قضايا

ملخص: في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الفضاء الرقمي، باتت الصفحات الإلكترونية الوهمية أداةً مركزية في بث الانقسامات داخل المجتمعات العربية. إذ تستخدم أطراف متعددة هذه الصفحات لزرع خطاب الكراهية وتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية والثقافية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الظاهرة من منظور سوسيولوجي وإعلامي، مبيّنةً آليات عمل هذه الصفحات، والجهات التي تقف وراءها، وآثارها على الهوية العربية الجامعة، ومقترحةً مجموعة من السبل الممكنة لمواجهتها.

مقدمة

في عالم تتسارع فيه حركة المعلومات بما يفوق حركة الجيوش، وتتبدل فيه جبهات الصراع من الميدان إلى الشاشات، أصبح الفضاء الرقمي منصةً لحروب ناعمة لكن عميقة التأثير. من أبرز تجليات هذه الحروب ظهور ما يُعرف بالصفحات الإلكترونية الوهمية، التي تستهدف الشعوب العربية بخطاب يستبطن الكراهية ويعيد إنتاج الانقسام الثقافي والطائفي، ضمن ما يُعرف بحروب الجيل الرابع. فما طبيعة هذه الصفحات؟ وكيف تؤثر على النسيج الاجتماعي العربي؟

أولاً: تعريف الظاهرة وآليات عملها

الصفحات الوهمية هي حسابات أو مواقع إلكترونية تُدار من قبل أفراد أو جماعات أو أجهزة، غالبًا ما تتخفى خلف هويات زائفة تدّعي تمثيل مكوّن اجتماعي أو ثقافي أو ديني معيّن. تُستخدم هذه الصفحات لنشر محتوى موجّه، يتم تصميمه بعناية اعتمادًا على تقنيات تحليل البيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، بغرض التأثير في الوعي الجمعي وتحفيز ردود فعل انفعالية تؤدي إلى الانقسام الداخلي.

تشير تقارير متخصصة إلى أن هذه الصفحات:

تستخدم الهويات الزائفة لتعزيز مصداقيتها داخل فئة مستهدفة.

تعتمد على الخوارزميات لرصد سلوك المستخدمين وبث محتوى يستثير مشاعرهم وهوياتهم الهشة.

توظّف السرديات الطائفية والمقولات الأيديولوجية المشحونة لتأجيج التناقضات داخل المجتمع الواحد.

ثانيًا: تحولات الطائفية في الفضاء الرقمي

لم تعد الطائفية والمذهبية في العالم العربي مقتصرة على منابر دينية أو صراعات سياسية؛ بل أعيد إنتاجها رقمياً من خلال محتوى موجّه يخلط بين العاطفة والمعلومة، ويُعيد صياغة الآخر باعتباره تهديداً. وتُظهر الدراسات كيف تتحول المنشورات، الصور، والمقاطع المصورة إلى أدوات تنميطية تكرّس الكراهية وتُعمّق الفجوة بين مكوّنات المجتمع الواحد.

من الأمثلة على ذلك:

صفحات تدّعي التشيّع تهاجم رموز السنّة، والعكس بالعكس او طائفة مسيحية تهاجم أخرى.

.و أخرى تنتحل هوية "نخب ثقافية" لتمارس التنمّر على مكوّنات اجتماعية أو ثقافية تحت ستار "الاختلاف الثقافي".

حسابات مجهولة تُعيد تدوير مقاطع مُجتزأة من سياقها لتأكيد صورة نمطية أو إثارة الغضب الجماعي.

ثالثًا: الآثار الاجتماعية والسياسية المترتبة

تفكيك الهوية الجامعة: عبر تفريغ المفاهيم المركزية مثل العروبة أو الإسلام من معناها الجمعي وتحويلها إلى هويات متصارعة.

نزع الشرعية عن الرموز: من خلال التشكيك المستمر في المؤسسات الوطنية والدينية، وإعادة تشكيل صورتها بشكل سلبي.

إشعال النزاعات: إذ تنتقل الفتنة من الفضاء الرقمي إلى الشارع، فتظهر بوادر العنف السياسي أو الاجتماعي.

الانكفاء الثقافي: حيث يتقوقع كل فرد أو جماعة على هويته الضيقة، وتضمحل فرص الحوار أو التفاعل مع المختلف.

رابعًا: من يقف خلف هذه الظاهرة؟

لا يمكن حصر الجهات بدقة، إلا أن تقارير دولية وتحقيقات رقمية كشفت عن ضلوع أطراف متعددة، من بينها:أجهزة استخبارات أجنبية إسرائلبة وغربية تستخدم هذه الصفحات كجزء من استراتيجية التأثير غير المباشر.

جيوش إلكترونية مدفوعة الأجر تدير آلاف الحسابات لتوجيه الرأي العام.

شركات علاقات عامة مشبوهة تعمل على تنفيذ أجندات تمويلية وسياسية عبر التلاعب بالمحتوى الرقمي.

هذه الأطراف تعتمد على التمويل غير النظيف وتستثمر في الفوضى المعلوماتية لتمرير مصالحها.

خامسًا: نحو استجابة عربية جماعية

في ظل اتساع دائرة الاستهداف، أصبح من الضروري اعتماد استراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة الظاهرة:

التربية على المواطنة الرقمية: من خلال إدراج "محو الأمية الرقمية" في المناهج التعليمية، وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة.

إنشاء مراكز رصد رقمية عربية موحدة: لتتبع الحسابات المشبوهة ومكافحة التضليل بصورة منسقة على مستوى إقليمي.

تطوير إعلام بديل: يتبنى خطابًا تنويريًا يعيد بناء الهوية العربية المشتركة، ويروّج لقيم التعددية والاختلاف.

سن تشريعات مرنة وفعالة: تجرّم الحسابات الوهمية التي تبث خطاب الكراهية، دون أن تقوّض حرية التعبير المشروعة.

إعادة بناء الهوية الرقمية العربية: من خلال مبادرات ثقافية وفنية وإعلامية تشاركية تُبرز ما يوحّد، لا ما يُفرّق.

خاتمة: الوعي كأداة للمقاومة

لسنا أمام معركة تكنولوجية فحسب، بل أمام صراع على معنى "الذات" في زمن اختلال المعايير. فالصفحات الوهمية ليست إلا مرآة مقلوبة، تعكس هشاشتنا كما تعكس تواطؤ بعض النخب. والخيار الآن بين الانزلاق إلى هاوية التشظي، أو بناء فضاء رقمي يعكس مشروعًا حضاريًا عربيًا جامعًا.

وكما قال إدوارد سعيد: "لا يمكن للهوية أن تُبنى على نفي الآخر"، فإن بناء المستقبل يبدأ من الاعتراف بإنسانية المختلف، ومن صيانة الوعي بوصفه السدّ الأخير في وجه حملات التفرقة.

***

مجيدة محمدي / تونس

......................

المراجع:مؤسسة راند RAND (2022). العمليات الرقمية للتأثير: التحديات والاستجابات.

غرافِيكا Graphika (2021). رسم خرائط لعمليات التأثير: فيسبوك، تويتر، وما بعدهما.

معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد (2020). الجرد العالمي للتلاعب المنظّم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

زوبوف، شوشانا (2019). عصر رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل مستقبل الإنسان على جبهة القوة

مركز الجزيرة للدراسات (2023). الفتنة الرقمية وتأثيرها على المجتمعات العربي

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظة لا تعلن عن قدومها، بل تتسلل عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتكاثف مثل غبارٍ على نوافذ اللغة، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على هزيمته؟ هل لا زلت أكتب لأُحدث أثرًا، أم لأتأكد فقط من أنني ما زلت حيًّا؟

المثقف ليس حامل أفكار فقط، بل حاملٌ لقلقٍ لا يسكن، لوعيٍ يتقاطع مع الزمن لا داخله. لكنه في عصرٍ تحكمه الصورة وتُعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بفكرة التغيير أصلًا؟

كتب إدغار موران: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” وهنا تتجلى المعضلة: المثقف المعاصر يملك ناصية التفكيك، لكنه يعجز عن التكوين؛ يجيد التحليل، لكنه لا يملك خيالًا سياسيًا يعيد تشكيل الأفق. كلّما ازداد وعيه بالانسدادات، كلما ترسّخ في موقع “الواصف” لا “الفاعل”، وفي أحيانٍ كثيرة، يتحوّل النقد إلى طقس لغوي يُعيد إنتاج العجز بلغة أنيقة.

لقد تحوّل المثقف إلى كائنٍ بينيّ: يعيش على الحافة، بين المعرفة والفعل، بين التنظير والاشتهاء. وما يزيد المأساة هو أن هذا التيه لم يعد نتيجة قمع خارجي فقط، بل انزياح داخلي نحو “تأجيل الفعل” إلى أجلٍ غير مسمّى.

لم يكن المثقف دائمًا في هذا الموقع المهتز. في لحظات نادرة من التاريخ، شغل المثقف موقع “المسافة الحرجة” بين السلطة والجماهير. من سقراط الذي شرب السم لأن فكرته كانت أكثر خطرًا من سلاح، إلى أنطونيو غرامشي الذي كتب من الزنزانة ليصوغ مفهوم “الهيمنة” لا لينجو منها. لكن أين يقف المثقف اليوم؟

لقد أصبح ذاته مأزومًا، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه. ما بعد الحداثة، في سعيها لتقويض المسلمات، جرّدت الفكر من أدواته للفعل. صار التفكيك غايةً لا مقدّمة، والاحتمال بديلاً للقرار، والوعي لعنةً تمارس نقدها على كل شيء بما في ذلك قدرتها على التغيير.

وفي قلب هذا الفراغ، نشأت طبقة من المثقفين المنمنمين: وجوه معتادة في المؤتمرات، مُحاضرون في قاعات بلا أبواب، يحلّلون انهيار العالم وكأنهم في نزهة. إلا أن بعضهم، مثل إدوارد سعيد، أدرك خطورة هذا الانزلاق، فكتب لا ليرضي الجمهور، بل ليخترق السقف الرمزي، ويحفر موقع الفعل وسط ضجيج التفسير. لكن الأغلبية غاصت في دوامة الأكاديميا، حيث تُنتج المعرفة كشكل من أشكال التزيين، لا المواجهة.

وفي هذا المشهد، لا يمكن تجاهل الجماهير. فليست الجماهير مجرد “متلقٍ بسيط”، بل فاعل متحوّل، صاخب، ساخر، يكتب تاريخه فور حدوثه. الشارع، البوست، اللافتة، واللايف، كلها أدوات خطابية أعادت تعريف من يحق له أن يتكلم.

الجماهير لا تنتظر أفلاطونًا جديدًا، بل ترقص على إيقاع وعيها الفوري. إنها لا تصف العالم بل تصرخ فيه، تُحطّمه وتعيد تركيبه في الوقت ذاته. والمثقف الذي لا يرى في ذلك طاقةً أو تهديدًا، هو مثقف يتحدث من الماضي.

لقد امتصت السلطة دور المثقف، لا بقمعه، بل بمنحه مساحةً تُشبه الحرية، لكنها في الحقيقة شكلٌ من الاحتواء الناعم. تُقدَّم له منابر وندوات وشهادات و”مقاعد مدفوعة”، ليقول ما يشاء، طالما لم يُحدث خلخلة حقيقية. لم تُسكت السلطة صوت المثقف، بل جعلته جزءًا من آلاتها الرمزية، شاهداً على خوائها لا على قدرته.

ومع ذلك، يبقى السؤال: هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق في عالمٍ يُختزل إلى تغريدة؟ وهل يمكن للفكر النقدي أن يُعيد تشكيل الواقع، لا فقط أن يصفه؟ هل يمكن أن نعيد للفعل جذوته، لا كموقف ثوري لحظي، بل كوعيٍ قادر على الصمود في وجه التكييف الرمزي؟

الفاعلية لا تعني بالضرورة التحشيد ولا التجييش، بل تعني إعادة تشكيل الخيال. إذا لم يستطع المثقف إعادة إنتاج الأفق، فقد تخلّى عن دوره. وإذا اكتفى بموقع “المُفسّر” فهو يفسّر عجزه لا الواقع. فالجماهير، مهما بلغت قوتها، تحتاج إلى بصيرة. لا إلى معلم، بل إلى من يضيء العتمة دون أن يدّعي امتلاك المصباح.

وفي النهاية، ليس السؤال: هل على المثقف أن يكون فاعلًا؟ بل: هل بقي له ما يُقال لم يُستهلك بعد؟ هل بقي في الصوت ما يُفجّر المعنى، أم أن كل ما تبقّى هو صدى باهت؟ وهل لا يزال المثقف يملك أن يصرخ؟ أم أنه، ككل شيء آخر، صار مجرّد تعقيب على عرضٍ أُنجز سلفًا؟

المثقف لم ينته… لكنه فقد صوته في الزحام وهو يكتب على هامش مشهدٍ لا يعود إليه أحد.

***

إبراهيم برسي

 

ثقافة إحياء الفكر النقدي عند الطفل هي عملية تعني مساعدة الطفل كي ينمو عنده الفكر النقدي الأولي البسيط، وبنفس الوقت هي عبارة عن مهارة فعالة تساعد الطفل في مسيرته الحياتية.

الشيء المعتاد عند الطفل أنّه عبارة عن متلقي ليس إلاّ، إن كان في المنزل أو في المدرسة، بمعنى يُطلب منه أن يفعل هذا الشيء أو لا يفعل ذاك الشيء، ومن ثُمّ عليه التنفيذ.

الطفل يتعوّد على الحفظ، وما يُلقّنه إياه المُدرّس، أو ما يُلقّنه الأهل في المنزل.

كل هذه الخطوات التي تحدّثنا عنها هي النقيض الفعلي للفكر النقدي عند الطفل.

لذا علينا أن نعلّم الطفل منذ الصغر العديد من المهارات والعديد من الجوانب التي تتضمّن عنصر الإبداع والعمليات الذهنية عند الطفل.

كما علينا أن نعلّم الطفل كي يسأل حينما يُطلب منه تنفيذ هذا الشيء أم عدم تنفيذه، وأن يقول لماذا؟. وكيف؟ ومتى؟.

بمعنى أن نجعله يتعوّد على تحليل بسيط لما هو بين يديه، وأن نشجعه كي يرفض أحياناً.

ليتمكّن من إيجاد احتمالات ما، تساعده في تدعيم رأيه والفكر لديه ، وهذه العملية ستجعله يتمكّن مبكراً على إستخدام الفكر والمنطق والنقد.

مهمة؟إحياء الفكر النقدي عند الطفل هي من مهمة الأهل في المقام الأول. ويستطيع الأهل أن يفتعلوا مشكلة صغيرة ما، ومن ثُمّ يعتمدوا على الطفل ليحلّ لهم المشكلة من خلال تشجيعه والإعتماد عليه، وتحريض مهاراته ليُمارس التحليل، وتتوالد عنده الأفكار، وينشط عنده العقل، والعقل النقدي.

بهدف أن يعرف أسباب المشكلة المحتملة، ولتتولّد عنده بعض الحلول المعتدلة والمنطقية، والتي بالتالي تنشط حالة الإبداع الفكري لديه.

لقد قال عالم النفس والفيلسوف الأمريكي 1859-1952- JOHN DEWEY حول هذا التفكير النقدي، حيث عرّفه على أنه " دراسة نشطة ومستمرة ودقيقة لاعتقاد أو شكل مُفترض من المعرفة، حيث أنه ينطوي على إخضاع الأفكار - إخضاعاً نشطاً للتدقيق النقدي بدلاً من قبولها قبولاً سلبياً ".

من خلال هذه الثقافة نستطيع أن نعلّم أطفالنا على تطوير مهاراتهم، والتفكير بشكلٍ منطقي وسليم، وبهذه الحالة يبدأ الطفل بتوجيه أسئلته الصحيحة والسليمة بدلاً من اللغو ومجرد الكلام ليس إلاّ، وبالتالي يبدأ الطفل بتحليل الأشياء، كلّ الأشياء، والبحث في أسبابها وبدائلها ونتائجها.

التفكير النقدي يُعتبر من المهارات الأساسية في الحياة، لسببٍ وجيه وبسيط، لأنه يعلمنا كيف نستخدم الأسلوب المنطقي لحل معظم المشاكل التي تواجهنا، وهو هام جداً بالنسبة للكتلة الدماغية عند الطفل، حيث تساعده على تطوير المعرفة لديه، كما تسمح له هذه المهارات الضرورية بفهم اسلوب وكيفية صنع الأشياء والحاجات في العالم الحقيقي بعيداً عن العبث، وبالتالي التوصّل إلى أفكار خلاّقة وفي غاية الإبداع.

إن وقوفنا إلى جانب الطفل يمنحه القدرة الكافية على التفكير بكل حرية واستقلال، ومقاومة الضغط أيّاً كان مصدره، وتكوين رؤيتهم الخاصة بهم، والثقة بما يفكرون به، وخاصة عندما يُطلب منهم القيام بتصرفات معينة لا يرغبون القيام بها، وفق المنطق والتفكير الحر الذي يتمتعون به.

وبنفس الوقت يشعرون بالمتعة وبثقة كافية والإعتماد على العلوم التي يتلقونها في دور التعليم.

إن عدم الاستقرار داخل العائلة، وبروز ضيق الأفق أو العاطفة الهشّة، كل هذه الأمور وسواها يمكن أن تعرقل مسيرة التفكير النقدي عند الطفل الذي يعتمد على حقائق بسيطة أو غير دقيقة أحياناً، فنحن نرتكب المزيد من أخطاء غير منطقية عندما ننظر إلى المحيط أو العالم من خلال عواطفنا وأفكارنا غير العقلانية، وتحيّزنا إلى هذا الجانب أو ذاك.

نحن متفقون بأن التفكير النقدي عند الطفل هو جزء مهم، ومن خلال هذا الإتفاق نتساءل، لماذا لا تقوم المدارس على تعليم الأطفال المهارات بمجملها والحيوية منها؟، نعم نستطيع أن نقول بأنهم يحاولون، لكنهم لا يتمكّنون من ذلك، أو لا يستطيعون على أداء هذه المهمة لسببٍ وجيه وبسيط، لأن التفكير النقدي عند الطفل يحتاج إلى إدراك ومعرفة جذرية بالموضوع المطروح، وبالتالي تطبيق المنطق، ومع الأسف لا توجد طريقة أو منهاج معيّن لتعليم المعرفة بشكلٍ عام، والعميقة بمفهومها، حيث؟ أن التفكير النقدي عند الطفل لا ينتقل بسهولة من موضوع أو من مجال إلى آخر.

نحن ندرك أنه ليس من السهولة بمكان تدريس التفكير النقدي للأطفال، ولكن الآباء يستطيعون القيام بذلك ومساعدة أطفالهم من خلال تكوين عقلية التفكير النقدي، وفسح المجال أمام الطفل لتنمية رغباته في البحث عن المعرفة بشكلٍ أعمق بهدف حلّ مشكلة ما في حياتنا اليومية الواقعية، لأن الخطوة الأساسية هي تعليم الطفل كيف تتم عملية التفكير السامية في أي موقف يتطلب إتخاذ القرار المناسب بكل مهارة.

إن التفكير النقدي لا يقتصر على طرح تساؤلات غير محددة، لذا علينا أن نعي هذا الجانب كي نستطيع أن نأخذ بيد الطفل بكل مهارة ليصل إلى بر الأمان.

وأن نأخذ بعين الإعتبار التساؤلات عند الأطفال، التي غالباً ما تكون مرهقة بالنسبة للأهل، ويضطرون إلى القول في نهاية المطاف " هذا ما يفترض أن يكون ".

ولكن تعليم الطفل السبب، يكون الخطوة الحاسمة في تنمية ثقافة التفكير النقدي عند الطفل.

وعندما نقوم بهذه المهمة مبكراً، حينها سيتمكّن الطفل من طرح الأسئلة المختلفة بصيغة منطقية، ومن خلال تفكير سليم وأدلّة موضوعية.

وبهذه الحال سيكبر الأطفال وهم واثقون من قدراتهم، وبنفس الوقت يُشكّكون في الافتراضات أو الاحتمالات، والتفكير بالمنطق وبالفعل، بعيداً عن العواطف السلبية.

علينا أن نشرح لهم قدر الإمكان رغم أنهم صغار السن، ونؤكّد لهم ونشجّعهم، ونقول لهم نعم سؤالك جيد، وعلينا أن نتوصّل إلى إجابة منطقية.

كما لا بُدّ لنا إلاّ أن نبتعد عن اسلوب تعليم الأطفال الطاعة العمياء، بدون فهم أو إدراك، فهذا يسبب لهم الإحباط والتراجع في تنمية قدرات الفكر النقدي لديه.

طبعاً الآباء يطلبون من الأبناء الطاعة العمياء من أجل مصلحتهم والحفاظ عليهم، لكن علينا بنفس الوقت توضيح أسباب رغباتنا، دون أن نقول لهم " أنا قلت ذلك، وعليك أن تُنفّذ "، فهذا المنطق يلعب دوراً سلبياً في تطوير مهارات التفكير الإيجابي عند الطفل ويُعيق مسيرتها، لأن الطفل يحتاج فعلاً إلى معرفة سبب التفكير بايجابية واستقلالية، ومن ثُمّ الوصول إلى أحكامٍ سليمة.

عندما نستخدم المنطق مع الأطفال والتفكير المنطقي وشرح ما نطلب منهم، فإن ذلك يُمارس دوراً إيجابياً ومهماً في الانضباط الاستقرائي، الذي يُعتبر أفضل طريقة للتأديب والتربية بعيداً عن العنف والقوة والعقاب.

وبهذه الحالة تتضاءل المشاكل السلوكية عند الأطفال، وتنتظم العاطفة أكثر، وتتوضّح مهارات أكثر، عندما يتعلمون التفكير النقدي.

إن التفكير النقدي هو بمثابة تحليل منطقي ونقدي لأي فكرة، عوضاً عن أي استجابةٍ عاطفية، أو ذاتية الفهم، حيث أن التفكير النقدي هو أساساً بمثابة أن يكون الإنسان على استعداد فعلي لتحدي ذاته وتحدي آرائه، من خلال معلوماتٍ وآراء مختلفة، لذا عليك أن تسمح لأطفالك أن يتوجّهوا بتساؤلاتهم، وبالتالي مناقشة شرعية ما تقول، بهدف إحياء الفضول الفكري لديهم والمهارات التحليلية.

إن التفكير غير المغلق والمرن أو السلس عند التعامل مع أي مشكلة طارئة، هو أمر ضروري في ثقافة التفكير النقدي، وبذلك نعلم أطفالنا أن يكونوا منفتحين من خلال وجهات نظرهم المختلفة أو البديلة لحل أي مشكلة، وجميل أن نشجع الأطفال على حلّ أي مشكلة بطرقٍ جديدة ومختلفة من خلال ترابط الأفكار، فهذه هي بمثابة الابداع والمهارة والابتكار.

ولعلّنا نؤكّد في نهاية المطاف أن التفكير النقدي ليس مهماً للأطفال وحسب، بل أيضاً للكبار، حيث أن تعليم الأطفال كيفية التفكير المنطقي لا يكفي، لأننا نحن أيضاً بحاجةٍ إلى تعلّم اسلوب هذه المهارة المبدعة والثمينة والأساسية في التربية، كما أن التفكير التأملي هو أيضاً من أساسيات الحد من التربية السيئة.

***

د. أنور ساطع أصفري

رينيه ديكارت يركز على الشك المنهجي ويشدد على ضرورة الشك في كل شيء للوصول إلى اليقين .عبارة أنا أفكر، إذن أنا موجود، تعبر عن العلاقة بين الوجود والوعي ويؤمن بأن العقل هو المصدر الأساسي للمعرفة، مما يمكنه من استخدام الشك المنهجي لتفكيك النصوص وفهمها بشكل أعمق، يساعد أيضا على تحليل السياق التاريخي والثقافي الذي كتبت فيه السرديات التاريخية، ان طرح أسئلة حول معاني الكلمات والعبارات، وفهم كيف يمكن أن تتغير هذه المعاني عبر الزمن من خلال دراسة الظروف التاريخية التي أدت إلى كتابة السرديات، يساعد على فهم الرسائل المبطنة والأهداف من وراءها، يمكن أن يؤدي الشك المنهجي والبحث العميق إلى قناعات أخرى، تطبيق الشك المنهجي على السرديات التاريخية يمكن أن يكون أداة قيمة للفهم، لكنه يتطلب حساسية واحترامًا للمعتقدات.

دور السياق الاجتماعي والثقافي

يعد دور السياق الاجتماعي والثقافي في تشكيل السرديات التاريخية حاسمًا ويؤثر على كيفية تقديم الأحداث وتفسيرها. تعكس السرديات القيم السائدة في المجتمعات .تؤثر الأيديولوجيات السياسية والدينية على كيفية رواية الأحداث، مما يمكن السرديات من تعزيز أو تحدي سلطات معينة وقد يؤدي الى خلق روايات متباينة حول نفس الحدث، تلعب الهويات العرقية والطبقية دورًا في تشكيل الروايات حيث يمكن أن تُعطى روايات معينة أولوية على أخرى بناءً على الانتماءات الاجتماعية والطبقية، مما يؤدي إلى إقصاء تجارب مجموعات أخرى، ويمكن أن تؤثر طريقة نقل القصص من جيل إلى جيل وبالتالي على كيفية فهم الأحداث مستقبلا، الروايات الشفوية تحمل الكثير من التحريفات والتفسيرات والاوهام، يمكن أن تؤثر على التبريرات الفلسفية والمنطقية، حيث تُبرز السرديات التاريخية إنجازات معينة أو تُخفي انتقادات لتوجهات اقتصادية سائدة في سياق اجتماعي وثقافي معين، وبالتالي تحدد كيف تُروى السرديات، كما تؤثر أيضًا في كيفية فهم الناس لهذه السرديات وتفاعلهم معها، لذا من الضروري تحليل هذه العوامل لفهم الروايات التاريخية بشكل شامل.

ثنائيات قيمية في السرديات التاريخية

هناك العديد من السرديات التاريخية التي تحوي على ثنائية قيمية تتمحور حول مفهوم العلاقة بين الخير والشر، المؤمنون والكافرون، والمقدس والمدنس. يشير النقاد إلى أن هذه الثنائيات تُنتج تناقضات، حيث يعجز الفرد عن التوفيق بين الجوانب العقلية والجسدية في حياته اليومية، وان هذه الثنائيات تهمش الأبعاد الاجتماعية والثقافية وتؤثر على الهوية والوعي، يُستخدم هذا التقسيم لتقديم الأحداث بشكل مبسط، مما يسهل فهم الرواية ولكنه يغفل التعقيدات عند تحليل الأحداث التاريخية، ويمكن ملاحظة كيف تُستخدم هذه الآليات لتشكيل الروايات، حيث تُركز على جوانب معينة وتُغفل أخرى، مما يخلق سردًا متحيزًا يخدم أغراضًا معينة، كون السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل الفهم الثقافي والتاريخي كذلك تساعد في تحليل الأفكار والمفاهيم من خلال تقسيمها إلى ثنائيات تساهم في تحدي المعايير التقليدية، ان فهم التعقيدات الإنسانية يتم من خلال الربط بين الأضداد والتفاعل بين السرديات والثنائيات.

الأمان الوهمي في تشكيل السرديات التاريخية

الشعور الزائف بالأمان الذي يشعر به الأفراد أو المجتمعات نتيجة تشكل الثنائيات القيمية، يجعلهم يتجاهلون المخاطر الحقيقية أو التحديات مما يؤدي إلى تحريف الأحداث التاريخية، حيث يتم تكييف السرديات لتناسب الشعور بالراحة والطمأنينة، بدلاً من تقديم صورة دقيقة، عندما يشعر الناس بالأمان، يتجاهلون الأزمات أو التحديات التي تؤثر على مستقبلهم، مما يؤدي إلى نقص الوعي التاريخي، حيث يمكن أن تُستخدم السرديات التاريخية لتعزيز أيديولوجيات معينة (سرديات الانتصار)، تُظهر فترة من (الأمان) كفترة مثالية، مما يعوق فهم التحديات الحقيقية التي تواجهها المجتمعات، في بعض الثقافات، يتم تصوير العصور الذهبية كفترات من الأمان الوهمي، مما يؤدي إلى تجاهل التوترات الاجتماعية أو الاقتصادية التي كانت تحدث في الخلفية، احيانا يتم ترويج سرديات تعزز من فكرة الأمان الوهمي خلال فترات الحرب، مما يخفف من إدراك المخاطر الحقيقية وفقدان الوعي التاريخي، يؤدي الأمان الوهمي إلى نقص في فهم الدروس المستفادة من التاريخ، مما يساعد في تكرار الأخطاء، المجتمعات التي تعيش في حالة من الأمان الوهمي قد تجد نفسها غير مستعدة لمواجهة التحديات المستقبلية، الأمان الوهمي يشكل تحديًا حقيقيًا لفهم السرديات التاريخية بشكل دقيق و يتطلب الأمر وعيًا نقديًا لتجنب تحريف الحقائق التاريخية والسماح بفهم أعمق وأكثر واقعية للأحداث والتجارب الإنسانية.

برمجة المجتمعات في تشكيل السرديات التاريخية

برمجة المجتمعات التاريخية تختلف عن غيرها من أشكال التلاعب بعدة طرق، السرديات التاريخية تُشكل الذاكرة الجماعية على مدى الزمن، مما يجعل تأثيرها أعمق وأكثر استدامة، تُعتبر السرديات التاريخية غالبًا شرعية، مما يمنحها مصداقية أكبر مقارنة بأشكال التلاعب الأخرى، الدعاية التي تستخدمها السرديات التاريخية لخلق ارتباط عاطفي مع الأحداث والشخصيات، مما يجعل التأثير أقوى وتتغلغل في تشكيل الهويات الجماعية، مما يجعل من الصعب على الأفراد تجاوز هذه السرديات أو التشكيك فيها كونها تحمل الأبعاد الأخلاقية والسياسية، حيث يمكن استخدامها لتبرير أفعال معينة في الحاضر بناءً على أحداث الماضي، برمجة المجتمعات التاريخية تعتمد على القوة التأثيرية للذاكرة والتاريخ، مما يجعلها تختلف عن أشكال التلاعب الأخرى التي قد تكون أكثر مباشرة وأقل عمقًا.

الأغلبية والمعتقدات السائدة

يميل الأفراد إلى اتباع المعتقدات السائدة مجتمعيا، دون تمحيص، مما يعزز تأثير فكرة معينة في السرديات التاريخية، يؤدي التفكير الجماعي إلى تجاهل الحقائق أو الروايات التي تتعارض مع المعتقدات السائدة وتسهم في تعزيز سرديات معينة تدعم فكرة تاريخية للجماعة، مما يؤثر على كيفية فهمهم لتاريخهم، تتبنى المجتمعات سرديات تدعم القيم المتفق عليها حتى وان كانت لاعقلانية، مما يساعد في تشكيل ذاكرتهم الجماعية، تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تشكيل الراي العام، حيث تُبث سرديات معينة بشكل متكرر، مما يعزز تأثيرها على برمجة المجتمع، تستغل القوى السياسية أو الاجتماعية برمجة المجتمع لتوجيه الروايات التاريخية لخدمة مصالحها وقد تُعيد كتابة الأحداث التاريخية لتناسب ايديولوجياتها السائدة، مستغلة تأثير برمجة المجتمع، عندما تتبنى مجتمعات سرديات معينة دون تفكير نقدي، تتكرر الأخطاء .السرديات المبنية على البرمجة الاجتماعية تؤثر سلبًا على قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المستقبلية من خلال ادخال الثنائيات القيمية قسرا، مما يتطلب وعيًا نقديًا لتجنب الانحيازات ولتقديم سرديات أكثر دقة وموضوعية.

الاثار السلبية للثنائيات القيمية

تؤدي الثنائيات إلى تبسيط الأحداث التاريخية المعقدة، مما يقلل من فهم السياقات الدقيقة، يمكن أن تؤدي الثنائيات إلى إغفال الروايات والأصوات التي لا تتناسب مع السرد السائد، مثل تجارب الأقليات مما يعزز الصراعات بدلاً من الفهم المشترك، يمكن أن تُستخدم الثنائيات لتقديم صورة مضللة عن الأحداث، حيث تُظهر جانبًا واحدًا فقط دون اعتبار للعوامل المعقدة، تؤدي الثنائيات إلى نقص في الوعي بالتاريخ، مما يمنع الأفراد من التعلم من الأخطاء السابقة، يمكن أن تُستخدم الثنائيات لتعزيز أيديولوجيات معينة، مما يؤدي إلى تحريف الحقائق التاريخية لخدمة أغراض سياسية، تؤدي الثنائيات إلى تشكيل هوية جماعية ضيقة، مما يُعوق الفهم الشامل للتراث الثقافي والتاريخي، يمكن أن تُسهم الثنائيات في إعاقة الحوار البناء بين مختلف الجماعات، حيث يُنظر إلى الآخرين كعدو بدلاً من شريك في النقاش بينما يمكن أن تكون الثنائيات القيمية أدوات مفيدة في تحليل السرديات التاريخية، إلا أن استخدامها غير المدروس قد يؤدي إلى آثار سلبية تؤثر على فهمنا للأحداث التاريخية وتعقيداتها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

مع  الكاتب البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري.. هل كانوا عمالقة؟

بعض الناس لا يحبون من ينتقدهم، وإن انتقدهم أحدٌ في فكرة ما،ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي، فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و..الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ومن يضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صناع الحياة ولهم الفضل في بقاءك حيا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن مُنَزَّهٌ، فالإنسان بشر ومُعَرَّضٌ للأخطاء وقد يتعرض للنقد، شريطة أن يكون النقد بَنَّاءً، لأن لكل واحدٍ رؤيته للأشياء والقضايا التي تُطْرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل والنجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما، حتى لو كان مخطئا لا لشيئ إلا لأن له نفوذ ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.

هناك من يهرب من الحقيقة أو يحاول إخفاءها بل وأدها لكي لا تنكشف للناس، ومجرم من يكتم الحقيقة، فهناك أحداث وقعت في زمن معين لم تكشف بعد، لكي يبقي الناس علي جهلهم وعماهم، وهنا يكمن دور المثقف في عملية التنوير والتبصير،، فالمثقفُ يجامل، والمفكرُ لا يجامل، والناقدُ لا يجامل، والإعلاميُّ لا يجامل، والثّوريُّ لا يجامل، والمناضلُ النزيه لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ والكاتب الحُرُّ وجب عليه أن يتحرر من صفات المجاملة، لأن المجاملة المبالغة فيها تتحول إلى نفاق وكذب على الناس، بل تؤدي بالمُجَامِلِ (المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويبدي على الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، أو ملكٌ على رأسه تاج العظمة، وكأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك.

والنقد إن كان غير مبني على فكرة سليمة، نبيلة، هادفة، لتوضيح الرؤية للكاتب والقارئ معا، فهو باطل وصاحبه مفقود الثقة، لأن غايته نشويه ما كتبه الأخر أمام القراء والرأي العام لحقد دفين في قلبه ليس إلا، أو أن شيطان وسوس في قلبه وعقله فجعله أعمى، لا يرى أمام عينيه، حتى لا نقول أنه شيطان في ثوب إنسان، مهنته التخريب والهدم والغدر، وقتل عزيمة الناس وإرادتهم، لأنه ربما فشل في حياته ولم يحقق شيئا ما، يسعد به الأخرين، فكان من أعداء النجاح، فما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة ( الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا وكذا..) وتحول هؤلاء إلى "عمالقة" وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، وقد ينادونهم بـ: "السّي" فلان، في الوقت الذي نرى أناسا آخرين ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم "منسيون"، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم.

تعود بي الذاكرة إلى كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " هل كانوا عمالقة؟ " أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم، وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.

 - قال في السؤال الأول: قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على اساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة "الرد على الدهريين " التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.

- وقال في السؤال الثاني: قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات.. معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعرفه سبب نسيهم التاريخ، وسلسلة أخرى من المدائح وسلسلة ثالثة من المفاخر، فما مصير أبنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟

 -  وقال في السؤال الثالث: هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟

ما يمكن قوله هو أن المجاملة تضرُّ ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع أيضا، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى "الوسطية" في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال : "إرضاء الناس غاية با تدرك" والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر. (مجرد وجهة نظر)

***-

علجية عيش

 

استكمالًا للمشروع الذي عرضنا جانبًا منه في المقالة السابقة؛ ها نحن نكمل ما بدأناه:

(٦) العمل على إعداد مصفوفة واحدة للمقررات الدراسية (في مرحلة الليسانس، أي ما قبل الدراسات العليا)، تشتمل على المباحث الرئيسة والمعارف الفرعية للبنية الفلسفية، على نحو يسهل تطبيقها في كل الجامعات، وتتيح في الوقت نفسه الحرية لكل قسم من الأقسام المعنية بنسبة 20% من كل المقررات الدراسية في الفرق الأربعة بالحذف والإضافة؛ حتي يتناسب المحتوى الأكاديمي مع الأقسام الأخرى ليسهل تكاملها من جهة، وتوافقها مع الخطة البحثية للجامعة التي تنتمي إليها من جهة ثانية، وما يميز وجهة القسم في ابتكار وتحديث وإضافة ما يراه من مقررات أو موضوعات ملحقة بالمعارف الأساسية من جهة ثالثة. أضف إلى ذلك تيسير عملية نقل الطلاب من جامعة إلى أخرى، ومن قسم مناظر إلى آخر، في إطار القواعد المعمول بها في انتقال الطلاب. مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالمحتوى العلمي بالمقرر الدراسي الوارد في لائحة القسم، على ألا يسمح للقائم على تدريس المقرر بالإضافة أو الحذف إلا بعد استشارة الأستاذ المتخصص الذي يبلغ بدوره أستاذ الكرسي، الأمر الذي يمكننا من معالجة العديد من السلبيات القائمة فيما نطلق عليه (الكتاب المقرر).

(7) تحديث وتطوير الخطاب الشارح الذي يجريه الأستاذ القائم بالتدريس مع طلابه على نحو يجعله أقرب للحوار الفلسفي في التعقيب والنقد والمعالجة، ثم حث الطلاب على نقد الخطاب المرسل وما يحويه من آراء، وذلك لتعويدهم على منهجية التثاقف وآداب التناظر وعقلانية والجدل والمحاجاة.

(٨) تخصيص آلية للتواصل مع المعنيين بالبحث الفلسفي؛ وذلك بتطوير وتحديث موقع الجمعية الفلسفية كي يتثنى له القيام بأربع مهام:

أولها: تبادل الخبرات مع المراكز البحثية العربية والعالمية ذات الصلة بالبحث الفلسفي للتنسيق والتشاور حول القضايا المشتركة.

وثانيها: التواصل مع جمهور المثقفين بمختلف مستوياتهم للإجابة عن استفساراتهم التي تخص الحكمة العقلية، وكيفية الاستفادة منها في شئونهم اليومية.

وثالثها: التحاور مع قادة الرأي حول القضايا التي تشغل المجتمع لتوضيح الرؤية الفلسفية والحلول المنطقية للأزمات وتحليل أثر القرارات السيادية قبل تفعليها، والخطط الاستراتيجية والتكتيكية قبل تطبيقها، وذلك ليتثنى للقيادات التعرف على إحدى الرؤى العقلية التي لا ينبغي استبعادها من مشهد التحاور والتشاور حول قضايا الرأي العام.

ورابعها: المشاركة في وضع الضوابط الأخلاقية والذوقية لحماية الهويّة والمشخصات الثقافية من جهة، والدفاع عن حرية الرأي والبوح والنقد والاعتراض والفكر والاعتقاد بالقدر الذي لا يعود بالضرر على الأمن العام والسلم الاجتماعي، والأغيار الغرباء في المجتمع من جهة أخرى. 

(٩) ابتداع مقررات دراسية معاصرة لخدمة احتياجات المجتمع والبحث العلمي والتصدي للمشكلات الحياتية، وذلك في المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعية، على أن تتسم هذه المقررات بالطابع العلمي والعملي، لتقوم بضبط منهجية أذهان الطلاب وتهذيب قيمهم والارتقاء بأذواقهم، وتدريبهم على الابتكار وتحديث مهاراتهم، وتنمية روح الولاء والانتماء في وجدانهم وسلوكهم، وترغيبهم في النظر العقلي ليتثنى لهم الانتقال من طور الاستيعاب إلى طور الابداع، والمناهج التي تمكنهم من الوقوف على حقائق الأمور الملتبسة والأخبار المشوشة.

ذلك فضلًا عن فتح مجالات أوسع للمباحث الفلسفية الفرعية. التي تمكن دارسي الفلسفة من المشاركة في منظومة المعارف المتكاملة (المقررات البينية).

ويساهم هذا التوجه في حل أزمة الفلسفة، ويثري تواجدها في المنظومة التعليمية التي نحن بصددها.

ثالثًا: أهم البرامج والمقررات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة

أ) المرحلة الإعدادية أو ما قبل البكالوريا:

مادة مبادئ الأخلاق وعلم الجمال (الفرقة الثانية إعدادي).

وتسهم في ضبط سلوك الطالب وأخلاقياته في هذه المرحلة السنية، والارتقاء بذوقه وحسه الفني والجمالي، وتوجيه وجدانه وجهة روحية بعيدة عن اللذات المادية والرغبات النفعية، وتعينه على التفرقة بين (الحرية والجموح والهمجية). (والفضائل اللزومية والالتزام بالواجبات)، (والأثرة والإيثار). (والأنانية والمنفعة العامة) (والاعتزاز بالكرامة الشخصية والعذر والتسامح). (والتدين والتعصب).

مادة الولاء والانتماء (الفرقة الثالثة إعدادي):

وتعمل على تأصيل مفهوم الوطنية واحترام المشخصات الثقافية السائدة، والعزوف عن التقليد الأعمى والابتعاد عن العادات الجامحة والتعصب والأجتراء على الثوابت التي تحمي الفرد والمجتمع من الشطط والانحراف. 

ب. المرحلة الثانوية

مادة الهوية المصرية والمشخصات الحضارية (الفرقة الأولي في المرحلة الثانوية)

وهذه المادة تعمل على توسيع مدركات الطالب، وتحديد ميوله ووجهته، وتمكنه من إدراك المعاني والمفاهيم للعلاقات المتشابكة، وتبصره بالحلقات المتداخلة؛ مثل (الهوية والغيرية، والاغتراب والاستغراب)، (والوطنية والقومية والوحدة الإنسانية) والفارق بين (الميول والأهواء والمعتقدات)، (والمشاركة الحسبية وعضوية الجماعات والمنتديات والانتساب إلى الهيئات)، (والشيفونية والراديكالية والفوضوية والإباحية)... وغيرها.

مادة آداب الحوار وأخلاقيات التناظر (الفرقة الثانية في المرحلة الثانوية)

وترمي إلى تدريب ذهن الطالب على التمييز بين المصطلحات والمفاهيم التالية:

(تقديم التحليل على النقض في الحوار)، (وغربلة الأفكار قبل قبولها في التوجه والحكم)، (والتفرقة بين الكبر والإكبار في المثاقفة والتصاول)، (والتبعية والموافقة في النصح والتوجيه)، والتمييز بين (الانتقاد والقدح والتبذل في التهكم في المخالفة)، (والمداهنة والرياء والمداراة والمجاراة، والعزوف عن الغلو في المدح والاستحسان في التأييد).

مادة مناهج البحث وخصائص التفكير الفلسفي (الفرقة الثالثة في المرحلة الثانوية أدبي)

مادة المنطق الرمزي والذكاء الاصطناعي (الفرقة الثالثة علمي رياضة علمي رياضة)، مادة فلسفة العلوم والبيئة (الفرقة الثالثة علمي علوم).

مادة القيم التطبيقية وأخلاقيات المهنة (الفرقة الثالثة ثانوي صناعي).

مادة الفن والإبداع (الفرقة الثالثة الثانوية المعمارية).

مادة فلسفة الرياضيات ومنطق متعدد القيم (الفرقة الثالثة الثانوية التجارية).

