادة المُقدَّمة من قبل السرديات، من خلال تحليل السرديات وفهم السياقات، يمكن للناس أن يروا ما وراء الأوهام ويبحثوا عن معاني أكثر، واقعية، وصادقة للحياة.

بين اللذة والسعادة

اللذة، هي تجربة حسية أو عاطفية فورية، مثل الاستمتاع بالطعام أو الشعور بالحب. تُعتبر لحظية وعابرة، السعادة هي حالة من الرضا الداخلي والرفاهية العامة، تمتد على مدى طويل وتعتمد على تحقيق الأهداف والقيم ،اللذة غالبًا ما تكون مؤقتة، بينما السعادة تميل إلى أن تكون أكثر استمرارية وعمقا، اللذة تتعلق بالمتعة الحسية أو الانفعالات العاطفية، في حين أن السعادة تتعلق بالمعنى والهدف في الحياة، اللذة قد تكون أنانية في بعض الأحيان، بينما السعادة تتضمن عادةً الاهتمام بالأخر، بعض الفلاسفة، مثل أبيقور، اعتبروا أن اللذة هي هدف الحياة، بينما اعتبر آخرون، مثل أرسطو، أن السعادة هي تحقيق الفضيلة والعيش بشكل جيد.

عزاء أعمى وفخم

تُستخدم السرديات لتجميل أو تحريف الأحداث التاريخية، مما يؤدي إلى تصور زائف عن المعنى والسعادة. قد تُروى القصص بطريقة تُخفف من المعاناة أو التحديات، مما يمنح الناس شعورًا زائفًا بالراحة، تمنحنا السرديات وسيلة للهروب من الواقع الصعب، مما يؤدي إلى تجاهل القضايا الحقيقية التي تحتاج إلى معالجة، يمكن أن تُعظم السرديات التاريخية من تجارب الماضي، مما يجعلها تظهر كأنها نموذج مثالي للسعادة. هذا التقديس للماضي يعزز الشعور بعدم القدرة على تحقيق مثل هذه السعادة في الحاضر مما يمكن أن يجعل الأفراد يشعرون بأن سعادتهم مرتبطة بماضيهم، مما يؤدي إلى التمسك بتصورات قديمة، عندما تروج السرديات لصورة مثالية للسعادة، قد يشعر الأفراد بالذنب لعدم قدرتهم على تحقيق تلك المعايير، مما يؤدي إلى إحباط بدلاً من العزاء(اعمى وفخم)، يمكن أن تؤدي هذه السرديات إلى فصل الأفراد عن واقعهم، مما يجعلهم يعتقدون أن السعادة مرتبطة بمسارات تاريخية غير قابلة للتحقيق في زمنهم الحالي ، حيث تُستخدم لتجميل الماضي وتقديم تصورات تبتعد عن الحقائق المعقدة للحياة. هذا يتطلب وعيًا نقديًا لفهم كيف تؤثر هذه السرديات على تصوراتنا عن المعنى والسعادة.

ميتافيزيقيا ملفوفة بورق الدعاية

تتناول السرديات التاريخية أسئلة حول الهوية، المعنى، والمكانة في التاريخ، مما يجعلها تمس جوانب ميتافيزيقية تتعلق بالوجود والهدف، تحاول هذه السرديات تقديم تفسيرات للتجارب الإنسانية، مما يعكس قضايا ميتافيزيقية تتعلق بالقيم والمعاني، تُستخدم السرديات لتشكيل الرأي وتعزيز وجهات نظر معينة، مما يجعلها تشبه الدعاية التي تهدف إلى التأثير على التصورات، قد تُجمّل السرديات الأحداث التاريخية أو تُقلل من الأبعاد السلبية، مما يجعلها تبدو أكثر إيجابية مما هي عليه في الواقع، تمامًا كما تفعل الدعاية، تؤدي السرديات إلى خلق تصورات قد تكون بعيدة عن الواقع، مما يساهم في إنتاج فهم مشوه للتاريخ والحياة، من خلال تقديم روايات معينة كأنها تاريخ مطلق، يمكن أن تُخفي السرديات وجهات نظر أخرى وتُعزز من مفاهيم غير دقيقة، يمكن اعتبار السرديات التاريخية ميتافيزيقيا ملفوفة بورق الدعاية، حيث تجمع بين محاولة فهم الوجود وبين استخدامها كأداة للتأثير على الرأي العام.

الموت والعدم

يُعتبر الموت حدثًا محوريًا في العديد من السرديات التاريخية، حيث يُمثل نهاية الحياة وتجربة الوجود و يُعبر عن الخسارة والفقدان، في معظم السرديات التاريخية والثقافات، يُنظر إلى الموت كتحول أو انتقال إلى حالة أخرى، مما يُخفف من فكرة الانزلاق في العدم، ويعطى بعدا ميتافيزيقيًا، حيث يُعتبر بداية جديدة وليس نهاية من خلال سرد تجارب الموت والفقدان، ليعزز من شعور المجتمعات بالانتماء والتاريخ المشترك، لكن الموت لا يحمل أي معنى أو قيمة جوهرية موضوعية هو جزء من طبيعة الوجود لأن كل القيم والمعاني التي نبحث عنها مصنوعة اجتماعيًا وليست ذات طبيعة واقعية هذا يحفز الأفراد على التفكير في معنى الحياة وأهدافها ويُساعد في إعطاء معنى في ظل الفقد.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في أزمنة الشدة، حين تشتد الأزمات وتخنق الأمل، يتوقّع المرء أن تلوذ المجتمعات بالصمت أو الحزن أو الانكسار. لكن ما يحدث في الواقع، وعلى نحو يكاد يكون نمطيًا، هو أن السخرية تخرج إلى السطح كأول استجابة، لا بوصفها انحرافًا عن السياق، بل كجزء منه. تُطلق النكات، تُصاغ الميمات، وتتحوّل الفواجع إلى مادة تهكم رقمي يتداولها الناس كما لو أنهم يتقاسمون مأدبة يومية من المفارقات السوداء.

هذه الظاهرة، التي تبدو في ظاهرها تسلية أو تخفيفًا من وقع الأزمة، تستبطن في عمقها آليات نفسية واجتماعية معقّدة. فالسخرية، وفق التحليل النفسي، ليست مجرد طريقة للتعامل مع الألم، بل تُعد من آليات الدفاع المتقدمة التي يمارسها الإنسان حين لا يجد في الواقع ما يوازي حاجته للفهم أو الأمان. فرويد اعتبر النكتة تمرينًا لاشعوريًا على الإفراج عن رغبات أو مشاعر مكبوتة، ووسيلة لتجاوز الرقابة الذاتية أو الخارجية. في لحظات الأزمة، حيث السيطرة على الواقع معدومة، تصبح السخرية لغة بديلة للتنفيس، تمنح الفرد – ولو بشكل زائف – وهم السيطرة، أو على الأقل: إمكانية التعبير دون انهيار.

لكن السخرية لا تقف عند حدود النفس الفردية، بل هي فعل اجتماعي بامتياز. إنها لغة خطاب بديل، غير مباشر، يستخدمه المهمّشون للقول دون أن يُحاسَبوا، وللتعبير من خارج سلطة اللغة الرسمية. في سياقات القمع، وفي لحظات الحرب أو الكوارث، تصبح النكتة أداة نقد لاذعة، تنزع القداسة عن الرموز، وتسخر من السلطة، وتخلق نوعًا من المقاومة الناعمة التي يصعب قمعها. فمن يضحك على الجلاد، يُفقده هالته؛ ومن يهزأ بالخوف، يُقلّل من سطوته.

غير أن المفارقة تكمن في أن السخرية، في لحظة ما، قد تتحوّل إلى آلية تهرّب أكثر منها مقاومة. فكما أن الضحك يحرر، يمكنه أن يخدّر. وكما يفضح التهكم زيف الخطاب، يمكنه أن يُسكن الألم في قشرة من المزاح الساخر. في هذا السياق، قد نجد مجتمعات بأكملها تمارس السخرية اليومية على أزماتها، بينما تتراجع قدرتها الفعلية على الفعل أو التغيير. تتحول السخرية إلى شكل من أشكال التكيّف السلبي، تُنتِج الرضا عن المأساة بدل التمرد عليها. والأسوأ من ذلك، حين توظّف الأنظمة ذاتها هذا النوع من الخطاب لإفراغ الحنق الشعبي من أي مضمون تغييري، بتشجيع التنفيس بدل النقد.

لقد لعبت الرقمنة دورًا مضاعفًا في تعميم هذا النمط من السخرية، وجعلته ظاهرة عابرة للحدود. فأصبح "الميم" أداة نقد سياسي واجتماعي، تتداولها الشعوب كأنها بيان يومي للهم العام. تتكرر النكتة ذاتها بلغات ولهجات مختلفة، لتصبح أداة تواصل عالمي جديد بين المهمّشين والمتعبين والمقهورين. غير أن هذه السخرية الرقمية، رغم انتشارها السريع، قد تفتقد في كثير من الأحيان للعمق أو الهدف. فهي ليست دومًا تعبيرًا عن وعي جمعي بقدر ما هي تفريغ لحظي في بحر من المحتوى المتقلب.

وفي السياق العربي، يبدو حضور السخرية مضاعفًا؛ لا لفرط الفرح، بل لأن الألم فادح والمداخل العقلانية للتغيير محدودة. فتتحوّل النكتة إلى وسيلة بوح، ويغدو التهكم على الواقع جزءًا من مقاومته. ومع ذلك، علينا أن نحذر من السقوط في فخ التهكم المزمن الذي يُميت الإحساس، ويجعل الكارثة مشهدًا عاديًا يثير الضحك لا الغضب.

إن السخرية، في جوهرها، مرآة. تعكس وعيًا جمعيًا مأزومًا، لكنها لا تُنتج بالضرورة مشروعًا للتحرر. ولذا، فإن المعضلة ليست في وجود السخرية، بل في غياب ما يقابلها من فعل. لا بأس أن نضحك على الألم، لكن الخطر كل الخطر، أن نكتفي بالضحك. فما بين التهكم والجمود، خيط رفيع يفصل بين وعي ساخر يسائل الواقع، وسخرية عقيمة تُطبع معه. إن زمن الأزمات، في النهاية، هو أيضًا زمن الأسئلة. والسخرية التي لا تُفضي إلى سؤال، قد تكون مجرد طريقة أخرى للصمت.

***

د. هدى لحكيم بناني

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وأفكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي مارسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. وتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. على سبيل المثال، أثناء العدوان الثلاثي على مصر ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار، والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وربيبتها إسرائيل. وفي المرحلة التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967 كان للمثقف العربي مساهمته أيضاً ودوره في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزاعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته، وصولاً للفوضى، وتقسيم المقسوم، وتعميق الحالة القطرية البغيضة.

أظهرت الأحداث التي وقعت في العالم العربي خلال العقدين الماضيين، أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجهاً حقيقياً. أو أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.

إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي مشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الصهيوني في غزة من أمام شاشات التلفزة، ومراقبة الطيران الحربي الإسرائيلي الذي يدك عواصم عربية وإسلامية من خلف النوافذ، والاستماع ـ على استيحاء ـ إلى تصريحات قادة الكيان الصهيوني السياسيين والعسكرين وهم يتبجحون بكل عنجهية أن لا مكان في الشرق الأوسط لا يستطيعون الوصول إليه.

في مشهد عربي ملتبس مربك لم يعد التقدمي صاحب رؤية تنويرية حداثية، ولم يعد اليساري صاحب موقف يدافع فيه عن المضطهدين، ولم يعد اليميني هو الرجعي الذي يسعى لإعاقة التقدم. لقد خسر المثقفون اليساريون العرب التقدميون مصداقيتهم في القرن الحادي والعشرين عبر مواقفهم التي بررت كافة المظالم.

في وسط النضال الذي تلتحم به ومعه شرائح واسعة من الجماهير العربية المضطهدة لاستعادة حقوقها المنهوبة من الأنظمة العربية الطاغية، لا نرى مثقفاً يسارياً تقدمياً واحداً في الشوارع العربية يعاضد ويؤازر المطالب الشعبية، كما كان يفعل المثقفين والفلاسفة الغربيين التقدميين التنويريين.

مع انحسار دور قوى اليسار العربي وانعدام فاعليتها، اهتزت صورة المثقف بصورة عامة، وتراجع حضور المثقف الثوري في المشهد العام، وتعرضت صورته للانكسار في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، وفقد هذا المثقف بريقه وجاذبيته وقدرته على الفعل والتأثير، وذلك بسبب المستجدات السياسية دولياً والتحولات الكونية الكبرى التي هزت العالم، وأدت إلى انهيار دراماتيكي لدول المعسكر الاشتراكي، وانتصار الإمبريالية على الشيوعية، وصعود تراجيدي للولايات المتحدة على قمة العالم.

هذه الأحداث والمتغيرات التي أصابت العالم والمنطقة العربية كانت مفاجئة لمعظم اليساريين العرب، حيث سار التاريخ كما لا يشتهون ولا يتوقعون ولا ينتظرون. وحصل عكس ما كان يبشّر به اليسار العربي من سقوط حتمي للرأسمالية وهزيمة الامبريالية والرجعيات العربية. اليسار العربي الذي أصابته صدمة التحولات المتسارعة -حينها- شعر بالخيبة الشديدة، وأن أفكاره قد خذلته ولم تتمكن من تحقيق تطلعاته. وصار مثل مغني ضرير ينشد لجمهور من الصم بعد أن انفض الناس عنه.

جدران الرعب

حاولت الشعوب العربية ـ طيلة عقود ـ هدم جدران الرعب والاستبداد في بلدانها، والخروج من المعتقلات الجماعية وانتزاع حقوقها بحياة بسيطة وبكرامة شأن جميع شعوب الأرض، لكن الفرسان المثقفون اليساريون التقدميون أصحاب الأيديولوجيا الخالدة وقفوا بين الشعوب وبين مستقبلهم. هذه المواقف للمثقفين اليساريين العرب الذين يسعون للسلطة دون مشروع حقيقي للتطور، ليست تقدماً، بل تخلفاً بقبعة ليبرالية. والتيار الديني الإسلامي الذي فشل في مقاربته ولا يزال عاجز عن الخروج من حالته النظرية اللاهوتية، ولم يدرك بعد أن متطلبات البشر الوضعية كالحريات العامة والغذاء والتعليم والعمل والأمن، لا تقل أهمية عن حاجتهم التعبدية الإيمانية، وبالتالي ليس مقبولاً مطالبة الناس أن يحافظوا على إيمانهم والصمت على الفقر والقمع والخوف. ومن اللافت بصورة عجائبية أن هذا التيار من المثقفين الذي تكوّن داخل الحركة القومية العربية قد حوّل مفهوم القومية إلى قضية قطرية وفي خدمتها.

هذا الخلل في تيار اليسار العربي يعود في الأصل إلى أنه لم يتشكل نتيجة تطور مجتمعاتنا العربية في سياقها التاريخي، ولا ارتباطاً بالتحولات الاجتماعية، ولا بناء على تراكم فكري ونضالي، ولا خبرة نظرية وثورية وسط الجماهير في ميادين العمل والشوارع. بل ظهر هذا التيار نتيجة صعود موجة الماركسية الثورية في ستينيات القرن العشرين، وانتشار تجارب الأحزاب الشيوعية العالمية وشيوع أسماء قادة حركات ثورية وصلت إلى كافة بقاع الأرض، في الصين وفيتنام وكوبا وكمبوديا وفي دول أمريكا اللاتينية. في هذه الأجواء الثورية الرومانسية التي تلاقحت مع غضب الشارع العربي على الأنظمة العربية نتيجة فشلها وكشف عجزها، ظهر التيار الماركسي العربي.

القوميون أيضاً ليسوا أفضل حالاً، فما أن غادروا الميدان حتى ارتدّوا إلى بدائية عصبوية وتحولوا إلى الأفكار العشائرية والقبلية والمذهبية، فأصبح خطابهم الذي كان يدعو للوحدة العربية ورص الصفوف، إلى خطاب يستحضر المظلومية الشيعية، فارتدوا الأسود وتقلدوا المناصب المهمة. أو لبسوا العمائم البيضاء واستبدلوا خطابهم الوطني القومي بأخر مذهبي. وأهملوا جميعاً شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية التي كانت تعني كل الأمة بكافة طوائفها ومذاهبها وأديانها، واستبدلوه بفكر انقسامي تشتيتي يعمق الخلافات ويعزز الكراهية.

أما اليسار العربي فقد تم إصدار شهادة وفاته بعد معاناة طويلة مريرة مع الرجعية التي أثبتت أنها قادرة على التجدد والاستمرار والتكيف مع التحولات، مما دفع عدداً غير قليل من اليساريين للانتقال إلى ضفتها ولا زالوا يدعون أنهم ماركسيون. فهل بعد هذا التيه تيه؟

ضباع الثقافة

في العالم العربي الذي تتصاعد فيه أصوات الدعوة إلى الكراهية ورفض الآخر المختلف، ومحاصرته وتصفيته، وينقسم جماعات وكيانات ودولاً، وتتفسخ شعوبه قومياً وطائفياً ومذهبياً يتصارعون وينغمسون في نزاعات وحروب دامية تقضي على مقدراتهم وأوطانهم. في هذا الواقع البائس يُترك المواطن العربي وحده يواجه ظروفاً طاحنة، يتنازعه فيها قهر وقمع الأنظمة من جهة، وضنك الحياة لتوفير لقمة العيش من جانب آخر. ولا نرى مثقفاً تقدمياً واحداً يدافع عن حقوقه، ويتحدث باسمه ولا حتى يميني استغلالي بمنافع وأضرار محدودة. أصبح الإنسان العربي يعيش في وطنه مثلما يقيم النزيل في الفنادق، يعتبر وجوده مؤقتاً بعد أن بترت الأنظمة كل انتماء له للوطن.

إن بعض مثقفي المرحلة يشبه الضباع التي تتكاتف في مواجهة نمر اصطاد حيواناً برياً ليقتات به، وتسرق منه الطريدة بالغدر والخسة. لكن القانون هنا ينص على أن من لا يشارك في المعركة لا يحق له اقتسام الغنائم. يبدو أن معظم المثقفين العرب ينتظرون الحصول على مكاسب من معارك لم يخضها أحداً منهم.

هذه المجموعة من المثقفين أسوأ من الأنظمة العربية الحاكمة لأنها تتميز بالجشع وعدم الوفاء وبالغدر، وهي تحتال وتخادع حتى تظل على قيد التواصل والاستمرار تقوم بأكل الجيفة ولا تقوم بالاصطياد. وما تتقنه هو حديث المقاهي وجدال الصالونات المغلقة، وتوجيه الانتقادات دون بديل ورفض كل شيء، والتعامل مع الناس باستعلاء غير مبرر، فتحولوا من مناضلين إلى دعويين ثرثارين، يشبهون جرس الكنيسة يدعو الناس للإيمان لكنه لا يدخل قاعة الصلاة.

إن المعيار الذي يعتبر أن كل يساري هو مناضل فاضل مثقف معاصر، وأن كل يميني محافظ رجعي لم يعد صالحاً حالياً. في المشهد العربي سقط المثقفون اليساريون في ترف الأيديولوجيا الملتبس، فاعتبروا أن نضالهم ضد قوى اليمين هو أنبل وأسمى أشكال النضال، واحتل عندهم الصراع الطبقي العدمي -ولو كان تنظيرياً فقط- المكانة الرئيسية. بينما اليمين العربي هو الذي بادر وأطلق شرارة التحرر من الاستعمار، وقاد مرحلة ما بعد التحرر الوطني. حتى فلسطينياً فإن اليمين هو الذي أعلن بدء الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وقاد – ولا يزال- الثورة الفلسطينية المعاصرة ونضال الشعب الفلسطيني. ثم حين اشتد عود هذا اليمين وتصلب في غمار العمل الثوري، تسلل جزء من اليسار إلى تنظيم اليمين، وتمكن بعضهم الوصول إلى قمة الهرم القيادي. وبعد التحولات المهمة في مسار القضية الفلسطينية التي أدت إلى انحسار مفاعيلها ثم التوقيع على اتفاقيات أوسلو البغيضة، تم إنشاء السلطة الفلسطينية التي وفرت الوظائف للمناضلين. فجأة صار الحرام حلالاً عند اليسار الفلسطيني، وأصبح التحالف مع اليمين ضرورة وطنية، وسعى معظم اليسار نحو السلطة والحصول على الامتيازات بكل عزم، داس في دربه كافة المبادئ والقيم التي اختبئ خلفها طوال عقود.

المثقفون الهلاميون

المثقفون العرب التقدميون الذين عانوا من التهميش والاقصاء كثيراً من قبل الأنظمة العربية، وذاقوا حنظل الأمرين من قهر وقمع واعتقالات، هم أنفسهم يقيمون اليوم تحالفات سياسية مقدسة مع بعض تلك الأنظمة الطاغية، وصلت لدرجة التبعية المقيتة. وصار المثقفين العرب التقدميين يجرون تنسيقاً إعلامياً وسياسياً علنياً مع قوى رجعية وأنظمة طاغية، دون أن يتسبب ذلك بأي حرج للقوى "الثورية" التي تراجعت أولوياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، واختلطت شعارات اليسار مع مواقف اليمين، وتماهى خطابه أيضاً مع الخطاب الديني الطائفي لغوياً وتأويلاً وشعاراً، ومواقفاً متواطئة مع القوى والأنظمة المعادية للشعوب ومصالحها، ومعادية للحريات العامة والخاصة.

إن الصمت المريب المخجل من قبل معظم المثقفين اليساريين العرب على الفجور الذي أبدته أنظمة الموت العربية، وحيال التحولات في المنطقة العربية، وعدم اتخاذ موقف واضح وجلي لا لبس فيه من المستجدات والتحديات التي تواجهها الشعوب العربية التي كانت في مركز اهتمام اليسار، بدا أن اليسار العربي كمن أضل دربه وفقد هويته وأضاع رأسه، فظهر بصورة مسخية مشوهة. فبدلاً من أن يقوم بدعم ومساندة الجماهير العربية وتأييد مطالبها، وقيادة الحراك الشعبي لوضعه في مسار ديمقراطي يؤدي إلى إنهاء الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد والزعيم الواحد والفكر الواحد، والانتقال إلى النظام التعددي الديمقراطي، كمقدمة لبناء الدولة الوطنية الحديثة، فقد آثر اليسار أن ينصاع للسلطة السياسية الرسمية، ويُحجم عن دوره ويتنصل من مسؤوليته مما جعله خارج السياق التاريخي والاجتماعي والأخلاقي.