ذلك بالإضافة إلى استحداث مقرر الأخلاق الإنسانية، والمقاصد الإلهية، وذلك عوضًا عن التربية الدينية للمنتمين للإسلام والمسيحية، على أن تشتمل بنية المقرر على فضائل الأخلاق :(الحب والحياء)، (والصدق والتعاون)، (والرحمة والأمانة)، (والسلم والتسامح). والحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والعقل والعدالة والحرية. وذلك لحماية المجتمع من الفتن الطائفية، والتأكيد على مشخصات الهوية الواحدة، والحد من ظاهرة الإلحاد، والشطط والشطح العقدي، والاجتراء على المقدسات.

ج. المرحلة الجامعية:

ضرورة الاهتمام بمراجعة المقررات الفلسفية ومحتوياتها المعرفية الأتية:

الفصل بين (الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة)، (وفلسفة الشرق القديم، وفلسفة الأسطورة والخرافة)، (وفلسفة النقض، ونهج قراءة القراءة)، (وفلسفة الثقافة، وفلسفة التربية) (وفلسفة الدين، وفلسفة اللاهوت وعلم مقارنة الأديان)، (وعلم الجمال وفلسفة الفن)، (وتاريخ الفلسفة، وعلم تاريخ الأفكار)، والتمييز بين (فلسفة الأخلاق، وفلسفة القيم، والأخلاق التطبيقية).

(التصوف الملي -التصوف الإسلامي والرهبنة والحسيدية-، التصوف الفلسفي، الرياضات الروحية والتصوف العملي -الفيوسفوية)، (فلسفة اللذة، وفلسفة المتعة الغريزية)، وذلك لتباين بنية تلك المعارف والمناهج التي تعالج قضاياها.

وجوب استحداث هذه المقررات لمواكبة الدراسات الفلسفية المعاصرة الاتية:

فلسفة الاستشراق والتغريب، وذلك لدراسة دوائر الاستشراق المختلفة، وتجنب الخلط بين الاستشراق السياسي، والاستشراق العقدي، والاستشراق العلمي، والنظريات والملل العقدية المعاصرة، مثل ما بعد الدين، ونظرية الدين الإبراهيمي ووحدة الأديان، والدين السائل، ونظرية الناسخ والمنسوخ المعاصرة، والديانة المارمونية (الصهو أمريكية)، وأبعاد نظرية المؤامرة وعلاقتها بالحروب المعاصرة.

(فلسفة الكذب وحرافية التزييف الإلكتروني)، (فلسفة الحرب الإلكترونية، وتفكيك المجتمعات، وخرق الثوابت الدينية والأخلاقية)، (فلسفة اللعب والطفل والعصف الذهني)، (فلسفة التأويل والإحالات: الإشارية- الرمزية المشفرة- الدلالية)، (فلسفة الروح والعوالم المتوازية والكائنات الغيبية)، (كمياء الفكر وتحليل بنية الأيديولوجيات)، (فلسفة التأمل والفيوسوفية العلمية، والروحية الحديثة)، (فلسفة المستقبل واستشراف الما بعديات)، (فلسفة الإلحاد النظري والتطبيقي)، (فلسفة الضحك والملهاه والكوميديا الراقية).

على أن تفعل هذه المقررات والمعارف المستحدثة في تطوير المناهج الدراسية، أو في الدبلومات المهنية أو توظيفها في المقررات المتكاملة (البينية)، علمًا أن جميع هذه الإضافات المعرفية لها مرجعيات فلسفية، يسهل مطالعتها في الدوائر البحثية والموسوعات المتخصصة.

تلك كانت أهم الموضوعات التي طرحتها في ندوة الجمعية الفلسفية –التي أشرت إليها سلفا في الشهر الماضي-، آملا منكم وضعها على مائدة التثاقف والتحاور، واستخلاص منها ما عساه يصلح أن يكون دافعا لنا لمخاطبة قادة الرأي فينا، للعدول عن ذلك التبديد الذي ينعته بعض المتشدقين والمتعالمين بالتجديد، وما أكثر القرارات المتعجلة التي تحمل بين طياتها كوارث وأزمات؛ أرجو ألا تكون عاجلة، وويل لمن يجهل فن اقتفاء الأثر، ويعجز عن فهم ما جاء في العبر وديوان المبتدأ والخبر.

وليس للحديث بقية في هذا المختبر

***

أ. د. عصمت نصار

 

هناك من يزعم ان الاقتصاد ليس علما، لكن هذا الادّعاء يشير الى ان هؤلاء لا يعلمون ماذا يفعل العلماء. العلماء يلاحظون العالم الذي أمامهم. يطورون نظريات تسعى لتوضيح ما يرون. ثم يجمعون البيانات لإختبار نظرياتهم ويرفضون تلك التي لا تتطابق مع البيانات. هم يبذلون جهدهم لتجنب الميول الايديولوجية والافكار المسبقة. والأكثر أهمية، هم دائما يبقون منفتحين لتغيير أذهانهم عندما يرون هناك نظريات أفضل او بيانات جديدة. هذا الاتجاه يمكن تطبيقه سواء كان الفرد يدرس أسباب سقوط التفاحة من شجرة او أسباب تقلبات الناتج القومي الإجمالي بمرور الزمن. وكما ذكر البرت اينشتاين ان "جميع العلوم ليست أكثر من مجرد تحسين وصقل للتفكير اليومي". وهناك من يضيف ان قانون العرض والطلب يشبه قانون الجاذبية في الفيزياء، هذا القانون في العرض والطلب تم إثباته على مر القرون من خلال الملاحظة والدراسة. فكرة ان حجم المبيعات يهبط عند ارتفاع الاسعار تصح بنفس المقدار الذي يصح به القول عن الجاذبية: "ما يصعد الى الأعلى يجب ان يهبط الى الأسفل".(1).

اقتصاد البرت اينشتاين

يُعد اينشتاين أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين. في سلسلة من الأوراق نُشرت بين عام 1905 و 1916 هو وسّع وغيّر الى الأبد تصوّر الناس عن الكون. اينشتاين حسبما يذكر كاتب سيرته: "اسطورة حية، بطل شعبي حقيقي، يُنظر اليه كوحي يستمتع به افراد العائلة الحاكمة ورجال الدولة وغيرهم من المشاهير، نُظر اليه من جانب العامة والرؤساء كما لو انه نجم فيلم بدلا من عالِم".

ما تجدر ملاحظته هو ما طلبه الناس من اينشتاين للتعليق على العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهامة في ذلك الوقت. تعليقاته الاقتصادية والاجتماعية التي تم جمعها من تلك الاوراق تعكس تبنّيه للايديولوجية الاشتراكية المضادة للرأسمالية انذاك. هو يبدو جعل معظم انتقاداته لإقتصاد السوق مرتكزة على مفهوم "فائض قيمة العمل" الماركسي، والتي نشرها في كتاب صغير بعنوان "العالم كما أراه":

"عبر استعمال وسائل الانتاج، ينتج العامل سلع جديدة تصبح ملكاً للرأسمالي. النقطة الاساسية في هذه العملية هي العلاقة بين ما ينتجه العامل وما يُدفع له ... ما يستلمه العامل يتقرر ليس بالقيمة الحقيقية للسلعة التي ينتجها وانما بالحد الأدنى من حاجاته".

وفي أعقاب كارل ماركس وتوماس مالتس، استنتج اينشتاين ان الاجور تميل دائما لتُكبح الى "الحد الادنى من حاجات العمال" عبر المنافسة، لمصلحة الطبقة الرأسمالية الصغيرة والمهيمنة. طبقا لاينشتاين، الاجور في الولايات المتحدة كانت نسبيا أعلى من الحد الادنى لحاجات العمال بسبب ان البلد فيه الكثير من الموارد قياسا بسكانه.

أوضح اينشتاين ان الكساد الكبير (في الثلاثينات) هو نتيجة حتمية للتقدم التكنلوجي المتواصل الذي سمح للرأسماليين بتقليل العمل: "كما أرى، ان هذه الأزمة تختلف عن الأزمات السابقة كونها ترتكز على مجموعة جديدة كليا من الظروف، نتيجة للتوسع السريع في طرق الانتاج. مطلوب فقط جزء من عمل الانسان في العالم لانتاج الكمية الكلية من سلع الاستهلاك الضرورية للحياة".

وبينما هو أشاد في وقت ما بالمشروع الحر بسبب التقدم التقني الذي خلقه النظام، استمر اينشتاين باحتقاره للرأسمالية المنفلتة لأن "المنافسة اللامحدودة تقود الى تلف هائل في العمل، والى شلل في الوعي الاجتماعي للفرد.. هذا الشلل للفرد انا أعتبره أسوأ شرور الرأسمالية".

طبقا لرؤية اينشتاين العالمية، قادت التكنلوجيا ايضا الى تركيز القوة الاقتصادية بيد عدد قليل من الشركات: "هذه الأقلية الاقتصادية المهيمنة، عارضت تحجيم حريتها في التصرف، مطالبة بالخير لمصلحة كل الشعب."

دعا اينشتاين الى عدة حلول لمواجهة البطالة في الثلاثينات، كلها عدى واحد منها كانت يشوبها نوع من التفكير الاقتصادي الناعم السائد لدى اشتراكيي ما قبل الحرب العالمية الثانية، هذه الحلول:

1- تقليل اسبوع العمل لكي تختفي البطالة رسميا .

2- تأسيس حد ادنى للاجور بحيث تتماشى القوة الشرائية للعمال مع التضخم، ولكي يصبح لدى العمال الوسائل لشراء فائض المخرجات.

3- السيطرة على الأسعار (المقررة من قبل تلك الصناعات التي اصبحت احتكارية من حيث السلوك، الامر الذي لا يزيد فقط القوة الشرائية لأجور العامل وانما ايضا يحقق فوائد جانبية في كبح الاستثمار في التكنلوجيا التي تقلل كمية العمل المطلوب لإنتاج السلعة).

4- استبعاد كبار السن من انواع معينة من العمل (والتي اسميها أعمال غير تأهيلية)، يستلمون بدلا من ذلك دخل معين.

5- تنظيم الإنتاج والعمل والتوزيع طبقا لخطة محددة، من أجل منع طاقات انتاجية ثمينة من ان تُرمى بعيدا وان لا تصبح شرائح من السكان فقيرة.

6- السيطرة على عرض النقود وحجم الائتمان لإبقاء مستوى الاسعار ثابتا (وهذا هو الحل الوحيد من بين الحلول الستة الذي نال موافقة التيار السائد من الاقتصاديين الحاليين المناصرين للسوق) .

مع هذه الاستراتيجية من ست نقاط، اعتقد اينشتاين انه بالإمكان تأسيس توازن ملائم بين الانتاج والاستهلاك بدون تقييد كبير للمشروع الحر، وفي نفس الوقت وقف الاستبداد غير المسموح به لمالكي وسائل الانتاج (الارض والمكائن) في تقرير اجور تلك العناصر الانتاجية.

ان ما يثير التناقض في مخاوف اينشتاين المتكررة بشأن مصير الناس هو ان موقفه الفلسفي تجاه كل ما هو علمي كان متأثرا بالاعتقاد بان قوانين الفيزياء تُطبق في كل مكان وفي كل الأوقات، بحيث يصبح مستقبل الكون بكل تفاصيله ضروريا ومحددا كالماضي. اذا كان الامر هكذا، لماذا ننشغل بإعداد الاستراتيجيات للتحسين الاجتماعي هنا على الارض؟

لابد من الإقرار بالفضل لعدد من الاكاديميين والمفكرين – خاصة فردريك هايك وملتن فريدمن وبل بوكلي الذين مهّدوا لجعل تفكير اينشتاين المثير في الاقتصاد هو الآن معترف به على نطاق واسع.

***

حاتم حميد محسن

........................

المصادر:

1- WSJ opinion, June 4,2025

2- The Economics of Albert Einstein,www.cambridge.org/mckenzie

الهوامش

(1) الاقتصاد بشكل عام اعتُبر من العلوم الاجتماعية، لكن النقاد يرون انه لا يرقى لتعريف العلم لعدة أسباب منها نقص اختبار الفرضيات، فهو ليس كالعلوم الصرفة التي يمكن فيها اختبار الفرضيات في المختبر، وانما ميدان الاختبار فيه هو البلد ككل او العالم او القطاع مما يجعل من الصعب التحكم في الظاهرة، وكذلك قلة الإجماع بين الاقتصاديين، بالاضافة الى تأثير المواقف والميول السياسية المتأصلة. لكن رغم هذه الحجج، يبقى الاقتصاد يشترك بعناصر كمية ونوعية مع جميع العلوم الاجتماعية.

تُعتبر الأساطير جزءًا من المعتقدات الدينية والثقافية، حيث تعكس كيفية فهم السومريين الحياة والموت والمصير، تمثل هذه السرديات رموزًا تعبر عن المخاوف والآمال، الخوف من الموت والرغبة في الخلود، حيث لا توجد حقائق علمية او أدلة تجريبية تدعم وجود حياة أخرى في ثقافتهم كما هو موصوف في بعض الأساطير، مما يجعلها تعبيرات فلسفية أو روحية. كانت سرديات الحضارة السومرية تهدف إلى تقديم معنى للحياة والموت، وكذلك تعزيز القيم الاجتماعية، وليس لتحقيق فهم علمي موضوعي لذا تحمل أساطير السفر إلى العالم الآخر قيمة ثقافية ودينية تعكس المعتقدات والرموز التي تشكلت في سياق حضاري معين، ويمكن اعتبار أساطير السفر إلى العالم الآخر في الحضارة السومرية مصدرًا مهمًا لفهم ثقافتهم وعقائدهم. من خلال التحليل الدلالي تُظهر الأساطير كيف كان السومريون يفهمون الحياة بعد الموت، ما يعكس معتقداتهم حول الروح والعالم الآخر، القيم الثقافية والاجتماعية، مثل الشجاعة، الخوف من المجهول، والبحث عن الخلود، كذلك العلاقات بين الآلهة والبشر، مما يساعد في فهم البنية الاجتماعية والسياسية في المجتمع السومري، كما يمكن تسليط الضوء على كيف كان السومريون يتفاعلون مع قوى الطبيعة. تمثل هذه الأساطير جزءًا من تراث الأدب السومري، مما يسهم في فهم تطور الأدب والفنون في تلك الحضارة، في الأساطير السومرية المتعلقة بالسفر إلى العالم الآخر، تظهر عدة رموز وصور تحمل دلالات عميقة، كما تظهر شخصيات مثل إنانا كرمز للآلهة التي تتفاعل مع الموتى، مما يعكس دورها في توجيه الأرواح، تُستخدم البوابات كرموز للانتقال بين العوالم، حيث يُعتبر عبور البوابة خطوة حاسمة في رحلة الروح، تُستخدم الأشجار في بعض الأساطير كرموز للحياة الأبدية أو الجذور التي تربط بين العوالم كما تمثل الأدوات الجنائزية (مثل الأواني والتماثيل) التحضير لرحلة الروح، الكائنات الطيفية في الأساطير السومرية تمثل الأرواح التي تجوب العالم السفلي، مما يضيف عنصر من الغموض والخوف، تُظهر هذه الرموز والصور كيف كان السومريون يفهمون ويتعاملون مع مفهوم الحياة والموت، مما يعكس معتقداتهم الثقافية والدينية.

الالهة عشتار والتحديات

رحلتها إلى العالم السفلي، واحدة من أشهر الأساطير التي تتعلق بها هي، حيث تسعى للحصول على القوة والسلطة. تتعرض للاختبار وتواجه تحديات، مما يعكس صراعات الحياة والموت كذلك تتعلق بأسطورة تموز، إله الزراعة، الذي ينزل إلى العالم السفلي، مما يعكس دورة الحياة والموت، تُظهر هذه الأساطير السومرية المنشأ كيفية تداخل الموضوعات المتعلقة بالحياة، الموت، والتجديد في الثقافات المختلفة في الشرق الأوسط، مما يعكس القيم الإنسانية المشتركة والتجارب الروحية وان هناك روابط وتأثيرات متبادلة بين هذه الأساطير. تأتي أسطورة جلجامش كمثال لمفاهيم الحياة والموت بطرق أخرى متعددة وعميقة حيث تنطلق القصة من رحلة جلجامش للبحث عن سر الخلود بعد وفاة صديقه إنكيدو، مما يعكس الخوف البشري من الموت والرغبة في البقاء وفاة إنكيدو تمثل نقطة تحول في حياة جلجامش، حيث تظهر كيف يؤثر الموت على العلاقات الإنسانية وتحفز التفكير في معنى الحياة، يُبدي جلجامش مقاومته للموت ومحاولة التغلب عليه، مما يعكس الصراع البشري ضد القدر، ينتهي الأمر بجلجامش إلى إدراك أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة وهذه مقاربة فلسفية وجودية، مما يعكس تناغم الفلسفة السومرية حول قيمة الحياة من خلال منظور وجودي وعدم إمكانية الفرار من الموت، كذلك من خلال الأسطورة يقترح جلجامش أن الخلود يتحقق من خلال الأفعال العظيمة والإنجازات وهي مقاربة وجودية في خلق المعنى، مما يعكس الفكرة بأن الإرث الفكري يمكن أن يستمر حتى بعد الموت، تعتبر أسطورة جلجامش استكشافًا عميقًا لمفاهيم الحياة والموت، حيث تتناول الصراع البشري مع الفناء والبحث عن المعنى والخلود، مما يجعلها واحدة من أعظم السرديات في الأدب العالمي.

رموز الموت في الأساطير السومرية

في الأساطير السومرية ومنها ملحمة جلجامش، تُستخدم عدة رموز رئيسية لتمثيل الموت. يُعتبر الأسد رمزًا للجبروت، ولكنه أيضًا يُشير إلى الفناء، حيث يُظهر كيف يمكن للقوة أن تُهزم، تُستخدم العواصف كرمز للفوضى، مما يعكس الفوضى التي يمكن أن تحدث عند مواجهة الموت، تمثل الطقوس الجنائزية في القصة تكريم الموتى، مما يشير إلى أهمية الاعتراف بالموت والاحتفال بالحياة، تُظهر هذه الرموز كيف تعكس أسطورة جلجامش مفاهيم الموت والفناء، مما يُعزز فهم القضايا الإنسانية العميقة المتعلقة بالحياة والموت.

الاستعمال الرمزي للحيوان في السرديات التاريخية

استخدام الحيوانات كرموز في السرديات التاريخية له عدة أسباب ودلالات، تُستخدم الحيوانات لتمثيل صفات بشرية مثل الشجاعة (الأسد) أو الحيلة (الثعلب)، مما يُسهل فهم القيم الأخلاقية في علاقة الإنسان بالطبيعة كما تعكس الحيوانات العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة، تُساعد الحيوانات في تبسيط الأفكار المعقدة، مما يجعل السرد أكثر جذبًا وسهولة في الفهم، يُستخدم الحيوان في كثير من الأحيان كوسيلة لتعليم الدروس الأخلاقية والاجتماعية، مما يعزز القيم الثقافية، تُعتبر بعض الحيوانات رموزًا روحية في ثقافات مختلفة، مما يُعزز من العمق الروحي للأساطير، تُساهم الحيوانات في تشكيل الهوية الثقافية والتاريخية، حيث يتم تصويرها في الأساطير كجزء من التراث، تشكل الحيوانات عناصر مركزية في الكثير من السرديات التاريخية في الحضارات المجاورة كالحضارة المصرية حيث مثلت بعض الحيوانات الهة في الحياة وبعد الموت كونها تحمل دلالات ثقافية وروحية وأخلاقية تعزز من فهم القضايا الإنسانية وتساهم في نقل القيم عبر الأجيال.

التعبير الرمزي

يُعكس التعبير الرمزي العلاقة المعقدة بين البشر والطبيعة، مما يثير تساؤلات حول الأخلاق والاحترام تجاه الكائنات الأخرى، يمكن أن يتغير التعبير الرمزي للحيوانات عبر الزمن والثقافات، مما يعكس التحولات في القيم والمعتقدات البشرية، يُساعد استخدام الحيوانات كرموز في استكشاف الهوية الفردية والجماعية، و قد تُستخدم الحيوانات كرموز في النضالات السياسية والاجتماعية، حيث تُصبح رمزًا للمقاومة أو الهوية الثقافية، من خلال هذه الطرق يمكن للحيوانات أن تلعب دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية الجماعية وتعزيز الروابط بين الأفراد، حيث يمكن أن تعكس الصفات الحيوانية جوانب من الذات البشرية، حيث تعكس القيم الثقافية والوجودية، وتُظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

السرديات السومرية والدروس الوجودية المعاصرة

سرديات العالم الأسفل او الرحلة الى العالم السفلي، في الحضارة السومرية تعكس فهمهم للوجود والموت، وتقدم دروسًا وجودية معاصرة. العالم الأسفل (كُر) يُعتبر مكانًا للنفوس بعد الموت، حيث تقع فيه تجارب مختلفة تعتمد على الأفعال في الحياة وتعكس القصص الصراعات الداخلية والتحديات التي تواجه الإنسان، مما يشير إلى أن الحياة ليست مجرد وجود مادي، بل تجربة روحية، تؤكد السرديات السومرية على أهمية الأفعال والممارسات الأخلاقية، مما يعكس فكرة أن كل عمل له تبعات (المسؤولية الشخصية)، قصص مثل رحلة إنانا تبرز أهمية التحول الذاتي والتعلم من التجارب، وهو درس هام في الحياة المعاصرة، تعكس السرديات السومرية أهمية الروابط الروحية، مما يوضح الحاجة إلى فهم الذات والتواصل مع ما هو أبعد من الحياة اليومية، تدعو السرديات السومرية الى تقبل الموت كجزء من دورة الحياة، مما يساعد الأفراد على مواجهة مخاوفهم، سرديات العالم الأسفل في الحضارة السومرية ليست مجرد خرافات، بل تحمل دروسًا عميقة حول الوجود، الأخلاق، والتغيير، مما يجعلها ذات صلة كبيرة بالوجودية المعاصرة.

***

غالب المسعودي

 

محنة العراقيين مع التاريخ

ان فحوى هذا الموضوع يتقاطع تماما "مع كل الدعاوى التي ينادي أصحابها بضرورة إسدال ستار (النسيان) على الماضي وطيّ صفحات التاريخ القديم، لكي يصار بمقدورنا التخلص من أعباء المواريث والتطلع من ثم صوب آفاق المستقبل دون أن نكون مثقلين بأوزار الأول ورزايا الثاني. ان زعم البعض بإمكانية إجراء عملية (النسيان) وتصفير مخزون الذاكرة، دون خوض تجربة (استحضار) الماضي لاستكشاف ما أقصي وأهمل، و(استنطاق) التاريخ لإماطة اللثام عما أسكت عنه وأحجم القول فيه، لن يكون مردودها سوى تكرار حصاد الفشل الذريع والخذلان المريع !. 

صحيح ان محاولات حثّ الآخرين على نسيان الماضي والغفلة عن التاريخ، تكون في بعض الحالات مجدية وربما نافعة على الصعيد الذاتي / الشخصي، من حيث التخلص من التوترات والاحتقانات التي تنغص على الذات صفائها الذهني وهدوئها النفسي، ولكنها على الصعيد الجماعي / الاجتماعي قد تكون مفضية الى تفعيل عوامل الدمار الاجتماعي والخراب الحضاري!. ليس لأن الأحداث التي قاسى منها الإنسان / الفرد وعانى من عواقبها وتداعياتها قليلة الألم ومحدودة الضرر، وإنما لكونها لا ترقى الى مستوى ما تخلفه من كوارث وفواجع فيما لو نظر إليها بالمنظار التاريخي والسيكولوجي للجماعات المكوّنة للمجتمع.

وفيما لو تجاوزنا مخزون ذاكرة (الأفراد) وتخطينا حصيلتها من الأحداث الساخنة والوقائع البارزة التي استبطنتها عبر التقادم الزمني والتراكم المكاني، وذلك أثناء تعاطيها المستمر مع السرديات التاريخية المتداولة، وانخراطها الدائم بالمجايلات الاجتماعية المتفاعلة. فإنه من المتعذر، بلّه المستحيل – التغاظي عما تحتشد به مخزونات الذاكرة (الجماعية أو الجمعية) من خطوب جائرة وندوب غائرة لا يمكن الاستهانة بها أو تجاهلها، فضلا"عما قد يكون ترسب في قيعانها وتغلغل بين تجاويفها من إيحاءات سيكولوجية لا تزول وتمثلات ذهنية لا تمحى. لا بل ان أية محاولة متهورة تستهدف إسدال الستار عليها أو التقليل من شأنها، كائنة ما كانت المزاعم والادعاءات، سوف تأتي بمردود عكسي لم يكن في الحسبان توقعه أو أخذه على محمل الجد، بحيث لا يجعل من تلك الإيحاءات والتمثلات أكثر صلابة وأشد تماسكا"مما كانت عليه سابقا"فحسب، وإنما كذلك سيحفز مكوناتها ويستنفر عناصرها لتصبح أسهل في التعبئة الإيديولوجية وأسرع في التجييش السياسي.

والحال إذا كان الأمر على هذه الشاكلة من التعقيد والحساسية، كيف يمكننا الحديث عن إمكانية حمل الجماعات المتكارهة والمتصارعة، على خلفية احتقانات الماضي والتباسات التاريخ، (التصالح) مع هذا الكم الهائل من الجروح والآلام النفسية الممضّة، ومن ثم إسقاط هذه التركة الثقيلة في غياهب (النسيان) هكذا ببساطة دون أي ثمن ؟!. وفي إطار البحث عن مخرج يتيح الانعتاق من هذه المتاهة، ربما سؤال يطرح نفسه : ما العمل إذن ؟!، وما هو السبيل أو المدخل الذي يمكن أن يحل لنا هذا اللغز المحيّر وينتشلنا من هذه الدوامات العاصفة ؟!.

الحقيقة أنه لا يمكن الإفلات من هذا (الخانق التاريخي) إلاّ بانتهاج طريق واحد صعب ومكلف، ولكن لا بديل له ولا خيار سواه، وهو اضطلاع كل من ينشد الخلاص من هذه الفواجع المتراكمة والمواجع المتفاقمة، التي لم تبرح تفتك بكل ما يبعث الحياة في كيان العراق والعراقيين من مؤرخين وباحثين وأكاديميين. وذلك بتبني مشروع حضاري شامل لا يستهدف فقط (استحضار) مواريث (الماضي) و(تحيين) سرديات (التاريخ)، بقصد تكرار أحداثها واجترار مضامينها تحت يافطة (إعادة قراءة التاريخ)، كما حصل ويحصل لحدن الآن فحسب. وإنما بغية (تفكيك) منظومات البنى العميقة ونبش طبقات الطمى الراكدة بكل ما فيها من غثّ وسمين، ومن ثم تعريضها لعمليات (نقد) صارم و(تعرية) جذرية لا تستثنى حقل من الحقول المحرمة إلاّ وهتكته، ولا تعفي مضمار من المضامير الممنوعة إلاّ وانتهكته !.

وهكذا، وبعد هذه العملية الجريئة والاقتحامية - وليس قبلها بالضرورة - الشروع بعمليات (مكاشفة) صريحة و(محاسبة) قاسية لكل ما حوته الذاكرة التاريخية واستبطنه المخيال الجمعي من أحداث (ملفقة) ووقائع (مختلقة)، ساهمت بتدوينها وتكريسها أنظمة سياسية طاغية ومؤسسات دينية فاسدة، بحيث يعاد ترتيب وموضعة تلك الأحداث والوقائع وفقا "لمصادرها الأصلية دون إضافات وسياقاتها الفعلية دون رتوش. هنا وعند هذا المنعطف المفصلي يمكننا الحديث عن أمكانية حصول (مصالحة) مع الماضي، وامتلاك قدرة التعايش مع (النسيان). أما بغير هذا الدرب الوعر والمضني، فلن يكون أمامنا سبيل آخر سوى المزيد من زراعة الخراب الاقتصادي، وحصاد الدمار الاجتماعي، وجني الانحطاط الحضاري.

***

ثامر عباس

 

ماضي مشرق لکن غیر مٶرخ

مقدمة: رغم انني هنا، لست بصدد کتابة 'تأریخ الفلسفة في الفکر والثقافة الکردية' بشکل عام، لکن لابأس اذا عرضت مقدمة وجیزة عن الفلسفة في ربوع کردستان. لعبت الفلسفة الإسلامية بجذورها الیونانیة والایرانیة دورا هاما في كردستان وفي الثقافة الكردية، حيث ظهر العديد من المفكرين والعلماء الذين ساهموا في تطور الفلسفة الإسلامية.

فکان للکرد المشارکة الفعلیة في المسیرة الحضاریة. اذ لعب الكرد دور بارز في المسائل العلمیة، سواء کان العلوم النقلیة أو العقلیة کالفلسفة أو العرفانیة.

فهذه هبة لا تنکر في التأریخ الکردي فحسب، بل في تأریخ "الحضارة الشرقیة-الأسلامیة"‌‌‌‌ أیضا. فما یعرف العلماء والمتنورین الکورد هو المشارکة الفعالة في العصور الذهبیة للتطور الفکري ومسيىرة الترجمة للنصوص وتناول افکار فلسفیة داخل الحضارة الأسلامیة.

حسب ما یراه المٶرخون والدارسون، عندما حضرت الفلسفة وعلم الکلام ابان العصور الوسطی للخلافة الأسلامیة، آوت مناطق کردستان الفلسفة واحتضنت علماء الکلام1. اذ وافد من کافة ارجاء العالم الأسلامي طلاب العلم سواء لتحصیل العلوم النقلیة کانت ام النظریة والعقلیة.

فهذه حقیقة تأریخیة لاتنکر. لکن رغم ذلك لم تتبلور عنها ارضیة فلسفیة مستقلة ومتواصلة. ولم تکن البیئة الثقافیة في وقتها حاضنة جیدة للنشاط الفلسفي البحت، لأن کوردستان، کغیرها من البلاد، (وضعت فارزتين) تأثرت بالعوامل السیاسیة والأنغلاق الثقافي والدیني.

مع ذلك، فالنواة الفلسفیة کانت موجودة فیها لقرون، لکنها بقت خامدة، متبعثرة وغیر منظمة. لكن، بلا شك، ظهرت بین حین وآخر محاولات ملفة للنظر علی ایدي علماء کرد، الا انها تمركزت في مناطق شبه نائية ومنعزلة عن بعضها. لذا ساورد في الصفحات التالیة تفسیر للعوامل والمعوقات الذاتیة والموضوعة التي ادت الی عرقلة السیر الفلسفي في کوردستان.

I- الفلسفة بین الوجود والتواجد

عندما نتحدث عن الفلسفة في کوردستان، غالبا نلاقي اشکالیة نظریة: این الفلاسفة ونتاجاتهم الفلسفیة؟ هل هناك نصوص کي نٶرخ به تأریخ الفلسفة في کوردستان؟ این المدارس الکلامیة والفلسفیة ومن هم روادها؟

رغم ان هذه الأسئلة تبدو في الوهلة الأولی منطقیة وجازمة، لکنها تفتقر الی التمعن والتفحص. فالفلسفة في اشکالها مرست في المدارس العلمیة في کوردستان، ضمن نشاطات ومواد أخری للتدریس. بتعبیر آخر،) لا ینکر وجود الفلسفة، لکن طریقة تواجدها وتداولها بین الدارسین من خلال الکتب وکنشاطات ثقافیة شیء آخر.

اذن، کان للفلسفة وجود في المدارس العلمیة ونوقشت ودرست لدی علماء ومدرسین بشکل مستمر. فهذا الشق الأول للحقیقة. اما الشق الثاني للمسألة، عندما یلح باحث وسائل: لماذا لا نجد اي نص فلسفي ونتاج فکري لأحد العلماء؟

لا نسرع في الإجابة إذا قلنا، یمکن اثبات هذا فقط، عندما نبحث في المخطوطات المتبعثرة هنا وهناك التي تضم نصوص للکرد. إذن، فالجواب نتیجة البحث في المکتبات واماکن أخری.

II- عدم وجود الشيء، یعني ضرورة ایجاده

هل هناك حاجة ام ضرورة الی الفلسفة عندنا مثلا في اقلیم کردستان؟ یبدو السٶال في الظاهر، منطقیا. ولکن فلسفیا، لا یعتبر سؤالا فلسفیا بحتا بالدرجة الاولی.

کما ان طرح مثل هذا السٶال، یبدو عند عرضه ان السائل والمخاطب والمتسائل لدیه خیار ان یختار ما بین الضرورة ام ردها. علاوة علی ذلك، ان هذا السٶال موجه (بکسر الجیم) وان الجواب حاضر مقدما.

لذا، الطرح جدلي وافتراضي اکثر من كونه واقعیا. أي مراوغة کلامیة في شکل سٶال لا غیر. ربما نستند للقاعدة المنطقیة التي تٶکد "بأن عدم حضور الشيء، یعني ضرورة ایجاده کما أن حضور/تواجد الشیء یلغي ضرورة ایجاده."

III-        الفلسفة حلت نفسها  في اللغة

هناك تحدیات تواجه الفلسفة حتی في الغرب والفکر الاوروبي، علی الرغم من ذلك فان الفلسفة حلت نفسها في اللغة والتفکیر السائد. وهو دلیل علی عدم نهایتها، إنما حلولها الکلي في الفکر والثقافة. لأن الفکر الاوروبي، مطبوع بمباديء فلسفیة اولیة في اشکال مختلفة للتفکیر واصبحت جزأ لایتجزأ من النظام الفکري والسیاسي والثقافي وغیره.

لذا وبهذا المعنی، حلت الفلسفة نفسها في الحیاة الثقافیة کلیا. وهذا الاستنتاج لیس بغریب، بل یثبت مصداقیة مقولة هیغل "ان الفکر یصبح واقعا والواقع فکرا". فمن هذا المنظور، لیس هناك حاجة لإیجاد الفسلفة وادعاء ضرورتها.

فالضرورة تأتي عند عدم حضور الشیيء في الواقع، ولکن اذا طبق نفس القاعدة علی الفلسفة، فان وجود الفسلفة لابد منه في الواقع الفکري الحیاتي. لان خلوها توجب ایجادها مرة اخری. کما ان الفلسفة تأخذ أشکالا أخری في ایجاد العلوم والمناسبات الأخری. انها کالجسم الکبیر الذي یتفرع الی أجزاء اخری. التفلسف تسبق العلوم، لکونها ام العلوم وبسطت أسئلة أساسیة وابستمولوجیة في حقل المعرفة والعلم.

IV- التحدیات التي تواجه الفلسفة في اقلیم کوردستان العراق

علی الرغم من أن القاطنين في الاقلیم تمتعوا بنوع من الحریة في غضون ثلاثة عقود من الزمن، إلا هناك عدة اتجاهات دینیة وعقائدیة متزمتة ومجموعات محافظة بسطت نفوذها علی الفضاء الإجتماعي والاعلامي وتخللت في المؤسسات الحکومیة أیضا. وذلك من خلال تهمیش وتشویه الفکر الحر والفلسفة علی السواء. کما أن السلطات تواطئت مع القاعدة الشعبیة لهذه الاتجاهات ووظفتها کحصان طراودة لکبت الرأي المخالف والتفکیر الحر.

لذا، تواجه الفلسفة في الاقلیم تحديات کنقص الموارد البشریة والبنیة التحتیة للتعلیم وضعف الدراسات الأكاديمية المتخصصة. وتواجه أیضا تحديات سياسیة حیث لم یتم قبول الفلسفة کمادة فکریة وانسانیة لها آثار سیاسیة واجتماعیة.

إضافة الی هذه العوامل الموضوعیة، هناك عوامل ذاتية التي ادی الی ارباك الفکر والفهم الفلسفي:

- عرض وتقدیم الفلسفة كموضوع صعب ومعقد مخبأ في بطون الكتب السمیكة الذي لا يفهمها الا الأساتذة الماهرون.

- لقد سيطرت نظرة قمعية على تفكير الأفراد العاديين ذوي الأفكار والمعتقدات الجاهزة التي لا تسمح بالتفكير السليم والاجتهاد الذاتي. وبطبيعة الحال، في وقت من الأوقات، حلت المعتقدات الدينية محل التفكير الحر والمستقل وعودت الناس علی "الكسل الفكري" من خلال إعطائهم وصفة بسيطة: "الإيمان يساوي الخلاص".

- کما إن التكنولوجيا المتقدمة اليوم، المدعومة بعلم آلي موحد وسوق سلع عالمي، قد أدت إلى تقليص الفكر إلى الاستهلاك بدلاً من الانفتاح. لقد حل الطلب على اقتناء السلع محل الأسئلة الخطيرة.

- الخلاف بين المنشغلین بالفلسفة في الاقلیم وعدم اجماعهم على مشروع فلسفي بحت. وللأسف لم يتمكن قسم الفلسفة في جامعة صلاح الدين اربیل، وجامعة رابرین- رانیە والسلیمانیة من التقريب بين الفلاسفة والخبراء والتقوقع في التعلیم الجامعي.

- بالإضافة إلى عدم وجود مجلس أو جمعية فلسفية قادرة على تنظيم المؤتمرات المحلية والدولية.

- عدم وجود صوت أكاديمي محدد للفلسفة في مطبوعة مستقلة يمكن أن تخلق "مكانة" مناسبة للفلسفة في وسائل الإعلام وتنقذ الفلسفة من فخ الجدل.

- وضع سياسي أعمى ووضع ثقافي غير موات جعل الحديث عن الفلسفة في المجال الفكري الكردي مهمة ثانوية.

- إن وضع الفلسفة في الجامعات يتعرض للرفض والتهمیش والی غلق اقسام الفلسفة بشكل مستمر. السبب الرئيسي هو عدم فهم دور الفلسفة باسم الفكر العلمي.

- عدم وجود نظرة ونقاط مشترکة بین الدارسین والمنشغلین بالفلسفة؛ نظرا أن أغلبیة الذین درسوا الفلسفة من الرعیل الاول والثاني، کونهم تخرجوا خارج البلد وتأثروا بالبیئة الفلسفیة الحاضني لها ومدارسها وفلاسفتها. فکل یری ما درسە هو الصواب.

- عدم تدريس الفلسفة في المؤسسات التربوية الا في المرحلة الأدبية وتدرس في نصف المنهج وغالبا تدرس من قبل غیر اخصائین، وأیضا في الاقسام العلمیة والانسانیة في الجامعات.

- عدم تهيء الجو السیاسي والدیني لتلقي الفلسفة ومحاولة إقصائها بذرائع سیاسیة ودینیة کمحرمات فکریة.

- ضعف انخراط أقسام الفلسفة في التكوين الفکري والثقافي العام.

- صعوبة الحصول علی فرصة عمل بعد التخرج من اقسام الفلسفة.

فالمطلوب إذن، هو:

- إعادة الإعتبار لتدریس مادة الفلسفة والتفکیر النقدي في المنظومة التربوية بکافة مراحلها عموما. وهذا مناط بوزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي.

-  تغیر المناهج الدراسیة التي تدعو الی التفتح الفکري والثقافي. لأن الدور البيداغوجي للفلسفة في نشر حرية التفكير، التسامح، التعایش والتعددیة ونبذ الجمود الفکري والتطرف العقائدي. فالفلسفة، بمثابة ردع فکري ومقاومة عقلیة تجاه تفشي الارهاب والتطرف.

- تخصیص خریجی الفلسفة لتدریس مادة الفلسفة.

علی الرغم من التحديات السياسية والأجتماعية التي تواجه الفلسفة والمنشغلین بها بعد عقدین من تأسیس اقسام الفلسفة في الجامعات، إلا أن هناك إرهاصات لتطورها. لکن لابد من توفر المتطلبات الأساسیسة لنموها، کزيادة الوعي الثقافي والنقدي، انتشار في الفلسفة من خلال التعليم والإعلام. کما أنها تحتاج إلى دعم مٶسساتي من الأكاديميا وضمان الحریة الفكرية والإنفتاح.

***

د. نوزاد جمال

......................

د. عماد عبد السلام رٶوف. مراکز ثقافیة مغمورة في کردستان. ص١٥-١٦. موکریان للطباعة والنشر. ٢٠٠٨. ایضا في کتاب آخر لنفس المٶلف: ابراهیم الشهرزوري الکوراني. حیاته وآثاره. ص  ٦-١٤. سلسة اصدارات الجمعیة الثقافیة لکردستان رقم(٤) اربیل ٢٠١٠

 

هناك كثير من نقاط الضعف حول العالم، لكنها لا تدعو الى القلق بحكم صفة التغيير الطبيعية في المجتمع. لكن المقلق هو تأثير الأعراض الجانبية لنقاط الضعف تلك في انسنة الوجود البشري في عالم تقني، رقمي، آلي، وذكي..

من تلك الأعراض الجانبية لنقاط الضعف حول العالم، ميل بعضهم الى اختيار الثقافة الأنسب بدلاً عن الثقافة الأفضل، لأن التطور العلمي والنمو الإقتصادي، وتغير مفهوم علاقة السلطة بالفرد والمجتمع، وظهور شركات واسواق عابرة للحدود الجغرافية والقومية واللغة، جميعها تدفع بإتجاه تشكيل أفكار الناس وانماط معيشتهم في ضوء ما يخدم حركة حياتهم المعتادة، بحيث لا يجدون ضرورة ملحة تدعوهم للتمسك بمعايير وأخلاقيات وتشريعات متوارثة ومتعارف عليها. بل لعلهم يجدون ما يسوغون به عدم التزامهم او عدم تمسكهم بتلك المعايير..

العوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والدينية والثقافية تؤدي دوراً ملحوظاً في تشكيل صيغة العلاقة بين الفرد وبين محيطه بكل مكوناته من طبيعة وافراد وسلع وأفكار، فكانت حزمة الاخلاق والعاطفة والطيبة والالتزام الأدبي والالتزام الديني، فضلاً عن الطابع الإنساني الفطري الذي يطبع علاقة الفرد بالآخرين، تؤثر في علاقة الفرد بحاجاته وممتلكاته، فقد كانت السلعة التي يستهلكها تحظى بقدر اكبر من مجرد كونها سلعة، لتغدو جزءاً مرناً وحيّاَ في حياة الشخص. كان الفرد يحتفظ بالسلعة حتى بعد انتهاء صلاحيتها للعمل الذي أعدت لأجله، لأنها تحولت الى جزء من ذاكرته وذائقته. لم يعد هذا الجو يشكل اليوم بيئة ملائمة بعد ان شغلت المادة والحاجة مساحة اكبر في علاقة الفرد بمحيطه من مساحة العاطفة والذائقة..

انسحب هذا على علاقة الشخص بدينه وتراثه وثقافته، حيث أخذت هذه العلاقة فهماً إجتماعياً آنياً يعتمد لغة التبرير عوضاً عن لغة التفكير، فما وافق هوى النفس ومتطلبات المرحلة الحياتية إقتصادياً وإجتماعياً، كان أولى بالقبول وان تقاطع هذا القبول مع منظومة الأعراف والشرائع والعادات والأخلاق..

التطور العلمي المتسارع:

التسارع هو ميزة التطور العلمي في القرن الواحد والعشرين. وقد.

وظف النظام السياسي العالمي الجديد هذه التقنية المتطورة في توجيه انظار الأفراد الى مجتمعاتهم من الداخل، بعد ان حفز فيهم فكرة التطوير والتغيير من خلال المساحة الكبيرة التي هيأتها عالمية استخدام التقنية الرقمية لحرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاختيار، فظهرت في المجتمعات محاولات جريئة لايجاد فرص تغيير مستحدثة لا تتورع احياناً في تجاوز بعض ثوابت المجتمع من اخلاق وثقافة ودين، هكذا تبدأ عملية تفكيك اي مجتمع لإعادة بنائه على وفق أجندات عالمية تأخذ بعين الإعتبار مصالح المشاريع الكبرى لسياسات الإقتصاد الصناعي الثقافي العالمي، التي كثيراً ما تتقاطع مع ثوابت المجتمع العربي، خصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة الانسان بالدين.  فالنظام العالمي الجديد هو نظام سياسي، علمي، رقمي، اقتصادي، وتجاري. يستثمر في مجالات الحياة المادية وحتى الثقافية منها. ولكي لا تؤثر نقاط تقاطع اهداف المصالح الكبرى مع ثوابت المجتمع، فقد وُظفت تقنية العصر في تقديم عروض الكترونية فيها من الغرابة ومن التشويق ومن الخروج على المألوف ومن التزييف ما يشد الانتباه..

هناك ملايين من الإعجابات الوهمية التي تنتجها صفحات وهمية وحسابات وهمية على الفيسبوك مثلاً. كثيراً ما تستهدف هذه الإعجابات شرائح معينة في المجتمع وخصوصاً الشباب ومحدودي الوعي وقليلي الخبرة و..، وكثيراً ما تكون مدفوعة الثمن من اجل انتاج اخبار كاذبة ومعلومات مزيفة، هدفها تغييب وعي الفرد أو اثارته عقائدياً أو عشائرياً أو ثقافياً. فهي تنفذ من خلال هذه الإثارة وذاك التشويق لتمرير صور ومقاطع فديو ونشرات وعبارات لا يراد لها ان تؤتي أكلها آنياً بقدر ما يراد لها ان تطرح ثماراً مهجنة ومدجنة بمرور الوقت. منها مثلاً  إضافة مقطع صوتي لإنشودة وطنية عربية على مقطع فديو يظهر عدداً من الفتيات الجميلات وهن يستعرضن بملابس مثيرة  !! ومنها أيضاً مقطع فديو يظهر فيه عدد من النساء المتبرجات في نادي ثقافي او كافتريا عائلية وهن يحتسين القهوة في صالة النادي على صوت انشودة دينية !!..

المستقبل ليس قدراً ينتظرنا، أو ننتظره. المستقبل اختيار نصنعه نحن في حاضرنا. فإذا ما علمنا ان الجيل الجديد اليوم هو اكثر دراية بمصادر التكنلوجيا واقل دراية بمنابع المعرفة الرئيسة. واذا ما علمان ان من حقه أيضاً ان يفهم الحرية فهماً يناسب عصره. فإن من حق هذا الجيل علينا ان نحافظ له على المواد الأولية الأساسية اللازمة لإنتاج فهم صحيح للحرية بحكم الخبرة والحكمة والمعرفة  والمسؤولية الثقافية، وإلا كنا سبباً في حمل ابنائنا على صناعة حرية قد تشكل خطراً على سلامة حياتهم..

إننا بحاجة اليوم الى استخدام العلم الحديث في إعادة النظر الى الماضي من أجل إعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بشكل يجعلنا متواصلين مع ذلك الماضي، لا بمعنى ان نعيش حاضرنا بجلباب الماضي ولكن بمعنى الامتداد الحي الذي يغذينا ليكون لنا بصمتنا المعاصرة في صناعة ثقافتنا. فمن دواعي التجديد، استخدام أدوات العصر الحديثة في إعادة النظر الى الموروث القديم من افكار وعادات واعتقادات.  فمن حق الجيل الجديد ان يعيد طرح الاسئلة القديمة بلغة عصره الجديدة، ومن حقه على الثقافة المعاصرة ان لا تقابل استفهاماته بالتعجب او بالاستغراب او بالاستهجان، كما ان من حق ثقافة التراث على الجيل الجديد ان ينطلق في استفهاماته من باب التوثيق لا من باب التلفيق، لكي لا تدخل الثقافة في فوضى تنتهي فيها كقوة حيوية فاعلة قادرة على إعادة تنظيم طريقة حياة المجتمع. من تلك الإستفهامات التي تواجهها الثقافة العربية المعاصرة اليوم : ما مدى حاجتنا الى الدين في عصر يتولى فيه الذكاء الاصطناعي تقديم حلول لمشاكلنا، وتقديم اجوبة مقنعة لتساؤلاتنا.؟.

هل لا يزال بوسعنا كمسلمين معاصرين ان نواكب حضارة الغرب الرقمية الذكية بطقوسنا وشعائرنا الدينية؟.

هل تسهم ثقافة العمل الاقتصادي والتجاري وتبادل الخبرات الفنية والعلمية والثقافية مع بلدان العالم المتقدم، في تغريب الثقافة العربية والخروج من الدين في واقع حياتنا الاجتماعية الجديدة  ؟.

المزاج الرسمي:

في البلدان التي يتحكم فيها المزاج الرسمي في صناعة قوانين تخدم التسلط السياسي والإداري للأنظمة الحاكمة على حساب العدالة الإجتماعية. يحتاج الفرد الى قوة يحتمي بها من تداعيات هذا المزاج الرسمي، وفي مجتمعاتنا العربية يمثل الدين القوة الأفضل التي يحتاجها الفرد للتمسك بها مقابل تمسك السلطة بقوة السلاح وسطوة القانون، فالدين يمثل قوة صديقة، نظيفة، وآمنة يظمأ لها العربي المسلم كي يروي بها خوفه من السلطة..

يقول الفيلسوف الامريكي المخضرم بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وليام جيمس) : (ان جوهر الديانة هو الإيمان بالبقاء وان هذا البقاء مرهون بوجود قوة صديقة للانسان وراء الظواهر الكونية او المادة العمياء)..

تدري السلطة الحاكمة بنظافة قوة الدين وتدري بمدى قوة علاقة الفرد بالدين، وعلاقة المجتمع بالدين، لذا دعمت حضور هذه القوة في المجتمع ووظفت وعاظها ليكونوا حلقة إتصالها بالناس، واحلت فكرة العبودية محل العبادة، وروجت لها على السنة اولئك الوعاظ، لأن عبادة العبيد هي الفكرة الأنسب لاهداف العقل السياسي المتسلط في المجتمع الديني. ولأن فرض الأمن من متطلبات ديمومة التسلط، فقد وظفت السلطة الحاكمة دعوات الدين الى حفظ الأموال والأنفس والحقوق في جانب عبادة العبيد، لا في جانب عبادة الأحرار. فأمرت وعاظها بأن يتحدثوا الى الناس عن الحاكم المسلم. خليفة الله في الارض وأمير المؤمنين واوجبت طاعته. وعدّت من ينادي بعبادة الأحرار معارضاً لها، واتهمته بإخلال الامن وبالإضرار بالمصلحة العامة واتهمته أيضاَ بازعاج السلطات وانتهاك القوانين. هكذا تم اعتقال كثير من المفكرين الأحرار والمصلحين الثوار وغيّب جوهر الدين، وبمرور الوقت أخذ دين السلطة الحاكمة مكانة الدين الذي (وصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون ) سورة البقرة الآية 132..  وفقد المجتمع العربي المسلم المعاصر قدرته على صناعة حضارة كان قد صنعها أجدادهم من قبل. واقتصرت علاقة كثير من الناس بالدين، على طقوس يشعرون وهم يؤدونها انهم في مأمن من مزاج السلطة الحاكمة، وقوى الشر الناتجة عن فشل قوانين الدولة في جعل العدالة الإجتماعية ايقونتها المعاصرة. وليس ادل على ذلك من كثرة حالات العنف الأسري وجرائم القتل وحالات الانتحار وحالات التنمر والمحتويات الهابطة وعمليات الابتزاز والسرقة و.. و... تكمن المشكلة في الخلل الواضح في قدرة تفكير العقل السياسي العربي إزاء ثلاثية العدالة والمحكمة والشارع مثلاً. فالمحكمة هي مكان تحقيق العدالة، بينما الشارع هو مكان تطبيق هذه العدالة. وما من مواطن عربي إلا ويدرك هذا الخلل. إذ ان هناك واقع منحرف في هيكلية الجهات المتنفذة سواء بشكل رسمي او بشكل خاص..

ان تحول العربي المسلم سياسياً من مرحلة السلطة الظالمة والدكتاتورية في بعض البلدان مثل العراق حيث الخوف، الى مرحلة السلطة الفاشلة حيث القلق في العقود الأخيرة، قد تسبب في انتقال التفكير من حالة التخوف من الحركة الى حالة اضطراب الحركة، وبدخول مفهوم الحرية على موجات البث الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، يكون الفرد العربي قد دخل الى مرحلة اللاادرية الثقافية. ومثلما هيأت وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الانترنت مساحة حرة للتفكير. كذلك كان للتكفير مساحته المخيفة..

من هنا انطلق بعض المثقفين المعاصرين باتجاه اتهام الدين بتأخر المجتمع. ومنهم من اتهم السياسة في ذلك.  منهم من دعا الى ضرورة تهميش الدين في الدولة والمجتمع وجعل الطقوس الدينية حق فردي يمارسه الشخص داخل بيته وليس له هذا الحق في الشارع. منهم من دعا الى الخروج من الدين كونه لم يعد قادراً على انتاج حضارة، وان لا حاجة الى الدين في عصر العلم الحديث والتقنية المتطورة والذكاء الإصطناعي الذي بات قادراً على تقديم اجابات عن مختلف الأسئلة التي يحتاجها الانسان المعاصر..

بدون ظهور آلية ثقافية جديدة معنية بتحقيق أجواء الإستقرار النفسي والعاطفي والعقلي لشخصية الفرد المعاصر في وقت تعمل فيه مشاريع عالمية على الإستثمار في الدين والثقافة، فإن الدين سيعود غريباً كما بدأ...

***

د. عدي عدنان البلداوي

قلّة في عالم الجنوب ظلّت في مأمن من "غواية الغرب"، ولو رمنا توصيف هذه الغواية بشكليها الطوعي والقسري، لقلنا هي وصفة محكمة من الاستلاب والاستمراء. تنبّهَ جملة من المفكرين الكبار، ممّن عملوا على تفكيك هذه الظاهرة في حدود الموضوعية العلمية، إلى ضرورة فهمها والتوقّي من آثارها. منهم الراحل حسن حنفي، والمفكر نعوم تشومسكي، وعالم الاجتماع شموئيل نوح إيزنستادت. في كتاب من تأليف الإيطالي ماسيمو كامبانيني حوْل المفكر المصري حنفي، اعتبر أنّ علاقة العرب المضطربة بالغرب، تعود في شقّ واسع منها إلى عدم التناصت. لاختلاف "الطبقات الفهمية" على غرار تنافر "الطبقات الصوتية"، وكأنّ هناك تفاوتا في التسامع يصدّ عن الإصغاء السويّ. وأنّ العرب ليس أمامهم سوى تطوير نظر علمي، بحسب ما دعا إليه حنفي في "مقدمة في علم الاستغراب"، للفوز بتخاطب سوي مع الغرب، والخروج من ثنائية الغواية المضلّلة والكره الأعمى.

وأمّا مع تشومسكي الذي قضى ردحا من حياته ولا يزال في مقارعة سطوة الغرب على العالم، فهو يدعو إلى تحرير الوعي الجمعي من ضلالاته، بهدف التحرر من بطاركة العالم، ولهذا عدَّ نزع تلك الغشاوة بمثابة العمل العلمي الموازي لاهتماماته الألسنية. فكلاهما يسير قدما لترسيخ منظور موضوعي مجرّد لما يحفّ بالإنسان من ظواهر. في حين مع عالم الاجتماع شموئيل إيزنستادت فقد جاءت النظرة من باب مراجعة مفهوم الحداثة الغربية المحوري، بهدف التحرر من ذلك الإغواء الآسر. فلطالما ساد النظر إلى الحداثة بمثابة "الحاوِية المعبَّأة"، وأن المجتمعات التوّاقة إلى هذا المغنم، لا مناص لها من القبول بالحمولة كلّها. وهو ادّعاء ساد على مدى عقود طويلة في النظر إلى هذا المنجَز البشري، وخلّفَ أنواعا شتى من الاستلاب. كشف إيزنستادت زيف هذا الفهم الأحادي للحداثة، وما ينطوي عليه من تجنٍّ بصهْرِ الحضارات في بوتقة الحضارة الغربية، وعمِل على إدراج تحوير جذريٍّ بطرح مقولةِ "الحداثات المتعدِّدة"، في مقابل الحداثة الوحيدة. فعالَم متعدِّدٌ هو أحوج ما يكون إلى فهْمٍ متعدِّدٍ، هكذا راعى إيزنستادت ديناميات التعدّد، ومن ثَمّ إمكان أن تبنيَ تكتلات حضارية جنوبية حداثتها من داخل أنماطها الخاصة، بعيدا عن الخيارات القسرية الواحدة.

فالإشكال الذي نعيشه مع "غواية الغرب" وسحره، أن الأمر يتمكّن من شرائح واسعة في مراحل مبكرة، فيطمس إحساسها الفطري ويفتكُ بمقدّراتها الذهنية، لفقدان المضادات الحيوية التي تحدّ من انتشار بريقه الخادع. فالانبهار داء مستفحل، في الشارع والجامعة، وفي اللغة والفرجة، ولدى المثقفين والأمّيين على حد سواء، بشكل يدعو للدهشة. قبل مغادرتي البلاد العربية، أي منذ زهاء ثلاثة عقود، لما كنت أتّقد حماسا للتغيير والتجديد، لا أزعم أني كنت معافى من هذه الغواية. فقد كانت البوصلة متجهة صوب الغرب، كان الآخر -أقصد الغرب- هو النعيم بالنسبة إليّ، وكان يصعب أن أرى بعين الشاب الغضّ ما أراه اليوم بعين تطلّ على الستين. والمسألة ليست أن يصير المرء طاعنا في السن حتى يصحو، بل هي المعايشة والتجربة لمن تيسر له ذلك والعلموية في النظر للأشياء لمن عازه التواصل المباشر. فعملية الصحو، أو لنقل التطهر، تشبه الدخول إلى مغطس، فيه التداوي بالذي كان هو الداء، أي بالغرب ذاته، بالانغماس فيه بحلوه ومرّه، والعيش في تجاويفه وفهم روحه.

فما معنى أن يزحف ألوف البشر نحو الغرب وهم يمنّون النفس بما يشبه جنة الخلد يدفعهم الإغراء والإغواء؟ ليجدوا أنفسهم يتكدّسون في الشوارع والمحطات، وحول الكنائس ودور المساعدات كالسردين، ولا يعود صدى مذلّتهم وحسرتهم إلى الديار. إنها غواية الفراش حول النار التي تغدو جزءا من تكوينه الغريزي وممّا يؤجج إغواء الآخرين، ممن يصرّون على غيّهم. فليس إغواء الغرب مزاج شبيبة متنطّعة، كما نفسّر الأمر عادة، بل هو نتاج وعي مقلوب، غالبا ما تشيعه شرائح مهزوزة تعلو المنابر، يُفترض أنها واعية وتملك من التمحيص والتمييز الكافيين لفرز الغثّ من السمين. فـ "الأجداد يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" بحسب المقول التوراتي. ولعلّ الإشكال كامن في التعاطي مع ما يصدر من الغرب بنفسية خائرة، تتراجع فيها النباهة المطلوبة، ويجري استبدالها بما يشبه التصديق الساذج، وهي حالة نفسية تشبه حالة المأسور النفسي.

في كتاب مهمّ للأنثروبولوجي الفرنسي جان-لو آمسال بعنوان "إسلام الأفارقة.. الخيار الصوفي" (2018)، يرصد فيه مساعي حازمة من قِبل أطراف أكاديمية غربية لإبعاد شعوب جنوب الصحراء عن حاضنتهم المغاربية، وفك أواصر الصلة بين تومبكتو وفاس والقيروان والزيتونة. ومحاولة قطع طريق التواصل الضارب في عمق التاريخ بين تلك الحواضر، وذلك بالعمل على اختلاق ما يُشْبه الهوية "الإفريقية الزنجية" في مقابل الهوية "الإفريقية المغاربية". وكما يشرح جان-لو آمسال عادة ما يُعرَض "المخزون الحضاري الأسود" في مقابل "المخزون المغاربي" و"المخزون الشرق أوسطي" و"المخزون الخليجي"، وهي محاولة لفصل المخزون الإفريقي عن مجاله الطبيعي. يبيّن آمسال أن مدرسة مرسال غريول الأنثروبولوجية قد لعبت دورا حاسما في هذا الشرخ، إلى حدّ أنها حولت اللّغةَ العربية في غرب إفريقيا إلى بلوى حضارية، أضحى معها الحرف العربي، في لغات بلدان ما وراء الصحراء، حرفًا لكتابة التمائم والطلاسم والرُّقى والتعاويذ، مما أضفى على العربية عنوان التخلّف والجمود.

لماذا أوردنا هذا الحديث بشأن محاولات زعزعة المكون الحضاري الإفريقي؟ نقول ذلك لأن غواية الغرب قد بدأت مع تفكيك إيمان الأفارقة بذواتهم وأن لهم رصيدا جامعا، يستظلون بظلّه في الأيام العصيبة. في حين مع غياب ذلك الرصيد، أو في حال طمسه، فمن السهل تمرير الأساطير والأخاييل في الوعي الجمعي والثقافة الهشة، فتمسي المعيارية الغربية الأكثر حضورا في الهشيم الثقافي.

السؤال المطروح هو ما العمل أمام غواية الغرب؟ فالملاحظ أن جملة من الأراجيف تسري في عالم الجنوب، بأن الغرب حاضن المثقفين والدارسين والمبدعين الوافدين من عالم الجنوب. فكم من فلاسفة جاءوا إلى الغرب من شرق أوروبا، مع انهيار جدار برلين، صاروا عمال حضائر وصنّاع بيتزا؟ وكم من شعراء وفدوا من المشرق قضوا حياتهم حراسا في العمارات السكنية، لتُقبَر معهم أحلام الفكر والثقافة إلى الأبد؟ ليس لأن الغرب يسدّ الأبواب أمامهم، ولكن لأن هناك بنية ثقافية حضارية تعليمية ينبغي على الوافد امتلاكها وهي ليست بالأمر الهين.

الشاعر الإريتري الإيطالي حميد بارولي عبدو في كتاب بعنوان "سيرة الامتنان" (2023)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل خلاصة تجربة في العمل في مجال الهجرة والمهاجرين في إيطاليا، اعتبر أن المتاجرة بالمهاجرين في بلد الرحيل وبلد النزول هي عبودية جديدة. ومن ضمن ما يورده في الكتاب حديث حول ما يعرف اليوم بـ "النسوية الإسلامية" والتحمس المفرط لها في إيطاليا -وكأن المرأة الإيطالية التي نالت حق الطلاق (1970) وحق الإجهاض (1978) سباقة في هذا المجال. يكشف أن الجمعيات النسوية "المدافعة" عن المرأة العربية، ضحية "الذكورية العربية المفرطة"،كما تصوَّر، تجني من كل حالة تفكيك أسري (طلاق) 2000 يورو، وفي الوجه الآخر من الميدالية -على ما يورد بارولي عبدو- تجد المرأة العربية المهاجرة الأكثر دحرا في سوق الشغل ومعاناة من البطالة القسرية.

ما يتبين جليا أننا كثيرا ما نصنع الأساطير حول الغرب ونقع ضحية لها، والنجاة هو في تفكيك الأساطير والنظر للأمور بواقعية.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

يركز خطاب التضخيم في السرديات التاريخية على شخصيات معينة، ويُضفي عليها طابعًا أسطوريًا. يساعد هذا في خلق صورة قوية في أذهان الناس، مما يجعل بعض الاشخاص جزءًا من الهوية الجماعية، خطاب التضخيم يعيد تفسير الأحداث التاريخية بطريقة تدعم الأجندات الحالية، مما يساعد في تشكيل الوعي الجمعي بناءً على روايات مُعينة بدلاً من الحقائق الموضوعية ويساعد في إعادة تشكيل التاريخ بما يتناسب مع الاحتياجات الإيديولوجية للجماعات الحاكمة، ان مبالغة السرديات التاريخية في إنجازات بعض الأفراد أو المجموعات بناء على شكليات الجسد، يؤدي إلى تصوير غير دقيق للحقائق. هذه المبالغات تُستند على تفسيرات غير علمية تعوق الفهم الدقيق، حيث تحتوي على الكثير من عناصر المبالغة الشكلية في الأساطير، التوفيق بين دور السرديات في بناء الهوية ودقتها العلمية يتطلب منهجية متوازنة تأخذ في الاعتبار العناصر الثقافية والتاريخية دون التضحية بالدقة العلمية، بالتالي يجب أن يكون هناك تحليل نقدي للسرديات التاريخية لفهم السياق الذي نشأت فيه وفهم كيف تؤثر السرديات على الهوية.

دور السرديات التاريخية في تشكيل الهوية

لم يقتصر دور السرديات على العلوم الاجتماعية فقط، بل امتد أيضًا إلى النظريات العلمية ،تستخدم السرديات لتشكيل الهوية المجتمعية، مما يساعد في فهم الظواهر الاجتماعية والسلوكية للجماعات ،كما تُستخدم السرديات لشرح الأحداث التاريخية وتأثيرها على المجتمعات ،بعض السرديات العلمية تؤثر في كيفية تطوير الأفكار والنظريات في مجالات متعددة، مما يُظهر تداخل العلوم الطبيعية والاجتماعية ،كما تساعد السرديات في تبسيط النظريات العلمية المعقدة، مما يجعلها أكثر فهمًا للجمهور العام ، دور السرديات يمتد إلى كلا المجالين، حيث تُستخدم في العلوم الاجتماعية لبناء الهوية وفي النظريات العلمية لتفسير الظواهر وتعزيز الفهم.

العماليق في السرديات التاريخية

ظهور مجموعات بشرية او افراد في السرديات القديمة (عماليق) لا تتوافق مع طبيعة الحياة، بعض السرديات تتحدث عن عمالقة أو كائنات ضخمة غالبًا ما تُعتبر أسطورية أو رمزية، الكثير من هذه السرديات نشأت في سياقات ثقافية ودينية كوسيلة لتفسير الظواهر الطبيعية أو الأحداث التاريخية وليست بالضرورة تعبر عن حقائق علمية، اذ لا توجد أدلة علمية قوية تدعم وجود عمالقة كما هو موصوف في السرديات. الدراسات الأثرية والبيولوجية لا تشير إلى وجود كائنات بهذا الحجم، في بعض الأحيان يُستخدم مفهوم العمالقة للتعبير عن قوى أو أحداث تاريخية خارقة، وليس ككائنات حقيقية. يرمز مفهوم العمالقة إلى القوة والتصدي للتحديات الكبرى، رغم وجود كائنات كبيرة في الطبيعة، مثل الديناصورات، فإنها لا تتوافق مع أوصاف العمالقة في السرديات. الحياة على الأرض تتبع قوانين بيولوجية محددة، تتوافق سرديات العمالقة مع الجوانب الثقافية والرمزية أكثر من توافقها مع الحقائق العلمية كما تعتبر هذه السرديات جزءًا من التراث الثقافي، لكنها لا تعكس واقع الحياة البيولوجية المعروفة.

التفسير العلمي

هناك تفسيرات علمية بديلة لأصل الأساطير المتعلقة بالعمالقة ولكائنات ضخمة  بعض الأساطير قد تكون تحريفًا لأحداث تاريخية حقيقية، حيث تم تضخيمها بمرور الزمن لتصبح أساطير عن عمالقة ،قد تُعزى بعض الأساطير إلى اكتشاف بقايا عظام كبيرة من الديناصورات أو كائنات قديمة، والتي تم تفسيرها بشكل خاطئ كعظام لعمالقة، يمكن أن تؤدي التغيرات المناخية إلى ظهور كائنات كبيرة في العصور القديمة، مما يمكن أن يُفسر في الأساطير على أنه كائنات ضخمة ، تمثل الأساطير عن العمالقة الخوف من القوى الطبيعية أو التحديات الكبيرة، مما يعكس عمق الصراعات الإنسانية ،أحيانا تستخدم التضخيم كعناصر الدرامية مثل العمالقة لجذب الانتباه أو تعزيز قيمة القصة، مما يسهم في انتشار هذه الأساطير ،تقدم التفسيرات العلمية البديلة رؤى متعددة حول أصل أساطير العمالقة، مما يساعد في فهم كيفية تطور هذه القصص عبر الزمن وتأثيرها على الثقافات المختلفة.

الروابط بين اساطير الشرق الاوسط

هناك روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط، خاصة بين الحضارات المختلفة.  ساهمت طرق التجارة والهجرة في تبادل الأفكار والمعتقدات بين الحضارات، مما أثرى الأساطير وأساليب السرد ، تتقاسم الأساطير مفاهيم الحياة، الموت، والبعث، مما يعكس تجارب الإنسان المشتركة بعض الأساطير قد تم تعديلها أو إعادة صياغتها في حضارات مختلفة، مما يدل على التأثير المتبادل ،بعض النصوص القديمة تحتوي على إشارات إلى أساطير متعددة، مما يُظهر كيف كانت هذه الثقافات تتفاعل وتتأثر ببعضها البعض وتُظهر روابط وتأثيرات متبادلة بين الأساطير في الشرق الأوسط وكيف أن الثقافات المختلفة كانت تتشارك في الأفكار والمعتقدات، مما ساهم في تشكيل أساطير التضخيم الغنية والمعقدة.

التحليل الفلسفي لهذه السرديات

التحليل الفلسفي لسرديات العمالقة التاريخية يتناول كيفية تشكيل هذه السرديات لوعي المجتمعات وتاريخها. تستند سرديات العمالقة غالبًا إلى مزيج من الأسطورة والحقائق التاريخية. يتم استخدام الأبطال العمالقة كرموز للقوة والصمود، حيث تُعتبر تجسيدًا لقيم الشجاعة والكرامة، يمثل العمالقة في بعض الأحيان التحديات الكبرى التي تواجهها المجتمعات. كما يُنظر للعماليق كرموز امل في النضال من اجل التحرر المستقبلي (اسطورة المخلص) حيث من خلال سرديات العمالقة يمكن تغيير المعايير عبر الزمن، ويتيح فهمًا أعمق لتطور الفكر، يمكن أن تُخضع هذه السرديات لنقد فلسفي، حيث يُنظر إليها كأدوات لصياغة الروايات التاريخية، مما يتطلب التمييز بين الحقيقة والخيال، تقدم سرديات العمالقة التاريخية فرصة لفهم عميق للتفاعل بين الفلسفة، التاريخ.

مقاربة التحليل النفسي والفلسفي

تختلف مقاربة التحليل النفسي للسرديات التاريخية حول العماليق عن المقاربة الفلسفية في عدة جوانب رئيسية، التحليل النفسي يركز على الدوافع النفسية، اللاوعي، والصراعات الداخلية للشخصيات في السرديات، يسعى لفهم كيف تعكس هذه السرديات احتياجات ورغبات الأفراد والمجتمعات. المقاربة الفلسفية تركز على القيم، المبادئ، والمعاني تبحث في الأسئلة الوجودية والأخلاقية، بينما يركز التحليل النفسي على الجوانب النفسية والدوافع الفردية. سرديات العمالقة تؤثر بشكل كبير في العقل الإنساني الا انها يمكن أن تؤدي إلى عدة آثار سلبية، هذه السرديات تعزز من الأساطير والخرافات، مما يعوق الفهم العلمي والتاريخي للواقع ،ويمكن أن تؤدي هذا إلى تشويه الحقائق التاريخية ويؤثر على دراسة التاريخ بشكل موضوعي كما تقلل من أهمية الأحداث الحقيقية، تُستخدم سرديات العمالقة كأدوات لتبرير السلوكيات الاجتماعية والسياسية، مثل التمييز أو الهيمنة، مما يعزز من النزعات الاستبدادية، تعزيز هذه السرديات ما يمكن أن يؤدي إلى تكوين هويات زائفة قائمة على أسس غير موضوعية ومنها شكلاني ،الجسد مقابل قوة العقل، مما يخلق انقسامات اجتماعية، التركيز على شخصيات خارقة يُشعر الأفراد بأن النجاح يعتمد على قوى ميتافيزيقية خارقة، وليس على الجهد الفردي أو الجماعي، مما يقلل من الدافع لتحقيق الأهداف ، تؤدي هذه السرديات إلى انفصال الأفراد عن واقعهم، مما يزيد مشاعر الاغتراب وعدم الانتماء ، يصاب الأفراد بمشاعر الإحباط أو عدم الكفاءة إذا تم مقارنة أنفسهم بشخصيات أسطورية، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية ،بالتالي  يتضح ان استمرار سرديات العمالقة يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية متعددة تؤثر على الفكر والثقافة والمجتمع بشكل عام ،حيث  تناولت هذه السرديات مسألة الإرادة الحرة مقابل القدر، لكنها اثارت تساؤلات حول مدى تحكم الإنسان في مصيره ، مما فتح المجال لمناقشة القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية، تقدم سرديات العماليق الأسطورية إطارًا غنيًا للتحليل النفسي والفلسفي، حيث تعكس القضايا الوجودية والأخلاقية والإنسانية العميقة التي لا تزال تتردد كالصدى في الفكر المعاصر.

***

غالب المسعودي

ذلك الشغف الفرنسي بالرونق، والالتزام بالارتقاء بمبادئ وقيم البشرية في قرن لويس الخامس عشر، ذلك البريق المشع في عصر ڤولتير وروسو، هو ما غيّر فكر نيتشه وجعل منه فيلسوفًا ألمانيًا بنكهة فرنسية.

لا يمكن للمرء أن يتكهن، إجمالاً، بما قد يصيبه عندما يقرأ كتابًا ما، خصوصًا حين تصبح قابليته الفكرية مندمجة مع حاضره الملعون. تلك الرغبة في التحرر من المذهب المثالي الألماني ونمطه الحديدي، أرهقت كاهل نيتشه إلى درجة تمجيده لدقة المفكرين والمثقفين الفرنسيين في تحليل الوضع البشري، من دولا روشفوكو و مونتين وحتى باسكال رغم نقده لمسحيته، لكنه لطالما أعجب بعمقه النفسي ونمطه المتأني في إخلاصه للرقي بالنفس البشرية، بدل الخوض في دهاليز الأفكار المعقدة واللاإنسانية.

بل إنه صرّح في غسق الأوثان أنه تلميذ القرن السابع عشر من الفلسفة الفرنسية، وأن له قواسم مشتركة مع المفكرين الفرنسيين أكثر مما له مع أبناء جلدته الألمان. ولعل تلك الأسطر التي مجّد فيها شك مونتين ورغبة هذا الأخير في نقد السلطة والقمع والرهبنة الكنسية، هي التي دفعت نيتشه إلى جلد نظام الأخلاق الذي وضعته الكنيسة، بوصفه أخلاق العبيد والضعفاء.

فريدريش حذّر بكل ما أوتي من قوة من الثقافة الألمانية، التي رأى فيها ترفّعًا سلطويًا على البشرية بأسرها، ووصف الثقافة الفرنسية كبوابة للانفتاح على العالم.

لطالما تساءلتُ: لماذا كان لنيتشه أسلوب كتابة شاعري، كشظايا نارية تحصد الأخضر واليابس؟

فبعد اطلاعي على جل المفكرين الفرنسيين و قراءتي لكتب نيتشه، فهمت وبعمق من أين استوحى فريدريش نمطه: مزجٌ بين شاعرية فرنسية وقوة ألمانية جارفة.

بل إن تأثير ستاندال وفرانس أناتول كان واضحًا بين أسطره.

وبذلك استطاع تكوين فلسفة متحررة من ثقل الميتافيزيقا، التي كانت تُهيمن على الفكر الألماني بعد كانط وهيغل.

جاءهم نيتشه بمصباح ومطرقة، ليبدأ عمله التدميري من أجل إعادة بناء شاكلة جديدة من الفكر الأوروبي: فلسفة حيّة، حرّة، ومتفردة، تقطع الطريق على توهان الألمان وتعصبيتهم، وتفتح السبيل نحو تكوين نموذج جديد للإنسان الأعلى.

***-

حبيب مركة

 

لا أجازف لو قلت إن مانويل كاستلز، عالم الاجتماع الإسباني، هو أبرز مَن درَسَ التأثير العميق للإنترنت على حياة المجتمعات ومصادر عيشها، فضلاً عن تحول علاقة الأفراد بالسلطة السياسية. في عام 1989، أصدر كتاب «المدينة المعلوماتية»، وتلاه بكتاب «عصر المعلومات» من ثلاثة أجزاء، صدر أولها في عام 1996، وتمحور -كسابقه- حول صيرورة شبكة الإنترنت محوراً للحياة اليومية، ذاتيّ التوسع، وعابراً للحدود والحواجز الثقافية.

في عام 1996، كانت شبكة الإنترنت متوفرة في بلدان قليلة، ولم تكن قد اتصلت بالهواتف النقالة، كحالها اليوم. ولذا فإن الحديث عن تحولات عميقة في المجتمع والثقافة والاقتصاد، وتحوُّل الهوية الفردية والجمعية، لم يخلُ من مجازفة، لولا أن المتحدث، البروفسور كاستلز، كان قادراً على كشف مسارات التحول ومستوياته. وأعتقد أنه أدرك مبكراً منطق التحول الاجتماعي، لا سيما تراجع رأس المال لصالح البيانات الضخمة السريعة. ولعل ميوله الماركسية سهَّلت عليه التحرر من هيمنة الفكرة القائلة بمحورية رأس المال في أي نشاط حيوي.

أهم المحاور التي عالجها كاستلز هي:

1- في هذه الأيام، تمثل المعلومات قطبَي الرَّحَى التي تدور حولها الحياة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية. في الماضي، كان المال والأشخاص، خصوصاً المديرين والقادة والمستثمرين، قادة النشاط الحياتي في المجتمع. أما بعد ثورة المعلومات، فقد بات المال والنفوذ في يد المسيطرين على مصادر المعلومات أو المؤثرين على نشاط الشبكة. ضخامة المعلومات وسرعة الوصول إليها، والقدرة على فرزها وتحويلها إلى أرضية للقرار، سهَّلت تحويل الفكرة إلى ثروة، كما يسَّرت انتقاء المعلومات وتحديد الاتجاه الذي تسير فيه، حتى لحظة وصولها إلى المتلقي. إن اختيار وتوجيه المعلومات هما العامل الأهم في تحديد وجهة القرار. وقد بات هذا العامل في يد صناع المعلوماتية وشبكاتها.

2- رغم وجود أشخاص وهيئات يتحكمون -فعلياً- في شبكات المعلومات وما ينتج عنها، فإن الشبكة بذاتها قابلة للتوالد والتوسع خارج أي سيطرة مركزية. بعبارة أخرى، فإن جوهر مفهوم الشبكة يكمن في الاتصال اللحظي لكل عنصر بجميع العناصر الأخرى، من خلال قنوات قد تختفي أو تتلاشى، لكن سرعان ما يبرز بديلها. طبيعة الحياة الشبكية توفر الفرصة للمحافظة على كل مادة في تلافيفها المعقَّدة، حتى تتاح الفرصة لظهورها من جديد. من هنا، فإن من يتوهم أنه يتحكم في الشبكة، فهو إنما يتحكم في جزئه الخاص، لأن الامتدادات اللانهائية تواصل التمدد كل لحظة، بحيث يستحيل -مادياً- أن يتحكم فيها شخص واحد أو أشخاص محددون.

3- فضاء التدفق: تخيلْ شاباً في مقتبل العمر، يقطن قرية في الصين أو البرازيل أو مصر، يطلق من هاتفه المحمول أو حاسبه الشخصي مادةً على الإنترنت تسترعي اهتمام عشرات الآلاف على امتداد المعمورة، فيتحول هذا الشاب إلى بائع أو مؤثر أو صانع تيار، يزاحم -بالضرورة- القوى النشطة في الساحة. أثمرت هذه الظاهرة الجديدة تفككَ المئات من الشركات الضخمة المعمِّرة، والصحف ومحطات التلفزيون وحتى الجماعات الدينية والسياسية، فضلاً عن تقلص التأثير المشهود للمدرسة والعائلة على تشكيل هوية الأبناء وذهنيتهم.

لفكرة «التدفق» موقع محوري في رؤية كاستلز، وهو ينظر دائماً في المنطقة التي يسميها «فضاء التدفق»، أي المساحة التي تشهد حراك الأفكار والصور والمعاني بين مصدر الفكرة ومتلقيها. في هذه المساحة يختفي الزمن، ويتحول التواصل بين الفاعلين الاقتصاديين والثقافيين وجمهورهم إلى تفاعل فوري متعدد الأطراف. التفاعل المباشر يمكّن المتلقي من المجادلة العلنية للفكرة، ومن ثم تعديل خطاب المصدر. لهذا نقول إن عصر المعلومات يميل بشدة إلى التشارك في صناعة الفكرة لا إلى تلقينها، كما كان الحال في الماضي.

هذه إضاءة على جانب من رؤية مانويل كاستلز، حول الانعكاس العميق للمعلوماتية والإنترنت على ثقافة المجتمع وهويته ومصادر إنتاجه ومعيشته.

***

د. توفيق السف – كاتب وباحث سعودي

 

إن حياة الجمود والركود والسقوط التي تعيشه المجتمعات والأمم في بعض مراحلها وحقبها، منوط ومرهون للخروج من هذه الوهدة بعزائم البشر وإرادة الإنسان ومشروط بالتزام هذه المجتمعات بشروط الخروج من المأزق وعوامل الانعتاق من أساس الجمود والخمود.

ففعل التغيير والتطوير دائماً وفي أي اتجاه وحقل كان، منوط بإرادة الإنسان، فهو الذي يقرر بقدراته وإرادته امكانية التطوير والتغيير من عدمها.

ويشير الى هذه الحقيقة القرآن الكريم، إذ يقول تبارك وتعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد آية 11).

فلا يمكن أن يتم التغيير الاجتماعي إلا بتغيير الذوات وتهيئتها لقبول متطلبات التطوير، وبدون تغيير النفس، تبقى شعارات التغيير ويافطات التطوير أشبه شيء بمشروعات أحلام اليقظة والآمال البعيدة.

كما ان ارادة البشر وعزائمهم، هي التي تحدد واقعية المسار التطويري والتحديثي، فلا تطوير اجتماعي إلا بتغيير للذات. وكلما توسعت دائرة الملتزمين بمشروع التغيير الذاتي، أي تغيير ما بالنفس، كلما كان المجتمع أقرب الى التطوير الشامل.

والدين الإسلامي لا يعالج مشاكل البشر بحلول سحرية أو طرائق إعجازية، وإنما منظور الإسلام ف معالجة مشكلات البشر المختلفة، هو العناية بتهذيب النفس وتطهيرها من الرواسب والشوائب، حتى تكون مهيأة بشكل تام لعمليات التغيير والخروج من آثار المشكلات التي تؤرق الإنسان والمجتمع المسلم. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يؤكد على اتباع العلم ومفارقة الجهل والظن وكل المفردات التي لا تؤدي إلى المعرفة والخبرة، قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء آية 36). وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم آية 28).

وذلك لأن اتباع الظن لا يؤدي إلا إلى مراكمة الأخطاء والمشاكل، وذلك بفعل البعد عن اكتشاف العوامل الحقيقية والفعلية للمشكلات الإنسانية. ولهذا قال علماء المنطق ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا ريب ان الظنون والاحتمالات، لا تؤسس لدى الإنسان تصوراً دقيقاً عن طبيعة المشكلات وطرق معالجتها.

فالإنسان يصاب بالعطالة إذا كانت ارادته خائرة وعزيمته واهنة، لذلك فإن حجر الزاوية في عملية التغيير وتذليل المشكلات التي تعترض طريق الإنسان والمجتمع، هو أن تكون لدى الإنسان إرادة وعزيمة راسخة للخروج من شرنقة المشاكل وبؤر الأزمات والمآزق التي يعيشها. فتوفر الإرادة والعزيمة، من الشروط الأساسية التي يعتبرها الدين الإسلامي في معالجة مشكلات البشر.

"فالتوجيهات الإسلامية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطلب - في البدء - تعزيز الذات وتغييرها المتواصل ايمانياً، ثم تمضي باتجاه الأسرة الأقرب الى الإنسان الفرد، في علاقاته الخارجية، ومن هناك تنداح الدائرة باتجاه الجار، والقربى، والحي والمدينة، فالمجتمع المسلم، فالأمة الإسلامية على امتدادها، فالشعوب والأمم المجاورة، فالإنسانية جمعاء.

إن بؤرة الحركة، هي الذات: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الأنفال آية 53). وحدها الآخر، هو البشرية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء آية 107). وما بين الذات والبشرية، تتحرك المعطيات الإسلامية، تشريعا وتوجيها، لكي ترسم لكل حالة طريقها، وتضع كل ممارسة ف مكانها الموزون ولكي ما يلبث هذا الجهد الديناميكي، الذي لا يقف عند حد أن يساهم في صياغة الحياة الإسلامية المتوازنة المستقيمة، الآمنة، السعيدة، القادرة على العطاء وبقطبيها الفرد المسلم والمجتمع المسلم "(راجع رؤية إسلامية في قضايا معاصرة - الدكتور عماد الدين خليل ص55).

فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها ازاء كل ظاهرة ومشكلة هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدت الى هذه الظاهرة أو المشكلة، فلابد أن نوجه الاتهام أولاً الى أنفسنا، قبل أن نوجهه الى غيرنا.

وهذه المنهجية تلخصها الآية القرآنية {قل هو من عند أنفسكم} فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا.

إن واقع العرب والمسلمين الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يهدد وجودهم نفسه ولكن أين يمكن أن يقف هذا الانهيار، ويبدأ التحول؟ جوابنا الحاسم في أنفسنا، يجب أن يقف في أنفسنا الانهيار، ويبدأ في أنفسنا التحول فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام، تحول بنا مجتمعنا وتحول بنا المسلمون في كل مكان وتحول بنا العالم. فالنواة الأولى للتطور النوعي في المجال العربي والإسلامي اليوم، هي في تغيير الذات وازالة رواسب التخلف والانحطاط منها، إن تغيير ما بالنفس، هو النواة الأولى لعمليات التطور النوعي وإحداث نقلة عميقة في نمط تعاملنا مع واقعنا ومحيطنا.

فالتحولات الاجتماعية والحضارية في أي مجتمع وأمة، لا تنجز إلا على قاعدة تغيير ذاتي عميق، يزيل ركام الانحطاط، ويهيئ النفوس والعقول لاحتضان وممارسة متطلبات التحولات الاجتماعية والحضارية المطلوبة.

وعلى قاعدة التغيير الذاتي المستديم، تأتي أهمية الإرادة الإنسانية التي هي وسيلة الانتقال من الوعد الى الإنجاز ومن القول إلى الفعل.

والإرادة هنا تعني وبكل بساطة: أن تطور الشعوب والأم لا يقوم به الغير، وإنما كسب الأمة ذاتها، هو الذي يحقق التطور، فعمل الأمة وسعيها المتواصل، وجهدها المستديم وتصميمها القوي، وإيمانها العميق بمسارها الحضاري وتضحياتها في هذا السبيل، كل هذا هو الذي يصنع التطور والتقدم.

فإرادة الإنسان هي الفيصل وهي محل المراهنة الحقيقية على مشروعات التقدم والتطور.

فلنغير ذواتنا، ونغذي هذا التغيير، بإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها إنجاز التطلعات وتحقيق الطموحات.

وسنبقى بعيداً عن كل إنجاز اجتماعي وحضاري مادامت قيم التخلف وتصورات الانحطاط تتحكم في عقولنا ومسارنا العام.

فلكي نتقدم، نحن بحاجة الى تغيير نفوسنا وتنقية عقولنا من ركام التخلف والانحطاط، وإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها بالنفس الجديدة والعقل الجديد صنع وقائع الحياة المعاصرة.

ودائماً التقدم الإنساني والتطور الحضاري، بحاجة إلى ارادة إنسانية صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة الآمال، وإنجاز الوعود، وخلق الوقائع والحقائق المفضية الى التقدم بكل صوره وأشكاله.

وينبغي أن ندرك في هذا المجال، أن استعارة سلع التقدم والتطور، لا يفضي الى المفهوم الحقيقي للتقدم الحضاري، وانما يؤدي الى حالة من التجاور العجائبي والتعايش المتغاير بين سلع التقدم ومنجزات التطور وممارسة إنسانية لا ترقى الى المستوى المطلوب في التعامل مع منجزات العصر الحديث.