في هذه البيئة المشوهة غير الصحية في المجتمعات العربية، كان المثقف العربي غائياً مغيباً نائماً مثل أصحاب أهل الكهف، ولو رفع رأسه قليلاً لرأى الخراب مجسداً في أكثر من مثال. ليس المثقف فقط، بل كافة التيارات القومية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية والتقدمية العربية كانت غائبة في هذا المشهد القتالي. ضاعت الحدود واختلطت المفاهيم والمصالح والأهداف بين كافة القوى، وفقد المثقف العربي التقدمي هويته النظرية ولم يعد هناك فرقاً بينه وبين الليبرالي واليميني إلا في الشعارات. إن المثقف الذي يتحالف مع قوى رجعية ومع أنظمة استبدادية ليس مثقفاً حقيقياً. والمثقف الذي لا يكون مستقلاً ويرضى أن يكون ذيلاً لهذا وذاك ليس مثقفاً. والذي يقف في وجه الجماهير ومطالبها في تحصيل حقوقها التاريخية هو مثقف مزيف. والذي يدافع عن الطغاة وعن الديكتاتوريات هو مثقف منافق منحرف انتهازي. والذي يتماهى مع مجتمعه ويمتنع عن نقد الخرافة والأفكار الجاهلة لأسباب منفعية يكون مثقفاً مضللاً مخادعاً مداهناً. والذي لا يُحدث أي تأثير ولا يكون له فعل في رفع الوعي لدى الجماهير ونشر المعرفة وتحديث وتنوير المجتمع ليس مثقفاً صادقاً.

كش ملك

لقد تغيرت بنية المجتمعات العربية منذ ستينيات القرن العشرين، كان أبرزها الهجرة العشوائية للأرياف نحو المدن، فخسر الريف اليد الفلاحية وتدهورت الزراعة، وبذات الوقت لم تكسب الصناعة في المدينة، حيث إن القادمين غير مؤهلين للانخراط في سوق العمل المديني. ولم تبذل الأنظمة جهداً كافياً ولا رصدت ميزانيات ولا كان لديها برامج بالأساس لصهر القادمين سكانياً ودمجهم وتأهيلهم حرفياً. وكل ما حصل هو استيطان سكاني جعل من محيط المدن العربية الكبرى أحزمة بشرية ريفية من الفقر والحرمان والبؤس. تطورت المدينة وأبناءها حضارياً بصورة نسبية عبر زيادة الإنتاج وارتفاع مستوى التعليم وتطور قطاع المواصلات، وبقي الريف للأجداد وزيارات الأعياد، فيما ضواحي المدن قطنتها مجموعات سكانية ذات عصبيات مذهبية وطائفية وقبلية، تحتكم هذه الضواحي لعلاقات اقتصادية بسيطة، لذلك فإن علاقتهم مع اقتصاد المدينة لم يتخذ شكل اجتماعي وسياسي، بل مذهبي وإثني. وهذا ما يفسر تحول الصراع الطبقي في بعض المدن العربية إلى صراع بين الأديان والمذاهب.

في مواجهة هذه التحولات التي أحدثت إشكاليات فكرية واجتماعية شائكة ومعقدة، كان المثقفين العرب كمن يعطس في سوق الحدادين، لا يسمعهم أحد ليقول لهم يرحمكم الله. حيث جلسوا يراقبون ما يجري كأنهم ينتظرون خلاصاً غيبياً أوحلاً دون السعي له، وهذا منتهى العقل الاتكالي البليد.

في الحالة العربية تتحول الأفكار الدينية والانتماءات المذهبية والطائفية إلى نماذج مقنعة للشعوب العربية، أكثر كثيراً من الأفكار اليسارية ونماذجها الفاشلة. والبائس في الأمر هنا أن كثيراً من قادة حركة اليسار العربي من الأثرياء الذين لا يقبلون إلا ارتداء الثياب الغربية المستوردة، فيما الكوادر اليسارية المزهوة بالنظرية فإنهم ينتمون إلى الطبقات المتوسطة ويعرفون عدوهم الطبقي، لكنهم يفضلون النضال المكتبي عبر رقعة الشطرنج على نضال الشارع وسط الجماهير، وبهذا فهم يقدمون الخدمات الكريمة للتيارات المذهبية والطائفية لتتمدد وتفرض رؤيتها، لذلك يتوه الجميع ويبتعدون عن المعركة الاجتماعية السياسية، متأملين أن يُصاب الأثرياء بوباء يقضي عليهم. هذا يشبه تماماً قتل الملك فوق الرقعة بلعبة الشطرنج داخل غرفة مكيّفة.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي الحقيقي كما كنّا نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءً من العقد الثاني للألفية الثالثة.

بعد أن أخفق المثقفون أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وماذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الأحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

السقوط الحر

إن نكوص معظم المثقفين العرب يُظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، حيث أصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.

سقط المثقف العربي كذلك في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها. نعم ربما توجد مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكن لا يمكن تبرير توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا، ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

سبب الأزمة

أزمتنا يسببها المثقفون الضباع العرب الذين يؤمنون أن دورهم هو تقبيل اقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصاً إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبباً لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، كيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحدي مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف الحقيقي العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، ويكون نبض وصوت الشارع العربي المأزوم وممثلاً له، المثقف الذي يقود الجماهير العربية المثقلة بالخيبات إلى حيث تتمكن من تحقيق بعض من طموحاتها، نحتاج المثقف الواثق غير المُربك لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.

إن ما ينشده المواطن العربي المثقل بالقهر وضنك الحياة والذي لم يعد يؤمن باليسار ولا باليمين ولا بالوسط، وكل ما يحتاجه اليوم هو إطلاق الإنسان من معتقله الذي رسمت قضبانه أنظمة استبدادية، وتحرير عقله من قيود الجهل والخرافة، وتوفر المناخات الديمقراطية وتفعيل العقل وضمان حرية الفكر واستقلالية التفكير، وتشجيع الإنسان على التعلم واكتساب المعرفة وتنمية قدراته الخلاقة، وحثه على التجريب والتنقيب، والبحث، والابتكار، والاستنباط. والأهم من كل هذا توفير فرص التعليم والعمل وضمان حقه في العلاج وإبداء الرأي وتوفير لقمة العيش التي تضمن الحياة الكريمة.

ـ يقولون إن الضبع حيوان جبان. ذلك لكونه حيوانا "قماماً" أي يعتاش على أكل الجِيَّف وبقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى، رغم أنه يمارس الصيد ويملك فكاً قوياً يستطيع أن يسحق به العظام. والضبع مولع ينبش القبور لكثرة شهوته لحم بنى آدم، ومتى رأى إنساناً نائماً حفر تحت رأسه وأخذ بحلقه فقتله وشرب دمه. وهو حيوان فاسق، لا يمر به حيوان من نوعه إلا علاه، وتضرب العرب به المثل في الفساد، فإنه إذا وقع فى الغنم عاث، ولم يكتف بما يكتفى به الذئب، فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منهما يمنع صاحبه.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

وأكثرُ ما صدم أشباه بعض أساتذة الفلسفة والمتطفلين بغية تدريسها والعازفين على وتر التكهن والتنبؤ بما سيأتي في شهادة البكالوريا، بل الجزم بكل حزم أن المواضيع التي تم التطرق إليها في دروسهم الخصوصية بأثمان باهظة، غالية أنهكت جيوب الأولياء وأتعبت كاهلهم فذلك من حياتهم قد مضى بمُضي تكهنات النبي حزقيال ونبوءاته، فسقط معبده وأحرق هيكل التوقع في درس الفلسفة وهي كما تبدو أكثر من محاورة، نقد ومساءلة، انبعاث ودهشة، لا تنبؤ ومقامرة للموضوع والمقالة الفلسفية، ومثل هذا الفهم والاستيعاب عظيم القدر والفائدة لكل دارس للفلسفة ومدرس لها يتعاطى فنون المحاورة وظلالها الوفيرة، محبة الدرس الفلسفي الممتع برد وعي التلميذ وتفكيره حول متعة الدرس وجمالية مفاهيمه، والمعاني المكتوبة، وكيفية الحكم عليها وتقويمها وكشف هذه الظلال؛ ظلال الفلسفة التي هي محبة ومغامرة، تعاطي وملازمة للأستاذ في حجرة الدرس؛ وفي الملازمة « سيكشف عن ثوابت الأسئلة الملحة على عقل الإنسان وعن الأجوبة المتغيرة، سيكشف عن الفلسفة الدائمة الأبدية من خلال الفلسفات المتغيرة المتعاقبة، وسيتكشف الدارس آخر الأمر عن نفسه حاملا للفلسفة الدائمة.»[1]

اليوم بتاريخ السابع عشر من شهر يونيو، حزيران سنة ألفين وخمسة وعشرين في الامتحانات الوطنية، شهادة البكالوريا للدولة الجزائرية، مواضيع امتحان الفلسفة أثلجت صدر كل أستاذ محبا للحكمة اللوغوسية، مخلصا في عمله داخل حجرة القسم وأشفتْ غليل المفتشين، المتفقدين لمادة الفلسفة وخففت من شدة غيظهم لتلك التكهنات، وأزالتْ السحر العظيم الذي سحروا به أعين التلاميذ في درسهم الخصوصي وتوقعهم المزعوم، « أنني منذ أن ارتدت طريق الفلسفة ووعيت رسالة الفلسفة واتخذت منها مهنة لم يخامرني شك في قدرها ونفعها، ورأيت بها ومن خلالها العالم الواقعي الذي كنت أعيشه وقد أضيء بضوء نفاذ ووعي جديد. وخُلق أصيل، وكيف لا وهي نفسها ولدت من معاناة أسئلة الحياة كما أنها بعث للحياة.»[2]

بعث العهد الجديد مع الفلسفة في الجزائر بين شكوى ونُواح المتطفلين، أشباه الأساتذة الطامعين في المال، البائعين للكذب والبهتان، فلا نبوءاتهم صدقت ولا تكهناتهم طُرحت، فجاءت مواضيع شهادة البكالوريا قمة في الطرح ومتعة في التحليل وعمق في التجديد، الموضوع الأول: هل الفعل الأخلاقي هو امتثال لسلطة العقل فحسب؟

وفي رحلة البحث وطرق باب الأسئلة عن مصدر القيم الخلقية وجب إثارة التساؤل الآتي: ما مصدر القيم الخلقية العقل أم هناك مصادر أخرى؟

القيمة الخلقية عقلية: الأخلاق تستعمل تارة بمعنى الملكات الحاصلة للنفس والتي تغنيها عن التروي في الأفعال الإرادية، سواء كانت فاضلة أو رذيلة. وتستعمل تارة بمعنى نفس الأفعال التي تستحق المدح والذم، وبناء على ما خلفته الحضارة اليونانية ومواقف الفيلسوف أفلاطون القوية وأصحاب النزعة العقلية في الفلسفة الحديثة الغربية بقيادة إيمانويل كانط، يمكن القول: جعل أفلاطون القانون الأخلاقي عاماً للناس في كل زمان ومكان ولا يتحقق هذا إلاّ في عالم المثُّل التي تعيش فيه النفس العفيفة، الفاضلة، العاقلة وما الجسد إلاّ عالم حس تسجن فيه الأنفس الطيبة المتعالية نحو السمو والكمال لقد استطاع الفيلسوف الألماني كانط أن يجعل مصدرَ الأخلاق هو الضمير الذي يبعث الإنسان نحو الخيرات ويزجره عن الشرور والقبائح.

عبّر عن هذه الأطروحة "أفلاطون" قائلا { إن الخير فوق الوجود شرفاً وقوة}, كما عبر إيمانويل كانط:{فليست الأخلاق هي التي تعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة }.

أما الموضوع الثاني: يرى بول ريكور: أن التحليل النفسي أقرب إلى التأويل منه إلى العلم.

اللاشعور بين إسهامات فرويد والفرضيات المضادة له:

النظـريـة الكلاسيكية كأساس للأحوال النفسية ورفض اللاشعـور: يبدو أن الشعور هو أساس كل العمليات النفسية، فالتسليم بثنائية النفس والجسم، يقود إلى التسليم بأن النفس تعي جميع أحوالها وما يصدر عنها. فنشاط الروح يتمثل في الفكر وهو نشاط نفسي شفاف ليس فيه أي غموض، فلا شئ يحدث في النفس دون أن يشعر أو يعي ويعرف صاحبها ذلك. وهنا الإشارة إلى غياب اللاشعور وعدم ضرورته للفكر خاصة لدى ديكارت، إذ محور فلسفته حول الذات الواعية وحول الأنا المفكرة التي تفكر وتعي أنها تفكر في الآن نفسه يقول رونيه ديكارت الفرنسي ( 1596- 1650 ): « لا توجد حياة نفسية خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية ». كما يقول آلان باديو Alain Badiu ( 1937 ): « إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره  «. وعليه فكل ما هو نفسي شعوري بالضرورة، وأما الحوادث اللاشعورية فهي تتمثل فقط في بعض النشاطات الفيزيولوجية الآلية التي تحدث دون وعي منا كانقسام خلايانا الجسمية وتكاثرها. ومن أهم الفلاسفة اللذين نقدوا فرويد نجد الفيلسوف آلان قائلا: « إن اللاشعور هو احتقار للأنا، وعبادة للجسم » وقال أدولف غرامبوم: « التحليل النفسي هو علم زائف ».

« وقد تم نشر « الكتاب الأسود للتحليل النفسي » سنة 2005، وهو عبارة عن نقد لاذع يعتمد على معطيات العلوم العصبية. كما نشر ميشال أونفري Michel Onfray  كتابه « أفول صنم، أكذوبة فرويد » الذي أراد من تأليفه تفنيد أطروحات التحليل النفسي »[3]

في حين الموضوع الثالث: نص ممتاز أعاد النظر لمكانة التفكير الفلسفي الجزائري ولفت الانتباه لمفكرين جزائريين وضعوا بصمتهم في الوطن العربي، الأستاذ عبد الرزاق بلعقروز من كتابه الجيد مدخل إلى الفلسفة العامة، فخرجنا من تلك الدائرة الضيقة، المنبهرة بالآخر والمعلقة بعرقوبه حتى أضحى نصوص فلاسفة الغرب ومفكرو الشرق هم الأساس في منهاجنا والمفكرين الجزائريين عقدة في تفكيرنا وجب التخلي عنها، لهذا فالمواصفات الايجابية والمكتسبات التأسيسية التي تسعى إليها بيداغوجيا الكفاءات في منهاجنا التربوي الجزائري تَرومُ إلى خلق تواصل علائقي بين مادة الفلسفة والنصوص الجزائرية المغيبة فيها، وبالأحرى مد جسور التصالح و"إستطيقا" التواصل بين المدرس والنص الفلسفي الجزائري الذي يعتبر الأرضية الخصبة لإنبات أستاذ ينصهر في هوية النص، وجعل التلميذ ينخرط فيها كذلك من أجل تثمين ثقافة المحاورة النصية، الشك والمناظرة الفكرية، الحوار والمساءلة النقدية وعليه ولدت وعشت لأضع مقالا واحدا، لا أكثر ولا أقلَّ ضد النبي حزقيال الذي سقطت عليه جدران المعبد بعد حرق بخور التكهنات.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.....................

قائمة المراجع:

- محمد ثابت الفندي: مع الفيلسوف، طبعة أولى سنة 1974، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت لبنان.

- اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.

هوامش

[1] محمد ثابت الفندي: مع الفيلسوف، ص:12 .

[2] المرجع السابق، ص:12.

[3] اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، ص: 11 .

 

الاستعمار ظاهرة تاريخية معقدة تجمع بين الأبعاد السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. لفهم أعمق لهذه الظاهرة، يمكن النظر إليها عبر محورين رئيسيين السرديات التاريخية للشعوب المستعَمرة والسرديات الاستعمارية (الطريقة التي يتم بها تأطير وتفسير الاستعمار عبر الزمن). هذه السرديات غالبًا ما تتلون بطبيعة القوى المسيطرة، وتختلف بين المستعمِرين والمستعمَرين.  قدمت القوى الاستعمارية سرديات تبريرية تدعي أن هدفها الرئيسي هو "تمدين" الشعوب المستعمَرة، ونشر التعليم والدين، وتطوير البنية التحتية، كانت هذه السردية أداة لتبرير السيطرة والقمع على جانب آخر مع اختلاف السياق طورت الشعوب المستعمَرة سرديات مضادة تركز على النضال من أجل الحرية والاستقلال، وتدحض الحجج الاستعمارية التي صورتها كشعوب "بدائية" أو عاجزة ،وذلك بالاعتماد على سرديات تاريخية وهمية ومضللة ،وهذا يعود إلى عدة عوامل، تسعى العديد من الشعوب إلى استعادة هويتها الثقافية والتاريخية مما يؤدي إلى تأليف سرديات جديدة تعزز الشعور بالانتماء والفخر، بعض الشعوب تسعى لتأكيد استقلالها من خلال سرد تاريخ مختلف يتجاوز الروايات المتداولة و مختلقة لتأكيد قوة الإرادة ، مما يجعلها تروج لأحداث تاريخية أو شخصيات بطولية غير دقيقة ،كما يمكن أن تُستخدم سرديات تاريخية كأداة لتوحيد مجموعات اثنية ضد "الآخر"، مما يؤدي إلى خلق روايات تفتقر إلى مصادر تاريخية موثوقة (كثير من السرديات التاريخية التي تناولت الشعوب المستعمَرة تم إنتاجها من قبل مستشرقين “الآخر")، مما يعني أنها تعكس وجهات نظر وأيديولوجيات استعمارية تكون غير دقيقة لكنها تعكس رغبة الشعوب في تشكيل مستقبلها بناءً على رؤية جديدة للتاريخ، حتى وإن كانت تلك الرؤية تحتوي على عناصر من الخيال.

دوافع الاستعمار

 كان الاستعمار ولا يزال مدفوعًا في المقام الأول بالطمع في الموارد الطبيعية والأسواق الجديدة حيث الدول الاستعمارية استغلت الأراضي التي سيطرت عليها للحصول على الذهب، الفضة، القطن، النفط، وغيرها من الموارد، القوى الاستعمارية استخدمت تفوقها العسكري والتقني لبسط سيطرتها على الشعوب الأخرى. هذا التفوق كان مدعومًا بتقنيات مثل السفن الحربية والأسلحة المتقدمة كما ارتكز أيضًا على نشر الدين والثقافة الغربية. هذه العملية لم تكن عشوائية، بل كانت موجهة لتغيير الهوية الثقافية للشعوب المستعمَرة. خلال فترات الاستعمار، ظهرت أفكار عنصرية تصنف الشعوب المستعمَرة على أنها أدنى مرتبة "جينيًا" أو "بيولوجيًا"، مما ساعد على تبرير سياسات القمع والاستعباد. سرديات الاستعمار لم تكن حيادية، بل كانت انعكاسًا للأسس الهيكلية التي بني عليها الاستعمار. هذا الفهم يساعد في تفكيك الآليات التي لا تزال تؤثر على العلاقات الدولية اليوم، حيث يمكن أن نجد أشكالًا حديثة للاستعمار في التبعية الاقتصادية والثقافية ويمكن ربط الاستعمار بالصراعات الدولية المعاصرة بشكل مباشر وغير مباشر، حيث إن العديد من القضايا الجيوسياسية والاقتصادية الحالية تنبع جذورها من الحقبة الاستعمارية.

الصراعات الدولية المعاصرة

الصراعات الدولية المعاصرة ليست معزولة عن التاريخ الاستعماري، بل هي امتداد له في أشكال مختلفة. فهم هذا الرابط يمكن أن يكون مفتاحًا لحل الأزمات الحالية وبناء نظام عالمي أكثر عدالة وتوازنًا يرجع ذلك إلى أن الاستعمار ترك بصمات عميقة على بنية الدول والمجتمعات المستعَمرة، وأسهم في تشكيل الأنماط الجيوسياسية والاقتصادية التي لا تزال قائمة حتى الآن. دراسة الاستعمار ليست مجرد استرجاع للتاريخ، بل هي أداة لفهم الحاضر وتفسير ديناميكيات الصراعات التاريخية. من خلال تحليل الاستعمار وإرثه، يمكننا تحديد جذور الأزمات الحالية. السرديات التاريخية المؤسسة للإيديولوجيات لعبت دورًا محوريًا في تبرير الاستعمار التقليدي، لكنها استمرت أيضًا كأداة فعّالة في دعم الاستعمار الحديث (النيو كولونيالية). هذه السرديات تُعيد إنتاج أنماط الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية بطرق غير مباشرة، مما يساهم في امتداد الاستعمار الحديث. لفهم هذا الأثر، يمكن تحليل العلاقة بين السرديات التاريخية والإيديولوجيات ودورها في تطبيع مظاهر السيطرة الحديثة، قدمت القوى الاستعمارية سردية "رسالة الحضارة"، والتي ادعت أن دورها هو "تمدين" الشعوب "البدائية" ونشر القيم الغربية، مثل الديمقراطية والتعليم هذه السردية تُعاد إنتاجها اليوم لتبرير التدخلات الاقتصادية والسياسية. السرديات التاريخية المؤسسة للإيديولوجيات الاستعمارية لا تزال تلعب دورًا حاسمًا في دعم الاستعمار الحديث. من خلال إعادة إنتاج أفكار مثل "التنمية"، "الديمقراطية"، و"التجارة الحرة “، التي تُبرر بها القوى الكبرى سيطرتها على الاقتصاد، السياسة، والثقافة في الدول النامية. لفهم مظاهر الاستعمار الحديث والتصدي لها، من الضروري تفكيك هذه السرديات وكشف علاقتها بالإيديولوجيات الاستعمارية القديمة. هذا التحليل يُسهم في تعزيز العدالة العالمية وبناء نظام أكثر توازنًا واستقلالية.

سرديات الصراع الحضاري

الصراع الحضاري يُستخدم كغطاء لتبرير الحروب الاقتصادية بين القوى الكبرى، مما يدعو الى ان يعزز النظام الرأسمالي العالمي سرديات الصراع الحضاري حيث يستخدم لتصوير الرأسمالية كنظام عالمي وحيد قابل للحياة، وأن أي بديل (مثل الاشتراكية) يؤدي إلى الفوضى أو التخلف ،السرديات تُستخدم لتبرير استغلال الموارد والعمالة في الدول النامية، بحجة أن الرأسمالية هي السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والتنمية ،سردية الصراع الحضاري تساعد في خلق "عدو مشترك" (مثل الإرهاب) لتوحيد القوى الرأسمالية وتعزيز مبيعات الأسلحة، الاستثمارات العسكرية، والسيطرة الاقتصادية سرديات الصراع الحضاري ليست مجرد أدوات تحليلية لفهم المجتمعات أو الحضارات، بل تم توظيفها بشكل ممنهج لتعزيز المد الرأسمالي وترسيخ الهيمنة العالمية. من خلال هذه السرديات، تمكنت القوى الرأسمالية من تبرير توسعها، تعميق استغلالها للموارد، وتثبيت سيطرتها الثقافية والاقتصادية على الصعيد العالمي.