إن بوابة التقدم الحقيقي، هي تغيير الذات المصحوب بإرادة إنسانية تحيل الطموحات إلى حقائق، والآمال إلى وقائع، والأرض اليابسة الى ارض خصبة خضراء، تثمر كل الخير والإنجاز إلى الإنسان حاضراً ومستقبلا.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

أنت تكلف نفسك مشقة شديدة، إذا أردت أن تصور عواطفك وأنت في تلك المرحلة العمرية الباكرة تصويراً صادقاً، لن تستطيع أن تضع يدك عليها، أو تأخذ منها ما تريد، أو ما تعتقد أنه معين لك على توطيد نظم مقالك هذا، فقد انقطعت الصلة بينك وبينها، وانزوت حواضرها الزاهية في ذاكرتك شيئاً فشيئاً، حتى استحالت آخر الأمر، إلى دهناء قاحلة  تدمدم رياحها الهوج بين جنبات نفسك، وكيف لا تنحسر وتتضاءل أحداث تلك الأيام الناصعة، وأنت لم تقوي فيها عناصر الثبات والاستقرار، ففي الحق أنت لم تعيرها نظرة، أو تمنحها التفاتة، تكفل لها أن تحتفظ بحظها من الحياة، حينها كنت ستجد متاعاً عظيما، وستعينك تلك الالتفات على احكام هواجسك،  وتجويد خواطرك، وستبتهج أنت بهذا التجويد، ولكنك لم تفعل شيئاً من ذلك، كما أن تفاصيل حياتك الرتيبة التي أنفقتها في بكاء يعقبه بكاء، ولوعة تخلفها لوعة، قد أسهمت في تقزمها وانهاكها، حتى صارت أطلالها ورسومها ضعاف ومهازيل، فذاتك التي لم تدرك أن تلاشي حافظتك، خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، من المحقق أنها لم تخضع للتوازن الدقيق بين طارفها وتليدها، بعد أن سارت وتيرتها منتصرة مهللة  لحاضرها الذي تاهت في دهاليز عنفه، وقسوته، وصياله المتصل.

إنها مسألة عظيمة الخطر إذن، ألا تأتلف حياتك من ماضي، وحاضر، ومستقبل، ففقدان الماضي يجعل حقيقة هذه الحياة جافية، لا عهد لها برونق أو رواء، وأيسر ما يمكن أن يقال، أنها قلما تستطيع أن تتصل بمواقف ثرة حافلة بالعبث والجمال، وسيظهر عجزها الفاضح، إذا أرادت أن تتصل بالموضوعات التي يطرقها الناس في العادة، والتي تكون كثيرة الدوران على ألسنتهم، لن تكون أيها البائس، مؤهلاً لأن تسترجع المرتفع منها والمنخفض، وستزاد عندها خشية اليأس والخيبة، إذا أخفقت أن تستحضر سوالف علة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، أثرها الذي تتركه في النفس، وصداها الذي ينعش الروح، ويدفع الملال.

لن تقدر أن تقيف عند هذه النماذج التي يقدمها لك صديقك كلما هاتفته، لن تتذكر أبداً، تلك العين التي كان ينبع منها الماء، ويختلف عليها أطفال وشباب المدينة، إلا إذا حدثك صديقك المخلص بهذا، وأمعن وتفانى في تذكيرك، العين التي كانت تفتننا بسحرها وجمالها، وتأسرنا بهدوئها وسكونها، كنا نهرع إليها كلما أضنانا العبث، وأعيانا المرح، ولقست أمزجتنا صخب المدينة وضجيجها، كانت هذه العين محدودة ضيقة، ولكنها كانت تعجبنا على كل حال، لأنها تحرك أفئدتنا للبشاشة، وتنزع مهجنا إلى الانتشاء، وذيوع صيت هذه العين راجعاً أيضاً إلى العصبية التي كانت تحدث الشقاق، وتجلب العداوة، وسبب هذه الخلافات اظهار القوة، والسعي لبسط النفوذ، و لعل تلك المعارك التي كانت تدور في نواحي هذه العين، لم تكن أقل امتاعاً للنفس، وارضاء للقلب، لأننا لم نكن ونحن في تلك السن، متجردين من الخضوع لفكرة الذود عن حياض "المنطقة" التي نقطن فيها، فالاشتباكات والنزاعات، كانت تدور بين فصائل تنتمي لأحياء سكنية متفرقة، كنا ننغمس في هذا النوع من الجهالة، ونرتهن لسيد الجيوش، وأمير الجحافل، ونتفانى في طاعته، نهجم على أعدائنا حينما يطلب منا الهجوم، ونولي الدبر حينما نراه لم يستطيع عليها صبرا، لأجل ذلك كثيراً ما كنا نعود إلى منازلنا ورؤوسنا التي أعياها النضال، والتي لم نكن نحرص على مقوماتها، مهشمة لأن قذائف من جندل قد استغرقتها، وأجسامنا اللاغبة مختومة بمقابض من معدن، وأطرافنا مجذوذة أضناها الضرب والتنكيل، كم كانت رائعة حياتنا تلك على سذاجتها، هذه العين على مرّ الأحقاب والأجيال، ظلت شاهدة على ما يقع لأبناء هذه المدينة من حوادث، وما يعرض عليهم من خطوب.

إن هذه  الخواطر التي لا أجد بُداً من تسجيلها، وتلك الحروب والمخاصمات، التي كانت تقع بيننا وبين أبناء المناطق السكنية الأخرى في صبانا الأغر، والتي هي أشبه بحياة الأعراب في باديتهم، لا يمكن أن ننكرها اليوم انكاراً قاطعاً، بل هذه الأطياف في مجملها تستحق أن نحتفل ونتباهى بها، لأنها أهلتنا لأن نلم بدقائق واقعنا المرير، ونحيط به من جميع أطرافه، وأن نستيقن ماضينا البعيد الذي نفكر فيه، ونحْنُ إليه، يستحق أن نتخذه مقياساً لتصورنا للأشياء، وحكمنا عليها.

***

د. الطيب النقر

 

في عام 1981 قام الفيلسوف الاسكتلندي الامريكي ألسدير ماكنتاير بتمزيق العمل الذي كتبه آنذاك حول الاخلاق، وأنتج بدلا عنه ما اصبح يُعرف بكتاب (بعد الفضيلة). في هذا الكتاب، هو في الحقيقة جرّد الفلسفة الاخلاقية الحالية، والاخلاق الحالية ذاتها، معبّرا عن امتعاضه بان الاخلاق قُطعت من جذورها التقليدية، ولم تعد متماسكة"بفضل مشروع التنوير".

الاخلاق لم تعد مرتكزة على الفكرة الأرسطية بان للانسان هدف ووظيفة، ولم تقدم تفسيرا لكيفية تحقيق هذا، انها فصلت القيم عن الحقائق. يقول ماكنتاير رغم ان تسمية الفرد الذي يمارس الفعل بـ "الجيد" او "السيء" تلجأ لـ "للمعيار الموضوعي وغير الشخصي"، لكن لا شيء منه متوفر هناك . كما انه وبخ سابقا في كتابه (ضد صور العصر الذاتية، 1971)، المسيحية، الماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت في توفير ايديولوجية أخلاقية كافية.

واصفا نفسه كـ "أرسطي ثوري"، هو كان ايضا متحمسا لأخلاق توما الاكويني المناصر لأرسطو. (باتجاه القرن الثالث عشر) كان الشعار المنسوب له بشيء من السخرية . لكن عبر إحياء نوع من الاخلاق التي تعرّف "الخير" بازدهار الانسان، سعى ماكنتاير ليقودنا خارج "العصور المظلمة الجديدة"، نحو مستقبل أفضل. هو أثّر في صعود الاخلاق الفاضلة والطائفية (أنكر مساندة اي منهما) وعدم الثقة المألوفة حاليا في الليبرالية والفردية والتنوير.

تجدر ملاحظة عدد العقائد المتنافسة التي استطاع اعتناقها في وقت واحد، هو كان بروتستانتيا وماركسيا في آن واحد في الستينات، ثم رفض لاحقا كلا العقيدتين، وفي الثمانينات، اصبح كاثوليكيا، لكنه دائما احتفظ باحتقاره الماركسي للرأسمالية واغتراب الحداثة.

بعد ان نُشر كتابه (بعد الفضيلة) اول مرة عام 1981. اطلق برنارد ويليم على الكتاب اسم "خيال حنين رائع". كان ماكنتاير بعمر 52 عاما عندما كتب بعد الفضيلة. في (تاريخ موجز للاخلاق، 1966) هو انتقد الفلسفة التحليلية المعاصرة في فحصها وتفسيرها للمفاهيم الأخلاقية "بعيدا عن تاريخها"، ووصف الكيفية التي "تتغير بها المفاهيم الاخلاقية عندما تتغير الحياة الاجتماعية" – بدءاً من عصر هوميروس حيث مُثل(اغاثوس) للذكر ذو الولادة الجيدة وصفات الملك والشجاعة والذكاء، مرورا بالفضائل الارسطية والمسيحية التي ايضا كانت متناغمة مع فكرة الطبيعة الأساسية للانسان (وان كانت مختلفة) وحتى اقتلاع التنوير للإصرار على العقل المستقل، وصولا الى انفعالية القرن العشرين التي جعلت الاخلاق مجرد تعبير عن الافضليات الشخصية.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، قرأ ماكنتاير كتب الفيزيائي توماس كن الذي اعتبر التغيرات العلمية كسلسلة من "تحولات نموذجية" بدلا من خط مستقيم من التقدم، وهذا اعطاه ان لم يكن تحولا معتما، تأكيدأً يقينيا بشأن ما كان غريبا جدا حول اخلاق القرن العشرين: بدلا من ان نستقر في بارادايم(نموذج) أخلاقي معين، نحن نعمل في وقت واحد او بالتناوب في عدة تقاليد أخلاقية غير قابلة للقياس. طبقا لماكنتاير، اخلاق ارسطو في القرن الرابع قبل الميلاد افترضت ان الانسان لديه تيلوس (وظيفة) كحيوان عاقل. العقائد الدينية – اليهودية والمسيحية والاسلام عقّدت دون ان تغير اساسا مشروع الأخلاق الثلاثي: مصمم لينقلنا من "الطبيعة البشرية في أفضل ما يمكن اذا ادركت غايتها". فلاسفة التنوير للقرن الثامن عشر، في سعيهم لتحريرنا من الخرافات والسلطة، وايجاد اساس عقلاني خالص للاخلاق جردوا الذات من هويتها الاجتماعية وقيمها من أي ادّعاء بالوضع الفعلي. وهكذا اصبحت الاخلاق مجموعة من اوامر متطرفة وبالنهاية، مجرد "تعسف خاص". الذات غير المُتضمنة – بالضرورة هي "لاشيء" – هي الآن ملزمة لاختيار قيمتها الخاصة بها.

باعتراف الجميع، سعى جيرمي بنثام في نفعيته الى تأسيس الاخلاق على الرغبة "الطبيعية" لتجنب المعاناة ومضاعفة المتعة. لكن "السعادة الانسانية ليست مفهوما بسيطا موحدا" حسب ماكنتاير، وان تمييز جون ستيوارت مل بين المتع العالية والدنيا فقط يسلط الضوء على فشل النفعية في "تزويدنا بمعيار لعمل خياراتنا الاساسية".

كان ماكنتاير يدعو لمراجعة ارسطية تكون فيها الاخلاق، مرة اخرى، ليست مجموعة من مبادئ مجردة ومستقلة مختارة وانما قصة اجتماعية تنسجم معها قصتنا الشخصية. جادل برنارد وليم ان الذات الاخلاقية المتميزة اجتماعيا بدلا من ان تكون نتاج للتنوير، كانت حاضرة سلفا لدى افلاطون والمسيحية.

مؤلفات ماكنتاير اللاحقة شكّلت كما قيل تاريخا طويلا من الاخلاق لانهاية له . لمنْ العدالة؟ أي عقلانية، 1988 وثلاث صيغ متضادة للتحقيق الاخلاقي، 1990 كررت بان الفلاسفة التحليليين يزعمون تجسيد "الشكل اللازمني للتفكير العملي،، بينما هم في الحقيقة فقط "يمثلون شكل العقل التطبيقي الخاص بثقافتهم الليبرالية الفردية".

يرى ماكنتاير من المستحيل تبنّي موقفا اخلاقيا الاّ ضمن تقليد معين. طالما هو لايقدم طريقة للتحكيم بينها، هذا يبدو اجبرهُ للقول ان أي تقليد سيكون جيدا بنفس مقدار جودة التقاليد الاخرى وهو لهذا اُتُّهم بالاخلاقية النسبية.

مع ذلك، هو قال ان التقاليد المتنافسة تشترك ببعض المعايير، لذلك فان أي شخص يستطيع فهم المشاكل في تقاليده الخاصة ويتبنّى عقلانيا حلولا أرقى من الاخرى، كما فعل الاكويني عندما مزج الارسطية في ثيولوجيا اوغسطين، وبالنهاية اصبح ارسطيا افضل من ارسطو ذاته. ماكنتاير تحوّل الى الثومسية والكاثوليكية، مشاركا بحضور القداس كل يوم لكنه امتنع عن المشاركة في القربان المقدس بسبب ما حصل له من طلاق عائلي.

كونه رفض قبول مفهوم طبيعة انسانية مستقلة عن التاريخ وممارسات معينة وتقاليد، ماكنتاير بالنهاية وسّع قاعدته الميتافيزيقية لتتضمن (الحيوانات العقلانية التابعة، 1999) الكتاب البايولوجي. هو اشار الى الكيفية التي فشلت بها اخلاق ارسطو ولاحقا آدم سمث وديفد هيوم وفلاسفة التنوير الآخرين في الاعتراف بحتمية المعاناة والتبعية في حياة الانسان. في كتاب (ضد صور العصر الذاتية، 1971) هو انتقد المسيحية والماركسية والتحليلات النفسية كونها فشلت بتوفير ايديولوجية أخلاقية كافية. افكارهم عن الانسان كانت، على الاقل ضمناً، رجل جيد صحيا، هم تجاهلوا المرأة والناس المستعبدين والقرويين وغير الاوربيين. دعا ماكنتاير الى فكرة أكثر شمولية لما نعنيه بالانسان.

هو جادل بانه، لا الدولة القومية الحديثة ولا العائلة الحديثة يمكنها تقديم النوع الصحيح للانتماء السياسي والاجتماعي. احيانا اشار الى الاهداف المتماسكة لجماعات الصيد الصغيرة والى رغبات العديد من الطوباويات الصغيرة. هو باشر مشروع بحث لثلاث سنوات في جامعة لندن حول ما اذا كان وبأي الطرق "يجد التصوّر الأكويني حول الصالح العام للمجتمعات السياسية تطبيقا له في المجتمعات السياسية الحديثة"- نتيجة البحث كانت صدور كتابه الأخير (الاخلاق في صراعات الحداثة، 2006).

وحينما كان يدرس الكلاسيكيات في كلية كوين ماري بجامعة لندن (1945-1949)، قاده الفقر المدقع في منطقة شرق لندن – ليصبح ماركسيا متحمسا. كتابه الاول (الماركسية: تفسير، 1953) طالب بتجديد ماركسي للمسيحية.

 وُلد ماكنتاير في كلاسكو باسكتلندا عام 1929 وتوفي الاسبوع الماضي 21 مايو 2025 حيث أُبلغ عن وفاته الى صحيفة نيويورك تايمز من خلال جامعة نوتردام التي يعمل بها .

***

حاتم حميد محسن

دور التكنولوجيا في إعادة تشكيل الفصل الدراسي

شكّل الكتاب المدرسيّ لعقود طويلة محور العملية التعليمية وأساسها، باعتباره المصدر الرئيس الذي تُستمدّ منه المعارف وتُنظَّم حوله المناهج. لكن مع التحوّلات التكنولوجية المتسارعة والانفتاح على مصادر معرفية متعددة، لم يعد الكتاب المدرسيّ وحده قادرًا على تلبية احتياجات المتعلّمين في بيئة تعليمية تتسم بالتغيّر المستمر والتنوع المعرفي. لقد بدأت ملامح جديدة تظهر داخل الفصول الدراسية، حيث تتداخل الشاشات مع الأوراق، وتتنافس المنصات الرقمية مع الصفحات المطبوعة.

في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: هل ما زال الكتاب المدرسيّ هو المصدر الأساس للتعلّم؟ أم أن المشهد التعليمي بات يتطلب إعادة نظر في طبيعة الأدوات التعليمية ودور المعلم والطالب على حد سواء؟

يناقش هذا المقال تحوّل دور الكتاب المدرسي، ويستعرض تطوّر مصادر التعلّم في ظل التكنولوجيا، متناولًا أبرز التحديات والفرص التي فرضها هذا الواقع الجديد على العملية التعليمية.

تحوّل دور الكتاب المدرسيّ في زمن التكنولوجيا التعليمية

لم يعد الكتاب المدرسيّ يحتل موقعه الحصري في قلب العملية التعليمية كما كان في السابق. فقد أصبح اليوم جزءًا من منظومة أوسع تشمل مصادر رقمية وتفاعلية متعددة، كالمواقع التعليمية، والمنصات الإلكترونية، والمحتوى المرئي، وتطبيقات التعلم الذكي. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لتطور حاجات المتعلمين وتزايد الاعتماد على الوسائط التكنولوجية داخل الفصول وخارجها.

ورغم استمرار استخدام الكتاب في المدارس كمرجع أساسي لتنظيم الدروس وتقييم التحصيل، إلا أن أدواره التقليدية بدأت تتقلص تدريجيًّا لصالح بيئات تعلّم أكثر مرونة وتفاعلية. فقد أصبح المعلمون يلجؤون إلى مصادر خارجية لتوضيح المفاهيم، وإثراء المحتوى، وتكييفه مع اختلاف مستويات الطلاب واهتماماتهم.

في هذا الإطار، لم يعد الكتاب المدرسيّ المصدر الوحيد للمعرفة، بل أصبح أحد المكونات ضمن منظومة تعلّم أوسع تتطلب من الطالب قدرًا أكبر من التفاعل والبحث والاختيار.

ويُشير "براون" وآخرون (Braun et al., 2020) إلى أن الكتاب المدرسي لم يَعُد يُستخدم باعتباره المرجع الوحيد للدرس، بل تحوّل إلى نقطة انطلاق يُبنى عليها المحتوى من خلال موارد متعددة الوسائط، الأمر الذي يدفع المتعلّم إلى أن يكون مشاركًا فاعلًا لا متلقيًا سلبيًا. هذا التحوّل لا يُضعف من أهمية الكتاب المدرسي، بل يُعيد تعريف وظيفته ضمن بيئة تعليمية تفاعلية تجمع بين الثبات البنيوي والتكيّف الرقمي.

المصادر الرقمية: بدائل أم مكملات للكتاب التقليدي؟

في ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، لم تعد المصادر الرقمية مجرّد أدوات مساندة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في بناء المعرفة لدى المتعلمين. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح ليس حول استبدال الكتاب المدرسي، بل حول كيفية دمج هذه المصادر الرقمية بطريقة تُعزّز من فاعلية التعلّم.

ففي الواقع، لا تزال الكتب المدرسية تحتفظ بمكانتها كمرجع منظم وموثوق، يُسهم في تنظيم المادة العلمية وفق تسلسل منطقي ومعايير تعليمية معتمدة. إلا أن الاعتماد الحصري عليها لم يَعُد كافيًا لمواكبة احتياجات الطلبة في بيئة معرفية مفتوحة وديناميكية.

تشير تقارير منظمة اليونسكو (UNESCO, 2023) إلى وجود زيادة ملحوظة في استخدام التكنولوجيا التعليمية داخل المدارس، حيث يعتمد المعلمون على المصادر الرقمية إلى جانب الكتب المدرسية لتعزيز العملية التعليمية وتوفير مواد تعليمية متنوعة تلبي احتياجات الطلاب المختلفة. كما يلجأ الطلاب بشكل متزايد إلى الإنترنت والموارد الرقمية كوسائل مساعدة لفهم الدروس وإتمام المهام الدراسية، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في أساليب التعلم نحو بيئة تعليمية أكثر تكاملًا وتفاعلية.

فالبيئات التعليمية الأكثر نجاحًا اليوم هي تلك التي تُوظّف الكتاب الورقي كمحور ثابت، وتربطه بمصادر رقمية متعددة تُثري التجربة التعليمية وتُتيح للمتعلمين فرصًا أوسع للفهم والتفاعل والمشاركة.

الفصل الدراسي في العصر الرقمي: أدوات، أساليب، وتحديات

مع تسارع تطوّر التكنولوجيا واندماجها في النظم التعليمية، أصبح الفصل الدراسي في العصر الرقمي فضاءً تفاعليًا يعتمد على أدوات متعددة مثل الألواح الذكية، والحواسيب المحمولة، والأجهزة اللوحية، ومنصات إدارة التعلم، إلى جانب البرامج التعليمية المتخصصة. لم يعد المعلم المصدر الوحيد للمعرفة، بل تحوّل إلى موجّه ومنسق، يسعى إلى توظيف هذه الأدوات لإثراء العملية التعليمية وتحفيز التفكير النقدي لدى الطلبة.

في هذا السياق، تغيّرت الأساليب التربوية لتصبح أكثر انفتاحًا وتنوعًا، حيث تعتمد على التعليم المتمركز حول المتعلّم، والتعلّم القائم على المشاريع، والتقييم التكويني المستمر. هذه الأساليب تهدف إلى تعزيز مشاركة الطلاب ورفع مستوى استقلاليتهم في التعلّم، مما يُسهم في بناء مهارات ذاتية وتنظيمية تُعد ضرورية للنجاح في العصر الرقمي.

من بين التقنيات الحديثة التي غيّرت بشكل جذري تجربة التعلم داخل الفصول الرقمية، يبرز دور الواقع المعزز (Augmented Reality) والواقع الافتراضي (Virtual Reality). إذ يُتيح الواقع المعزز دمج المحتوى الرقمي مع البيئة الحقيقية للطالب، مما يعزز من فهم المفاهيم المعقدة عبر تجارب تفاعلية واقعية. أما الواقع الافتراضي، فيوفر بيئات تعليمية غامرة تتيح للمتعلمين الانغماس في مواقف تعليمية تحاكي الواقع أو تفوقه، مما يزيد من دافعية التعلم ويحفز التفكير النقدي والإبداعي. استخدام هذه التقنيات يُسهم في تنويع مصادر التعلم ويُعزز التفاعل بين المعلم والطالب، لكنه يطرح أيضًا تحديات هامة تتعلق بالبنية التحتية وتدريب الكوادر التعليمية.

تتعمّق التحديات الرقمية في التعليم الرقمي لتشمل جوانب متعددة، أبرزها ضعف البنية التحتية التكنولوجية في العديد من المدارس، خاصة في المناطق النائية، حيث تفتقر الأجهزة والاتصال بالإنترنت إلى المستوى المطلوب لضمان تجربة تعليمية فعّالة. إلى جانب ذلك، يُعاني كثير من المعلمين من نقص التدريب الكافي الذي يؤهلهم لاستخدام التقنيات الحديثة بفعالية ضمن العملية التعليمية، مما يحدّ من الاستفادة الحقيقية من هذه الأدوات ويُفقدها بعدًا بيداغوجيًا جوهريًا. كما يطرح الاستخدام المكثف للتكنولوجيا مخاطر محتملة على التفاعل الإنساني المباشر داخل الفصل، حيث قد يؤدي الاعتماد الزائد على الوسائل الرقمية إلى تقليل فرص التواصل الوجهي وتطوير مهارات الحوار والتفاعل الاجتماعي الضرورية للمتعلمين. لذلك، تُبرز الحاجة إلى تحقيق توازن مدروس بين توظيف التقنيات الرقمية والحفاظ على القيم التربوية الأساسية لضمان بيئة تعليمية شاملة ومستدامة.

التكنولوجيا وديناميكية التفاعل بين المعلّم والمتعلّم

ساهم إدماج التكنولوجيا في تغيير طبيعة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، حيث تحوّلت من علاقة تقليدية قائمة على التلقين إلى علاقة أكثر تفاعلية وشراكة. فبفضل الأدوات الرقمية، بات بإمكان المعلّم متابعة تقدم الطلبة بشكل آني، وتقديم تغذية راجعة فورية، وتصميم أنشطة تعليمية تراعي الفروقات الفردية، ما يعزّز من فعالية التعلّم.

في هذا السياق، يُعدّ التفاعل الرقمي عاملًا مهمًا في تحسين التحصيل الدراسي، إذ يُمكّن المتعلمين من طرح الأسئلة، والمشاركة في النقاشات الصفية عبر المنتديات والمنصات الرقمية، والمساهمة في بناء المعرفة بشكل جماعي. كما أن دور المعلّم لم يعد مقتصرًا على نقل المعرفة، بل توسّع ليشمل التوجيه، والتحفيز، وتيسير الوصول إلى مصادر التعلم المتنوعة.

ومع ذلك، تظل هناك حاجة إلى تنمية المهارات التواصلية الرقمية لدى الطرفين، إلى جانب ترسيخ ثقافة التفاعل الإيجابي عبر الوسائط التكنولوجية، بما يضمن بناء بيئة تعليمية قائمة على الحوار والمشاركة الفعالة، وليس فقط على استخدام الأدوات التقنية.

هذا وقد أظهرت دراسة حديثة لـ "ياسين" وآخرون (Yaseen et al., 2025) أن الطلبة الذين شاركوا في بيئات تعليمية مدعومة بالأدوات الرقمية التفاعلية قد أبدوا مستويات أعلى من التحصيل الأكاديمي، ومعدلات مشاركة أكبر مقارنة بالطلبة في الصفوف التقليدية. وقد بيّنت الدراسة أن استخدام تقنيات التعلم التكيفية، والتغذية الراجعة الشخصية، والأدوات التفاعلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ساهمت في رفع دافعية المتعلمين، وتعزيز شعورهم بالانخراط في العملية التعليمية. كما أكدت نتائج الدراسة على أهمية دور المعلم كمنسق للتفاعل الرقمي، مما يستدعي توفير تدريب مهني مستمر له، لضمان تحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانات التقنية في تطوير التعلم والتعليم.

نحو بيئة تعلّم مرنة ومتعددة المصادر

مع التوسع المستمر في استخدام التكنولوجيا الرقمية، تتجه النظم التعليمية نحو خلق بيئات تعلم مرنة ومتعددة المصادر تتيح للمتعلمين خيارات واسعة ومتنوعة تلبي احتياجاتهم الفردية. تُعتبر هذه البيئة التعليمية قادرة على الجمع بين المصادر التقليدية كالكتب الورقية، والمصادر الرقمية التفاعلية، والتقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي، مما يوفر فرصًا أوسع للتفاعل والفهم العميق.

تتيح بيئات التعلم المرنة للمتعلمين التحكم في وتيرة تعلمهم، واختيار الوسائل التعليمية التي تناسب أساليبهم المعرفية، كما تُمكّن المعلمين من تصميم تجارب تعليمية مخصصة تتناسب مع تنوع مستويات الطلاب واهتماماتهم. هذا التنوع يُعزّز من تحفيز الطلاب ويُسهم في تطوير مهاراتهم الذاتية والتنظيمية.

ومع ذلك، يتطلب بناء هذه البيئات المرنة استثمارًا في البنية التحتية التكنولوجية، وتوفير برامج تدريب مستمرة للمعلمين، وتطوير محتوى تعليمي متكامل ومتجدد. كما تستدعي ضمان العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا بين جميع الطلاب لتفادي توسيع الفجوة الرقمية.

في هذا الإطار، تُبرز أهمية التشاركية بين مختلف الجهات التعليمية والتكنولوجية لتحقيق بيئة تعليمية شاملة ومتوازنة تجمع بين الابتكار والفعالية.

***

إجمالًا، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية قد أعادت رسم معالم العملية التعليمية، وأعادت النظر في الدور التقليدي للكتاب المدرسي، الذي لم يَعُد المصدر الأوحد للمعرفة، بل أصبح جزءًا من منظومة تعليمية أكثر شمولًا وتفاعلية. ورغم ما تتيحه التكنولوجيا من فرص غير مسبوقة للتعلّم، إلا أن نجاح هذه البيئات يعتمد على إيجاد توازن مدروس بين الأدوات الرقمية والموارد التقليدية، وعلى تمكين المعلمين وتطوير مهاراتهم التربوية والتقنية. إن بناء بيئة تعليمية مرنة ومتعددة المصادر لا يتطلب فقط أدوات وتقنيات، بل رؤية تربوية واضحة تُعلي من قيمة التفاعل، وتضمن تكافؤ الفرص، وتعزّز من دور الطالب كفاعل رئيسي في مسيرة التعلّم.

***

أ. د. هاني جرجس عيّاد

..................

المراجع

1- Braun, A., März, A., Mertens, F., & Nisser, A. (2020). Rethinking Education in the Digital Age. STOA, European Parliament.

2- UNESCO. (2023). Technology in education: A tool on whose terms? Global Education Monitoring Report.

3- Yaseen, H., Mohammad, A. S., Ashal, N., Abusaimeh, H., Ali, A., & Sharabati, A. A. (2025). The Impact of Adaptive learning Technologies, Personalized Feedback, and Interactive AI Tools on Student Engagement: The Moderating Role of Digital literacy. Sustainability, 17(3).

الوحي والإلهام مفهومان ارتبطا بشكل وثيق بالإبداع ونشر الأفكار العميقة، يُعتبر الوحي تجربة نفسية تتسم بالاستقبال المفاجئ لأفكار أو معلومات يُعتقد أنها تأتي من مصدر خارجي، يكون الوحي أحيانا مرتبطًا بحالات ذهنية متقدمة مثل التأمل أو الاستغراق في الفكر، حيث ينفتح العقل لاستقبال أفكار جديدة، يمثل كل من الوحي والإلهام جانبان مهمان من التجربة الإبداعية الإنسانية. يحدث أحيانا تفاعل بين الوحي والإلهام، حيث يستقبل الشخص وحيًا ويقوم اللاوعي بتطويره إلى إلهام، يمكن أن يؤدي إلى أفكار جديدة، في الهرمسية تتجلى علاقة السرديات التاريخية بالوحي والإلهام في عدة جوانب، يُعتبر هرمس إله الوحي والإلهام في الأدب والشعر، يُنسب إليه القدرة على نقل الأفكار والمعرفة، مما يربطه بالقدرة على الإلهام الفني والمعرفي اذ تتضمن الهرمسية نصوصًا فلسفية، هذه النصوص تُعتبر نوعًا من الوحي، حيث يُفترض أنها تأتي من هرمس كمصدر إلهي، لكن في بعض الفترات، تم التعرف على هرمس كنسخة يونانية لتحوت، خاصة خلال الفترات الهلنستية عندما اختلطت الثقافات اليونانية والمصرية، مع التأثيرات الثقافية بين اليونان ومصر، تم دمج بعض عناصر الوحي والإلهام من كلتا الثقافتين، مما أدى إلى تطوير سرديات غنية تُعبر عن الحكمة والمعرفة، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوحي والإلهام في الأساطير،  مما يعكس كيف يمكن أن تعبر عن القيم الإنسانية .

النصوص الهرمسية والسرديات التاريخية

تختلف النصوص الهرمسية عن الأساطير الأخرى في التعبير عن الوحي بعدة جوانب، النصوص الهرمسية تتناول مواضيع فلسفية عميقة تتعلق بالكون، الروح، والمعرفة، بينما تركز الكثير من الأساطير الأخرى على القصص البطولية أو الخرافية فقط، لذا تُعتبر النصوص الهرمسية تجسيدًا للوحي الروحي، حيث تُعبر عن تجارب شخصية وتأملات عميقة، بينما الأساطير الأخرى قد تُركز أكثر على الأحداث التاريخية أو الأسطورية، تحتوي النصوص الهرمسية على رموز معقدة ومعاني خفية، مما يتطلب تأملًا خاصا لفهمها. في المقابل كثير من الأساطير الأخرى تُروى بشكل مباشر وسهل الفهم، النصوص الهرمسية غالبًا ما تتحدث عن التجارب الداخلية والخارجية للروح، مما يجعلها تتجه نحو المعرفة الذاتية، بينما الأساطير الأخرى تركز أكثر على الأحداث الخارجية والأبطال، النصوص الهرمسية أثرت بشكل كبير على الفلسفة الغربية والباطنية، بينما بعض الأساطير الأخرى قد تُعتبر جزءًا من التراث الشعبي أكثر من كونها فلسفية، تتميز النصوص الهرمسية بتركيزها على الحكمة والفلسفة، مما يجعلها مختلفة عن العديد من الأساطير الأخرى.

الفكر الهرمسي

في الفكر الهرمسي، يُعتبر الحصول على المعرفة والفهم العميق للكون والروح هو الطريق نحو التحرر من القيود المادية والجهل. المعرفة تكسر القيود التي تفرضها الحياة اليومية كما يشدد الفكر الهرمسي على أهمية معرفة الذات كجزء من المعرفة الكلية. عندما يفهم الفرد طبيعته الحقيقية، يتمكن من التحرر من الأوهام والقيود النفسية، في الفكر الهرمسي المعرفة الروحية تُوفر تجربة مباشرة للاتصال بالعالم الروحي، مما يؤدي إلى شعور بالتحرر من الهموم الأرضية والألم، كما ان المعرفة تساعد الأفراد على تحقيق التوازن الداخلي والانسجام مع الكون، مما يُسهم في الشعور بالتحرر من الصراعات الداخلية والخارجية واعتبار الجهل أحد أكبر العوائق أمام التحرر. من خلال التعلم واكتساب المعرفة، يُمكن للفرد تجاوز هذه العقبة والسير نحو حياة أعمق وأكثر معنى، في الفكر الهرمسي المعرفة تُعتبر المفتاح لتحقيق التحرر الروحي والنفسي، مما يُساعد الأفراد على العيش في وئام مع النفس ومع الكون.

رمزية الالهة في الهرمسية

يمكن اعتبار الإلهة افتراضيا كوسيلة لتفسير وعي الوجود، حيث تُقدم تفسيرات للظواهر الطبيعية، تدعم القيم الأخلاقية، وتساعد الأفراد على البحث عن المعنى في حياتهم وبالتالي يمكن اعتبار الهرمسية مزيجًا من إلهام من الآلهة ووعي وجودي مستند إلى العقل النقدي المتقدم، حيث يُنسب إليها الحكمة والمعرفة التي تُنقل من خلال شخصية هرمس، مما يعكس دور الآلهة الافتراضي في إلهام البشر حيث تُظهر الهرمسية التأثيرات الروحية التي تشدد على الاتصال بالعالم الإلهي والمعرفة العليا، تعتمد الهرمسية أيضًا على الفهم الفلسفي والنقدي للأفكار، مما يدل على قدرة الإنسان على التفكير والتأمل النقدي باستخدام التفكير الذاتي والاستنتاج، مما يُشير إلى أن المعرفة تأتي من التجربة الشخصية والتفاعل مع العالم، الهرمسية تمثل توازنًا بين الإلهام الروحي والوعي النقدي، حيث تُعبر عن الاحتياج إلى توحيد المعرفة الروحية مع الفهم العقلاني لتحقيق التحرر والفهم العميق للوجود.

وعي الوجود

تضمنت العديد من السرديات التاريخية مفهوم الوعي الوجودي، وهو مفهوم يشير إلى فهم الإنسان لطبيعة وجوده وعلاقته بالعالم. مما يعكس وعيًا عميقًا حول طبيعة الإنسان ودوره في الكون، الديانات المصرية القديمة تضمنت أساطير تتعلق بالآخرة والمصير، مما يعكس وعيًا بوجود الروح وعلاقتها المفارقة بالجسد الفلسفات الهندية مثل البوذية والهندوسية، تركزت على فهم الذات والانفصال عن الأنا، مما يعكس وعيًا وجوديًا عميقا، الأعمال الأدبية مثل "الأوديسة" و"الألياذة" لهوميروس، استكشفت مواضيع الوجود، القدر، والعلاقات الإنسانية، فلاسفة طرحوا أسئلة حول الوجود والوعي، مما يُظهر تطور مفهوم الوعي الوجودي عبر الزمن، تتداخل السرديات التاريخية مع مفهوم الوعي الوجودي، حيث تعكس كيف حاول البشر فهم طبيعتهم وعلاقتهم بالعالم من حولهم عبر العصور، الهرمسية تؤكد على الترابط بين الروح والمادة، مما يعكس فكرة أن الوعي الوجودي لا يقتصر على الوجود المادي فقط، بل يتعداه إلى الروح. هذا الفهم يعزز الوعي بأن كل شيء في الكون مترابط وتدعو إلى معرفة الذات كخطوة أساسية نحو تحقيق الوعي الوجودي. بالتالي من خلال التأمل والتفكر، يُمكن للفرد أن يستكشف طبيعته الحقيقية وعلاقته بالكون هذا المبدأ يعكس فكرة أن ما يحدث في العوالم الروحية ينعكس في الحياة المادية وهذا الترابط يعزز الوعي بأن الإنسان ليس منفصلًا عن الكون، بل جزء منه وان الروح تمثل هذا الترابط.

المعرفة والفهم أدوات الفهم

تُعتبر المعرفة والفهم أدوات للتحرر من الجهل. هذا التحرر يمكّن الأفراد من الوصول إلى مستوى أعلى من الوعي الوجودي، حيث كل يعي مكانته في الكون مما يُعزز الوعي الوجودي ويتيح للأفراد فهم أعمق لحياتهم، تعزز الهرمسية فكرة أن الفرد يجب أن يتفاعل مع الكون بشكل إيجابي، مما يُساهم في تحقيق التوازن والتناغم. هذه الفكرة تُعزز الوعي بالمسؤولية الفردية تجاه الحياة، تُعتبر الهرمسية إطارًا غنيًا لفهم الوعي الوجودي، حيث تجمع بين الروحانية والفلسفة وتحث الأفراد على السعي نحو المعرفة والتأمل لفهم مكانتهم في الكون وتتفاعل مع مفاهيم أخرى للوعي الوجودي من خلال تشابه الأفكار حول الذات، المعرفة، والتجربة الروحية. هذا التفاعل يُعزز الفهم العميق للحياة والوجود عبر الثقافات والفلسفات المختلفة.

الهرمسية والدين

تناولت الهرمسية مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك الفلسفة، الروحانية، والمعرفة، مما يجعلها أكثر شمولية في الأفكار مقارنة بالأديان التي عادة ما تتبع عقائد محددة، تشجع الهرمسية على الفهم الشخصي والتجربة الفردية، حيث يُعتبر كل فرد مسؤولًا في بحثه عن الحقيقة والمعرفة، مما يقلل من إمكانية تأسيس طقوس دينية موحدة، تُعتبر الهرمسية أكثر فلسفة فكرية تعتمد على العقل والتأمل، بينما الأديان غالبًا ما تتطلب إيمانًا بعقائد وقيم محددة، تتيح الهرمسية تفسيرات متعددة للرموز والمعاني، مما يجعلها قابلة للتكيف مع ثقافات وأفكار مختلفة، بينما الأديان غالبًا ما تكون أكثر تقيدًا في تفسيراتها، الهرمسية تتفاعل مع مجموعة متنوعة من الفلسفات والعلوم، مما يجعلها أقل اعتمادًا على الإيمان العقائدي الصارم، تظل الهرمسية فلسفة لأنها تركز على التفكير النقدي، التجربة الفردية، والتنوع في التفسير، مما يميزها عن الأديان التقليدية التي تتطلب إيمانًا بعقائد محددة لذا يمكن القول إن عدم وجود إلاه مركزي يُعتبر أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في عدم تحول الهرمسية إلى دين، مما يعكس طبيعتها الفلسفية والتركيز على الفهم الفردي والمعرفة.

***

غالب المسعودي

تمهيد: يواجه المثقف العراقي المعاصر إشكالية عميقة تتجاوز مجرد اختيار الكلمات، لتصل إلى جوهر الهوية والتعبير عن الذات. يتجلّى هذا التحدي في تقاطع مأزوم بين لغتين: لهجة الأم التي تمثل الأصل العضوي للغة، والفصحى التي تمثل اللغة الرسمية والمطلوب استخدامها في الخطاب الفكري والثقافي. فهل يُطلب من المثقف أن يتحدث بلسان ما يفكر به، أم بلسان ما يُتوقع منه أن يفكر به؟ وهل يمكن أن تكون اللغة أداة حرية ووعي إذا كانت ذاتها سُلطةً وقيدًا؟

ثنائية اللغة: بين الذات والسلطة

المثقف العراقي يتربّى في بيئة لغوية مزدوجة، تكاد تشكّل لديه انقسامًا معرفيًا وعاطفيًا: اللهجة هي اللغة الأولى التي يتلقّاها شفويًا من أسرته وبيئته، تعبيرًا عن حيويته وعفويته، بينما الفصحى هي اللغة التي يُطلب منه التفكير والكتابة بها، لغة النخبة والمعرفة الرسمية.

هذا الانفصام اللغوي لا يُنتج تعددية غنية كما قد يظن البعض، بل يولّد شعورًا مزمنًا بالانفصال بين الوعي والتعبير، بين الشعور واللفظ، فتُصبح الكلمات “فصلًا” في جسده النفسي، لا امتدادًا طبيعيًا لوجدانه.

إن المشكلة ليست في الفصحى نفسها، التي تمثل منظومة لغوية رصينة، بل في الوظيفة السلطوية التي أُنيطت بها، حيث تحولت إلى معيار للتمييز الاجتماعي والطبقي، "غربال" يستبعد من لا يجيدها من حيث الانتماء، لا من حيث الإفهام.

يقول المفكر هادي العلوي: اللغة تمارس وظيفتها القمعية حين تتحول إلى شرطٍ مسبقٍ للقبول في جماعة النخبة.

وهذا ما يبرر احتقار اللهجة، وتحويلها إلى وصمة عار، وكأنها خلل لغوي وليس تركيبًا سيميائيًا يحمل ثقافة وتاريخًا وتجربة شعبية.

الفصحى كسلطة مركزية واللهجة كحقل مقاومة

ما لا يُقال كثيرًا هو أن الفصحى، بصفتها لسانًا موحدًا، تخدم السلطة الثقافية المركزية أكثر مما تخدم الأفراد. بينما اللهجة، بعمقها الشعبي وتاريخها الحيّ، تحمل في طياتها عناصر المقاومة واللاانضباط والتعبير الصادق.

هل يعقل أن نطالب المثقف بأن يتحدث عن القهر الاجتماعي والظلم والهامشية بلغة تتماهى مع بنية القهر الرمزي نفسه؟ هل يمكن للغة مهيمنة أن تكون مرآة للذات المقهورة؟

كما يقول عبد الجبار عبد الله: الانفصال بين اللغة واللهجة لا يعود إلى جوهر اللفظ، بل إلى تصنيفٍ اجتماعي أنتجته السلطة، لا اللسان. هذا التصنيف الاجتماعي يجعل المثقف يخجل من صوته الأول، من لحن بيئته، من الكلمات التي تعبّر عن أصالته وتُحرج منطق النخبة.

الكتابة واللغة: بين العضوية والمصطنع

لقد قلتُ ذات مرة: الكتابة بلسانٍ مُعقَّم تُفقد الفكر عضويته، كما يُفقد الجسد حيويته حين يُفرَض عليه أن يتحرك بطريقةٍ مصطنعة. فالكتابة ليست مجرد تركيب جمل سليمة، بل هي تفاعل حيّ بين الفكر واللغة والذات، وإذا أُجبرت على الارتداء لغة لا تنتمي إليها، يُصبح الخطاب بلا روح، بلا حرارة، بلا صوتٍ صادق.

السؤال ليس أيّ اللغة أفضل، بل هل الفصحى وحدها قادرة على نقل التعقيد الوجداني والاجتماعي والسياسي الذي نعيشه؟ هل بإمكانها أن تواكبنا بكل تناقضاتنا وأحزاننا وفرحنا؟

المثقف بين الولاء للغة الأم والالتزام بالفصحى

المثقف الذي يتخلى عن لهجة أمّه لا يفقد اللحن فحسب، بل يفقد جزءًا من بنيته الشعورية، فتذبل أشجاره الداخلية، ويصبح كلامه ناقصًا، وكأنه يعزف على آلة موسيقية معطوبة.

هذا ما يجعل خطابنا الثقافي اليوم شاحبًا، مرهقًا، منزوغ الصوت، مرتبك الهوية.

خاتمة: تأملات وتساؤلات

ليس العداء مع الفصحى، بل مع تحولها إلى أداة قمع تقتل تنوعنا اللغوي وتُغلق نوافذنا على أنفسنا. المثقف الحقيقي هو من يقف على حافة التوتر بين أصله ولهجته ولغته الرسمية، ويُحافظ على صوت ذاته.

هل يمكن أن نحيا حرية فكرية إذا كنا نكبت ألسنتنا؟ هل نرضى أن نُجبر على تنحية أصواتنا الأولى، والعيش بصمت مقيّدٍ؟

أسئلة تطرحها الحقيقة

هل الفصحى لغة الفكر الحقيقي، إذا حُرم صوت اللهجة من الارتفاع والسمع؟

من قرر أن اللهجة عيب لغوي، وأن الفصحى وحدها لغة العقل؟

كيف نحافظ على هويتنا إذا فقدنا لغة الدفء التي نولد بها؟

هل المثقف الذي يرفض لهجته، هو حقًا مثقف، أم مجرد ناطق بلغات الآخرين؟

كيف نطالب بالحرية الفكرية إذا كنا نقيّد ألسنتنا بقوالب مفروضة؟

وإذا لم يكن اللسان ملكنا، فمن يملكنا إذن؟

(الصوت الذي يُفكر كما وُلد، أقرب إلى الحقيقة من الصوت الذي يتجمّل ليُسمع).

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

يُعد الشر من أكثر الإشكاليات التي تناولها الفلاسفة وعلماء النفس ولا تزال محل جدال بالبحث والدراسة. ومظاهر الشر قديمة قدم الإنسان منذُ خلقه، ألم يقتل قابيل أخيه هابيل بسبب الغيرة والحسد، وإذا بحثنا في القرآن الكريم نجده أشار إلي الشر في مواضع عديدة منها:

 قوله تعالي “ومن شر حاسد إذا حسد”سورة الفلق آية ٥، وفي سورة أخري “من شر الوسواس الخناس”سورة الناس، آية ٤.

في عالمنا المعاصر نجد الشر بكثرة متجسد في أفعال الإنسان من جرائم القتل والسرقة والإستبداد، ونري أن فعل الشر ليس مقصوراً علي فئة مُعينة، علي عكس قول بعض الفلاسفة القدماء مثل الفيلسوف اليوناني سقراط الذي عرف الشر علي إنه ناتج عن الجهل وبعض فلاسفة العصر الحديث والمعاصر منهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بقوله أيضاً بأن الشر يتطلب غباء ومحدودية في التفكير.

ومن وجهة نظرنا فهذا ليس مقياساً للشر أن يفعله الجهلة فقط او محدودي التفكير، فهناك المتعلمين في مختلف المجالات و الفئات ذات الحظ العظيم في العلم والثقافة والأدب وينتج عنهم الشر أيضاً، فليس الشر متمثلاً فقط في القتل وسفك الدماء.

الشر بمعناه العام “السوء والفساد، يقال رجل شر أي ذو شر، وهو شر الناس أي أسوؤهم وأكثرهم فساداً”جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص٦٩٥.

والواقع المعيش خير شاهد علي الجرائم الأفعال المشينة التي ترتكب كل يوم في حق الإنسانية التي أصبحت مذبوحة وأعتاد الناس مشاهد الشر في ثوب القتل تارة، والتحرش وهتك الأعراض تارة أخري والفساد المنتشر في شتي مناحي الحياة.

كيف يتأرجح معني الشر بين الفلسفة وعلم النفس؟

يري الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بأن الإنسان يولد صفحة بيضاء ويتشكل حسب تجاربه ومجتمعه الذي يعيش فيه”، أي أن الشر عند الإنسان مكتسب وأن البيئة التي يعيش فيها هي المسؤولة عن تكوين شخصيته سواء كانت تتسم بالشر من عدمه، فالإنسان عند جون لوك ليس شريراً بطبعه، ولكن من زاوية أخري نفسية عند عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد

نجد نظرته للشر الإنساني مختلفة فهو يري “الإنسان لديه دوافع عدوان كامنة وأن الحضارة هي التي تكبح جماحها” فهو بذلك يقول بفطرية الشر عند الإنسان، وإنه يولد عنده إستعداد لفعل الشر ولكنه مكبوت بفعل الحضارة وسُلطة المجمتع عليه.

واذا تعمقنا في فكر فرويد نجد أنه يرجع كل شيئ إلي الجنس، بمعني كل المشكلات النفسية والإختلالات السلوكية، يرجعها إلي الجنس، ولهذا لا يجب أن نتعجب إذا وجدنا رأيه في تحليل مفهوم الشر وأسبابه، أن يُرجعه إلي الجنس أيضا ًبمقولته” الجنس أصل كل الشرور ”، ولهذا يمكن أن ننتقده بسبب أنه لا يمكننا أثناء تجذير وتأصيل أي مشكلة أو محاولة حل إشكالية مثل الشر أن ننظر إليا بزواية واحدة فقط، فالأنسان أعقد بكثير وخصوصاً صيرورة التطور الفكري علي مدار مراحل حياته، فالبيئة المحيطة وتاريخه الماضي، كلها مفاتيح لمحاولة فهمه وفهم تصرفاته سواء كانت بالخير أوالشر ولا يجب ردها إلي الجنس فقط.

ختاماً به ما هو الشر الأعظم وهل يمكن أن يختبئ خلف سِتار الفضيلة؟

 نعم نجد الإجابة عند الفيلسوف وعالم النفس إيرك فروم في كتابه “تشريح التدميرية الإنسانية” فيذكر لنا  الشر الغير مباشر أو الشر المُبرر: والذي يقوم به الإنسان دون وعي أو فعله بطريقة غير مباشرة و يضرب لنا مثال بالموظف العسكري في معسكر نازي، كان ينقل السجناء إلي غرف الغاز، فالموظف يري انه يقوم بالواجب ويقوم بتنفيذ الأوامر بكل فخر، دون وعي أخلاقي منه أو مراجعة نفسه ما إذا كان العمل الذي يقوم به خطأ أو صواب، بل سَلّم للأوامر بطريقة عمياء حتي و لو كانت نتيجتها إذاء ودمار للغير.

وإذا قمنا بإسقاط الفكرة علي الأحداث الراهنة وما يحدث من حروب علي غزة الفلسطينية، نجد الطرف الذي يمارس القمع والإضطهاد يتوهمون أنهم يؤدون الواجب والولاء لعقيدتهم، وكل ما يقومون به من قتل وتدمير وإبادة، من وجهة نظرهم هو تحقيق لإرادة التوسع وتلبية لنداء الواجب.

وهذا يعد أبشع الشرور وأعظمها من وجهة نظر إريك فروم فهذا الخنوع للقمع الذي تمارسه تلك المنظومة، يُحذرنا من تحول الإنسان إلي كائن معدوم الوعي الأخلاقي يفعل الشر ويظن أنه يفعل الصواب، وهذا ما يجعله آداة لشر أكبر، وأختم مقالي بجملة تختصر وجهة نظرنا عن الشر للدكتور/مصطفي محمود مُتعجباً من الإنسان في عمل الخير والشر، الإنسان اذا فكر في فعل الخير سبق الملائكة، واذا فكر في فعل الشر سبق الشياطين، فهو بذلك تفوق علي جميع المخلوقات في خيره وشره.

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

في الذكرى الرابعة لوفاة المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط قراءة في فكره

مقدمة: يذهب بعض المفكرين إلى أن أعمال هشام جعيط (1935- 2021) حول الإسلام المبكر قد وضعت حدا للمنجز الإستشراقي الذي إهتم بهذه المرحلة من تاريخ الإسلام وأغلقت قوسا من "المعرفة " التاريخية وفتحت آفاقا جديدة لأعمال مختلفة حول " الإسلام المبكر " بأدوات معرفية تستنطق المصادر القديمة وتميز غثها من سمينها بعين ناقدة وبصيرة ثاقبة، فتعيد كتابة تاريخنا برؤية موضوعية بعيدة عن القراءات التمجيدية من ناحية، وعن تلك التي لا ترى فيما حدث إلا إستنساخا أو إنتحالا لتراثات سابقة. يقول هشام جعيط في حوار مع الكاتبة حياة السايب نشر في موقع " ثقافات ": " أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ... و ليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي كانت كتاباتهم سردية وتطغى عليها أحكام مسبقة وإعتبارات خارج الحقل العلمي وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي ويمكن القول من خلال ثلاثيتي حول السيرة المحمدية إن الإستشراق قد إنتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين. "(1)

1 – العرب والنبوة:

إن إستقراء إبن خلدون، المتوفى سنة 818 هج / 1406 م لتاريخ العرب قد أوصله إلى خلاصات عامة سيتكفل علم التاريخ بالبحث فيها تمحيصا وتدقيقا وإعادة قراءة للمصادر التي وصلتنا والتي تتحدث عن تلك الفترة، فهي تقتضي نظرا وتحقيقا على حد عبارته، إن إنتقال العرب من الوثنية إلى التوحيد مثل فيه الدين / النبوة " طقوس عبور " من التوحش والبداوة اللتين إتسمت بهما حالة العرب قبل الإسلام أو ما يعرف بالجاهلية وهو مصطلح مشحون بمسحة أخلاقوية، إلى حالة التمدن والتأنس. إنها طقوس ستترك بصمات لا تنمحي في ذهنية العرب وفي رؤاهم وتصوراتهم إنها بمثابة الوسم الذي إنطبعت به أخلاقهم وسلوكهم. يقول إبن خلدون في الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني، في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة. ويشرح إبن خلدون ذلك بقوله: " والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل إنقيادهم (... ) فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ثم إجتماعهم، حصل لهم التغلب والملك. " (2) إن الإنتقال بالعرب من حالة التذرر القبلي والإنقسام والتناحر والتحارب ومن حالة الغلظة والأنفة والكبر والتفاخر بالأنساب إلى حالة اللين وسهولة الإنقياد والإجتماع والتآلف يحتاج إلى رجة قوية تخلخل ما إستقر في تلك البنى القبلية من أعراف وتقاليد وتفتح أمامهم رؤى جديدة حول الإنسان والوجود وحول الشعوب المجاورة لهم. يؤكد هشام جعيط في سرديته لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنتماء العربي للرسول وأنه من قبيلة قريش وعلى أنه ولد في مكة وهو بذلك يرد على المستشرقة باتريشيا كرون (1945 – 2015) التي شكت في إنتساب محمد إلى قريش وفي صحة نسبه وتعتبره من وسط الجزيرة العربية وليس من مكة. (3) يدقق هشام جعيط في كل المرويات والمصادر القديمة من إبن إسحاق إلى إبن هشام إلى البلاذري ولاسيما المرويات المتصلة بالنبي، يورد مختلف الروايات ثم ينقدها ويضرب بعضها ببعض معتمدا في ذلك على معرفة دقيقة بعلم التاريخ وعلى إطلاع واسع بالآنتروبولوجيا الثقافية وبعلم الإجتماع ومستندا على النص القرآني كمصدر رئيسي لنحت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم. إنه يعمد إلى ترجيح بعض الروايات على أخرى محكوما في ذلك بنزعة علمية تبحث عن حقيقة ما حدث، بعيدا عن تصورات المستشرقين وعن خلفياتهم التي أثرت كثيرا في ما كتبوه حول التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول وكذلك بعيدا عما إستقر في الضمير الجمعي الإسلامي من تصورات إرتقت إلى درجة البديهيات. يعتبر هشام جعيط النبوة بالحدث الجلل وأنها لا ليست بالأمر العادي الذي يتكرر حدوثه، وأن الشعوب التي تحظى بهذا " التكريم " يمكن أن يكون لها شأن عظيم. إنها حدث فارق في تاريخها في كل أبعاده وتكون شخصية النبي محورية في هذا المسار. فإضافة إلى الإصطفاء الذي آختص به شخص النبي لمؤهلات ذاتية تمتع بها، ولمسار ذاتي لعبت فيه ظروف تاريخية دورا في تبوئته هذا الدور، كان للنبوة دعائم أخرى، لقد صاحبت النبوة خلخلة للبناء اللغوي تكفل القرآن الكريم بإحداثها، يقول هشام جعيط: " فالقرآن إبتدع أيضا معجمه وهذا أمر عظيم وهو الذي خلق التجريد المفاهيمي في لغة لم تكن تعرف إلا الحسي كما في الشعر. " (4) لقد هيأ القرآن الأرضية الفكرية للعرب حتى يتلقوا حدث النبوة بآعتباره بوابة لدخول التاريخ، وقد أدرك جعيط ذلك بحسه التاريخي حين إعتبر أن تحولا معجميا في لغة هو تعبير عن تطور ذهني عام في الثقافة ومن وراء ذلك عن تطور في بنى الحضارة كما لدى اليونان وغيرهم. (5) إن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، كان مفهوما بالضرورة من العرب، رغم ذلك يؤكد جعيط أننا لم نكن نعرف أفكار العرب وجدالاتهم إلا من خلال القرآن وحسب رأيه فإن السور الوسطى هي التي كانت صعبة الفهم بالنسبة إلى للقرشيين لأنها كانت تحوي مفردات مجردة، وحتى السور الأولى تحوي مفردات خاصة وجديدة ومبتدعة كالنار والجنة وجهنم، ... لقد إستطاعت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثوير الوعي العربي إنطلاقا من اللغة مسنودة بالوحي، يقول جعيط متحدثا عن مئات الكلمات الجديدة: " وإنما إخترقت اللغة والضمائر عبر أربعة عشر قرنا من الحضور والتعمق في الحضور، بل كونت المعجم اليومي للعرب المسلمين في الحضارة التي ستنبني. (6) يطرح القرآن مشكل اللغة في كل أبعاده ويتبنى جعيط رأي المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) الذي يرى أنه يشهد على قوة اللغة وسيطرتها على الفكر، لكن العكس صحيح أيضا وهو سيطرة الفكر على اللغة وتطويعه لها. فالقرآن خلق مفردات من الجذور العربية لكن إنبلاجه في هذه الفترة دون سواها، كان بسبب أن اللغة وصلت إلى حد كبير من النضج والغنى ومن هنا إزدهار التعبير الفني في الشعر. والقرآن تعبير فني بأعلى درجة. يهتم جعيط في رسم ملامح تاريخ نشوء الإسلام بالديالكتيك: الأنا / المجتمع والفرد / الوسط، ويطرح تساؤله ما هو قسط محمد – وهو كبير – وما هو قسط العالم الذي ولد فيه؟ في آخر المطاف، السؤال المحير هو التالي: كيف كان محمد ممكنا في ذلك الزمان وفي تلك الساحة من وجهة الأفكار ومن وجهة التعبير ومن وجهة الإرادة المستميتة؟(7)

– النبوة في التاريخ

ملامح الوضع الجغراسياسي في شبه الجزيرة قبل البعثة:أدرك هشام جعيط أهمية المدن في صناعة التاريخ لأنها المدخل الوحيد لمحاصرة البداوة وتحجيم دورها ولاسيما في شبه الجزيرة الوسطى. فهذه القطعة من الأرض المحاصرة بين الشمال – سورية - ومدنه مثل العلا والحجر والبتراء وبصرى وبين الجنوب – اليمن – حيث سبأ وشبوا وتمنع وظفار ونجران. عشية ظهور الإسلام كانت المدينة هي السائدة في المجال التاريخي، بينما كانت البداوة هي المهيمنة في المجال الأنتروبولوجي. لقد كان الجمهور الأعظم من العرب لا يزال خاضعا للوجود البدوي الرعوي القبلي والحربي. كانت المدن تستبطن في داخلها الفكرة الإتحادية المجمعة ونزوعا معينا إلى الهيمنة، غير أن المدينة ظلت واقع أقلية وكانت على الدوام مخترقة بالمبدإ القبلي الذي كانت تحاول عبثا تجاوزه. (8 ) كان الصراع على أشده عشية ظهور الإسلام بين البداوة والمدينة، فقد أصبح مستقبل عرب شبه الجزيرة رهين حسم هذا الصراع. كان لزاما على المدينة أن تتخلص من الإرث الأنتروبولوجي الثقيل للبداوة، فلا معنى أن تؤسس مدنا تكتسحها عقلية الثأر والإغارة ونمط إقتصادي رعوي مع ما ينتجه من قيم وسلوكات لا تستقيم ونمط العيش في المدن. فالمدن القادرة على إدخال العرب التاريخ هي تلك التي تقدر على إنشاء نمط إقتصادي جديد وتغيير الرموز الثقافية وكذلك الميراث الأنتروبولوجي، إما بثورة تعصف بالسائد من معتقداته وتصوراته ونظرته للوجود وللإنسان وإما بإصلاح لمنظومة القيم التي لم تعد تستجيب لطموحات المدن في وضع بصمتها الخاصة في تاريخ المنطقة. فالقرن السادس الميلادي هو عصر الجاهلية حسب هشام جعيط عصر العنف والجهل، في ظل خضوع اليمن للأجنبي الاحباش والفرس، هنا يبرز صعود مكة في ظل الهيمنة البدوية العددية، كأنها الظاهرة الأولى، لأنها الأكثر إمتلاءا بالمستقبل يقول جعيط: " إن أهمية مكة تنبع من كونها كانت مدعوة لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية ولإجراء عملية وصل بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم القبيلة وعالم المدينة بشكل لم يحدث من قبل. " (9) هناك مدن كان بإمكانها أن تلعب الدور التاريخي التوحيدي أفضل من مكة مثل الحيرة، لكنها كانت قوة مدعومة من الأجنبي- الإمبراطورية الساسانية- لم يكن هواها عربيا خالصا فلم تستطع توسيع نفوذها إلى كل الجزيرة العربية كما أنها لم تكن حاملة لرؤى مستقبلية للعرب، أما عالم الشمال عالم عرب الماضي الأوائل لم يعد قادرا على القيام بدوره كوسيط ثقافي، فقد تلاشت مدنه العربية وأصبحت موطن هجرة نقلت عرب اليمن من الجنوب إلى الشمال والذين صاروا قضاعة مع مزايا وسمات بدوية صرفة وخاضعين فوق ذلك لبيزنطة. (10) إن الجزيرة العربية الوسطى المحصورة بين قطبين في حالة إنحطاط، بدأت تظهر داخلها مدن مثل مكة والطائف ويثرب، إنها هي أيضا أنشئت على أساس قبلي لكنها كانت تستمد مادة وجودها من الزراعة والتجارة وكانت مكة قائمة في وسط الحرم أو الأرض المقدسة، الحرم الأهم في كل الجزيرة العربية نظرا لكونه مركز حج يتجلى فيه بكل نصاعة تفاعل المدينة والقبائل، نحن أمام أرستقراطية دينية تناظر الأرستقراطية الحربية لدى كبريات القبائل الرعوية والبدوية. (11) كان العرب حسب جعيط موحدين بالدم واللغة والدين – رغم تعدد الآلهة وعبادة الأوثان ؟– ويشكلون أمة ثقافية وليس أمة الدولة. كانت القبيلة تحل محل الدولة إذ كان لكل قبيلة بيتها القيادي يعني أسيادها، إلا أنه لم يكن السيد يمارس سلطة قهرية كنا نجد ذلك في مكة مع قريش وفي يثرب مع الأوس والخزرج وفي الطائف مع ثقيف وكان ذلك التنظيم يسمح لسفحي العروبة البدوي والحضري أن يجد لغة مشتركة وموقفا مشتركا وقيما مشتركة مع ذلك كان يعزى لأهل المدن، لا سيما لقريش عقلية خاصة مختلفة عن عقلية البدو، كانت ترسم ما يشبه الحدود ما بين العالمين (البداوة والحضر). ( 12)

محمد النسب والشرعية: في هذه البيئة ولد النبي ودعا طيلة ثلاث عشرة سنة، كان يتحدر بخط مستقيم من قصي أي مؤسس مكة بوصفها كيانا مدينيا، أي من الرجل الذي أقر بها قريشا - ومعنى قريش من تقرش القوم تجمعوا والمقرشة أي السنة الشديدة المحل التي يتجمع فيها الناس فتنضم حواشيهم وقواصيهم – وكان قد جمع بين يديه الوظائف الدينية والسياسية والعسكرية وبنوع أخص كان النبي ينتسب إلى عشيرة عبد مناف إسم الإبن الثاني لقصي الذي كانت سمعته قد فاقت بسرعة شهرة الإبن الأكبر عبد الدار. وعلى الرغم من إنقسام عشيرة عبد مناف إلى فخذين، فخذ إبن هاشم وفخذ عبد شمس فقد ظلت متماسكة تماسكا كافيا لكي يعتبرا " العشيرة الأقربين " التي أمر الله النبي بإنذارها في القرآن (سورة الشعراء / الآية 214 ) تدل حقا على بني عبد مناف وليس فقط على بني هاشم وبذلك كان النبي ينتسب إلى إحدى عشيرتي قريش المقدستين التي كانت تشارك في خدمة الحجيج وفي القيادة العسكرية. (13) لئن كان توسع التجارة الذي كان ظاهرة حديثة العهد، قد أوجد تباينا إجتماعيا يظهر قيمة عشائر لم تكن منحدرة من قصي مثل مخزوم أو فخذ عبد شمس على حساب فخذ هاشم المنحدرين كليهما من عبد مناف، فإن عشيرة عبد مناف قد ظلت مع ذلك تحتفظ بمكانة مميزة مؤسسيا وكانت تمثل في الممارسة بيت قريش خاصة وهذا أمر بالغ الأهمية حسب هشام جعيط لفهم الصعود النبوي لمحمد ونجاحه اللاحق في المدينة وبيت القبائل العربية. لم يكن محمد على الرغم من فقره ومن فقر عمه وحاميه أبي طالب متحدرا من أي كان بل من قصي وعبد مناف وكان بهذه الصحة يمكنه أن يظهر في أعين العرب كممثل لقريش في غاية الكمال. (14) يرى هشام جعيط أنه لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة 13 سنة في مكة بالذات وهو تبشير ديني محض أدى إلى ولادة الإسلام وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأول نتاج إتجاه روحي عميق ويندرج في سياق المدى الطويل لتطور الروحانية التوحيدية والثاني هو ثمرة المصادفة ويلبي الحاجة إلى تجاوز هامشية محلية، هامشية الجزيرة العربية بإدخال مبدإ الدولة فيها وإليها. (15) لكنا نرى أن ما حدث في المدينة لم يكن ثمرة المصادفة لأن الوحي الذي رافق مسيرة الألم في سبيل الدعوة إلى الله في مكة وهو الذي إستند إليه جعيط في فهم سيرة الرسول، ظل يرافقها في المدينة ويعمل على تجذير مبادئها من خلال سيرة الرسول وظل يؤرخ لأحداث كبرى عاشها النبي. يؤكد هشام جعيط أيضا على أن النبي لم يؤسس ملة أو طائفة بل دينا جديدا وذلك في رده على مكسيم رودنسون في كتابه، محمد، الصادر بباريس، سنة 1968، ص 95. كما فند جعيط مزاعم عدد من المستشرقين، في أن الدعوة المحمدية في مكة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة، فلا يوجد إسناد لآفتراض كهذا. وإن كان خصوم النبي ينسبون إليه مطامح فلا يعني إطلاقا أن النبي كان صاحبها حقا، بل يعني أن أفقهم كان قد بقي محصورا ومحدودا بحدود مدينتهم اللئيمة وموازين النفوذ الإجتماعي. (16) لكن يمكن أن نلحظ من جانب أهل مكة مقاومة ثقافية ودينية في سبيل الشرك – تعدد الآلهة- وآحترام الأجداد اللذين إنتقدهما القرآن الكريم. إن المسألة التي صادفها النبي في مكة هي ذات بعد ثقافي وديني ولا علاقة لها بالتجارة ولا بالسياسة فهي دينية أولا وثقافية ثانيا، هي ثقافية من حيث أنها تريد أن تعطي للشعب العربي كتابه المقدس ونبيه: مؤدبه الديني والأخلاقي. (17)

دولة - المدينة النبوية:

إن النبوة حدث un fait prophétique لأن لها أثرا في التاريخ وأثرها ليس هينا، رغم إندراجها في التراث الإبراهيمي، إلا أنها حدث غير مسبوق بالنسبة إلى العرب، فقد جعلت منهم أمة ذات ملامح مخصوصة وتركت بصماتها التي لا تنمحي في وجدانهم. لقد كانت عابرة للقبائل والعشائر، لذلك إستطاعت أن توحدهم. يقول عبد المجيد الشرفي في مقارنته بين النبوة والنظام القبلي والعوامل التي مكنت النبوة من لعب هذا الدور: " لعل الفارق بينه – أي الرسول – وبين زعماء العشائر ورؤساء القبائل أن نفوذ هؤلاء مقتصر على عشائرهم وقبائلهم، بينما يخترق نفوذ النبي الإنتماءات القبلية ويعلو عليها دون أن يلغيها (...) كما يستند النبي إلى مرجعية دينية لا تتوفر لهم، وبهذا المعنى فإن سلطته لا تورث " (18) فمنذ الفترة المدنية بدأت ملامح الفعل النبوي في التاريخ تظهر، إنه حدث تأسيسي un événement inaugurateur بدأ بتغيير إسم دار الهجرة التي ستحتض الدولة- المدينة من يثرب إلى المدينة وفي ذلك إشارة إلى أن الدين الجديد قادر على إدارة الإختلاف العرقي والديني وحتى اللغوي في محيطه الجديد. لقد إعتبر هشام جعيط المدن العربية الإسلامية الناشئة تمثل تحولا أو " قطيعة " نحو صناعة حضارة جديدة دون إنكار لآستمرار دور النمطين الكلاسيكيين الآخرين في أداء دورهما الحضاري ويعني بذلك مدن القوافل في الصحراء وعلى حفافيها ومدن الدول العظيمة التي تأسست على شواطئ البحار والأنهار. كان " حدث الدولة " في الحياة العربية موضوعا مركزيا عند هشام جعيط عمل من خلال إستقرائه لتاريخ الإسلام المبكر على إبراز أهميته وتأثيره في تصوراتنا وفي رؤيتنا. يتحدث رضوان السيد في مقال نشر بعد وفاة هشام جعيط، يذكر فيه حوارا دار بينهما حول قيام الامة في التاريخ وحول إيديولوجيا الجماعة وهي مواضيع عزيزة على رضوان السيد وكان جعيط مشغولا بدولة المدينة التي إتجهت لإنجاز مشروع الأمة. وحين سأل رضوان السيد هشام جعيط عن إيديولوجيا الوحدات الثلاث: وحدة الجماعة، وحدة الدار ووحدة السلطة أو الدولة كان جعيط يجيب بأن " الدولة في المدينة " هي أساس الوحدتين الأخريين في إرادة التحقق وفي الوعي بذلك. وفي الوقت الذي يرى فيه رضوان السيد أن المدينة – الدولة هي المدينة الإغريقية يرى جعيط أن دولة المدينة هي التي تسعى بوعي للإنسياح في العالم مقدمة نمطا حضاريا جديدا. (19) إن المدينة- الدولة عند الإغريق تتميز بأن علماءها ومفكريها وفلاسفتها كرسوا مجهوداتهم لخدمة المصلحة العامة ودعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة ويثقف ويعلم ويربي النشء الصاعد. لقد كان لكل مدينة - دولة دساتيرها وقوانينها وآلهتها حتى وإن كانوا جميعا يشتركون في مكان واحد هو اليونان. لقد حدد أرسطو بعض الشروط الواجب توفرها لقيام المدينة – الدولة وتتمثل في: قيم خاصة بالمدينة، مؤسسات، وسائل عيش وقوة عسكرية للدفاع عن النفس. يتكون المجتمع داخل المدينة- الدولة من ثلاث طبقات تختلف من حيث الحقوق السياسية: الطبقة الأولى هي طبقة المواطنين الأحرار وهي الفئة الحاكمة، العسكر، ملاك الأراضي وفئة التجار يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة. الطبقة الثانية هي طبقة الأجانب الذين يعيشون في المدينة هم أحرار ولا يخضعون لأية سلطة حاكمة إلا أن بقاءهم متوقف على حسن تصرفهم أي خضوعهم لقانون المدينة، في حالة خرق القانون يطردون، ليس لهم حقوق سياسية. الطبقة الثالثة هي طبقة العبيد تعمل على إرضاء وإشباع حاجيات طبقتي الأحرار والأجانب وهي محرومة من جميع الحقوق السياسية فهي بمثابة أداة عمل. أما دولة المدينة النبوية فقد كانت لها تشريعاتها الخاصة وعقائدها المميزة، فقد ظلت طيلة حياة محمد بالمدينة تنحت شخصيتها الخاصة. شكلت غزوة الخندق حسب هشام جعيط، بآعتبارها خطرا خارجيا يستهدف إستئصال التجربة الوليدة من جذورها، عامل تماسك ووحدة لسكان المدينة جميعا(20). لقد وضعت هذه الغزوة دستور المدينة الذي ينظم العلاقات بين مختلف مكونات المدينة الإجتماعية والعرقية ووالدينية أمام إختبار تجسيد قيم التعايش المشتركة التي تضبط العلاقات فيما بين تلك المكونات. عملت دولة المدينة النبوية على الإعلاء من شأن العلم لذلك حاولت إقامة توازن جديد مع ثقافة المشافهة، السمة البارزة لثقافة البداوة وذلك بالتشجيع على تعلم القراءة والكتابة. كانت دولة المدينة توظف كل الإمكانات التي يتيحها الدين الجديد الذي أصبح هو المحدد الرئيس لهوية الجماعة ولإنتمائها، بعيدا عن عصبية الدم والعشيرة والقبيلة. إن الموروث الثقافي لفترة ما قبل الإسلام، والحامل لقيم سلبية عمل الدين الجديد على التخلص منه تدريجيا فمسألة العبيد وهي ظاهرة إجتماعية كونية في تلك الفترة إذ أن وجود مجتمع من دون عبيد ظل أمرا غير مفكر فيه أو مما يستحيل التفكير فيه آنذاك، لكن الدين الجديد وفي تكريسه لقيمة الإنسان ولعلو منزلته عمل على التشجيع على عتق العبيد من خلال نصوص ذات بعد مقاصد ومن خلال ممارسات تاريخية تذهب إلى الدفاع عن إنسانية الإنسان بقطع النظر عن هويته الدينية والعرقية وذلك تكريسا لقيم المساواة والعدل والإنصاف. إن الإسلام في داخله كان حاضنا للمختلف، وباحثا عن المشترك ومنفتحا على الآخر المغاير في نزوع متصاعد لتحجيم أثر النزعة القبلية في الدين الجديد، فمع بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، هذه الشخصيات بموروثاتها الثقافية والتاريخية أصبحت التجلي الأمثل لقدرة الدين / النبوة على صهر الجميع في أمة واحدة. في إطار إستمرار دولة – المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عمل الخليفة أبو بكر الصديق على التصدي لكل ما من شأنه أن يحدث تصدعات داخل جسم الأمة المتماسك وهما ظاهرتا الردة، وإدعاء النبوة وقد حلل هشام جعيط الظاهرة الثانية ليؤكد من خلالها أن السلطة في نظر العرب لا يمكن أن تقام إلا بنبوة تفرض على الجميع الإعتراف بها. يشرح جعيط ظهور نبوات شتى بأنه أمر مثير وذو دلالة على الترابط ما بين الدين والسياسة فقد جرى في كل المصادر وصف هؤلاء - طلحة عند بني أسد، سجاح عند تميم، الأسود العنسي في اليمن، ذي التاج في عمان ومسيلمة عند بني حنيفة – بالأنبياء الزائفين كأنواع من الكهنة لهم شياطينهم الخاصة بهم وينطقون بكلام مسجع ويمارسون السلطة الروحية والسلطة الزمنية. (21) ويرى جعيط أن ظهور تلك النبوءات في كل مكان تقريبا يطرح مشكلة، فهل يتعلق الأمر بمحاكاة محض للنبي محمد أم يتعلق الأمر بتعبير أعمق عن حقيقة مجتمعية وحضارية؟ وهل كانوا صدى لمحمد وتكرارا آليا لأستاذيته وسلطانه العقائدي أم كان الأمر متعلقا بإفراز مجتمع قبلي لا يمكنه بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية؟ حسب جعيط يتعلق الأمر بالإثنين معا. فلم يكن بمستطاع الأرستقراطية المحاربة أن تبلور سلطة دولة فقد كانت الظاهرة الدينية وحدها قادرة على توحيد الناس وعلى الحصول منهم على الطاعة والتشريع والتنظيم وقيادتهم إلى الحرب (...) لا بد من التسليم بأن تصور السلطة كان مستحيلا بدون النبوة في الوسط القبلي وفي ظروف الجزيرة العربية آنذاك. (22) يرجع جعيط الفشل الذي آلت إليه دعوات أدعياء النبوة إلى أنها كانت هشة لأنها مجرد تعبير عن القبيلة ولأنها لم تمر بمسيرة طويلة ولا بتجربة صادقة تعطيها مصداقية، كانت في مواجهة نبوة تملك مرتكزاتها الخاصة وكانت قد أسست قاعدتها الإجتماعية ومرت بمسيرة طويلة وتملك فضلا عن ذلك كله شعورا قويا بالحقيقة. (23) يشرح هشام جعيط إختيار أبي بكر وعمر كخليفتين للرسول صلى الله عليه وسلم عقب وفاته والإجماع الذي إنعقد حولهما، بأنهما حالة إستثنائية وتجسيدا للصحبة الإسلامية المحض وهي فوق إعتبارات قرابة البيت أو الإنتماء العشائري ويرى أنهما يتابعان على هذا النحو بارقة النبوة. (24) كلاهما لم يكونا ينتميان إلى قبائل كبيرة مهووسة بالجاه والسلطة، معهما يتجسد نزوع الإسلام إلى إسناد السلطة والحكم إلى من هو جدير بهما بعيدا عن منطق التوريث وعن صلة الدم والعشيرة، كانت معهما قيم الإسلام تتقدم على الأسرة وهو مسار انخرط فيه الإسلام يقوم على محاربة بقايا ما خلفته آنتروبولوجبا البداوة وما تركته في وعي الإنسان العربي، إلا أن للتاريخ منطقه ومساره الخاص ولا سيما الأحداث التي عاشتها الأمة بعد مقتل عثمان. و التي كشفت عن عودة قوية لمنطق القبيلة وللعصبية.

الخاتمة: يقدم هشام جعيط في آخر كتابه حول الوحي والقرآن والنبوة، شهادة رائعة حول رؤيته لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، شهادة من مختص في تاريخ الأديان المقارن تؤكد عمق الخلاصات التي توصل إليها بعد دراسته لسيرة الرسول ومقارنتها ببقية الأنبياء والشخصيات التي تركت بصمتها في وجدان الشعوب التي عاشوا بينها وفي تاريخها، يقول: " وإذا كان محمد ممن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيدية أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا ولهذا لهو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق. " (25)

***

رمضان بن رمضان باحث في الحضارة العربية الإسلامية

...............................

الهوامش والتعليقات:

1 – حوار مع هشام جعيط أجرته معه حياة السايب، موقع ثقافات، أعيد نشره في 24 يونيو 2021

2 – عبد الرحمان إبن خلدون (ت 808 هج/ 1406 م)، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هج / 2000، ص 119.

3 – هشام جعيط، في السيرة النبوية- 2 – تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 2007، ص 145.

4 – ن. م ص 156

5 – ن. م ص 156

6 – ن. م ص 157

7- ن. م ص 157.

8 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، د. ت، ترجمة خليل أحمد خليل، ص 13.

9 – ن. م ص 13

10 – ن. م ص 14

11 – ن. م ص 14

12 – ن. م ص 15

13 – ن. م ص 18

14 – ن. م ص 19

15 – ن. م ص 20

16 – ن. م ص 21

17 – ن. م ص 21

18-عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001، صص 76 - 77.

19 – رضوان السيد، " هشام جعيط... المؤرخ والمفكر النهضوي العربي " جريدة الرأي، الجمعة 23 شوال / 04 يونيو 2021 رقم العدد 15529.

20 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص 27

21 – ن. م ص 39

22 – ن. م ص 40

23 – ن. م ص 40

24 – ن. م ص 37

25- هشام جعيط، في السيرة النبوية – 1 – الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 2008، ص 107

في الأساطير تُعتبر الاحجار رموزًا قوية وتحمل معاني متعددة، تتراوح بين القوة والثبات إلى التحول والتغيير، حيث يمكن أن يتحول الأشخاص إلى حجارة كعقوبة أو كوسيلة للنجاة، تُعتبر بعض الاحجار تمثيلًا للأحداث التاريخية، حيث تُخلد ذكرى الأبطال أو الآلهة، بعض الحجارة تُعتبر مقدسة، مثل الحجارة التي تُستخدم في المعابد لتكريم الآلهة. تتناول اسطورة سيزيف عقوبته بسبب تحديه للآلهة، حيث قام بالخداع والاحتيال، حتى أنه استطاع الاحتفاظ بحياته لفترة أطول من المعتاد، سيزيف كان ملكا يستهزئ بالآلهة، مما أغضب زيوس كما قام بخداع هاديس (إله الموت) مرتين، مما أدى إلى انتهاك قوانين الموت، عوقب سيزيف بأن يُجبر على دفع حجر ثقيل إلى قمة جبل وعندما يصل إلى القمة يتدحرج الحجر إلى الأسفل مما يجعله يبدأ من جديد، وهي عقوبة تمثل العمل العبثي واللا جدوى لم يكن سيزيف مواطنا عاديا يدفع حجرا الحجر الى قمة الجبل بل كان ملكا في كورنثة، مواطنا عاديا كجزء من تجربة الإنسانية وكيف تمنح الالهة البشر حرية البحث عن معنى، بالتالي تعكس أهمية الإرادة الحرة في خلق المعنى، يُعتبر عذاب سيزيف رمزًا للصراع الإنساني في حياة مليئة بالتحديات، تُشجع الآلهة البشر (الملوك)على خوض تجاربهم الخاصة، مما يعكس فكرة أن المعنى يُكتسب من خلال التكليف، بالتالي إذا كانت الآلهة لا تعرف المعنى، فإن ذلك يُعزز من فكرة العبثية، حيث يجب على البشر (ملوكا )مواجهة الفوضى والبحث عن قيمة في معاناتهم، ويُمكن أن يُعتبر عبء سيزيف دعوة للتأمل في طبيعة الحياة والوجود، مما يفتح المجال لفهم أعمق للمعنى الشخصي، بذلك يمكن ان تبرز أهمية التجربة البشرية في مواجهة التحديات والسعي نحو الفهم.

اسطورة سيزيف في الادب والفلسفة

تُستخدم أسطورة سيزيف في الأدب والفلسفة بطرق متعددة، حيث تعكس موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعنى. في أعمال ألبير كامو، تُعتبر أسطورة سيزيف رمزًا للعبثية. يرى كامو أن الحياة قد تكون بلا معنى، لكن الإنسان يجب أن يقبل هذا العبث ويستمر في الكفاح، في الأدب تعكس قصص عديدة صراعات الشخصيات التي تشبه معاناة سيزيف تُعتبرها الأساطير تعبيرًا عن التحدي للسلطة والتقييد، حيث يرمز سيزيف إلى الشخص الذي يرفض الخضوع للآلهة، ويمثل الحجر الذي يدفعه رمز العبء والجهد المستمر، ويعكس المعاناة البشرية والسعي نحو الأهداف رغم العقبات، ترمز قمة الجبل (قمة...!) بكونها الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه، وتعكس الصعوبات والتحديات التي تواجهه، تُشير هذه الفكرة إلى عدم وجود معنى حقيقي في الحياة لان الصخرة قد تتدحرج الى واد اخر وتستدعي سيزيفا اخر ليرفعها مجددا بعقوبة أو تكليف، حيث يصبح الجهد المتكرر بلا جدوى، مما يبرز الصراع الداخلي للإنسان حيث يعيش في حلقة مفرغة من العمل، مما يمثل الصراع مع الزمن والوجود، يرتبط الخداع الذي مارسه سيزيف مع الالهة، بنزعة الإنسان للتمرد على القدر مما يجعلها موضوعًا غنيًا في التفكير الفلسفي.

حدود الإرادة الحرة

الإرادة الحرة في تحقيق المعنى، وفي سياق هيمنة الآلهة تظل خاضعة لسلطتها، مما يحد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات حقيقية، إن السعي لتحقيق معنى قد يبدو عديم الجدوى، مما يُقلل من فعالية الإرادة الحرة في خلق قيمة ما تعتمد الإرادة الحرة على التجارب الفردية، لكن هذه التجارب قد تكون محكومة بالظروف والتحديات التي تفرضها الآلهة، يُمكن أن يؤدي الصراع بين الإرادة الحرة والقيود المفروضة إلى تناقض داخلي، حيث يشعر الفرد بالتوتر بين الرغبة في الحرية والواقع الذي يعيشه، تعيق الظروف الحياتية الصعبة والقيود المفروضة من قبل الآلهة قدرة الفرد على تحقيق معناه الخاص هذا يُعزز من شعور الفرد بالعزلة، مما يُضعف من إيمانه بإرادته الحرة ويمكن أن يؤدي إلى عدم الجدوى في تحقيق معنى، الواقع الذي تفرضه الآلهة قد يقود إلى اليأس، مما يُحد من فعالية الإرادة الحرة، هنا تظهر حدود الإرادة الحرة وكيف يمكن أن تتداخل مع هيمنة الآلهة، مما يجعل تحقيق المعنى تحديًا معقدًا.

تمرد سيزيف

يبدو أن رمي الحجر قد يحرر سيزيف من العقوبة المستمرة، لكنه في الوقت نفسه يعني أيضًا التخلي عن الصراع الذي يحدد وجوده، قد يُعتبر هذا الفعل أيضا تحديًا للآلهة، مما يجعله عرضة لعقوبات جديدة، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يفقد المعنى المرتبط بالجهد المستمر والسعي، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان يمكن العثور على معنى في الحياة بدون صراع، حيث أن التخلي عن الصراع قد يعني الاستسلام للفوضى، مما يتناقض مع فكرة الوجود التي تدعو إلى إيجاد قيمة في النضال، لكن يظهر هذا القرار قوة الإرادة الحرة، في الوقت نفسه والتوتر بين الرغبة في التحرر والالتزام بالمسؤولية، قد يؤدي التمرد إلى نتائج غير متوقعة، حيث أن الأفعال تحمل عواقبها، وبالتالي، فإن اتخاذ قرار بالخروج عن وصايا الالهة يؤدي إلى تحديات جديدة بشكل عام، إذا رمى سيزيف الحجر، قد يبدو أنه حقق تحررًا مؤقتًا، لكنه أيضًا يواجه تداعيات جديدة تعيد تشكيل وجوده وتجربته.

تحدي السلطة

يُظهر رمي الحجر تحديًا لسلطة الإلهة، مما يُعتبر انتصارًا رمزيًا على قيود القدر، قد يشعر سيزيف بالتحرر من عبء العقوبة، مما يمنحه شعورًا بالتحكم في مصيره، رغم شعوره بالانتصار يبقى هذا الفعل عبثيًا، لأن تبعات التمرد تؤدي إلى عقوبات جديدة أو صراعات أخرى، حيث إن الحياة مليئة بالتحديات المستمرة، مما يعيد سيزيف إلى دوامة المعاناة، قدرة الفرد على مقاومة الضغوط الخارجية حتى مع هذا الانتصار، تعكس الفكرة الوجود بأن المعنى يُكتسب من خلال الجهد المستمر، بذلك يُمكن اعتبار رمي الحجر انتصارًا رمزيًا، لكنه يظل مؤقتًا ويعكس التوتر بين الحرية والعقوبة.

التماهي الفلسفي

التماهي الفلسفي يتحدى الفهم التقليدي للحياة والمعاناة، مما يمثل تمردًا على الأفكار السائدة، يمكن للإنسان أن يخلق معنى خاصًا لنضاله، حيث يتحول العمل المتكرر إلى تجربة ذات قيمة، يُعتبر التماهي الفلسفي وسيلة لتحرير العقل من القيود المفروضة من قبل المجتمع أو الالهة، مما يعزز من الإرادة الحرة، يتجلى التماهي في الصراع من أجل فهم الهوية الفردية والعثور على المعنى الشخصي في مواجهة العبثية من خلال التأمل في الذات، يعتبر التماهي الفلسفي كوسيلة للتفاعل مع فكرة العبثية، حيث يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم عدم جدواه، يُعتبر التماهي الفلسفي نوعًا من التمرد الذي يُساعد الأفراد في خلق معنى في حياتهم من خلال فهم تجاربهم، رغم أن التماهي يساعد في خلق معنى، إلا أنه يظل محاصرًا بفكرة العبثية، حيث يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الجدوى. مما يجعله كالحجر رمزًا للثقل الذي نحمله جميعًا في حياتنا.