جذور الصراعات

لفهم جذور الصراعات الحالية، من الضروري تحليل هذه السرديات وكشف دورها في تطبيع أنماط الاستغلال والهيمنة في النظام الرأسمالي العالمي في شكله الحديث التي تعدّ مهمة معقدة لكنها ممكنة. حيث إن هذا النظام يعتمد على أسس فكرية وإيديولوجية راسخة، مثل العولمة، السوق الحرة، والتوسع الاستهلاكي. ولتفكيكه، يجب تحدي هذه الأسس وتحليلها من منظور نقدي، وصياغة بدائل فكرية تُعيد تعريف العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. النظام الاقتصادي الجديد يرتكز على سرديات مثل "التقدم"، "النمو الاقتصادي"، و"حرية السوق"، وهي سرديات تُستخدم لتبرير التفاوتات الاقتصادية واستغلال الموارد ، يمكن تفكيك وفضح هذه السرديات وإظهار أنها تخدم مصالح النخب الاقتصادية فقط، بينما تُفاقم الفقر والتفاوت الطبقي ونقد فكرة "النمو الاقتصادي غير المحدود"، التي تُصور على أنها الحل لكل المشكلات، بينما في الواقع تؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية وزيادة الفجوات الاجتماعية ،السوق الحرة تُعتبر حجر الزاوية في النظام الرأسمالي الحديث، لكنها في الواقع تمثل سوقًا تتحكم فيها الشركات متعددة الجنسيات، مما يخلق احتكارًا بدلًا من المنافسة الحقيقية .ان المطالبة بنماذج تنمية شاملة تأخذ في الاعتبار العدالة الاجتماعية والبيئية، التركيز على التنمية المحلية بدلًا من التنمية الموجهة نحو التصدير والأسواق العالمية كذلك التكنولوجيا الحديثة التي تُستخدم كأداة لتعزيز السيطرة الرأسمالية، من خلال التحكم في البيانات، الذكاء الاصطناعي، والابتكارات التكنولوجية ،بذلك يمكن تفكيك النظام الاقتصادي الجديد فكريًا من خلال نقد أسسه الإيديولوجية، فضح تناقضاته، ودعم البدائل الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. هذه العملية تتطلب جهدًا فكريًا جماعيًا يتضمن تحليلًا نقديًا للنظام الحالي، تعزيز الوعي الجماهيري، وتطوير نماذج اقتصادية أكثر عدالة واستدامة وتجاوز السرديات التاريخية الوهمية التي تروج للعنف وإعادة نمذجة السرديات التاريخية الاستعمارية وتحميلها معاني لا تحتملها من خلال المراجعة الموضوعية، رغم صعوبة المهمة فأن تفكيك النظام الاستعماري الحديث يبدأ بفهمه بعمق، وفضح أساليبه في تعزيز الهيمنة الاقتصادية والثقافية عالميًا.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

..........................

* داياكراما السرديات: تساعد في تحليل كيفية تشكيل السرديات الاستعمارية، بما في ذلك الصور النمطية والروايات التي تم توظيفها لتبرير الاستعمار استخدامها في هذا السياق يمكن أن يكون أداة قوية لنقد السرديات الاستعمارية وفهم آثارها على الثقافات والتاريخ.

كعادتنا في تعريفنا للفلسفة علي غير التعريفات التقليدية لها، نقول بأنها فن طرح الأسئلة فهدفها توليد الأفكار، ولن تولد إلا بعملية طرح الأسئلة وإثارة العقل، لمحاولة تفسير كل ما يحيط بالإنسان عن طريق رؤية كلية شاملة.

ونحاول في مقالنا هذا محاولة برهنة وإثبات وظيفة تطبيقية للفلسفة وهي العلاج والتداوي بالفلسفة، فهل هي فعلاً ليست مجرد تنظير؟!، أو كما يتهمها البعض علي أنها مجرد طرف فكري وكلمات رنانة ليس لها اثر عملي تطبيقي في الحياة.

هيا بنا في رحلة متنوعة إلي عقول بعض الفلاسفة لنستخلص إجابتنا عن التساؤل السالف ذكره.

أولا الفيلسوف الإغريقي إبيقورس: نستخلص من فكر هذا الفيلسوف ما يرتبط بفكرتنا حول العلاج بالفلسفة، فنجد فكرتين هامتين هما:

-١فكرة Ataraxia وتعني الطمأنينة والسلام الداخلي والتخلص من الخوف

-٢فكرةAponia وتعني غياب الألم والإكتفاء الذاتي مُحاطاً بالأصدقاء.

فهو من خلال فلسفته المؤسسة علي الفكرتين السابقتين، كان يحاول علاج الإنسان من ثالوث الخوف (الخوف من الآلهة، الخوف من الفاقة والعوز، الخوف من الموت)، لكي يصل إلي السعادة وهذا هو هدف فكر فيلسوفنا إبيقورس، وهذا يعد حُجة لصبغ الفلسفة بصبغة تطبيقية عملية، علي أنها علاج فكري ونفسي للإنسان نظراً لتعمقها في أسباب دوافع الإنسان.

ثانيا الفيلسوف الألماني نيتشه:

نري في تعريفه للفلسفة يبرز الجانب التطبيقي بجانب ماهيتها التنظيرية في تحليل قضايا الإنسان فيقول “الفلسفة ليست تأسيساً لديانة ولا تبشير بحقيقة ولا وعداً بالحرية والسعادة، بل هي نبش في الأسس وتعرية للأصول وإزالة الأقنعة وفضح الأوهام ”، نستخلص من هذا التعريف من مهام الفلسفة هي العلاج الفكري، نظراً للفاعلية الخاصة بالفلسفة وتوهجها في كشف عيوب الفكر الإنساني، من خلال التعمق في بحور النفس ومعرفة الدوافع الإنسانية، وهذا ما نجده في نظرية نيتشه في إرادة القوة والإنسان الخارق، التي هدفها تعزيز وتحسين الشخصية الإنسانية، ودعوة من فيلسوفنا نيتشه لكي نعرف قيمة وقوة الإنسان الحقيقية المتمثلة في إرادة القوة.

فيقول عن الإرادة الإنسانية “الإرادة هي ذلك البريق الساطع وسط الغيوم ”، أفلا يدل ذلك علي أن نيتشه يحاول بفلسفته ان يحرر الإنسان من أوهامه، أليس في هذا التحرر نوع من العلاج الفكري للإنسان، وأن يجب ألا يُسلم بأي إفتراضات علي أنها مسلمات، بل يجب نبش وفحص أصولها حتي نستنتج أصالتها ولهذا لا نتعجب من إطلاق لقب فيلسوف المطرقة عليه، لإن نيتشه كان يكسر كل التابوهات والمسلمات لإعادة صياغتها من جديد بعد تحليلها جذرياً.

ثالثاً العلاج بالفلسفة في الوقت المعاصر:

توجد العيادات الفلسفية في دول أوربا، وهي عبارة عن ديالوج بين فيلسوف وشخص يطلب المساعدة في حل مشكلاته الحياتيه، ويتم التعافي بتقديم المقترحات والحلول من الفيلسوف إلي الشخص الذي يعاني، ولكن الفرق بين الإستشارة الفلسفية والنفسية، هو أن العلاج بالفلسفة يتم من خلال النقد والمنطق والتحاور والتركيز علي الجانب الفكري، بينما العلاج بعلم النفس يتم من خلال التركيز علي السلوك الإنساني وليس الفكري.

ومن أكثر المناطق ثراء بمثل هذه العيادات الفلسفية هي دول اوربا وأمريكا الشمالية وأستراليا.

ختاماً به، يمكننا الآن الإجابة علي سؤالنا هل الفلسفة علاج فكري ونفسي للإنسان؟ نعم، فالأمثلة السابقة ليست إلا نقطة صغيرة في بحر الفلسفة وبالأخص الفلسفة التطبيقية، ما اكثر الفلاسفة الذين نادوا بالجانب التطبيقي للفلسفة، وتركيز الضوء علي الإستشارة الفلسفية ولكن لا يتسع المقام هنا لسرد جميع الأمثلة والحجج المُبرهنة علي العلاج بالفلسفة، ونستكفي بعرض نموذج من الفلسفة القديمة يدل علي أصالة فكرة العلاج بالفلسفة عند إبيقورس من ناحية عميقة في النفس، ونموذج من الفلسفة المعاصرة عند نيتشه من زاوية فكرية رصينة، لنستنتج وظيفة الفلسفة بالعلاج الفكري والنفسي و أن جانب العلاج بالفلسفة فكري اكثر منه نفسي، لتخصصات علم النفس الدقيقة في دراسة وتحليل سلوك الإنسان، أما الفلسفة تُركز علي الجانب الفكري، ولا يهمنا سوي نتيجة واحدة أن للفلسفة وظيفة علاجية وأثر تطبيقي في الحياة.

ويبقي السؤال هل مجتماعتنا العربية مؤهلة لمثل هذه العيادات الفلسفية؟!أم ستظل تواجه الفلسفة شبح التهميش ولا تلقي أي تقدير وإهتمام؟

***

محمد أبو العباس الدسوقي

جدل التماهي والاندغام في فضاء المعنى

إن الوقوف عند تخوم العلاقة بين الفلسفة والكتابة الإبداعية هو ولوجٌ إلى منطقة شديدة الخصوبة، معتمة ومضيئة في آن، حيث تتشابك أسئلة المعنى مع أنفاس المخيلة، وحيث يتداخل العقل الجدلّي الصارم مع النَفَس الشعري المنفلت من قيود النسق والتعريف. وإذا كانت الفلسفة، في أحد وجوهها، هي السعي الدؤوب إلى القبض على الحقيقة عبر المفهوم والحُجّة، فإن الكتابة الإبداعية – شعراً كانت أو سرداً – هي تمرّد دائم على اكتمال المفاهيم، وهدم صبور لجدران النسق المغلق. وبين هذين القطبين، ينشأ فضاء لا حدّ له، يسع التأمل، والمجاز، والتساؤل، والهدم، والبناء.

إن التداخل والاندغام العميق والرائع حدّ التماهي بين الفلسفة والكتابة الإبداعية لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد مجاورة عابرة بين شكلين من أشكال التعبير، بل هو، في حقيقته، انصهار في جوهر العملية الفكرية نفسها؛ حيث يتحوّل النص الإبداعي إلى نص فلسفي بامتياز حين يُحاور الكينونة، والعدم، والزمن، والمعنى، والغربة، والمطلق، ويصبح النص الفلسفي ضرباً من الإبداع حين يتخفف من صرامته البرهانية، ليمنح المفهوم جسداً لغوياً نابضاً، وصورة موحية، وانفعالاً جماليّاً خفيّاً.

وما الكتابة الإبداعية – في أعماقها البعيدة – سوى موقف أنطولوجي قبل أن تكون فعلاً جمالياً؛ إنها وقوف على حافة العالم، على أرض لا يمكن الاطمئنان لثباتها، إذ هي أرض "تميد" و"رجراجة"، كما عبّر السائل، فلا اليقين العقلي يُقيم فيها طويلاً، ولا المعنى يستقر على حال. وحده المبدع الأصيل، الممسوس بروح التساؤل الفلسفي، القادر على الكتابة في هذا الفضاء الزلق، دون أن يتهاوى في التفاهة، أو ينحسر في تكرار الأشكال المستهلكة.

هنا، في هذه المساحة الروحية العظيمة، يتكشّف سرّ الكتابة التي تنبض بالفلسفة: إنها كتابة تُنصت لما هو خلف الظاهر، لما يتجاوز المباشر، لما لا يقبل الحسم، ولا يرضى بالخاتمة. فكما أن الفيلسوف العظيم هو الذي يظلّ مفتوحاً على السؤال، غير مكتفٍ بالجواب، فإن الكاتب المبدع هو الذي يسكن النص لا ليُغلقه، بل ليظل بابُه مشرعاً لرياح المعنى.

ليست الصرامة المفهومية وحدها ما يصنع الفكر، كما أنّ الجمال الأسلوبي وحده لا يصنع الإبداع. ما يخلقه حقاً هو هذا الاشتباك العميق، الخلاق، المرهق، الذي يجعل الفيلسوف شاعراً بالقوة، والشاعر فيلسوفاً بالفعل؛ فهيدغر، حين يكتب عن الكينونة، يصبح شاعراً على غير قصد، وكافكا، وهو ينسج عوالمه الغرائبية، يمارس أنقى أشكال التفلسف، دونما حاجة إلى جهاز المفاهيم الصارم.

إن قدرة المبدع على الكتابة في العمق، في التنظير غير المباشر، دون أن يسقط في هوة التنظير الجاف، أو يغرق في سطحية التزويق، هي التي تمنحه تلك الهالة الخاصة، حيث تبدو الكلمة مشبعة بقلق المعنى، مشحونة بانتظار السؤال. إنه يكتب في فضاء الخطر، في المنطقة الرمادية بين "القول" و"اللا قول"، بين ما يمكن التعبير عنه وما يظل عصياً، صامتاً، متوارياً خلف اللغة.

والحق أن الفلسفة نفسها لم تَخلُ يوماً من هذا النزوع الإبداعي؛ فأفلاطون كتب حواراته لا كرسائل منطقية، بل كمسرح للحوار الحي، واللاتناهي، والإيرونيا المربكة، ونيتشه هدم المفهوم بجماليات الأسلوب، فجاءت فلسفته ضرباً من الأدب، أو لعله أدبٌ قد تلبّس بروح الفلسفة حتى ذاب فيها. بل لعل الكتابة الإبداعية – شعراً ورواية ومسرحاً – هي التي ورثت اليوم وظيفة الفلسفة الكبرى: أن تقف على حدود المعلوم، أن تشكك في اليقين، أن تفتح المعنى لا أن تغلقه، أن تطرح السؤال لا أن تجيب.

إن الكتابة الحقة، في نهاية الأمر، لا تكون إلا فلسفية بقدر ما هي إبداعية، ولا تكون فلسفية بحق إلا بقدر ما تنفتح على اللامتوقع، على الإيحاء، على المغايرة، على تجاوز منطق التصنيف والنهايات. ولهذا السبب، تظلّ العلاقة بين الفلسفة والكتابة الإبداعية علاقة اندغامٍ وتماهٍ، لا فصام فيها ولا قطيعة، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، ما دام أن الوجود نفسه – وهو موضوعهما الأعمق – لا يقبل الحسم، ولا يعترف بنهاية أخيرة للحقيقة.

ففي هذا الفضاء الذي يتداخل فيه التنظير مع الإبداع، والتجريد مع المجاز، يصبح المبدع الحق هو الفيلسوف الذي يكتب بجمال، والفيلسوف الحق هو المبدع الذي يُفكّر بشغف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

 

لا أحسب إني بحاجة إلى ديباجة، توضح أهمية العلم وتوفر العقلية العلمية، في تقدم الأمم والشعوب وأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق التقدم والتطور، الا على قاعدة العلم والمعرفة..

فالجهل بأشكاله المختلفة وعناوينه المتعددة، لا يصنع الا المزيد من الارتكاس فيه وتتكرس من جراء ذلك كل آليات التخلف وجذور الانحطاط ومظاهره في المجتمع، لذا فأن توسع قاعدة العلم في المجتمع يعني المزيد من توفر العوامل الخالقة والحاضنة لأطر التقدم في المجتمع، ولم يحدثنا التاريخ الإنساني كله عن مجتمع وصل إلى درجات معينة من التقدم والحضارة بدون العلم فهو أس الحضارات ومنبع التقدم وملهمه، وبدونه يبقى المجتمع ركاماً بشرياً، يتنازع مع بعضه لأتفه الأسباب ويصرف طاقاته وإمكاناته في أمور أقل ما يقال عنها أنها خارج التاريخ وبعيدة عن ضروريات المجتمع الإنساني.

فالعلم حينما يسود مجتمعاً ما فإنه يضبط سلوكه بضوابط منهجية علمية ويدفعه باتجاه التوظيف الأمثل لإمكاناته وقدراته الذاتية ويبلور له المواقع المفضلة لصرفها، ويخلق لديه حوافز العمل والبناء وإنهاء كل العوامل المحيطة والكابحة لعمليات التطور والبناء.

فالعلم مقوّم أساسي من مقومات المجتمع الإنساني المتقدم، حيث أنه بضوابطه الأخلاقية يعيد للإنسان إنسانيته المسلوبة.. والاتكاء على الخرافة، والعمل وفق معتقداتها لا يؤدي إلا إلى المزيد من التقهقر الاجتماعي والجمود الثقافي والتحجر الذهني والفكري.

وفي الدائرة العربية والإسلامية وبفعل الاضطراب المنهجي والفوضى المفهومية التي حدثت من جراء الصراعات الفكرية الوافدة وعمليات الاستغراب الثقافية والحضارية والتي حدثت على المستوى النظري والعملي في المحيط العربي والإسلامي تشكلت بنية فكرية ومجتمعية مشوهة. وتتجلى هذه البنية المشوهة في العقلية وطريقة التفكير. حيث يعيش المرء الانفصام بين ما يظهره من أفكار وتصورات وبين ما يبطنه ويحتفظ به لنفسه. " بين المفكر به عبر نصوص يغلب عليها التشويش في استعمال المفاهيم والمصطلحات والا مفكر به ". على حد تعبير الدكتور سهيل فرح.

وأمام هذا الواقع المشوه والمزدوج تأتي أهمية وضرورة توفر العقلية العلمية القادرة على تنقية منظورنا المعرفي والفكري من أجزاءه الأسطورية واللا علمية والتي لا تنسجم حين التدقيق فيها وروح لقاصد المنظور المعرفي والفكري نفسه.

وهذه العملية ليست سهلة وبسيطة، بل تكتنفها الكثير من الصعوبات والمشاكل التي من

صلحتها بقاء تلك العناصر والأجزاء في منظوماتنا المعرفية والفكرية.

وينبغي التذكير في هذا المجال بحقيقة أساسية وهي إن الانطلاقة الحضارية والتقنية والصناعية الهائلة التي حدثت في الغرب كان بدايتها ونواتها الاصلية. تحرر العقلية الغربية، من بعض المفاهيم والموروثات، التي كانت تعيق الفكر الإنساني وتكبح تقدمه، وتحارب آفاقه، وتقمع تصوراته ونظراته.. لهذا بقي الفكر الإنساني ( في الدائرة الغربية ) مهمشاً حتى استطاع أقطاب الحركة التنويرية في أوروبا من إعادة الاعتبار إلى الفكر الإنساني ومنتوجاته المختلفة. وهذه كانت بداية لانطلاقة الحضارية في الغرب لأنه لا يعقل أن مجتمعا يستطيع أن يبني حضارة ويشيد مدنية ضخمة، وهو أسير بعض الموروثات الفكرية التقليدية التي لا تنتمي أصلا إلى المنابع الفكرية والفلسفية الأصلية، بل هي وافدة من عصور الانحطاط والتخلف والجهل التي دخلت أوروبا في نفقها مدة زمنية طويلة.

لهذا فقد حورب العلماء، واضطهد المخترعون، وأضحى كل نفر يشكك في المسلمات ويحارب الطقوسات الوثنية خارجاً من التاريخ والنماموس العام ويجب محاربته.

والإشكالية المنهجية العميقة، التي ابتليت بها بلداننا العربية والإسلامية، هو أنها تلهث وراء اقتناء أحدث المعدات التكنولوجية، واستيراد آخر ما أنتجته المصانع والشركات والمؤسسات، على اعتبار أن هذا الاقتناء والحضور السريع لهذه المعلومات، هو الذي سيحقق القفزة النوعية المطلوبة في العالم العربي والإسلامي.. متغافلين عن حقيقة أساسية وهي أن قاعدة الانطلاقة الحضارية والصناعية. ليس اللهاث وراء منتجات الغير، بل هو تحقيق قفزة نوعية في طريقة تفكيرنا ونظامنا الفكري وقيمنا السائدة.

أن عملية العقل العربي والإسلامي، هو حجر الزاوية في كل عملية نهوض حضاري، ويخطأ الطريق ويجانب الصواب.. من يبحث عن الحضارة والتقدم بدون تحقيق العلمية في طريقة تفكيرنا وعقولنا ونظراتنا إلى الأشياء والأمور.. ولعل الآية القرآنية التي تشير إلى ذي القرنين وقصته تؤكد على العقلية العلمية السببية إذ يقول القرآن الحكيم ( ويسالونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا، إنا مكنا له في الارض واتيناه من كل شي، سببا، فاتبع سببا ) ( سورة الكهف ٠ ٠٨٥ - ٨٤ – ٨٣).

ولمة أمور عديدة ينبغي استحضارها للوصول إلى شيوع العقلية العلمية في حركتنا الإجتماعية

ويمكننا اختصارها في نقطتين أساسيتين وهما:

1-  احتضان وتشجيع حركة النقد المعرفية والعقلانية، لأنها هي الاطار الفعال، والحركة لفكرية المؤهلة ذاتيا وموضوعيا، لتطوير حركة الإبداع والابتكار الفكري والمعرفي.

والعملية النقدية هي عبارة عن ممارسة نقدية عملية للأطر النظرية التي يبدعها العلم بصورة

متواصلة من أجل فهم الواقع ومن أجل تغييره أيضاً.

وفي العالم الاوروبي نشأت قيمة النقد، بوصفها واحدة من القيم الأساسية التي تشكل هذا العالم بموجبها وبوصفها منهاجاً عاما للتعامل الاجتماعي.. كان لهذه القيمة الفضل في تفجر العلمية الكبرى على يدي (غاليليو غاليلي) مؤسس علم الفيزياء فقد أبى غاليليو أن يكتفي بتأييد بعض الأفكار والآراء الجديدة التي كانت مطروحة آنذاك على الساحة الأوروبية ( مثل نظرية كوبر نيكوس في النظام الشمسي ). ويصمت عن الآراء القديمة، وإنما شرع يختبر الأفكار القديمة واحدة تلو الأخرى بالفكر والعمل النقديين ووفق أسس عقلانية وواقعية صارمة، حتى أتى عليها جميعاً، مقوضا بذلك أركان ثقافة في كاملها.. ( جدل الوعي العلمي - الدكتور هشام غصيب - ص ١٣١).

فالنقد الخلاق هو الروح المحرك للتطور العلمي والعقلية العلمية.. لذلك ينبغي الا ننظر إلى النقد البناء، باعتباره معول هدم، وإنما هو مبدأ فصل العلم الحديث وديناميته وتطوره.