الالهة والسلطة المطلقة

تمثل الآلهة سلطة مطلقة، حيث لا يمكن للإنسان الإفلات من عقوباتهم، مما يعكس فكرة الهيمنة والتحكم، تمرد سيزيف على الآلهة يظهر رغبته في مقاومة هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع بين الإنسان والسلطة، تعكس عقوبة سيزيف عبثية السلطة لأنها لا تضمن معنى أو قيمة، تحدي سيزيف للآلهة يعكس الصراع بين القوانين الإلهية والرغبة الإنسانية في الحرية، مما يبرز التوتر بين السلطة والفرد، العقوبة تُظهر كيف يمكن للسلطة أن تفرض قيودًا على الأفراد، وتُبرر المعاناة الناتجة عن هذه الهيمنة، مما يعكس الصراع المستمر بين الفرد والقيود المفروضة عليه، يمثل تمرد سيزيف على الآلهة تعبيرًا عن الإرادة الحرة، حيث يختار مواجهة العقوبة بدلًا من الاستسلام، الحرية تمنح سيزيف الفرصة للبحث عن معنى في معاناته، مما يُظهر كيف يمكن للفرد أن يجد قيمة في النضال رغم القيود، حرية سيزيف وصراعه الداخلي بين الرغبة في الهروب من العقوبة وبين التزامه بمواجهة التحديات تُعتبر حرية ووسيلة للتمرد على المعنى المفقود، حيث يجد سيزيف القوة في اختياراته، يُظهر سيزيف أن الحرية تكمن في القدرة على اتخاذ القرارات، حتى في ظل هيمنة الآلهة، مما يُعزز من قوة الفرد بذلك، تلعب الحرية دورًا محوريًا في هذا السياق . في أسطورة سيزيف، يمكن اعتبار أن الوعي قد انتصر على سلطة الآلهة على عدة مستويات وان سيزيف أدرك معاناته وقبل بها، مما يمنحه وعيًا وجوديا يحمل كل المعنى.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السير فوق الماء مهمة مستحيلة في الواقع، لكن تفسيرها في الحلم هو اليقين بعد الشك، والتحرر من المخاوف والهواجس. وما يعرضه ديريك جنسن، الكاتب الأمريكي والناشط في مجال البيئة، من خلال يومياته داخل الفصل الدراسي يحقق المعنيين معا، أي وهم السير فوق الماء الذي تعدنا بها التصورات الرائجة عن التعليم والكتاب والحياة، ثم تبديد الوهم عن طريق إعادة اكتشاف ذواتنا، وإثارة التساؤلات المختزنة في الذاكرة منذ اقتحامنا الطفولي المحموم لحجرة الدرس.

إن أهم الأشياء التي تعلمتها في المدرسة، يقول جنسن، هي كيفية إضاعة الوقت، والحرص على توجيه الأسئلة إلى أصحاب السلطة بطريقة مراوغة، خوفا من حرماني من الحصول على درجات. باختصار تعلمت أن أخون نفسي وأقوم بتعريتها. وسبب ذلك أن النظام التعليمي يعتبر الغرض الأساسي من المدرسة هو مساعدة الأطفال على التعلم، دون أن يأبه لنوعية الأدوات أو الكيفية الصحيحة في تكوين الأفراد. لذا تستمر المدرسة حتى اليوم في ترسيخ مغالطة كبيرة حين تلقن الطلبة المعلومات ولا تعلمهم السلوك وحسن التصرف. وتبقى أفضل طرق التدريس، وأصعبها في الآن نفسه، هي أن تتخلى عن دفاعاتك الشخصية، وتحاول فهم تجارب ومشاعر الآخرين باعتماد وسيلة حيوية هي البوح بكل تساؤلاتك لتوضيح حيرتك وارتباكك.

قادت الخبرة التي حصَّلها جنسن في مجال التعليم، سواء بجامعة واشنطن الشرقية أو في السجن الحكومي، إلى اكتشاف أن إعادة بناء المصداقية في التعليم تتطلب سلسلة من المحاولات المضنية للبحث عن الأشياء البسيطة والمقنعة التي تُبنى عليها الدروس، مع التركيز على قول الحقيقة الإيجابية للطلاب، والاهتمام بالإطراء والثناء دون تفريط في النصائح الفنية والعملية:" إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلم نفسك".

تولى جنسن تدريس طلابه فن الكتابة، ورصد القواعد التي تحدد أروع ما في تفاصيل حياتهم من منطلق أن الإنسان حَكّاء وراوٍ بطبعه، وما يحتاج لتعلمه ليس كيفية الحكي وإنما أن يكون ما هو عليه بالفعل. فالكتابة الجيدة أو حتى مجرد سرد قصة لا يتطلب اختراع شيء خيالي وغير ممكن، وإنما يتطلب ببساطة أن أكون نفسي قدر المستطاع. وأهم شرط للكتابة الجيدة ألا يشعر القارئ بالضجر، وأن تكون الإثارة سبيلك لأن تصيبه ببعض الطلقات النارية في الصفحات العشر الأوائل. ينبغي أن تستحوذ على انتباه القارئ بكلمات مفيدة وممتعة، وحوار بمستوى رفيع. فمن الأشياء التي جعلت أفلام الأربعينات و الخمسينات أفضل من أفلام اليوم هي أن معظم كُتابها كانوا روائيين، ويجيدون بالتالي رسم الشخصيات. أما في أيامنا هذه فمعظم الكتاب من خريجي معاهد السينما أو دارسي الإعلانات الذين برعوا في استخدام الصور المدهشة لإيهام المُشاهد، لكنهم لا يعرفون كيفية كتابة الحوار.

تتطلب الكتابة الجيدة كذلك قدرتك على اكتشاف نفسك، وتحديد الأسباب التي تجعلك سعيدا كي تناضل من أجل تحقيقها. فالحضارة الصناعية حولتنا من إنسان نابض بالحياة إلى إنسان آلي، وقوى عاملة مطيعة ولينة. لذا نشأنا داخل نظام يفصلنا عن وجداننا، ويخلع عنا إنسانيتنا. والسبيل الوحيد لوقف تلك الانتهاكات المخزية التي تحدث لقلوبنا وعقولنا هو تدريب أنفسنا مجددا على المضي في طريق النجاح ومطالبة الآخرين بإفساح الطريق !

والاهتمام الكامل بالتفاصيل درس كذلك من دروس الكتابة، إذ ينبغي العناية بالدقة في وصف الأشياء لجذب انتباه القارئ، والتمسك بكل ما هو حقيقي لتصبح الكتابة شيئا جميلا. إن خُدعتها الأساسية هي أن تكتشف المكان الذي يختبئ فيه قلب الشخص الآخر، ثم العمل على مساعدته للوصول إلى ذلك المكان.

وعن الشعور بصعوبة الكتابة يقول جنسن أن ذلك نتاجُ عدم امتلاك معلومات كافية، ورؤية الموضوع من مختلف زواياه، وافتقاد الكاتب لرؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة حتى يكتمل المشهد في مخيلته. ومن الأشياء المهمة التي تعلمها جنسن طوال خمسة عشر عاما من الكتابة هي كيفية الحفاظ على ألا يفقد الكاتب الفكرة أثناء عمله، وإلا سيصبح الأمر محبطا وعديم الجدوى، لأن المرء يكتب بعقله لا بجسده.

ومن الكتابة إلى الحياة يُوجه جنسن نقده المحموم لنظام السيطرة المتولد عن الحضارة الصناعية. ذاك النظام الذي فجرت آليته كل جزئيات الحياة بما فيها القلب والجسد، وامتدت علاقاته القهرية إلى نظام التعليم، فتشرَّب الطلابُ خِبرات الظلم والاضطهاد، سواء من لدن الوالدين أو المدرسين أو كل أشكال السلطة المختلفة. وكانت المُحصلة هي الوصول بالناس إلى أن يكونوا أشخاصا آخرين غير أنفسهم، وهو أمر لا يمكن الإفلات من شَركه إلا بالسير فوق الماء.

كيف ذلك؟

يقول جنسن:" يجب أن تتبعوا قلوبكم. إن أكثر الأعمال الثورية والأخلاقية التي تستطيع القيام بها لمساعدة الآخرين هي أن تساعدهم على اكتشاف قلوبهم الحقيقية، أي اكتشاف شخصياتهم، والعمل على تعريفهم بآرائهم ومواقفهم، ومساعدتهم على اكتشاف أنفسهم".

نحن الذين نصنع اختياراتنا حسب رؤيتنا للعالم. وإذا كانت حضارة اليوم مبنية على الخضوع، فيجب أن ننتبه للمشاعر والسعادة النفسية حتى لا نصير عبيدا للسلطة والصفوف والتقاليد.

عَبْر الدروس التي ألقاها جنسن على نزلاء السجن وطلاب الجامعة، وفق منهجية متحررة من صرامة النظام التعليمي، نتابع ذاك الطَّرْق الخفيف والمؤلم على عقول كادت تفقد الإحساس بأجسادها، كما نستشعر تلك الدعوة الحارة لتمرين علاقاتنا الفقيرة على استعادة إنسانيتنا المقترنة دوما بجدوى الحياة المشتركة على هذا الكوكب .

إن السير فوق الماء لا يحتاج سوى لعقل موضوع في مكانه للقيام بوظيفته على نحو جيد !

*** 

حميد بن خيبش

اذا كان الكون لامتناهيا سلفا فما هو الشيء الذي يتوسع فيه؟ عندما نريد إعداد رغيف من الخبز او كمية من الكيك، نضع العجينة في مقلاة الخبز. وعندما تُوضع العجينة في الفرن، سوف تتوسع وهي في داخل المقلاة. كل قطعة صغيرة من الشوكلاته المضافة الى عجينة الكيك تصبح بعيدة عن بعضها البعض مع تمدد العجينة .

ان توسّع الكون، يشبه ذلك بطريقة ما. لكن هذه المقارنة تنطوي على خطأ واحد وهو بينما العجينة تتمدد في مقلاة الخبز، فان الكون ليس فيه أي شيء يتمدد فيه. انه فقط يتمدد في ذاته. انه يشبه لغز محير، الكون يعني كل شيء ضمنه. في توسّع الكون، لاوجود هناك لمقلاة. هناك فقط عجينة. وحتى عندما تكون هناك مقلاة، ستكون جزءاً من الكون الذي يتوسع معها .

هذه الأفكار يصعب فهمها حتى من جانب اساتذة الفيزياء مثل البروفيسوره Nicole Granucci استاذة الفيزياء وعلم الفلك في جامعة كوينيبياك في الولايات المتحدة التي درست الكون لسنوات طويلة. نحن لم نتعامل مثل هذه الأشياء في حياتنا اليومية. هي كالسؤال عن أي اتجاه أبعد الى شمال القطب الشمالي (باعتبار ان القطب الشمالي هو أبعد نقطة في الشمال، لذلك لا وجود لموقع جغرافي شمال القطب الشمالي. جميع النقاط على الارض التي ليست على القطب الشمالي تكون الى جنوبه).

 طريقة اخرى للتفكير حول توسّع الكون هي عبر التفكير بالكيفية التي تتحرك بها المجرات الاخرى بعيدا عن مجرتنا درب التبانة. العلماء يدركون ان الكون يتوسع لأنهم يستطيعون تعقّب المجرات عندما تتحرك بعيدا عنا. هم يعرّفون التوسّع مستخدمين السرعة التي تتحرك بها المجرات بعيدا. هذا التعريف يسمح لهم لتصوّر التوسّع بدون الحاجة لشيء ما يتوسع فيه.

توسّع الكون

بدأ الكون بالانفجار العظيم قبل 13.8 بليون سنة، وهذه النظرية تصف أصل الكون الذي بدأ من نقطة اصغر من جسيم دون الذرة وبحرارة وكثافة هائلتين. هذه النقطة الصغيرة جدا دخلت فجأة في توسّع سريع سمي التضخم، حيث كل مكان في الكون توسّع نحو الخارج. لكن اسم الانفجار العظيم يثير الالتباس. هو لم يكن انفجارا عملاقا كما يشير الاسم، وانما هو الزمن الذي توسع فيه الكون بسرعة.

بعد ذلك تكثّف الكون وبدأ يبرد بسرعة، مكوناً المادة والضوء. وبالنهاية، تطور لما يُعرف اليوم بالكون. الفكرة بان كوننا لم يكن ساكنا ويمكنه التوسع او الانكماش نُشرت لأول مرة من جانب الفيزيائي الكسندر فريدمن عام 1922. هو اكّد رياضيا بان الكون يتوسع.

وبينما أثبت فريدمن ان الكون يتوسع، على الأقل في نقاط معينة، فان ادوين هابل نظر عميقا في سرعة التوسع. العديد من العلماء الآخرين اكّدوا ان المجرات الاخرى تتحرك بعيدا عن مجرة درب التبانة، لكن في عام 1929، نشر هابل ورقته الشهيرة التي أكّدت ان الكون بأكمله يتوسع، وان سرعة توسعه تتزايد. هذا الإكتشاف يستمر في إثارة الحيرة لدى علماء الفيزياء الفلكية: ماهي الظاهرة التي تسمح للكون في التغلب على قوة الجاذبية التي تبقيه متماسكا بينما في نفس الوقت يتوسع ايضا عن طريق سحب الاشياء في الكون بعيدا عن بعضها البعض؟.

وفوق كل ذلك، ان سرعة توسع الكون تتزايد بمرور الزمن. العديد من العلماء يستخدمون وسيلة مرئية تسمى وعاء التوسع expansion funnel لوصف الكيفية التي تسارع فيها توسع الكون منذ الانفجار العظيم. لنتصور وعاءا عميقا ذو حافة واسعة. الجانب الايسر من الوعاء – النهاية الضيقة – تمثل بداية الكون. كلما نتحرك نحو اليمين، نحن نتحرك الى الامام في زمن. توسّع الوعاء يمثل توسع الكون.

العلماء لم يكونوا قادرين على ان يقيسوا مباشرة من أين تأتي الطاقة المسببة لهذا التوسع المتسارع. هم غير قادرين على اكتشافه او قياسه. وبما انهم لايستطيعون بشكل مباشر قياس هذا النوع من الطاقة، فهم يسمونها الطاقة المظلمة.

طبقا لنماذج الباحثين، فان الطاقة المظلمة يجب ان تكون الشكل الاكثر شيوعا للطاقة في الكون، تصل نسبتها الى 68% من اجمالي الطاقة الكلية. الطاقة من كل المادة المكونة للارض والشمس وكل ما نراه من أشياء، تقدر فقط بحوالي 5% من مجموع الطاقة.

خارج وعاء التوسع

اذاً، ما هو الشيء الموجود خارج وعاء التوسع؟

ليس لدى العلماء دليلا على وجود أي شيء وراء كوننا المعروف. لكن البعض يتنبأ ان هناك أكوانا متعددة. النموذج الذي يتضمن أكوانا متعددة يمكنه معالجة بعض المشاكل التي يواجهها العلماء في النماذج الحالية للكون. احدى المشاكل الكبرى في الفيزياء الحالية هي ان الباحثين لا يستطيعون دمج ميكانيكا الكوانتم التي تصف عمل الفيزياء في نطاق صغير جدا، مع الجاذبية التي تحكم الفيزياء على نطاق أوسع. القواعد التي تحكم تصرّف المادة على نطاق ضيق تعتمد على كمية ثابتة من الطاقة. في هذا النطاق، الأشياء يمكن ان تأتي وتخرج من الوجود. المادة يمكن ان تتصرف كموجة. العالم الكوانتمي مختلف جدا عن الكيفية التي نرى بها العالم.

وعلى النطاق الاكبر، الذي يسميه الفيزيائيون الميكانيكا الكلاسيكية، تتصرف الاشياء بالطريقة التي نتوقعها في حياتنا اليومية. الاشياء ليست منفصلة ويمكنها ان تمتلك كميات مستمرة من الطاقة، هي لا تدخل او تخرج من الوجود.

العالم الكوانتمي يتصرف كنوع يشبه مفتاح الضوء وحيث الطاقة لها فقط خيار تشغيل وايقاف. اما العالم الذي نراه ونتفاعل معه يتصرف أشبه بجهاز التحكم في الاضاءة، يسمح لكل مستويات الطاقة. لكن الباحثين يقعون في مشاكل عندما يحاولون دراسة الجاذبية على المستوى الكمومي. على النطاق الأصغر، يفترض الفيزيائيون ان الجاذبية هي quantized أي ذات قيمة محدودة ومنفصلة وغير مستمرة. لكن العديد من البحوث التي اجريت لا تؤيد تلك الفكرة. احدى الطرق لجعل تلك النظريات تعمل مجتمعة هي نظرية الأكوان المتعددة. هناك عدة نظريات تنظر في ما وراء كوننا الحالي لتوضح كيف تعمل الجاذبية والعالم الكوانتمي مجتمعان. بعض هذه النظريات الرائدة تشمل نظرية الاوتار وعلم الكونيات الغشائية ونظرية الكم الحلقية وغيرها.

وبصرف النظر عن كل ذلك، سيستمر الكون بالتوسع، والمسافة بين مجرتنا والمجرات الاخرى تتسع بمرور الزمن وتبقى حيرتنا مستمرة.

***

حاتم حميد محسن

...................

المصدر:

What is the universe expanding into if it’s already infinite? The conversation, December 9, 2024

 

يحتفظ القرآن الكريم باللغة العربية (الفصحى). ويراد بالفصحى الافصح او الأعلى فصاحة، وهي درجة بلغتها لغة العرب في الجاهلية، ولغة القرآن الكريم فقط. ثم انحدرت الى درجات متفاوتة في الفصاحة الى عربيتنا اليوم. فالقرآن يتطابق تماماً مع اللغة العربية الفصحى، وكل عربيات اجيال العرب لا تتطابق.

ولا أقصد بالعربية الجاهلية لغة الشعراء؛ فالشعراء الجاهليون أول من أساء الى اللغة. فمثلا يجعل امرؤ القيس (الطعام) اسما لما يُؤكل إزاء (الشراب) اسما لما يُشرب، قال امرؤ القيس:

أَرانا موضِعينَ لِأَمرِ غَيبٍ وَنُسحَرُ بِـ(الطَعامِ وَبِالشَرابِ)

وقد وقرت هذه الدلالة في اذهان الاجيال الى اليوم، وهو ان الطعام ما يُؤكل، والشراب ما يُشرب. بينما في لغة العرب الفصحى (الطعام) ما يتحسس الفم طعمه من أكل وشرب معا. وهو المستعمل في القرآن الكريم. ففي معنى الاكل جاء قوله تعالى (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (الأنعام: 145)، وفي معنى الشرب قوله تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (البقرة: 249)، فاستعمل (شَرِب) نظيرا لـ(طَعِم)..

ويعرف كلنا أن (البخل) ضد الكرم، و(البخيل) هو الحريص المقصّر في الصرف على نفسه وعياله والاخرين. وسمّى الجاحظ (وهو أعلم جيله بالعربية) أحد كتبه (البخلاء) متندراً على جيله الذي شاع فيه (الحرص) وكانوا يسمونه (اقتصادا) ويعدونه صفة حميدة. أما اللغة العربية الفصحى فلا تستعمل لهذه الدلالة البخل، بل (الشُّح) وتسمي فاعله (شحيحا و نحَّاما)، وتسمي عدم الانفاق على الفقراء والمساكين بخلا، وغير المعطي لهم بخيلا. قال طرفة بن العبد:

أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ       كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ

فالنحّام: الشحيح على نفسه، والبخيل: الذي لا ينفق على الفقراء والمحتاجين. وهذا هو المستعمل في القرآن الكريم. فالمبتلى بقلة الصرف الشخصي يسمى (شحيحا) وفعله (الشح) قال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ، وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 128)، أي احسنوا الانفاق على عيالكم. واستعمل القرآن الكريم (البخل)  في الزكاة والصدقة واطعام الفقراء والمساكين (الامور الدينية). كقوله تعالى (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (التوبة: 76(. أي كفروا ولم يعطوا الزكاة، وهو كقوله تعالى في السورة نفسها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103). وفي البخل ايضا قوله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (النساء: 37). علما ان الله سبحانه لا يتدخل في أمزجة الناس وخصوصية تصرفاتهم؛ فلا يعاقب الانسان الشحيح، بل انه سبحانه يمقت الصرف الأهوج، حتى الصدقة المبالغ بها يرفضها ولا يحبها، قال تعالى (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الانعام: 141)، أي كلوا منه وتصدقوا بلا اسراف، لان الله سبحانه وتعالى لا يحب الاسراف (الشخصي والديني). وهكذا أشاعوا خطأ أن البخيل هو الذي يقتّر في الصرف.

وكان عضو المرأة له اسم واحد في لغة العرب الفصحى وهو (الهَن)، وذكر القرآن الكريم اسما مشتركا لعضو المرأة والرحل هو (السوأة) التي تعني ما يجب ستره، لذا سمى الجثة (سوأة) أيضا، قال تعالى (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ (طه: 121)؛ (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي (المائدة: 31). وفي الاسلام أضافوا اسم (الفَرْج) أخذا من القرآن. وفي العصر العباسي عصر العجمة وضياع الفصحى، وبسبب كثرة المجون الذي صار شغلهم الشاغل ابتكروا لعضو المرأة أكثر من مائة اسم، منها ما اخذوه من اللغات المجاورة: الفارسية والكردية والتركية وغيرها، وهو الشائع اليوم.

نحن اليوم نعدّ الاسم الفصيح والصحيح لعضو المرأة هو (الفرج). وهو خطأ، بل الصحيح ان الفرج (كل فتحة في مغلق)، فاذا فتحت اصابع كفك فتلك (فروج الاصابع)، واذا اغلقت عليك شدة دعوت الله للفرج. وفي القرآن الكريم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ .. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ (النور: 30 – 31). ففرج الرجل الاجزاء المثيرة للمرأة كالصدر والبطن والافخاذ، وفرج المرأة المثير للرجل وهو جسدها كله عدا الكفين وقرص الوجه، وكذلك عدم ضرب المرأة برجلها الارض عندما تمشي لكي لا تحسّس الرجل بالمخفي من جسدها. ومن هذه الاية اخذ العرب لفظة الفرج واطلقوه على العضو؛ لانه الاخص بالستر.

وبهذا نقول باطمئنان: أن العربية ذبحت من قبل الشاعر الجاهلي ابتداءً لضرورة الوزن، والتنويع، وجرس اللفظة، وملاءمتها السياق وغير ذلك، فضحوا باللغة من اجل الفن، فحلت لغتهم محل اللغة الفصحى، ثم الشعراء والكتاب الى اليوم؛. ومن عصرنا مثال لجبران خليل جبران، فقد كان جبران ضعيفا في اللغة العربية بسبب عيشه في امريكا، فاستعمل جهلا (تحمَّم) بدل استحمَّ، في قوله (هل تحمّمتَ بعطرٍ )! وقد استغرب احد اللغويين المعاصرين من هذا الاستعمال ووضع بعده (كذا) مشيرا الى خطئه. وكذلك تورطت معجمات اللغة فخلطت حابل الفصحى بنابل المولد، ونقلت العدوى الى مفسري القرآن الكريم فاختلفوا في التأويل بسبب البعد عن الفصحى لغة القرآن، علما ان وضع المعجمات وتفاسير القرآن كان في العصر العباسي.

وما زالت الفصحى تتراجع عبر القرون حتى سادت في عصرنا لغة عربية لا فصحى ولا فصيحة، بل لغة مجرودة كما يجرد الدسم من الحليب فيصبح (خاليا من الدسم). فهي عربية عندك وصفها، لغة مثخنة بالاجنبيات، واكثر ما نقوله لا يقوله العرب، بل يقوله غير العرب، واذا بنا نتكلم بألفاظ ومعان وقواعد أكثرها انجليزي، وكأننا في كلامنا نتكلم لغة انجليزية مترجمة. وبالمحصلة صرنا بعيدين عن فهم القرآن والتراث. وقد ألفت في ذلك كتابي (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) فما التفت اليه أحد، وارسلته الى (مجمعات اللغة) في الوطن العربي ولاسيما في بغداد، فأهملوه تماما، وأغلقوا دوني آذان سمعهم وفهمهم، مستبقين هذه اللغة الهزيلة دون مراجعة وتصحيح، وينادون بأنها وريثة لغة العرب، وهكذا لم اجد مصغيا من الموتى:

لَقَد أَسمَعتُ لَو نادَيتُ حيًّا       وَلكِن لا حَياةَ لِمَن أنادي

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

استجابة لرغبة المعنيين والمهتمين والدارسين بالمعارف الفلسفية؛ الذين تعذر حضورهم لندوة شهر مايو التي عقدتها الجمعية الفلسفية المصريّة في مساء يوم الأحد الموافق 11\5\2025م، نقدم لكم أهم ما جاء فيها من اقتراحات نظرية، وبرامج علمية تطبيقية، قد نالت استحسان الحضور في تلك الجلسة التي استفدت من مداخلات المعلقين على ما طرحته، وموافقتهم على بذل كل ما يقدرون عليه لنقل هذه الآراء النظرية والعملية؛ من طور الخطاب المزمع إلى طور المشروع المعد للتطبيق لإنقاذ ثقافتنا من الأزمة التي حاقت بها.

 نعم تلك المحنة التي كانت وراء انزعاجنا وأسفنا على ذلك القرار الجائر الذي قوض الدراسات الفلسفية في المقررات الدراسية بالمرحلة الثانوية، وانعكس ذلك بدوره على أقسام الفلسفة في كل الجامعات المصرية، ذلك القرار الذى كان يحتاج إلى أنات العالم، وحصافة التربوي، وحنكة السياسي، وعقلية المستنير قبل أن يمسك بقلمه من وافق على ذلك القرار الغاشم، الذي حرم شبابنا في هذه المرحلة السنية من المعارف التي تعين عقولهم على التفكر والتدبر، وغربلة الآراء والمعتقدات، والشائعات قبل قبولها والتأثر بمحتواها، ولاسيما في مجتمعنا المصري بخاصة والعربي بعامة، المستهدف من شرار الأغيار الذين يستهدفون تضليل أذهان شبابنا، وإفساد ذوقه وانتزاع الحياء من أخلاقه وتربيته، والتشكيك في مشخصاته التي يستمد منها هويته وانتماءاته الدينية والوطنية.

ويبدو أن كثرة الأحداث السياسية المتلاحقة قد حالت بين القائمين على التعليم في حكومتنا وإعادة النظر، ومراجعة هذا القرار الذي لا يقل خطورة في تبيعاته من تلك المكائد والمؤامرات التي يحيكها أعدائنا في شن حروبهم المعاصرة على أمننا واستقرارنا، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا. وقد بينا جانبًا من هذه المخاطر في حديثنا في صحيفة الأهرام في (15 من نوفمبر) واستفضنا في ذلك بمقالنا في صحيفة المثقف في (18 من نوفمبر في عام 2024)، ووضحنا مكانة الفلسفة في الثقافة العربية، ودورها في تشكيل العقل الجمعي، وانعكاس ذلك في عيون المثقفين وأذهانهم والاهتمام بها عند رواد الاستنارة والإصلاح، من قادة الرأي في مصر منذ مائة عام، وذلك في مجلة الفكر المعاصر في (العدد 36 من ديسمبر من نفس العام)، ثم صرحنا بما استشرفناه ممّا نأسف عليه في سلوك شبابنا الجامح اليوم، وحال برامجنا التعليمية ومقرراتنا الدراسية، وذلك في الندوة التي عقدت في معرض الكتاب (هذا العام في الثالث من فبراير) بقاعة الصالون الثقافي لمعرض الكتاب برعاية الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، والمجلس الأعلى للثقافة.

أمّا حديثنا اليوم؛ فيشتمل على خطاب نأمل العمل على زيوعه بين العاملين في هذا الحقل المعرفي، ومشروعنا العملي.  الذي تمهلنا في دراسة آليات تفعيله ليصبح جاهزًا للتطبيق، بعد التشاور في حيثياته التنفيذية، والخطوات الإجرائية التي تتناسب مع معاهدنا وأقسامنا الأكاديمية. وما نرجوه هو أن تسهم تعليقاتكم في تقويمه، وإثراء ما فيه من إيجابيات.

ولمّا كانت الخطابات التوجيهية والمشروعات العملية هي المقاصد الثوريّة للمتفلسفين، والحكمة العقلية وغايتهم التي يبتدعون من أجلها آليات تنفيذها؛ لتفعيل رسالة الفلسفة في تفسير الغامض، وتبرير الآراء، وتأويل الملتبس، وشحذ العقول للعزوف عن التقليد، والركود نحو التغيير والتحديث والإصلاح.

فأضحى بمقتضى واجبنا المهني والتزامنا الأدبي؛ ضرورة إمعان النظر في المرآة التي تعكس واقعنا الثقافي، وبرامجنا التوجيهية ومناهجنا التعليمية، ومقرراتنا الدراسية، وغربلة جميعها وانتقاء النافع منها الذي يعيننا على التخطيط لمستقبل الفلسفة في مصر.

أولاً: اقتراحات لإصلاح البنية البشرية:

لم يستحِ المجددون وأساتذة الفلسفة في مصر - منذ عام 1907- في التشاور حول كيفية إعداد القائمين على تدريس المعارف الفلسفية في الجامعة، ثم في المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، ثم استقروا على هذه القيم والمبادئ:

(١) أن محبة الحكمة يجب أن تتغلغل في نفوس القائمين على تدريس تلك المعارف قبل أن تستوعبها أذهانهم، لذا جعلوا التعاون والألفة والتعاطف والود والاحترام المتبادل من أوائل القيم التي يجب أن يتحلى بها المعلمون فتصبح ضرورة لا غنى عنها في أخلاقيات المهنة. سواء بين القائمين بالتدريس بمختلف درجاتهم، والطلاب بتباين طبائعهم وقدراتهم الذهنية، أو الباحثين الذين يحترفون قيادة الرأي العام في ميدان الإعلام أو المؤسسات التثقيفية. وغير خافي على أحد ما نعانيه اليوم في جل مدارسنا وأقسامنا العلمية من سلبيات مجافية لما حرص عليه وجوده أساتذتنا وروادنا الأول (والتلميح أبلغ من التصريح).

(2) وجوب الالتزام بالأمانة العلمية في إعداد الدراسات والأبحاث والمصنفات المختلفة ذات الصلة، بالقدر الذي يعصم الكٌتاب ممّا نعانيه اليوم في مصنفات البعض؛ حيث الاقتباسات غير المشروعة والأساليب غير المفهومة؛ ناهيك عن الشيفونية والراديكالية والتعالم والتعالى غير المبرر الذي يسلكه غُلة من يزعمون التفلسف، متناسين أن الحياء سنة الحكماء، وأن التواضع سمة العلماء والأتقياء والنبلاء.

(3) ضرورة الالتزام بالحيدة والموضوعية في تقويم الاختبارات والأبحاث ومناقشة الرسائل الجامعية، وانتخاب الأجدر في شغل الوظائف والدرجات والمهام الأكاديمية ذات الصلة المباشرة بالعملية التعليمية.

ثانياً: إصلاح البنية المعرفية:

ما زالت البنية المعرفية الفلسفية في مصر والعالم العربي غير متماسكة الأركان، وذلك لغيبة هيئة عليا تقوم بتنظيم وتقويم مصنفاتها  المعرفية، سواء كانت (موسوعات، أو معاجم أو مواقع) تكشف عن وجهة الدراسات الفلسفية، وأبعادها التوجيهية وخططها البحثية، الأمر الذي يحتاج لإعادة النظر في واقع بنية المصنفات الفلسفية الهاشة المتراكمة على نحو أعاقها عن التطور والتجديد والتحديث، للتعبير عن أقلام كاتبيها الذين راق لمعظمهم الرقود في تقليد ومحاكاة ما خلفه السلف من دراسات أو ادعاء الثورة على المألوف والموروث من المشروعات التليدة، واستملاح تقليد النظريات الغربية بحجة التحديث، ومسايرة العقليات الحرة المتقدمة.

والطريف أن روادنا الأوائل قد أثاروا هذه القضية؛ أعني هشاشة البنية الفلسفية التي ننتجها، واستعانوا على إصلاح ذلك الخلل بتقديم النقد والتحليل على الوصف والتأويل في كل الوافد من النظريات والآراء والأبحاث، سواء كان هذا الوافد من الموروث أو القادم من دراسات المحدثين المستغربين والغرباء، وذلك النهج منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتشهد بذلك كتابات المشتغلين بالفلسفة في الاستفتاءات التي طرحوها للتشاور على صفحات الدوريات (ماذا نأخذ من الغرب؟) وما هو الأصلح من الآليات للتعرف على نظريات الأغيار وآرائهم (الترجمة، أم التلخيص والتصنيف).

ومن أهم الإجراءات العملية التي اتخذها هذا الجيل لتطوير البحث الفلسفي في مصر- ونحن اليوم نستلهمه لنحييه في ثقافتنا المعاصرة:

(١) تشكيل فريق من نوابغ الباحثين لترجمة دائرة المعارف الإسلامية، وفريق آخر لتقويم ما فيها من متون معرفية بوجه عام، وفلسفية بوجه خاص، وذلك منذ العقد الثالث من القرن العشرين. وفريق رابع يقوم بتصنيف عدد من المؤلفات تجمع بين جناحي الفلسفة القديمة والحديثة، تحقيقًا وترجمة؛ وذلك تحت إشراف لجنة عليا لانتقاء الأعمال الجديرة بالتحقيق أو الترجمة أو التصنيف، وذلك أيضًا خلال أخريات النصف الأول من القرن العشرين.

ونستثني من ذلك لجنة التأليف والترجمة والنشر التي ظهرت مصنفاتها (عام 1914)، والمقالات التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا في أعرق المجلات الثقافية؛ مثل مجلة المقتطف، والمنار، والجامعة، والجريدة، والعصور، والسياسة، والثقافة، والرسالة، وغيرها من الصحف الأدبية والسياسية والتاريخية والدينية التي أسست بنية المعارف الفلسفية العربية بأقلام أبنائها،  ثم توالت سلاسل الكتب المؤلفة بأقلام أكابر المتخصصين من خرجي الجامعة المصريّة أو الجامعات الأوربية؛ مثل سلسلة إحياء الكتب العربية (عام 1944)، وسلسلة أعلام الإسلام (عام 1945)، وسلسلة نوابغ الفكر العربي عام (1953)، وسلسلة أقرأ (عام 1955)، وسلسلة نوابغ الفكر الغربي (عام 1956)، ثم سلسلة كتب دار الهلال (عام 1957)، وسلسلة أبحاث دائرة معارف الشعب (عام 1959) ثم سلسلة أعلام العرب (عام 1962)، وسلسلة أبحاث مجلة تراث الإنسانية في نفس العام، وسلسلة مقالات مجلة الفكر المعاصر (عام 1965).

وأعتقد أن هذا الزخم الفلسفي على وجه الخصوص كان وراء نهضة الفكر العربي في المشرق والمغرب؛ حيث ارتقاء الأذواق والأخلاق والمعارف، وتهذيبها ليس في معاهدنا التعليمية والتربوية فقط؛ بل في منازلنا وشوارعنا وأحاديث عوامنا قبل مثقفينا. وأعتقد أنه لا يجانبني الصواب عندما أقرر أن هناك سببًا أخر لا يقل أهمية من جهود هذا الجيل المستنير من الباحثين، يتمثل في أن قادة الرأي من القائمين على سياسة البلاد كانوا يدركون تمامًا أهمية المعارف الإنسانية التي تبني أذهان العقل الجمعي للأمة، بجانب المعارف العلميّة ومراكز التدريب الحرفية للعمال وأصحاب الصنائع. وبرهاننا على ذلك يتمثل في سجلات أسماء الوزراء وكبار الساسة الذين يشكلون العقل القائد لهذه الأمة؛ فسوف نجد من بينهم نسبة تتجاوز الـ 25% منهم- من المعنيين والمهتمين بالمعارف الفلسفية وأهميتها، وضرورة الحفاظ على القائمين عليها ورعايتهم، وذلك باعتبارهم الجيش المنافح عن صوالح الأمة ضد أعدائها الراغبين في هدمها من الداخل بسواعد وعقول أبنائها. ولا ينسينا ذلك أن العلة الحقيقية التي لا يمكن إنكارها في هذا السياق هو سلامة البنية البشرية القائمة على رعاية وتهذيب المعاهد وروح التعاون والحب والود والتفاهم الحاكم لدستور المشتغلين بالفلسفة سواء من المتخصصين الأكاديميين أو المنتسبين إليهم من المثقفين؛ الأمر الذي يبرر تقديم إصلاح البنية البشرية على إصلاح البنية المعرفية، أي تقديم الخطاب على المشروع في هذا السياق.

(١) إعداد دليل أو موقع بحثي لسائر الإنتاج الفلسفي الذي ينتجه المتخصصون في الأقسام الأكاديمية والكليات ذات الصلة. وذلك عن طريق تشكيل لجنة في كل قسم لإنجاز هذا العمل، وإخراجه في صورة موسوعية إلكترونية؛ ليسهل التعامل معها في استبيان المعلومات وإبراز مواطن القوة والضعف والكثرة والندرة والتكرار والطريف والنادر من تلك الأبحاث التي يمكن الاستفادة منها في عدة محاور تعيننا على تجديد وإصلاح وتحديث البنية المعرفية الفلسفية، وربطها بالدوائر المعرفية العربية والعالمية.

(٢) العمل على اتخاذ الخطوات الإجرائية والقانونية والأكاديمية لعودة درجة (أستاذ كرسي التخصص للمباحث الرئيسة في الفلسفة)؛ الأمر الذي يمكننا من ضبط وتحديد المواضع المركزيّة في المقررات الدراسية؛ الذي يجب على كل أقسام الدراسات الفلسفية في هذا التخصص الأخذ بها عند تأليف المقررات أو توجيه الدارسين والباحثين للمواضع التي يجب تطويرها وتحديثها، ذلك فضلا عن تقييم اللوائح الخاصة بالدراسات العليا والمقررات في الدبلومات والفصول التمهيدية لدرجتي الماجستير والدكتوراه؛ ذلك فضلاً عن وضع خطة بحثية مستقبلية لهذا التخصص تمكن المشتغلين به لمواكبة أحدث الدراسات العالمية ذات الصلة به. علمًا بأن هذه الدرجة الأكاديمية كانت مدرجة في الأقسام العلمية للجامعات الأم في مصر؛ حتى منتصف الستينات من القرن الماضي، وذلك لكثرة الخلافات الشخصية التي يجب تلافيها والعزوف عنها في المستقبل (والإشارة أبلغ دومًا من الاسترسال في الكشف عن دلالة العبارة).

(٣) دراسة الآليات المعاصرة لرفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس ومهاراتهم، وتشكيل لجنة عليا من قبل المجلس الأعلى للجامعات لاختبار الحاصلين على الدورات التأهيلية لتلك الغاية، بدايةً من النظر في ترشيح المعيدين وانتهاء لتجديد عقود الذين بلغوا السن القانونية دون ترقية لدرجة أستاذ، أو توقفوا عن مواصلة البحث العلمي. على أن يراعى ذلك في تحديث قانون تنظيم الجامعات (المزمع).

(٤) إنشاء مركز أكاديمي متطور لتحديث وتأصيل الخطاب الفلسفي. وذلك لمعالجة خمس سلبيات، أولها: صعوبة لغة الخطاب وتعمد تجهيل المتلقي، وذلك بكثرة إيراد العديد من المصطلحات التي يصعب على المتخصصين قبل العوام استيعاب مدلولاتها. وثانيها: عدم مراعاة البعض للثقافة السائدة في المجتمع في تصريحاتهم الإعلامية التي تخاطب الرأي العام على أنهم يمثلون منبر الفلسفة؛ الأمر الذي يحدث مردودًا سلبيًا على البنية الفلسفية بوجه عام، فتنعت الفلسفة بالكفر أو بالمروق والفوضوية.

وثالثها: الخلط بين الرؤى الأيديولوجيا والحكم على الثوابت التي تقوم عليها مشخصات المجتمع وهويته الوطنية والقومية والحضارية. ورابعها: عدم الالتزام بآداب التناظر وأخلاقيات المثاقفة والجدل والنقد فيما يصدر عن المشتغلين بالفلسفة أو المنتسبين إليها من الأدعياء الذين يتخذون من القدح والهجاء والتهكم المتدني في أحاديثهم النقاشية. وخامسها: مجافاة أصول الحوار الفلسفي الذي يجب على من ينتحله العزوف عن التعصب والراديكالية والشيفونية، وذلك في عرض الرؤى والتصورات التي تؤكد الاتهام الشائع الذي طالما أتهم به المشتغلون بالفلسفة من قبل الرأي العام التابع؛ ألا وهو التعالي ومفارقة الواقع المعيش، والعزلة في برج عالي بمنأى عن المجتمع الذي يعيشون فيه.

وللحديث بقية عن الخطوات العملية لتجديد وتحديث البنية المعرفية للفلسفة.

***

بقلم: د. عصمت نصار 

الجرح والحلم يمكن أن يكونا مفصلي تحول، الألم يحفز البحث عن معنى والجرح بجانب الحلم يعكس التناقض بين الواقع والخيال، يوضح لنا كيف يمكن أن تتعايش المشاعر السلبية مع الرغبة في تحقيق شيء، الأمل في تحقيق الحلم يمكن أن يساعد في الشفاء من الجرح وتصبح العلاقة بين الجرح والحلم تعبيرًا عن الصراع الإنساني الدائم.

السرديات التاريخية ونزعة البقاء

السرديات التاريخية ونزعة البقاء عند الانسان لهما جوانب متعددة من الوجود والتفاعل مع الزمن، البقاء فلسفياً يرتبط بفهم معنى الحياة، وغالباً ما يتناول أسئلة مثل لماذا نحن هنا؟ وما الهدف من الحياة؟ فهمنا للذات والمجتمع والبحث عن الهوية والمعنى. السرديات التاريخية تسهم في تشكيل فهمنا للوجود، بينما البحث الفلسفي عن البقاء يساعد في إيجاد معنى لهذا الفهم، نزعة البقاء عند الإنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسس الجينية والنفسية والثقافية الجينات التي تدعم البقاء والتكيف مع البيئة وتعزز فرص النجاة، الصفات الجسدية مثل القوة والقدرة على المقاومة تكون نتيجة للاختيار الطبيعي، الصفات النفسية والاجتماعية، مثل التعاون والشعور بالانتماء، يمكن أن تكون موروثة وتساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية. تساعد الأساطير في توجيه سلوك الأفراد من خلال توفير نماذج يُحتذى بها، مما يعزز نزعة البقاء والتكيف، العوامل النفسية تلعب دورًا في كيفية استجابة الأفراد للأزمات، المشاعر مثل الخوف والأمل، التحديات تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتساعد الأفراد على تجاوز المحن، كذلك تتفاعل الجينات مع البيئة لتشكيل سلوكيات الأفراد، مما يؤثر على كيفية تطوير المجتمعات لسردياتها التاريخية.

تفاعل العوامل الثقافية مع الجينات

الثقافات تطور استراتيجيات خاصة للبقاء تعتمد على المعرفة المحلية، مثل تقنيات الزراعة والصيد، هذه يمكن أن تتكامل مع الصفات الجينية لتعزيز فرص البقاء، الأفراد يتعلمون من تجارب الآخرين، تسمح لهم بنقل الصفات والسلوكيات المفيدة التي قد لا تكون موروثة جينيًا، مثل مهارات البقاء في بيئات معينة، بعض السلوكيات الثقافية تؤثر على الانتقاء الطبيعي، المجتمعات التي تفضل التعاون قد تعزز الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، العوامل الثقافية تعزز من إحساس الأفراد بالانتماء، مما يمكنهم من التعاون معاً في مواجهة التحديات، وهو ما يزيد من فرص البقاء الجماعي، الثقافات التي تساعد الأفراد على التكيف مع التغيرات البيئية والاجتماعية، تؤثر على كيفية استجابتهم للمخاطر والتهديدات، التفاعل بين الجينات والعوامل الثقافية يشكل سلوك البقاء بشكل ديناميكي، بينما تساهم الجينات في تحديد بعض الصفات، تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في توجيه السلوكيات والاستراتيجيات التي تعزز من فرص البقاء، تأثير (الانتقاء الثقافي) على الجينات هو مفهوم مثير يتضمن تفاعلات معقدة بين العوامل الثقافية والبيولوجية،  في بعض المجتمعات، تُفضل صفات معينة، مما يؤدي إلى اختيار الأفراد الذين يمتلكون هذه الصفات للزواج والتكاثر، وبالتالي زيادة تكرار هذه الجينات في الأجيال القادمة، الثقافات التي تشجع على التعاون والمشاركة، تعزز من الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، مثل القدرة على التعاطف أو التواصل، وتزيد من فرص البقاء، بعض المجتمعات تعتمد على أنواع معينة من الغذاء(ثقافة التغذية)، مما يمكن أن يؤثر على الجينات المرتبطة بالاستقلاب والقدرة على معالجة العناصر الغذائية التي تعطي قيمة لصحة الأفراد و تؤثر على الانتقاء الطبيعي من خلال زيادة فرص الأفراد الأصحاء في التكاثر، مما يعزز الجينات المرتبطة بالصحة الجيدة. عند مواجهة تغيرات بيئية، يمكن أن تؤدي الثقافات إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتطلب صفات معينة، مما يؤثر على الانتقاء الجيني، الانتقاء الثقافي يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الجينات من خلال تشكيل البيئة الاجتماعية والثقافية التي تعزز أو تقلل من فرص بقاء الصفات الجينية، هذا التفاعل الديناميكي بين الثقافة والبيولوجيا يسهم في تطور الأنواع وتكيفها مع التحديات المختلفة.

الجنس واسترتيجيات البقاء

 يمكن أن يتعاضد الجنس والجينات لتعزيز البقاء لدى الإنسان بطرق متعددة، الأفراد الذين يختارون شركاء يعتمدون على صفات معينة، مثل الجمال أو القوة،  يعزز الصفات الجينية المفيدة عبر الأجيال، بعض الصفات مثل الكفاءة في التواصل أو التعاون، قد تكون جذابة وتؤدي إلى زيادة فرص التكاثر، بعض الأفراد يتبنون استراتيجيات تناسلية متعددة، مما يزيد من احتمالات البقاء عبر زيادة الفرص لإنتاج النسل، الأفراد الذين يمتلكون مهارات في توفير الموارد يمكن أن يكونوا أكثر جاذبية، مما يعزز فرص بقاء النسل، الجنس يعزز من الروابط الاجتماعية، مما يساعد على إنشاء شبكات دعم تعزز من فرص البقاء في مواجهة التحديات، الأفراد الذين يتعاونون في مجموعات يمكن أن يحققوا نجاحًا أكبر في الصيد أو حماية المجموعة، مما يزيد من فرص البقاء، الجنس يساعد في تقديم تنوع جيني، مما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، مثل الأمراض أو المناخات المتغيرة، الأفراد الذين يمتلكون صفات جينية تدعم الاستجابة للتحديات البيئية يمكن أن يكونوا أكثر نجاحًا في التكاثر، مما يعزز من تكرار هذه الصفات في الأجيال القادمة، هذه الديناميكيات تساهم في تطور الأنواع واستمراريتها، الانتقاء الطبيعي يلعب دورًا حاسمًا في تعزيز البقاء وتطور الأنواع، الانتقاء الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي من خلالها يتم تعزيز الصفات المفيدة وتطوير الأنواع، من خلال اختيار الصفات باتثير استرتيجيات الاختيار الجنسي تعزز من قدرة الأفراد على البقاء والتكاثر، كما يسهم الانتقاء الطبيعي في تشكيل التكيف والتطور عبر الأجيال.

الضغط الانتقائي والانقراض

مع التغيرات البيئية يمكن أن يتولد الضغط الانتقائي الذي يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة أو تنوع في الصفات داخل الأنواع الحالية، الضغط الانتقائي هو آلية حيوية تؤثر على بقاء الأنواع وتطورها، من خلال تعزيز الصفات المفيدة والقضاء على الصفات الضارة، يسهم الضغط الانتقائي في تشكيل التنوع البيولوجي والقدرة على التكيف مع البيئة، رغم ذلك يمكن للضغط الانتقائي أن يؤدي إلى الانقراض من خلال عدة آليات، إذا تعرض نوع معين لضغوط بيئية كبيرة لا يستطيع التكيف بسرعة كافية، مما يؤدي إلى انقراضه، عندما تظهر أنواع جديدة تنافس الأنواع الحالية على الموارد، يؤدي الضغط الانتقائي إلى تراجع الأنواع الأقل قدرة على المنافسة، مما يؤدي إلى انقراضها، إذا تعرض نوع ما لمرض جديد لا يمتلك مقاومة له، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي الناجم عن هذا المرض إلى انخفاض أعداد الأفراد، وبالتالي انقراض النوع، فقدان الموائل الطبيعية بسبب الأنشطة البشرية التوسع العمراني الوقود الاحفوري، يمكن أن يؤدي إلى زيادة الضغط الانتقائي على الأنواع، مما يسهل انقراضها، إذا كان عدد الأفراد في نوع ما قليلًا، قد يؤدي ذلك إلى تزاوج داخلي مما يقلل من التنوع الجيني ويزيد من احتمال انقراضه بسبب عدم وجود صفات مفيدة، الضغط الانتقائي يمكن أن يكون عاملًا رئيسيًا في انقراض الأنواع. من خلال التأثير على القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي إلى تقليل أعداد الأنواع، وفي النهاية، إلى انقراضها.

دور السرديات التاريخية والضغط الانتقائي في الانقراض

السرديات التاريخية والضغط الانتقائي تتداخل بشكل معقد ويمكن ان تؤدي الى الانقراض الثقافي، السرديات التاريخية تساهم في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية للشعوب ويمكن أن تعزز النزاعات بين الجماعات المختلفة وذلك باختيار بعض السرديات على حساب أخرى، مما يساهم في تعزيز روايات معينة وطمس أخرى،  قد يكون نتيجة للسيطرة السياسية أو الاقتصادية، حيث تسعى الجماعات القوية إلى فرض روايتها، و يمكن أن يحدث عندما تتلاشى تقاليد أو لغات أو ممارسات ثقافية بسبب الضغوط الاجتماعية أو الاقتصادية، وغالباً ما يرتبط بفقدان الهوية الثقافية، مما يؤثر على التنوع الثقافي، تعاني المجتمعات الشرق أوسطية من الضغط الانتقائي نتيجة تغول السرديات التاريخية، و النزاعات السياسية والدينية تؤدي إلى تعزيز سرديات معينة، مما يساهم في تهميش روايات أخرى، الحكومات والجماعات القوية تفرض سرديات تاريخية خاصة بها لتعزيز شرعيتها، مما يؤدي إلى تراجع السرديات البديلة، تتسبب السرديات السائدة في تعزيز الانقسام بين الجماعات المختلفة، مما يزيد من التوترات الاجتماعية وتعزز الضغط الانتقائي الثقافي ويؤدي إلى فقدان بعض الثقافات أو اللغات، مما يهدد التنوع الثقافي في المنطقة تتطلب معالجة هذه التحديات تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات المختلفة، بالإضافة إلى دعم جهود الحفاظ على التنوع الثقافي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

منذ أن تلقى العرب صدمة (الحداثة) الغربية على مشارف القرن التاسع عشر، وهم ينقسمون الى فئتين متعارضتين لا قاسم مشترك بينهما سوى (التعصب) لهذا الجانب أو ذاك، لهذا التيار أو ذاك؛ فئة تتعصب ل(التراث) بقضّه وقضيضه، وأخرى تتعصب ل(للحداثة) بحسناتها وسيئاتها، دون أن يتمكن مريدوا الاتجاهين من الاهتداء الى سبيل واقعي ومنهج عقلاني يجنبهم مساوئ (الإفراط) في كيل الايجابيات والمناقبيات بمناسبة وبدون مناسبة من جهة، وينأى بهم عن محاذير (التفريط) بما تنطوي عليه تلك المواقف من سلبيات وسيئات لا ينبغي الغافل عنها والتجاهل لها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من وجاهة بعض أفكار وآراء كلا الفريقين من المؤيدين والمعارضين، لجهة تشخيص السلبيات وتأشير السيئات التي يجدها البعض لدى البعض الآخر، إلاّ أنهم أثبتوا عجزهم التام في تخطي نقاط الضعف في مواقفهم الحديّة وتصوراتهم النسقيّة، حيال إقرارهم بوجود بعض الإيجابيات والحسنات لدى وجهات نظر كلا الطرفين المتناقضين والمتعارضين. وهو الأمر الذي يدلل على مدى تورط الجميع في الانخراط بنوازع (التعصب) للذات و(التطرف) ضد الآخر، حتى دون مراعاة لمناقبيات العلوم والمعارف التي يمثلها أعضاء كلا الاتجاهين، للحدّ الذي يتعذر على أحدهم الاعتراف باحتواء أفكار خصومه وآرائهم بعضا"من الحقائق والوقائع، بوازع من خشية احتساب ذلك من علامات الضعف في مواقفه ومتبنياته المتصلبة والهدر في قيمة اعتقاداته وتصوراته المبتسرة. والحال تستوي في هذا الأمر خطابات كلا التيارين المعنيين؛ التيار (الحداثي) المتعلمن والتيار (التقليدي) المتأسلم.

وإذا ما أنعمنا النظر ودققنا في مضامين كلا الخطابين المعنيين، سنلاحظ إنهما يتشابهان ويتماثلان من حيث ردود فعلهما إزاء كل ما يتعلق بمواريث الماضي وسرديات التاريخ، باستثناء كونهما يتناقضان ويتعارضان حيال طبيعة تلك المواريث والسرديات وما تحمله من قيم وما تمثله من إيحاءات. وهكذا فإن خطابات (التقليديين) نحو الموروث التاريخي والفكري للمجتمعات العربية والإسلامية، وإن وأبدت تحمسها العاطفي الذي يرقى في بعض الأحيان الى مستوى اللاعقلانية، إلاّ أنها مع ذلك تبدو منسجمة مع ما تتبناه من مواقف وما تطرحه من تصورات، من خلال تماثلها النسبي بين ما تقول على صعيد الفكر وبين ما تفعل على صعيد الواقع. هذا في حين تبدو مضامين خطابات (الحداثيين) كما لو أنها تغرّد خارج السرب، ليس لأنها غير قادرة على فهم معطيات الواقع وتحليل مكوناته وإدراك سياقاته واستشراف مآلاته، وإنما لكونها لا تفتأ تكرر ذات الخطأ الذي لا تني نظيرتها (التقليدية) من التمسك به والرهان عليه , وذلك من حيث نفيه وتجاهله لأية قيمة سوسيولوجية أو ابستمولوجية يمكن استخلاصها من بقايا ورواسب ذلك الموروث الغني بالذاكرات والتمثلات.

وفي خضم تضارب هذه الرؤى وتقاطع تلك التصورات، قلما نجد بين الخطابات (الحداثية) المتكاثرة من ينصف الموروث أو يكنّ له أي اعتبار، حتى لو كان يحمل بين مطوياته بعضا "مما يمكن استثماره وتوظيفه في مساعي تحليل إشكاليات الواقع ومعالجة مشاكله، لاسيما تلك التي لا تزال تمتح من نسغ أصول الماضي الشيء الكثير، مثلما لا تني تتوالد وتتناسل في الحاضر المأزوم بمتواليات هندسية منفلتة لا ضابط لها. ولعل في مراجعة خطابات بعض (الحداثيين) العرب ما يعكس هذه الحالة السلبية ويعزز من وجودها المعيب. فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر بعضا"من خطابات هؤلاء، فإننا سنقع على الكثير من المفارقات التي لا تنسجم مع ما توجهات هذه الثلة من النخب، حيث يعتبر (التراث) بالنسبة لهم بمثابة (الدريئة) التي تتلقى الطعنات العشوائية من دون تمييز، سوى أنها أطفأت لديهم جذوة الثأر والانتقام من هذا الشاخص الجامد والصامت.

والحال ان (التراث) المدان مثله في ذلك مثل (الحداثة) المحتفى بها، ليس كل ما فيها (جيد) و(صائب)، كما ليس كل ما فيها (رديء) و(عائب)، إذ أن كل معطى اجتماعي أو إنساني يشتمل على وجوه ومستويات عدة تعكس الخاصية النوعي للطبيعة البشرية التي يتجسّد فيها كل ما هو (نسبي) و(تاريخي). ولذلك فإن رصانة الباحث (الحداثي) وموضوعيته تتجلى وتتمظهر، ليس فقط في تصيّد السلبيات ورصد الانحرافات التي لا يخلو منها أي (تراث) بشري فحسب، وإنما في تشخيص الايجابيات وتعيين الفوائد التي ينطوي عليها؛ لا بقصد المقارنة بين هذا الجانب أو ذاك، وإنما لأجل نقد السلبيات وتقويم الانحرافات من جهة، ووضع الحسنات والايجابيات موضع الاستثمار في البناء الاجتماعي والإسهام في الارتقاء الحضاري.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

مقدمة: ليس الاحتباس الحضاري مجازًا بيئيًا يُستعار لوصف أزمة ثقافية، بل هو توصيف واقعي لحالة انسداد حاد في الديناميات العقلية والاجتماعية التي يُفترض بها أن تُنتج تحولًا تاريخيًا. نحن لا نعاني من تأخر في النمو، بل من انقطاع في الوظيفة التاريخية للعقل العربي، ذلك العقل الذي أصبح أسيرًا لثلاثية مدمّرة: الجمود المعرفي، التعطيل الأخلاقي، والانحدار السلوكي.

أولًا: الجهل المُمَأسس وانهيار البنية المفهومية

الجهل في السياق العربي لا يُفهم بوصفه غيابًا للمعرفة، بل هو منظومة معرفية قائمة بذاتها، تقوم على تكريس آليات الإدراك الجاهز، وترفض مساءلة البديهيات. إن أخطر ما نواجهه ليس الفقر في المعلومات، بل الشلل في إنتاج المفاهيم، مما يجعل العقل العربي يعيش على هوامش الحضارة دون أن يمتلك أدوات الدخول فيها.

يقول المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار: المجتمع الذي لا ينتج مفاهيمه، لا يستطيع أن يُنتج تاريخه.

في هذا الإطار أُبيّن: العقل الذي لا يسأل، لا يجهل لأنه لا يعرف، بل يجهل لأنه لا يعترف بعدم المعرفة، وهذه هي أمُّ الجهالات.

ثانيًا: تحلل منظومة القيم وتحول الأخلاق إلى آلية للضبط

لا يُقاس تراجع المجتمعات فقط بانهيار مؤسساتها السياسية أو الاقتصادية، بل بفقدانها لمعايير التمييز الأخلاقي بين الفعل الصحيح والفعل النافع للسلطة. الأخلاق هنا لم تعد نابعة من العقل الجمعي، بل من شروط الضبط الاجتماعي. ومع انتشار الرياء والقيم الانتهازية، أصبحت الأخلاق أداة تزيينية تخدم الاستقرار، لا التجاوز.

 يشير الدكتور علي الوردي إلى هذه الأزمة بقوله: العقل البشري يُصاب بالجمود حين يضع الأخلاق في قوالب لا يجوز المساس بها، ويجعلها غاية لا وسيلة.

 أقول: حين تُغلق الأخلاق باب السؤال وتفتح باب التبرير، تتحول من وازع داخلي إلى آلية تسكين لضمير جماعي ميت.

ثالثًا: البنية العقلية الطاردة للنقد

المجتمعات التي تُقصي النقد هي مجتمعات تُقصي العقل نفسه. فنحن لا نعاني من نقص في النخب، بل من بنية ذهنية شمولية تُقصي أي خطاب تفكيكي وتُعلي من التلقين والتبجيل. العقل الناقد في السياق العربي يُصنَّف ضمن خانة الوقاحة الفكرية، لا ضمن ضرورات البناء المعرفي.

يقول الفيلسوف العراقي ياسين خليل: أخطر ما نواجهه ليس الاستبداد السياسي، بل الاستبداد المعرفي الذي يُنتج عقولًا لا ترى إلا ما يُراد لها أن ترى.

 أقول: من لم يتعلّم كيف يزعج يقين جماعته، لن يُنتج فكرة تُزعزع العالم.

لقد أنتج هذا المسار ما يمكن تسميته بـ الغباء البنيوي، وهو ليس سلوكًا فرديًا، بل نظام إدراك يُعيد إنتاج الرداءة، ويرفض تعقيد المسائل، ويُبسط القضايا الفكرية إلى ثنائيات مريحة لا تستدعي التفكير.

رابعًا: لماذا لا نتغير؟ تشريح علّة الاحتباس الحضاري

إن مجتمعاتنا تفتقر إلى ما يسميه علماء الاجتماع بالبنية القادرة على التعلّم الذاتي، أي تلك التي تخلق نقدًا دوريًا لمفاهيمها، وتعيد ضبط أدواتها الفكرية وفقًا لمتغيرات العصر. هذا الغياب هو الذي يؤدي إلى ما نصطلح عليه بالاحتباس الحضاري، حيث تصبح الثقافة عبئًا على المستقبل بدل أن تكون جسرًا نحوه.

 يقول الدكتور حسن العلوي: العرب لا يكرهون الماضي، بل يسكنونه.. يعيشونه كأنه الحاضر، ويُعلّقون عليه فشلهم في المستقبل.

أقول: لسنا متأخرين زمنيًا، نحن متأخرون مفهوميًا، فزمننا يُستهلك دون أن يُهضم، والتاريخ لا ينتظر عقولًا تعيش في تكرار ذاتها.

خامسًا: تفكيك الاحتباس… ليس دعوة للإصلاح، بل للقطيعة

إن معالجة الاحتباس الحضاري لا تتم عبر دعوات إصلاح سطحي، بل تتطلّب قطيعة معرفية صارمة مع المنظومات القائمة:

قطيعة مع التعليم التلقيني الذي ينتج العجز.

قطيعة مع الخطاب الديني الشمولي الذي يحرّم التفكير.

قطيعة مع السلطة السياسية التي تُقصي العقل لحماية استبدادها.

وقطيعة مع المثقف الذي تحوّل إلى موظف في بلاط النفاق الجمعي.

 أقول: العقل الذي لا ينتج شروط نجاته، يستحق الانقراض؛ والوعي الذي لا يملك شجاعة القطيعة، لن يلد تاريخًا.

خاتمة

نحن لا نعيش في عصر الانحطاط، بل في عصر الإنكار المنهجي لهذا الانحطاط. الاحتباس الحضاري ليس مجرد خلل، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة تاريخية فاشلة لم تتمكن من بناء ذاتها أو نقد نفسها.

وهنا يكون السؤال الأخلاقي والفلسفي معًا:

هل ما زال بالإمكان بناء تحوّل حقيقي دون أن نمارس خيانة فكرية تجاه ما نحن عليه؟

 في هذا السياق أُبيّن: لن نولد من رمادنا، إلا حين نحرق أوهامنا أولًا؛ فمن دون خيانة ذواتنا القديمة، لا معنى لأي ولادة فكرية.

الجواب ليس في الحنين، ولا في الرغبة، بل في امتلاك الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، وتحطيم الأوثان الذهنية التي قيدت الوعي العربي لأكثر من قرن.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

من السنن الجارية في الأديان وطبيعتها أنها تتضمن ثنائيات متعددة كثنائية القيم من خير وشر وحسن قبح وثنائية المصير (الجنة والنار) وثنائية اليمان والكفر التي تختزل تصنيفا للبشر على اساس مثول الإيمان في العمق الوجودي من عدمه، والايمان من ابرز تجليات الدين في الطبيعة البشرية وهو الذي تحول فيما بعد الى (قانون تصنيف) يكرس حالة الانتماء الديني، بالنحو الذي جعل من الدين جهة ذات أسيجة صارمة وحادة، أمام اشتراطات التعددية النوعية والتعايش السلمي ومرونة الاستيعاب والقبول للآخر، وفي تقديري لم يكن من هم  الدين تكريس تلك الثنائية (الايمان والكفر) ولم يقدم نفسه على أنه جهة قابلة للانتماء بقدر ما كان همه تكريس ذاته (أي ذات الدين) في الوجدان الإنساني وترسيخ هويته الإيمانية في نفوس البشر، ولم يكن ينبغي توظيف الايمان كانتماء بل كهوية كونية يشترك فيها الجميع، وفيما بعد تحول الإيمان من حالة وجودية كامنة في عمق الإنسان إلى حالة تتمظهر بالشكليات ليصبح هوية وانتماء في الوقت ذاته، وهذه المشكلة ربما تتطلب بحثا مستقلا لكنها على صلة وثيقة بما نحن بصدده من مسألة التكفير وممانعته في بناء القيم الإنسانية، والذي يمثل نتيجة حتمية لقراءة الإيمان الديني على أساس كونه انتماءً، ونحن نفرق بين كون الإيمان (هوية) وكونه (انتماءً) فالهوية ذات امتداد طولي عميق يتصل بوجود الإنسان الداخلي، في حين تبدو امتدادات الإنتماء أفقية تنحو منحى الإقصاء للآخر (المختلف)، وهو ما سيتم تفصيله لاحقا.

ومسألة التكفير من المسائل التي تبحث – دينيا- في إطار الفقه والكلام معاً، ذلك أنها ترتكز على ثنائية الإيمان والكفر في بنيتها الأساس، وفي العصر الراهن طالما اقترنت ظواهر العنف الديني بالتكفير، وكان الأخير العامل الأساس وراء نشوء تلك الظواهر، فلولا الحكم بكفر الآخر لم يكن من الجائز جهاده وقتاله بحسب معطيات الفقه والكلام.

إن مشكلة التكفير ترتبط أساسا بمشكلة الإيمان، فقراءة الإيمان بنحو يكرس جهوية الإيمان، وممانعته من تقبل الآخر (غير المؤمن)، تجعل من التكفير نتيجة طبيعية وردة فعل تلقائية تجاه ما هو مختلف..

لم يفهم الإيمان على أنه يقين واطمئنان وسكون تدريجي نحو المقدس، بل أصبح محمية بلون واحد تكسي من يدخلها طابعها الخاص دفعة واحدة وتخلع عن من يخرج منها كل ما يتصل بوجود الإنسان وكرامته، فالإيمان بمعناه التقليدي والمتشدد لم يمنح الفرد إنسانية مضافة حينما قبله ولم يزدد الفرد أي معنى في دخوله التقليدي للدين، في حين ثمة مفارقة في عملية الخروج، فالتدين التقليدي بالرغم من عدم إضافته للفرد أي معنا إنسانيا راح يتسبب بخلع كل المعاني عن الفرد عند خروجه مرتدا أو كافر.. فيأخذ من الآخر (الخارج) ما لم يعطه مسبقا، ويعطي للمؤمن مالم يفتقده مسبقا، هذه المفارقة كامنة في الفهم البشري للدين، لتنعكس على ممارسات تندرج في ضمن الدين تدريجيا.

التكفير في منطق الفقه..

التكفير في منحاه الفقهي يشغل الموقع غير المناسب، فلم يكن من شأن الفقه أن يتناول ايمان الفرد، وقياسه، والحكم عليه، وما يقتضيه الضمير الاخلاقي هو عدم اجتزاء الدين بالفقه، واقصار الايمان الديني على ما يستظهره الفقه من معايير تحدد مصير الانسان ووجوده عبر معايير شكلانية، تفتقد المحتوى الأخلاقي، يذكر الرفاعي أن : (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي) ، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط.

إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية.

ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية ، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية ، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة..

إن التوسع في أسباب الكفر والتكفير مما يعد مشكلة في تضخم العقل الفقهي على حساب الحس الأخلاقي، حتى أفضى إلى الاعتباط في التكفير وعدم الاكتراث بنتائج التكفير من حيث ترتب آثاره من نجاسة الكافر فضلا عن وجوب قتله، وإغفال واضح لحرية الانسان في الحياة الدينية، مما انعكس سلبا على الحياة الاجتماعية من نشوء الفئوية الدينية التي تستبع أقسى ممارسات الإقصاء والعنف الديني.

لذا ينبغي التعامل مع لوائح التكفير في المدونة الفقهية من منطلق معايير الاخلاق الدينية الذي يعد عنصرا حاكما على اجرائيات الفقه، ولا يمكن اجتزاء المعطى الفقهي وتعميمه على الواقع الانساني مع اغفال المحددات الاخلاقية للتفكير الفقهي، إذ لم يكن فقه التكفير ناشئا في أحضان رؤية دينية مستوعبة للإلزامات الأخلاقية، بل كان ذلك الفقه قد نشأ بمعزل عن الاحتكام الى رؤية شاملة تتضمن شروط الحرية والكرامة الانسانية مستحضرةً كل ما يتصل بضرورة الحفاظ على الضمير الأخلاقي عبر قراءة متوازنة بين متطلبات الأخلاق وما تنتجه قراءات الفقهاء للنصوص الدينية تلك القراءات التي طالما كانت بمنأى عن مآلات الحكم الفقهي في واقع الحياة الإنسانية.

على أن ذلك النقد لا يعني عزل الفقه أو تقويضه بقدر ما يعني إحلال الفقه في موقعه الطبيعي، وعلى حد ما ذكره حيدر حب الله من معارضة تنامي الفقه وتضخمه إلى حد غياب الروح الأخلاقية، ومعارضة تقديم الفقهاء على المفسرين والعرفاء والفلاسفة بوصفهم الناطقين باسم الدين دون غيرهم، نحو فهم خاص للدين يجعل الفقه مجرد ضلع من أضلاعه، ويمنحه موقعه الطبيعي في إدارة حياة الناس.. .

اتجاهان في مفهوم الكفر:

إن علماء المسلمين على اتجاهين في رؤيتهم لمفهوم الكفر:

الاتجاه الاول: يميل إلى توسعة مفهوم الكفر تجنبا للإخلال بالضبط المنطقي، كما في قولهم أنه : (إنكار لما علم مجيئه بالضرورة) وهذا التعريف وإن كان فيه تجنب واضح للخوض في تفاصيل مع يقع عليه الإنكار إلا أنه يؤدي –بحسب الواقع- إلى الاعتباطية في الانطباق على مصاديق متكثرة، تجعل من التعريف وسيلة للإدخال الكثير من المصاديق تحت ما يعلم مجيئه بالضرورة، فالمشكلة في تحديد ما هو ضروري وما هو غير ضروري.

فيما يوضح الاتجاه الثاني:

أن الإنكار يتعلق بالربوبية والوحدانية والرسالة، وهو لا يتعارض مع الاتجاه الأول بل يضيق مداه إلى دائرة أكثر انضباطا من ناحية تغلغل المصاديق الدخيلة تحت طائلة الاعتباط..

فالربوبية يشير إنكارها إلى معنى الإلحاد، والوحدانية يقابلها الشرك، والرسالة يقابلها تكذيب النبي (صلى الله عليه واله)  ، وهذه الثلاثة تعد معايير أساسية إلى حد ما، لكونها تتناسب مع مضمون الشهادة الذي يؤكد على الإذعان بالله وبرسوله.

لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحاد فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم(1).

الخصوصية الكونية للإيمان:

الكونية مصطلح يرمز إلى مفاهيم دينيّة، فلسفيّة حول الكون يقترب مما ينطبق على كلّ شيء. إنّه مفهوم يشمل جميع الناس في كينونتهم، وفي الدين، تعد الكونيّة مبدأ يؤكّد انصياع جميع الناس تحت ارادة ورعاية الخالق، وتؤكّد على أنّ الكون تحت تصرّف الخالق(2).

ان الايمان بوصفه موقف وجودي انساني يربط الانسان بتجليات المطلق على مستوى الوجود أو القيم يمكن أن يعد من المفاهيم الكونية التي يشترك فيها جميع البشر وبمختلف اتجاهاتهم الدينية والفكرية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه قدرة التفكير والميل نحو المعتقد والانتماء لمختلف المنظومات الدينية مما يجعله كائنا مؤمنا، وصفة الكونية تتيح الى جعل الايمان كينونة بشرية دائمة ومشتركة تستبطن حقا عاما لكل فرد من منطلق حرية الفكر باعتناق اية مضامين قابلة للإيمان، وبالرغم من الحاكمية العقلية على نقد مختلف اشكال الأصول الايمانية فإن ذلك لا يمنع حق الاختيار الانساني للقضايا الإيمانية بالنحو الذي يجعل من الايمان عنصرا محوريا في نشاط الانسان الروحي والذي لا يمكن إلغاءه من جهة كما لا يمكن فرضه على الآخرين من جهة أخرى، وهو ما تفيد به جملة من النصوص الدينية.

وعلى هذا الاساس يمكن ان يكون التكفير بما يحمله من وسائل الاقصاء والالغاء عاملا مجانبا بل مناقضا لكونية الايمان، واذا سلمنا بوجود قيم كونية مشتركة بين البشر فإن الثابت منها لا يلغي حق الانسان في اختيار معتقده وممارسة نشاطه وحركته الايمانية.

وهنا يصبح الايمان في إطاره الوجودي هوية إنسانية لها استحقاقاتها ومكتسباتها التي تكرس اجرائيات الحماية والتنظيم للنشاط الايماني الذي اتسمت به الطبيعة البشرية ليكون عنصرا أساسا في كينونتها ووجودها.

فلا يمكن لفقه التكفير أن يقفز على تلك الحقيقة الكونية بتعميم أحكامه على خلع انسانية الانسان بمجرد تمايزه الاعتقادي، وهو ما يتنافى أساسا مع طبيعة النبوات التي جاءت لتنشر التجربة الايمانية بوسائل لا تتجاوز طابعها المعرفي عبر استثمار مسوغات الوعي والنزوع نحو التقبل الروحي لمختلف تصورات وقضايا الايمان الديني، إذ لم يكن العنف الديني حاضرا في قاموس التجارب النبوية سوى في حدود ظرفية استثنائية تم تعميمها تاريخيا مما أفضى إلى التباس واضح بين ما هو ديني وما هو تاريخي.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

..................................

(1)¬ ظ: الحسني القاسمي، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد: 223.

(2) - ظ: ندره اليازجي, مفهوم الكونية, موقع الكتروني

هرع اللغويون العرب صوب دراسة النص الديني المقدس والنصوص النبوية وما خلفتها من نصوص دينية متلثمين بنظريات اللسانيات المعاصرة التي طفقت تفكك النصوص الدينية المسيحية في الغرب، وهم في ملحمة ظنية بأنهم يخدمون الدراسات الدينية الإسلامية، لكن الحقيقة التي تكمن وراء هذه الاجتهادات لا يمكن توصيفها تحت باب التجديد ا، حتى الاجتهاد؛ ذلك أنهم كانوا يسعون إلى نقد النص الديني بإطلاقهم عليه لفظة خطاب، الأمر الذي دفعهم حسب مظانهم التي تبدو لنا مريضة بعض الشئ على استحياء الاتهام بالكل ـ إلى إبراز أخطاء ومثالب تكمن بتلك النصوص.

ومن باب العجب أن مجمل أعمال الحداثيين العرب رغم اختلاف توجهاتهم وتكوينهم الأيديولوجي الذارب في تشويه الماضي برمته أنهم كانوا ولا يزالون يطالبون بإعادة النظر في النص القرآني المقدس وضرورة تأويله وفق مزاعم نظريات علم اللغة واللسانيات الحديثة التي تعضد تفكيك النصوص اللغوية وإعادة بنائها وتركيبها من جديد، أو خوض مغامرة إخضاع النص الديني لقراءات متعددة؛ تاريخية وألسنية، وأنثروبولوجية، وسيميائية، وأخيرا قراءة لاهوتية، الأمر الذي يخرج النص من قداسته إلى رهانات تأويلية مبتذلة محكوم عليها بفقد رصانة التفسير والتحليل.

وينبغي على القارئ العربي أن يفطن إلى ثمة مؤامرات ثقافية استعمارية مفادها أن الغرب لم يعد يحارب بأسلحته التقليدية التي بات العرب يمتلكونها بل يستخدمونها بشراسة أيضا، لذا فكانت الحرب الراهنة هي حرب تشكيكية زاعمة بأن القوة الآن هي قوة الفكر الحداثي الذي يعطي العقل المكانة الأعلى فقط في نقد النصوص الدينية أو التاريخية أو النصوص التي تتعلق بالموضوعات الدينية الراسخة لدى عموم المسلمين.

الكارثة أن حفنة وجملة من المفكرين العرب الذين درسوا المناهج اللغوية الغربية ودرسوا على أيدي كثيرين ممن يطعنون في دياناتهم الأصلية تأثروا جد التأثر بتلك النظريات والمناهج التي يمكن استخدامها وتوظيفها في خطابات شعرية لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم أو كتابات روائية معاصرة فهي نماذج نقدية بشرية تصلح لمعالجة نماذج لغوية بشرية أخرى تماثلها في الكفاءة والطرح والتلقي، لكن لا يمكن استغلالها في تأويل النص الديني الراسخ والثابت والمحفوظ بعهد من الله عز وجل.

ومجمل زعم هؤلاء رفض تقليد الأوائل من جهة، وبث روح التمرد والرفض بل ومقاومة التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى، تماما كما وجدنا ذلك في نص الدراسات اللاهوتية التي تناولت الكتاب المقدس منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا.

بل إن موجات الهوس لدى بعض الحداثيين العرب وصلت إلى شواطئ بعيدة ترى ضرورة تقييد النص الديني بزمانه وبيئته وجغرافية إنتاجه وكثيرا في حدود ثقافة وجوده أيضا.

وبعد دراسة مفهوم الحداثة المزعومة لدى الكتاب العرب الذين هرعوا إلى نقد النص الديني تارة، ونقد ودحض الخطاب الفكري العربي تارة أخرى من أمثال عابد الجابري ومحمد أركون وغالبا نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وأدونيس وقاسم شعيب وغيرهم ممن أصابه قلق الحداثة وتوتر الفكر اللساني المضطرب هوية وجهة وتكوينا يمكن تحديد دلالات الفكر الحداثي العام لدى مؤسسي هذا التيار والتي يمكن استنطاقها من خلال كتاباتهم الضاربة في الانتشار مثل الإيمان المطلق بالإنسان وخبرته وتجربته الفردية الذاتية بل إبراز قدرة هذا الإنسان ـ المكلوم ـ على الخلق والإبداع وتطوير العقل، وهم بالضرورة يقصود الخلق اللغوي المتمثل في القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والطرح النقدي للأجناس الأدبية المختلفة، لكن هوس القلق المستدام جعلهم ينادون بالإيمان المطلق لاستقلالية المرء، وسلطة العقل التي لا تفوقها أية سلطة أخرى، وأن سلطان العقل لن يعتلي سدة الحكم والقوة والسيادة إلا بالقضاء على مرجعيات الماضي والتراث بوصفهما منغصات التجديد والتنوير.

وكان أول مشروع يدشنه أي مفكر تبنى فكر الحداثة الغربية الذي فشل بالغرب قبل إعادة إنتاجه بالبيئة العربية هو الثورة المطلقة والمستدامة بغير انقطاع على المرجعية الدينية، وأن إخضاع الدين وقضاياه لمنهجيات العلم التجريبي والأهواء الفردانية وتجارب الشخص الذاتية أمر لحتمي لا يمكن الفكاك من أسره إذا أردنا ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ التطوير والتحديث لمجتمعاتنا العربية.

هذا ما دفع الكاتب المغربي قاسم شعيب في كتابه (فتنة الحداثة) المنشور عام 2013 وهو من الكتابات المعاصرة في هذا الميدان إلى إبراز الرؤية الحداثية التي تتمثل في سيادة العقل أو ما أسماه بالعقلانية المادية، وأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني لتصبح الذات مركز العالم. وبالرجوع إلى المكونات الرئيسة للفكر الحداثي الذي ضرب المجتمعات العربية بالحيرة والجنون في انتفاء التطبيق السوي للسانيات الغربية نجد على سبيل المثال التفكيكية التي يشير إليها دين محمد مير اصاحب في كتابه (الحداثية وتحدياتها للتفسير القرآني) بأنها تمثل مظهرا صادقا لليأس والحيرة الذين أصيب بهما الإنسان في الغرب والتي نتجت عنها الاستهلاكية المتطرفة.

وهذه النظريات اللسانية النقدية وغيرها مما تم استيراده من الغرب الأوروبي نجمت عن العطب الذي أصاب الحضارة في تلك المجتمعات وأدت إلى سقوط المرجعيات التي تم توصيفها بالتقليدية البائدة بل والرجعية أيضا، وتمثلت مظاهر الحداثة الفكرية في تلك المجتمعات في نقد الدين ورموزه وموضوعاته، ونقد ودحض الفكر الموروث، ثم إعلان بيان تأسيسي جمعي للقطيعة مع الماضي برمته.

هذا الرفض المطلق للأسف أودى بأصحاب تلك النظريات اللسانية والنقدية وبتناولهم للنصوص الدينية المقدسة في الغرب الأوروبي إلى رفض الدين المعادل الموضوعي للإلحاد؛ ومن ثم إنكار التشريعات الإلهية ورفض سلطة الوحي، والكارثة هي نقل التجربة النقدية الغربية الصالحة لمجتمعات بعينها إلى بيئاتنا العربية ذات الفكر الأصيل والتكوين اللغوي والديني المتعمق في جذور الإنسان العربي.

والمستقرئ لفكر الحداثة أو التيار الحداثي يدرك على الفور للوهلة الأولى أنها مرادفة للعلمانية المتطرفة التي أسهمت عن جهل وزيف وخداع في رفع القدسية عن مدال الأخلاق والقيم. وكما يذكر دين محمد ميراصاحب (2013) في كتابه المذكور سلفا فإن العلمانية في أصلها ظاهرة غربية خالصة سبب ظهورها عوامل تاريخية عاشتها الأمم الغربية على مدى قرون متتالية في ظل ثقافات تلقي بجذورها إلى وثنيات قديمة على الرغم من المسيحية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل الثقافة الغربية في العصور الوسطى وبعدها.

والمشهد الذي لا يمكن تغافله هو أن العلمانية التي تأصلت في اللسانيات اللغوية المعاصرة والنظريات النقدية أجبرت المسيحية في أوروبا على التقهقر والابتعاد عن المجال العام، وصولا إلى تيار الليبرالية الذي بات أحد أصنام فكر الحداثة والذي يعني عند بعض مفكر العرب الحداثيين التحرر من كل قيد معروف أو مأثور.

وما إن نجونا مؤقتا من أصنام العلمانية والليبرالية حتى اصطدمنا من خلال ما عرفوا بالمجددين في الفكر العربي المعاصر الراهن بنظرية نقدية مماثلة للحداثة ألا وهي العقلانية المتطرفة. وهي نظرية مفادها إعلاء الفردانية والإيمان المطلق بالعقل في مواجهة نصوص التراث الدينية وأن لا سلطة فوق العقل. والمدهش في هذا الملمح من ملامح فكر الحداثة في الوطن العربي ومن خلال الدراسات النقدية للنص الديني ونصوص التراث وغيرها أيضا من كتابات الأوائل الفقهية والتاريخية أنها ـ العقلانية المتطرفة ـ لا تعترف بما لا يفهمه العقل أو لا يقع تحت سيطرة العقل، ولا تفرق بين الذي يتناقض مع العقل وبين ما يعلوه على العقل، بل إن تلك النظرية المهووسة لا تعترف أصلا بوجود ما يعلو على العقل أساسا، الأمر الذي جعلتها تنظر إلى أساسيات الدين على أنها مجرد مجموعة من الأساطير والخرافات المزعومة.

ونحن بحق بحاجة ماسة إلى توظيف العقل واستخدامه بصورة طبيعية فطرية كما أمرنا الشرع بذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى ترتيب بيت النظريات النقدية الحداثية التي باتت تعبث بالتراث العربي الإسلامي، وأنه من البدهي الآن إدراك هوية وكنه الحداثة الوافدة إلينا من الغرب عبر سياقات لسانية ولغوية ونقدية ودراسات تاريخية نتجت عن تطورات اجتماعية وسياسية استهدفت تهميش الدين ودوره بل إقرار عجزه في مواجهة التطورات والتحديات، هذا العبث الذي دفع كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين إلى نقد الدين بوصفه خطابا لغويا يمكن تناوله بشكل نقدي.

ولعل هذا التناول البشري القاصر والمحدود بل والجاهل أيضا في مظان كثيرين وأنا منهم هو الذي دفع بعض الكتاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وصولا إلى أيامنا الراهنة بالتأكيد على مركزية الإنسان وسطوته في مواجهة مركزية الإله. انتهاء بعبث فكري تحت مظلة حداثة واهية تمثلت في الثورة على التراث الديني وإغفال المصدر الإلهي التشريعي ورفض أية مرجعية.

ولنا وقفة عاجلة تحذيرية تؤكد خطورة العبث الحداثي الذي يردده بعض الكتاب العرب والشعراء المعاصرين وبعض دارسي التاريخ الإسلامي، حيث إنهم تأثروا كثيرا بمزاعم الغرب في نظرياتهم اللسانية والنقدية التي دحضت الكتاب المقدس ونصوصه في الغرب وتعاليم الكنيسة، فلجأوا تارة إلى تحريف الفكر الديني الإسلامي والتراث العلمي العربي الرصين والمجهودات العلمية لأوائل علماء المسلمين، وتارة أخرى في تقليد الغرب من خلال توظيف واستخدام النظريات الأدبية ضيقة الرؤية والنفاذ إلى تأويل القرآن الكريم وتفسيره باستغلال تقنيات وآليات تلك النظريات المسكينة بالفعل كما أصحابها.

ويكفي أن نسرد بعض النظريات النقدية واللسانية التي نجمت عن بيئات مضطربة في فترات سياسية واجتماعية عصيبة لندرك العوس العربي في توظيفها على كتابات عربية خالصة بدلا من إنتاج نظريات عربية أصيلة كان لنا السبق في إنتاجها وخير دليل كتابات قدامة بن جعفر في نقد الشعر والنثر وغيره، فنجد رولان بارت الفرنسي الذي يرجع له فضل تأسيس البنائية السميولوجية وهي علم العلامات والذي تأثر كثيرا وطويلا بالسويسري فرديناند دي سوسير الذي يزعم أنه صاحب علم اللغة الحديث، وهذا لم يحدث ‘لا حينما تخلى العرب عن تراثهم ومنتوجهم اللغوي والنقدي رغم أن أبرز النظريات النقدية أنتجتها بيئة العرب.

ثم نجد الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية والذي طبق نظريته على الكتاب المقدس مثله مثل ميشيل فوكو الفرنسي صاحب أركيولوجيا المعرفة والذي يتغنى بفكره الحداثيون العرب رغم امتلاكهم لنظريات عربية رصينة وجيدة النفع.

وصولا إلى أسماء تتبع تيارات الحداثة القلقة والمضطربة أمثال جاك دريدا مؤسس التفكيكية وشلاير ماخر مؤسس الهيرمينوطيقا، وصولا إلى بول ريكور أبرز من تحدث عن التأويلية التي أفسدت كثيرا من تناول نصوص التراث العربي باستخدامها لأنها تخرج الناقد والقارئ على السواء من فائدة النص إلى دحضه ورفضه والبحث عن بديل آخر يصلح لزمان يوافق هوى المتلقي وعبث مسعاه.

الخطير في كتابات الحداثيين العرب من مثل حسن حنفي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني أنهم خرجوا من سياقات نقد الخطاب اللغوي إلى نقد النص الديني وتعرضه لتفصيلات تاريخانية ونظريات ألسنية باهتة ومناهج تحليلية لم تأت بفائدة في بيئات إنتاجها سوى شيوع موجات التطرف والإلحاد والرفض لكل ما هو ديني. بل إن الأخطر هو التفاوت والاختلاف المرضي ( بفتح المين والراء) في حرصهم على التشكيك بالنص وتفكيكه ومن ثم إعادة بنائه، وإخضاع القرآن الكريم للمنطق التاريخي المادي وربما لا أريد إطلاق العنان لاتهاماتي بعدم الاعتراف بأصله ومصدره.