2-  الانفتاح على الخطاب العلمي الإنساني ومحاولة الاستفادة من منجزاته المنهجية ومكاسبه العلمية والمعرفية.

فشيوع قيم العلم والحضارة في المجتمع، لا يتأتى الا بعلمية العقول وتحديثها، فهو السبيل تجسيد قيم العلم والمعرفة في الواقع الاجتماعي.. لأن الوعي النقدي هو الذي يحاور ويسائل ويشكك ( الشك المنهجي ) وكلها روافد للإبداع والتطوير.

والعقلية العلمية، لا تعني أن يتعامل الإنسان مع القضايا الإجتماعية والإنسانية بلغة رياضية - حسابية، بل أن يتعامل معها وفق المعطيات الواقعية والبراهين الدامغة والحقائق والقناعات الثابتة المعتمد على العلم واليقين لا الاحتمالات والظنون.

فالعلمية تعني حضور الوعي والحقائق أثناء التفكير في القضايا أو تقويم الأمور والمسائل.. وربط النتائج بالأسباب.. لأننا ما دمنا نتحدث عن حركة الإنسان، لذلك لا يمكن أن تتبلور ظاهرة أو تبرز نتيجة بشكل عشوائي أو صدفة، وإنما هي ظاهرة مرتبطة بالأسباب الحقيقية التي أوجدتها، لهذا فأن العقلية العلمية تعني أن نربط المسبات بأسبابها الحقيقية، والاعتقاد الجازم بأنه لا يمكن أن برز اه إنسانية بدون أسباب محددة لوجودها.

فالحركة الإجتماعية مهما كان توجهها ومسيرتها، فهي خاضعة لجملة من القوانين الموضوعية التي لا يمكن نكران تأثيرها على مسيرة المجتمع سلباً أو إيجاباً، وحتى تغدو هذه الحركة الإجتماعية مفهومة، لا بد من جعلها في سياقها الموضوعي، وربط النتائج بمقدماتها الفعلية.. لأن هذه الظواهر من صنع الإنسان نفسه. ومن الخطأ بمكان أن ننظر إلى هذه الظواهر بمنظور الصدفة أو الفوارق والمعجزات.

كما أن العقلية العلمية تقتضي منا أن ننظر إلى آمالنا وتطلعاتنا بمنظور أن عملنا وجهدنا، هو

لكفيل الوحيد بتحقيقها في الواقع الخارجي..

فالطالب في المدرسة هو المسئول الأول عن تحقيق تطلعاته العلمية والمدرسية، كما أن رجل

المال والاقتصاد، هو المسئول الأول عن إدارة مشاريعه وإنجاز أعماله..

فالعقلية العلمية تعني: ان تطلعاتك الفردية والجمعية أنت المسؤول الأول الذي ينبغي أن تعمل وتكافح من أجل الوصول إليها كما أن سيئات الواقع وكوابحه أنت المسؤول الأول عن إنهاء مفعولها وإنهاء تأثيرها.. فهي عقلية تدفعنا باتجاه أن نتحمل مسؤولياتنا على أكمل وجه في أتجاهين تكاملين:

الاتجاه الأول، العمل الدؤوب لتحقيق التطلعات والآمال..

الاتجاه الثاني، العمل على إنهاء كوابح الواقع وسيئاته ومنع تأثيرها على واقعنا الخاص والعام..

وفي الختام: أننا وأمام هذه التحولات السريعة التي تجري في العالم كله، أحوج ما نكون إلى العقلية العلمية، وتتجسد قيمها في إدارة أمورنا والنظر إلى قضايانا وقضايا الآخرين..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

 

لا تركز كثيرا في العنوان، لان الفكرة تبدأ من سقراط، مقهى سقراط، الذي ليس محل تجاري ولكنه لقاء حواري يعكس صداقة الفلسفة وحق السؤال وحرية التعبير والاستبصار والتشاور والايمان بالتعدد الثقافي وحق الاختلاف وأنسنة الوعي، وتحديد المفاهيم في معترك الحياة والذاكرة والتاريخ والنسيان...

هكذا كانت فكرة كريستوفر فيليبس من أمريكا وتجربة هادي ناصر من السعودية لكن لايمكننا تجاوز الثقافة والكارثة في مقهى سقراط عن التجربة العراقية مع جمال جاسم أمين حول كوميديا المعنى في جغرافية واقع الثقافة عراقيا،عربيا واسلاميا، كارثة الثقافة لدينا في كارثة اللامعنى العابر للخطاب والواقع، النقد كفلسفة لا علاقة له بالواقع عندنا كعرب، النقد بلامعنى إنه الرفض العشوائي التدميري للاختلافات كلها، لهذا العلم كمعنى لايمكنه العبور الى الواقع عربيا مادامت الثقافة لا تزاحم الواقع وتحاكيه وتحاوره ولذلك أيضا اللامعنى المثبط للفلسفة عربيا هو علم الصراع بلا منهج ولا إستراتيجية ولا أخلاق، الصراع اجتماعيا بسلاح ثقافة الكارثة التي حصرت الفعل الثقافي  بالادب والفن والموسيقى أما  النظريات الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والدينية لا دخل للثقافة بها، هنا يحضر سقراط ليطرح السؤال: ما علاقة غزة بمقهى العرب؟!

هذا السؤال يخفي بين ثناياه عقم المثقف من انجاب المعنى الثقافي للنظريات الاجتماعية، لانزال نستغرق في التاريخانية  الجديدة  ولم نسع لميلاد مجتمع ينتج معنى تاريخي يكشف حيثيات الانساق الاجتماعية، ولعل هذا ما استطاع ان يركز عليه مالك بن نبي في جل مطارحاته بخصوص ثنائية ( الثقافة والمجتمع) وخصوصا عند استخدامه لمصطلح "ميلاد" كمعنى تاريخي جديد يرتبط بالمجتمع، إنه نقد الثقافة كنقد للمجتمع الذي اوجدها، هنا نقارب سوسيولوجيا الثقافة في مقهى يحمل عنوان قضية صغرى تدفعنا نحو قضية كبرى تعري ركاكة المنهج فينا، وسجن الفلسفة كما ضُيقت الثقافة واتسعت التفاهة في المجتمع، هنا نقف بذهول ونتساءل: هل للحرب على غزة حرب معنى في قبالها؟ لأبسط قليلا هل المثقف أسرعَ للواقع ليصطاد المعنى الحقيقي لقضية غزة في مغامرات المجتمع؟ بعمق اكثر هل حرب المعنى ستنتصر على حرب الإبادة الثقافية في المجتمع العربي؟

هناك تفكيك ممنهج للثقافة في تكوينها النقدي للمجتمع، والعجيب ان حصار الثقافة في مجتمعاتنا يبدو مابعد حداثي لكن باتجاه عكسي لأنه فلسفيا ثنائية (الذاكرة/ النسيان) لدينا مأزق معطل لعبور الفعل الثقافي النقدي نحو الواقع لأجل صياغة نظرياتنا السوسيولوجية القادرة على تحرير المثقف من اغلال المناهج التاريخية، من أجل تجديد المعنى وتنوير الذاكرة بماهية الحاضر والراهن الثقافي للمجتمع، بدلا عن النكوص الذي يعطل المعنى ويسيج الثقافة بسياج الذاكرة الزائفة، فالذاكرة الحقيقية هي التي تثير الواقع بثقافة حية تحفز المجتمع على الخروج من الكهوف الخمسة لبيكون..؟؟!!

مقهى غزة هو وعي يمتد من صلالة الى نواكشط، فضاء ثقافة يبحث في المعنى الحقيقي للحضارة الانسانية ببصمات عربية اسلامية، صداقة فلسفية مع الواقع للشفاء من هموم الذاكرة السلبية والتاريخ الأليم والنسيان القهري، إنه ضيافة فلسطينية عابرة للمجتمعات العربية بإبريق القهوة اليمنية لاستفاقة المثقف من وهم الوجدان الجمعي والعمل على ميلاد مجتمع المعنى الحضاري الذي يؤمن بأن فلسطين نعمة عظيمة كفلسفة حياة لمن ألق السمع وهو شهيد،  غزة شريان الاقصى الصامد، غزة المقهى بكلمة هي مجلس الاحرار... والفلسفة في كل أركان المعنى  بنت الحرية..

***

مراد غريبي

ظاهرة الإستسقاط* تتكرر بشكل خاص في السرديات التاريخية، توفر السرديات الإستسقاطية وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الداخلية، مما يسهل عملية الفهم الذاتي ،كما يساعد استخدام هذه السرديات في تحليل التجارب الشخصية وفهم كيف تؤثر على السلوكيات والقرارات كذلك تسهم في تشكيل الهوية الشخصية، حيث يمكن للأفراد استخدام قصصهم لتوضيح من هم وما يرغبون في أن يكونوا، تتيح السرديات الإستسقاطية للأفراد التواصل مع الآخرين ، مما يعزز الروابط الاجتماعية حيث يسعى الناس لفهم الأحداث المعقدة من خلال إيجاد روابط غير منطقية بين السبب والنتيجة، تعتبر الحضارة السومرية من أقدم الحضارات المعروفة، وقد تركت وراءها العديد من السرديات والأساطير، في اغلب هذه السرديات، نجد أنهم قد ربطوا بين مختلف الظواهر الطبيعية، مثل الفيضانات، الزراعة، والآلهة، بشكل يبدو غير منطقي واستمرت هذه الظاهرة في أكثر السرديات التاريخية التي اعقبتها مما جعلها تستمر في التأثير الى الوقت الحاضر. كان السومريون يعتقدون أن الآلهة تتحكم في الظواهر الطبيعية، مثل الفيضانات والمواسم، مما أدى إلى ربط الأحداث الطبيعية بقرارات الآلهة في أساطيرهم ،كما نجد تفسيرات عملية الخلق لا ترتبط بالأحداث الكونية بل بفعل حاجة الالهة الى العبادة والتقدمات، مما يعكس رغبتهم في فهم وجودهم من خلال سياقات دينية وروحية امتد تأثيرها الى سرديات الاديان ، ان دراسة ظاهرة الإستسقاط تساعد في فهم كيف يمكن للأفكار والأساطير أن تتشكل وتؤثر على المجتمعات، كما تعكس كيفية تعامل البشر مع عدم اليقين من خلال البحث في الأنماط والمعاني المتعارضة، حتى في غياب الأدلة المنطقية ،الإستسقاط هو في حقيقته ظاهرة نفسية، وهو جزء مهم من معرفة كيفية بناء السرديات التاريخية من ناحية ابداعية، ان فهم هذه الظاهرة يساعدنا في فهم السياقات الثقافية والدينية التي شكلت الحضارات القديمة.

الإستسقاط والتفكير الاستنتاجي

التفكير الاستنتاجي هو عملية منطقية تستند إلى أدلة وفرضيات، حيث يتم الوصول إلى نتائج من خلال تحليل المعلومات المتاحة ،الإستسقاط يعتمد على الرغبة في إيجاد معنى أو نمط في المعلومات، حتى في حالة عدم وجود علاقة حقيقية بين العناصر، التفكير الاستنتاجي يعتمد على بيانات واضحة ومنطقية، حيث يتبع خطوات محددة للوصول إلى نتائج صحيحة يمكن أن تؤدي إلى قرارات أو معتقدات صحيحة، اما الإستسقاط يستند إلى روابط ضعيفة أو غير موجودة  والتي تظهر غالبًا في السرديات التاريخية و الأساطير، نتيجة حالات القلق والشك، حيث يسعى الأفراد للبحث عن معنى بينما يحاول استخدام الإستسقاط لإيجاد روابط غير منطقية في عالم معقد وغير مؤكد.

التحيزات المعرفية والإستسقاط

التحيز هو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد المعتقدات السابقة، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها، يمكن أن يؤدي إلى ربط الظواهر غير المرتبطة من خلال الاعتماد على المعلومات المتاحة بسهولة، مما يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة وبناءً تجارب على أحداث عابرة ،الميل إلى افتراض أن هناك علاقة سببية بين حدثين لمجرد حدوثهما معًا، دون دليل على وجود علاقة فعلية والاعتقاد بأن الأمور ستسير بشكل جيد، يمكن أن يؤدي إلى تجاهل المخاطر أو الأحداث السلبية ،لكن بفضل القصص أو السرديات تجعل الأحداث تبدو مترابطة، حتى وإن كانت هذه الروابط غير منطقية دون الوعي بهذه التحيزات يمكن أن يساعد الأفراد في اتخاذ قرارات باستخدام العواطف القوية كما يساعد في جذب انتباه الجمهور وإحداث تأثير عميق.

الإستسقاط والتفكير السحري

التفكير السحري هو اعتقاد بأن الأفكار أو المشاعر يمكن أن تؤثر على الأحداث الواقعية، حتى في غياب أي دليل منطقي، كما ينشأ من الحاجة البشرية لإيجاد تأثير في أنماط في بيئة معقدة، مما يؤدي إلى تفسيرات غير مدعومة بالأدلة، التفكير السحري ينشأ من الرغبة في السيطرة على العالم الخارجي أو التأثير فيه، وغالبًا ما يكون مدفوعًا بمشاعر الخوف ، يعكس ميل الأفراد للبحث عن روابط أو تفسيرات في الأحداث، حتى عندما تكون هذه الروابط غير موجودة، التفكير السحري يمكن أن يؤدي إلى الإستسقاط، حيث يربط الأفراد بين أفكارهم أو مشاعرهم وأحداث معينة، مما يجعلهم يستنتجون أن هناك علاقة سببية، في العديد من الثقافات يمكن أن نجد أمثلة على التفكير السحري (الطقوس أو الخرافات) التي تتضمن الإستسقاط، حيث يتم ربط أحداث معينة بممارسات أو تعاويذ معينة دون أي دليل علمي ،الإستسقاط والتفكير السحري مرتبطان بشكل وثيق، حيث يعكسان ميولًا إنسانية لفهم العالم من خلال إيجاد معاني وروابط حتى في غياب الأدلة العقلية .

العقلية النقدية

تشجع العقلية النقدية على تحليل المعلومات بشكل موضوعي، مما يساعد في تحديد الروابط الحقيقية بين الأحداث والأدلة المتاحة، والتأكد من مصداقية المصادر التي تُستخدم لتكوين الآراء أو الاستنتاجات، استخدام أساليب التفكير المنطقي يمكن أن يساعد في تفكيك الروابط غير المنطقية، مما يقلل من احتمالية الوقوع في فخ الإستسقاط ، الاستعداد لتقبل النقد والملاحظات يمكن أن يعزز القدرة على التفكير النقدي وإدراك التحيزات المعرفية التي قد تؤدي إلى الإستسقاط ،التفكير النقدي يسعي بشكل مستمر لاكتساب المعرفة في مجالات متعددة التي تساهم في فهم العالم بشكل أعمق، مما يقلل من الاعتماد على الإستسقاط ،ان فهم الأخطاء جزء من عملية التعلم الذي يمكن أن تحفز الأفراد على تحسين تفكيرهم النقدي، تعتبر العقلية النقدية أداة قوية من خلال تحليل المعلومات وتطبيق التفكير المنطقي وتعزيز الوعي الذاتي.

انتشار السرديات الإستسقاطية

يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم، مما يسهل انتشار السرديات التي تربط بين ظواهر غير مرتبطة، توفر السرديات الإستسقاطية وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الداخلية، مما يسهل عملية الفهم الذاتي، اذ يعتمد الناس على المعلومات المتاحة بسهولة، مما يؤدي إلى تكرار السرديات التي تتضمن روابط ضعيفة، قلة الوعي التاريخي أو الثقافي يمكن أن تعزز من قبول السرديات الإستسقاطية، حيث يسهل على الأفراد تصديق الروابط غير المنطقية عندما تكون الظواهر معقدة في غياب المعرفة العلمية الصحيحة، تلجأ السرديات الإستسقاطية لتبسيط الفهم.

السرديات الإستسقاطية خلل معرفيا

في بعض الأحيان تكون السرديات الإستسقاطية مقصودة كوسيلة لنقل قيم ثقافية أو دينية معينة، حيث يسعى المؤلفون توجيه الرسائل من خلال روابط غير منطقية، يمكن أن تُستخدم هذه السرديات في سياقات سياسية أو اجتماعية لتحفيز مشاعر معينة أو لتأليب الجماعات حول فكرة معينة، اذ تعكس هذه السرديات فهمًا غير دقيق أو محدود للعلم والمنطق، مما يؤدي إلى ربط الظواهر بشكل غير منطقي ،بعض السرديات تنبع من رغبة بشرية في إيجاد معنى أو تفسير في عالم معقد، مما يعكس نقصًا في التفكير النقدي في الكثير من الحالات قد تكون السرديات مزيجًا من كلا الجانبين، حيث قد تكون رسائل مقصودة في بعض السياقات بينما تعكس خللًا معرفيا في حقيقة سياقاتها مما يساعد في فهم تداخل العوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية في السياق.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

............................

* الإستسقاط السردي: هو مصطلح يشير إلى الميل البشري لإيجاد أنماط ذات معنى في المعلومات العشوائية أو غير المترابطة، وتطبيقها على القصص والروايات. وبعبارة أخرى، هو محاولة ربط أحداث أو أشياء منفصلة في سرد ما، وإعطائها معنى جديدًا ليس بالضرورة موجودًا في الأصل.

1- سعود سالم - ظاهرة الإستسقاط وعلاقة الفن بالهلوسة - الحوار المتمدن

2-إستسقاط – ويكيبيديا

يلعب الإعلام والإعلاميون دورًا محوريًا في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدول ونقل الرسالة الوطنية إلى الشعوب الأخرى، خاصة من خلال البعثات الخارجية للدول. فالإعلام لم يعد مجرد وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات، بل تحول إلى أداة استراتيجية تستخدمها الدول للتأثير في الرأي العام العالمي، وبناء صورة ذهنية إيجابية عن سياساتها وثقافتها وتوجهاتها.

في هذا السياق، يصبح الإعلامي الذي يعمل ضمن البعثة الدبلوماسية أكثر من مجرد ناقل للخبر، بل يُعدّ بمثابة سفير ثقافي وفكري. فهو يمتلك القدرة على ترجمة مواقف بلاده بلغة يفهمها الآخر، وتقديمها في سياق يراعي الحساسيات الثقافية والسياسية للجمهور المستهدف. كما يسهم في إبراز ما تتميز به بلاده من تطور وإنجازات حضارية، ويساعد على خلق جسور من الفهم والتقارب مع المجتمعات الأخرى. والإعلام الخارجي الفعال يُعزز من أدوات القوة الناعمة للدولة، ويعمل على دعم مواقفها في المحافل الدولية من خلال تشكيل رأي عام عالمي متفهم ومتعاطف. وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إعلاميين محترفين يمتلكون الوعي السياسي والمعرفة الدبلوماسية والقدرة على التواصل بين الثقافات.

علاوة على ذلك، يسهم الإعلامي في البعثة الخارجية في مواجهة الحملات الدعائية المضادة أو الصور النمطية السلبية التي قد تُرسم عن بلاده في الخارج، من خلال تقديم سردية وطنية تعتمد على الحقائق والشفافية واللغة الإنسانية المشتركة، في زمن أصبح فيه الإعلام الرقمي أداة اتصال لا تعرف الحدود، وهنا تزداد أهمية الإعلاميين في المهام الدبلوماسية، حيث يمكن لتغريدة أو مقطع فيديو أن تُحدث تأثيرًا يتجاوز أثر خطاب سياسي تقليدي. ولهذا السبب، تتزايد الحاجة إلى تنسيق وثيق بين المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية لضمان إيصال الرسالة الوطنية بفعالية ومهنية تعكس هوية الدولة وقيّمها في آنٍ واحد. إن الإعلامي في البعثة الخارجية ليس فقط عين الدولة وأذنها، بل هو أيضًا صوتها الذي يعبر عنها ويُعرّف بها أمام العالم.

بين السياسة والإعلام والدبلوماسية

ففي عالمنا المعاصر الذي تزداد فيه التحديات وتتشابك فيه المصالح الدولية، لم تعد الدبلوماسية مقتصرة على اللقاءات الرسمية والحوارات المغلقة بين ممثلي الدول، بل أصبحت ساحة مفتوحة تتقاطع فيها السياسة مع الإعلام، حيث تُصاغ المواقف، وتُبنى التحالفات وتُشكّل الانطباعات من خلال الكلمة والصورة والخطاب الإعلامي المدروس. ومن هنا يتعاظم دور الإعلام والإعلامي في تعزيز العلاقات الدولية، لا سيما من خلال البعثات الخارجية التي تمثل الوجه الحضاري للدولة في الخارج.

إنّ الإعلام، بمختلف وسائله التقليدية والحديثة، أصبح أداة رئيسية من أدوات القوة الناعمة، وهو ما دفع العديد من الدول إلى إعادة صياغة استراتيجياتها الإعلامية الخارجية لتكون أكثر تأثيرًا واتساقًا مع سياستها الخارجية. فالإعلامي ضمن البعثة الخارجية لم يعد مجرد ناقل للحدث، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في رسم صورة الدولة وشخصيتها على الصعيد الدولي. هو من ينقل القيم والثقافة والتقاليد الوطنية إلى شعوب العالم، ويسهم في بناء جسور من التفاهم المتبادل، ويعزز من مكانة الدولة في عيون الرأي العام الأجنبي.

ويُعد الإعلام الخارجي أيضًا مرآة لما يحدث في الدولة من تطورات سياسية واقتصادية وثقافية، إذ يعمل على إيصال هذه الصورة إلى الإعلام الدولي وإلى المؤسسات المؤثرة والجماهير في الدول المضيفة. كما يقوم بمهام تحليلية تهدف إلى فهم توجهات المجتمعات المستقبِلة واستباق ردود أفعالها، مما يتيح للدبلوماسيين وصناع القرار في الدولة اتخاذ مواقف مدروسة ومتوازنة.

كما تعدّ الرسالة الوطنية التي يحملها الإعلامي في الخارج تتطلب قدرًا كبيرًا من المسؤولية المهنية والوعي الثقافي والسياسي، فهي ليست مجرد شعارات تُردد، بل محتوى استراتيجي يجب أن يكون مصوغًا بلغة تتسم بالمرونة والدقة والقدرة على الإقناع. فالخطاب الإعلامي الموجه إلى الداخل يختلف عن ذاك الموجه إلى الخارج، إذ يجب أن يراعي التباينات الحضارية والحساسيات الفكرية والثقافية المختلفة، وأن يُظهر احترامًا للخصوصيات المحلية دون التخلي عن المبادئ الأساسية للدولة المُمثلة.

فضلاً عن، فأن العمل الإعلامي في البعثات الخارجية يتطلب تنسيقًا وثيقًا مع البعثة الدبلوماسية والسفارات، لأن الإعلام الخارجي لا يعمل في فراغ، بل في سياق سياسي ودبلوماسي منظّم ينبغي أن يُفهم بدقة. فنجاح الإعلامي في إيصال الرسالة الوطنية يعتمد إلى حد كبير على مدى انسجامه مع السياسات العامة للدولة، وعلى اطلاعه العميق بمواقفها من القضايا الإقليمية والدولية.

في هذا الإطار، تصبح المهارات التي يمتلكها الإعلامي أساسية، مثل قدرته على الحوار، ومهاراته في التفاوض غير المباشر، وقدرته على استخدام الأدوات الرقمية والتقنية الحديثة لنشر الرسائل المؤثرة. إذ نجد الإعلام في عصر العولمة ليس فقط في الصحف والشاشات، بل في المنصات الرقمية التي تُتابع في اللحظة وتُعيد تشكيل الرأي العام في غضون دقائق.

ولا يمكن إغفال دور الإعلاميين في أوقات الأزمات، إذ يتضاعف دورهم في مواجهة حملات التشويه أو المعلومات المضللة، وفي تقديم الرواية الوطنية بطريقة تتسم بالشفافية والمصداقية. وهنا تبرز أهمية وجود إعلام خارجي محترف قادر على التعامل مع الأزمات الإعلامية بثقة وكفاءة، ما يسهم في الحد من الآثار السلبية على صورة الدولة ومكانتها الدولية.

ومن هنا ندرك، يمكن القول إن الإعلامي في البعثة الخارجية لم يعد مجرد مرفق مكمل للعمل الدبلوماسي، بل أصبح شريكًا أصيلًا في صياغة السياسة الخارجية للدولة والتأثير في علاقاتها الدولية. فبقدر ما يكون الإعلامي ملمًا بثقافة الآخر ومتفهمًا لحساسيته وقادرًا على التعبير عن موقف بلاده بلغة ناعمة وذكية، بقدر ما تنجح الدولة في بناء حضور فاعل ومؤثر في المسرح الدولي.

إن الإستثمار في الإعلام الخارجي وتطوير كوادره وتمكينهم من الأدوات المعرفية والتقنية الحديثة، يُعد اليوم ضرورة آستراتيجية لأي دولة تسعى إلى حماية مصالحها وتعزيز مكانتها في العالم، إذ لم يعد يكفي أن تكون الدولة قوية بمواردها، بل يجب أن تكون قادرة على رواية قصتها بذكاء وقوة وإقناع، بغية توصيل ما ترنو اليه، وتحقيق الاهداف المرجوة للسياسة الخارجية للدولة. فضلاً عن صياغتها وتقديمها بالطريقة التي تجعل الطرف الآخر أن يحملها على محمل الجدّ وبقناعة تامة، وهذا لن يتاتى إلا من خلال الخبرات والقدرات والدراسة الأكاديمية التي يقوم عليها مجموعة متعاونة بين القائم على الاتصال والشخصية الدبلوماسية التي تتمتع بروح التفاني من أجل القضية الوطنية للدولة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة يقول سبينوزا: " ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف..إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل "

يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً: " إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك، لا تبك، لا تكره، عليك أن تفهم ". يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير، فكل سيد على افكاره ".

وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية ". كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): ".. إنه الخوف، إذن، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها ".

ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا: " يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية. وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير ".1582 Spinoza

وفي كتابه" سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت " يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء ". الانسان الحر ايضا مبتهج، ولطيف، ومتسامح. وهو، في مزاجه، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص:  الكراهية، والحسد، والاستهزاء، والإزدراء، والغضب، والانتقام، وغير ذلك من الانفعالات الضارة.

في روايته مشكلة سبينوزا يفدم لنا عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار: قال سبيتوزا: لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات، فما دام هناك جهل، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد.

فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم. ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً.وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة، فعليّ أن أعيش دون طائفة "

يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا: " كيف يمكن للفرد العادي، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية ؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية "، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم". يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية: " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه، ولكن رده كان دائما هو الاحترام. عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره".

وفي واحدة من رسائله يكتب باروح سبينوزا: " لقد اعتبرتُ الإيمان بالمعجزات والجهل امرين متماثلين، لسبب ممفاده ان اولئك الذين يزعمون اثبات وجود الله والذين يستندون الى المعجزات إنما يثبتون شيئا غامضا بشيء اكثر غموضا، ناهيك بكونهم يجهلونه جهلا تاما.

كان سبينوزا يصر انه من دون الذكاء لا توجد حياة عقلية، لذا، فإن الاشياء تكون خيرة فقط بقدر ما تساعد الإنسان على تمتعه بالحياة الفكرية التي يحددها الذكاء. وعلى العكس من ذلك فأياً كانت الاشياء التي تعوق كمال عقل الإنسان وقدرته على الاستمتاع بالحياة العقلانية، فإنها تكون الشر بعينه.

وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب: " الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة ".

خلال رحلتي مع سبينوزا وكتبه وماكتب عنه تعلمت ان التفكير حاجة ضرورية، وان السير على دروب الحقيقة لذة عقلية كبرى، وأن الفكر هو الذي ينقل الانسان من مستوى " الهمجية " الى مستوى الانسانية ". يكتب الفرنسي العظيم باسكال: " انني استطيع ان اتصور انسانا بلا يدين، او بلا رجلين، لكنني لا استطيع ان اتصور انسانا بلا فكر، لانه عندئذ سيكون مجرد صخرة ".، وتعلمت من هذا الصديق ان الحق فوق القسوة، وان التسامح والرغبة في الحوار مع الآخرين هي الطريق الى الحرية، وان الشر يقوم على التعصب وضيق الافق، والجهل، وان اختلاف الآراء ليس شرا، بل منفعة للجميع، وان الحوار هو الذي يخلق مجتمعا مستنيرا واعيا. وان مهمة المثقف ان يحارب السذاجة، وان نضع جميع ارائنا الى البحث والحوار، حتى يتسنى لنا بناء مجتمعنا على دعائم يقرها العقل، تنتقل بالناس من عهد " الجهل " الى عهد " التفكير "..

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية.

............................

* الصورة (بيت سبينوزا في ضاحية أمستردام)

 

إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ. والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ. وبالتالي، تُصبح العُزلةُ خُلاصةً للمَشاعرِ الداخليَّة، ودَليلًا عَلى وُجودِ الحُلْمِ المَقموعِ في عَوالمِ النِّسيان.

وَمِنَ الذينَ نَقَلُوا العُزلةَ مِنْ المَفهومِ المَاديِّ التَّجْرِيدِيِّ إلى المَعنى الأدبيِّ الإبداعيِّ، الرِّوائيُّ الأمريكيُّ بول أوستر (1947 _ 2024). يُعَدُّ كِتَابُهُ " اختراع العُزلة " (1982) مُذَكَّرَاتٍ عَنْ وَفَاةِ وَالِدِه، وتَأمُّلاتٍ شخصية في فِعْلِ الكِتابةِ وَالخَسَارَةِ وَالوَجَعِ والفَقْدِ. يَنقسِم الكِتَابُ إلى جُزْأَيْن، الجُزْءُ الأوَّلُ: صُورة رَجُلٍ خَفِيٍّ. يتناول المَوْتَ المُفَاجِئ لِوَالِدِه، حَيْثُ يُبَيِّن أوستر طبيعةَ غِيابِ وَالِدِهِ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَوْتِه، ويُعيدُ بِنَاءَ حَياةِ وَالِدِهِ مِنَ القِطَعِ الأثرية التي تَرَكَهَا وَرَاءَه. والجُزْءُ الثاني: كتاب الذاكرة. وَهُوَ سَرْدٌ بِضَميرِ الغائبِ، حَيْثُ تَبْرُزُ المَوضوعاتُ المَوجودةُ في أعمال أوستر اللاحقة، مِثْل: تَرتيب الأحداث، والعَبثية، والوُجودية، والصُّدْفَة، وعَلاقة الأبِ والابْنِ، والبَحْث عَن الهُوِيَّةِ والمَعاني الإنسانيَّةِ. وَيَعتبر النُّقَّادُ " اختراع العُزلة " مِفتاحًا لِتَفسيرِ أعمال أوستر السَّرْدِيَّة والشِّعْرِيَّة، وَهُوَ جَوْهَر أعمالِه كُلِّهَا.

لَقَدْ قَامَ أوستر _ مِنْ خِلالِ شخصيةِ الأبِ _ باختراعِ العُزلةِ شُعورًا وسُلوكًا، عَبْرَ الحَفْرِ في الذاكرةِ، والغَوْصِ في المَاضِي الذي لا يَمْضِي، وَتَفْسِيرِ مَعنى الخَسَارَةِ، واسترجاعِ الذِّكْرَيَاتِ اعتمادًا على المُقْتَنَيَاتِ التي تَرَكَهَا هَذا الأبُ الذي يَتَّصِفُ بِالغُموضِ والخَفَاءِ والغِيَابِ.إنَّهَا رِحْلَة بَحْث مُضْنية عَنْ أبٍ مَعْزُولٍ، وَغَامِضٍ، وَغَرِيبِ الأطوارِ، وَغَيْرِ مَرْئيٍّ، وَلَمْ يَكُنْ حاضرًا بِما فِيه الكِفَاية في حياة أُسْرته.

ولا يُمكِن حَصْرُ مَفهومِ العُزلةِ في الروابطِ الأُسَرِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، فالعُزلةُ مَنظومةٌ إنسانيَّة على تَمَاس مُباشر مَعَ الشَّخصيةِ والهُوِيَّةِ،وهَذا يَتَّضِح في كِتاب" مَتاهة العُزلة " (1950) للأديب المَكْسيكي أوكتافيو باث (1914 _ 1998 / نوبل 1990)، وَهُوَ يُعْتَبَر أهَمَّ أعمالِه على الإطلاق. وقد أشادت به الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل. وحاولَ فيه باث أن يَتَحَرَّى عَنْ شخصية الإنسان المَكْسيكي، وَيَسْبُر أغوارَها.

وَهَذا الكِتابُ عِبارة عن بحث في التاريخ الرُّوحِيِّ للمكسيك، في طُقوسه وعاداته المَوْروثة، مِنْ أيَّامِ الأزتيك (سُكَّان المَكْسيك القُدامى). وهو أيضًا نظرة تأمُّل مُتَعَمِّقَة في الأوضاع التي أثَّرَتْ في تَحديد طبيعة المكسيكيين وتاريخهم.

يَرَى باث أنَّ الوَحْدَةَ أعمقُ حَقيقةٍ في الوُجودِ الإنسانيِّ، فالإنسانُ هُوَ الكائنُ الوَحِيدُ الذي يُدْرِكُ أنَّهُ وَحِيدٌ، والوَحِيدُ الذي يَبْحَثُ عَنْ غَيْرِه. وَقَدْ جاءَ إلى الدُّنيا وحيدًا، وَسَيَمُوت وَحِيدًا. والإنسانُ أثناءَ فَترةِ حَياته يُعيد اختراعَ عُزلته، واكتشافَ نَفْسِه، ويَسْعَى إلى تَحقيقِ ذَاتِهِ في غَيْرِه، فَهُوَ دَائِمُ الحَنينِ إلى المَاضِي، ودَائمُ البَحْثِ عَن التواصل مَعَ الآخَرِين.

وَيُعْتَبَر كِتابُ " مَتاهة العُزلة " أساسًا وُجوديًّا ودَليلًا فِكْرِيًّا لِفَهْمِ الهُوِيَّةِ المَكْسيكية،مِنْ خِلالِ تَحليل عميق للشَّخصيةِ الفَرْدِيَّةِ والهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ والتفاعلِ الثقافيِّ، ويَعْكِسُ جوانب مِنَ العُزلةِ الثقافية التي عَاشَتْهَا المَكسيك بَعْدَ فَترةِ الاستعمارِ، وتأثير ذلك على المُجتمع المَكْسيكي الحديث الغَنِيِّ بثقافته وتاريخِهِ المُعَقَّد.

والإنسانُ _ في لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَة في حَيَاتِه _ يَشْعُرُ بانفصالِهِ عَن العَالَمِ، واغترابِه عَنْ ذَاتِه، وانعزالِهِ عَن التاريخِ والحَضَارَةِ. ومَعَ هَذا، فَهُوَ لا يَمْلِكُ خِيَارًا سِوَى السَّعْي إلى تَجَاوُزِ العُزلةِ، وَمَحْوِ الاغترابِ، واستعادةِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّة. وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بِتَفعيلِ الوَعْي بذاتِه، وعَدَمِ مُحاولة تَغييرِ جِلْدِه.

والشُّعُورُ بالعُزلةِ والانفصالُ عَن الآخرين يُمثِّل أُسلوبَ حَيَاةٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأُدباءِ، فالرِّوائيُّ الفرنسي جان ماري لوكليزيو (وُلِدَ 1940 / نوبل 2008)، يُعْتَبَر مُتَعَدِّد الهُوِيَّات ومُتشابِك الجُذور، فَهُوَ مَولود في مدينة نيس الفرنسية لأبٍ بريطاني عَمِلَ طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا، وأُمٍّ فرنسية مِنْ جُزَرِ موريشيوس. وَقَدْ ظَلَّ الروائيُّ طِيلة عُقود يبحث في التباس الانتماءِ والهُوِيَّة، الذي وَجَدَ نَفْسَه فيه، فَقَد اكتسبَ الجِنسية الفرنسية مِن أُمِّه، وأَخَذَ الجِنسية البريطانية مِنْ والدِه. وكانَ يَشْعُرُ بأنَّهُ مُزْدَوَج الولاء والانتماء، وَهَذا مَنَحَه شُعورًا بالغُربةِ والعُزلةِ. وطَالَمَا رَغِبَ بالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذا الشُّعور، وكانَ بحاجةٍ إلى هُوِيَّةٍ مُحَدَّدة بشكلٍ حاسمٍ.

يَرفضُ لوكليزيو الظُّهُورَ في الإعلام، فَهُوَ صَامِتٌ ومُنعزِل ومُتَأمِّل، ويَعْتَبِر الإنسانَ مَجموعةً مِنَ المُكْتَسَبَاتِ الثقافية، والإرْثِ العائليِّ، والمُتغيِّرات الفِكرية، وَتَجَارِب العَيْشِ في بُلدان وأوضاع مُتغيِّرة، وخِيارات شخصية، وكُشوفات وأحلام مُتحقِّقة أوْ مُتهاوية. ويَمتاز إبداع لوكليزيو بِعُمْقٍ إنسانيٍّ، وفُيوض شِعْرِية دَفَّاقة، وَتجريب مُمْتِع. ويُعْتَبَر أعظمَ كاتب فرنسي على قَيْدِ الحَيَاة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قراءة في راهنية القضايا الحارقة

مقدمة: لم يكن المثقف العربي يومًا عنصرًا هامشيًا في التاريخ الثقافي والسياسي العربي، بل ظلّ – منذ النهضة الحديثة – لاعبًا محوريًا في صوغ الوعي، وتفكيك البُنى التقليدية، ومساءلة السائد والموروث. غير أن المرحلة الراهنة، بما تحمله من أزمات مركبة وتشظيات سياسية وأخلاقية وفكرية، تطرح بإلحاح سؤالًا مربكًا: أين هو المثقف العربي اليوم؟ هل هو غائب، أم مُغَيَّب؟ وهل ما يحدث هو تغييب قسري بفعل الاستبداد والهشاشة المؤسساتية، أم هو انسحاب اختياري بفعل الانتهاك الرمزي لوظيفة المثقف؟ في ظل هذا السياق، يصبح من الضروري التوقف عند مفهوم المثقف، والوقوف على سيرورته في المجال العربي، واستكشاف تجليات الغياب والتغييب في تعامله مع القضايا الحارقة.

أولًا: المثقف العربي ومأزق التعريف بين غرامشي وسعيد

يُعدّ مفهوم "المثقف" مفهومًا إشكاليًا، متعدد الأوجه، يتراوح بين الدور الاجتماعي والتحليل الفكري والالتزام السياسي. وقد قدّم أنطونيو غرامشي تعريفًا مركزيًا للمثقف باعتباره "ذلك الذي يُنتج ويُعيد إنتاج المعاني، ويُوجه الرؤية الجماعية للمجتمع" (غرامشي، دفاتر السجن). وهو ليس محايدًا، بل منحاز بطبعه، إذ أن لكل طبقة مثقفيها الذين يعبرون عن رؤاها وتطلعاتها.

أما إدوارد سعيد، فقد وسّع هذا التصور، معتبرًا أن المثقف هو "منفي رمزي"، يعيش دائمًا على هامش السلطة، في صراع مع المؤسسة، ومرتبط أخلاقيًا بكشف الزيف وتحدي الرواية الرسمية (سعيد، تمثيلات المثقف).

من هذين التعريفين، يمكننا استنتاج أن المثقف، بطبيعته، كائنٌ صراعي، يحتل موقعًا وسطًا بين المعرفة والسلطة، وأن أي حياد يتخذه تجاه القضايا الحارقة هو نكوص أخلاقي واختلال في وظيفة الوعي.

ثانيًا: بين الغياب والتغييب – بنية السؤال الإشكالي

ينبغي التفريق بين الغياب بوصفه فعلًا إراديًا، والتغييب باعتباره ممارسة قسرية. في السياق العربي، غالبًا ما تتشابك الحالتان في بنية واحدة، إذ يُغَيَّب المثقف بفعل المنظومات القمعية، لكنه أيضًا يغيب بفعل انزياحه نحو النخبوية أو الارتهان لمصالح شخصية أو أيديولوجية.

1- التغييب المؤسسي:

تعرضت النخب الثقافية العربية منذ خمسينيات القرن الماضي لحملات ممنهجة من الإقصاء والتدجين، في ظل صعود الأنظمة الشمولية التي عمدت إلى إعادة إنتاج المثقف السلطوي أو "الموظف الأيديولوجي"، كما يسميه عبد الله العروي. تم ذلك من خلال:

احتكار المؤسسات الثقافية من طرف الدولة.

فرض رقابة صارمة على النشر والبحث.

تحويل اتحادات الكتّاب إلى أدوات تضبط الإبداع بدلًا من أن تحرره.

وقد أفضى ذلك إلى اختفاء دور المثقف النقدي المستقل، وتحوّله إما إلى ناطق باسم السلطة أو إلى منفيّ خارج حدود الوطن.

2 - الغياب الطوعي:

يقابله نموذج المثقف الذي اختار العزلة أو الانغماس في تنظيرات بعيدة عن الواقع. وهو ما يسميه علي حرب بـ**"المثقف النرجسي"، الذي يشتغل على اللغة أكثر مما يشتغل على الناس، ويعيش في أبراج لغوية عاجية لا يرى منها الجمر المشتعل في الأزقة** (حرب، من نقد النص إلى نقد العقل).

الانفصال عن الواقع، وغياب مشاريع معرفية متجذرة في المجتمع، جعلا الكثير من المثقفين عاجزين عن التأثير في الفضاء العام، وهو ما دفع الجماهير إلى البحث عن بدائل جديدة في الفضاء الرقمي أو في رموز دينية وسياسية.

ثالثًا: القضايا الحارقة والمثقف الغائب/المُغيَّب

أمام التحديات الراهنة – من انهيارات الدولة الوطنية، وصعود الطائفية، وتفاقم القمع، إلى التحولات الرقمية – تظهر الحاجة الماسّة إلى صوت المثقف النقدي. لكن المأساة أن هذا الصوت، في كثير من الأحيان، إما خافت، وإما مفرط في التأويل دون تأثير حقيقي.

1 - فلسطين كقضية معيارية:

منذ نكبة 1948، ظلّت فلسطين مرآة أخلاقية تُقاس بها مواقف المثقف. لكن في العقود الأخيرة، ومع التطبيع الرسمي المتسارع، برز نوع من الصمت المخزي، أو ما سماه عزمي بشارة بـ"التطبيع الثقافي" الذي ينزع سلاح المثقف الرمزي ويحوّله إلى شاهد زور على تصفية القضية.

2 - ثورات الربيع العربي:

تباينت مواقف المثقفين بين مؤيد مشروط، ورافض بدعوى أن "الشعوب غير جاهزة للديمقراطية"، وهي حجة تنضح بوصاية نخبوية. وكشف الربيع العربي عن افتقار كثير من المثقفين إلى تصوّر سياسي بديل، وانحيازهم إما للأنظمة أو للقوى المضادة للثورة، ما خلق قطيعة نفسية مع الشارع.

3 - العولمة والهوية:

مع صعود قيم السوق والانفتاح الرقمي، برزت تحديات جديدة تتطلب إعادة تعريف الهوية الثقافية العربية. لكن كثيرًا من المثقفين بقوا أسرى ثنائيات تقليدية (أصالة/حداثة، شرق/غرب)، غير قادرين على تفكيك البنية العميقة للعولمة أو تقديم رؤية نقدية متعددة المستويات.

رابعًا: المثقف الجديد – ملامح مشروع بديل

لا يكفي توصيف العطب، بل لا بد من بلورة مشروع بديل يعيد الاعتبار للمثقف كفاعل تاريخي. يمكن الحديث هنا عن "المثقف الشبكي" أو "الناشط المعرفي"، الذي يشتبك مع قضايا عصره بأدوات جديدة، دون أن يتخلى عن جذوة النقد.

1- الارتباط العضوي بالمجتمع:

أن يعود المثقف إلى التفكير من داخل المجتمع، لا من فوقه، فينخرط في الحوارات الشعبية، ويعيد الاعتبار للثقافة كفعل جماعي وليس مجرد منتج نخبة.

2 - عابري التخصصات:

المثقف الجديد ينبغي أن يكون عابرًا للتخصصات، قادرًا على الربط بين السياسة والتاريخ، الأدب والاقتصاد، الفلسفة والتكنولوجيا. النموذج ليس "الأكاديمي المنعزل"، بل "المثقف المشتبك" كما في تجربة طارق علي أو فواز طرابلسي.

3- تكسير الحواجز المؤسسية:

عليه أن يعيد بناء منابره خارج الرقابة الرسمية، مستفيدًا من أدوات النشر الرقمي، وبناء دوائر تأثير مستقلة، من خلال البودكاست، اليوتيوب، والملتقيات الفكرية المستقلة.

خاتمة: نحو استعادة المعنى

المثقف العربي لا يزال موجودًا، لكنه – في الغالب – مُبعثر، مقموع، أو غائبٌ داخل متاهات الخطاب والجدل العقيم. غير أن التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي تفرض عليه العودة، لا كخطيب منبر، بل كضوء خافت في الزوايا المظلمة، يوقظ الأسئلة بدلًا من أن يردد الإجابات الجاهزة.

إن اللحظة التاريخية التي نعيشها تطلب مثقفًا لا يخشى السير ضد التيار، ولا يطمح لرضا السلطة أو الجماهير، بل يطلب الحقيقة في تضاريس الخراب.

فهل يستيقظ المثقف العربي من سباته، أم نكتب له مرثية أخرى على جدار المدن المنهكة؟

***

مجيدة محمدي ـ تونس

......................

المراجع:

غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن. ترجمة: فواز طرابلسي، بيروت: دار الفارابي.

سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة: ثائر ديب، بيروت: دار الآداب.

حرب، علي. من نقد النص إلى نقد العقل. بيروت: المركز الثقافي العربي.

العروي، عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. بيروت: المركز الثقافي العربي.

بشارة، عزمي. أن تكون عربيًا في أيامنا. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

طرابلسي، فواز. تاريخ لبنان الحديث. بيروت: دار الساقي.

الجابري، محمد عابد. الخطاب العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الاستهلاك في أبسط معانيه عملية استعمال سلعة أو خدمة بهدف إشباع حاجة معينة بطريقة قصدية ومباشرة، والاستهلاك قرين الإنتاج، يتولد عن حاجة ونقص في الأشياء مما يدفع الإنسان إلى الطلب، والزيادة في الرغبة قصد نيلها وبالتالي الشعور بالمتعة والراحة من الفعل المقصود، أما عدم القدرة على نيل الأشياء كما يشتهيها الإنسان يولد فينا النقص والحرمان، كما يعمق الحرمان من الاكتئاب والقلق والتوتر، والشعور بالضعف أمام مغريات الحياة اليومية، يتم وصف عصرنا بالاستهلاك، وطغيان الثقافة الاستهلاكية، نتاج للطفرة الصناعية، ونتاج التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الخلل  الذي أصاب سيكولوجية الفرد والجماعة، من الجموح والاندفاع نحو الزيادة في المتعة واللذة. الاستهلاك بأنماطه المختلفة، من الاستهلاك التفاخري، والاستهلاك القائم على الحاجة، والاستهلاك الرشيد والمعقلن. تتحكم في الاستهلاك دوافع ذاتية وموضوعية تتعلق بالفرد وبالتحولات الخاصة بالحياة، يدفعنا الاستهلاك نحو التنميط والتبعية لأنماط السلوكات الاستهلاكية المعولمة، من خلال الإقبال على الأشياء الاستهلاكية بالاستجابة الفورية لما هو مرغوب فيه، وبالاستجابة البعدية لما يتمنى الفرد أن يستهلكه، ويرتوي منه من خلال التجربة المعاشة، ولما تلعبه تكنولوجيا الإعلام من تسويق الفكرة وتعميمها وانتشارها من خلال الثقافة المعولمة الحاملة للقيم المادية العالمية. هناك ثقافة جارفة، سيول محملة بالصور والمعاني والرموز، تخترق العقول والوعي الفردي والجمعي، تعمل الثقافة الجديدة على التسليع والتشجيع على الإنتاج، والتحفيز لما يتعلق بالاستهلاك. هناك علامات وإشهار، ودعايات مجانية، وقنوات إعلامية، وما يتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم برامج وأنشطة في التحفيز والإقبال الفوري السريع على الاستهلاك حتى تستقر الصور في الأذهان، ومن خلال الشركات والمحلات التجارية التي وفرت ما يحتاج إليه الإنسان من أطعمة، ومشروبات، وأماكن للراحة، واللعب والاستجمام، العلامات التجارية والقوة الإعلامية، والسياق الثقافي العام وراء النزعة الاستهلاكية، وهذا الجموح الزائد عن الحدود وراء النزعة الاستهلاكية. إذا غاب الاستهلاك بحدة يطفو النقص وخيبة الأمل عندما لا نظفر بكل ما نرغب فيه. مشاعر الكبت تخرج للعلن، ويستقر الحرمان ويقبع في داخلنا دون ارتواء أو هكذا نفهم تبعات الحرمان في مجال القراءة السيكولوجية لأعماق الذات الفردية والجماعية معا.

سيكولوجية الفرد مشبعة بالقيم الاستهلاكية، في مجتمع الوفرة والإنتاج، المجتمع الذي يقدم نفسه كصورة للرقي والحضارة، لا نعني بالضرورة أن الاستهلاك دافعه العادات الخاطئة، وعقلية القطيع التابعة والخانعة، عقلية سهلة الانقياد للفعل، ضحية فساد الذوق، في جوهر التحولات العالمية تتجلى الثقافة الجديدة، عالم ما بعد الحداثة والنزعة الفردانية الميالة نحو التفرد والتميز من خلال التغير الذي طرأ على الحياة بألوانها المختلفة، النفسية والاجتماعية والاقتصادية، انجراف هائل من القيم التقليدية نحو القيم البديلة، استبدال القيم الصلبة بالقيم السائلة، في عالم الموضة والأزياء، في عالم الطبخ والعمارة، وفي عالم الموسيقى والفنون، وصناعة الذوق، وتهذيب السلوك، وما يليق بالمستهلك والاستهلاك. كل الأشياء تتلاشى في العالم الجديد، العلاقات الإنسانية عابرة ولحظية، استبدال الأشخاص كما يتم استبدال الأشياء والأغراض، الثقافة الاستهلاكية كما وصفها الفيلسوف "جان بودريار" في نقده للمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي تبدو ثقافة جارفة، سائلة، لا تكترث بالجغرافي، وتتخطى الحدود والمجتمعات، تنتقل من خلال الصور والميديا، وتترسخ بناء على الرموز والعلامات، وقوة الإعلام والإشهار، وفن التسويق، كل الأشياء قابلة للمحو والذوبان، الثقافة الاستهلاكية تنمو من تراجع الواقع والهروب نحو العوالم الافتراضية، هذا العالم الذي يتدفق سيولة بالصور والرموز والعلامات العابرة للحدود.

تذوب العواطف والمشاعر المختلفة، يطفو الجزء العميق في الإنسان، الجزء المعبر عن الغريزة واللذة، يفسح المجال لفكر جديد يؤمن بالتعددية والنسبية والاختلاف، الفكر البسيط القائم على التشظي، والانقسام القائم على النشوة واللذة، الاستهلاك آفة العصر، والسمة الميزة لعالم اليوم، الاستهلاك واليات إنتاجه وتعميمه، يروض الذهن على تقبل أنماطه وأشكاله، ترويض اللاوعي على فكرة الاستهلاك، تغلغل الفكرة في أعماق الذات بكل ما تحمله الأفكار من صور ورموز وعلامات غاية في الإغراء والاستمالة، الإعلانات والملصقات والإشهار، فنون وأدوات مثيرة في الإقناع والتحريض على الاستهلاك، التسوق والعرض الكبير للمنتجات العالمية، والماركات التجارية تلعب على سيكولوجية الفرد والجماعة، يوجه التفكير نحو الاستهلاك على أمل السعادة، والشعور بالمتعة أثناء الاقتناء والشراء، وما يزيد من الفعل الاستهلاكي، وجرعة كبيرة في سلوك المستهلك، التخفيضات، والأرقام المكتوبة بعناية ودقة، التي تثير المشتري أثناء التبضع، ناهيك عن جودة الأسواق الكبرى، والعرض المتنوع للأشياء من خلال المنتوج العالمي والمحلي، الجديد في عالم الأزياء واللباس، القدرة عل الاختيار والانتقاء لما هو معروض ومرغوب بأثمنة متباينة، مظهر آخر للعرض والتقدم التكنولوجي، والصناعة الإعلامية، مؤسسات الدعاية والاتصال، وامتلاك السلع والتسوق من المحلات التجارية مرتبط بالمكانة الاجتماعية، والوضع المادي، ومستوى الدخل حيث يختفي البيع والشراء كحوار وتواصل من خلال الشطارة والدهاء والتفاوض إلى عملية تجارية موضوعية، يطرح فيها البيع بطريقة أحادية، وتمتلك الشركات التجارية القدرة على الزيادة أو النقص في الأسعار بناء على الطلب والإقبال، مجموعة من العوامل والمثيرات الذاتية أو النفسية والثقافية المتحكمة في سلوك المستهلك فردا أو جماعة.

يثير الاستهلاك فينا نوازع ورغبات في الاختيار مع صعوبة التنبؤ في غالب الأحيان بسلوك المستهلك، الاستهلاك نمط وفعل مقصود يروم الإشباع وتحقيق هدف ما، إنه نظام ثقافي كامل يتسرب إلى الوعي، ويتغلغل في أعماق الفكر والمنطق، لا ينفصل الاستهلاك عن الحرمان والخصاص، مظهر للنزعة الاستهلاكية المعولمة على خطى ما ترغب في بنائه الرأسمالية، والفلسفة الليبرالية، من التشجيع على العمل والإنتاج والاستهلاك، الحرية السياسية والاقتصادية والثقافية بدون حدود بشرط عدم الاصطدام بحرية الآخرين أو العمل على تقويض دعائم الدولة الرأسمالية في بنائها وأسسها. الحضارة المادية المعاصرة وتبعات الهيمنة الاقتصادية للنظام الرأسمالي، سلطة النظام العالمي في تقديم المسكنات الممكنة للبقاء، والإصرار على الاستقطاب، وتعميم النمط الأحادي في العالم بدافع المزايا والغايات القصوى من الحرية والإنتاج، والتشجيع على الابتكار والتجديد في نمط الإنتاج، وفرص النجاح، المسكنات تعني إدخال الأمم في لعبة الإنتاج والاستهلاك، ثنائيات من قبيل الحرية والضرورة، والإشباع والحرمان، والمجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق، اقتصاد السوق والتجارة الحرة، والاستهلاك بدون كوابح أو موانع قانونية وسياسية. الشراء بالتقسيط أو الجملة متاح للكل، البضاعة متوفرة بوفرة، والاقتناء يزيد، والعروض بأنواعها، منطق عالمي كبير للتبادلات، اتفاقيات دولية، تبادل سريع للأموال والخدمات، وكل الانتاجات المادية، الصين على سبيل المثال، أغرقت الأسواق بالمنتجات المتنوعة، أقل جودة وأكثرها، الدفع والشحن والتوصيل إلى عين المكان، تحفيز المستهلك ومساعدته على اختيار الجودة والتسوق بالأثمان المناسبة.

طوفان من البضائع والسلع، ملصقات من الإشهار والدعاية التي تنفق عليها الشركات الملايين من أجل ترسيخ النفوذ في الأسواق العالمية، الكل يقترب من إفريقيا، الكل يتهافت على الشرق الأوسط، الحروب التي تشتعل في العالم مردها للمنفعة والظفر بالثروات، والمعادن النادرة، وسياسة السطو على الخيرات الطبيعية بالتفاوض أو الحرب بالوكالة أو الحروب المباشرة، والإنسان المستهلك في دوافعه الطبيعية والمكتسبة لا يستطيع مقاومة الإغراء النابع من الحاجة والرغبة إذ يشتهي الإنسان، ويرغب بشدة في الاقتناء والتلذذ بما يعرضه السوق من منتجات وأدوات تلبي جزء من الشهوات والرغبات الخاصة بالنفس البشرية، ماركات اللباس، الهواتف النقالة، والحواسيب، الآلات المنزلية، وأدوات المطبخ بأشكالها، والجديد في عالم الموضة والجمال، والشاشات الكبيرة. تزيد القيمة الإستعمالية للأشياء عند الإقبال، ويزيد الربح للشركات المصنعة بزيادة رقم المعاملات ونصيبها في البورصة، كما يترسخ المجتمع الاستهلاكي من خلال انتشار الثقافة الاستهلاكية، وفي قوة المظاهر، وتجليات الظاهرة، هناك تنامي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، يزول الخوف وتهدأ النفس بالتحول من الحرمان نحو الإشباع، وسد الحاجات الأساسية والثانوية نحو الكماليات كذلك، حتى أن التشابه في العقليات والأفكار يولد النزعة القوية والفورية نحو الاستهلاك والابتلاع، ظاهرة الاستهلاك تشكل عالمنا المعاصر، ظاهرة كونية ترسخ نمط من القيم والثقافة عن قوة الأشياء وأثرها على سيكولوجية الفرد والجماعة، التأثير في المستهلك لا يأتي كذلك من الإشهار والشركات، بل هناك العائلة والأسرة والأصدقاء، والمجموعات ذات المرجعيات الدينية والقومية، وعندما نعاين في المجتمعات العربية والمجتمع المغربي على سبيل المثال ثقافة الاستهلاك نلمس التدافع والإقبال بالزيادة في الزيارات للمحلات الكبرى. هناك تغير في نمط العيش الجديد في المجتمع العضوي مقابل المجتمع الآلي البسيط يعني انتقال البدو من القرى نحو المدن، وما يعنيه الانتقال من سلوك ونمط الحياة، إقبال شديد على الاستهلاك خصوصا في المناسبات والأعياد الدينية، العالم المعاصر كما يصفه "بودريار" عصر الأغراض، كل شيء تحول إلى قيمة وسلعة، هذا التحول نتج عنه تحولات في مجال السلوك والعواطف والمشاعر، تجليات عدة في مجال العلاقات الاجتماعية والإنسانية إذ تحول العيد عندنا إلى مناسبة للتباهي، والجشع واللهفة المصاحبة لاقتناء اللحوم البيضاء والحمراء، والزيادة في الاستهلاك إضافة لاستغلال المناسبات من قبل التجار والمضاربين للرفع من الأسعار، وينسى المتدين الحقيقي ما وراء العيد من أهداف وغايات تتجاوز شهوة البطن، وملذات الأكل والشرب إلى الصوم تقربا من الحق، والصدقة، ومزايا تتعلق بتوثيق روابط المحبة والإخاء بين الناس على أساس الرحمة والمودة، وغيرها من المقاصد الأساسية المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.

نحتاج إلى فهم عميق لنوازع النفس الإنسانية، وتربية الناس على الخلق القائم على التهذيب، ومكارم الأخلاق، العقلية الاستهلاكية عقلية سطحية، الاستهلاك خلق ذهنية قابلة للانقياد، يهيمن عليها شبح السعادة الوهمية، تؤدي الثقافة الاستهلاكية إلى إفساد الذوق وتسطيح الوعي، والاندفاع الشديد نحو لذات الجسد، تصنع حاجة وهمية، تعزز صور ذهنية بين السلوك والأشياء المعروضة، قوة الرأسمالية، والليبرالية المتوحشة في الاستقطاب، وتفكيك فكرة الجسد، وتجريد الإنسان من كل القيم الأخلاقية في اعتدالها وتناغمها، هذا الإنسان الذي أصبح مجرد رقم من الأرقام في عملية الإحصاء الكمي، في نسبة الأرباح، والمبيعات الخاصة بالشركات، ومؤشر على الصعود والنزول في البورصات المحلية والعالمية، وسلوك المستهلك فعل أو حالة نفسية ومشاعر عاطفية، وتوجه نحو شيء مرغوب فيه، ويكون الميل نحو الأشياء بدافع ايجابي أو سلبي، تكون الدوافع سلبية في حالة التجاوز لما هو مسموح ومعقول أي ما يجلب لنا نوع من المتعة والراحة دون المبالغة أو الزيادة في جرعة الاستهلاك حتى التخمة أو التبذير. السلوك الاستهلاكي منبه داخلي، ومنبع الفعل الموجه لأجل الشراء والظفر بالأشياء أو لنقل بعبارة أوسع شكل من أشكال التملك في مجتمع الوفرة والإنتاج، وقديما قدم الفيلسوف اليوناني "أبيقور" وصفة للسعادة والشعور بالمتعة والسكينة من خلال الإقبال على مطالب الجسد في حدود المعقول دون الانجرار نحو الأشياء الماجنة أو اللذات القاتلة والسلبية لأن اللذة هي أولى الخيرات الطبيعية، وهي مبدأ الحياة السعادة، اللذة الحسية البدنية غايتها السلامة للبدن والسكينة للنفس، هذا الاعتدال في الرغبات واللذات دون تبذير منبع السعادة، دواء الاستهلاك المفرط الاعتدال في اللذات، والتفلسف في الحياة بوصف الفلسفة تمرينات روحية لأمراض النفس، من البلادة والسطحية والغباء، والانجرار وراء القطيع، والتيه وراء الشهوات الهدامة والمجون، أمراض يداويها التفلسف، وعقلنة الأشياء وإخضاع نظام الأشياء للعقل مع التروي بالحكمة في المعرفة لما يبهجنا ويجعلنا في انسجام بين رغباتنا وشهواتنا.

***

أحمد شحيمط

 

تلك الجملة التي استقرّت في ذاكرة التاريخ الفلسفي وأيقنت للإنسان أبهى لحظة من لحظات تأمله الذاتي: أنا أفكر إذن أنا موجود (Cogito, ergo sum).

عبارة رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، التي حاول بها أن يؤسس اليقين الأول في رحلة الإنسان نحو المعرفة، واستكشاف جوهر وجوده.

لكن، هل حقًا يكفي أن أفكر لكي أكون؟. هل يختزل الوجود في مجرد عملية ذهنية، في هذا النشاط العقلي الضيق الذي نسميه تفكيرًا؟

هذه العبارة تبدو في ظاهرها واضحة وبسيطة، لكنها تنطوي على عمق لانهائي من التساؤلات التي ما زالت تثير جدلًا فلسفيًا معاصرًا.

ديكارت حاول أن يجد نقطة يقينية يتجاوز بها الشك، فوجد أن الشك نفسه يفترض وجود من يشك، ومن ثم فالفكر دليل وجود الذات. إلا أن هذه الحتمية العقلية لم تخلو من نقاد، ولا من تحديات حادة.

فلسفيًا، أول ما يثيره النقاد أن أنا أفكر لا تضمن بالضرورة وجود كيان مستقل وثابت. قد يكون الفكر ظاهرة عابرة، لحظة وعي قصيرة، وليست دليلاً كافيًا على ذات ثابتة ومستقلة.

الفيلسوف الألماني هيغل مثلاً رأى أن الذات لا تُعرَّف بالفردية المجردة وإنما في سياق الوعي الجمعي والتاريخي. وهذا يعني أن وجود الإنسان لا يتوقف على تفكيره الفردي فقط، بل هو مشروط بالبيئة، بالتاريخ، بالآخرين.

وفي العراق، حيث تتشابك الهوية مع التاريخ المضطرب، تبدو مقولة ديكارت غير كاملة. ففي مجتمعٍ لا تزال الحكايات والذاكرة الجماعية تسير كنبع لا ينضب، لا يمكن للإنسان أن يدعي وجوده فقط من خلال فكره، بل عبر ذاكرة تشكل الذات والوعي.

قال الفيلسوف العراقي هادي العلوي: الذات الحقيقية ليست ما نفكر فيه لحظة بل ما نحتفظ به من تجارب وتاريخ وموقف.

هذا يقودنا إلى فكرة أن الوجود ليس مجرد فعل تفكير، بل هو امتداد حي للتاريخ والذاكرة والاختبار. لذا فإن الذات لا تتبلور فقط في اللحظة الراهنة، بل عبر الزمن المستمر.

أما إيمانويل كانط، فذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الفكر يحتاج إلى حس ليُنتج معرفة حقيقية. بمعنى آخر، التفكير ليس نشاطًا داخليًا منفصلاً، بل هو مرتبط بالتجربة الحسية والتفاعل مع العالم الخارجي.

وهذا ينقلنا إلى فكرة أن الوعي بالوجود يتطلب الانفتاح على العالم، والتفاعل معه، وليس العزلة الفكرية فقط.

كما أن فيلسوفنا العراقي عبد الجبار عبد الله، انتقد مفهوم الذات ككيان منفصل قائلًا: الفردية لا تتجلى في العزلة عن الآخر، بل في العلاقة مع الآخر؛ الذات لا وجود لها إلا في الحوار.

من هنا، نرى أن عبارة ديكارت رغم عظمتها، ليست محصنة من النقد، ولا تمثل إجابة نهائية عن السؤال الأزلي: ما هو الوجود؟

الجدير بالذكر أن هذه العبارة كانت حجر الأساس في تأسيس الحداثة الغربية، إذ فجرت قطيعة مع عالم العصور الوسطى الذي كانت فيه الحقيقة ترتبط بالخارج، بالخالق، وبالعادات، لتبدأ رحلة الفرد نحو بناء معرفته بنفسه.

لكن مع تقدم الفلسفة، ظهر أن الوعي بالذات لا ينفصل عن العالم والتاريخ. فالذات والوجود ليسا مجرد فعل فكري منفصل بل هما لحظة تاريخية وثقافية وعلاقة إنسانية.

وبذلك، نكون أمام رؤية أكثر ثراءً للوجود: الإنسان موجود ليس فقط لأنه يفكر، بل لأنه يتفاعل مع ذاته والآخرين، مع بيئته، مع تاريخه، ومع قيمه.

فالفكر هو نقطة انطلاق، لكنه ليس نهاية المطاف. وهنا تكمن معركة الوعي: هل نكتفي بأن نكون مجرد مفكرين منعزلين، أم نمد جذورنا في العالم، لنصبح ذوات متجذرة في التاريخ والواقع؟

لكن ماذا لو قلتُ لك: أنا أشعر، إذن أنا أعمق من مجرد وجود. فالوعي الفكري وحده لا يكفي لاحتضان عمق التجربة الإنسانية. فأنا أفكر تشير إلى نشاط ذهني مجرد، بينما أنا أشعر تغوص في بحر التجربة الحيّة التي تشكل ماهية الإنسان.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل مرلو-بونتي، أحد أعظم فلاسفة الظاهراتية، يرى أن الوعي الجسدي والشعور ليسا مجرد نتاج التفكير، بل هما جوهر الوجود.

الإنسان ليس فقط كائنًا مفكرًا، بل هو جسد يشعر، يعاني، يفرح، يحب، ويعيش العالم عبر جسده وروحه.

ذلك الشعور هو ما يجعل الوجود حيًّا، متألقًا، ذا بعد إنساني لا يُختزل في مفاهيم مجردة.

وبعبارة أخرى، إن شعورنا بالوجود معناه أننا نحتضن اللحظة بكل أبعادها، لا الفكر فقط، بل العاطفة، الحواس، والانغماس في العالم.

هذا الشعور هو من يصنع معناها، وهو الذي يُكسر برودة التفكير الجامد.

كما يقول الفيلسوف العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي:

الوجود لا يكتمل إلا حين يصاحبه نبض القلب وشعور الروح، فالألم والحب والغضب هي التي تمنح لحياتنا عمقًا، لا مجرد فكرة فارغة.

فهل نكتفي بأن نكون مفكرين، أم نريد أن نكون كائنات حية تنبض بكل أبعاد الإنسان؟

هذا هو التحدي الأكبر: أن نتحرر من القيد الضيق للفكر، لنعيش الوجود بكل ما فيه من حس وجسد وروح.

وفي النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى التي تناقشها أعمق العقول:

الوجود لغزٌ لا يُفكُّ، وكلما اقتربنا منه، ازدادت تساؤلاتنا عُمقًا؛ فلا وجود بلا سؤال، ولا سؤال بلا وجود.

فهذه الجملة التي تختصر كل صراع الفكر الإنساني، تذكرنا بأننا في رحلة دائمة مع الوجود، لا نملك سوى أن نطرح الأسئلة بعمق، ونتأمل في ذاتنا وعالمنا بلا توقف.

سجاد مصطفى حمود

..............................

الهوامش:

1. ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى. ترجمة محمد عبد الله دراز.

2. العلوي، هادي. من تاريخ التعذيب في الإسلام. دار المدى.

3. عبد الله، عبد الجبار. مقالات فلسفية. بغداد: دار الوراق.

4. كانط، إيمانويل. نقد العقل المحض. ترجمة محمد مندور.

5. مرلو-بونتي، ميشيل. الظاهراتية والوعي الجسدي. ترجمة دار المدى، 1998.

6. البياتي، عبد الوهاب. خواطر فلسفية وشعرية. بغداد: دار الشؤون الثقافية، 2003.

7. هيغل، جورج فيلهلم فريدريش. ظواهر الروح.

 

لعل من أبرز الملامح التي يمكن رصدها في المجتمع العراقي في الوقت الحاضر، هي احتضار (الثقافة) وانحسار (الوعي) ليس فقط بين جمهور (العامة) من شرائح المجتمع (المنمطة) فحسب، وإنما بين جمهور (الخاصة) من نخبه وعلية قومه (المؤدلجة) كذلك. ومن أهم علائم هذا الاحتضار وأبرز تمظهرات هذا الانحسار، هو استشراء ظاهرة عزوف (القارئ) بعد أن لمس كسوف (المقروء). حيث انطفأت لدى القارئ العراقي جذوة الحب (للقراءة) التي كان شغوفا"بها، وخبى لديه وهج البحث عن المعرفة التي كان حريصا"على حيازتها، وذلك بعد أن لمس تراجع وتقهقر القيمة العلمية والمعرفية (للمقروء)، وتدنى من ثمة مستوى التحليل والتأويل والتأصيل للقضايا والمسائل الملحة التي كانت ولا تزال تؤرق الإنسان العراقي وتقض مضاجعه، سواء أكان ذلك على صعيد (الجغرافيا)، أم على صعيد (التاريخ)، أم على صعيد (السياسة)، أم على صعيد (الاقتصاد)، أم على صعيد (الدين)، أم على صعيد (الأخلاق)، أم على صعيد (الحضارة).

ولما كان ازدهار (الثقافات) ورقيّ (المعارف) مقترنا"بشكل عضوي بعوامل التحرر والتغير والتطور، فإن العدول عن مسايرة وملاحقة هذا السيل الهادر من التحولات العاصفة والانزياحات الجذرية، ومن ثم الإبقاء على ذات الإيقاع المكرر والرتيب من التعاطي مع الأحداث السياسية الساخنة والوقائع الاجتماعية الصادمة والانعطافات التاريخية الحادة، لابد وأن ينعكس سلبا"على حالة (الثقافة) العامة للمجتمع، مثلما على نمط تفكيره ومستوى وعيه. ولهذا فليس من المستغرب أن نشهد ظاهرة (العزوف) الجماعي للعراقيين عن ممارسة القراءة الجادة، والإقلاع عن تتبع كل ما يصدر من جديد في مجالات العلم والفكر والثقافة والآداب بالمعنى التنويري والإنساني، وليس بالمعنى التقليدي والتراثي كما هو سائد الآن.

فبعدما كانت في السابق صيغة القول الشائع ؛ ان المصري يؤلف واللبناني يطبع والعراقي يقرئ، تحايث الواقع وتلامس الحقيقة أضحت اليوم تلك الصيغة بعيدة عن الأول ونائية عن الثانية. ليس فقط على خلفية الأوضاع السياسية الملتهبة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والعلاقات الاجتماعية المضطربة، والتوجهات الإيديولوجية المتقلبة فحسب، بل وكذلك لما لحق بالثقافة من خراب وما أصاب المثقفين من يباب !. إذ رغم كثرة التأليف وغزارة النشر، لم يعد السرد الفكري والثقافي الذي تنتجه (الانتلجنسيا) العراقية، يعكس هموم الواقع الطافح بالمشاكل والفائض بالإشكاليات، مثلما لم يعد يعبر عما يجيش في رحم المجتمع الضاجّ بالتناقضات والصراعات. وإنما تحولت النصوص المقروءة – يستوي في ذلك الأكاديمي منها أو غير الأكاديمي - الى سرود (مكررة)، لا تحتوي مضامينها على أية أفكار جديدة أو تصورات مبتكرة، بقدر ما أدمنت عملية (الاجترار) لذات الإشكالات التي سبق وان كانت مطروحة على بساط البحث والنقاش من قبل.

والملاحظ على غالبية النصوص (المقروءة) التي أجادت بها قريحة (المثقفين) العراقيين، لاسيما تلك التي صدرت وتكاثرت بعد عام السقوط 2003م، والتي حملت مضامينها الرثة كل ما من شأنه (عزوف) القارئ العراقي عن متابعتها باهتمام ناهيك عن قراءتها بجدية. أنها تميّزت بمجموعة من السلبيات والمآخذ التي يمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:

أولا"- رغم ان معظم النصوص التي صدرت خلال هذه الفترة تمحورت حول قضايا المجتمع العراقي، التي لا يخفى على (القارئ) مدى خطورتها وحساسيتها بالنسبة لحياة المواطنين، إلاّ أنها تحاشت - قدر الإمكان - الاقتراب من الخلفيات التاريخية والمرجعيات الدينية لتلك القضايا الملتهبة، مثلما تجنبت الغوص في أعماق الظواهر السوسيولوجية والانثروبولوجية المتمخضة عنها على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، بحيث تركز همها حول كل ما أضحى مشاعا"من هموم ومعاناة ومكابدات.

ثانيا"- أن هذه النصوص حين تدرس ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والإنسانية الطاغية في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي، لا تتناولها في إطار علاقاتها البنيوية وتفاعلاتها الجدلية مع بقية الظواهر الأخرى المحايثة لها والمتزامنة معها، بحيث تبدو كشبكة متعاضدة ومتخادمة على صعيد المعطيات والتأثيرات. كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار مجمل السياقات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية التي تسهم بتكوين تلك الظاهرة وتمنحها الخاصية النوعية التي تميّزها عن سواها.

ثالثا"- إذا ما صادف ووجد نص (شاذ) يخرج عن هذا النمط النسقي من الكتابة التقليدية، من حيث مراعاة تجنب الوقوع في مطب مثالب وعيوب الفقرتين الأولى والثانية، فإنه غالبا"ما يختار لمتنه حقبة تاريخية معينة (عثمانية، ملكية، جمهورية) يتحصن فيها ويتمترس خلفها دون أن يبدي أية جرأة على تخطي تخومها وتجاوز حدودها، والتي لم يكن ممكنا"للظاهرة موضوعة البحث فرصة للوجود ضد شروطها وخارج مجالها. أي انه يتعمد تجاهل خلفيات (الماضي) ويتغافل عن احتمالات (المستقبل)، بحيث تبدو الظاهرة المعنية كما لو أنها نبتة برية انبثقت الى الوجود الاجتماعي في غفلة من الزمن.

من هنا لم يعد أمام (القارئ) العراقي ما يغريه ويجعله متحمسا"في سيل النصوص المتهافتة، سوى أنها تعيد وتكرر عليه ما سبق له قراءته والاطلاع عليه في العشرات – إن لم تكن المئات – من المصادر الثقافية والإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي، التي باتت تعج بالكثير من (التحليلات) و(التأويلات) من كل صنف ونوع، دون أن تضيف الى رصيده الثقافي ومخزونه المعرفي ما يجعله أكثر إدراكا"وأكثر وعيا"!.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

دور المساجد والكنائس في احتواء المفرج عنهم

تُمثل الوصمة الاجتماعية عبئًا نفسيًا ثقيلًا يُلازم المفرج عنهم بعد خروجهم من السجن، حيث لا تنتهي العقوبة بانتهاء مدة الحبس، بل تمتد إلى نظرات المجتمع وأحكامه القاسية. في خضم هذا الواقع، تبرز المساجد والكنائس كمساحات تحتضن الإنسان قبل تاريخه، وتمنحه فرصة للبدء من جديد.

تُوفّر دور العبادة بيئة روحية آمنة تساعد الفرد على التصالح مع ذاته، وعلى تجاوز مشاعر الذنب والعار الداخلي عبر التوبة والرجوع إلى الله أو إلى منظومة الإيمان. قال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا" [الزمر: 53]. وفي الإنجيل، يقول يسوع: "لم آتِ لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" (لوقا 5: 32).

تُلعب الخطب الدينية والمواعظ دورًا توعويًا بالغ الأهمية، إذ تُذكّر الناس بقدسية التوبة وحق الإنسان في الفرصة الثانية، وتدعو إلى قبول التغيير والإصلاح. قال تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" [البقرة: 222]. ويقول بولس الرسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كورنثوس 5: 17).

تُعزز المساجد والكنائس مفاهيم الكرامة والمساواة، وتُرسّخ أن لكل فرد حقًّا في بداية جديدة، بصرف النظر عن ماضيه. قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم" [الإسراء: 70]. وفي الكتاب المقدس: "لا يكن لكم في إيمان ربنا يسوع المسيح، رب المجد، محاباة" (يعقوب 2: 1).

تُصبح هذه الأماكن، في كثير من الأحيان، موئلًا اجتماعيًا بديلًا، حيث يجد المفرج عنهم دعمًا نفسيًا وشبكة علاقات جديدة تعينهم على تجاوز العزلة والإقصاء. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة: 2]. وقال يسوع: "كنت غريبًا فآويتموني، مريضًا فزرتموني، سجينًا فجئتم إليّ" (متى 25: 36).

ولم تتوقف بعض دور العبادة عند الدور الوعظي فحسب، بل امتدت لتُقدّم مبادرات تأهيلية ومساعدات عملية تُسهم في إعادة بناء الحياة بعد السجن، سواء عبر التدريب المهني، أو التوجيه النفسي، أو تقديم الدعم المادي والمعنوي، ما يجعلها شريكًا فعليًا في عملية الإدماج.

حين تتبنى المساجد والكنائس خطابًا يواجه الصور النمطية، فإنها تُحدث أثرًا عميقًا في وعي الناس. فحين يرى المجتمع أن هذه المؤسسات تحتضن من سبق سجنه، يُعاد النظر في المواقف، ويُمنح الأفراد مساحة للعودة والاندماج دون خوف أو خجل.

إن التحول الذي يحصل في هوية المفرج عنه عند احتضانه دينيًا هو تحوّل حاسم؛ فهو لم يعد مجرد "سجين سابق"، بل بات "تائبًا" أو "عضوًا نافعًا في الجماعة"، ما يمنحه معنى جديدًا لهويته، ويُقلل من شعوره بأنه منبوذ أو مرفوض.

وتساعد هذه البيئة أيضًا في التخفيف من مشاعر الذنب والرفض الذاتي، حيث تُوجه الفرد إلى مسارات جديدة من الإصلاح والعمل الخيري، وتُحفّزه على تجاوز ماضيه من خلال أفعال إيجابية تُعيد إليه احترامه لذاته وثقة الآخرين به. قال تعالى: "إن الحسنات يُذهبن السيئات" [هود: 114].

في النهاية، تُثبت المساجد والكنائس أنها ليست فقط مؤسسات دينية، بل حواضن مجتمعية قادرة على لعب دور فاعل في تضميد جراح العار الداخلي وتفكيك الوصمة الاجتماعية. ومن خلال جمعها بين الإيمان والعمل، تفتح أبوابًا كانت موصدة، وتُعيد للأفراد حقهم في الانتماء. وكما قال المسيح: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر" (يوحنا 8: 7).

***

أ.د. هاني جرجس عياد

دأب معظم مؤرخي الحضارات القديمة من الغربيين على إبراز عظمة الحضارتين الإغريقية والرومانية في ميادين الفلسفة والقانون والطب والفلك والرياضيات والجغرافيا والهندسة، وغير ذلك من العلوم والآداب، كما شددوا على تأثير هاتين الحضارتين في شعوب الشرق، غير أن هذه النظرة، المنبثقة عادةً من تعصب ثقافي للمركزية الغربية، سرعان ما تهاوت أمام الكشوفات التاريخية والآثارية التي أكدت أصالة الحضارات الشرقية، وفي مقدمتها حضارة العراق القديم، ولاسيما تلك الحضارة المزدهرة التي نشأت على أرض بابل . في دراسته المعنونة " برعوشا – بيروسُس حامل الفكر البابلي إلى العالم" يسلط الدكتور حسين الهنداوي، صاحب " الفلسفة البابلية "، الضوء على شخصية تحتل مكانة علمية استثنائية، هو المؤرخ وعالم الفلك والرياضيات الذي اشتهر عند الغربيين باسمه اللاتيني " بيروسُس".

يرى الهنداوي أن " برعوشا" هو الاسم الأقرب بالعربية إلى "بيروسُس" الذي اشتهر به في الغرب " نظراً إلى عدم عثورنا إلى الآن على وثيقة بابلية أو عربية أو شرقية قديمة تشير إلى اسمه الأصلي"، ويُرجَّح أن أصله باللغة الأكدية هو " بعل ريشو"، ويعني " يرعاه بعل "، ويقابله في العربية : مرعي، أو محفوظ، أو مبارك، أو محروس. ولهذا " المبارك المحروس" يعود الفضل في توثيق تاريخ العالم القديم بمنهج مبتكر "سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكُتّاب اليونانيين والرومان"، لكن إنجازه الأهم كان في نظرياته الفلكية المبتكرة، والأكثر أهمية هو كتابه الموسوعي "بابلونيكا"، أي" التاريخ البابلي"، بأجزائه الثلاثة، حيث ابتدع فيه منهجاً جديداً لم يسبقه إليه المؤرخون، بمن فيهم هيرودوت، المؤرخ اليوناني الشهير الملقب بأبي التاريخ. فهذه الموسوعة التاريخية التي ألّفها برعوشا باللغة الإغريقية بين عامي 290 و 270 قبل الميلاد، تُعدّ مدوّنة شاملة للتاريخ البشري وحضاراته، تبدأ من بدء الخليقة وتنتهي بوفاة الإسكندر المقدوني في بابل عام 323 قبل الميلاد. وقد اعتمد برعوشا "على مصادر ونصوص مسمارية أصلية وموثقة تمكّن من الوصول إليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق"، بحسب تعبير الهنداوي.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

السحر الرمزي والطقوس الدينية في المجتمعات القديمة كانا مترابطين بشكل وثيق، استخدمت الرموز السحرية في الطقوس الدينية كوسيلة للتواصل مع الآلهة أو القوى الروحية، مما أعطى للطقوس عمقًا ومعنى، كانت الطقوس الدينية التي تتضمن عناصر سحرية، تهدف إلى إحداث تغييرات في العالم، مثل جلب الخصوبة أو الحماية من الأذى او انزال المطر، ساهمت هذه الرمزية في تعزيز الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات القديمة، مما عزز من شعور الانتماء والتضامن، من خلال الطقوس تم نقل التعاليم والمعتقدات المتعلقة بها، مما ساعد في الحفاظ على الثقافة والتراث، كان للكهنة (السحرة) دورًا مهمًا في تعزيز الطقوس، حيث استخدموا السحر الرمزي لتنظيم سلطتهم الروحية وقيادة المجتمع بشكل عام، كان السحر الرمزي جزءًا لا يتجزأ من طقوسهم الدينية، مما أثر في تشكيل الممارسات الروحية والثقافية في المجتمعات الحالية.

الأدلة الاثرية والسحر الرمزي

الأدلة الأثرية تدعم العلاقة بين السحر الرمزي والطقوس القديمة وتشمل مجموعة متنوعة من المعالم والاكتشافات، حيث تم العثور على أدوات مثل الجرار المنقوشة أو التماثيل التي تحمل رموزًا دينية وسحرية، مما يشير إلى استخدامها في الطقوس السحرية، النقوش على المعابد أو الآثار التي تحتوي على رموز وكتابات توضح الممارسات السحرية والطقوس المرتبطة بها، تماثيل آلهة أو كهنة تحمل رموزًا سحرية، تُظهر دورها في الطقوس والعبادات، الأدلة في المقابر، مثل الطقوس الجنائزية والأدوات المدفونة، تشير إلى الممارسات السحرية كذلك تحتوي دلائل على الممارسات الطقسية، مثل مذابح أو أماكن للعبادة اوالرسوم الجدارية و القطع الفنية التي تُظهر مشاهد طقسية وسحرية تعكس أهميتها في الحياة اليومية والدينية، تشكل هذه الأدلة جزءًا من الفهم الأوسع للسحر الرمزي ودوره في الطقوس القديمة.

اشكال السحر الرمزي في السرديات التاريخية

السحر الرمزي في السرديات التاريخية يظهر بأشكال متعددة منها استخدام الرموز الثقافية مثل الأرقام، الألوان، والأشكال التي تحمل دلالات خاصة وتضمين قطع سحرية تعتمد على الرموز، تعكس الحجارة في السحر الرمزي التفاعل البشري مع العالم المحيط به، وتعبران عن الرغبة في التحكم بقوى تبدو خارجة عن السيطرة، بينما كانت الاحتفالات التي ترتبط بزراعة المحاصيل أو تغيير الفصول تعتمد على وجود شخصيات تمثل قوى سحرية، مثل السحرة أو الكهنة، الذين يستخدمون هذه الرموز لتحقيق أهداف معينة،  حيث تعتبر الممارسة رسائل من العالم الروحي، تتداخل هذه الأشكال في العديد من الثقافات وتساهم في تشكيل الهوية التاريخية لكل مجتمع، مما يجعلها وسيلة تعبير فعالة، لذا يُعتبر السحر الرمزي جزءًا من الطقوس التي تحول المعاني اليومية إلى تجارب روحية، مما يمنح المشاركين شعورًا بالاتصال بالكون أو بالأرواح، ويجعل الطقوس ذات أهمية في تجديد الروح الجماعية وخلق شعور بالانتماء والتواصل بين الأفراد، تتكامل السرديات التاريخية والطقوس من خلال إنشاء معاني أعمق وتجارب مشتركة تعزز الروابط الاجتماعية، كما يساهم تكرار الطقوس في الحفاظ على الثقافة والتقاليد.

تغير السرديات والطقوس

مع تغير المجتمعات، تتكيف السرديات والطقوس لتعكس القيم والمعتقدات الجديدة، الحروب والثورات تؤدي إلى تغييرات في السرديات، حيث يتم إعادة كتابة التاريخ بناءً على التجارب الجديدة، تتغير السرديات لتلبية حاجات الهوية الوطنية، مما يعكس الفخر أو الألم الجماعي يمكن أن تؤدي التفاعلات بين الثقافات المختلفة إلى تبادل العناصر السردية والطقوس، مما يخلق تنوعًا غنيًا، تؤدي الأزمات إلى إعادة التفكير في السرديات والطقوس، مما يساعد المجتمعات على التكيف مع التحديات الجديدة، ان تغير السرديات والطقوس بمرور الزمن يعكس ديناميكية الثقافة البشرية وقدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة.

إعادة تفسير الرموز

مع التغيرات الاجتماعية والسياسية يعاد تفسير الرموز التي تؤثر في فعالية السحر الرمزي على الواقع الموضوعي للمجتمعات، مما يعكس ديناميكية العلاقة بين الثقافة والسلوك الاجتماعي، امتدت فعالية السحر الرمزي في السرديات التاريخية حيث كانت تُستخدم كوسيلة للتعبير عن الانتقام أو العدالة،  في المجتمعات البدائية، اعتُبر السحر الرمزي وسيلة للتعامل مع الظلم أو الأذى، حيث كان يُعتقد أن استخدام الرموز يمكن أن يؤثر على المعتدي، كانت هذه الممارسات تُعطي الأفراد شعورًا بالتحكم والقدرة على استعادة العدالة المفقودة، غالبًا ما تتضمن السرديات شخصيات أسطورية أو أبطال يستخدمون السحر الرمزي كوسيلة للانتقام، مما يعزز من قيمة هذه الممارسات في المخيلة الجماعية، اذ أصبحت جزءًا من التراث والذاكرة الجماعية، امتدت هذه الفعالية إلى الثقافات اللاحقة، حيث استمر استخدام الرموز كوسيلة للتعبير عن الانتقام، لعب السحر الرمزي دورًا هامًا في السرديات التاريخية في المجتمعات البدائية، وما زال تأثيره ظاهرًا في الثقافات المعاصرة من خلال إعادة تفسير الرموز والممارسات المرتبطة بها.

الطابع الشكلي للسحر الرمزي

يمكن أن يُنظر إلى بعض الممارسات الطقسية وكأنها نوع من السحر الرمزي، اذ تحمل طابعًا شكليا لا يشير الى أي تأثيرات موضوعية رغم انها تعتمد على السياق الشخصي والاجتماعي والديني. في بعض طقوس السحر الرمزي رغم أن الطقس قد يبدو شكليًا، إلا أنه يحمل معاني روحية عميقة تتعلق بالمواجهة مع الشر وان فعاليته تتأثر بالنية والاختيار الشخصي، مما يجعلها تجربة فريدة لكل مؤمن لذا يمكن أن يؤدي الطقس إلى تغييرات إيجابية في السلوك والأخلاق، وهذا ما يجب ان ينعكس كتأثير موضوعيي يعزز الطقس ويزيد من الترابط الاجتماعي بين المؤمنين به، وقد يؤثر ايجابيا على المجتمع ككل، ويزيد من فعالية الطقس والتأمل في معانيه، مما يجعله أكثر من مجرد ممارسة شكلية و يحمل تأثيرات موضوعية تتعلق بالمعاني الروحية والاجتماعية، رغم ان هذا التأثير يعتمد على السياق الشخصي والاجتماعي، ويحوله الى تجربة متعددة الأبعاد.

التأثير الشخصي ذاتي وغير قابل للقياس الموضوعي

التأثير الشخصي يظل ذاتيًا وغير قابل للقياس الموضوعي بشكل كامل. تختلف تجارب الأفراد في فهم التأثير الشخصي، مما يجعله ذاتيا، الطقوس بطبيعتها تعتمد على النية والمشاعر الفردية، وهي أمور يصعب قياسها موضوعيًا اذ لا توجد معايير موحدة لقياس تأثيرات الطقوس موضوعيا، السياق الاجتماعي والثقافي يؤكد تجربة الأفراد للطقس و تأثيراتها القيمية وهو أمر صعب قياسه، كل فرد يأتي إلى الطقس بخلفية وتجارب سابقة، مما يؤثر على كيفية تفاعله مع الطقس لذا يصعب قياس التأثيرات الروحية أو الأخلاقية بشكل دقيق، حيث يعتمد الطقس على مشاعر وأفكار فردية بينما يمكن أن يؤدي الى تأثيرات موضوعية على السلوك والمجتمع رغم ذلك تبقى التجربة الشخصية ذاتية وغير قابلة للقياس الموضوعي بشكل كامل هذا يعكس تعقيد العلاقة بين الممارسات الروحية والتأثيرات الموضوعية.

التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقس

يمكن دراسة التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقوس مثلا من خلال مجموعة من الأساليب البحثية المنهجية ودراسة كيفية تأثير الطقوس المشابهة في ثقافات مختلفة على السلوك الاجتماعي مقارنة بتأثيرات طقس معين عبر الزمن. في نفس الثقافة يمكن استخدام مناهج من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الدينية لفهم التأثيرات بشكل شامل، من خلال التعاون مع المجتمعات لفهم السياقات الثقافية والاجتماعية المحيطة بالطقوس كما يمكن استخدام هذه الأساليب لدراسة التأثيرات الاجتماعية الموضوعية للطقوس، مما يوفر رؤى شاملة حول تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، رغم ذلك لا يوجد تكامل بين الأداء الطقسي والتأثير الموضوعي على السلوك الاجتماعي المتوازن لدى الكثير من شعوب الشرق اوسطية ونلاحظ انها متخلفة في سلم الحضارة الانسانية نتيجة الفعالية الشكلية للطقوس والسحر الرمزي في الممارسات الدينية.

***

غالب مسعود – باحث عراقي

اشتهرت عن أفلاطون(قبل الميلاد) نظريتُه في حاكميَّة الفلاسفة؛ والبحث عن العدالة المطلقة، مرجعها جمهوريته، ظهرت عند أبي نصر الفارابيّ(تـ: 339هج) في «آراء أهل المدينة الفاضلة»- كتب الفارابي فلسفته بالعربيّة- وفي «دولة إخوان الصّفاء»، الواردة في رسائلهم(الرّابع الهجريّ).

نجد ثمة صِلة بين الجمهوريات المثاليّة والمدن الفاضلة، وولاية الفقهاء المطلقة. فالفقيه الحاكم كالفيلسوف الحاكم، الذي وضعه أفلاطون على رأس الشَّعب؛ وأفلاطون، الذي كان أصل هذه المثاليات، ومنها الحاكميَّة الدِّينيَّة، كان يتكلم «عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارج هذا العالم، لا هو في الزَّمان، ولا هو في الأبديّة»(طرابيشي، معجم الفلاسفة)؛ وقيل: «ما نطق أفلاطون بحرف إلا صار كبيراً، وما قال شيئاً إلا واستحال صغيراً... وحسبنا أنْ نقتطع منه بعض العبارات، حتَّى نجعل منه مسيحياً»(أغوسطينوس/ المصدر نفسه). فليس أشهر مِن «الحب الأفلاطونيّ» لكنه بالمثال فقط، فكل ما قاله أفلاطون، ويتصل بنظريته «المثل»، أو «النّماذج»، ليست واقعاً.

يكون الفيلسوف في جمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة هو الحاكم، ينقل الفارابيّ قائلاً: «يعهد إلى هؤلاء الفلاسفة بالوظائف الحربيَّة والإداريّة إلى سن الخمسين؛ فالذين امتازوا في النّظر يُرقّون إلى مرتبة الحُكام، ويدعون الحُراس الكاملين؛ بأمثالهم تصلح حال المدينة، لأنَّ الفيلسوف وحده يعلم الخير، ويريده إرادة صادقة، هو وحده يتصور القوانين العادلة، تصوراً علمياً...»(الفارابيّ، الجمع بين رأيي الحكيمين).

يضع الفارابيّ اثنتي عشر خصلة سماها «خِصال رئيس المدينة الفاضلة»، وهي ما يقابلها باكتمال الشّرائط في الفقيه، أو مّن يُدير الحاكميّة نيابة عن الله، وهذه الخصال لا تكتمل إلا بالفلاسفة، وعند الفقهاء إلا بالفقهاء؛ وهو حسب الفارابي: «رئيس المعمورة مِن الأرض كلها»، والولي الفقيه أو الحاكميّة الدينيَّة غير محصورة ببلد مِن البلدان، بل الأرض كافة، لأنَّ الأرض مُلك الله، وهو وكيل الله؛ كذلك كان حاكم المدينة الفاضلة. فهذا ولي المدينة وهي الأرض، وذاك يُعرف بولي المسلمين، حيث وجدوا.

مِن خصال حاكم المدينة الفاضلة: جيد الفهم والتّصور، جيد الفطنة، كبير النّفس، محباً للعدل لجوجاً في طلبه، مبغضاً للذات الكائنة، قوي العزيمة، محباً للتعليم، تسمو نفسه إلى الأرفع؛ بمعنى إنسان كامل معصوم؛ عالماً حافظاً للشرائع والسّنن، له قوة إرشاد. لكنَّ الفارابي الفيلسوف لا تفوته الواقعيّة، فيقول: «واجتماع هذه كلُّها في إنسان واحد عَسر، فلذلك لا يوجد مَن فُطر على هذه الفِطرة، إلا الواحد بعد الواحد»(الفاربيّ، آراء أهل المدينة الفاضلة).

بما أنَّ الفارابيّ تأثر بأفلاطون، واقتبس أحوال جمهوريته، فهو السّابق على القائلين بولاية الفقهاء، والحاكميَّة، لأنه القول نفسه بولاية الفلاسفة.

أما عن الخصال المطلوبة بالفقهاء الأولياء فهي ثمانٍ، بينها: العقل الكامل، والتدبير والإدارة، والأعلمية بالاجتهاد، ولا يكون طماعاً، ويكون كريماً، إلى جانب الإسلام والإيمان، والعدالة(الشّيخ كديفر، نظريات الحُكم في الفقه الشّيعيّ).

غير أنَّ المختلف بين الفلاسفة المنشئين للنظرية، والفقهاء المقتبسين، أنَّ الفارابيّ، وقبله أفلاطون، حدد التعليم والفلسفة أساساً، بينما حددها الفقهاء بالإلوهيّة (الحاكمية) والنّيابة عن الإمام(الولي الفقيه)، والاثنان نواب عن الله؛ فالله هو المشرع والحاكم، وما الفقهاء إلا نوابه على الأرض. أما الفلاسفة فحددوها بأنفسهم وأخلاقهم، ليسوا نواباً عن الآلهه. كانت مثالية أفلاطون هي الأصل؛ ومثلما ورد، أنه تحدث عن نقاء ليس مِن هذا العالم، وليس مِن خارجه؛ تنظير لا واقع له. فعلى عظمته، ورّط أفلاطون البشريّة بمثاليات لا حدود لها، كلها تهون؛ إلا مثاليته في السِّياسة وإدارة الدَّولة، فهذه قاصمةٌ.

أما ما تعلق بمثالية «العشق»، فعبّر عنها ابن حزم الظَّاهريّ(تـ: 456هـ) بمثالية المشاعر الحالمة، وهو الفقيه المعروف: «فيا لكَ جارَ الجنبِ أسمعُ حسَه/ وأعلمُ أنَّ الصِّينَ أدنى وأقربُ/ كصادٍ يرى ماءَ الطَّويَّ بعينهِ/ وليس إليه مِن سبيلٍ يُسَبَّبُ»(طوق الحمامة).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في ذلك "الحي" الذي يقع في وسط تلك المدينة التي طافت بها العديد من الفتن والثورات، والتي ما زال القلق يجيش في نفوس الكثير من قاطنيها، وفي أفئدة الكثير منهم ينساب اليأس، هذه المدينة الساحرة، الفاتنة، الحلوة التقاطيع، لم تحظ في الحق "بوالي" أو "حاكم"، يؤثر التقشف في مأكله، وملبسه، وركوبه، حاكم يخرجها من معاطن الكرب التي أناخت الوحشة فيها، إلى رحاب الدعة، والرقي والتقدم، فكل من شمخ عليها بقامته، خياله قد قصر عن ادراك خيراتها التي هالته كثرتها، فيتلهى ببعض هذه المنن، ويتنعم بها، وينسى المدينة التي لا ينكر منظرها المزري، وزيها القاتم، ومحياها العابس الشتيم، الذي هو إلى الكآبة والعبوس، أدنى منه إلى الاشراق والابتسام.

وفي ذلك "الحي" العريق الذي ترعرنا فيه، والذي يذوب رقة ويمتلئ حنانا، "صقعنا" الذي خلى من أبنية شاهقة، وطرقاً ممهدة،   كانت هناك عادات راسخة لا تنحرف عنها نساء ذلك الصقع، مهما كانت الظروف، وقسوة الأيام، تلك الكوكبة من النساء اللائي اتفقن في تصورهم للأشياء، وتفكيرهم فيها، وحكمهم عليها، وتقديرهم لها، كن يحرصن على تلك العادات، التي وجدنا أنفسنا في صبانا مولهين، مدلهين، مفتونين بها، ومن تلك العادات التي كنا نكلف بها أشد الكلف، حرصهن على نظافة المنطقة، في الأعياد والمناسبات، وأن يصلحن واجهاتها، وميادينها ما أستطعن أن يصلحن، ويتركن محافلها، وطرقها، وأقاريزها، على حالة من الكمال، ومن العادات الموروثة، والتقاليد المغروسة، أن يسندن ظهورهن إلى الحائط، ويطلقن الزغاريد الداوية المجلجلة، كلما طغت الأحاسيس، والتهبت المشاعر، بحشود الجيش الذي يسير في صفوف منتظمة، وخطوات متماسة، تنتظم في مسارها كما ينتظم العقد، وتنسجم في خطواتها كما تنسجم الموسيقى، هذه الحشود التي نتظرها في حرقة ولهفة، تترى في الأعياد الوطنية، وفي كل مناسبة يصون فيها الجيش كرامة أمته، ويجعلها راضية مطمئنة، ومن العادات التي هيأتها خصائص الدين، وحددتها قيمه، أن ترافق البنت أخاها لأداء صلاة التراويح في رمضان، وأن يحتدم الجدل إلى حد كبير، في المنزل الذي سوف تقام فيه خبائز العيد، فالنقاش العاصف الذي يدور بين نساء "الحي" قبل أن يتفقن وتسود السكينة، يعد من "الأوبرات" الرائعة التي لا تنساها ذاكرتي.

ونساء تلك الناحية، الخيط الناظم الذي يجمع بينهن، حرصهن على عدم الوقوع فيما تخافه "الحرة" وتتحاشاه، فالمرأة الأصيلة التي تخضع لضروب من النظم والأعراف التي تواضع عليها الناس، تشعر دوماً بحاجتها إلى الاكبار والاجلال، لأجل ذلك تنأى بنفسها عن كل سبب يجعل اسمها يروج في سوق الأقاويل، وأسهمها تتصاعد في بنك الشائعات، ونساء ذلك "الحي" الفقير المجدب، كنا يتهالكن على الطهر والنقاء، ولو تمثل العفاف في وجهوههن لكان في نضرتهن، وبشاشتهن، التي خضعت للفضيلة واطمأنت إليها.

 ورجال الدائرة الذين طغت على عواطفهم، ملامح الرفق بي، والاشفاق عليّ، لأني فقدت أبي وأنا حدث صغير، ليس من المبالغة أن أقول، أن الصوفية التي ملكت عليهم أمرهم، و آمنوا بها ايماناً شديداً، هي التي حملتهم على الايثار، والانصراف عن المنفعة، هذه الجمهرة التي لم تجتهد في أن توفق بين ايمانها بالتصوف، وبين عقلها، تتهافت على أصحاب التأثير الطاغي، والروح القوية، والنفس الطموحة، والقلب الكبير، الرموز الدينية، وأصحاب الكرامات والمعجزات، في كل يوم اثنين وخميس، ليرددوا في عنف وخفة، تلك "المدائح النبوية" التي تستعذبها النفس، ويستسيغها الوجدان، هذه القصائد الجياد التي لم تفقد طلاوتها، وسحرها القديم، باتت مهبط الوحي للأجيال التي جاءت من بعدهم، لأنها دنت من الكمال، وبلغت من الدقة والإجادة حداً كبيرا،  وفي ضحى كل يوم جمعة، يرتدي من لا تضمر مهجهم شيئا، ثيابهم الرثة، وأسمالهم البالية، التي تنم عن عوزهم، وفقرهم المدقع، ويقصدوا مسجد المدينة العتيق، ذلك المسجد الذي لم تكن فيه تلك "القبة الباذخة" التي تنيف الآن على جميع مباني السوق، والتي تبدو وكأنها مغضبة حانقة، لأن اطلالتها غير يسيرة عليها، ولا محببة إليها. فهي تطل على بقاع نصب فيها الشيطان راياته، وأبليس الذي حصّن شباكه وفخاخه، جعل رهط كبير من قاطني ذلك "الحي" وتلك المدينة، لا يقوون على الهرب، ففريضة الصلاة التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، انصرفت عنها تلك الجموع التي حفلت حياتها بألوان الخلاعة، والتهتك، والمجون، فهذه الناجمة التي تؤمن بحقوق السماء عليها، تؤمن أيضاً بأن تنال حقوقها كاملة غير منقوصة من الشهوات، وأن تهيم بها، وتضع نعلها أمام بابها، هذه الجماعات التي أغرقت نفسها في الأفعال التي تنكرها السلائق والشيم، فهمت حقوقها فهماً بسيطاً ساذجاً، دفعها لأن تؤلف بين متناقضاتها، وتوفق بين متبايناتها، فهي تحب الخمر، وتطرب لشربها، ولا تصدف عن "نٌظم الصوفية" التي لا ندري متى نمى عشقهم لهذه النٌظم، ولكننا نعلم أن شغفهم بها قد اضمحل، ولكنه لم يأخذ سبيله إلى الجفوة والاندثار، فهذه الفئات التي مزقت الصهباء حجاب أسرارها، هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد هيامها بهذه "النٌظم" التي ما زالت تظهر لها الود، خاصة في تلك الأماكن التي ينشد الناس فيها الحركة، ويتبرموا بالسكون، كالموالد، والحوليات، ففي هذه المناسبات، نجد هذه الثلة ثلهث من شدة النصب، ويجبرها "الطار"، و"الكاس"، و"الدفوف"، ألا تمس قدماها الأرض. هذه النزعة الصوفية التي تندب اقبال تلك الفئات على الحياة، وغفلتها عن الآخرة، تؤكد بأسلوب سهل يسير، أن هذه الزمرة ليست أبعد الناس منها، ولكن الرذائل، وقذر العادات، أوهت فيها اشعاعها وقبسها.

  هذا "الفريق" الذي لم استقصى بعد آثاره ومشاهده، والذي أدركت بتقدم السن، وتحول الأيام، أن مُثله العليا التي ما زالت تغدق عليّ في سعة وسخاء، لولا ارتهاني لهذه المٌثل، لعشت عيشة الهمل السوائم، فأنا لو أرغمت نفسي لشيء من التحليل الدقيق الذي يظهر خفاياها، ويجلي ما كمن فيها من عاطفة وشعور، لحملني ذلك التحليل على الدهشة والذهول، ففلسفة ذلك "الحي" التي تغلغلت أصولها في دواخلي منذ أمد طويل، هي التي قادتني لأن أعيش هادئاً قانعاً من الحياة بما قسم لي، هذه الفلسفة هي التي قدمت إليّ شاحبة ممتقعة، وقد لاحت عليها آثار الجهد والتعب، وأنا في تلك الجزر النائية القصية، لتعصمني من الخطايا والذلل، ولتصفي ذهني من شوائب هذه الثقافة الدخيلة،  ولتسكب في دواخلي مضاء العزم، وحدة الذهن، وصفاء الملكة، حتى أحقق ما كنت أرجوه من التحصيل الأكاديمي، أنا حقيقة ممتن لهذه الفلسفة، وشاكر لهذا "الحي" الذي جعل "المآثر" عندي قوية، منيعة، عزيزة الجانب.

***

د. الطيب النقر

"الصَّمتُ في مثل هذه الأزمنة الضّاجّة بالغوغائيّة خطابٌ عميقٌ لا يلتقطه سوى اللّواتي والّذين ربّاهم الصّمت الكبير بما هو إقامةٌ في شسوع ما لا ينقال. إنّه صمتُ المتصوّفة الّذين فاض من قلوبهم كلام العالم وشغف الآخر. وهو صمت كبار الجرحى الّذين نزلت بهم سراديب الألم إلى قاع الوجود وقاع الزّمن. وهو أيضاً صمتُ كبار المغرمين الّذين اختطفهم بهاء المحبوب فباتوا ما وراء اللُّغة وما وراء اللّسان. لذلك ميّز رهبان معابد التبت بين مئة نوعٍ من الصّمت، وجعلوا لكلّ نوعٍ راهباً موكلاً به". (محمد الشركي)

أجدني مشدودا مندهشا من فارعة العنوان الذي كلل به شاعر الأغوار المغربي الكبير محمد الشركي، هذه الأمثولة الممسكة بعين الروح، وهي تصطلي كنه خلاصنا من وحشة الحياة وعزلتها.. ولهذا، فليسمح لي بملء جرتي من بعض احتراقاته وتأوهاته..

يبلغ ضجيج العالم وصياح الفزع منتهاه، وتنثني الجلبة في انعطافة البؤس القيمي، والتردي الأخلاقي، فلا تجد حكمة صغيرة تنقدك من عسف الغاب الموحشة، ولا قاربا تنط من أحشائه للنجاة. فتلك جائفة قميئة وعلة تشق على الشاهد وتسقط صحة الأبدان والعقول على السواء.

هل تعود البشرية إلى بداياتها الأولى، تنتكأ خطاياها وتجير مثالبها من عظم السقوط وقساوة القرح، ثم تروم إلى فطرتها التي نشأت عليها، وتغلفت بمياسمها، غير ضارة ولا مؤلمة؟

ذلك مبغى هذا الوجود الطامح في أنفس حكمائنا الأخيرين، ممن يحصنون في آخر معاقل الدنيا مواقعنا المهزوزة، بتعزيزات المناعة والحيطة والحرز والتوق إلى السلام والمحبة والرضا.

هذا الصمت، إن كان يعلو على ما يبرر معقوليته، لا يكون مثالا للاقتداء، ولا يحذو رغبة الكائن في الانتصاب ضده، إذ الصمت عن الكلام، يجيب عن محتد المؤامرة والارتقاء بالواقع والاعتبار لوجوده كمعيش لا محيد عنه ولا هروب. فما بالك بالصامتين، من أهل الثقافة والعلم والحكمة. هؤلاء أجدر بالاحتجاج والمناهضة والتعبئة والتحدي والمناكفة وتدبير الأزمة والمنافحة عن الحق، حتى الرمق الأخير؟.

أليس من صفات الصامتين، "فَقْد الصَّوت النَّاشئ عن علَّة في الأوتار الصَّوتيَّة"، بلغة الطب، فهو مرض يستدرج كرها لإعاقة القيام بأمر اعتيادي من قبل الجسد، وفيه أوتار دماغية وعصبية تأمر وتوجه وتؤشر، فيصير الطوع قياسا على ميزاب الوقت وطاقته وظروف تصريفه. كذلك الصمت، هو فعل أو حتى " جذب صوفي غامض وأنه عجز للعظمة الهاجمة"، سرعان ما تنحصر ارتداداتها في الهوامش أو الثغور الهشة للمجتمع. وبغض النظر عما سبق تأويله عند فلاسفة الوضعية المنطقية، خصوصا عند توماس كون وكارل بوبر، على اعتبار تركيزها على مبدئية التمييز بين العلم واللاعلم، بين المعنى واللامعنى، فإن النظر ذاك، يلتقي في تأويل إمكانات تطويع اللغة الكلامية، وجعلها أكثر تأثيرا من أي لغة أخرى (كلغة الصمت)، وهو ما كرسه لودفيغ فيتغنشتاين في قولته الشهيرة، في كون " "اللغة هي طريقة لـ"تصوير" العالم في أذهاننا؛ أي أنها تعطينا صورا عن العالم الحقيقي، وهذه الصور هي نموذجنا الذي نعرفه عن الواقع، وبذلك تتعلق كلماتنا بحقائق".

أليس من تابع هذه الشذرة العميقة، أن يبدو الصمت كما لو أنه منذور للمعرفة، ومبذول لإدراك وجه الحقيقة عاريا، كما ثنائية الاتصال والوجود، بما هما قيمتان خالصتان للإنسانية والوعي بالتمدن والعقلانية؟ إذ يقوم الصمت في أكثر من واجهة واعتبار أخطر من مجرد "غياب الكلام" أو "حشوه" أو "شرطيته"، حيث تصير النهايات أو العدمية وعاء وخاصرة للنفوق والظلام.

قرأت جوهرة فريدة لألبرت إنشتاين، يقول فيها :" الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة، تحدثها ظروف غامضة. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها".

هل تبلغ مهاوي الصمت وصلواته المهيبة، لغات العالم الجديد، المقصوف بالثرثرة والتكرار والتلعثم والمقايضة والتعويم والخسة، دونا عن إفراغ مآلاتنا الضبابية المهدورة في جنح الفراغ والعزلة وانطفاء الجذوة، حتى يصير الهمس والهسهسة والرجم بالغيب وتفريغ الانفعالات شكلا من أشكال "الإباحة" و"إنتاج التفكير" و"تبرير الضوضائية" و"عبثية الخرق"؟

وهل تصمد إنسيتنا المنكشفة على كل سرديات الكذب وتشويه الحقائق، والإفراط في تجميل القبائح، في مواجهة المعتركات التكنولوجية الرقمية الجديدة، المكرسة للصخب والحركة الزائدتين الغارقتين في التغريب والتنميط وتهشيم الهويات؟.

ذلك هو لب التفكير ومصير فهم جدوى الصمت وفلسفته.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

في المثقف اليوم