ومصيبة التفكيكية التي أشرنا إليها سالفا أن معيارها الوحيد هو صحة النص؛ ودأب النظرية اللغوية والنقدية بعد ذلك أفضت إلى ضرورة أن يكون النص محرفا وهي نتيجة جاهزة منذ البداية كما يذكر ميراصاحب في كتابه (الحداثية).

ولنا أن نقدم فروقا جلية بين تلقي النص القرآني وتأويل النصوص البشرية التي لا تخرج عن فلك كتابة الشعر ونظمه والقصة والرواية والخاطرة الأدبية؛ وهنا تجدر الإشارة إلى التّمييز بين نوعين من أنواع قراءة النّصّ الأدبيّ؛ الأولى قراءة مطابقة وهي قراءةٌ استنساخيّةٌ غير متجاوزة تقتصر على شرح النّصّ وتفسيره بصورة مباشرة ملتزمة بحرفيّة اللّغة النّصّيّة داخل الخطاب الأدبيّ ولا تتجاوزه إلى ما وراء النّصّ أو الأبعاد المكوّنة له بغير استنباط أو استدلال أو استنطاق لمعان أخرى مستترة. والقراءة الثّانية هي قراءة الإنتاج والتي يمكن تسميتها بالقراءة الكاشفة، وفيها يبحث القارئ عن المضمر والمخبوء داخل النّصّ الأدبيّ كاشفًا مضامينه ومعانيه. وتلك أمور لا يمكن توظيفها في نص حكيم إلهي قاطع التشريع.

وقراءة النّصوص الأدبيّة مستوياتٌ ومراق؛ بدءًا من التّرديد وتحريك اللّسان، مرورًا بالفهم السطحيّ، وبحلّ شفرة النّصّ الأدبيّ ومحاولة فهمه وتحليله، ثم الوصول إلى إعادة تركيبه وسبر أغواره أو إنتاج نصّ مواز للنّص المقروء وهو ما يعرف بالقراءة التّأويليّة. وهذه القراءة تقتضي من القارئ الدّخول مع النّصّ الأدبيّ في عملية تفاعليّة تتناص مع مقروء ومخزون خارج النّصّ.ّ والمنظرين لتأويل النصوص الدينية لم يفرقوا عن انتفاء بصيرة بين تفسير وفهم النص القرآني وتأويل النصوص الأدبية البشرية، فنجدهم يتحدثون عن القراءة التأويلية بوصفها مرادفا ومعادلا موضوعيا للحرية وبالأحرى إعلاء الفردانية، فهم يرون أن  القراءة التّأويليّة طبقًا لمفهُوم الحُرّيّة اللغويّة هي نظامٌ من المُمارسات التّفسيريّة الضّمنيّة أو المُضمرة التّي تتّسمُ بالاتّساع والإنتاج القرائيّ الإبداعيّ، وهي قراءةٌ ترتبطُ باستحضار العلاقة بين النّصّ والمرجع ويعني بصفة خاصّة بالمُعطيات الخارجيّة مثل ظُرُوف إنتاج النّصّ وتلقّيها، لذا فهي قراءةٌ تُركّزُ على السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ. وبذلك فإنّها ـ القراءةُ التّأويليّةُ ـ لا تتوقّفُ عند حًدُود التّلقّي المُباشر، بل تًسهم في إنتاج وجهة نظر جديدة يحملها النّص الأدبي بين طيّاته.

وجهل الحداثيين المعاصرين أنهم لم يفطنوا للفرق بين قدسية النص القرآني والنصوص الأدبية الإبداعية؛ لذلك فهم عن جهل مقصود اعتبروا القراءة التّأويليّةُ ـ كمُنتج لُغويّ ـ انفااحًا إيجابيا يرتكزُ على الحوار والسّجال بين القارئ والنّصّ والكاتب، فضلا عن كونها منهجًا لإماطة اللّثام عن معنى النّصّ لا عن طريق التّحليل والفهم وإعمال العقل في صُورته الظّاهريّة فحسب؛ بل بالنّفاذ إلى عُمق النّصّ وتجاويفه المُضمرة، لذا يُمكنُ القولُ بإنّ القراءة التّأويليّة  هي نتاجُ الوعي بالنّصّ وُحُضُورُ القارئ بقُوّة في خلق وتشكيل النّصّ الأدبيّ وذلك من خلال ما يُمارسُه من مهارات تأويليّة تستهدفُ إعادة تشكيل النّصّ الأدبيّ وبناء معانيه، وخلق حالة من التّفاوُض والمُعارضة من جانب القارئ للنّصّ، وهذا يعني أنّ القراءة هُنا تُصبحُ إبداعًا آخر للنّصّ، بمعنًى أنّها ليست قراءةً سلبيّة، بل إنّ القارئ يُفسّرُ معانّي النّص ويؤوله من خلال حوار مع خلفيّته الثّقافيّة وتجارب الحياة الشّخصيّة لهُ. 

ومشكلة الحداثيين ونحن نختتم سطورنا عن مخاطر هذا التيار الجارف أنهم لا يفرقون بين النص الديني الإلهي والنصوص البشرية الأخرى، بل إن كثيرا من الأكاديميين العرب المعاصرين والذين يلهجون وراء الألسنية الغربية يصرون على التعامل مع النص القرآني كنص بشري عادي، ومن هنا وكما يشير دين محمد ميراصاحب كان تهافتهم على المناهج التأويلية الغربية واستعانتهم بأصولها وقواعدها في فهم الكلام الإلهي.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

 أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا

في جوهر رسالتها، تعد الجامعة منارة للمعرفة، ومصنعا للعقول، ومحركا للتنمية المجتمعية. ولكن، في ظل انظمة التقييم الجامعية الحالية، يبدو ان هذه الرؤية قد تشوهت، حيث تحول الاستاذ الجامعي الى "الة نشر" بلا روح، تهمل فيها الى حد كبير جوهر الرسالة الاكاديمية المتمثلة في التدريس والتطوير والاشراف والادارة وخدمة المجتمع. هذا التحول يطرح سؤالا ملحا: هل نحن نقيم علماء ام منتجين للاوراق؟ لقد تحولت استمارات التقييم الى اداة قمعية تكافئ من ينتج اوراقا بحثية – بغض النظر عن جودتها او مصدرها – وتهمش من يكرس وقته للتعليم والادارة والابتكار المجتمعي.

وهم الجودة واقتصاد الورق

لا تكمن المشكلة في تشجيع النشر العلمي، فهو بلا شك ركيزة اساسية للتقدم المعرفي. ولكن المازق يظهر عندما يحول النشر الى "معيار رئيسي" يقاس به اداء التدريسي، دون مراعاة عوامل حيوية تؤثر بشكل مباشر على جودة البحث وامكانية انتاجه.

اولا، يعاني التدريسيين من انعدام الميزانية البحثية. كيف يطلب منهم نشر ابحاث في مجلات مصنفة دوليا دون تمويل للمختبرات او شراء معدات ومواد حديثة او حتى دعم حضور المؤتمرات العلمية لتبادل الخبرات؟ يجبر التدريسي اما على تمويل ابحاثه من جيبه الخاص او جيوب طلابه، وهو امر غير مستدام، او اللجوء الى "مصانع الاوراق" (Paper Mills) التي تبيع ابحاثا جاهزة، او مواقع تقدم "نشرا سريعا" مقابل المال. هذا الوضع يفتح الباب امام الاختلاس الاكاديمي، حيث يتحول النشر الى مجرد وسيلة للبقاء الوظيفي، لا للاضافة العلمية الحقيقية. فهل حقا نريد بحوثا مزيفة تملا السيرة الذاتية، ام اسهامات علمية اصيلة؟

ثانيا، يجب الاخذ في الاعتبار التخصصات المختلفة. ليس كل تخصص ينتج ابحاثا بنفس الوتيرة. فبينما يمكن لناشري علوم البيولوجيا والكيمياء او الطب نشر عدة اوراق سنويا نظرا لطبيعة البحث التجريبي او التطبيقي الذي يسمح بتقسيم العمل، فان الباحث في الاقتصاد او التاريخ او الفلسفة او القانون قد يحتاج سنوات لانجاز دراسة رصينة تتطلب عمقا في التحليل وجمع البيانات والمراجعة. هذه الفروقات الجوهرية غالبا ما تهمل في انظمة التقييم الموحدة.

التدريس والادارة

الجامعة ليست معهدا بحثيا فحسب، بل هي في المقام الاول مصنع للعقول وموئل للطلاب ومصدر للالهام. ومع ذلك، تهمل جوانب اساسية في تقييم الاستاذ الجامعي. المحاضرات والاشراف على الطلبة وادارة الاقسام الاكاديمية والمشاركة في اللجان الجامعية المختلفة – كلها اعمال شاقة ومستهلكة للوقت والجهد، لكنها لا تقاس الا بـ"نقاط" شحيحة في استمارات التقييم. لماذا يعاقب الاستاذ الذي يكرس وقته لطلابه ويعمل على بناء قدراتهم ويصقل مواهبهم لانه لم ينشر العدد المطلوب من الاوراق البحثية؟

علاوة على ذلك، تعد خدمة المجتمع جزءا لا يتجزا من رسالة الجامعة. من يقيم الاستاذ الذي يقدم استشارات لمؤسسات حكومية او ينظم ورشا توعوية وتدريبية للمجتمع المحلي او يكتب مقالات توعوية تساهم في حل المشكلات المجتمعية؟ هذه مساهمات حقيقية وملموسة لا تقل اهمية عن ورقة بحثية تنشر في مجلة علمية، بل قد تفوقها تاثيرا على ارض الواقع. ومع ذلك، نادرا ما تحتسب هذه الجهود ضمن معايير الترقية او التقييم.

هل البحث ممكن بدون دعم مالي؟

يمكن القول بان البحث العلمي ممكن بدون ميزانية ضخمة، لكن بشروط وقيود كبيرة. يمكن اجراء بحوث نظرية تعتمد على المراجعات المكتبية، لكن حتى هذه تتطلب اشتراكات في قواعد بيانات دولية مرموقة (مثل Springer او JSTOR) التي غالبا ما تكون غير متاحة في معظم الجامعات، خاصة في الدول النامية. كما يمكن تحقيق تعاون دولي، لكنه يحتاج الى شبكة علاقات قوية وتمويل للسفر وحضور المؤتمرات، وهو امر مستحيل بدون دعم مؤسسي فعال. واخيرا، يمكن اجراء بحوث ميدانية بسيطة، لكنها تظل محدودة التاثير دون منصات نشر مفتوحة الوصول تضمن انتشارها ووصولها الى جمهور اوسع.

النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي اما انتاج بحوث ضعيفة تنشر في مجلات وهمية (للوفاء بمتطلبات الترقية) في احيان كثيرة، او انسحاب الاساتذة من البحث نهائيا والتركيز على التدريس والادارة، وهو ما يعاقبهم النظام الحالي الذي يضع النشر على راس الاولويات والذي يجبرهم على سلوك طرق غير سليمة ونزيهة.

لماذا لا يطبق نموذج "الجامعات التعليمية"؟

في دول كثيرة حول العالم (مثل اليابان، وكثير من الجامعات الامريكية واللاتينية)، يطبق نموذج اكثر مرونة للتقييم، حيث يقسم الاساتذة الى فئتين:

- اساتذة بحثيون: حيث يعتمد تقييمهم بشكل اساسي على النشر العلمي والانتاج البحثي.

- اساتذة تعليميون: يعتمد تقييمهم بشكل اكبر على جودة التدريس والاشراف على الطلبة والابتكار في المناهج وخدمة المجتمع.

فلماذا نصر على نموذج واحد لا يناسب واقعنا ولا يلبي احتياجاتنا المتنوعة؟ هذا التمييز يسمح بتوجيه جهود الاساتذة نحو ما يتقنون، ويضمن التوازن بين الادوار المختلفة للجامعة.

الخلاصة

لتحقيق نظام تقييم عادل ومحفز، يجب علينا تجاوز هوس "سكوبس" وعدد الاوراق المنشورة كمقياس رئيسي للجودة. يتطلب الامر اعتماد مقاربة متوازنة وشاملة تاخذ في الاعتبار كافة جوانب الاداء الاكاديمي:

- الغاء هوس "سكوبس" كمقياس وحيد، واعتماد موازنة دقيقة بين التدريس والبحث العلمي والجهود الادارية وخدمة المجتمع. يجب ان يكون هناك وزن نسبي لكل من هذه الجوانب.

- تخصيص استمارات تقييم مختلفة للاساتذة الاداريين والتدريسيين البحت والباحثين لتعكس طبيعة عمل كل منهم بدقة.

- احتساب مراحل البحث، وليس فقط النشر النهائي. يجب ان تقدر الجهود المبذولة في مجريات البحث ومدى صعوبة اجرائه وفترة انجازه ونزاهة اجراءاته والحصول على قبول للمقالات وعمليات التحكيم والدعوات العلمية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات العلمية.

- توفير دعم مالي حقيقي للبحث العلمي، بما في ذلك تمويل المختبرات وشراء المواد واشتراكات قواعد البيانات، ودعم حضور المؤتمرات. او، في حال عدم توفر هذا الدعم، يجب التوقف عن معاقبة من لا ينشر بسبب انعدام الموارد.

الجامعة ليست خط انتاج لاوراق بحثية، بل هي مؤسسة لصناعة الانسان وتنمية المجتمع. فلتكن معاييرنا انسانية وشاملة قبل ان تكون رقمية ومختزلة. كيف يمكننا ان نضمن ان الجامعات تنتج قادة ومفكرين ومبتكرين اذا كنا نقيم اساتذتها بناء على مقاييس ضيقة لا تعكس جوهر رسالتهم؟.

***

ا. د. محمد الربيعي

أكثرُ آيات الحج في القرآن تحثُ على ذكر الله على الدوام بغير انقطاع؛ لأن الذكر يُمثّل صحة النفس وتصفية القلب، وهما مقومان أساسيان لتوازن الإنسان من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث الجلي والخفي، ومن حيث استواء القلب مع القالب ..

وليس من بعدٌ إلا التطهير !

والسلوك الطيّب يَتَمَثَّل في الذكر وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل طريق الله، يتأسس على الذكر ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور، فضلاً عن جني الثمرة الدائمة: البقاء الموصول في رحاب المعيّة الإلهيّة.

من يلتفت إلى الأغيار، وهو في معيّة الله لم يذق من الحج إلا تعب المشقة والعناء؛ والحج كُلّه في الصورة الخارجية أغيارٌ في أغيار. وإرادة الله في ذلك لكأنها تتعمّد أن تحيطك بالأغيار من كل جانب لتقفك على اختيار واحد وهو: أن تتوجّه بقلبك إلى إزاحة السّوى، فلا يكن للغير عليك من سبيل إلا أن يكون عرضاً خارجاَ ليس إلا، وأن تقف تلك الإرادة بمطلق المعيّة فلا تتحدّد ولا تتقزم بل تنطلق إلى أجواء صافية راقية تسمو بسمو المدارك والملكات.

الحج، رمزُ عملي تطبيقي فعّال لوحدة القصد: وحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس كافة بأنهم في الله إخوان، وإن فرّقت بينهم المناسب والأمكنة وباينت بينهم المناصب والدرجات، وأنهم، وهم محرِمُون في صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

ولكن اللافت للنظر في مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل؛ فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد في بيته العتيق فكانت الكعبة؛ فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً في عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه في أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، حكمة تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت: حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً؛ فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوي، عالم الأفلاك السماوية .. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ: الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوي حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية؛ لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية؛ لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله للّه.

وسيبقى البيت العتيق عتيقاً؛ لأنه المركز الثابت الذي سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أما تعليل الطواف بسبع؛ فلا يسيغهُ في العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال الله تعالى: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

هذا هو الجانب المقبول في الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت؛ فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى .. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش في البيت المعمور، ثم في الأرض، في البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التي وردت في الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذي ذكرناه، فالحاج يطوف حول الكعبة المعظمة سبعاً، وفي كل مرة يستلم الحجر الأسود، وهذا الاستلام له مغزاه ومعناه: إقرار بالتوحيد من جهة، واعتذار عن الخطايا والأرجاس من جهة ثانية، ثم تطهير، لهذا يعود الحاج بعد أداء الفريضة كيوم ولدته أمه خالياً من الخطايا والذنوب.

لقد كان الحجر الأسود أبيض ناصع البياض، فاسودّ من خطايا الناس .. يومها (وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، ارتفع بناء الكعبة، ولمّا ارتفع البناء طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجئ بحجر، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً يضعه أبوه في البناء، وعاد فألفى عند أبيه حجراً فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟

قال إبراهيم: (من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك).

وكان جبريل هو الذي جاء به من السّماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود حين هبط به آدم من الجنة، وكان شديد البياض فاسودّ من خطايا الناس. وقيل: إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه في مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا..

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود في كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، في شهود التوحيد، وفي تكفير الخطايا والذنوب، وفي الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفي القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد،ُ إلا التطهير .

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في الوقت الذي تتزايد فيه دهشة الانسان تجاه قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولا سيما برنامج " شات جي بي تي" الذي اقتحم أغلب تفاصيل حياتنا، وأصبح متاحاً للجميع نظراً لسهولة استخدامه والاستفادة من امكانياته المذهلة، يظهر في المقابل وجه آخر متحفظ يرى أن أنظمة هذا الذكاء تشبه " الببغاوات العشوائية " التي تقلد اللغة البشرية دون ادراك لمعناها، وأنها ليست أكثر من أدوات متقدمة لمعالجة البيانات، تفتقر إلى الفهم أو الوعي الحقيقي. صحيح أن علماء بارزين في مجال البرمجيات الذكية وصنّاعاً كباراً مثل بيل غيتس وإيلون ماسك، توقعوا اختفاء العديد من الوظائف التي يؤديها الإنسان، إلا أن كتاباً ألّفته عالِمتان هما إيملي بيندر، المتخصصة في اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن، وأليكس هانا عالمة الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، يوجه نقداً لاذعاً وساخراً للمبالغة في قدرات هذا الذكاء.

الكتاب الذي حمل عنوان "خدعة الذكاء الاصطناعي" يهدف إلى تفكيك الأساطير المحيطة بهذه التكنولوجيا، وكشف الأجندات الخفية وراء الترويج المفرط لها من قبل الشركات الكبرى التي تعمل على تضليل الجمهور من خلال تضخيم قدرات أنظمتها، كما أن هذه الشركات، باستخدامها الواسع لبرامج الذكاء الاصطناعي تهدد مستقبل الوظائف إذ تسعى إلى تقليل التكاليف على حساب اليد العاملة البشرية، ما يؤدي إلى فقدان الوظائف، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة. من هنا، تدعو المؤلفتان إلى تشجيع التفكير النقدي، وعدم الانخداع بالدعاية التكنولوجية، والمطالبة بمساءلة تلك الشركات عن مخاطر ممارساتها الأخلاقية والإجتماعية .

من المؤكد أن " الببغاوات العشوائية " لن تقبل الهزيمة بسهولة، لأنها لا تفهم لغة " الأخلاق" البشرية، وستظل هيمنتها الخطيرة مصدر قلق للإنسان، إلى أن يظهر نوع من الذكاء الاصطناعي يمتلك ليس فقط المهارة، بل أيضاً العاطفة، والقلب، والقيم الأخلاقية التي تُميّز الإنسان عن الآلة .

***

د. طه جزّاع

 

في عصر يتسم بالتوتر المتزايد حول العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة ودور الدولة، من الحكمة التفكير بجذور اللامساواة وتحديد ما اذا كانت بطبيعتها غير عادلة. من وجهة نظر اقتصاد السوق، يمكن النظر الى اللامساواة ليست فقط كمحصلة طبيعية للديناميكيات الاقتصادية وانما ايضا كظرف يقود الابتكار والحراك الاجتماعي والنمو الاقتصادي. مع ذلك، ربما نسأل: هل هذه النظرة مقبولة أخلاقيا؟

في الاقتصاد الحر، لايبرز التفاوت الاقتصادي من تصميم مركزي وانما من تفاعلات طوعية بين الافراد. هناك عدة عوامل تساهم في هذه الاختلافات.

1- المهارات والمواهب المتفردة

كل فرد يمتلك قدرات ومعرفة تختلف من حيث الطلب عليها وقيمتها طبقا للسوق. فمثلا، طبيب جراح أعصاب متخصص قد يستلم أجر أكثر من المزارع – ليس بسبب ان الجراح كشخص له قيمة جوهرية اكبر وانما بسبب تعقيدية وتأثير خدماته التي تكون نادرة وذات خصوصية.

2- الأفضليات الشخصية والتضحيات الفردية

اللامساواة ايضا تعكس الاختيارات الفردية. بعض الناس يختارون العمل ساعات طويلة او يتحملون مخاطر مالية كبيرة عبر بدء مشروع عمل، بينما آخرون يفضلون التوازن بين العمل والحياة. هذه القرارات الشخصية لها تأثيرات اقتصادية.

3- الابتكار وخلق القيمة:

المضاربون الذين يطوّرون منتجات رائدة، مثل ستيفن جوبس في تطويره الايفون او ايلون ماسك وتطويره تسلا، يراكمون ثروات هائلة بسبب المنافع التي تخلقها ابتكاراتهم لملايين الناس. هذا المنظور لا يعني ان كل اللامساواة هي منصفة او مرغوبة وانما يعني ان الكثير منها يبرز من عمليات شرعية وأخلاقية ضمن نظام السوق الحر.

هل اللامساواة غير عادلة؟

يمكن معالجة أخلاق اللامساواة الاقتصادية طبقا لعلاقتها بالشرعية. اللامساواة الشرعية تبرز من الجدارة والابتكار والجهد الفردي. فمثلا، عندما يراكم شخص ما ثروة عبر خلق وظائف او تطوير منتجات تحسّن حياة الآخرين، فان هذه الثروة ليست فقط أخلاقية وانما ايضا مفيدة اجتماعيا. اللامساواة غير الشرعية تحدث عندما يستغل الفاعلون السياسيون او الاقتصاديون النظام للحصول على مزايا غير متناسبة. الاحتكارات المدعومة من الدولة او السياسات التي تفضل قطاعات معينة على حساب الاخرين هي أمثلة واضحة على اللامساواة غير العادلة.

جادل روبرت نوزيك بانه اذا كانت اللامساواة تبرز من تبادلات طوعية وتحترم حقوق الملكية، فيجب ان لا تُعتبر غير أخلاقية. لذلك، التركيز يجب ان لا يكون على اللامساواة ذاتها وانما على الظروف التي خلقتها.

إعادة توزيع الثروة: حل ام مشكلة؟

تهدف سياسات إعادة توزيع الثروة الى تقليل اللامساواة لكنها عادة تأتي معها أضرار جانبية:

1- تثبيط اقتصادي

الضرائب العالية على الدخل والثروة لا تشجع على العمل الشاق او الاستثمار والابتكار.

2- التخصيص غير الفعال للموارد

سياسات إعادة التوزيع عادة تنقل الموارد نحو برامج الحكومة التي هي أقل كفاءة من المبادرات الخاصة في معالجة الفقر.

3- التبعية المؤسسية

الإعانات الدائمة يمكن ان ترسخ تبعية هيكلية بدلا من ان تشحذ طاقة الافراد للتغلب على الفقر. ملتن فريدمن جادل بان سياسة فرض إعادة التوزيع تحطم الحوافز للجهود الانتاجية، وبالنهاية تؤذي كل من الفقير والغني في المدى البعيد.

اللامساواة وتقليل الفقر المطلق

العامل الاساسي في تفضيل الاقتصاد الحر هو قدرته على تقليل الفقر المطلق(1)، حتى مع استمرار اللامساواة النسبية او زيادتها. عبر الثلاثين سنة الماضية، خرج اكثر من بليون شخص من الفقر المطلق، خاصة في اقتصاديات تبنّت سياسات السوق المفتوح. وعلى الرغم من ارتفاع اللامساواة النسبية في العديد من هذه الدول، لكن الرفاهية الكلية تحسنت بشكل كبير. في بيئة السوق الحر تتحقق الشروط التالية:

1- المنافسة تقود الابتكار وخلق الوظائف:

تاريخيا، سمح تحرير التجارة للملايين من الناس في الدول النامية بالوصول الى وظائف ذات اجور عالية في قطاعات التصدير.

2- رأس المال الخاص يغذي النمو:

المستثمرون يبحثون عن الفرص في الاسواق الناشئة، يسهّلون نقل التكنلوجيا والبنية التحتية والوصول الى بضائع وخدمات عالية الجودة.

الدور الحيوي للمساواة أمام القانون

في نظام السوق الحر، لا يجب ان يستلم أي شخص تعامل تفضيلي من الدولة، سواء كان من خلال إعانات خاصة او تعليمات حماية او عقود حصرية. العدالة يتم ضمانها عندما يتنافس كل شخص تحت نفس القواعد، والمحصلات الاقتصادية تعكس بدقة جهود الافراد وقناعاتهم المتولدة من السلعة او الخدمة.

اللامساواة الاقتصادية في نظام السوق الحر ليست بالضرورة شرا يجب ازالته. بل هو سمة جوهرية للمجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والابتكار والتنوع في المواهب. مع ذلك، هذا لا يعني تجاهل اللامساواة اللاشرعية التي يجب ان تُعالج بشفافية ومؤسسات قوية تحمي حقوق الملكية والمنافسة العادلة. وكما يرى الاقتصادي فردريك هايك، ان العدالة الاجتماعية في مسعاها لمساواة المخرجات تخاطر بالتضحية بالحرية والازدهار اللذين لا يوفرهما الاّ السوق فقط. بالنهاية، الهدف يجب ان لا يكون فرض مساواة مادية وانما ضمان ان جميع الافراد لديهم فرص متساوية للوصول الى قدراتهم القصوى، وان يتحرروا من الحواجز المصطنعة وإكراه الدولة.

***

حاتم حمييد محسن

.....................

The Ethics of Inequality, Library of Economics and Liberty, May24, 2025

 الهوامش

(1) الفقر المطلق هو الحالة التي يفتقر بها الفرد لتلبية حاجاته الاساسية من طعام وماء وسكن وتعليم اساسي ورعاية صحية. يتم تحديد مستوى من الدخل دونه اي مقدار من الدخل يُعتبر فيه الفرد في فقر مطلق. ينتج الفقر المطلق عادة من الديون وزيادة السكان والكوارث الطبيعية والصراعات وعمالة الاطفال.

تتطلب الصور الرقمية معدات معالجة متطورة ودقيقة، تفتح بالفعل احتمالات لا حصر لها، جيدة أو سيئة اعتمادًا على الاستخدامات، تصبح من خلالها معالجة أيقونتها الزمنية سهلة للغاية. تقوم أداة التنقيح ببساطة بوضع شخصية ما على الشاشة لتعزيز وجودها من خلال تفتيحها أو تكبيرها، أو إزالتها من الصورة، يتم بعد ذلك إعادة تشكيل الخلفية على الشاشة، دون أن يكون من الممكن، حتى بالنسبة للعين المدربة، اكتشاف التلاعب.

وتقصدت الحديث عن هذا الحقل الملغم، على الرغم من تعقيداته التقنية والحاسوبية، لأهمية الإشارة في هذا السياق، إلى خطورة نسق الصورة في الاستخدامات الكمبيوترية الدقيقة، وتركزها في الأبعاد الثاوية لما يعيشه العالم الآن من قفزات وطفرات تكنولوجية خطيرة، تستعمل فيها كل أنواع السيبرانيات في أقصى درجات حضورها الاستخباراتي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ويمكن هنا تأويل هذا المعطى، لنشير تذكيرا، أن الشبكات الرقمية المفتوحة تصر على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوات دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازنات، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين البنيتين المذكورتين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي والمادي.

وهناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

يرى سوسيولوجيون معاصرون، كآلان تورين (صاحب مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي قال في إحدى أهم نظرياته الاجتماعية: يجب أن تكون السوسيولوجيا نضالية وثورية لتحرير الفاعلين من قيود النضال"، وأنطوني غيدنز (صاحب الطريق الثالث)، وحتى بيير بورديو ، يرى هؤلاء أن مجاورة الفجوة التكنولوجية قد تجعل من سؤال الازمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية التي تطالب بدراسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو الأبعاد النفسية والاجتماعية المتغايرة.

وبعكس تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، تبرز ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، كما سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وفي سياق متصل، تشهد معالجة الصور الرقمية أيضًا تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. وسيسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى ب"الافتراضية".

وإذا كان لا يزال من السهل الآن التعرف على الصورة الافتراضية من قبل أي مستخدم للأنترنيت، فلا يمكن رؤية الصورة الرقمية بالعين المجردة، وبالتالي يمكن أن تكون مضللة. اعتمادًا على استراتيجية التلاعب، كما يمكن أن يكون للتعديل الذي يتم إجراؤه آثارًا عميقة أو عواقب خطيرة للغاية.

ومن أجل تقديم نموذج علمي واع بالمفارقات التي وضعناها أمام بصائركم، سأحاول تقديم نموذج لتكريس هذا المعطى المروع، الذي نقارب فيه مخاطر التحريف والتلاعب بالصور، ويتعلق الأمر بالصور التاريخية التي يتم تحويرها وتغيير ملامحها على نطاق واسع، وبالأبيض والأسود، من خلال الصفحات الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت وعلى حساباتهم الشخصية، مما يعرضهم لخطر تحريف رؤية التاريخ.

وميزة الصورة هي أن تكون لافتة وذكية وحارقة، ويمكن الوصول إليها بسرعة، ومفهومة من قبل الجميع وأيضا مؤثرة. فإذا كان المستهلكون كبارا، فإن الشباب هم أيضا منتجون. يتم تداول هذه الأنواع الجديدة من الصور، وغالبًا ما يتم إنشاؤها من مقتطفات من الأفلام أو المسلسلات، أو الصور أو مقاطع الفيديو الحالية، أو صور فوتوغرافية لأشخاص معروفين. هذا التذوق المجازي للصور المحرفة يجعل من الممكن إنشاء رابطة بين الأجيال حول مراجع مشتركة. كما أنه يتيح الفرصة للتعبير عن المشاعر والأفكار المتعلقة بحياتهم اليومية، أو لتشويه سمعة عالم الكبار والأحداث الجارية المثيرة للقلق، أو حتى لبناء روح الدعابة المشتركة.

إن الصور المثيرة هي تلك التي يتم تداولها أكثر من غيرها. تميل المشاعر السلبية والخبيثة إلى توليد معدل مشاركة ووجهات نظر أعلى بكثير من المشاعر الإيجابية. ومن خلال تصفية الخوارزميات التي تعرض الصور الأكثر مشاهدة، مهما كان محتواها، تغدو المنصات ك "غرف صدى" Chambres d'écho تفضل الصور الصادمة التي يتم نشرها بسرعة عالية، دون حواجز المعلومات التقليدية. وهذا يعزز البيئة التي يجتمع فيها الأفراد ذوي التفكير المماثل، مما يخلق فقاعات معلومات يتعرض فيها المستخدمون لصور تتوافق في الأغلب مع آرائهم، على عكس التنوع الموجود في وسائل الإعلام التقليدية. والنتيجة هي استقطاب في الآراء. كما تستفيد اتجاهات التطرف من هذا النظام الذي يجمع مجتمعات كبيرة لتنظيم عمليات تآمرية أو تخويف أو مضايقة أو حتى ترهيب وفراز لعنصرية أو ما شاكل.

ملاحظة أخرى هي أن الأخبار المزيفة والدعاية المرئية وكل ما يتعلق بما بعد الحقيقة مفضل على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا المحتوى ينتشر بسرعة مَهُولة دون احتدادات مسبقة. والنتيجة هي مجتمع يتفوق فيه مشهد ما بعد الحقيقة على صحة الحقائق، كما يتضح في العديد من الأحداث التي عايشناها كمغاربة، في جائحة كوفيد 19، وزلزال الحوز وغير ذلك.

ويطرح ما بعد الحقيقة قضايا مجتمعية مهمة تتعلق بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، وفي واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. كيف يمكن للشباب والناشئين ا أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

إنه يجب تطوير "الإدراك اليقظ"  Conscience consciente لدى الشباب ودعمه وتوجيهه لفهم كيف يمكن للصور أن تضلل أو تسرق لحظة الجمال الكوني، وذلك بعدة طرق، من خلال اللعب على العواطف والتصورات والسياقات. يعطي مقياس Arcom مؤشرات مثيرة للقلق حول السياق الحالي. وهو يقترح أن نساعد في التمييز بين المستويات بين المعلومات الخاطئة، والمعلومات المضللة، والمؤامرة، والأخبار المزيفة، وجميع المصطلحات المستخدمة في الخطاب الاجتماعي والإعلامي.

وعلى الرغم من تشابه هذه المفاهيم، إلا أنها تشير إلى حقائق وممارسات مختلفة. يعتمد الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة بشكل أساسي على القصد. المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة هي دائمًا نتيجة النية. المعلومات الخاطئة هي معلومات مبنية على الواقع، وتستخدم لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة اجتماعية أو منظمة أو بلد. أما المعلومات الخاطئة، من ناحية أخرى، فهي أمر لا إرادي. يشمل التضليل مجال الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة وتلفيق الأخبار المزيفة.

إن ما يكمن وراء التضليل هو تعمد إنتاج أخبار كاذبة على نطاق واسع لتحقيق الربح أو لأغراض سياسية من أجل التأثير أو زعزعة الاستقرار أو حتى الإضرار. وفي حالات كثيرة، يمكن للأخبار المزيفة أن تكون قاتلة ومدمرة بالفعل، خاصة عندما يتم إنشاؤها لتأجيج الكراهية بين مجتمع ضد مجتمع آخر. ويعد مجال المعلومات المضللة أكثر إشكالية لأنه يستفيد من استراتيجيات النشر المتزايدة الكفاءة والتي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

..................

* ملخص المحاضرة التي ألقيتها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ماستر السرديات الثقافية والسيميولوجية) جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع " الصورة في الزمن الأيقوني الجديد" يوم الثلاثاء 27 ماي 2025.

كثيرًا ما نعيش كما لو أن الأبواب مغلقة، كما لو أن الواقع مكتمل ومكتوب سلفًا، وأن علينا أن نتأقلم مع قواعد لعبة لم نخترها. لكنّ الحقيقة، كما يصفها الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم، أن الوعي ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو النمط الذي يُشكّل هذا الواقع نفسه. نُبصر العالم من داخل رؤيتنا له، لا من خارجه. وهذا يطرح سؤالاً جوهريًا: هل نحن نرى الأشياء كما هي، أم كما نحن؟

تأمل هذه الصورة: رجل يجلس في غرفة مظلمة، بجوار باب مفتوح على اتساعه. لكنه لا يراه، لأنه منذ البداية قرر أن يبحث عن مخرج في الجهة الأخرى. يصنع من خياله متاهة، ويقنع نفسه أن الخروج يتطلب مفتاحًا مفقودًا، أو إنارة معينة، أو خريطة معقدة. بينما الباب، بكل بساطة، مفتوح. لكنه لا يُرى إلا من زاوية وعي مختلفة.

الوعي كعدسة: حين نصنع قضبان سجننا

في كتاباته المتأخرة، يوضح ديفيد بوم فكرة “الترتيب الضمني” (Implicate Order)، حيث لا يكون الواقع شيئًا صلبًا بل “تدفقًا” دائمًا تتداخل فيه الإمكانيات والتصورات والمشاعر. في هذا السياق، يصبح الوعي هو القالب الذي يُسقط هذا التدفق في شكل معين، فيُنتج “واقعًا” نعيشه ونعتقد أنه الحقيقة. هذا الواقع ليس كاذبًا، لكنه محدود بشكل الوعي الذي صاغه.

في لحظة إحباط مثلًا، ترى العالم رماديًا، تحكم بأن الناس قساة، وأن الفرص مغلقة. نفس الشارع، نفس المكتب، نفس الأشخاص — لكن الوعي المتألم يجعل منهم عناصر في مشهد عبثي. هنا لا يكون العالم هو الذي تغير، بل زاويتك أنت.

الأمثلة من الحياة اليومية: كيف نُعمّي على الباب المفتوح

* في العلاقات: كثيرون يعتقدون أن الطرف الآخر “لا يفهمهم” أو “يتغير”، بينما الحقيقة أن الوعي الذي بدأ به العلاقة كان وعيًا قائمًا على التوقع، لا الفهم. نعيش العلاقة كما نتمناها، لا كما هي، ثم ننهار عندما يُعيد الواقع ترتيب نفسه بعيدًا عن وهمنا.

* في العمل: الموظف الذي يشعر أنه محاصر في وظيفة لا يحبها، بينما لم يلاحظ فرصًا بسيطة من حوله لتحسين وضعه أو بدء مسار جديد، لأنه ثبت نظره على “شكل واحد للخروج”: الترقية، أو الاستقالة، أو ضربة حظ.

* في المعرفة: نبحث أحيانًا عن إجابات كبرى، عن “الحقيقة” أو “المعنى”، بينما نغفل عن أصوات صغيرة تُنبهنا أن الباب مفتوح في البديهيات: لحظة صمت، أو كلمة صادقة، أو إحساس عابر بأننا نوجِد المعنى عبر انتباهنا، لا عبر نظريات جاهزة.

ديفيد بوم: من فيزياء الكم إلى فيزياء الوعي

ما يجعل فكر بوم مدهشًا أنه لم يفصل بين العلم والتجربة الداخلية. بالنسبة له، الحوار الحقيقي مع النفس والآخرين هو الطريقة الوحيدة لتجاوز “الصور الذهنية” التي نعيد بها إنتاج ماضينا باستمرار. يقول: “أفكارنا تصنع العالم، ثم نشتكي أننا ضحاياه”. وهذا يشبه من يصنع قناعًا بيده، ثم يخاف من وجهه في المرآة.

بوم دعا إلى تحرر جذري من أنماط التفكير المألوفة، لأن هذه الأنماط نفسها تعيد تشكيل السجن. أراد أن نتحرر من وهم أن “السبب في الخارج”، وأن نعود إلى الداخل، حيث يبدأ كل شيء — من زاوية الرؤية، من اختيار العدسة، من الانتباه.

الباب المفتوح: دعوة للانتباه

حين نُدرك أن وعينا يصنع حدود العالم، فإن كل شيء يصبح قابلًا للتجدد. الانتباه، ببساطة، هو مفتاح الخروج. هو أن تنظر حيث لم تنظر من قبل. أن تُعيد طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. أن ترى أن الباب الذي كنت تنتظره أن يُفتح… لم يكن يومًا مغلقًا.

إنه ليس الوعي “الروحي” بالمعنى الشائع، وهو أيضا أساسي  بل الوعي البسيط، القوي، الذي يرى ما هو موجود، لا ما نتخيله. وهنا تبدأ الحرية. ليس بتغيير الخارج، بل بتغيير زاوية النظر إليه.

***

بقلم الكاتب المغربي: يونس الديدي

النقاش حول الذكاء الاصطناعي يدور غالباً حول التحديات التي يمثلها هذا الوافد الجديد، لنا ولمفاهيمنا ونظم معيشتنا. هذا النقاش يتسم بتعبيرات مكررة إلى حد كبير؛ ما يوهم بأننا نتحدث حول موضوع واحد. واقع الأمر أننا نناقش موضوعات تنتمي إلى حقول معرفية متباينة، حتى لو عبَّرنا عنها بكلمات متماثلة. لدي أسئلة ثلاثة، تتناول الانعكاسات الحياتية لانتشار الذكاء الاصطناعي، وتأثيره على التنظيم الاجتماعي والأعراف الناظمة له. لكني سوف أترك هذين لمناسبة أخرى، وأخصص هذه الكتابة للسؤال الثالث الأكثر إثارة للجدل، أي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحتل مكانة الذكاء البشري فيكون بديلاً عنه، جزئياً أو كلياً؟

يهتم غالبية الناس بهذا السؤال؛ لأنه ينطوي على اتهام بأن عقولنا ناقصة. ومحور الجدل هو: هل يمكن للمصنوع أن يتجاوز صانعه، ليس في الإمكانية العامة، بل في الخاصية التي تميز الصانع، أي الخلق والإبداع؟

مناقشة هذا السؤال تبدأ بتعريف العمليات الذهنية، مثل التفكير (التفكيك والربط)، والتعلم (التقليد، المقارنة وإعادة الإنتاج)، والذاكرة (الحفظ والتصنيف والتقعيد والتنميط) وحل المشكلات، ولا سيما اختبار الاحتمالات والنتائج. هذه المناقشة محلها علم النفس المعرفي.

بعد التوصل إلى نتائج شبه رقمية، سنحتاج إلى التعرف على المسارات المتبعة فعلياً في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأبرزها:

أ- اختبار تورينغ، نسبة إلى عالم الرياضيات والحوسبة البريطاني آلان تورينغ. وهو يركز على اختبار قدرة الآلة على محاكاة الذكاء البشري، ولا سيما في المحادثة والاستذكار، ثم قياس سرعة المحاكاة ومدى مطابقتها. لعل أشهر تطبيقات هذا الاختبار، روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ب- تعلم الآلة: وتركز على إعادة إنتاج الحلول، من خلال المقارنة والتعرف على الأنماط الرئيسة والفرعية والمفاضلة بينها، إضافة إلى القدرة على البرمجة الذاتية والتكيف مع البيانات الجديدة من دون تدخل بشري مباشر. وبين أشهر الأمثلة على هذا المسار نظام ألفا-زيرو Alpha-Zero الذي طوَّرته شركة تابعة لـ«غوغل»، ونجح في إتقان لعبة الشطرنج خلال أربع ساعات من التعلم الذاتي. ويقال إنه طوَّر أساليب جديدة في اللعب، لم يسبق أن استعملها أبطال اللعبة.

ت- الابتكار وإبداع معلومات جديدة لم تكن معروفة أو مؤكدة سابقاً. وهو يشمل إنتاج محتوى إبداعي، مثل رواية أو شعر أو لوحة فنية أو حل هندسي أو رياضي. وتوجد الآن تطبيقات تنشئ لوحات فنية أو مقاطع فيديو، اعتماداً على نصوص مكتوبة أو محكية. كما أن البروفسور جيوفاني ساجيو، وهو عالم إيطالي، طوَّر تطبيقاً يكشف عن الأمراض، بتحليل صوت المريض، ويقال إن هذا البرنامج نجح في تقديم نتائج مطابقة لنتائج الفحوص السريرية بنسبة عالية جداً، رغم أن توصله للنتائج يستغرق دقائق معدودة.

توضح مسارات التطوير السابقة الذكر، الإطارات الواقعية للنقاش. الخبراء لا يتحدثون عن إمكان مطلق أو استحالة مطلقة، بل عن درجات الإمكان. حين يقولون إن الذكاء الاصطناعي يستطيع تجاوز نظيره البشري، فهم لا يقصدون الإمكانية المطلقة لاستبدال أحدهما بالآخر، بل درجة متقدمة في جانب بعينه. هذا يشبه مثلاً السيارة التي يصنعها الإنسان فتسير أسرع منه. هذا لا يعني أن السيارة بديل عن الإنسان، بل هي قادرة على تجاوز حدوده في مجال بعينه. كذلك الذكاء الاصطناعي الذي برهن فعلياً على إمكانية تجاوز حدود البشر، لكن ليس إلى حد إلغاء دور الإنسان.

يمتاز العقل البشري بالقدرة على اكتشاف مسارات وضروب حياة، ما زالت بعيدة عن حدود الخيال. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس - من حيث المبدأ - مجهزاً للتخيل ولا يعتقد أنه قادر على التخيل؛ فإن الوصول إلى تلك المسارات، سيبقى – على الأرجح - حكراً على الإنسان، إلى أن يكشفها ويقدمها للآلة التي نسميها الذكاء الاصطناعي.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم