قضايا

أبو حامد الغزالي البحر المغدق والمغرق

(شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر)... أبو بكر بن العربي

***

فرش اشكالي

الفكرة الباطلة لا يمكن ان تحارب الا بفكرة صحيحة وواضحة وظلام الجهل لا ينكشف الا بانبلاج فجر نور العلم وسوءة الظلم لا تستتر الا بثوب العدل وأصح الأفكار هو بناء دولة الحق والعدل التي تأخذ بعلوم السماء والارض " فالحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ "هذه الحكمة أدركها أبو حامد الغزالي فربط في مشروعه النقدي التنويري التحرري بين سلطة الحاكم وسلطان الدين فالدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. حفزه تكليف الخليفة المستظهر بالله على الرد على الباطنية ومعتقداتهم الفاسدة التي كان يتغذى منها الفساد السياسي في دولة الخلافة. لاسيما عقيدة الولاء المطلق للولي سواء القائم بأمور الدين او الدنيا. لقد تتبع بالبحث والتقصي اراء فلاسفة اليونان والإسلام وفهم مقاصدهم واثبت بالحجة والبيان مرتكزا على المنطق كمعيار وميزان  تهافت أفكارهم لاسيما الفلسفة المشائية.طلب العلم فطلبه العلم وانتخبه لمهمة احياء علوم الدين في عصر اطفئ فيه العوام بجهلهم والمبتدعة بمكرهم انوار الشريعة ومشكاة الحكمة وسراجها المنير واحرق فيه الساسة بظلمهم  واستبدادهم كتب المنطق والفلسفة عصر عجز فيه الكثير من الفقهاء عن المطالبة بدولة العدل واسكتهم الخوف والجلوس الى موائد السلطان عن قول حقيقة ان العدل اساس الملك فأفتى بعضهم بان الفلسفة شر وانها  جهالات وأكثرها لا يفيد الا تشكيكا ورأيا ركيكا  وانه من تمنطق تزندق، ثقافة أسست لنشر الجهل وتقديسه بين العوام  في عصر الفتن والمحن عصر ارتقى فيه  الغزالي من شواهد  الحس الى منطق العقل ومن الشك الى اليقين ومن التفسير الى التأويل  وانتهى الى  الارتماء في احضان القلب طالبا الخلاص رحلة طويلة وشاقة  كشفت عن محنته في ظاهرها وباطنها.

ولكن لماذا الحديث عن محنة الغزالي اليوم؟ وهل استطاع الغزالي أن يخرج من بطون الفلاسفة بعد أن دخل فيها؟ وهل يمكن القول ان الغزالي كما يقول محمد ثابت الفندي فيلسوف ديني؟ وهل كان لأزمات الطفولة والترسبات النفسية تأثير في انقلابه الروحي وميله الى التصوف؟ وكيف نفهم علاقة الغزالي بالسياسة؟

لاشك ان  إعادة استحضار شخصية الغزالي في القرن الواحد والعشرين هي محاولة جادة  للتفكير في الزوايا المظلمة والمسكوت عنها في شخصيته وفلسفته، فالغزالي عاش في عصر الفتن والمحن عصر التكالب على السلطة السياسية عصر الاغتيالات والاستبداد والخوف وكان عليه ان يختار فاختار الحرية، لقد كان الغزالي بحق غزالا غزل ثوب الحقيقة بخيوط الشك فحولها الى يقين كان طوسي المولد وطاووسا يمشي فوق الأرض و الطاووس هو رمز الكرامة والجمال والحياة الخالدة وقدرته الى ابصار الحقيقة اسطورة تكرر ذكرها في الفلكلور الصيني والمسيحي وسكنت روح الغزالي  ولاعجب في ذلك فقد كانت طوس مدينة العلماء والادباء. لقد كان قدر الغزالي ان يعيش ألم اليتم صغيرا وألم الشك وغربة العقل طوال حياته وشخصيته التي تبدو للبعض مفهومة وواضحة هي في حقيقتها اشد تعقيدا فذو العقل يشقى في النعيم بعقله لذلك كان لزاما الحفر والنبش في زواياها الخفية لنستمد من فلسفته قبسا من نور نهتدي به في عصر اليتم السياسي والثقافي.

الغزالي مفرد بصيغة الجمع

الغزالي مفرد بصيغة الجمع ورجل بعدة رجال بل هو أمة فهو الفقيه والاصولي الموسوعي المجدد وهو المتكلم والفيلسوف والصوفي الذي استند الى شواهد العقل واستدلالات المنطق في بيان قصور الفلسفة على بلوغ الحقيقة التي أبصرها بأنوار القلب فللقلب أمور لا يدركها العقل. اذا نظرت اليه في طفولته وشبابه رأيت فيه الطفل اليتيم والشاب المتعطش لإدراك الحقائق بفطرته و التلميذ الذي تفوق على استاذه الجويني طلب العلم في صغره بنية مواجهة قسوة الحياة واكراهات الدنيا في بعدها المادي فطلبه العلم لإحياء الدين والدنيا فكان بحق حجة الاسلام وهناك في طوس في قرية غزالة ابصر النور عام 450 هجري الموافق ل 1058 ميلادي  في بيت  له بالمغمور ولا المذكور عند العامة من الناس فأبوه كان غزالا للصوف ورجلا شريفا عفيفا يأكل هو واسرته من عمل يديه  ورغم عوزه وضيق الحال وقلة المال الا انه كان يؤثر العلماء  على نفسه وعياله ويهب الى مساعدة ومجالسة  من تعلق قلبه بهم وهم رجال الصوفية هناك على بابهم دعي الله ان يهبه قلبا صافيا وولدا من صلبه يفقه الناس في امور دينهم ودنياهم فرزقه الله بأحمد ومحمد وسخر له صديقا بعد وفاته  اوفى بما أتؤمن عليه وغرس في نفس الطفلين  حب القران وحسن الاصغاء لمجالس الذكر فشحن روحهما بالرغبة المتقدة و الارادة القوية للسير في طريق العلم وكان ذكاء أحمد وقوة ذاكرته وسرعة بديهته وخياله الخصب وصفاء قلبه ونقاء سريرته وجمال خلقه وحسن خلقه مسببات  لارتقاء الشاب في مسالك العلماء والصالحين وزاده الله بسطة في العلم ونورا على نور و هنالك في نيسابور كان اللقاء مع استاذه الاشعري المعتقد المتكلم بلسان الحال والمقال  الفقيه العلامة الجويني الذي ادرك بفراسته نبوغ تلميذه فغرس فيه حب الدين فكان الغزالي اشعريا قلبا وقالبا لازم دروسه في المدرسة النظامية وتحول الى مدرس فيه لاحقا وفي بغداد هنالك ذاع صيته فجمع بين خير الدنيا والدين  حيث كانت له حاشية وحشم واقترب من مجالس السلطان وتقاطع مع رجال السياسة وسرعان ما احترق بنارها وهنا بدأت محنته.

تأثير العوامل الخارجية والداخلية في محنة الغزالي

محنة الغزالي لا يمكن فهمها الا من خلال عواملها ومسببتها الداخلية والخارجية والمقصود بالعوامل الخارجية المحيط الثقافي والساسي والاجتماعي آنذاك في القرن الخامس الهجري وقد تحدثنا عن بعض ملامحه في محنة ابن النحوي لقد كان الصراع على اشدته حول من يتولى مقاليد الحكم في دولة الإسلام المترامية الاطراف في ظل سلطة ضعيفة مثلها الخلافة العباسي لاسيما مع تزايد النفوذ التركي في جيش الخلافة وقد اشار سابقا الفارابي الى خطورة هذا الامر بعد ما اباح قادة العسكر لأنفسهم اقتطاع الاراضي وفرض المكوس ضعف الخلافة العباسية قابله تزايد قوة واطماع الدولة السلجوقية في انتزاع لقب خليفة المسلمين بداية من تزويج بنت السلطان السلجوقي ملك شاه من الخليفة العباسي ووصولا الى اطماع بركاروق ورغبة الحسن بن الصباح امير قلعقة ألموت او ما يسمى عش العقاب وزعيم فرقة الحشاشين والذي لقب نفسه بالامام صاحب مفتاح الجنة في الانتصار لشهواته ونشر الفكر الإسماعيلي النزاري  وعلى مستوى العقائد كان الصراع مستمرا ومتجددا بين الشيعة والسنة بمختلف فروعهما رغم تراجع سلطة المعتزلة وبروز فرقة الاشاعرة لم تقف الفلسفة في القرن الخامس الهجري عند الخاصة، بل امتدت إلى العامة لانتشار المذاهب الكبرى وتعارضها، فكان هناك رافضة وحنابلة، شيعة وأهل سنة، معتزلة وأشاعرة، فلاسفة وعلماء. ويكفى أن نشير إلى بعض وجوه معبرة، ففى هذا القرن عاش أبو عبدالله البغدادي الشيعي (413 هـ)، والقاضى عبد الجبار شيخ المعتزلة (415 هـ)، وأبو على ابن سينا شيخ الفلاسفة (428 هـ)، وابن الهيثم الرياضي والطبيعي المشهور (430 هـ)، وابن حزم حجة الأندلس (456 هـ)، وأبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ)، والجوينى (478هـ) من كبار الأشاعرة، والحسن بن صباح (485 هـ) زعيم الباطنية ولم يكن الوضع السياسي مستقرا  في بلاد المغرب فالصراع بين الدولة الحمادية والمرابطية لم يتوقف والهجمات الصليبية حولت الاندلس الى دويلات فسقطت طليطلة ودخل جيش المرابطين الى الاندلس ثم. اسقطت دعوى ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي دولة المرابطين لتظهر على المشهد السياس دولة الموحدين ولم يكن الغزالي بمعزل عن هذا التوتر فقد اقحم نفسه فساهم في تحطيم دولة وبناء دولة اخرى اما على الصعيد الثقافي فيمكن القول ان الغزالي وجد نفسه في بيئة ثقافية مزدهرة بامتياز سواء تعلق الامر بالثقافة العلمية فقد وجد امامه تراثا علميا ضخما في الرياضيات والطب وعلم الفلك....وكانت شخصيات  ابن الهيثم وابن سينا وعمر الخيام وابن عربي ....معروفة ومؤثرة في المشهد الثقافي بل كانت قريبة من عصره مشهد سيطرة عليه الفقهاء الذين افتى بعضاهم بحرف كتاب الاحياء مما ولد في نفس الغزالي حزنا هما وارث في قلبه مرضا تجلت من خلاله محنته. اما العوامل الداخلية فلها علاقة بشخصية الغزالي الذي كان صادقا مع نفسه إضافة الى رقة قلبه ورجاحة عقله وقد امتثل القول المأثور حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا وكان بطبعه متمكنا من النقد ميلا الى الشك وهو القائل في ميزان العمل: (إن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر: ومن لم يبصر بقى في العمى، والحيرة والضلال، ولا خلاص للإنسان إلا في الاستقلال، وتمثل بهذا البيت:

خذ ما تراه، ودع شيئاً سمعت به**** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

مرض الغزالي بين الذهان والكنظ أو الغنظ

يقول عبد الرحمن بدوي:" فمنذ أن بدأ يقرأ كتب الفلسفة، ونحن نفترض أن ذلك كان في حدود سنة 484هجري  وهو فى الرابعة والثلاثين، تغير مجرى تفكيره وحدثت له بعد ذلك  أزمة روحية كان من نتائجها أن شك في اعتقاداته الموروثة. وهذا الشك كان أول دافع له إلى النظر العقلى الحر" ومرض الغزالي والذي تسبب في محنته هو مرض نفسي بالأساس صنفه البعض ضمن دائرة امراض الذهان و شعوره بالمرض دام ستة أشهر، من رجب إلى ذي القعدة من سنة 488 هـ حيث  لسانه اعتقل عن الكلام و فقد شهوة الطعام وفي أوائل هذا المرض، أو فى الأحوال الخفيفة منه، تضعف الذاكرة ويتشتت الفكر، ويفقد المريض لذة الاهتمام بأمور الدنيا إذ لا يرى لها قيمة لأنها تكون عنده، في حالته تلك، أموراً عارضة زائلة. ثم هو يأبى بذل الجهد ويتخوف من حمل التبعة. ويرافق ذلك كله حال من الحزن ومن الشقاء البادى ؛ ثم تلح على المريض ذكريات الماضى وتتجسم له الأخطاء اليسيرة، وتتبدى له أحواله الحاضرة كثيرة السوء فيقنط من كل تحسن آني أو مقبل ويستولى عليه قلق شديد. ويكون المريض في هذه الحاله بطىء التفكير ثم يعجز عن معالجة الموضوعات جملة، بينما يستمر تأمله في أحواله الشخصية ناشطاً فتتوارد عليه الخواطر المؤلمة بلا انقطاع، ثم إنه يجبن عن الجزم في الأمور التي تعرض له. وكذلك يقل كلام المريض وتندر مخاطبته للآخرين، ولكنه يظل في العادة ميالا إلى سرد حكاية حاله بالتفصيل على الآخرين. وترى المريض تنتابه الأفكار السود لكثرة ما يحاسب نفسه على ضعف طبيعته البشرية.

وقد وصف حالته في كتابه المنقذ من الضلال قائلا:" فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعى الآخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لسانى، حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً، تطييباً لقلوب المختلفة إلى، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقدة في اللسان، حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لى ثريد، ولا تنهضم لى لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم فى العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج. ثم لما أحسست بعجزى، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء، الذي لا حيلة له، فأجابى الذى يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي، الإعراض عن الجاه، والمال، والأولاد، والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج. إلى مكة وأنا أريد فى نفسى سفر الشام، حذار أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب في المقام بالشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على  عزمی ألا أعاودها أبداً.-1-

ويتضح من النبش والحفر في كتب الذين تحدثوا عن الغزالي  أنه أقام مختلياً بالشام قريباً من سنتين؛ ولكن هذه المراجع لا تبين  كم أقام في بيت المقدس، ولا كم أقام في الحجاز، ولا كم أقام في طوس بعد العودة إليها، ولكنه أجمل كل ذلك وقدره بعشر سنوات، غير أنه في موضع آخر  يقدر هذه المدة بإحدى عشرة سنة. وقد وصف هذه الرحلة في كتابه المنقذ من الضلال:"  ففارقت بغداد ثم دخلت الشام، وأقمت بها قريباً من سنتين ؛ لا شغل لى إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ؛ أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسى.. ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأقفل بابها على نفسي ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز.ثم جذبني الهم ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضاً، حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر، وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لى الحال إلا في أوقات متفرقة،لكني مع ذلك لا أقطع طمعى فيها فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها ودمت على ذلك مقدار عشر سنين  "

عبقرية الغزالي

لقد كان الغزالى نموذجاً للمثقف الملتزم رغم التجارب النفسية والفكرية التي عاناها. وتكفي العودة الى كتابه المنقذ من الضلال للوقوف على محطاتها ومستوياتها. و آخر لفظ فاه الإمام الغزالي به كما يروى ابن كثير لما سأله بعض اتباعه أن يوصيه هو قوله: (عليك بالإخلاص،، ولم يزل يكررها حتى مات)

عالج أمهات القضايا الفلسفية التي شغلت كبار المفكرين والفلاسفة من قبله ومن بعده ووقف منها موقفاً نقديا مجدداً. لقد تأمل طبيعة المعرفة الإنسانية وأدرك نسبية قدرة الحواس والعقل في الوصول إلى الحقيقة وتحليله  لفكرتى الزمان والمكان يقترب كثيرا من نظرة كانط الفلسفية  فقد ربط بينهما في تلازم والحضور قائلا: « كما ان البعد المكاني تابع للجسم، فالبعد الزماني تابع للحركة، فإنه امتداد الحركة، كما ان ذاك امتداد اقطار الجسم فلا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى « قبل و بعد، وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الاضافة الى فوق وتحت » ومعنى ذلك ان الزمان والمكان هما علاقة بين الاجسام، أو بالأحرى هما علاقة بين تصوراتنا. وهما صورتان قبلیتان سابقتان للتجربة نستعين بها على إدراك العالم الخارجي. على ان أهم مسألة فلسفية تعرض لها الغزالي هي مشكلة السببية. فهو يقول: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً، وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا ؛ بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات احدهما متضمن لاثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس على ضرورة وجود احدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الآخر ؛ مثل: الري، والشرب، والشيع، والأكل، والشفاء، وشرب الدواء وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب، والنجوم،، والصناعات، والحرف. وان اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه: « وإلى جانب القضايا الفلسفية الكبرى بحث كثيراً من الاعتبارات المنطقية والنفسية والتربوية والخلقية والاجتماعية وحسن الخلق عنده يعود الى اكتمال الحكمة واعتدال الشهوة  وكونها للعقل والشرع مطيعة  وكتبه المتعددة الكثيرة ينبوع ثري للباحث عن وجهات النظر هذه فى تاريخ الفكر الإنساني هذا الشك المنهجي الذي دعا إليه الغزالى إنما كان ثمرة مطالعاته لكتب الفلسفة. وبلغ هذا الشك أوجه حوالى سنة 484 هـ. هنالك أحس بأنه لن يستطيع المضى في هذا الشك، لأن طبيعته تميل إلى اليقين، ولأنه بعد دفاعه المجيد عن الإسلام السني ضد الباطنية بكتابيه و (المستظهرى) و (حجة الحق): حتى أصبح حجة الإسلام، قد صار لزاماً عليه أن يؤدى دوره الجديد الذي. أحس بأنه دوره ورسالته، أعنى الدفاع عن الإسلام، لا دفاع المتكلم أو الفقيه، بل دفاع المشارك في الفلسفة ثم  اتجه إلى البحث عن ملكة أخرى للمعرفة غير العقل الذي عليه اعتمد الفلاسفة فكان ذلك سبباً لتهافتهم، وأخيراً وجد هذه الملكة في الكشف والذوق عند الصوفية، مما كان سبباً في بدء مرحلة ثالثة وأخيرة في حياته ابتداء من سنة 488 هـ، هى مرحلة التصوف.

احراق كتاب الاحياء

مع تولي علي بن يوسف بن تاشفين مقاليد الحكم خلفاً لأبيه، لم تستمر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الغزالي ورأس دولة المرابطين، وكان سبب التوتر كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين"، والذي بلغ من الصيت والشهرة مبلغاً عظيماً، حتى تناسخه العامة والخاصة.-2-

وصل كتاب "الإحياء" إلى الأندلس والمغرب سنة 503 هـ، وفي ذلك العهد، كان الفقهاء في دولة المرابطين قد تبوأوا مكانة رفيعة، وساهموا في رسم الإطار السياسي للدولة، وكانوا شركاء في أمور الإدارة والحرب والحكم، الأمر الذي أهّلهم لتصدر الهرم الاجتماعي في المجتمع الأندلسي والمغربي، وتجاوزوا مرتبة المرجع والمستشار التشريعي ليصبحوا كما عبّر المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي: "أمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، فانصرفت وجوه الناس إليهم وكثرت أموالهم واتسعت مكاسبهم".

اشتد الجدل بين مؤيد ومعارض لكتاب الغزالي، وقامت من أجله معارك استمرت أيضاً بعد موت الغزالي. كان المعارضين الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً، فشنوا حملة شعواء على "الإحياء" بسبب ما أبداه الغزالي من تذمر للفقهاء وانتقاصه منهم، إذ فضل تسميتهم بعلماء الدنيا، كما عدّ مرتبة الفقيه أقل من مرتبة المتصوف، إضافة إلى اتهامه الفقهاء بالاهتمام بفروع الشريعة دون الأصول، وأيضاً ما حواه الكتاب من أحاديث ضعيفة وموضوعة، وكذلك انتصار كاتبه لآراء المتكلمين من مذهب الأشاعرة. ولذلك، اعتبر فقهاء المرابطين أن الكتاب يحمل أفكاراً دخيلة على منهجهم ومجتمعهم الذي كان "سلفي العقيدة"، فقد كان المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، فأهل المغرب والأندلس مالكية الأصول والفروع، ومالكية في العقائد والحكم والعبادات، حسب ما يوضح محمد المنتصر، في دراسته عن الغزالي والمغرب.

يعدّ المؤرخ ابن القطان حادث إحراق كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" سبباً لسقوط دولة المرابطين، إذ علّق على هذا الحادث بالقول: "كان إحراق هؤلاء الجهلة لهذا الكتاب العظيم الذي ما ألف مثله سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم على يد هذا الأمير العزيز القائم بالحق"

ويأتي القاضي أبي القاسم بن حمدين كواحد من أهم الفقهاء في بلاد المغرب والأندلس ممَّن تصدّوا لكتاب "الإحياء"، فما إنْ وقع الكتاب بيده، وقرأه حتى ثارت ثائرته، ورفع الأمر إلى علي بن يوسف بن تاشفين، ومن المعروف أن دولة المرابطين دولة فقهاء، نشأت ابتداءً على أساس دعوة الفقيه عبد الله بن ياسين، وبالتالي كان الأمير لا يخرج عن رأيهم في الأحكام وسياسية الدولة. وحين اجتمع ابن تاشفين مع الفقهاء، اقنعوه بوجوب حرق كتاب "الإحياء"، وأفتوه بأنه لا تجوز قراءته بحال، ومع كون معارضة البعض للحرق، مثل الفقيه أبو الفضل النحوي، والذي قال لهم: "وددت أني لم أنظر في عمري غير كتاب الإحياء"، إلا أن المعارضين كانوا أقلية، وبالتالي غلب ابن حمدين ومَن رأى رأيه، وأثاروا معهم العامة وطلبة العلم، فما كان لعلي بن تاشفين إلا أن يستجيب لرأي الأكثرية.

وكتب علي بن تاشفين إلى أقطار مملكته بمنع تداول كتاب "الإحياء"، ومصادرة كل النسخ التي بيعت، والتفتيش عنه في المكتبات العامة والخاصة، وأخذ الأيمان المغلظة من الناس بأنهم لا يملكون نسخاً منه. وبعد أن جمعت نسخ الكتاب، أمر علي بن تاشفين بقرار رسمي وبفتوى فقيه قرطبة ابن حمدين، بأن توضع في صحون مساجد الأندلس والمغرب، ليصب الزيت عليها، ثم توقد فيها النيران، فتحرق على مرأى أعيان الناس وعامتهم. ويروي ابن القطان المراكشي، في كتابه "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، أن هذا الحادث وقع في أول عام 503 هـ.

وتوالى بعدها إحراق كتاب "الإحياء" في سائر بلاد الأندلس والمغرب، وإنزال أشد العقوبات بمَن وُجد عنده نسخة منه، من سفك دمه والاستيلاء على ماله، واشتد الأمر بذلك، بحسب الرواية التي أوردها المؤرخ عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب". كما أن حملة الحرب على كتاب "الإحياء" لم تقتصر على عهد الأمير علي بن يوسف، بل امتدت كذلك إلي ابنه تاشفين بن علي، والذي بعث برسالة إلى أهل بلنسية، جاء فيها: "ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على مَن يتهم بكتمانها"، بحسب ما أورده محمد عبد الله عنان في كتابه عن عصر المرابطين والموحدين. وجدير بالملاحظة أن معارضة كتاب "الإحياء" لم تقتصر على المرابطين وأهل المغرب فقط.

هل تهجم الغزالي على الفلسفة المشائية يخرجه من دائرة الفلسفة؟

يجيب محمد ثابت الفندي على هذا التساؤل بان الغزالي فيلسوف من أكثر من جهة:

فمن جهة أولى كان الباعث الأساسي لكتاباته الغزيرة التي شن في بعضها حروباً في جبهات متعددة كجهات الفقهاء والباطنية والفلاسفة والمتكلمين وبسط في بعضها الآخر وجهات نظره التى ارتضاها ودافع عنها، كان ذلك الباعث الأساسي مشكلة فلسفية من الدرجة الأولى في النوع وفى الأهمية ألا وهي مشكلة اليقين الذى لا يتزعزع والذى يميز المعرفة الحقة. لقد تطلع الغزالي دائماً إلى اليقين الذي لا يقبل الشك فيما وراء كل الحقائق التي قدمتها إليه علوم عصره. وهذا ما صاغه الغزالى فى (المنقذ من الضلال » في عبارة تذكرنا بالقاعدة الأولى من قواعد المنهج عند الفيلسوف رينيه ديكارت فيقول الغزالي: (إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور). أما الوجه الثاني الذي يجعل من الغزالي فيلسوفاً فهو أن الحقيقة التي تتميز بذلك اليقين إنما هي عنده الحقيقة الصوفية، دون غيرها من أنواع الحقائق: إنه قبل بذلك معياراً للحقيقة كما قبل الفلاسفة عبر القرون معايير أخرى  أما الوجه الثالث الذى يجعل منه فيلسوفاً للدين الإسلامي بالذات فهو الموضوعات التي تناولها الغزالي والآراء التي أبداها بشأنها إنما هي من صميم ما يسمى عند الفلاسفة  بفلسفة الدين. يقول فرجيليوس فيرم Vergilius Ferm في تعريف فلسفة الدين: (إن فلسفة الدين بحث في موضوع الدين من الناحية الفلسفية.. ومن مسائلها طبيعة الدين ووظيفته وقيمته)

ويضيف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الواقع أن موقف الغزالى من الفلسفة يدعو إلى كثير من التساؤل: أفيلسوف هو حقاً ؟ وإن كان فما فلسفته؟ وما أثرها؟ ولم حمل على الفلاسفة كل هذه الحملة؟.

وعندى أنه كان لا بد له أن يتفلسف، وأن يتفلسف في عمق وسعة. كان لا بد أن يتفلسف لأن الفلسفة في عهده كانت جزءاً من الثقافة الكاملة، فلا يستكمل الدارس ثقافته إلا إن ألم بقسط منها ؛ ذلك لأنه أضحى للمسلمين فلسفة يسرت مواردها، وتعددت كتبها. وإذا كانوا قد عنوا بالنقل عن غيرهم خلال القرنين الثانى والثالث الهجري، فإنهم بدءوا منذ القرن الرابع يفلسفون بأنفسهم ولأنفسهم، وكونوا مدرسة فلسفية على رأسها الفارابي وابن سينا. وكان لا بد للغزالى أن يتفلسف أيضاً، لأنه شغف بالدراسات الكلامية في سن مبكرة، وتتلمذ لإمام الحرمين نحو ثمان سنوات، وهو شيخ الأشاعرة في عصره. وقد سبق للمعتزلة أن فلسفوا علم الكلام، وأضحى في أيديهم أول فلسفة إلهية فى الإسلام.  ويضيف عبد الرحمن بدوي وهكذا نرى الغزالى قد تأثر في هذه الموضوعات الثلاثة على الأقل بالفلسفة اليونانية تأثراً ظاهراً قوياً فى المرحلة الأخيرة من حياته، تلك المرحلة التي بدأت في سنة 488 هجري وفيها أظهر انصرافه عن الفلسفة وكفره بالفلاسفة: والواقع أنه يقى - رغم كل ما بذله في بطون الفلاسفة ولم يقدر أن يخرج منها كما قال أبو بكر ابن العربي وما تظاهر به من طعن في الفلسفة، لم يكن يقصد به الطعن إلا في الظاهر، ابتغاء التقريب بينها وبين الدين حتى يستطيع أن يجعل الفلسفة مقبولة في رحاب الدين السني.

***

علي عمرون - أستاذ مادة الفلسفة

.....................

الهوامش

1- كتاب المنقذ من الضلال.

2- انظر مقال من دعم غزوهم ممالك الأندلس إلى الدعاء عليهم... علاقة أبو حامد الغزالي بالمرابطين.

3- مهرجان الغزالي في دمشق مارس 1961 اعمال ملتقى الذكرى المئوية لميلاد أبو حامد الغزالي.

رغم ان مصطلح "انسانوية" humanism (1) لم يُطبق على الفلسفة والنظام العقائدي حتى عصر النهضة الاوربية، لكن اولئك الانسانويين الأوائل كانوا يستلهمون من الافكار والمواقف التي اكتشفوها في المخطوطات المنسية لليونان القديمة. هذه الانسانوية اليونانية يمكن تحديدها بعدد من الخصائص المشتركة: انها كانت مادية في كونها تسعى لتوضيحات للأحداث في العالم الطبيعي، انها قيّمت التحقيق الحر في كونها ارادت ان تفتح امكانات جديدة للتأمل، وقيّمت الانسانية في كونها وضعت الكائن البشري في صدارة الاهتمامات الاخلاقية والاجتماعية.

أول انسانوي

يمكن اعتبار  الفيلسوف والمعلم اليوناني بروتوغاروس اول "انسانوي" عاش حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. عرض بروتوغاروس خاصيتين هامتين بقيتا أساسيتين للانسانية الى اليوم.

اولا، هو يبدو جعل الانسانوية نقطة البدء للقيم والاعتبارات عندما طرح عبارته الشهيرة "الانسان مقياس كل شيء". بكلمة اخرى،عندما نؤسس معاييرنا لا يجب ان ننظر الى الالهة وانما الى انفسنا.

ثانيا، بروتوغوراس كان مشككا جدا في الاديان التقليدية والآلهة لدرجة اُتهم بالمعصية ونُفي من اثينا. طبقا لديوجين لنرتيوس ان بروتوغوراس ادّعى : بانه "فيما يتعلق بالالهة، انا ليست لدي وسيلة لمعرفة ان كانت موجودة ام غير موجودة. ذلك بسبب العقبات التي تمنع المعرفة والمتمثلة في كل من غموض السؤال وقصر حياة الانسان". هذه المشاعر الراديكالية كانت قبل 2500 سنة، وربما لاتزال حتى اليوم.

بروتوغوراس هو أقدم فيلسوف امتلكنا سجل عنه، هو بالتأكيد ليس الأول منْ كانت لديه هذه الافكار ومحاولة تعليمها للاخرين. وهو ايضا لم يكن الأخير: رغم مصيره المؤسف بايدي السلطات الاثنية، كان هناك فلاسفة اخرون في نفس العصر اتبعوا نفس الخط الفكري الانسانوي.

هم حاولوا تحليل عمل العالم من منظور مادي بدلا من افعال اعتباطية للالهة. هذه المنهجية المادية ذاتها كانت طُبقت ايضا على ظروف الانسان عندما سعوا لفهم افضل للجماليات والسياسة والاخلاق وغيرها. لم يعد هناك اطمئنان لفكرة ان المعايير والقيم في هذه المجالات من الحياة تنحدر الينا ببساطة من الاجيال السابقة او من الالهة، وانما هم سعوا لفهمها وتقييمها وتقرير الى أي درجة يمكن تبريرها.

انسانويون يونانيون آخرون

سقراط الشخصية الأبرز في حوارات افلاطون انتقد بالتفصيل المواقف والحجج التقليدية، كاشفا ضعفها وعارضا خيارا آخرا مستقلا. ارسطو حاول تدوين المعايير ليست تلك الخاصة بالمنطق والتفكير وانما ايضا في العلوم والفن. ديموقريطس جادل لأجل تفسير مادي خالص للطبيعة، مدعيا ان كل شيء في الكون مركب من جسيمات ضئيلة وهذه هي الواقع الحقيقي وليس العالم الروحاني الكامن وراء حياتنا الحالية.

إبيقور تبنّى هذا المنظور المادي حول الطبيعة واستعمله ليطور فيما بعد نظامه الخاص في الاخلاق، مجادلا ان التمتع بهذا العالم المادي الحالي هو أعلى خير اخلاقي يكافح نحوه الفرد. طبقا لإبيقور، لا وجود هناك لآلهة يمكن ان ندعوها او تتدخل في حياتنا، ما لدينا في الوقت الحاضر هو كل ما يجب ان يهمنا. بالطبع، الانسانوية اليونانية لا تنحصر فقط في تأملات بعض الفلاسفة. انها جرى التعبير عنها ايضا في السياسة والفن. فمثلا، الخطاب الجنائزي الشهير لبيركلس عام 431 قبل الميلاد كاحتفال باولئك الذين ماتوا اثناء حرب البيلوبونيس لم يرد فيه أي ذكر للالهة او للارواح بعد الموت. هو أكّد على ان اولئك الذين قُتلوا انما لأجل اثينا وسيعيشون في ذاكرة مواطنيها.

المسرحي اليوناني يوربيدس Euripides انتقد ليس فقط التقاليد الاثنية، وانما ايضا الدين اليوناني وطبيعة الآلهة التي لعبت الدور الكبير في حياة العديد من الناس. سوفكليس، كاتب مسرحي آخر أكّد على أهمية الانسانية وروعة الخلق الانساني. هؤلاء ليسوا الاّ عدد قليل من فلاسفة اليونان والفنانين والسياسيين الذين لم تجسد افكارهم وافعالهم فقط ابتعادا عن الخرافات وخوارق الطبيعة  وانما ايضا أثاروا تحديا لأنظمة السلطة الدينية في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) يختلف مصطلح انسانوية عن مفردة انسانية humanity، حيث ان الانسانوية فلسفة عقلانية وعقيدة تركز على مصالح وقيم الانسان. انها ترفض ما فوق الطبيعة وتؤكد على كرامة الفرد وامكانية الادراك الذاتي من خلال العقل.اما الانسانية فهي تشير الى العرق الانساني وتضم كل شخص يعيش على هذه الارض.

إذا نحن بحثنا عن تجسيد حقيقى كامل مُكمّل لكلمة (اليقين) كما تجسّدت فى الواقع الإسلامى الفعلى فخيرُ من يجسّدها حقيقةً وفعلاً هو الإمام على رضوان الله عليه.

لقد ملأ الإسلام قلبه فإذا الدين الذى ينتمى إليه يملك عليه أقطاره بالكليّة، فلا يفكر فى غيره ولا تُنازع العقائد السابقة قلبه فى شيء، بل الإسلام وكفى على شِرْعة الحُب والجهاد والتبتل وليس قبله ولا بعده دين سابق ولا عقيدة متقدّمة.

قلبُ الإمام الذى ملأه الدين الجديد يقيناً أمتلأ كذلك بالحب والعزم والجهاد والتبتل، فكان قلباً فى التّوجُّه للملأ الأعلى خالصاً بكل ما تحمله كلمة الإخلاص من معنى، فكما كان اليقين يشمله ويحتويه فعلاً فكذلك كان الإخلاص النقى عن شوائب الكدورة، الصافى عن أخلاط الشرك وبقايا الزندقة يضمّه ويشمله ويستقر فيه، ويشكّل مع اليقين والحب والجهاد والتبتل شخصية ممتازة فى الخصائص العليا مُثلى فى السجايا الظاهرة والباطنة.

ولم يكن الدين الجديد يعرف قط أصدق إسلاماً من عليّ، ولا أعمق نفاذاً فيه. كان عليّ مع كل صفات الصدق والخير والإخلاص واليقين التى تجسّدت فيه وتكاملت، عابداً يشتهى العبادة كأنها رياضة تريحه وليست أمراً مفروضاً عليه، وتلك أسمى مراقي الجهاد، فبين التصوف والمجاهدة، عُرى وثيقة لا تنفصم أبداً، فلا يكون جهادٌ فى ميادين الحياة الشريفة إلا وقد بذرت فيه بذور التصوف، وقد كان الإمام على يُرى فى كهولته وكأنما جبهته ثُفْنة بعير من إدمان السجود، ومثل هذا كان ظاهر جداً فى الحسين وفى السّجّاد، إذ أُطلق عليه أبو الثُفنات.

العبادة الشديدة والتبَتّل العميق هما شيمة أهل البيت بغير مُنَازَع، وكذلك العلم والفقه، وهى خصائص علويّة بامتياز؛ فلم يكن أقدر من على فى صدر الإسلام علماً وفقهاً، ولم يكن أفضل منه عبادة وتبتلاً وعملاً، يكفى أن يقال أن فتاواه كانت مرجعاً للخلفاء والصحابة فى عهود أبى بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له فيها رأىٌ وجيهٌ يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء.

ولم تكن مسائل العبادة والتبتل بأقل من مسائل العلم والفقه وهما أشهر ما اشتهر فيها بالحجة الدامغة والرأى السديد. ولكن العبادة أمر باطن بين العبد وخالقه، ولا رقيب فيه على المرء سوى ضميره، وليس عليه من سلطان سوى ما تقرّر لدينا سلفاً من يقين الإيمان، ولا إيمان مع فراغ الضمير من فحوى اليقين، ولا يقين مع فقدان الدين القيم وفقدان اليقين منه.

أمّا العلم فشواهد وقرائن وأدلة وافية، براهين وأحكام غير أنها ظهرت لدى الإمام لمّا أن استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة، فكان على التحقيق أبو علم الكلام فى الإسلام كما ذكرنا فيما تقدَّم من مقالات؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة.

ومعلوم من طريق الأسانيد المتصلة أن واصل بن عطاء كبير المتكلمين، تلميذ أبى هاشم بن عبدالله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ على رضى الله عنه.

وأمّا الأشعريّة؛ فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن أبى الحسن علي بن أبى بشر الأشعرى، وهو تلميذ أبى علي الجبائى، وأبو علي الجبائى أحد مشايخ المعتزلة الذين علّمهم واصل بن عطاء.

أمّا الفقه، فإمامه الأكبر أبوحنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة عن عكرمة، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس، وقرأ عبدالله بن عباس عن عمّه على بن أبى طالب، وهكذا ينتهى أمر الفقه وعلم الكلام، كما انتهى أمر التصوف، إلى علي رضوان الله عليه؛ الأمر الذى يتأكد فيه أن جذور العلوم الإسلاميّة الأصيلة ترتد إلى الإمام علي وتتأسس على استنباطاته وأذواقه.

 وعندى أن هذا هو المضمون الدينى الإسلامى ولا ريب، يعتمد الثقافة الذاتية الخاصّة خصوصية القرآن نفسه وخصوصية التعاليم النبويّة الشريفة المنزّهة عن الكذب والمُجرّدة عن التلفيق.

ولن تقوم للمسلمين قائمة ما لم يمتثلوا طريق الأوائل ويتحرّوا مسالكهم فى الفهم والتحقيق ويرتقوا مراقيهم فى المعرفة والإنصاف بعيداً عن الدعوات الممجوجة التافهة التى جهّلتهم بثوابتهم وقدحت فى قيمهم الروحيّة والفكريّة، ولا تزال. (وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي ابراهيم

نعيش الان فرحة عيد الفطر المبارك.. ومع مباركتنا لمن صام رمضان طعاما وشرابا وقلبا ولسانا ، نشير الى ان العيد هو اجمل مناسبة للتسامح بمعناه الديني والاجتماعي.. ذلك ان المفهوم الشعبي يعتبر التسامح ضعفا او خوفا او قلة حيلة او مذلة او مهانة او تنازلا عن حقوق ، فيما الأسلام يعتبره فعلا نابعا من صفاء القلوب وما غلب عليها من الحب والعطف والرحمة والحنان، وسلوكا  صادرا عن قوة ارادة وعزيمة صادقة في الانتصار على النفس والذات بكل ايجابية بعيدا عن السلبيات وما يصاحبها من من غضب وقسوة وعدوانية، وانه خلق عظيم وافضل من الاخذ بالحق والانتصار للنفس لقوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين).

وسيكولوجيا، ستندهشون حين تدركون ان التسامح هو للروح كما الصابون للجسد، يغتسلها من اوساخها ، وان من لا يقدم عليه يسكنه اليأس و يتعفن من الداخل بنقيضه.. الكراهية. ولهذا فأن الأمم المتحدة اعتمدت التسامح مبدءا انسانيا وحددت يوما دوليا (16 تشرين الثاني) لتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب. والمفارقة أن الدين الاسلامي قد سبقها وسبق الحضارة المعاصرة بالف وخمسمئة عاما في دعوته الى التخلي عن رغبتنا في ايذاء الاخرين لأي سبب حدث في الماضي، وان نفتح اعيننا لرؤية مزايا الناس بدلا من ان نحكم عليهم ونحاكمهم او ندين احدا منهم. وكان النبي الكريم قد ضرب اروع مثلا وانبل موقفا في التسامح يوم فتح مكة وقال للذين حاربوه.. من دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن.. مع ان ابا سفيان كان من الدّ اعدائه.

والتّسامح.. الذي دعا إليه الأنبياء والمصلحون، لا يعني فقط العفو عند المقدرة، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والترفّع عن الصّغائر، بل انه يعمل على السُّموّ بالنّفس البشريّة إلى مرتبة أخلاقيّة عالية، وله أهميّة كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات، واحترام معتقدات وقيم الآخرين، والقضاء على الخلافات والصّراعات بين الأفراد والجماعات.. ولهذا فانه يعدّ ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة.

والتسامح يقوم على مسلمات فلسفية بخصوص الطبيعة البشرية، اولها: لا يوجد انسان معدوم الخير، وثانيها: لا يوجد انسان لا يخطأ، وثالثها: ان الانسان مجبول على الحب.. ما يعني ان من يسيء لغيره قد يعيش ظروفاّ صعبةّ أدّت به الى أن يسيء لمن حوله، لكنّه لايجد من يعذره ويتسامح عن زلّته.

وما لا يدركه كثيرون ان التسامح لا يعني فقط ان نسامح آخرين على اخطاء ارتكبوها بحقنا، بل يعني ايضا ان نسامح انفسنا على اخطاء ارتكبناها بحقها وان نخلّصها من اللوم والاحساس بالخزي والشعور بالذنب الذي يصل احيانا الى تحقير الذات.

وسيكولوجيا.. يعني التسامح ايقاظ مشاعر الرّحمة، والتّعاطف، والحنان، الموجودة اصلا في قلبك، وازاحة مشاعر الغضب والكراهية والانتقام نحو من اساء اليك. ويعني فسلجيا.. ان الجهاز العصبي للانسان يكون في حالة التسامح.. مرتاحا، لأن الدماغ يكون مرتاحا جدا في حالات الحب فيما يكون مشوشا متوترا (مخبوصا) في حالات الكراهية.

اعرف ان بينكم من يقول: كيف يمكن أن اسامح من أخطأ بحقي او تجاوز عليّ؟. واعرف ان بين العراقيين من هو (أنفه) ولسان حاله يقول (والله لو يموت ما اسامحه) و(هو شنو حتى اسامحه). لكنك لو فكرت كيف ستكون مرتاحا نفسيا ان بادرت انت وكيف سيكون ممتنا لك من اساء اليك.. لشكرتنا وفعلت!

***

د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

دراما واقع اجتماعي تحكي سيكولوجية المجتمع المقهور والانسان القاهر معا في حلقات طيلة ايام رمضان ترتبط بقصص من البيئة الواقعية التي تطبعت بالوان مختلفة من السلوكيات المكتسبة الدخيلة والبعيدة عن البيئة الاجتماعية الاصيلة وبصراع دائم في العائلة والمجتمع بين الخير والشر. ففي رمضان هذا العام شاهد العراقيون مجموعة من الاعمال الفنية الدرامية تحكي آلام الكثير من العراقين ومعاناتهم مع من حولهم فكانت اعمال فنية طرحت الظلمات التي أجبرافراد المجتمع على دخولها وهم صنعوها.. فمسلسلات عالم الست وهيبة ومسلسل خان الذهب ومسلسل روح ومسلسل قصة ومسلسل الساتر الغربي ومسلسل عسل مسموم.. كلها أعمال فنية رائعة في موضوعيتها الواقعية ذات دراما ناجحة ركزت على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه المجتمع العراقي وهي ذات تأثير نفسي واجتماعي ايجابي على المتلقي ولعل أهمها خلق بيئة درامية للسلبيات التي غزت بيئة المجتمع العراقي بعد الاحتلال بطرح الظواهر والسلوكيات الغير سوية كالعنف المجتمعي وظاهرة المخدرات الدخيلة على المجتمع العراقي بعد الاحتلال ولم تغب عنها الشواذ السلوكية في المؤسسات بصورة عامة وحتى الامنية وكانت الدراما العراقية في هذا العام بمثابة تشخيص للواقع وكذالك الشواذ المجتمعية والسلبيات الغير سوية في السلوكيات الفردية التي شملت جميع جوانب الحياة في الاسرة والمدرسة والجامعات وفي مجالات العمل وبعضها كانت توثيق للاحداث التي مر بها العراق قبل وبعد الاحتلال كشخصية مهيدي في عالم الست وهيبة ودوره وانتقالاته قبل الاحتلال كشرير ومجرم وانتقاله بعد الاحتلال الى المخدرات والاغتيالات وكانت الاعمال الفنية ذات موضوعية هادفة ومقبولة عند المتلقي العراقي لانها عكست واقع الحال ولم تغب عنها معالجات الشواذ السلوكية فالعلاج الدرامي للمجتمع المصدوم يتيح لافراد المجتمع استكشاف السلوكيات السلبية وطرح القصص الخيالية المكبوته.. واظهرت الابحاث النفسية ان العلاج بالفن يقلل من القلق والاكتئاب ويزيد من فهم الذات وتحسين جودة الحياة وهو يقلل من الافكار السلبية في الوسط الاجتماعي ويعززالاهداف الشخصية والثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية والوضائف المعرفية.. وفنون الدراما هي مزيج من العلاج النفسي للشواذ السلوكية عند المنكوبين بصدمات الحياة .. فالدراما كعملية ابداعية وجدت اساسا لاستكشاف الذات وفهمها وتقبلها وتقويم شخصية الافراد ومن ثم المعالجة مع التطور الذاتي باعتبار العمل الابداعي في العلاج الدرامي وسيلة لاعادة خوض الصراع الداخلي بثبات التعبير والتخيل النفسي والمشاركة الفعالة والاتصال بين العقل والجسد وبهذا يمكن مساعدة الصراع الذاتي للمصابين بالاكتاب والقلق والشواذ السلوكية وامراض اخرى ويمكن اجراء العلاج بالفن في كافة الاعمار بحيث لا يتطلب مهارات .. فالدراما العراقية لهذا العام في رمضان كانت واقعية وموضوعية الطرح في دراما ايجابية ناجحة ذات تاثير نفسي واجتماعي في طرحها كما شاهدنا.. فالدراما ليست مجرد لغة حوارية وشعاراتيه رنانة مباشرة وشخصيات سطحية تطرح السلبيات بلا معالجة لها فالصورة تركت لغتها المؤثرة في حبكة الأحداث والأبعاد التي تنمي الشخصيات في البناء الدرامي. اما ماظهر اتفق مع من يقول في الاوساط الاكاديمية والبحثية والثقافية هو تحسن ملحوظ للمستوى الفني للدراما العراقيه لان الضغوطات والبيئة السلوكية في المجتمع والتي يعيشها العراقيين في هذا الزمن اثرت على الفن وصناعة الدراما التي عاشت عصرها الذهبي في نهاية الالفية الثانية وفي بداية الالفية الثالثه دمرتها حرب الاحتتلال فأنتجت اعمال سلبية كما دمرالعراق بأكمله لأن تأثير الاحداث على الفن الدرامي في العراق ليس مرتبط بالتدميروالانهيار الاقتصادي فقط فالمشكلة ليس مرتبطة بالانتاج الغزير ولا على الصعيد اللوجستي ولاعلى صعيد التمويل فالتدمير والعشوائية شمل جميع نواحي الحياة العراقية وتاثيراتها النفسية لم تاخذ شيئ من الاهتمام في الدراما وفي المدن التي لم تصل اليها كاميرات التلفزيون نتيجة الطائفية والعنف الا في هذه السنة ومسلسل الساتر الغربي الذي صورت احداثة في مدينة حديثة فكسرهذا الطوق وساهم باعادة البريق والنجاح للدراما العراقية اما بالنسبة للانتاج فهو قد تحسن بدوره وكثرت مصادر التمويل بفضل كثرة التمويلات الاجنبيه الداعمة ولا ننسى نجوم الدراما التلفزيونية وميولهم السياسي ورغم انقسامهم الى فئات اتاح الفرصة امام الكثير من النجوم المخضرمين ان ينافسهم عدد ليس بقليل من الموهوبين الجدد والتواجد في ادوار مميزة وهذا الامر كان له الاثر الواضح على صعيد الاداء بعد ان شهدت الدراما العراقية تطورا ملحوظا في اداء نجومها رغم أثرالحرب السيئ والسلبي الذي إنعكس سلبا على المجتمع..

***

د. قاسم محمد الياسري

لماذا ننتقد الخلط بين الدين - الإيمان والهوية... أليس يقال دائماً إن الإسلام دين وهوية، أو دين ووطن، أو دين فوق الوطن؟

حسناً. هذه أقوال شائعة، يظنها أكثر الناس بدهية. ولذا لا يتوقفون عندها متسائلين أو مجادلين. في حقيقة الأمر فإن موقع الهوية في التكوين الذهني لأي فرد، وانعكاسها على سلوكه، مسألة قابلة للنقاش وليست مسلّمة مغلقة. وأنا من القائلين بتعالي الدين على الانتماءات الاجتماعية والقومية، فلا يصنَّف على أنه هوية اجتماعية، ولا يزاحم الهويات الأخرى التي يتبناها الإنسان في مسار حياته.

في أوقات سابقة، كنت أتأمل في قول شائع أيضاً فحواه أنه إذا كان ثمة عيب، فهو في المسلمين وليس في الإسلام. ويقال عادةً حين يجري الجدل في سلوكيات بعض المسلمين، فتُنسب إلى الدين الحنيف، نظير الأعمال التي تشير إلى ميول عنيفة أو تمييزية، وكذا الدعاوى التي تبرر الابتعاد عن سبل التقدم العلمي والتقني. كما يستذكر بعضنا قول الشيخ محمد عبده بعد عودته من باريس في 1881م، وخلاصته أنه رأى هناك إسلاماً بلا مسلمين، ورأى عكسه في مصر. وقال مثل هذا الشيخ عائض القرني، الواعظ السعودي المعروف، بعد رحلته الباريسية سنة 2008 ونشره في هذه الصحيفة.

هذه الأقوال وأمثالها، تشير إلى مسألة يقبلها غالبية الناس فيما أظن، وهي أن هناك فاصلة بين الصورة المثالية للدين وبين الممارسات اليومية لأتباعه، فاصلة تضيق حيناً وتتسع أحياناً.

وأميل إلى الاعتقاد بأن هذا أمر طبيعي في العلاقة بين أي جماعة بشرية والمنهاج الآيديولوجي الذي تتبناه، سواء كان ربانياً أو بشرياً. وفيما يخص الإسلام، فإن قولنا بصلاحيته لمختلف الأزمان والأمكنة، يعني على وجه الدقة أن تطبيقه في أي مجتمع أو زمان، سيكون –بالضرورة- مختلفاً عن التصور المثالي، أو مفارقاً لواقع الحياة. ولولا هذا ما ظهرت حاجة إلى الاجتهاد والتجديد. كل فكرة جديدة، أو لِنَقُلْ -على سبيل التحفظ– غالبية الأفكار الجديدة، هي في الأصل سؤال لم يجد جوابه في المنظومات الفكرية والسلوكية السائدة، مما دفع بعض الأشخاص لإعمال فكرهم بحثاً عن جواب. وهكذا كل جديد، في كل حقل، من الدين إلى العلم والتكنولوجيا والأدب، وغيره.

هذه أمور أحسبها محل اتفاق بين جميع المسلمين. مع ذلك فإن دعاة الإصلاح والتنوير، بل كل صاحب رأي جديد، يواجه عنتاً إذا أعلن رأيه. ولعلنا نذكر رد الفعل الخشن الذي قوبلت به دعوة الشيخ صالح المغامسي، الفقيه السعودي المعروف، حين تحدث في رمضان من العام الماضي، عن فتح باب الاجتهاد ولو أدى لقيام مذاهب جديدة.

قصة المغامسي، وقصص كثيرة مثلها، تكشف عن أن رد الفعل الخشن على دعوات التجديد، لم تنبعث من خوف على الإسلام بصفته ديناً قائماً بذاته، بل هي في الغالب نوع من الدفاع عن الذات، أي عن الهوية الاجتماعية التي تلبس رداء الدين. نعرف هذا لأن الذين يعارضون الدعوات الجديدة، لا يقولون إن الدين يمنع الاجتهاد، بل يقولون: ماذا ترك السابقون للاحقين؟ وكيف نتخلى عمّا ورثناه وألفناه؟

لا يدعي معارضو الرأي الجديد أن الكلام في الدين ممنوع، لأن الأسلاف قد فعلوا. لكنهم ينكرون على القادمين الجدد مخالفة الأسلاف، لأنهم جزء من نظام اجتماعي - ثقافي مستقر.

للمناسبة، فإن هذا الموقف الخشن تجاه الآراء الجديدة، ليس حكراً على مذهب بعينه، بل هو المسلك السائد في جميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، وقد تبعتها في هذا الطريق الأحزاب والجماعات التي تدّعي أنها قامت على أساس ديني.

ويهمني هنا تأكيد أن نقد الهوية والنظام الاجتماعي الذي يتصف بالإسلام لا يساوي نقد الدين. كما أن نقده أو نقد الدين ليس مُضرّاً بأيٍّ منهما، بل هو ضروري لتجديد الفكرة الدينية.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: كريستوفر هاملتون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

النشوة هي متعة تحولنا نحو موضوع الاهتمام ونحو الذات، مما يؤدي إلى الشعور بالحرية.

في أحد أيام الأسبوع الماضي، استيقظت بعد أن نمت جيدًا. كان اليوم بأكمله حرًا، مما أعطاني إحساسًا بأن وقته يمتد أمامي إلى ما لا نهاية. كان الجو باردًا في الخارج، لكن شمس الشتاء الشديدة تدفقت عبر نوافذ غرفة النوم عندما فتحت الستائر. كانت لدي، لأسباب خفية، أو ربما بدون سبب على الإطلاق، فثمة حاجة ملحة إلى  الاستماع إلى بعض الموسيقى وهكذا، بعد أن أعددت لنفسي قليلا من القهوة، قمت بعزف خماسية البيانو لشومان في E-flat Major، Op 44. وبعد ذلك، ولرغبتي في شيء أقل حماسة، استمعت إلى قصيدة ديبوسي "مقدمة بعد منتصف الغابة"، والتي قادتني بعد ذلك إلى قصيدة مالارميه "بعد منتصف الغابة" (1876)، التي ألهمتني. قطعة ديبوسي. تعتمد القصيدة، مثل الكثير من أعمال مالارميه، بشكل كبير على الأصوات واللمسة والطعم في الفم للغة الفرنسية، وتثير إحساسًا عميقًا بالشهوانية - الشهوانية التي تمثل أيضًا الموضوع الرئيسي للقصيدة. قضيت ساعات طويلة في ذلك اليوم أتأمل قصيدة مالارميه، وسمحت للكلمات، قدر استطاعتي، بالتسرب إلى داخلي - وكان هذا هو الإحساس الذي كان ينتابني حقًا، كما لو كانت الكلمات تدخل إلى لحمي.

أود أن أصف الساعات التي قضيتها ذلك الصباح بأنها لحظات من النشوة. كانت تدور حول المشاركة في بعض الأعمال الفنية الرائعة، لكنني بالتأكيد لا أريد أن أدعي أنه في تلك المشاركة فقط يمكننا تجربة لحظات من النشوة. هناك العديد من الطرق التي يمكننا من خلالها القيام بذلك، والعديد منها يتعلق بالاهتمام بالأشياء الصغيرة في الحياة، مثل، على سبيل المثال، ضوء الشتاء الرائع الذي دخل عبر نوافذي في ذلك الصباح المعني، والذي كان بلا شك جزء من شعوري حينها. ولا شك أن هناك طرقًا عديدة لفهم فكرة الاختطاف، كما هو الحال في أي تجربة إنسانية معقدة. ولكن، كما أود أن أفهم، على الأقل كنقطة انطلاق للتأمل، فإن النشوة هي نوع خاص من المتعة أو البهجة التي تحولنا في اتجاهين في نفس الوقت: نحو موضوع الاهتمام، الذي نحن فيه. مستوعبًا بالكامل، وتجاه الذات في حالة وعي متزايدة. ومع هذا يأتي الشعور بالحرية أو التحرر.

والمثال الرئيسي على ذلك هو نوع الهجر الذي يمكن أن نختبره في الحب الجنسي، وهو أعمق متعنا: في ممارسة الجنس، ينغمس المرء بالكامل في الشخص الآخر، ويضيع في متعة وإثارة الوجود معه؛ ومع ذلك، في الوقت نفسه، يكون المرء واعيًا تمامًا لنفسه باعتباره مبتهجًا بهذا، وأنه يختبر كل هذا. في روايته الرائعة جي (1972)، يوضح جون بيرجر هذا الأمر بشكل جميل عندما يكتب عن جي وهو يمارس الحب مع بياتريس:

اختلافها عنه يشبه المرآة. فكل ما يلاحظه أو يسكنه فيها، يزيد وعيه بنفسه، دون أن يصرف انتباهه عنها.

ربما يكون هذا المزيج الاستثنائي من الاهتمام بالآخر هو أيضًا الاهتمام بالنفس الذي يساعدنا على فهم الاستغراق الغريب الذي نشعر به في الجنس. ولهذا السبب، كما كتب بيرجر أيضًا، "القصيدة الوحيدة التي يجب كتابتها عن الجنس هي - هنا، هنا، هنا، هنا - الآن".

إن الشعور بالنشوة الذي شعرت به في ذلك الصباح مع موسيقى وكلمات مالارميه، على الرغم من أنه قد يبدو بعيدًا جدًا عن التجربة الجنسية - وهو كذلك بالطبع في كثير من النواحي - يتميز مع ذلك بنفس الإحساس بالتوجه بالكامل نحو الجنس. لقد كنت ضائعًا في الموسيقى والشعر، واستحوذت على انتباهي بالكامل، بالإضافة إلى شعور متزايد بنفسي وأنا أختبر هذا، وكأنني أستمتع بالأصوات. وكما اقترحت، فإن الأمر الحاسم في تجارب النشوة هذه هو الشعور بالحرية أو التحرر: في مثل هذه اللحظات، نتحرر من متاعب الذات، من قلقها وهمومها،وجرحها وضعفها، وحماقتها - والتي هي مجرد نسختنا الخاصة من حماقة البشر المؤلمة والتي لا حدود لها. نشعر أيضًا بالتحرر مما أسمته فيرجينيا وولف "صوف القطن" للحياة - الأنشطة المبتذلة التي تمتلئ بها معظم الحياة. لحظات النشوة هي ما اعتبرته وولف "لحظات الوجود"، لحظات تضيء وجودنا اليومي المسطح إلى حد كبير وتطلقنا إلى نوع من الامتلاء.

وولف على حق بالطبع. إن معظم حياة هؤلاء المحظوظين منا الذين يعيشون في أجزاء من العالم حيث نتمتع باستقرار سياسي واجتماعي أساسي - وهو أمر نادر ثمين في الشؤون الإنسانية - مليئة بأشياء مثل هذه، على حد تعبير وولف:

يمشي المرء، ويأكل، ويرى الأشياء، ويتعامل مع ما يجب القيام به؛ المكنسة الكهربائية المكسورة؛ طلب العشاء؛ كتابة الأوامر إلى مابل؛ يغسل؛ يطهو العشاء؛ التجليد.

وفي أحسن الأحوال، ننسى ببساطة هذه الإجراءات العملية المملة؛ وفي أسوأ الأحوال، يتركوننا متوترين، ويسحقوننا. إحدى المفارقات المثبطة للهمم في حالتنا البرجوازية المعاصرة، و"مجتمعنا المُدار"، كما قال تيودور أدورنو، هي أن حياتنا خالية من المعنى في كثير من النواحي، وتفتقر إلى أي نوع من المصير أو التلخيص القيمي. هذه هي مشكلة الذات الحديثة المحبطة، التي تم تجريدها إلى حد كبير من كل سمو وتم بناؤها بمصطلحات طبيعية، على الأقل بالنسبة لأولئك منا الذين لم يعد بإمكانهم الإيمان بوعود الأديان القديمة.

ومن ثم، من وجهة نظري، فإن المشاكل التي تواجهها المجتمعات الغربية مع أشكال الإدمان التي لا نهاية لها والتي تحت تصرفنا - من المخدرات والمواد الإباحية إلى الإنترنت والهواتف الذكية وتلفزيون الواقع التي تعكس لنا تفاهةنا - ونحن نمضي قدمًا البحث عن التحرر في لحظات النشوة من تسطيح حياتنا.

وليس من قبيل الصدفة أن تكون صورة المنزل المحترق بمثابة مجاز لحالة طوارئ مناخية. ونحن جميعًا في الداخل: معظمنا في العالم الغربي يهدأ ويسيطر ويستغرق في ألعابه واللهو.. واحدة من هؤلاء هي وولف بالتأكيد، التي امتلكت نوعًا من الرؤية الصوفية المبهجة لوحدة كل الأشياء وراء المظاهر المحلية، والتي تم التعبير عنها في العديد من رواياتها - ربما بشكل خاص "الأمواج" (1931) - والتي يمكن أن نتعلم منها النظر. مرة أخرى إلى العالم بعيون جديدة.

أفكر هنا أيضًا في المشاة، والمشعوذ، والنشال، والساحر، وراكب الدراجة الهوائية الأحادية العجلة، والنجار، وراكب الخيل، والكاتب فيليب بيتي، الذي اشتهر بمسيرته على الأسلاك العالية بين برجي مركز التجارة العالمي في 7 أغسطس 1974.فى مقابلة  من أجل الفيلم الوثائقي (رجل على سلك   2008)، قال بيتي:

بالنسبة لي، من السهل جدًا أن نعيش الحياة على حافة الحياة. عليك أن تمارس التمرد. أن ترفض إلزام نفسك بالقواعد. أن ترفض نجاحك. أن ترفض تكرار نفسك. أن ننظر إلى كل يوم، وكل عام، وكل فكرة على أنها تحدي حقيقي. ومن ثم ستعيش حياتك على حبل مشدود.

يوضح لنا بيتي كيف يمكن ربط النشوة بالخطر، في حالته، بالخطر الشديد: فهو يجعل من هذا الخطر بهجة وبهجة النشوة. لكن النقطة هنا ليست بالطبع أن هذا هو ما ينبغي لنا أن نفعله، على الرغم من أننا نستطيع أن نفعله. يمكن أن تكون النشوة هادئة وتأملية، كما في تجربتي ذلك الصباح، وكذلك في تجارب مثل تجربة بيتي. لا يتعلق الأمر بمحاولة تقليد بيتي. لا يتعلق الأمر بمحاولة تقليد بيتي. يتعلق الأمر أكثر بمحاولة التقاط بعض روح النشوة التي يعيشها بيتي في حياتنا، مما يترك مجالًا للحظات من النشوة، وربما التحول قليلاً من الداخل والعيش أكثر بهذه الروح.

لذلك ربما تكون هناك بعض المساعدة من الخارج بعد كل شيء. هذه هي الطريقة التي أحب أن أفكر بها، على أي حال: فهو يوقظنا لشيء أفضل في أنفسنا، والانفتاح على نشوة الحياة. وفي هذا، فهو متحد مع آخرين – وولف، ولكن أيضًا مع فريدريك نيتشه، وألبرت كامو، ودي إتش لورانس، وجورج أورويل وآخرين. كتب لورانس في نهاية العالم (1931): "يجب أن نرقص بنشوة لأننا يجب أن نكون أحياء في الجسد، وجزءًا من الكون الحي المتجسد". وبروح مماثلة، كتب أورويل، متحدثًا عن شكسبير، في عام 1947:

لم يكن شكسبير فيلسوفًا أو عالمًا، لكنه كان يتمتع بالفضول، وكان يحب سطح الأرض وعملية الحياة - والتي... ليست نفس الشيء مثل الرغبة في قضاء وقت ممتع والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.

كان أورويل رجلاً مختلفًا تمامًا عن لورنس، لكنهما كانا يشتركان في حب "سطح الأرض وعملية الحياة". إنهما يقدمان لنا، من خلال طرق مختلفة، إحساسًا بالنشوة التي يمكن أن نجدها ببساطة في كوننا على قيد الحياة، فقط إذا تمكنا من فتح أنفسنا لها.

هناك في هؤلاء الأفراد، وكثيرون غيرهم بلا شك، انفتاح على قوة وطاقة الحياة التي تعتبر مثالية ومبهجة. هذا ليس لأنهم كانوا دائمًا في حالة نشوة؛ ومن الواضح أنه سيكون من السخافة افتراض ذلك، كما نرى من حياتهم. على أية حال، فإن البقاء في مثل هذه الحالة بشكل دائم، حتى لو افترضنا أن ذلك ممكنًا، سيكون بالتأكيد أمرًا مرهقًا ومُضعفًا تمامًا: هنا، كما في أي مكان آخر، نحتاج إلى التنوع في الحياة.. بل بالأحرى يعيشون حياتهم بروح النشوة. حياتهم ملونة تمامًا بمثل هذه الفكرة. ومهما كان الأمر، سيكون من الخطأ أن ننظر إلى هؤلاء المفكرين ثم نتابع لحظات البهجة. مثلما أن السعي وراء السعادة من المرجح أن يجعلها تهرب من بين أيدينا، كذلك الأمر نفسه ينطبق على النشوة. النقطة المهمة هي الانفتاح على الإمكانيات ذات الصلة.لا شك أن هذا إلى حد كبير مسألة تنمية نوع معين من الحساسية.

أما نيتشه، الذي تحدث عن نفسه مثل الديناميت والذي يرتبط اسمه عمومًا بروح "التفلسف بالمطرقة"، فقد أولى في الواقع اهتمامًا كبيرًا بما أسماه "الأشياء الصغيرة": لحظات الحياة اليومية. يمكنها أن تجعل الحياة بالنسبة لنا مصدر فرح – أو واديًا من الدموع. ويوصي بأن نبدأ كل يوم بسؤال أنفسنا عما يمكننا القيام به لجعل اليوم مقبولًا، ويقترح أن هذا يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعاملنا مع الأشياء الصغيرة في الحياة وتنظيمها - ماذا ومتى نأكل ونشرب، ومتى نرتاح، ماذا تقرأ ومتى تمشي وما إلى ذلك.إنه ينصحنا بأن نبطئ، ونلاحظ الأشياء، وننتبه. وهو بالتأكيد على حق في أن معظمنا يندفع في الحياة ويفتقد النشوة اللطيفة التي يمكن أن تأتي من هذا الاهتمام بالعالم ولأنفسنا. البشر بشكل عام سيئون للغاية في رؤية ما هو جيد لهم بوضوح والتصرف وفقًا لذلك. ربما لست أفضل من أي شخص آخر في القيام بذلك، لكني أسمع صوت نيتشه وصوت الآخرين الذين ذكرتهم وغيرهم الكثير - ميشيل دي مونتين، على سبيل المثال - يشدني بلطف إلى أفكاري ومشاعري الأفضل. إنهم يذكروننا بمصادر البهجة في الحياة، وإمكاناتها المبهجة.

***

...............................

المؤلف: كريستوفر هاملتون/ Christopher Hamilton: أستاذ الفلسفة في كلية كينجز كوليدج في لندن، المملكة المتحدة. درس أيضًا الفلسفة والأدب في جامعة بون بألمانيا. أكمل لاحقًا PGCE وعمل لمدة أربع سنوات كمدرس في المدرسة الثانوية. انضم إلى كينغز في عام 2003. وفي عام 2007، كان باحثًا مقيمًا في جامعة سالزبورج، النمسا، وفي عام 2013 كان أستاذًا زائرًا في جامعة ترينت، إيطاليا.أحدث مؤلفات كريستوفر هاملتون:  "الفلسفة والسيرة الذاتية: تأملات في الحقيقة ومعرفة الذات ومعرفة الآخرين" (بالجريف ماكميلان، 2021).

 

في الأيام الماضية قامت الدنيا ولم تعقد ضد الدكتور علي جمعة " – مفتي الديار المصرية السابق، في برنامج له على قناة cbc  المصرية، بعنوان " نور الدين"، وهو يقدمه إجابة على سؤال لطفلة تسأل :" ليه المسلمين بس إلا يدخلوا الجنة ؟، فأجاب الرجل قائلا:" دي معلومة مغلوطة"،  ثم استدل من الآية (62) من سورة البقرة والتي تقول :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، وعقب ذكره للآية وجدنا الدكتور جمعة،لم يفصل ولم يسهب ولم يتكلم بعد ذلك؛ ثم فاجئنا بعد أيام يطرح سؤال أخذ يلقى نقاشا وجدلا على مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، وهو " هل لله عز وجل أن يأتي يوم القيامة ويلغي النار"، فأجاب الدكتور جمعة : "نعم، ويكون هناك جنة فقط!".

وهنا أخذ يتساءل ناقضيه وناقديه على مواقع التواصل الاجتماعي هم يصرخون : هل هذا الكلام يصح أم أنه كان واجبا على الدكتور علي جمعة أن يضبطه بتوضيحات وأمور ؟، وهل لجأ فضيلة المفتي إلى نصوص محكمة ومتشابهة؟، وهل له فتوى سابقة  علي ما ذكره و على ما قاله؟

لم يكتف هؤلاء بذلك، بل رأوا أن هذا الموضوع الذي طرحه  الدكتور جمعة لا يدركه العامة، ومن ثم فالمشكلة تتمثل في طرح الدكتور جمعة للموضوع من أساسه، خاصة وأن علماء الكلام في نظرهم ناقشوا قضية : هل يجب على الله إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ؟، فقالوا : لا، لأن الله أوجب على نفسه ذلك، فحرم وجعله على نفسه محرما وعلى البشرية، فالله عز وجل ليس ظالما ولا يرضي بالظلم ولا يرضى لعباده الكفر، ومن ثم، فإن قضية أن يطرح الدكتور جمعة على نفسه سؤالا كهذا على أطفال وشباب لم يستوعبوا المعنى الفلسفي المطلوب أو الذي يجب أن تتم مناقشته في المسألة، اللهم إلا من كونه من باب عنوان سُيٌأخذ ويًضاف لما سبق من قبل !

وهنا أتعجب من هؤلاء، وأتساءل : ألم تُطرح من ذي قبل عند علماء الكلام قضية فناء النار؟،  ألم يقل ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح)عندما ذكر الأقوال في فناء النار وعدمه، وأشار إلى أن ابن تيمية قد حكى بعض هذه الأقوال، والتي منها القول بفناء النار، ففي كتابيه (حادي الأرواح) (وشفاء العليل) مال ابن القيم إلى القول بفناء النار، وإن كان قد توقف عنها في كتابه (الصواعق المرسلة) .

وهنا صار هذا الموضوع محل نقاش من قبل فقهاء كثيرين حيث يتساءلون : هل سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد؟، وهل يعني أن النار ستفنى؟، وهل القول بفناء النار نوع من الفكر؟، وهل فعلا النار ستفنى؟

وهناك فريقان أجاب على الأسئلة، كلا بوجهة نظر مختلفة عن الأخرى، وذلك على النحو التالي:

الفريق الأول : ويؤكد فكرة خلود النار والجنة، ودللوا على ذلك بأن هناك هناك نصوص شرعية دلت صراحة على خلود النار أو خلود أهلها فيها، والتي تبلغ (37) آية من القرآن الكريم، وهذا بخلاف الآيات التي في معنى الخلود أو تفيده؛ كقوله تعالى: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ [البقرة: 86] وغيرها من الآيات الكريمة كثير في هذا المعنى جدًا، كما أن الآيات الدالة على خلود أهل الجنة بلغت نحو أربعين آية.

وهذا الفرق قد شدد على هذه الكثرة من الآيات المثبتة لبقاء النار وخلود أهلها فيها؛ لأن هذا الحد البالغ من الكثرة ما يمنع من احتمال التأويل، ويوجب القطع بذلك، كما أن الآيات الدالة على البعث الجسماني لكثرتها يمتنع تأويلها كما يرى أنصار هذا الفريق؛ كذلك شدد هذا الفريق على ما ورد في السنة ما يدل على خلود الكفار في النار وذلك من خلال ما ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما.

وأما الفريق الثاني وهو عكس ذلك تماما، فهو يرى أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار، وعدِّه من البدع، كما زعم، فالمسألة خلافية،  علاوة على أن الذين قالوا بفنائها، استدلوا بأدلة سمعية وعقلية، نذكر منها مثلا:

1- أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون.

2- أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد.

3- أن النار تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه.

4- أن الفناء يكون لحركات أهل النار، لا للنار، فيصير أهل النار جماداً، لا يحسون بألم وهذا قول المعتزلة.

5- أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وهؤلاء يقولون بفناء النار فقط.

6-  أن الله - تعالى - يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاءً أبدياً لا انقضاء له.

7- أن القائلين بفناء النار استدلوا بما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم : ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها"

هذا هو رأي الفريق الثاني، وفي اعتقادي أن القائلين بفناء النار، قد استدلوا بمنطق العقل على وجهة نظرهم، وهذا المنطق يؤكد على فرضية أن النار سجن لمعاقبة المذنبين على ذنوبهم، فمنهم من يمكث فيها يوما، ومنهم من يمكث فيها شهرا،ومنهم من يمكث فيها سنوات، ثم يدخل الجنة حتى لا يبقى فيها إلا المخلدون، والخلود يتوقف على إرادة الله وقدرته، فإذا ما صدر مرسوم بالعفو من الله بإعلاق النار ودخول جميع أصحاب والنحل  للجنة، فمن يستطيع أن يوقف هذا القرار، أليس في الدنيا تصدر أحكام بالسجن المؤبد مدى الحياة، ثم يأتي رئيس الجمهورية ويصدر قرار بالعفو، فلماذا نلزم على الله ألا يفعل ذلك، ألم يقال عن الله عز وجل بأن رحمته سبقت غضبه، فلماذا يستكثرون على الله ذلك... وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

على مدى آلاف السنين الماضية، كان تاريخ العالم مدفوعاً بقوى أربع حضارات مهيمنة: الصينية، والهندية، والعربية، والأوروبية. وبينما طورت هذه الحضارات الأربع هوياتها الخاصة وشرائع الأعمال المقدسة، كان هناك على مر التاريخ قدر كبير من التلقيح المتبادل بين الحضارات الأربع. ونذكر مثالاً واحداً فقط من أمثلة متعددة: كان العالم العربي المسلم، ابن رشد (1126-1198)، المولود في قرطبة، وهو عالم في الفلسفة الأرسطية، ويُعرف على نطاق واسع بأنه الأب المؤسس للفكر العلماني في أوروبا.

تطورت الحضارات الأربع وتوسعت من خلال مزيج من التجارة والاستكشاف والحرب والغزو والأيديولوجية (الدين). وكانت الحضارة العربية هي الأخيرة من الناحية التاريخية. نشأت من زمن النبي محمد” ﷺ " (570-632) وتجميع القرآن الكريم، مدفوعاً بمفهوم الأمة – مجتمع جميع المسلمين الذين يوحدهم الدين وليس العشيرة أو العرق. وفي القرون التالية توسعت الأمة عبر معظم جنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط، وشمال وشرق أفريقيا، وعبر آسيا الوسطى وصولاً إلى الهند، عبر المحيط الهندي، عبر بحر الصين الجنوبي، لتصل إلى ما يسمى اليوم إندونيسيا.

بدأ صعود أوروبا مع "عصر الاكتشافات" في أواخر القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث أتاحت التقنيات البحرية الجديدة ورسم الخرائط وانتشار المطبعة للإمبراطوريات الأوروبية المنقولة بحراً غزو "العالم الجديد". مع الثورات الزراعية والعلمية والتجارية والصناعية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حدثت، منذ أوائل القرن التاسع عشر، أصبح شمال غرب أوروبا يهيمن على العالم. وفي حين كانت حصة أوروبا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1700 تبلغ 20%، فإنها بحلول عام 1900 تضاعفت إلى أكثر من 40%.

لقد تحطم التوازن الاقتصادي والسياسي والعلمي والعسكري والثقافي والنفسي الذي كان قائماً بين الحضارات الأربع لعدة قرون في ضوء صعود أوروبا الذي لا يرحم على ما يبدو، وفي ضوء تحول الأوروبيين، على حد تعبير عنوان العمل الذي كتبه الراحل المؤرخ فيكتور كيرنان، "أسياد الجنس البشري" (1969). يشير الصينيون إلى الفترة التي تلت حرب الأفيون الأولى (1839) إلى التحرير (1949) باسم "قرن الإذلال". لقد تعرض جميع غير الأوروبيين للإذلال.

العصر العالمي الجديد

لقد حدثت عدة اتجاهات تحويلية رئيسية في العقود الأخيرة. أحدها كان انحدار أوروبا. الإمبراطوريات الأوروبية لم تعد موجودة. ومن 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1870، أصبح بحلول عام 2010 أقل من 20%، وهو نفس المستوى تقريباً الذي كان عليه في عام 1700. وسوف تستمر أوروبا في الانحدار ديموغرافياً واقتصادياً وجيوسياسياً. إن "القرن الأوروبي (التاسع عشر)" هو تاريخ، في حين يعلن النقاد ظهور "القرن الآسيوي (الحادي والعشرين)".

هذا التصوير مضلل. وفي حين أصبح شرق آسيا، والصين على وجه الخصوص، القاطرة الرئيسية للنمو العالمي وتقوم مؤسساتها بتوسيع نطاقها العالمي بشكل متزايد، شهدت منطقة جنوب آسيا، والهند على وجه الخصوص، بعض التحولات الواعدة، في جزء كبير من وسط وغرب آسيا، بما في ذلك معظم آسيا. يعيش العالم العربي حالة من الركود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والجيوسياسي المضطرب.

واليوم انتهى الإذلال في شرق وجنوب آسيا. وبوسع المرء أن يفتخر بكونه صينياً أو هندياً، ليس فقط بسبب أمجاد الماضي، بل بسبب إنجازات اليوم والتوقعات بتحقيق المزيد من التقدم في الغد. في المقابل، يمكن للعربي أن ينعم بأمجاد الماضي، لكنه لا يستطيع أن يستمد أي شعور بالفخر من ظروف الحاضر؛ وتبدو آفاق المستقبل، كما تبدو الأمور في عام 2024 قاتمة.

تفاقم الإحباط بشدة بسبب الحروب التي شُنت ضد العالم العربي، وخاصة بعد غزو العراق عام 2003. لكن جذور فشل العالم العربي في الارتقاء إلى مستوى التحديات والفرص التي يتيحها العصر العالمي الجديد بطريقة ديناميكية كما هي الحال في شرق وأجزاء من جنوب آسيا تسبق هذه الأحداث. ويمكن العثور عليها في جزء كبير منها إلى الحالة الاجتماعية والسياسية المتعفنة في الشرق الأوسط الموبوءة بالاستبداد والفوضى والعلاقة المضطربة، وغير العقلانية في بعض الأحيان، مع الغرب. لا توجد أمة عربية يستطيع العربي أن يعتبرها قدوة له بكل فخر. حتى دول الخليج، على الرغم من ثرواتها، لا يمكن اعتبارها قدوة لأسباب عديدة.

اليوم، يمكن رؤية عولمة الشركات والأفراد في شرق وجنوب آسيا في مجالات متعددة: الأعمال التجارية، والخدمات المصرفية، والأكاديمية، والفنون، والإعلام، وما إلى ذلك. ولم تعد هذه الأجزاء من العالم تعاني من "هجرة الأدمغة" الحادة. هناك قدر كبير من الحركة عبر القارات. إن الفيتناميين الذين عانوا من الإرهاب والإذلال على أيدي الغرب (الفرنسي والأمريكي) أصبحوا الآن مندمجين بشكل جيد في الرأسمالية العالمية. وقد عاد العديد من ركاب القوارب السابقين إلى فيتنام كرجال أعمال (على الرغم من حرصهم على الاحتفاظ بجوازات سفرهم الغربية). ويعيش ما يقدر بنحو 2.75 مليون فيتنامي في أجزاء مختلفة من الغرب. لقد أدى التأثير الواضح للاندماج في العولمة إلى ظهور ما أطلق عليه "نظرية الدومينو العكسية" في جنوب شرق آسيا. وتظهر ميانمار (بعد فيتنام ولاوس وكمبوديا) كمشارك جديد. وتظل كوريا الشمالية هي الحالة المتطرفة.

وفقاً للمقولة الشهيرة لتشارلز داروين القائلة بأن البقاء ليس للأقوى ولا بالضرورة الأكثر ذكاءً، بل الأكثر استجابة للتغيير، تنشأ الدراما العربية بطرق عديدة من عدم رغبتها في التكيف مع التغيير، وعدم رغبتها في التعامل مع التغيير. العصر العالمي الجديد، في تناقض صارخ مع المجتمعات في شرق آسيا. وكما قال الاقتصادي اليساري الراحل جوان روبنسون مازحا: إن الأسوأ بكثير من أن يتم استغلالك من قبل الرأسمالية العالمية هو أن تتجاهلك الرأسمالية العالمية. وبعيداً عن النفط، فإن العالم العربي لا يكاد يظهر على خريطة الأعمال العالمية؛ عدد قليل جداً من الشركات العربية تشارك في سلاسل القيمة العالمية.

يبدو أن إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، تمر بتحول اقتصادي واجتماعي وسياسي إيجابي. من المؤكد أن العالم العربي سيتعلم الكثير من التحول نحو العولمة في جنوب شرق آسيا. ولكن في نهاية المطاف، لا بد أن يأتي الإصلاح من العرب أنفسهم تحت قيادة عربية. فقد تتوفر منارة صغيرة من الضوء. إصلاحات جذرية على جميع المستويات - المجتمع والتعليم والثقافة والسياسة والحكم والاقتصاد والعلوم - داخليا واحتضان الفرص التي توفرها العولمة.

العصور الوسطى

كان العالم الإسلامي قبل ألف عام مليئاً بالأفكار التي تشمل العلوم والثقافة والاقتصاد. كان "بيت الحكمة" القلب النابض، حيث ترجم العلماء النصوص الأجنبية الكلاسيكية إلى اللغة العربية، وقيل إنه تم ببناء أكبر مجموعة من المعرفة في العالم. لقد ازدهرت علوم الجبر والفلك والطب والكيمياء في عصر يُوصف أحياناً بالرومانسية في الغرب باعتباره "العصر الذهبي".

بدأ العصر الإسلامي عام 622. وفي نهاية المطاف، غزت الجيوش الإسلامية شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد ما بين النهرين، ونجحت في تهجير الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية من المنطقة في غضون بضعة عقود. وفي غضون قرن من الزمان، وصل الإسلام إلى منطقة البرتغال الحالية في الغرب وآسيا الوسطى في الشرق. امتد العصر الذهبي الإسلامي (ما بين 786 و1258 تقريباً) خلال فترة الخلافة العباسية (750-1258)، مع هياكل سياسية مستقرة وتجارة مزدهرة. تُرجمت الأعمال الدينية والثقافية الرئيسية للإمبراطورية الإسلامية إلى العربية وأحيانًا الفارسية. ورثت الثقافة الإسلامية التأثيرات اليونانية، والهندية، والآشورية، والفارسية. وتشكلت حضارة مشتركة جديدة على أساس الإسلام. وتلا ذلك عصر من الثقافة العالية والابتكار، مع نمو سريع في عدد السكان والمدن. جلبت الثورة الزراعية العربية في الريف المزيد من المحاصيل وتحسين التكنولوجيا الزراعية، وخاصة الري. وقد دعم هذا العدد الأكبر من السكان ومكن الثقافة من الازدهار. منذ القرن التاسع فصاعداً، قام علماء مثل الكندي بترجمة المعرفة الهندية والآشورية والساسانية (الفارسية) واليونانية، بما في ذلك أعمال أرسطو، إلى اللغة العربية. وقد دعمت هذه الترجمات التقدم الذي أحرزه العلماء في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في وقت سادت فيه العقيدة المسيحية في أوروبا بالعصور الوسطى، التي تقول بأن العالم قد تطور وفقاً لخطة إلهية محددة سلفاً.

العهد العباسي

في العهد العباسي (750 إلى 1258)، تم تشجيع التعلم في الإسلام في كل مجال من مجالات المعرفة، وسافر العلماء من كل لون ومذهب إلى دمشق وبغداد للدراسة والعمل. وفي هذه الأوقات المتسامحة، شجع قادة الإسلام التعلم واستخدام العقل لفهم الطبيعة. اعتنق الخلفاء العباسيون الأوائل - وأبرزهم المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، الذين حكموا من 754 إلى 833 - العلم كسياسة محددة للدولة، إيذانا ببدء عصر ذهبي للحضارة العربية الإسلامية. تلا ذلك حركة متحمسة لترجمة ودراسة الكتب القديمة وتطوير المعرفة الجديدة على نطاق غير مسبوق. حقق العلماء العرب والمسلمون إنجازات في كل مجال من مجالات العلوم: الرياضيات، وعلم الفلك، والطب، والبصريات، والفلسفة. لقد أرست أعمال الرازي والخوارزمي المبدعة في القرنين التاسع والعاشر الأساس للطب السريري الحديث والرياضيات، وسرعان ما انتقل هذا التعطش للمعرفة إلى أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية، وسرعان ما تنافست الأندلس مع بغداد باعتبارها المركز الثقافي للعرب والمسلمين.

عصر النهضة

تم وضع أسس الفكر العلمي الإسلامي قبل وقت طويل من ترجمة المصادر اليونانية رسمياً إلى اللغة العربية في القرن التاسع. وبالاعتماد على رواية المؤرخ الفكري ابن الناديم في القرن العاشر والتي تجاهلها معظم العلماء المعاصرين، يذكر المفكر "جورج صليبا" في كتابه " العلوم الإسلامية وصناعة النهضة الأوروبية" أن الترجمات المبكرة من المصادر الفارسية واليونانية بشكل رئيسي والتي تحدد الأفكار العلمية الأولية لاستخدام الإدارات الحكومية كانت الدافع للتطوير. للتقاليد العلمية الإسلامية. ويجادل كذلك بوجود علاقة عضوية بين الفكر العلمي الإسلامي الذي تطور في القرون اللاحقة والعلوم التي ظهرت إلى الوجود في أوروبا خلال عصر النهضة.

إن أهم مفكرين إسلاميين ألهما رواد عصر النهضة هما ابن سينا (980 إلى 1037) وخاصة (كتاب الشفاء) وهو موسوعة علمية وفلسفية. يناقش ابن سينا فيه العقل ووجوده، والعلاقة بين العقل والجسد، والإحساس، والإدراك، وما إلى ذلك.

والثاني هو الفيلسوف ابن رشد (1126 إلى 1198)، الذي أعادت كتاباته وتعليقاته إلى أوروبا في العصور الوسطى النهج الأرسطي في دراسة الطبيعة عن طريق الملاحظة والاستدلال. ساعد ابن رشد على فتح طرق جديدة للتفكير من خلال محاولة التغلب على التناقضات بين الفلسفة الأرسطية والدين الموحى به، من خلال التمييز بين نظامين منفصلين للحقيقة - مجموعة علمية من الحقائق مبنية على العقل وهيئة دينية الحقائق المبنية على الوحي.

ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، تقدم النموذج العلمي لإنتاج المعرفة بلا هوادة في جميع أنحاء أوروبا. وفي الوقت نفسه، بدأت الحضارة العربية الإسلامية وإسهاماتها في العلم والمعرفة في تراجعها الطويل مع ابن خلدون (1332 إلى 1395) الذي أسس في “مقدمته” المبادئ الأساسية لعلم الاجتماع الحديث، وكان آخر أبرز العرب.

تراجع العلوم في العالم العربي

مع تقدم العصور الوسطى، بدأت الحضارة العربية في النفاد. بعد القرن الثاني عشر، كان لدى أوروبا علماء علميون أكثر أهمية من العالم العربي، كما أشار مؤرخ جامعة هارفارد جورج سارتون في كتابه مقدمة لتاريخ العلوم (1927-1948). بعد القرن الرابع عشر، شهد العالم العربي عدداً قليلاً جداً من الابتكارات في المجالات التي كان يهيمن عليها سابقاً، مثل البصريات والطب؛ ومن الآن فصاعدا، لم تكن ابتكاراتها في معظمها في عالم الميتافيزيقا أو العلوم، ولكنها كانت اختراعات عملية أضيق مثل اللقاحات. يقول برنارد لويس في كتابه الإسلام والغرب (1993): "لقد مر عصر النهضة والإصلاح، وحتى الثورة العلمية وعصر التنوير، دون أن يلاحظها أحد في العالم الإسلامي".

فالحضارة التي أنتجت المدن والمكتبات والمراصد وانفتحت على العالم، تراجعت الآن وأصبحت منغلقة ومستاءة، وعنيفة، ومعادية للخطاب، والابتكار.

وفي الوقت الراهن، لا يتناسب الإنتاج العلمي للعرب مع قدراتهم البشرية والاقتصادية. بالمقاييس المقارنة يشكل العرب 5% من سكان العالم، لكنهم ينشرون 1.1% فقط من كتبه، ومساهماتهم في براءات الاختراع لا تكاد تذكر. وبأخذ البحوث الطبية الحيوية كمثال، تنتج الدول العربية حاليا أقل من 1% من الاستشهادات في العالم وتساهم بأقل من 0.5% من الأوراق البحثية التي تظهر في 200 مجلة طبية رائدة. يقدر الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في الدول العربية بنحو 0.15 % من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 1.4%. يعد نقص التمويل، وضعف الدعم المؤسسي، والتكامل الهزيل داخل المجتمع العلمي. وفيما يبدو وكأنه نكتة سيئة عن العلوم في العالم العربي فإننا نتفوق في ثلاثة مجالات علمية فقط: تحلية المياه، والصيد بالصقور، وتكاثر الإبل.

 من بين الأسباب العديدة التي ذكرها المحللون لتفسير الوضع الحالي العلوم في الدول العربية. كما أن هناك عوامل أكثر عمومية، مثل الحروب والصراعات والعقوبات السياسية والاقتصادية الدولية.

ولا شك أن هذه عوامل مهمة، ولكنها لا تشمل الجذور الأكثر جوهرية للوضع الحالي للعلوم في العالم العربي. على سبيل المثال، فإن البلدان التي تتمتع بفترات طويلة نسبيا من الاستقرار والرخاء مثل دول الخليج لا تكون أفضل حالاً من حيث البحوث الطبية الحيوية، وخاصة عندما يؤخذ في الاعتبار العدد الكبير من العلماء الأجانب العاملين هناك. من ناحية أخرى، فإن دول مثل المغرب وفلسطين ومصر والأردن والعراق وهي دول ليست ثرية، تكون أفضل حالاً من الدول العربية الأخرى عندما يتم موازنة إنتاجها العلمي مقابل ناتجها المحلي الإجمالي. حيث يستحوذ المغرب على سبيل المثال على أكثر من نصف الأبحاث والدراسات التي تصدر سنوياً عن الدول المغاربية، خاصة في العلوم الإنسانية. وهذا يشير إلى أن عوامل متعددة تلعب أدواراً حاسمة في تقييم العلوم في المجتمعات العربية.

السيطرة الناعمة

فقد أدى انتشار وتوسع تكنولوجيات المعلومات إلى غزو لا يرحم للثقافة الغربية في كل مجالات الحياة تقريباً. ومع القنوات الفضائية، والإنترنت، والاتصالات الإلكترونية، تسللت أنماط الحياة والأزياء والسلوك والقيم الغربية إلى البيوت العربية دون أي وسيلة حقيقية للسيطرة على هذا التدفق.

يمكن للثقافة "المتلقية" أن تنظر إلى التأثير الثقافي باعتباره تهديدًا لهويتها الثقافية أو إثراء لها. لذلك يبدو من المفيد التمييز بين الإمبريالية الثقافية باعتبارها موقفاً (إيجابياً أو سلبياً) للتفوق، وموقف ثقافة أو مجموعة تسعى إلى استكمال إنتاجها الثقافي، الذي يعتبر ناقصاً جزئيًا، بمنتجات مستوردة.

يمكن أن تمثل المنتجات أو الخدمات المستوردة نفسها أو ترتبط بقيم معينة (مثل النزعة الاستهلاكية). ووفقاً لإحدى الحجج، فإن الثقافة "المتلقية" لا تدرك بالضرورة هذا الارتباط، ولكنها بدلاً من ذلك تمتص الثقافة الأجنبية بشكل سلبي من خلال استخدام السلع والخدمات الأجنبية. نظراً لطبيعتها المخفية إلى حد ما، ولكنها قوية جداً، وصف بعض الخبراء هذه الفكرة الافتراضية بأنها "الإمبريالية المبتذلة". على سبيل المثال، يقال إنه في حين أن "الشركات الأمريكية متهمة بالرغبة في السيطرة على 95% من المستهلكين في العالم"، فإن "الإمبريالية الثقافية تنطوي على أكثر بكثير من مجرد سلع استهلاكية بسيطة؛ فهي تنطوي على نشر المبادئ الأمريكية مثل الحرية والديمقراطية". وهي عملية "قد تبدو جذابة" ولكنها تخفي حقيقة مخيفة: العديد من الثقافات حول العالم تختفي بسبب التأثير الساحق للشركات والثقافة الأمريكية.

يعتقد البعض أن الاقتصاد المعولم حديثاً في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين قد سهّل هذه العملية من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات الجديدة. وهذا النوع من الإمبريالية الثقافية مستمد مما يسمى "القوة الناعمة". توسع نظرية الاستعمار الإلكتروني القضية لتشمل القضايا الثقافية العالمية وتأثير تكتلات الوسائط المتعددة الكبرى، بدءًا من باراماونت Paramount، ووارنر ميديا  WarnerMedia، وإيه تي آند تي AT&T ، وديزني Disney، ونيوز كورب News Corp ، إلى جوجل Google ، ومايكروسوفت Microsoft ، مع التركيز على القوة المهيمنة لهذه الشركات المتحدة بشكل أساسي كونها عمالقة الاتصالات في العالم.

صناعة العلوم العربية

يحتاج العالم العربي الذي يموج بالاضطرابات السياسية، بصورة ماسة إلى ثورة جديدة لإصلاح ثقافتي التعليم والبحث. ركزت صحوة الشعوب العربية في السنوات القليلة الماضية، على البعد السياسي للتغيير المجتمعي بهدف القيام بعملية التحول الديمقراطي، فإن هذه العملية لا تنتهي عند هذا الحد بالرغم من كونها جلبت تغييرات سياسية، إلا أن هناك حاجة إلى ثورة جديدة لتحويل ثقافة التعلم. إن فشل التعليم العربي هو سبب أساسي مهم وراء استياء الشباب في المنطقة وله عواقب ثقافية واقتصادية وسياسية خطيرة.

إن مكانة العالم العربي في العلوم والتعليم غير مقبولة. إن مساهمتها في البحث العلمي الدولي ضئيلة، ولا تصنف الجامعات العربية بانتظام بين أفضل 500 مؤسسة في العالم. ومن اللافت للنظر أن ما بين 25% إلى 40% من السكان العرب الذين يبلغ عددهم حوالي 400 مليون نسمة ما زالوا أميين، في حين أصبحت مهارات البالغين في العصر الرقمي محددة الآن من حيث القراءة والكتابة، والحساب، وحل المشكلات.

في العديد الدول العربية، يحصل مئات الآلاف من الطلاب على تعليم جامعي لا يتوافق مع العالم الحديث. وفي السوق العالمية، لا توجد منتجات تكنولوجية "صنع في الجزيرة العربية".

من التبسيط للغاية أن نعزو سبباً واحداً، مثل التمييز الزائف بين الإيمان والعقل. من وجهة نظر وراثية، فإن العرب لا يختلفون عن أي عرق آخر؛ ولا يوجد احتكار جغرافي للاستخبارات. ومن الواضح أن العرب والمسلمين في إسبانيا وشمال أفريقيا والجزيرة العربية كانوا في قمة الحضارة عندما كانت أوروبا المسيحية في العصور المظلمة.

إن أسباب هذا النقص في المسعى والإنجاز لا تعد ولا تحصى. بما في ذلك الاستعمار والفساد والقصور الدستوري الذي يقيد حرية الإنسان وحرية الفكر. ولعقود من الزمن، أدى استخدام الدين في السياسة، واستخدام السياسة في الدين، إلى حجب الأهداف الوطنية وتحويل الانتباه عن القضايا الحقيقية التي تواجه الدول العربية.

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة ليس ما الخطأ الذي حدث، بل ما الذي يمكن فعله الآن؟ يجب أن تحدث تغييرات ثورية، وليس تغييرات تدريجية، في التعليم والفكر العلمي، مع ثلاثة مكونات أساسية للتقدم.

الأول: هو بناء الموارد البشرية من خلال استعادة محو الأمية، وضمان المشاركة النشطة للمرأة في المجتمع، وإصلاح التعليم.

ثانياً: هناك حاجة إلى إصلاح الدستور الوطني للسماح بحرية الفكر؛ وتبسيط وترشيد البيروقراطية؛ لتطوير أنظمة قائمة على الجدارة وإنشاء مدونة قانونية موثوقة وقابلة للتنفيذ.

ثالثاً: يجب أن يضمن الدستور وبشكل ملموس أكثر، أن تكون ميزانية البحث والتطوير أعلى من 1% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

وفي هذه الرؤية، يحتل رأس المال البشري أهمية قصوى. يحتاج العالم العربي إلى تنشئة جيل جديد من المهنيين القادرين على التفكير النقدي والإبداعي، جيل يتمتع بالمعرفة المعاصرة بالعلوم والتكنولوجيا، والتخصصات الناشئة الجديدة في العلوم الفيزيائية والطبية والاجتماعية. ومن شأن هذا المجمع من المعرفة أن يساعد في تحديد وتقديم الحلول للمشاكل الأساسية التي تواجه المجتمع. يمكن أن يحقق البحث في الطاقات البديلة أو الموارد المائية أو تصميم الأدوية العديد من الفوائد الاجتماعية والمكافآت من النمو الاقتصادي للبلاد والمشاركة في السوق العالمية.

يجب البدء بالتغييرات من جذور نظام التعليم الذي يعتمد على التعلم عن ظهر قلب مع التركيز على الكمية بدلاً من جودة المعلومات المقدمة للطلاب. وينبغي الاستعاضة عن ذلك بنظام قائم على الجدارة مصمم لتشجيع التفكير الحر والإبداعي، مع اكتساب الخبرات العملية.

كما يحتاج مشهد التمويل والاعتراف في مجال البحوث إلى الإصلاح. لقد ثبت أن التقليد المتبع اليوم والذي يقضي باستخدام عدد المنشورات لتحديد المرشحين للترقية الأكاديمية ليس له قيمة تذكر، ويجب استبداله بإطار لتحديد المساهمات الأصلية والمبتكرة. وأخيراً لا بد من إقامة صلة قوية بين القطاعين الأكاديمي والصناعي لتعظيم الفوائد المتبادلة المحتملة من البحوث الأساسية والمصالح الصناعية، على الصعيدين العالمي والمحلي.

إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة من دون الاعتراف الحكومي الحقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية. لذلك تتحمل الحكومات العربية المسؤولية الأساسية في إنشاء ورعاية مراكز الأبحاث ومعاهد العلوم والتقنيات الحديثة. إن العلوم والتكنولوجيا يتمثل دورها الأساسي في جذب الطلاب الموهوبين وتقديم مناهج أكاديمية فريدة من نوعها في مجالات العلوم والهندسة المتطورة. والمعاهد البحثية المزودة بعلماء من الطراز العالمي الذين يعطون الأولوية للبحث في المشاكل الوطنية الأساسية. وتمثل المعاهد المجهزة بأحدث المعدات مجموعة واسعة من المجالات متعددة التخصصات، بما في ذلك تكنولوجيا النانو، والهندسة البيئية، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الفضاء والاتصالات، وعلوم المواد، والعلوم الطبية الحيوية، وفيزياء الأرض والكون. وضرورة توفر جهات مسؤولة عن تحويل مخرجات البحوث إلى التطبيقات الصناعية. وهي مصممة لإنشاء حاضنات وشركات فرعية، مع حماية الملكية الفكرية، ولجذب الشركات الدولية الكبرى لتشجيع مناخ صحي للتبادل بين البحوث والصناعة.

إن النهضة في العالم العربي لن تكون ممكنة دون اعتراف حكومي حقيقي بالدور الحاسم الذي يلعبه العلم في التنمية والسياسات التي توفر التمويل المتناسب للبحوث الأساسية وإصلاح البيروقراطية الصارمة التي تحبط التقدم. ومن خلال القيام بذلك، سوف تستعيد الدول العربية الثقة للمنافسة في العلوم الدولية والاقتصاد المعولم اليوم.

***

حسن العاصي

باحث وأكاديمي فلسطيني مقيم في الدنمرك

ما كادت تمضي ساعات معدودات على انطلاق عملية طوفان الأقصى حَتَّى هرع أرباب الكيان الصَّهيونيّ الغاصب وحُماته الغربيَّون إليه مذعورين حاملين معهم كل جرعات الدَّعم اللازمة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والمعنويَّة، معزَّزةً بآلاتهم العسكريَّة الجبارة من أساطيل وحاملات طائرات، مهدِّدين متوعِّدين بالويل والثُّبور وعظائم الأمور كُلَّ من تُخَوِّله نَفْسُهُ المسَّ بالصَّنم المقدَّس والإله المُبَجَّل والطُّفل المعجزة المدلَّل.

 بَيْدَ أنَّ حملة التَّعاطف مع إسرائيل لم تقتصر فقط على الرَّئيس الأمريكيّ جو بايدن وأذنابه التَّابعين من القادة السِّياسيَّين الأوروبيَّين من أمثال المستشار الألمانيّ أولاف شولتس والرَّئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطانيّ ريشي سوناك وغيرهم، بل اتَّسعت مروحتها لتشمل ثُلَّةً من المفكرين والأكاديميَّين يتصدَّرها الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس داعية الفكر التَّواصليّ بِمَعِيَّةِ كُلٍّ من نيكول ديتلهوف رئيسة قسم العلاقات الدَّوْليَّة ونظريات النِّظام العالميّ، وراينر فورست أستاذ النَّظريَّة السِّياسيَّة والفلسفة، وكلاوس غونتر أستاذ النَّظريَّة القانونيَّة والقانون الجنائيّ وقانون الإجراءات الجنائيَّة.

وخشية التَّخلُّف عن الرَّكْبِ والشُّعور بالذَّنْبِ، ولتحاشي "تأنيب الضَّمير" وغضب الرَّبِ سارع هؤلاء إلى تجديد البيعة والولاء وتقديم واجب المواساة والعزاء بالمصاب الأليم لإسرائيل عسى أنْ "يلهمها اللَّهُ" الصَّبْرَ والسُّلْوَانَ، ويغفر لهم ولأبائهم النَّازيَّين والإمبرياليَّين ما تقدَّم وتأخَّر من خطايا وجرائم ارتكبوها ضد الإنسانيَّة جمعاء. وعلى هذا الطَّريق بادر مركز أبحاث "الأوامر المعياريَّة" التَّابع لجامعة غوته في فرانكفورت بتاريخ 13 نوفمبر 2023 إلى نَشْرِ رسالتهم الموسومة ب"مبادىء التَّضامن. بيان".

إنَّ أوَّلَ ما يلاحظه القارئ في هذه الرِّسالة الملتوية النَّسج والمتهافتة النَّهج هو انحيازها المسبق وتأييدها االمطلق للكيان الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ الغاصب ودفاعها المستميت عنه. وإلى جانب ما يعلنه مؤلفو هذه الرِّسالة عن إدانتهم "المجزرة الَّتِي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل المصحوبة بِالنِّيَّة الصَّريحة على إبادة الحياة اليهوديَّة بشكل عام"(1)، وما يبوحون به من حرص أحاديّ فائق على وجود إسرائيل، ومن محاباة رخيصة لها ولليهود عمومًا؛ فقد انطوى موقفهم على جملة كثيفة من الآراء المنكوسة والأحكام المعكوسة والايحاءات المُضْمَرَة الخبيثة، أهَمُّها:

 أ- اجتزاء عملية طوفان الأقصى من سياقها التَّاريخيّ والتَّشديد على أعراض الدَّاء لا على الاحتلال الَّذِي هو أصل العلَّة والبلاء متناسين أنَّ هذه الحرب بدأها الصَّهاينة وبرعاية مباشرة من الدُّوَلِ الكولونياليَّة منذ ما يزيد على الخمسة وسبعين عامًا. إذ فاتهم أنَّ الحرب والعدوان إنَّمَا يبدؤهما الطَّرف الَّذِي يعمل، عن سابق إصرار وتصميم، على خلق أسبابهما وتهيئة مقدماتهما، ويسدُّ، في الوقت عينه، جميع الطُّرق المؤدية إلى السَّلام العادل، لا ذاك الطَّرف الَّذِي يناضل من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأراضيه المغتصَبة المنهوبة؛

 ب- عمدت الرِّسالة إلى القفز بخفة بهلوانيَّة مدهشة فوق الوقائع التَّاريخيَّة وقلب الحقائق رأسًا على عقب بحيث استحال السَّببُ نتيجًة، والجلَّادُ  ضحيًة، والوحش الإسرائيليّ-الصَّهيونيّ حملاً وديعًا، وعدوانه المتواصل والممنهج "ردًّا دفاعيًّا مُبَرَّرًا من حيث المبدأ..."(2)؛

 ج- تعمَّد هابرماس وأتباعه المُقَلِّدين طمس روح المسألة وجذور المشكلة، وحرف الصِّراع عن موضعه وحقيقته بإضفاء طابع دينيّ عليه ليبدو كأنَّه عدوانٌ حماسويٌّ (إسلاميّ ضمنيًّا) ضد اليهود عامًّة؛

 د- التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات على ما يتجلَّى ذلك في مماهاة السَّاميَّة باليهوديَّة  والصَّهيونيَّة-الإسرائيليَّة وكأنَّ دلالة هذه المفاهيم والألفاظ واحدة، علمًا أنَّها ليست متطابقة أو متكافئة لا من حيث المضمون ولا من حيث الماصدق. وليس هذا التَّلاعب بالمفاهيم والتَّعريفات سوى تشويش أو تعمية إيديولوجيَّة يُراد منها تأبيد وجود إسرائيل وتحصينها تحصينًا شاملاً ضد المساءلة والمحاسبة. ولا يخفى، في المناسَبة، كم وافق هذا الخلط المخادع- وما يزال- يوافق هوى محاكم التَّفتيش الصَّهيونيَّة في سعيها الدؤوب إلى ملاحقة ومحاكمة كل من يجرؤ على نقد الممارسات الإسرائيليَّة   وإيديولوجيَّتها العنصريَّة المتطرفة، وعلى الدِّفاع عن حقِّ الفلسطينين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة بِتُهَمٍ أربع جاهزة، وهي: الإرهاب، ومعاداة السَّاميَّة، والعداء لليهود، والتَّحريض على الكراهية؛

 ه- ثَمَّة آفة قاتلة مُرَكَّبة تسري في أوصال الرِّسالة كلها. وتتمثل هذه الآفة في ازدواجيَّة المعايير (سياسة الكيل بمكيالين)، والافتقار إلى التَّماسك المنطقيّ وإلى أبسط مقومات تسويغ الأحكام الَّتِي تطْلِقَها لكأنها تأمرنا أمرًا عسكريًّا  بوجوب التَّسليم والالتزام بها من دون الإشارة إلى أسُسِها والإبانة عن أسبابها. ومن نافلة القول إنَّه ليس يُعَوَّل على كُلِّ ما لا يُعَلَّل. ففي هذه الرِّسالة لم يشرح لنا هابرماس وصحبه، مثلاً، لماذا أفعال إسرائيل مبرَّرة ومغفورة، وأفعال خصمائها مدانة ومرذولة؟ ولماذا لا ينبغي أنْ تكون مبادئ التَّضامن معها تحديدًا موضع  جدال؟ علمًا أنَّ الأساس الَّذِي ينهض عليه وجودها ويسوِّغه يثير ألف سؤال وسؤال ومحطُّ خلاف وسجال حَتَّى في بعض الأوساط اليهوديَّة. ولم يفسِّروا لنا كذلك كيف ولماذا "تنحرف، حسب زعمهم، معايير الحُكْمِ تمامًا عن الصِّراط المستقيم وتَضِلُّ عن الطَّريق القويم عندما تُعْزَى نِيَّات الإبادة الجماعيَّة إلى التَّصرُّفات الإسرائيليَّة"(3). إنَّ السُّؤال الَّذِي يقفز ههنا إلى الذِّهن فورًا هو: هل هناك معايير حكم ومبادئ عقليَّة وأخلاقيَّة خاصَّة بتقييم نِيَّات وأفعال اليهود والإسرائيليين تميِّزهم من العالَمين وتُفَضِّلهم عليهم؟ الإجابة عن هذا السُّؤال هي طبعًا بالنَّفي، لأنَّ الكلام على معايير ومبادئ أخلاقيَّة أساسيَّة هو كلام على ما يتجاوز الفروق العِرْقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة بين البشر، ويدخلنا في صميم ما هو إنسانيّ عام وذو أهَمِّيَّة عامَّة بالنسبة إليهم. فالمبادئ الأخلاقيَّة مُلْزِمة للجميع وموجَّهة بالتَّساوي إلى كل شخص فعليّ وممكن من غير استثناء. إضافة إلى ذلك، وإذ يُسْقِط هؤلاء قَبْليًّا عن إسرائيل تهمة الإبادة الجماعيَّة نِيًّة وفعلاً، جملًة وتفصيلا، فإنَّهم لا يمنحونها، زورًا وبهتانًا، صكَّ براءة وغفران عمَّا تَقَدَّم وما تأخَّر من مسلسل مجازرها الهيستيريَّة فحسب، بل يرتكبون أيضًا أغلوطة تحويل علاقة ممكنة واقعيًّا وجائزة منطقيًّا إلى علاقة مُمْتَنَعة عمليًّا ونظريًّا بحيث يبدو ربط التَّصرُّفات الإسرائيليَّة بدافع الإبادة الجماعيَّة ليس محالاً من النَّاحية الواقعيَّة فحسب، بل مُمْتَنَعٌ منطقيًّا أيضًا. لكن وكما هو معلوم، فإنَّ إثبات ارتكاب أو عدم ارتكاب إبادة هو أمرٌ تقرِّره، في المقام الأوَّل، الوقائع والأحداث لا مزاعم هذا المفكر أو ذاك ولا حَتَّى قوانين المنطق. وإذا كان ممكنًا لبعض البشر ارتكاب المجازر فلا شيء يبرِّر استبعاد احتمال توافر النِيَّة الجرميَّة الإباديَّة خلف التَّصرُّفات الإسرائيليَّة اللَّهم إلاَّ إنْ أدرَجَت الثُّلَّةُ الهابرماسيَّة الإسرائيليَّين في عداد أولياء اللَّه الصَّالحين والمعصومين، الأمر الَّذِي يعني أنَّ  حمل نِيَّة الإبادة الجماعيَّة على أفعالهم يُشَكِّل تناقضًا بالتَّعريف. وما هذا وذاك إلاَّ وَهْمٌ وهراء. لكن وبالعودة إلى الواقع، فإنَّ الأدِلَّة تشير إلى العكس تمامًا ممَّا تدَّعيه هذه الثُّلَّة. فلا تَمُرُّ دقيقة إلاَّ وتمطرنا وسائل الإعلام بوابل كثيف وشلَّال غزير ممَّا لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على بال وخيال بشر من مشاهد حية لمآسٍ قَلَّ نظيرها في تاريخ البشريَّة. إنَّ أفعالاً من مثل التَّهجير القسريّ والحصار المزمن لشعب يعيش واقعيًّا تحت الاحتلال وفي معسكرات اعتقال، ومن مثل الإعدامات الميدانيَّة والقتل والجرح لعشرات الألوف من نسائه وأطفاله ورجاله، والتَّدمير الكُلِّيّ لمستشفياته ومدارسه ودور عبادته ومنازله، والتَّجويع والحرمان التَّام من الماء والغذاء والكهرباء والدَّواء - هي أفعالٌ تُشَكِّلُ، منفردة ومجتمعة، أمثلة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة المكتملة العناصر والمواصفات. وبالاتِّفاق مع هذا يمكن القول إنَّه ولما كانت طبيعة الأفعال الإسرائيليَّة ضد الفلسطينين لا تختلف جوهريًّا عن الأفعال النَّازيَّة ضد اليهود كان من غير الجائز أنْ نطلق عليهما حكمين متضادين أخلاقيًّا. فمن الإجحاف والعبث بمكان أنْ ندين الثَّانية ونقبِّحها وألا ندين الأولى ونجرِّمها، وبالعكس. فالمسألة الأساسيَّة هنا هي أنَّ أفعالاً كهذه، بحكم طبيعتها، لا يمكن أنْ تكون حسنة وواجبة أخلاقيًّا. فاختلاف هُوِيَّة فاعلها والآمر بها وآليات تنفيذها لا يُغَيِّر شيئًا من طبيعتها، أيْ كونها أفعالاً من نوع معيَّن لا من نوع آخر. فالسرقة سرقة أيًّا يكن السَّارق والمسروق، والقتل قتل أيًّا يكن القاتل والمقتول، وكذلك، على المقلب الآخر، العِشْقُ عِشْقٌ أيًّا يكن العاشق والمعشوق. وطبقًا لهذه الرُّؤية يمكن القول إنَّه إذا كان اليهود هُمْ أحد ضحايا المحرقة النَّازيَّة، فإنَّ الفلسطينين هُمْ ضحايا هولوكوست مركَّب ومضاعَف ومزدوج: الفاشيّ-الألمانيّ؛ والصَّهيونيّ-الإسرائيليّ. وَمَثَلُ الَّذِي يبرئ إسرائيل من دمِّ الفلسطينين ومن تُهْمَةِ التَّطهير العُرْقيّ والإبادة الجماعيَّة في حقهم كَمَثَلِ الَّذِي يبرئ النَّازيَّة من المذابح الَّتِي ارتكبتها ضد الإنسانيَّة، لأنَّ الصَّهيونيَّة والنَّازيَّة صنوان ووجهان لعملة لاأخلاقيَّة واحدة. وفي الحقيقة، ما هُمَا إلاَّ صورتان في مرآة واحدة، وصورة في مرآتين. وكل واحدة منهما تتمرأى في الأُخرى. إذ إنَّ لوثة جنون العظَمة والتَّفَوُّق لدى الطَّرفين هي نفسها، وأفعالهما واحدة، وجوهرهما واحد، والادِّعاء بنقاء الأصل واصطفاء العُرْقِ واحد وإنْ اختلف اسْمُ الفاعل واسْمُ الضَّحية ومسرح الجريمة وزمانها. وكما أنَّ التَّطهُّر من نجاسةٍ لا يكون بنجاسةٍ من نوعها، والاغتسال من جنابة لا يصح بجنابة أقذر منها، فكذلك لا شرعيَّة للتبرؤ من الإثم النَّازيّ بمباركة انتقام دمويّ مَرَضيّ صهيونيّ-إسرائيليّ آخر أفظع وأشنع منه، بخاصَّةٍ، أنَّه يثأر لنفسه من شعب لا يَمُتُّ بأيِّ صلة نسب إلى الرَّايخ الثَّالث لا من قريب ولا من بعيد. وبلغت  ازدواجيَّة المعايير على يد هابرماس ذروة اللامعقوليَّة عندما أخذ يجاهر ويُلحُّ- متذرِّعًا ب"الرُّوح الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة الموجَّهة نحو الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيَّة- على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة حمايًة خاصَّة في ضوء الجرائم الجماعيَّة إبَّان الحقبة النَّازيَّة"(4) في حين أنَّه لم ينبس ببنت شفة عن حقِّ الفلسطينين في الوجود وإقامة دولتهم الحُرَّة المستقلة. ولنا هنا أنْ نسأل هابرماس ونتساءل بدورنا أيُّ رُوح ديمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة هي هذه الَّتِي تمالئ وتناصر كيانًا عنصريًّا لاديمقراطيًّا غاصبًا يضع إرادته فوق إرادة الشَّرعيَّة الدَّوْليَّة ضاربًا بعرض الحائط قراراتها ومواثيقها، ويضطهد الفلسطينين ويُذِلُّ كرامتهم الإنسانيَّة؟!!! ثُمَّ ماذا يبقى من معاني الدِّيمقراطيَّة لجمهوريَّة ألمانيا الاتِّحاديَّة إذا كانت "ثقافتها السِّياسيَّة تَعِدُّ الحياة اليهوديَّة وحقَّ إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيَّين  يستحقان حمايًة خاصَّة"(5)، وتستنفد استغراقيًّا حقيقة الرُّوح الدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة  في هذين العنصرين؟!!! فالكلام على عناصر مركزيَّة تستحق حمايًة خاصَّة في هذا السِّياق يفترض، بالضَّرورة، وجود عناصر ثانويَّة وهامشيَّة هي أقَلَّ أهمِّيًّة واستحقاقًا وجدارة بمزيَّة الحماية من غيرها. ولا شكَّ في أنَّ ثقافًة سياسيَّة كهذه تخالف وتقوِّض، على نحوٍ صارخ، جملة من أُسُسِ النِّظام الدِّيمقراطيّ، أوَّلها مبدأ ضرورة حياد الدَّولة الدِّيمقراطيَّة إزاء مختلف الأعراق والدِّيانات؛ ثانيها مبدأ المساواة في الحقوق؛ ثالثها عدم جواز قوننة الدَّولة الدِّيمقراطيَّة لأيِّ مادةٍ تقود، عمليًّا، إلى ترجيح حقِّ جماعة معيَّنة، أكانت عِرْقيًّة أم دينيًّة أم سياسيًّة، في الوجود والحياة على الحقِّ نفسه لسائر الجماعات. بالطَّبع، إنَّ حقَّ اليهود في الحياة وليس فقط في الحياة، بل في الحياة الحُرَّة الآمنة والكريمة هو حقُّ لا يمارى فيه ما دام هذا الحقُّ لا يتعارض مع إعطاء حقٍّ مماثل لكل من عداهم. بَيْدَ أنَّ مغالاة هابرماس في التَّشديد على وجوب إيلاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة عنايًة خاصَّة لا تَنِمُّ عن مَيلٍ معادٍ للرُّوح الدِّيمقراطيَّة فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع قوله الصَّائب: "إنَّ الحقوق الأساسيَّة في الحُرِّيَّة والسَّلامة الجسديَّة وكذلك في الحماية من التَّشهير العنصريّ هي حقوق غير قابلة للتَّجزئة وتنطبق على الجميع بالتَّساوي"(6). ويعني القول الأخير أنَّ الحقوق الأساسيَّة المذكورة ليست امتيازًا وشأنًا خاصًّا باليهود أكثر منها شأنًا خاصًّا بالبوذيين أو المسلمين أو المسيحيَّين أو الوثنيين أو غيرهم. إنَّها بهذا تصبح شأنًا وحقًّا إنسانيًّا عامًّا، ومن ثُمَّ، لا يُعْقَل أنْ تكون من امتيازات أيِّ دين من الأديان أو أُمَّة من الأُمَمِ. بعبارة أُخرى، لا مهرب لهابرماس من مواجهة مأزق منطقيّ حاد يُلْزِمَهُ باختيار واحد من بديلين متعارضين كلاهما غير مرغوب فيه، حَتَّى من وجهة نظره. البديل الأوَّل هو التَّمسُّك بالحماية (المعاملة، الرِّعاية، العناية) الخاصَّة لإسرائيل واليهود وعندئذ لا يعود ثَمَّةَ معنىً أو قيمةٌ للكلام على حقوق أساسيَّة متساوية لجميع البشر لا امتياز حصريًّا فيها لأُمَّةٍ أو لِمِلَّةٍ على غيرها. والبديل الثَّاني هو التَّمسُّك بمنطق المبادئ الأخلاقيَّة والدِّيمقراطيَّة فيبطل عندئذ مبرِّر المطالبة بامتياز حقِّ الحماية الخاصَّة. إضافة إلى ذلك، ينطوي موقف هابرماس على أغلوطة لا تخفى على عاقل. وتكمن الأغلوطة في هذا الموقف في أنَّه يعطي عامِلَ الانتماء إلى عِرْقٍ ودِينٍ معيَّنين أهمِّيًّة في تحديد كيفيَّة تعاملنا مع البشر إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أيْ يمنح أهمِّيًّة لما لا أهمِّيَّة له على الإطلاق بالنسبة إلى المسألة الأخيرة. فلا علاقة ضروريَّة بين اختلاف السِّمَاتِ الجسمانيَّة كلون البشرة ولون العيون وشكلها ونوع الشَّعر،  والتَّمييز في المعاملة الأخلاقيَّة. زد على ذلك، لا دليل على الرَّبط بين السِّمَاتِ العِرْقيَّة أو الجسمانيَّة والخصال الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة مشتقة من الأولى. كما أنَّ اختلاف المعتقدات الدِّينيَّة أو الفلسفيَّة أو العلميَّة، بدوره، لا يُعقل أنْ يُشَكِّلَ أساسًا لأيِّ اختلاف في المعاملة الأخلاقيَّة. وعلى المستوى الشَّخصيّ لا أعرف استدلالاً علميًّا يمكن لِحَدِّهِ الأوسط ومحمولات مقدِّماته أنْ يدعما دعمًا كافيًا الاستنتاج أو الحكم القائل بوجوب منح اليهود وإسرائيل أو غيرهما حمايًة خاصًّة استثنائيَّة مُطْلَقَة. وعليه، أرى أنَّه ليس في جعبة هابرماس الإيديولوجيَّة الرَّثَّة ما "يُسَوِّقُ" به إعطاء وجود إسرائيل والحياة اليهوديَّة مزايا تفضيليَّة سوى اجترار وتكرار مقيت لأُسطورة شعب اللَّه المختار التَّوراتيَّة. وإذا كانت المحرقة الَّتِي تَعَرَّضَ لها اليهود إبَّان الحقبة النَّازيَّة هي المسوِّغ الرَّئيس لوجوب إيلائهم حماية خاصَّة، فأليس من باب أولى أنْ يَنْعَمَّ الفلسطينيون بمثل هذا الامتياز في ضوء المجازر الَّتِي ترتكبها إسرائيل وأعوانها المتصهينين في حقِّهم؟!!! وماذا عن الأقوام والشُّعوب الأُخرى الَّتِي تعرضت عبر التَّاريخ للإبادة والمجازر الجماعيَّة؟ ألا تستحق معاملة خاصَّة مشابهة لتلك الَّتِي لإسرائيل واليهود، يا تُرَى؟!!! لا شَكَّ في أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تضع هابرماس وكل من يدور في فلكه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إمَّا أنْ ينفوا حقائق تاريخيَّة معروفة للقاصي والدَّاني وهذا منتهى الجهل والتَّجاهل أو أنَّ شعارات الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة الَّتِي يتبجَّحون بها ليست إلاَّ قناعًا جاذبًا وتَغَنِّيًا كاذبًا تتوارى خلفهما إرادة القُوَّةِ ونوازع العنصريَّة والإرهاب. والحال أنَّ رائد الفكر التَّواصليّ والدِّيمقراطيَّة التَّداوليَّة وأخلاقيات الخطاب لم يُحْسِن برسالته التَّضامنيَّة مع إسرائيل سوى انتهاك ما يُنَظِّر له ويدعو إليه. ولا أظنني أُجانب الصَّواب إنْ قلت إنَّ ثَمَّةَ قاسمًا مشتركًا وجوهريًّا يجمع بين بيان هابرماس وتصريح وزير الدِّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت الَّذِي عَدَّ الفلسطينين حيوانات متوحِّشة في هيئة بشريَّة. صحيح أنَّ هذه العبارة الأخيرة غابت عن بيان هابرماس إلاَّ أنًّ معناها حضر فيه بِقُوَّةٍ من خلال إصراره الوقح على نفي نِيَّة الإبادة الجماعيَّة عن إسرائيل بغية تأكيد تمدُّنها  وسويَّتها مقابل همجيَّة الفلسطينين وتوحُّشهم، ومن خلال اللُّغة الَّتِي يتحدَّث بها عن عملية طوفان الأقصى والنُّعوت الَّتِي يطلقها على منفِّذيها. فهو ينحى باللائمة عليهم ويصفهم بأردأ النُّعوت من مثل "الوحشيَّة الفائقة" extreme atrocity و"مجزرة حماس" Hamas massacre، في حين أنَّه يعفي إسرائيل كليًّا من المسؤوليَّة مكتفيًا بوصف ممارساتها الإجراميَّة ب"أفعال إسرائيل" Israel's actions أو "ردة فعل إسرائيل" Israel's response من دون أدنى إشارة إلى طبيعة هذه الأفعال ونوعها ومشروعيَّتها ونتائجها. ولا يحتاج واحدنا إلى كبير عناء ليدرك مدى افتقار ازدواجيَّة المعايير إلى المصداقيَّة وتعارضها مع المبادئ والقواعد الأخلاقيَّة الأساسيَّة من مثل القاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق في صيغتَيها السَّالبة والموجبة (ما لا تحبه في الآخر لا تفعله أنت نفسك) و(عامِل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به)، ومبدأ قابلية الكوننة (ينبغي معاملة جميع الحالات المتماثلة في السِّمات الأساسيَّة بالتَّساوي، وأنَّ أيَّ اختلاف في المعاملة ينبغي أنْ يعكس اختلافًا نوعيًّا ملحوظًا بين الحالات الَّتِي تُعَامَل على نحوٍ مختلف). فازدواجيَّة المعايير تُشَكِّل تناقضًا في الإرادة وتهافتًا في الفكر. وهذا التَّناقض يَنِمُّ، كما نبَّهَنا كانط، عن انتهاك فاضح للواجب الأخلاقيّ ولكُلِّية قانونه. بعبارة أُخرى، تقتضي المبدئيَّة والمصداقيَّة اتِّساق الإرادة وإلاَّ فإنَّ المسافة الفاصلة بين ازدواجيَّة المعايير والعدميَّة الأخلاقيَّة قصيرة جِدًّا. وينبغي لمن يدَّعي محاربة الإرهاب والاستبداد والعنصريَّة ألا يكون منطقه ومسلماته وممارساته هي عين ما يستبعده وينفيه. وفي ضوء كل ما سبق عبثًا يحاول المرء العثور على "مبادئ التَّضامن" في هذه الرِّسالة الملئ بركام هائل من التَّضامن اللامبدئيّ غير المُبَرَّر بأيِّ وجه حقٍّ.

***

د. علي صغير

...........................

1-https://www.normativeorders.net/2023/grundsatze-der-solidaritat

2- المصدر نفسه.

3- المصدر نفسه.

4- المصدر نفسه.

5- المصدر نفسه.

6- المصدر نفسه.

عرفت الدكتور "زكي الميلاد" منذ كان يجيئ لمكتبة الإسكندرية مرارا وتكرارا، مرة رأيته مع أستاذنا الدكتور " محمد عمارة "، ومرة " مع صديقي الدكتور " عصمت نصار"، واعتقد أن الدكتور الميلاد ليس في حاجة مني إلى أسلط الأضواء عليه، بل ربما هو يعاني منها، إذ يشغل الرجل مساحة من الثقافة الفلسفية المعاصرة بما يقدمه من كتب ومقالات مهمة، واعتقد أن سؤال زكي الميلاد الأساسي كان عن "النهضة"، وهي تمثل النقطة المحورية التي دارات حولها سائر أعماله الفكرية، وهو ليس فقط باحثا عنها، وإنما مشاركا فيها، وذلك حين استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة ، وذلك في كتابه" عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، الصادر عام 2016م، حيث يرى زكي  الميلاد أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح، حيث يقول: ”تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها.

كذلك من القناعات المشتركة في نظر زكي الميلاد أن الإصلاح الفكري هو العنصر الجوهري لنهضة الأمة، وانه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كل تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا رأينا أن موضوع تجديد الفكر الإسلامي عند زكي الميلاد يعد أحد هذه الإسهامات.

لقد اهتم زكي الميلاد بإشكالية "التجديد" وذلك في كتابه " الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد "، حيث أدرك الميلاد أن المجتمعات الإنسانية تتقادم بمرور الزمن، ولذلك عمد زكي الميلاد إلى النظر للتجديد على أنه مشروعاً بذاته، ويحتاج إلى جهد علمي؛ هذا يرى الميلاد ضرورة توضيح أن التجديد في الفكر الإسلامي لا في الدين الإسـلامي الـذي لا يجـوز فيـه الزيـادة ولا الـنقص ولا التغييـر أو التبـديل ولا النسـخ أو التعطيـل ومـا شـابه ذلك، وأن المراد بالتجديد هو إصـلاح موقفنـا مـن الـدين.

وهـذا مـا دفـع زكي الميلاد إلى تأكيد ضرورة أن نبـرز فـي هـذا الوقـت نبـوغ الفكـر الإسـلامي وعبقريته الحضارية الفذة، إذ ما علمنا أننا على أعتاب دورة تاريخية جديدة يشــهدها العــالم اليــوم، حيــث التحــولات الكبــرى، والتقــدم الســريع علــى المستويات كافة، والتطورات تتلاحق بشكل مذهل مـن أصـغر الأمـور إلـى  أكبرها، حتى بات من الصعب السيطرة عليها من جهة.

وبعد أن حدد زكي الميلاد مفهوم التجديد فـي الفكـر الإسـلامي ينتقـل إلـى تحديد الآلية التي يتم بوسـاطتها التجديـد، وهـذه الآليـة تتمثـل فـي المـنهج المتبع في عملية تجديد الفكر الإسلامي. ويرى زكي الميلاد أن حركات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي نوعان: حركات فكرية دعوية منها الشيخ محمد رشيد رضا، وحركات منهجية منها حركة الإمام " الشاطبي"، والفارق بينهما في النوع الثاني هو محور الحركة، أما في الأول فإن الدعوة والإصلاح هما محور الحركة.

أما في كتاب " التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي"، فقد ذهب زكي الميلاد إلى أن الفكر الشيعي في كل دوراته التاريخية كانت له ابداعات وتجديدات في مختلف الثقافة والعلوم، لكنه في ذات الوقت أثار بعض الإشكالات التاريخية والمنهجية والسياسية التي اعترضت هذا الفكر، أهمها اختزال الفكر الإسلامي في مدرسة واحدة هي المدرسة السنية، ومحاولة إقصاء الفكر الشيعي عن واقع الحياة الفكرية والاجتماعية عن طريق دراسات تحوي مغالطات تاريخية أو عقائدية .

وأما فيما يخص ضوابط التجديد فقد حصرها زكي الميلاد في خمسة: عدم تجاوز النص بالتأويل أو التعطيل، وعدم الإخلال بالقواعد المنهجية للتجديد، والتزام المنهج الإسلامي، ومراعاة الثوابت والمتغيرات .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهو كما يرى زكي  الميلاد أن البحث في التجديد يؤدي إلى البحث في التنوير، وهنا رأيناه في دراسة له بعنوان " الإسلام والمدنية حوارات حول الفكر الإسلامي قضاياه ومسائله وإشكالياته "، أن الأسئلة الكبرى التـي تتعلـق بالتنوير، كأسـئلة الديمقراطيـة والحريـة والـدين والمـرأة سـتظل حاضرة في ساحتنا الفكرية بوصفها اختباراً للمعرفة، ومقياسـ اً للتطـور، لكـن الإجابة عنها يفترض أن تكون على الأرض وفي الميدان والتجربة لا مجـرد نظريات على الورق فقط ؛ ففيما يتعلق بالديمقراطية يرى الميلاد أن الفكر الإسلامي في طريقه إلى التصالح مع الديمقراطية، وأن المهـم لـيس وصـول الإسلاميين إلى السلطة بل المهم وصوله إليها عبر صناديق الانتخاب، معتقدا أن التحولات التي حدثت فـي عالمنـا العربـي خرجـت مـن رحـم الشـعوب المقهورة.

أما فيما يتعلق بواقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، فيـرى زكي المـيلاد في كتابه " تجديد التفكير الديني  في مسألة المرأة"، أن واقع المرأة قد تغير واختلف بصورة كبيـرة إذ أصـبحت المـرأة اليـوم أكثـر وعياً بذاتها، وبنظرها إلى مستقبلها، وبدأت تبحث لنفسها عن فـرص التقـدم في المجالات العامة، ولم تعد تقنع بالأدوار التقليدية والضيقة والمحـدودة، أو بتلك الوصايا الشديدة والشاملة من الرجل، بعد أن اكتسبت تعليمـاً جيـداً وتدريباً وخبرة وثقافة عالية.

أما في ما يتعلق برؤية الميلاد للدين فإنه يرى  في كتابه " الإسلام والحداثة من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية"، أن الدين واجه تحديات كبيرة، جعلته أمام طريقين طريـق التحـدي والبقـاء وطريق التهميش والعزلة فقد واجه الدين في العصر القديم تحدي الفلسـفة، وواجه في العصر الوسيط تحدي العلم، وواجه في العصـر الحـديث تحـدي الحداثــة، وواجــه فــي العصــر الحــالي تحــدي العولمــة واســتطاع أن يثبــت فاعليته، وغيرها من التحديات الكبرى.

لم يكتف زكي الميلاد بذلك، بل رأيناه يسعى جاهدا إلى تأكيد قيمة الثقافة والإعلاء مـن شـأنها، وإعطاؤهـا درجـة عاليـة مـن الأولوية، والاستلهام منها والتخلق بها، واعتمادها منظوراً في التحليل والنقـد والاستشـراف، فالثقافـة هـي تلـك الطاقـة والقـوة والـروح التـي تبعـث علـى التجـدد والتقـدم والنهـوض، مـع التركيـز علـى الجـوهر الإسـلامي للثقافـة، والاهتمام بأبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية.

نتيجة لذلك جاءت محاولة زكي الميلاد اقتراح مفهوم المثقف الـديني، فـي كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر)، الصادر عـام ٢٠٠٠م، الـذي حـاول فيه أن يلفت النظر إلى هذا المفهوم من خلال تحريكه في المجـال الفكـري والثقـافي، فـي سـعيه للاقتـراب مـن مفهـوم المثقـف الـديني، الـذي يجعـل مرجعيته الفكرية من داخل الحضارة الإسلامية.

وهنا يحاول زكي الميلاد طرح مفهوم إسلامي حول " المثقف الديني"، حيث يريد أن يؤسس للمثقف الديني علـى وفـق هـذه الرؤيـة، ويحاول إيجاد تمايز أو مفارقة بين المثقف الديني والمثقف الغربـي، فيـرى أن الأول مثقف ديني بطبعه ويتخذ من الدين مرجعية فكرية له، ومـن أمثلـة هذا المثقف الكندي والفارابي وغيرهم، ممـن لهـم رأيهـم المسـتقل المعبـر عن مرجعيتهم الفكرية، أما الثاني فهو على العكس من الأول، فهو غير دينـي بطبعه، ولا صلة لـه بالـدين.

أما في كتابه" الإسلام وحقوق الإنسان.. تطور الفكر الإسلامي المعاصر من التأصيل إلى التقنـين ؛ فقد حاول الميلاد أن يتتبـع تطـور فكـرة حقـوق الإنسان في ساحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر، كاشـفاً عـن طبيعـة المواقـف والأفكار، وعـن طبيعـة المسـارات والاتجاهـات، وأنمـاط تطورهـا، وصـور تعاملها مع هذه الفكرة، نقـداً وتحلـيلاً، وتأصـيلاً وتقنينـاً .

وفـي هـذا الاطـار جرى حديث الميلاد عن بواعث تجدد الاهتمام بفكرة حقوق الإنسان التـي تـأخر الاهتمـام بهـا فـي سـاحة الفكـر الإسـلامي المعاصـر إلـى ثمانينيـات القـرن العشرين، وامتد هذا الحديث إلى التطور الـذي قطعـه الفكـر الإسـلامي فـي التحول والانتقال من التأصيل الفقهي والشرعي، إلى التقنين في صورة صـيغ ولوائح قانونية وتشريعية.. وللحديث بقية، حيث يكون موضوعنا المقبل عن إشكالية الحداثة لديه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، بمصر.

............................

المراجع:

1- زكي الميلاد: كتاباته المشار إليها في المتن.

2- مصطفي خليل خضر: إشكالية التجديد في الفكر السياسي المعاصر " زكي الميلاد" نموذجا، مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة، 2018.

3- حليمة بو كروشه: الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، دار الصفوة، بيروت ـ 1994.

(إن الإيمان والحب يخلقان الناس، لكن السيف ومئة رغبة نهمة تخلق الدولة!!)... نیتشه، هكذا تكلم زرادشت

انها الكلمة

جاء في قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي ان (الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاعاً شامخات يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نبيٍ وبغي، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية إن الكلمة مسؤولية) وبالعودة الى متن هذا النص المختصر والنظر مدلولات الفاظه مع ضرورة تجاوز سياقه التاريخي  يمكن الجزم  دون تردد ان تاريخ الرجال العظماء بقطع النظر عن الانتماء العرقي والديني  يمكن التماسه في تلك الكلمات الخالدة  التي حررت النفوس المستعبدة من عقال الجهل والذل والخوف وزلزلت بصدقها  اركان دولة الظلم في مشارق الأرض ومغاربها قديمها وحديثها ولكن يجب ان نتفق أيضا نتفق أيضا على ان هذه الكلمات التي اختزلت حياة هؤلاء العظماء كانت في نفس الوقت سبب محنهم  سواء تعلق الامر  بالفلاسفة أو العلماء والشعراء و محنة العلامة الفقيه المتكلم الشاعر الصوفي أبو الفضل ابن النحوي والذي ولد سنة 513هجري هي بلا شك حلقة بارزة في تاريخ النبل البشري فهي محنة المؤمن المبتلى في عقيدته والمثقف الملتزم الثائر المنتصر للحق الذي تذوق الحقيقة  بقلبه وجرؤ على استخدام عقله وأدرك بنور الله ان العقل حق والشريعة حق والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له،محنته بدأت عندما عاين  واقع الظلم ببصره وادرك ضرورة قيام دولة الحق والعدل بنور الوحي ومنطق العقل   فانكشفت له انوار الحقيقة بعين بصيرته.

وبين ظلم الولي وحسرة المظلوم أمسى ابن النحوي في محنته غريبا بين من لَهُ دِينٌ بِلَا أَدَبِ وَمَنْ لَهُ أَدَبُ عارٍ مِنَ الدِّينِ. واشتدت محنه حينما حاصره بعض الفقهاء و ساسة عصره الذين صادروا الحق في التفكير والصقوا بكل مجتهد وثائر تهمة التكفير في مغرب القرن الخامس الهجري،ضيق عليه الكثير من المنتفعين من جهل العوام وأصحاب المال وجلساء موائد السلطان  فعاش أبو الفضل غريبا غربة الجسد والروح ومات ودفن غريبا غربة الوطن .

في مسببات المحنة ومستوياتها

يوسف بن محمد بن يوسف أبو الفضل المعروف بابن النحوي التوزري الحمادي، أصله من توزر وهي احدى مدن الجنوب التونسي ومسقط الشاعر ابي القاسم الشابي بها تلقى تعليمه الأول على يد والده ثم على يد  شيخه اللخمي والمازري وغيرهما من علماء وفقهاء القيروان عرف بكثرة اسفاره وعشقه للحرية كان صاحب إرادة قوية وطموح وفراسة  عاش بتلمسان مدة وزار المغرب فدخل سجلماسة وفاس ووجد فيهما من أهل الحكم مقاومة لآرائه الكلامية فرحل إلى قلعة بني حماد بالمغرب الأوسط، وعاصر الدولة الحمادية بالقلعة وبجاية والزيرية بالمهدية والمرابطية بمراكز مراكش، دخل سجلماسة وأقرأ بها الأصلين: علم الكلام  وأصول الفقه فتضايق منه احد اعيان  البلاد من ذوي الجاه والمال وهو ابن بسام فأمر بإخراجه من المسجد، ثم انتقل إلى فاس وانتصب بها للإقراء والتعليم فضايقه ابن دبوس وهنا تجلت محنته  فرجع الى قلعة بني حماد وأخذ نفسه فيها بالتقشف وليس الخشن من الصوف وأقام بها إلى أن توفي .

بالمسجد الجامع داخل اسوار قلعة بني حماد والذي تمد جدرانه الى مسافة 7 كلم تقريبا كان يدرس ابن النحوي،وداخل ساحة المسجد لايزال بالإمكان رؤية مكان المحراب والمنبر ولاتزال  مئذنته واقفة بشموخ  وهناك بالقرب من قصر المنار مكتبته واسفل القلعة بقرية الفضل مسجده وضريحه درس الفقه وعلم الحديث وعلم أصول الفقه وعلم الكلام وكان على دراية بالفلسفة والمنطق واذا كان الفقه غايته معرفة النفس مالها وماعليها وكان علم أصول الفقه يرمي الى بيان مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فان علم الكلام هو علم يدافع عن العقائد الايمانية بالادلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في العقائد . رسالته التعليمية تجسدت قولا وفعلا في قلعة بني حماد وامتدت الى أماكن أخرى .

وبناء قلعة أميرية بجانب المدينة الشعبية كما يشير الى ذلك صاحب كتاب دراسات في العصر الوسيط في الجزائر والغرب الإسلامي الدكتور علاوة عمارة هي ظاهرة عامة في التاريخ العمراني والتي نجد بعض مراحلها في نموذج مدينة قلعة بني حماد. فبعد مرحلة أولى اتسمت ببناء دار بني الإمارة بجانب الجامع الأعظم، نجد أنّ أهم المدن الإسلامية عرفت ما نسميه بظاهرة عسكرة المدينة من خلال بناء "قصبة" في أعلى المدينة الشعبية مخصصة للأمير وحاشيته، ويتجلى هذا بالنسبة لمدينة القلعة في البناءات الواقعة في سفح الجبل مباشرة، والتي نجد فيها خصوصا قصر الملك وقصر الكوكب الذي ما زالت بعض أجزائه السفلية قائمة. وفي المرحلة الثانية المتممة لنموذج المدينة العسكرية نجد بأن النخب العسكرية التي شکلت کیانات سياسية، بربرية في بلاد المغرب أو تركية في بلاد المشرق، عملت على بناء قلعة عسكرية متصلة بمحيط المدينة مهمتها حماية البلاط من خطر تمرد الرعية، تكون مقرا لإدارة الحكم. ويتجلى لنا هذا بوضوح في قلعة تقربوست بجانب مدينة القلعة، وبحي المنظرة بالنسبة لبجاية، وفي بلاد المشرق نجد خصوصا قلعة الجبل المطلة على مدينة القاهرة. وقد تمركزت جهود العلماء التعليمية والإنتاجية في قلعة بني حماد وبجاية بإستقطابهما لـ 120 شخصية علمية من مجموع 243 الذين عرفتهم الجزائر الحمادية. بالرغم من سابقة القلعة التاريخية والسياسية واستقطابها لاكثر من 50 شخصية، الا ان  بجاية سرعان ما تمكنت من تحقيق تقدمها العلمي بفضل استقطابها لأكثر من 74 شخصية علمية، ويرجع هذا إلى استقرار بلاط الإمارة الحمادية بها وإلى تشجيع الأمير العزيز بالله (498-1105/515-1121) للإنتاج المعرفي. بعد بجاية،والقلعة تحتل وارجلان المرتبة الثالثة من حيث الأهمية من خلال حضور أكثر من 18 شخصية علمية كلها إباضية، على اعتبار أنّ هذه المدينة بواحاتها قد أصبحت المعقل الرئيسي للمجموعات الإباضية الوهبية.

وهكذا يمكن القول ان محنة ابن النحوي لم تكن وليدة تعصب اعيان سلجماسة من امثال ابن بسام او قاضي فاس ابن دبوس او حرق كتاب احياء علوم الدين لابي حامد الغزالي وانما هي امتداد لمحنة امة مزقتها الفتن والصراع بين الامراء حول امتلاك السلطة والمنفرجة كقصيدة خالدة مثلا  لم تكن تستهدف في متنها ونغمها،ظاهرها وباطنها الخلاص الفردي لكاتبها وناظم ابياتها بل هي ابعد من ذلك إنها ترجمان ازمة ضمير تم تخديره، وانسان خلق للعبادة بأوسع معانيها امسى في عطالة فكرية وحضارية .والايمان بانفراج الازمة بعد اشتدادها  يعني الايمان بسنن الله في خلقه. فالأزمة كما كان يقول جمال الدين الافغاني:" تلد الهمة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك"

وفي اعتقادي ان هذه الازمة التي امتحن بها ابن النحوي لها مستويات:

أولا: هي ازمة تعكس التوتر بين المثقف الملتزم بقضايا امته والحاكم المستبد فالأول عاشق للحرية يواجه السلطة السياسية بثبات وحكمة الانبياء يزاوج في معركته بين سلاح الكلمة ورهبة الصمت و الثاني ظالم مستبد يشيع الخوف ويشتغل على كسر ارادة الحياة لدى شعبه وهنا نفهم ان كثرة اسفار ابن النحوي هي تحرر من قيود المكان وجور السلطان وجهل العوام وتتجلى قدسية الحرية في اسراء الروح ومعارجها نحو ما يحيي الروح، ومن سجن الجسد الى عوالم النفس الخفية من خلال قول كلمة الحق نثرا وشعرا وامثالها سلوكا .

ثانيا: هي ازمة فكرية تعكس مخاوف بعض الفقهاء من فقد المكاسب المادية وقربهم من حاشية السلطان وهذا الامتياز المادي والمعنوي مشروط بقدرتهم على سحر العوام بخطاب الولاء المطلق لولي الامر والتركيز على رغبات الناس اللاشعورية ومخاوفهم من خلال خطاب الوعد والوعيد.

ثالثا: هي ازمة لها علاقة برسالة الولي الصالح فالعالم الرباني الزاهد في الدنيا والذي اقترب من مقام التقوى هو على الدوام لسان [حال] المظلومين وناطقهم المفوض، ومنذر العلماء والمنبه لضمائر الملوك..وحزنه والمه مرتبط بمدى تحقيق هذه الغاية ..زمن هنا، كان الزهد في ما يمتلكه السلطان من مال وجاه يجعل المتصوف أكثر قوة في مواجهته وأعلى قدرة في التمرد عليه لذا كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة، خياراً استراتيجياً لمعظم المتصوفة.

رابعا: هي ازمة روحية المتصوفة أشد الناس شعوراً بغربة الإسلام، بعكس معظم الفقهاء الذين كانوا يمضون في ركاب السلطة، وكان أول أدواره «الزهد» ثورة ضد كل من سلطة الدولة وسلطة رجال الدين وسلطة المال، باحتكامه إلى الضمير الإنساني. وقد يخيل للبعض أن السلطة والتصوف خصمان لا يلتقيان، فالسلطة عملية اجتماعية حركية، فيما التصوف، بزعمهم تجربة انكفائية، تنأى عن الحياة وشواغلها وعن السياسة وتوابعها بصفة خاصة. لكن مثل هذا الادعاء قد يصدق على التصوف الفردي أو على الزهد في جانبه السلبي، أما التصوف الإسلامي فقد كان منذ البدء بمثابة رد فعل على الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية، ومنحى معارضة ضد السلطات الزمنية القائمة بكل أنواعها. التساؤلات التي تطرح نفسها، وبشدة هنا، هي: هل لدى المتصوفة السلطة أم لا؟ وما حدود ما ينسب إليهم من أو مفهوم عن كانت السلطات الأخرى، على أساسها ووفق إملاءاتها تعمل على استمالتهم أو اضطهادهم، فيما كانوا يخوضون غمار هذا الصراع استناداً إلى موقعهم من موازين القوى السياسية والاجتماعية والدينية في المجتمع؟

ثنائية السلطة والعقل

يجب ان ننبه هنا انه لايمكن باي حال من الأحوال ربط مفهوم السلطة بالسلطة السياسية او هيمنة الدولة فهناك دائما اشكال مختلفة للسلطة بداية من سلطة العادات و التقاليد مرورا  بسلطة المال و السلطة الابوية ووصولا الى  سلطة الاعلام والسلطة الدين  وغيرها من الاشكال الأخرى  لذلك نجد ميشال  فوكو يعتبر الدولة جزءا من السلطة وليست كل السلطة وبالنسبة لمحنة ابن النحوي سنتحدث عن سلطة الدولة في اطارها التاريخي القرن الخامس الهجري وكيف تم توظيف الدين في دولة المرابطين والسلاجقة وحتى الحماديين لخدمة السلطة وحمايتها والدفاع عنهاوهنا نلمس بعض القواسم المشتركة ومنها اشتغال السلطة في هذه الدول على ضمان  (الاستقرار والاستمرار في السلطة والرغبة في الإخضاع وضمان الولاء، ودفع المعارضين وإزاحتهم عن الساحة وإقصاء المناوئين والخارجين على طاعة السلطة، والحفاظ على أمنها ومصالحها والسعي في تحقيق أهدافها الخفية والمعلنة.. الخ). وهذا ما اكد عليه صاحب كتاب ولاة و أولياء السلطة و المتصوّفة في إسلام العصر الوسيط للدكتور محمد حلمي عبد الوهاب وكتخريج لكتابه أشار الى نقاط مهمة نوردها على النحو التالي :

1- في اعتقادي- وهذا الكلام للكاتب-  يصلح التصوف قاعدة لمشروع سياسي، أو على الأقل أن يشكل إطاراً عاماً لمشروع سياسي ناجع، إذ يُنتج التصوف من ناحية، قيماً ذات مدلولات سياسية بينة، يأخذ بعضها معنى سياسياً محضاً، أو ينطوي في جانبه الفلسفي واللغوي العام على جوانب تمس ظاهرة السلطة، كمقومات الإمامة في الولاية الصوفية وعناصرها الرئيسة : العصمة - الشفاعة ـ الكرامة. كما يؤسس التصوف لقيم أخلاقية - سياسية، مثل التسامح والانفتاح والانخراط والمشاركة ومقاومة التسلط آخذين بالاعتبار أن التصوف ينتج ما يطلق عليه علماء النفس والاجتماع مبدأ الثناقيمية» أي قيماً متعارضة أو متضادة، فاللغة الصوفية على سبيل المثال تُعلي في رمزيتها استغلاقها على الأفهام من قيم التمسك والتعاون ووحدة الهدف والمصير والانتماء للجماعة داخل مجتمع المتصوفة.

2- في قراءتنا لموقف المتصوفة من السلطة بدا واضحاً أن الاتجاه لدى المتصوفة تمثل في معارضة السلطة على تنوعها، فالزهد في ما يمتلكه السلطان من مال وجاه يجعل المتصوف أكثر قوة في مواجهته وأعلى قدرة في التمرد عليه لذا كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة، خياراً استراتيجياً لمعظم المتصوفة.

3- يقودنا هذا إلى حقيقة مفادها أن اهتمام المتصوفة بالسياسة لم يكن اهتماماً سياسياً أو تاريخياً فحسب، كما خُيّل للبعض، وإنما كان، إضافة إلى ذلك، اهتماماً صوفياً، ينبع من مقام «التقوى»، ويدور حول معاني العظة والاعتبار بالمعنى الصوفي، ففي الوقت الذي تلهج فيه العامة بحديث ساستها بغية «الحظوة»، يولع المتصوفة أيضاً بحديث الأمراء والجبابرة، ليقفوا على تصاريف قدرة الله فيهم. ينبع اهتمامهم من إيمانهم بمسؤولية الإنسان اتجاه مجتمعه ووطنه وامته.

4- بديهي أن يعارض المتصوف واقع الظلم الذي يتكشف له بعين بصيرته، وأن يلتزم الحق والعدل والصدق، فهم أهل الحق يتوقون إلى معانقة الحق وسيلة للخلاص من الواقع المرفوض، إذ يرون السلطة في أيدي من لا يفقه شيئاً غير التلذذ بامتيازاتها، بينما يريدونها سلطة مثقف، يحس في ذاته بما يزيد على المطالب الخسيسة للحكام مثالاً للقطب الذي يرى بنور الله ويتصرف وفق إرادته. وحقيقة القول، إن اتخاذ المتصوفة مقاطعة السلطة مبدأ لا يعني عدم اهتمامهم بشؤون الخلق، وإنما على العكس من ذلك، يعد موقفهم هذا امتداداً لموقف بعض الصحابة والتابعين الذين اعتزلوا الساحة السياسية، معلنين رفضهم القاطع الدخول في سجالات سياسية ذات صبغة دينية،

5- يرفض المتصوف سلطة الدين التي وظفت في خدمة السلاطين جاهداً، ويسعى عن السلطة السياسية بارتفاعه المحايد عن هوى المتصارعين على السلطة، وبخاصة بعدما بدا لهم واضحاً أن الأمة ماضية في طريقها إلى التضحية بالشريعة لصالح السياسة، ومن ثم كان موقف المتصوفة شديداً تجاه فقهاء السلطة الذين تحالفوا مع ممثلي السلطة السياسية، مؤسسين لأقوى أنواع التسلط والقهر والاستبداد، حيث لم تتوقف أولوية السياسي على الديني والحال هذه ـ على جانب دون آخر وإنما تشمل كل الحقول التي تمارس فيها السلطة،فعلها فمن تبنّي منهج تصفية الخصوم وقمع المعارضين والمناوئين باسم الدين، إلى تبرير الاستعانة بالأعداء في مجابهة الثورات الداخلية، إلى إزاحة الأنداد داخل محيط الأسرة الحاكمة... إلخ، في كل الأحوال كان واقع ممارسة السلطة المستغلة للدين هو مصدر الداء.

ومن ناحية أخرى يتجاوز خطر الممارسة الصوفية نطاق المريد ليشمل

6-  أشد ما تخشاه السلطة السياسية هو التأييد الجماهيري الذي يحظى به فقيه أو ولي أو أي ممثل لسلطة دينية على الأخص وفكرية عامة، فبإمكان من يستحوذ على هذا التأييد أن يحوله إلى ثورة لا تبقي ولا تذر، وبخاصة في الأوقات التي تكون فيها تلك الجماهير مصابة بحالة من الاحتقان السياسي رافضة السلطة وسياستها، وبدلاً أن من خليفة يوصي لوصيه قائلاً الله الله في الناس، نجد بعض الوصايا تحذر: العامة العامة!

وكأنها وباء.

7- تنظر السلطة، كل سلطة، إلى الناس عموماً بوصفهم أدوات، أو عقبة،

أو عبئاً : أما الناس الأدوات، فهم مادة بتصرف سلطات مثلث الحصار والهدر والغبن، يتم التلاعب بهم وبمصيرهم لخدمة سطوة السلطة وتوطيد أركانها، أو تأزيل وجودها في صراعها مع السلطات الأخرى [كتوظيف الفقهاء قديماً والمثقفين حديثا)

وأما الناس العقبة ومصدر التهديد فهم الخصوم الذين يشككون في شرعية المستبد [ كالمتصوفة والعلماء المستقلين والمعارضين السياسيين ] . . .

وأما الناس العبء فهم تلك الشرائح الزائدة عن الحاجة . . . إنها تلك الكتلة البشرية المكررة والتي لا لزوم لها [ ممن تسميهم السلطة، كل سلطة، العوام - الغوغاء - الرعاع .

وتكشف رسائل المأمون المتعلقة بمحنة خلق القرآن عن تصور السلطة

للرعية المحكومة أو العوام، يقول في واحدة منها: «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة[!!]، ممن لا نظر له ولا روية (...) أهل جهالة بالله (...) وقصور لضعف آرائهم ونقص عقولهم

***

علي عمرون - أستاذ مادة الفلسفة

......................

الهوامش

* هو محمد بن علي بن عمر بن محمد، أبو عبد الله التميمي المازري، عرف بالإمام الفقيه المالكي، ولد في عام 453هـ في مدينة المهدية في تونس، برع هذا الفقيه في العديد من العلوم منها؛ الأدب والطب والرياضيات، وبات يعرف بأحد أشهر فقهاء عصره في حفظ الأحاديث وشرحها، كما عرف بعلمه الغزير وورعه وتواضعه

02* جاءت وفاة الإمام المازري في يوم 8 من ربيع الأول عام 530هـ، الموافق 12 تشرين الأول لعام 1141م، عن عمر ناهز الثالثة والثمانين، قضاها هذا العالم الجليل في العلم والعمل، وكانت الوفاة في مدينة المهدية، في عهد الحسن بن علي بن يحيى بن تميم المعز، وقد كان لموت الإمام المازري أثراً عظيما لدى نفوس الناس حيث حزن عليه الجميع.

03*  يوسف بن محمد بن يوسف المعروف بابن النحوي (513هـ/1119م):

ومن اثار ابن النحوي :

التذكرة في علوم الدين، قال عنه الغبريني: "هو كتاب،حسن طالعته وكررت النظر فيه فرأيته من أجل الموضوعات في هذا الفن.

2- النبراس في الرد على منكر القياس، قال عنه الغبريني: "هو كتاب مليح على ما أخبرت عنه ولم أره، وأنا شديد الحرص عليه".

3- له كتاب في علم التذكير: "التفكير فيما تشتمل عليه السور والآيات من المبادئ والغيايات"، قال عنه الغبريني: هو كتاب جليل سلك فيه مسلك أبي حامد في كتاب الأحياء، وبه سمي أبي حامد الصغير .

السعي المفرط للمثالية والكمال كان معاناتي لفترة ليست بالقصيرة للحد الذي منعني من رؤية أياً من المزايا والنعم التي امتلكتها يوماً لإعتقادي دوماً أنه في مكانٍ ما.. في ظروف أخرى.. يوجد المزيد. مزيداً من النجاح، مزيداً من السعادة، مزيداً من الجمال، مزيداً من الحياة.

قضيت أجمل سنوات عمري في الجحيم، في جهنم لاتكتفي ولا تمتليء كلما غذيتها بالإنجازات صرخت بي "هل من مزيد؟". غير مدركة في ذلك العمر المبكر لحقيقة أن جميع ماكان حولي يدفعني كانثى إلى ذلك الإزدراء وأن الشعور بالأقلية والنقص أمام معايير الجمال ومعايير النجاح عبارة عن مؤامرة ممنهجه أوجدتها قوى خفية شديدة المكر والخبث لتسليع الجمال وإعطاؤه أكبر من قيمته الفعلية لضخ الأرباح لشركات التجميل وإنعاش الإقتصاد بطرق ملتوية.

إختلاف معايير الجمال لكل عصر لها بعد تاريخي غرائزي يعود لبداية الحضارة حينما أدرك الرجل أن لجسد المرأة أغراض أخرى غير الوظائف الرئيسية التي خلقت فطرياً لأجلها للتكاثر والإنجاب وبواعث أخرى للمتعة ثم بدأت تلك الحاجة تكبر بالتدريج حتى وصلت إلى مانشهده اليوم من هوس وإضطراب جماعي.

تقول الكاتبة والناشطة في حقوق المرأة فترة التسعينات "نعومي وولف" في كتاب خرافة الجمال :" كيف تستخدم معايير الجمال ضد المرأة، ومع تصاعد القوة الإقتصادية والإجتماعية للمرأة زاد الضغط عليها لتلتزم بمعايير غير واقعية للجمال البدني.

نشأة نموذج الجمال الحالي كأداة للسيطرة على المرأة

قبل الثورة الصناعية، كانت القيمة الاجتماعية للمرأة تقاس على أساس ما تؤديه من أعمال في الإطار المنزلي. وتشكلت حياة المرأة آنذاك حول عدد من السمات مثل القدرة على العمل، والقوة البدنية، ودرجة الخصوبة، وليس الجمال البدني.

لكن مع حركة التصنيع، تزايدت مستويات الحرية والحقوق التي حصلت عليها واضطر النظام الرأسمالي للبحث عن أسلوب أدق وأكثر خداعًا يُطيح بما اكتسبته المرأة من حريات ويخفّض من نطاق قوتها.

وتفتّق ذهن هذا النظام الأبوي عن نموذج للجمال غير واقعي، أسمته المؤلفة “خرافة الجمال”، والتي تحتفظ بالمرأة سجينة بين أسوارها، وفي حالة تنافسٍ مدمّر مع نفسها، ومع الأخريات من النساء. ونظرًا لأن مواصفات هذا النموذج تتغير وتتباين من فترة لأخرى، فإنّ هوية المرأة المنصاعة لهذه الخرافة تظلّ في حالة من الهشاشة والضعف، وفي حاجة دائمة لتعزيزٍ وتأييد من الخارج بدلاً من استخلاصه من رضاها عن ذاتها.

وتدعي هذه الخرافة أنّ هناك موصفات لا يمكن تحديدها بدقة تسمى “الجمال النسائي”، والتي يجب على المرأة أن تبذل قصارى جهودها للتحلي بها، ومتابعة تطوراتها وصرعاتها والحفاظ عليها. وعزز من هذه الخرافة بعض وجهات النظر التي ترى أن الجمال صفة بدونها تصبح المرأة دون قيمة. وكم رأينا من نساء يحتللن قمة تخصصاتهنّ المهنية يتعرّضنَ لضغوط شديدة لتبدين في صورة جميلة طبقًا لهذه المعايير غير الواقعية".

الكاتبة سلطت الضوء على ثورة الجمال فترة التسعينات وما قبلها فكيف بما يحدث الآن من الضغط الإعلامي والإعلاني ومنصات التواصل الإجتماعي بترسيخ مفهوم الجمال البدني كقيمة أساسية ووحيدة للمرأة التي تتحكم بمستقبلها بشكل كامل، نعم أصبح الجمال غاية وتحقيق للنجاح المالي والوظيفي لنأخذ على سبيل المثال مسابقات ملكات الجمال ما ان تحصل إحداهن على اللقب حتى تنهال عليها العروض العالمية من شركات التجميل والأزياء والإنتاج السينمائي للحصول على أدوار رئيسية في المسلسلات والأفلام حتى إن لم تملك أدنى مقومات الفن او الذكاء والإبداع يكفي فقط أن تكون جميله لتحصل على كل ماسعت إليه أي انثى أخرى وعملت جاهدة للحصول إليه، والأمر ينطبق كذلك في الوظائف وتقريبا معظم المجالات.

قبل عدة أيام وقعت عيني على مقطع فيديو على إحدى منصات التواصل الإجتماعي بإستخدام فلتر للوجه صمم بناءً على وجه فنانه مشهورة والتشوه الذي عانت منه جراء عمليات التجميل، صدمت من شراسة التنمر واللإنسانية وغياب الوازع الأخلاقي خلف الأسماء المستعارة للإستهزاء بهذه الأنثى والتحجيم الكامل لفنها وانجازاتها الجميلة حتى بالرغم من تصريحاتها بالأزمه النفسية التي مرت بها من تلك التعليقات لم تجد من يرحمها، فهناك حسابات تديرها للأسف إناث يعززن هذا الإستعراض النرجسي التافه ضد بعضهن والتنمر على كل من ظهرت لها تجعيده تحت عينها او حبه في وجهها او شعرة بيضاء واحدة في رأسها والتبجح على الآخرين بالفوقية وفرض معايير الجمال والأناقه وأسلوب الحياة الباذخ وبالمقابل التقديس المفرط لمن يملكن هذه المواصفات بدل من تعزيز ثقة المرأة بنفسها وتذكيرها بقيمتها الذاتية بعيداً عن الهوس التافهه.

أتكلم هنا بمنتهى الشفافية والصدق محاولة تذكير غيري بقيمتهن الحقيقية وإنقاذ مايمكن إنقاذه من الثقة بالنفس وراحة البال التي أخيراً شعرت بها  حينما وضعت معاييري الخاصة للجمال والنجاح والقوة بعيداً عن الخضوع تحت سيطرة التفاهه والموضة بعد جهد كبير في الوعي والقراءة والتأمل وتحليل الوعي الجمعي.

إفعلي عزيزتي ماتريدين .. فأنتِ جميلة دائماً كما أنتِ

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

......................

مرجع:

The Beauty Myth، Naomi Wolf "an American feminist author"

يقول أَحدُ المشتغلينَ باللاهوتِ: "النفسُ الداخِلِيَّةُ الحقيقيَّةُ ليست هي الأنا، بل الأنا هو صورةٌ عن هذه النفس الداخلِيَّةِ". وأنا أُضيفُ لِما قالَهُ بِأنَّ الأنا هو صورة مُشَوَّهَةٌ مُتَضَخِمَةٌ عن هذه النفس.

القُرآنُ الكَريمُ تحدَّثَ عن ثلاثِةِ أنواعٍ من الانفس، وفي الحقيقةِ، أنَّ القُرآنَ الكريمَ تَحَدَثَ عن نفسٍ واحدةٍ تعرضُ عليها عوارضُ ثلاثةٌ.

1- النَّفسُ الأمّارةُ بالسوء: وهي النَّفسُ التي تأمُرُ صاحبَها بالسوء والمعصِيَةِ، يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى عن هذه النفسِ:(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).يوسف: الآية:(53).

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41) . "النازعات:الآية:40-41" . والنفس التي تميل للشهوات وتحتاجُ الى ارادةٍ صلبَةٍ لكبحِ جماحِها، هي النَّفسُ الأمّارَةُ بالسوء. وكذلك قولُهُ تعالى:

(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ). البقرة: الاية:(87).

والنفسُ الأمّارةُ بالسوء هي التي تسير مع هواها ولاتقبلُ أَيَّ أمرٍ يخالفُ هواها.

2- النفس المُطْمَئِنَّة: وهي النفس التي وصلت الى حالةَ الرضا والاطمئنان يقول اللهُ تعالى:

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)الفجر: الاية:.(27)- (28) . وهناك نفسٌ اخرى هي:

3- النَّفسُ اللّوامَةُ: وهي التي تلومُ صاحبها على الشنيعِ من افعاله، يقول الله تعالى:(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).القيامة:الآيَة: (2) .

وظيفةُ النَّفسُ الداخِليَّةُ

النَّفسُ الداخِلِيَّةُ الحقيقيَّةُ التي وصفها بهذا الوصف هذا الباحثُ اللاهوتيُّ المُشارُ اليهِ في أولِ المقال، هي النفسُ التي تقودُ صاحبَها الى الحَقِ جلَّ جَلالُهُ يقول الله تعالى:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).فصلت:الآية: (53).

الآياتُ الأنفسيَّةُ كما هي الآياتُ الآفاقِيَّةُ تقود الانسانَ الى الله تعالى " حتى يتبيّنَ لهم أنَّهُ الحق"، والنفس الداخِلِيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ تكتشفُ الصواب، ففي قصة ابراهيم الخليل وتحطيمه للاصنام، وقوله لهم ( بل فعلهُ كبيرُهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون)، هنا الله تعالى يقول:

(فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ). الانبياء:الآيَة: (64).

وكذلك هذه النفس الداخليَّةُ تستيقن الحق أي تصل الى حالة اليقين، كما في قولهِ تعالى:

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).النمل:الآيَة:(14).

ولعالم النفس النمساوي صاحب مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد تقسيم ثلاثي في تحليلِهِ للشخصيَّةِ الانسانية هي:

1- الهُوَ (id): وهي التي تُعَبِّرُ عن الجانبِ البيولوجي للشخصِيَّةِ، والذي يمَثِّلُ الى الشهواتِ والغرائزِ والميولِ الهابِطَةِ.

2- الأنا(ego): وهي الحالةُ التي تتوسطُ بينَ الهُو والأنا العليا، ويعتبرها فرويد واقعيَّةً تتعاملُ مع الوقائعِ.

3-الأنا العليا(super ego): وهي النقيض للهو، وهي مثاليَّةٌ تهتَمُّ بالمثل العليا والأخلاق والقِيَم.

الأنا في القرآنِ الكَريم

تحدَّثَ القرآنُ الكريمُ عن هذهِ الظاهرةِ المَرَضِيَّةِ في الشَّخصِيَّةِ وهي تَضَخُمُ الشَّخصِيَّةِ وَانتِفاخُها . تحدث القرآنُ الكريم عن قِصَّةِ يُوسُفَ وكيفَ أَنَّ اخوتَهُ ارادوا قتلَهُ واخيراً صارَ قرارُهم النهائي أن يُلقُوهُ في غيابت الجُب. هذهِ هي الانا

المُشتقة من الأنانِيَّة، والتي تكمن فيها كلُّ الرذائلِ الأخلاقِيَّةِ . يقول الله تعالى:

(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).يوسف: الآية: (9).

وكذلك الأنا المتضخمة المريضة هي التي اوحت الى قابيل بقتل اخيه هابيل، يقول الله تعالى:

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). المائدة:الآية: (30).

ابليس والأنا

ابليس الذي رفض السجود لآدمَ استكباراً وعُلُواً، رفض السجود لآدمَ ولم يطع الأمرَ الآلهي لانَّ الانا والغطرسةَ ملأت كيانَهُ ؛لأنَّهُ كانَ عابِداً ولم يكنْ عبداً حسب تعبير العلاّمَة الشيخ حسن زاده آملي رحمه الله تعالى. يقول الله تعالى:(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). الأعراف: الآية: (12).

وهذا هو حالُ فرعون الذي تضخمت الأنا عنده فاحتقر موسى عليه السلام بقوله:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).الزخرف:الآية: (52) .

وتجاوز فرعونُ كلَّ الحدود بدعواه الالوهية، يقولُ الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ). القصص: الآية:(38). وكذلك ادَّعى فرعونُ الربوبيَّةَ بقول الله على لسانه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ). النازعات:الىية:(24).

وقارون الذي عَزَّى ماعنده من ثروةٍ هائلَةٍ الى مايمتلكهُ من عبقرياتٍ ومواهب ونسيَ رَبَّهُ الذي اعطاه الرزق وخلق له عقلَهُ وملكاته، الانا اذا تجاوزت حدودها تنسى الله تعالى . يقولُ اللهُ تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ).القصص:الآية:(78).

وهناك انموذجات كثيرةٌ قَدَمَها القُرآنُ الكريمُ للذين اهلكتهم اناهم وانانيتهم كصاحب الجنتين والامثلةُ كثيرةٌ في كتاب الله تعالى.

تبين لنا من خلال هذه الجولة الفوارق بين النفس الداخلية وبين الانا الذي هو صورة مشوهة ومضخمة لهذه النفس، ومن هذه الفوارِقُ أيضاً هو كون النفس ينساها صاحبُها، أَمّا الأنا فلاينساها ؛ لأنَّها حاضرةق عنده . طل هذه الشواهدُ تثبتُ بشكلٍ لاشكَ فيه أَنَّهما متغايران.

***

زعيم الخيرالله

"كانت قصة حرب طروادة (1184 - 1194 ق.م) أسطورة في كتاب ديني يوناني ألفه هوميروس بين القرنين التاسع والثامن ق.م، وحين اكتشف الآثاري الألماني هانريش شليمان سنة 1870م مدينة طروادة تحولت إلى حقيقة تأريخية، فهل يمكن أن يحدث ذلك لقصة موسى وفرعون وغيرها من القصص التوراتية التي تكرر بعضها في الكتب الدينية الأخرى كالأناجيل الأربعة والقرآن الكريم مستقبلا؟"

هذه هي الخلاصة التي توصلت إليها الدكتورة منى حجاج أستاذة التأريخ اليوناني والروماني في جامعة الإسكندرية بمصر ورئيسة جمعية الآثار فيها، فهي لا ترى ما يمنع من حدوث ذلك، وعلى حدوثه إنما تعلق قرار اعتبار قصة موسى وفرعون في مصر القديمة حدثاً تأريخياً أما الآن فهي قصة في كتاب ديني هدفه الهداية كما تقول وليس التأرخة طالما عدمنا وجود الأدلة المادية الملموسة التي تؤكدها.

كان للسيدة حجاج لقاء فيديوي مع مدون وصانع محتوى هو أشرف عزت الذي يعرِّف نفسه على صفحته على مواقع التواصل بـ "المؤلف والطبيب والمخرج السينمائي". ورغم نفوري غالبا من الفيديوات التي يتكاثر صناعُها غير المتخصصين والعابثين والمصابين بحُبِّ الظهور والشهرة "الطشة" هذه الأيام، ولكني أجد أحيانا في بعضها لقاءات مفيدة مع باحثين وأساتذة جامعيين متخصصين مفيدين يعرفون عمَّ يتحدثون بطريقة منهجية علمية متواضعة تفيد المشاهد والقارئ.

شاهدت مؤخرا تسجيلي فيديو؛ الأول وسأحدثكم عنه الآن والآخر في مناسبة أخرى. وسأنقل بعض تفاصيله وأعلق عليها بلغة الإعلامي الذي يعرض المعلومة ويحللها في سياقها لا بلغة الباحث المتخصص عارض العلم المنهجي ومُنشئ المفاهيم والنظريات فلست باحثاً أكاديمياً متخصصاً في الآثار والإناسة:

اللقاء إذن كان مع د. منى حجاج وفيه ذكرت المعلومة التالية بخصوص كلمة "فرعون" ومشتقاتها وقدمت مقاربة ذكية وعملية ولكنها توفيقية رغبوية أيضا لقضية شديدة الحساسية هي عن التناقض بين الكتب الدينية كالتوراة والإنجيل والقرآن من جهة وبين كتب علوم التأريخ والآثار الحديثة. هذه المقاربة العملية التي تنأى عن لغة التكفير وشطر الباحثين في المشهد العلمي إلى فريقين واحد مؤمن والأخر ملحد - على طريقة نظرية الفسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، لابن لادن - وليس إلى آراء ونظريات وفرضيات مختلفة ومتخالفة أحياناً، تقبل التصويب والتخطئة. ولكنها مقاربة قد لا تحل التناقض أو بين السرديتين الدينية والآثارية العلمية وفي الأقل تطرحها من منظار تحليلي هادئ ورصين ينأى عن التكفير الديني للخطاب الآثاري العلمي وحملته أو التسفيه العلماني المتطرف للطرح الديني والمدافعين عنه:

تقول السيدة حجاج: "كان الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وإلى الآن نسميهم كذلك، ولكن في الواقع لم يكن هذا اسم الفراعنة الحقيقي في مصر قديما.

فالمؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو وهو مؤرخ موثوق لدى الباحثين المحدثين عاش في مصر لفترة وتجول فيها، وكتابه عن مصر يكاد يكون وصفا حقيقيا لمصر في زمنه "بعد سنوات قليلة من انتهاء العصر البطلمي" ولكنه لم يستعمل كلمة فرعون بمعنى ملك في عصر الأسرات بل كان يستعمل عبارة "الملوك الأقدمون" فقط.

 * أما المؤرخ مانيثو أو مانيثون فكان كاهنا مصريا من العهد البطلمي في القرن الثالث ق.م، وكان مؤرخا مهما جدا ولم يستعمل كلمة فرعون أيضا. وهذا المؤرخ يعتبر المصدر الثالث للتأريخ المصري برمته بعد البرديات أولا، واللوحات الحجرية ثانيا. وكان مانيثو يستعمل أسماء الملوك وألقابهم الملكية وهي عدة أنواع وليس منها كلمة فرعون أو عبارة "بر عا".

* كيف ولدت كلمة فرعون: كانت كلمة بازيليوس اليونانية تعني الملك في العصر البطلمي في مصر. وقبل البطالمة، أي في عصر الأسرات كانت كلمة فرعو أو برعا أو فرعا تعني الملك. وكان الشعب المصري في العهد البطلمي مؤلفا من أجناس مختلفة والأساس هو المصريون بلغتهم المصرية القديمة والإغريق بلغتهم اليونانية. الملوك كانوا أغريق يونانيين ولكنهم كانوا يأخذون بأزياء (الشعر المستعار والتنورة الملكية) وعادات وتقاليد المصريين القدماء. فكان المواطن المصري يسمي الملك اختصارا برعو / القصر الكبير" أما إذا كان المواطن يونانياً فيسميه بازيليوس. ثم أصبح الإغريق يسمون الملوك المصريين السابقين فراعنة وما يزال هذا الاسم موجودا الى الآن. ولكن في الواقع هذا لم يكن اسم الملك المصري قديما.

* نعلم أيضا أن الملك المصري القديم كان له ثلاثة ألقاب ملكية. فحين يتوج الملك المصري يطلق عليه أولا اللقب الحوري. وهو لقب ديني مقدس نسبة إلى الإله حورس الإله الأكبر إله الخير والعدل الذي انتصر على الشر. اللقب الثاني هو اللقب النبتي بنسبة إلى الإلهتين السيدتين (نخبت ووجدت) اللتين تمثلان شمال مصر وجنوبها. أما اللقب الثالث وهو اللقب الرسمي الأكبر ولقب التتويج فهو "نسيو بيتي" وهو اللقب الشائع للملك والذي يجمع بين شمال مصر وجنوبها أيضا.

* أما في الكتابة الرسمية في دواوين الدولة فيشار إلى الملك بألقابه الثلاثة ولكن في التفاصيل، وحين يجري ذكر الملك يقال اختصارا "القصر الحاكم" بلفظ (بر عا) فعل كذا أو كذا. واستمر ذلك حتى عصر الدولة الحديثة في عصر تحتموس الثالث في الأسرة 18 فهو عهده تحولت دلالة عبارة "بر عا / القصر الحاكم" من الدلالة على البيت الحاكم إلى الدلالة على شخص الملك نفسه. وتحولت العبارة "بر عا" إلى برعو" ثم تحولت في اليونانية إلى (برعون) بإضافة نون الأسماء العلمية في اليونانية. وفي العبرية خلطوا بين الباء والفاء فقالوا فرعون (الباء المثلثة أي البابلية قريبة جدا من الفاء وهناك كلمات كثيرة تكتب بالباء البابلية وتلفظ بالفاء. ع. ل).

* المحاوِر د. أشرف عزت: المؤرخ الملقب بأبي التأريخ هيرودوتس من القرن الخامس ق.م زار مصر وكتب عنها والتقى بالمصريين من كل الفئات ولم يكن المصريون يشيرون إلى ملوكهم بكلمة فرعون.

-د. منى حجاج: وهذا صحيح لم يكونوا يشيرون إلى الملك بكلمة فرعون بل كانت هذه العبارة تستعمل للاختصار فقط في الكتابات الرسمية.

* د. أشرف عزت: تاريخ مانيثون المؤرخ المصري كتب في فترة قريبة من إنجاز الترجمة السبعينية للتوراة في العهد البطلمي فلماذا لم نجد أي ذكر في كتاب مانيثون لموسى والفرعون، وقصة بني إسرائيل في مصر هل هناك خلل في الترجمات؟

- د. منى حجاج: أولا تاريخ مانيثون أسبق من ترجمة التوراة، ولكن ليس بزمن طويل. ومع ذلك لا يمكننا أن نطلق أحكاما كهذه حول الترجمات ووصفها بالمرتبكة أو أن خطأ متعمدا قد ارتكب. إنما التوراة كتاب ديني الهدف منه الهداية وليس كتاباً في التأريخ. وهذه القصص التي وردت في الترجمة السبعينية للتوراة وردت في القرآن الكريم كقصة سيدنا موسى كما وردت في العهد القديم والعهد الجديد "الإنجيل" فهل يمكن أن نعتمد على القصص الديني كمصادر تأريخية؟ هنا علينا ان نترك كل شيء في مجاله ومساره فليس لدينا أدلة ووثائق على الثلاثة.

وتواصل د. حجاج كلامها فتقول: تجنبا للحساسية التي يثيرها موضوع المقابلة بين التوراة وعلم الآثار التوراتي وأعطي مثالا يوضح رأيي في الموضوع: الشاعر اليوناني الأعظم هوميروس ألف الإلياذة والأوديسة وفيهما تحدث عن حرب طروادة وعن وقوف الآلهة إلى جانب البشر وعن حروب طويلة وزوال دول وقيام أخرى وقد اعتبر كل ذلك أساطير. وكان كتاب الإلياذة كتابا مقدسا لدى الإغريق طوال عدة قرون وظلت قصص طروادة مجرد أساطير لدى الباحثين والمؤرخين إلى أن جاء علم الآثار الألماني هانريش شليمان (1822 – 1890م) وكان مؤمنا بأن الأمر يتعلق بحقائق وليس بأساطير وظل ينقب ويبحث إلى أن عثر على بقايا مدينة طروادة وفيها بقايا الحروب. هنا تحولت الأسطورة في كتاب اعتبر كتابا دينيا إلى حقيقة تأريخية. إلى أن يحدث ذلك بالنسبة لقصة فرعون وموسى أنا مستعدة اعتبرها حدث تأريخي.

أعتقد أن هذا الحل الذي تقدمه د. حجاج للتناقض الظاهر بين الخطابين الديني المقدس والمدافعين عنه والخطاب الاخر العلمي الآثاري الإناسي هو حل توفيقي كما قلت وهو يؤجل حسم في الموضوع لا يمكن الحسم فيه بالطرق التقليدية السريعة والباترة وربما أثار هذا الحل احتجاج أهل الخطاب الديني لأنهم سيتهمونه بالتهاون مع الملحدين والمشككين بالخطاب المقدس من جهة، واحتجاج أهل الخطاب العلمي الآثاري والإناسي الحديث لأنه حل تلفيقي ورغبوي من وجهة نظرهم، ولكننا يمكن أن نرى خلف هذين الاحتجاجين شيئا من الإيجابية في هذا الحل وما يمكن ان نسميه الموضوعية التاريخية فحادثة تحول طروادة من حقل الأسطورة الدينية إلى الحقيقة التأريخية هي حادثة حقيقية يمكن ان تتكرر ولا يمكن الجزم باستحالة تكرارها خصوصا وأن ما تم الكشف عنه من آثار قديمة في فلسطين ومصر والعراق وعموم بلاد الرافدين هو أقل من ربع الآثار الموجودة فعلا كما يقول الخبراء والمتخصصون. ثم أنه حل يخفف على الباحثين في هذه الحقول من أجواء التشنج والتعادي السياسي والتكفيري ويضفي الكثير من التوازن والرصانة والهدوء على الأبحاث التي يقدمها أهل الخطابين المذكورين.

***

علاء اللامي

............................

* فيديو لقاء مع د. منى حجاج:

https://www.youtube.com/watch?v=fE6O8uKe9IE&ab_channel=AshrafEzzat

في عصر مفعم بالتحديات والتغيرات السريعة، (وصعوبة منع الانفتاح الحاصل تقنيًا عن الأبناء)، باتت التربية الذاتية ضرورة مُلحة لاستمرارية التطور في الجوانب الثلاثة: الفردي والأخلاقي والمهني. وفي قلب هذه العملية، يكون الرقيب الداخلي حارسًا وموجهًا للذات. فما هي آلية تفعيل الرقيب الداخلي ودوره في تعزيز التربية الذاتية؟

الرقيب الداخلي هو ذلك الصوت الذي ينبع من أعماق الوجدان، ويسعى لتقويم السلوكيات والقرارات بمنظور نقدي بنّاء. يتشكل هذا الرقيب من خلال عملية تعلم مستمرة، ترتكز على القيم والمبادئ الشخصية، ويعد بمثابة بوصلة أخلاقية ترشد الفرد إلى السلوك الإيجابي.

حاول جاك لاكان المحلل النفساني الفرنسي الوقوف على عمق النفس البشرية واضِعًا نظريات فرويد نقطةَ انطلاق ومن ثم تطويرها، فتناول في نظريته فكرة  مفادها "أن اللاوعي مبنيٌّ بما هو لغة". فتعمل الرقابة الذاتية في هذا السياق من خلال اللغة والرموز، حيث الرغبات والأفكار التي لا يمكن أن يُعبر عنها بشكل مباشر بسبب القيود الاجتماعية أو الخوف من العقاب تجد طريقها إلى الوعي من خلال أشكال مشفرة ومحرفة.

فيمكن أن تظهر الرغبات المكبوتة في شكل أحلام أو زلات لسان، أو أعراض نفسية، وهي تمثل الطرق التي يحاول من خلالها اللاوعي التحايل على الرقابة الذاتية.

حينما بلورها لاكان في معنى واحد هو (اللاوعي) والذي عرفه بأنه ” الكلام المتجاوز للفرد،..أي غير المتاح له حتى يعيد وصل ما انقطع من حديث الوعي ..ذلك الفصل من تأريخي(أو تاريخي؟) الشخصي الذي يتكون من صفحات خالية أو أكاذيب: إنه الفصل الذي حذفته الرقابة…الفجوة التي ينفذ منها العصاب لإعادة تحقيق التناغم مع عناصر الواقع ….المتعذر تحديده (1)“.

على سبيل المثال، قد يكون لدى الشخص رغبات أو مشاعر لا يريد أو لا يستطيع التعبير عنها بوضوح لأسباب متنوعة. هذه الرغبات لا تختفي فحسب، بل يمكن بدلاً من ذلك أن تظهر بطرق غير مباشرة مثل النكات، الزلات اللسانية، أو الأعمال الإبداعية. لاكان يسمي هذه العملية "البنية السيميائية لللاوعي".

لاكان يرى أن الرقابة الذاتية لا تنتج من القواعد الاجتماعية الواعية فحسب، بل أيضًا من قوانين اللاوعي نفسه، والتي تعمل وفقًا لمبادئ مثل الاستبعاد والإحلال. كما أن هذه القوانين تجعل الرغبة الحقيقية للشخص غير قابلة للوصول بشكل مباشر حتى للفرد نفسه.

بمعنى آخر، لاكان يرى أن الرقابة الذاتية ليست فقط نتيجة للضغوط الخارجية، ولكنها أيضًا جزء من التشغيل الداخلي للاوعي.

في نظريته يتمثل اللاوعي بما يشبه اللغة، وهو يعمل وفقًا لقواعد وبنى مشابهة لتلك الخاصة باللغة.

فتكون الرقابة الذاتية، في هذا السياق، هي عملية يتم من خلالها تحريف أو كبت الرغبات والأفكار غير المقبولة وفقًا لمعايير الأنا الأعلى والمعايير الاجتماعية.

إن استخدام لاكان مصطلح "الميكانيزمات الدفاعية" إنما هو إشارة إلى الطرق التي يحمي بها الفرد نفسه

من الصراعات النفسية والرغبات غير المقبولة. وتشمل هذه الميكانيزمات الكبت والإنكار والانفصال... إلخ، والتي تُعَدُّ طرقًا يحاول بها الفرد أن يحافظ على تماسكه النفسي. كما يتحدث أيضًا عن "الأخر" بوصفه عاملًا مهمًا في عملية الرقابة الذاتية، حيث إن الأخر يمثل القوانين والمعايير الاجتماعية التي يتم تداخلها مع القواعد اللاوعية. بمعنى آخر، الرقابة الذاتية تتأثر بالتوقعات الاجتماعية وبالهياكل اللاوعية للفرد.

لذلك، يمكن القول بأن فكرة لاكان عن الرقابة الذاتية تنطوي على تفاعل معقد بين اللاوعي واللغة والهياكل الاجتماعية، وهي تعكس كيف يمكن أن تُكبت الرغبات وتُحرّف بطرق متنوعة وغير مباشرة.

وبما أن التربية الذاتية هي فعل تطوير الذات بشكل مستقل ومستمر عبر الاعتماد على الموارد الداخلية. يأتي دور الرقيب الداخلي ليكون الداعم الأساسي في هذه العملية من خلال مراقبة الذات وتقويم الأفعال، فيسهم الرقيب الداخلي في تشكيل موقف نقدي يفتح المجال للتحسين والتطوير المستمرين.

ما هي التحديات الي تسهم في تفعيل الرقيب الداخلي؟

 تُعدُّ التربية الذاتية إحدى الركائز الأساسية لتطور قدرة الإنسان في التكيف مع مختلف الظروف الحياتية. والرقيب الداخلي جزء لا يتجزأ من هذه العملية، حيث يعمل محفزًا وموجهًا للسلوك الفردي. وحتى يتم  استخدام فكرة الرقيب الداخلي، يجب زراعة الرقابة الذاتية في نفس الطفل كهدف من الأهداف الرئيسية للتربية النفسية الفعالة، كون الرقابة الذاتية تساعد هذا الطفل على تطوير الوعي بالذات والتحكم في الانفعالات واتخاذ القرارات المسؤولة عبر بعض الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها لتعزيز الرقابة الذاتية لديه، مثل:

-القدوة الحسنة: فالأطفال يميلون إلى تقليد السلوكيات التي يرونها.

-تعليم مهارات التعرف إلى العواطف: الطفل ممكن أن يشعر بشيء ما دون أن يتمكن من معرفة المسمى المناسب له بشكل صحيح؛ فهو حجر الزاوية للتحكم في العواطف وتنظيمها.

-تمكين الطفل من اتخاذ القرارات و مناقشة الخيارات وعواقبها للإسهام في تطوير التفكير النقدي والرقابة الذاتية.

-تعزيز الصبر من خلال ألعاب وأنشطة تتطلب الانتظار وتأجيل الإشباع، يمكّن تعليم الطفل قيمة الصبر والانتظار للحصول على المكافآت.

-إعطاء المسؤولية من خلال تكليف الطفل بمهام ومسؤوليات مناسبة لعمره ليتعزز شعوره بالاستقلالية ويساعده على تطبيق الرقابة الذاتية في تنفيذها.

-الثناء على السلوك الإيجابي؛ فالاعتراف بالسلوك الإيجابي يعزز تكراره.

-كيفية تحديد المشكلات وإيجاد حلول مبتكرة لها؛ لزرع مهارات التفكير النقدي والتحكم في الردود الانفعالية.

-تعليم تقنيات بسيطة للاسترخاء مثل التنفس العميق، العد للعشرة، أو التأمل لمساعدته على التحكم في انفعالاته.

-اللعب التفاعلي لتعليمه مهارة تتطلب التناوب ومشاركة الأدوار فيكتسب الطفل الصبر واحترام دور الآخرين.

-التواصل الفعال فعندما نتحدث مع الطفل بشكل منتظم حول مشاعره وأفكاره، ونستمع إلى ما يقوله بانتباه واحترام. هذا يعزز الثقة بالنفس والتعبير الصحي عن الذات.

-تعليم التفهم والتسامح مع الأخطاء الذاتية وأخطاء الآخرين وأن التعلم من الأخطاء جزء من النمو الشخصي.

من المهم أن تكون هذه الأساليب متسقة ومستمرة في التطبيق، وأن يشعر الطفل بالدعم والحب خلال هذه العملية. فإن تطوير الرقابة الذاتية ليس عملية تحدث بين عشية وضحاها بل هي رحلة تربوية مستمرة.

***

ريما آل كلزلي

...........................

* جاك لاكان، اللغة…الخيالي و الرمزي، إشراف: مصطفى المسناوي، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2006م، ص11

 

كانت لديّ فكرة وما زالت تجرى عندى مجرى البديهة وهى أن أسس العلوم الإسلامية المعتبرة ترتد إلى الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليه، وكنت اعتبر هذه الفكرة هى المضمون الدينى الإسلامى على الحقيقة بعيداً عن المؤثرات الخارجية، فإذا كانت العلوم الإسلامية تأثرت فى التطور بالفلسفات الخارجة عن الإسلام إبّان حركة الترجمة بين أبناء الأمم التى كانت تغشى الكوفة وحواضر العراق والشام ولا سيما السريان، سواء كانت مصادر يونانية أو فارسية أو غيرها من المصادر؛ فإنّ مصدر هذه العلوم فى الحضارة الإسلامية ومنشأها يرتد إلى الإمام علىّ تحقيقاً لا استشرافاً.

وهذا هو المضمون الذى يعول عليه ولا يعول على شيء سواه.

ففى كتاب نهج البلاغة فيض لا يجارى من آيات التوحيد وتأمل الحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد ظهرت قبل ترجمة الآراء والمصطلحات والمذاهب الإغريقية إلى العالم الإسلامى، ومن يلتمس كشف هذا المضمون الدينى لمنشأ العلوم الإسلاميّة مجردة عن المصادر الخارجية ما عليه سوى الاطلاع على نهج البلاغة كيما يتبيّن له الفارق الأصيل بين ثقافة وثقافة، أو بين حضارة قائمة على القرآن الكريم ومؤسسة عليه وبين حضارات سابقة أو لاحقة لا تمت إليه بصلة ولا بنسب.

استنبط الإمام علىّ الأصول الأولى لعلم النحو ولم يكن لأحد أوفر سهماً فى إنشاء هذا العلم من سهمه. وقد تواترت الأخبار أن أبا الأسود الدؤلى شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب إذ ذاك فقال له : اكتب ما أملي عليك ثم أملاه أصولاً منها : إنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. وأن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشىء ليس بظاهر ولا بمضمر.

وإنّما يتفاوت العلماء فى معرفة ما ليس بظاهر ولا بمضمر، يعنى اسم الإشارة على قول بعض النحاة، ثم قال لأبى الأسود : أنحى هذا النحو يا أبا الأسود؛ فعرف العلم باسم النحو من يومها.

فالذى استنبط الأصول الأولى لعلم النحو كما استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة والتصوف هو الإمام، وإن لم يكن أول من كتب الرسائل وألقى العظات وأطال الخطب على المنابر فى الأمة الإسلامية، لكنه بلا شك كان هو أول من ظهرت فى أسلوبه آثار دراسة القرآن الكريم والاستفادة فى الإنشاء من قدوته وسياقه. فتأتى له أن يأخذ بسليقته الأدبية من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة ومن أنماط التفكير الجديد الذى ابتدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية.

قيل لابن عباس: أين علمك من عمّك؟.. فقال: كنسبة قطرة من المطر  إلى البحر المحيط. فمن الصحيح إذن أن يقال إنّ علياً هو أبو علم الكلام فى الإسلام لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه.

ومن الصحيح كذلك أن يُقال إنّ علياً هو المؤسس الحقيقى للتصوف فى الإسلام. قال ابن الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التّصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن فى جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرّح بذلك الشبليّ والجنيد وسريّ السقطي وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التى هى شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسنادٍ متصل إليه عليه السلام». ولعلّ لهذه الخرقة دلالة باطنة تذهب بالإشارة إلى الكساء الخيبريّ وترمز إليه.

حقيقةً إنّ العلوم الروحيّة والذوقيّة فى الإسلام ترتد إلى الإمام عليّ وأبناء فاطمة الزهراء. والعلوم العقلية فى الإسلام ترجع إلى ابنه محمد ابن الحنفية مؤسس المكتب، وقد صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إذ قال: «أنا مدينة العلم وعليُّ بابها».

(وللحديث بقيّة).

***

د. مجدي إبراهيم

استهداف الماضي هو استكشاف للحاضر واستشراف للمستقبل

غالبا"ما نستهجن محاولات التحيين للماضي وعمليات الاستدعاء للتاريخ من لدن قسم من الكتاب والباحثين في الشؤون الاجتماعية والإنسانية، من منطلق كونها تسعى لتوظيف موروث الأول واستثمار سرديات الثاني لمآرب سياسية ومكاسب اقتصادية، غالبا"ما تقف خلفها وتحتمي تحت ظلها جهات حزبية متسلطة وتيارات إيديولوجية مهيمنة. ولعل هناك من يعترض علينا بسؤال مشروع مفاده ؛ ما الداعي الى النبش فيما مضى من أحداث وما العبرة في استدعاء فيما أدبر من وقائع ؟!، لاسيما وأن كل عمليات النبش والاستدعاء كان مردودها – في الغالب الأعم - عبارة عن نكأ للجروح وإثارة للضغائن. هذا في حين ان جل مجتمعات العالم المعاصر تمكنت من طي صفحات ماضيها وغادرت حصون عصبياتها، لتيمم وجهها صوب معطيات الحاضر وما يزخر به من حراك وتحول وتطور من جهة، وتتطلع باتجاه توقعات المستقبل وما يضمره من نذر مقلقة، أو يبشر به من آمال عراض.

والحقيقة التي لابد من الإقرار بها والتعاطي معها هي ؛ انه ليس كل عملية استحضار للموروث التاريخي واستدعاء للمخزون المخيالي، تتضمن بالضرورة مقاصد تجييش (العصبيات) المتباغظة واستنفار (الكراهيات) المتقابلة التي غصّت بإحداثها الدامية ووقائعها المدمرة صفحات التاريخ القديم والحديث، لا بل وحتى المعاصر. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار رأي فيلسوف التاريخ (هايدن وايت) الذي مضمونه ان (التاريخ ليس ما وقع ماضيا"، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه الى المستقبل. فنصوص التاريخ المدون لم تقل كل ما مضى، إذ ما زال هناك مغيب ومسكوت عنه كثير في بطون التاريخ). فان الأمر، والحالة هذه، لا يتطلب إسدال الستار على وقائع الماضي والتعتيم على أحداث التاريخ، كما لو أنها مخلفات أسطورية وبقايا خرافية عفى عليها الزمن، أو اللجوء الى عمليات الحذف والإضافة بما يدعم مواقفنا السياسية ويسوغ مصالحنا الاقتصادية ويعزز تصوراتنا الإيديولوجية. بقدر ما يتطلب استدعاء تلك الأحداث والوقائع لاستجلاء الحقائق المطموسة واستخلاص العبر المهملة، بعد أن يتم العمل على تفكيك عقدها ونقد مضامينها. 

وهنا لابد من التنويه، بان المجتمعات التي تماثل المجتمع العراقي من حيث تعدد الخلفيات التاريخية وتباين المرجعيات الدينية وتنوع الأصوليات الثقافية لجماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية، لا تفتقر نخبها من السعي الدائم والمستمر لاستدعاء مواريث ماضيها واسترجاع أحداث تاريخها، لا بل أنها قد تتفنن في إيجاد الأساليب والوسائل التي من خلالها تستطيع تحقيق ذلك الاستدعاء والاسترجاع على نحو يكاد أن يكون مرضيا"(نوستالجيا") في بعض الأحيان. ولكن لننتبه الى حقيقة أن تلك المساعي والمحاولات تنطوي – في غالبيتها العظمى - على مقاصد (تعبوية) (وتحريضية) تتميز بطابعها العاطفي والشعبوي، بحيث تفضي الى خلق حالة من الهياج السيكولوجي لدى (جمهور) أغلبه مستلب ومستقطب سمته الأساسية الافتقار الى الوعي التاريخي، تسهل السيطرة على إرادته والتلاعب بخياراته والتضحية بمصالحه والاستهانة بدوره، وهو الأمر الذي يضاعف الأزمات ويعمق الاحتقانات ويؤجج الكراهيات.

والحال، لكي تكون عمليات الاسترجاع للماضي والاستدعاء للتاريخ ذات جدوى ومردود ايجابي، ليس فقط على صعيد حاضر المجتمع بمختلف مكوناته الاجتماعية وتكويناته الثقافية فحسب، وإنما على صعيد ما يضمره المستقبل من وعود مبشرة بالنسبة لتطور أجياله كذلك. فانه لابد لهكذا عمليات استرجاعية من التسلح بمنهجيات (النقد) الموضوعي وأساليب (التحليل) العقلاني لكل ما يمت بصلة لترسبات ذلك الماضي وتمثلات ذلك التاريخ، بحيث لا يستحيل مسعى الاستهداف للموروث الى مجرد تصيد للأخطاء وتأشير للانحرافات التي أفرزتها التجارب والممارسات هنا أو هناك، والتي غالبا"ما تفضي – في حال القراءات الاسقطاية والتصورات النمطية - الى تحويل (النقد) المرجو للواقع الى (جلد) للذات كما هي الحالة السائدة.   

  ***

ثامر عباس

يظل الخطاب الديني الذي بدأه الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ أكثر من أربعين عاما مثيرا للاهتمام والمتابعة، بسبب من تميّزه وغزارته وروحه الإنساني المتسامح، وحرارة اللغة التي يجري التعبيرُ بها عنه. وقد شدّني، كما شدّ الكثيرين من الذين تابعوا هذا الخطاب وكتبوا عنه، إعجابي بالرجل، وليس فقط بجِدة هذا الخطاب واختلافه، لأنه يجسّد في خلقه الرفيع وسلوكه العملي أنموذجا للشخصية العراقية المثقفة، والمتحررة من الإلزامات التقليدية التي تميل برجل الدين عادةً نحو هذا الطرف أو ذاك. فنحن هنا أمام رجل دين عراقي آخر، يمتلك خطابا قادرا على اجتياز الحواجز الموضوعة في طريق كل الناس الذين يمارسون حياتهم في مجتمعات إسلامية ما يفتأ رجل الدين فيها يحتكر سلطة المعرفة الدينية والفقهية والتشريعية التي تحدد ما هو محلل، وما هو محرم في سلوك "المكلفين" من أتباعه في هذا المذهب أو ذاك. ومن النادر الوقوف بين ركام هذه الخطابات القديمة والمعاصرة، الشفوية والمكتوبة، على هذا النوع الذي يجعل الدين في خدمة الإنسان، بصرف النظر عن مذهبه ولونه وعرقه، ولا يجعل الإنسان خادمًا لهذا الدين وأصحابه.

عبد الجبار الرفاعي يجعل من نفسه مكمّلا ووريثًا لسلسلة من المفكرين ورجال الدين الذين أنجبتهم أو احتضنتهم الحوزةُ النجفية في عهود مختلفة من عصرنا الحديث مثل محسن الأمين، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد جواد البلاغي، ومحمد رضا المظفر، ومحمد تقي الحكيم، ومحمد باقر الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، وغيرهم ممن أشار إليهم الرفاعي نفسه لتميّزِهم ومحاولتهم الخروجَ بفكرهم واجتهاداتهم عن الخط التقليدي الذي يحضر في خطابه النقل أكثر من العقل.

وهو إذ يتفق مع رجال الدين هؤلاء، الذين يخرجون على "خطاب تبجيل كلّ شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيء من عناصره استيعابا نقديا، والجرأة في نقد بعض المقولات والآراء، وعملهم في البحث عن آفاق لقراءة النص وتفسيره في سياق الواقع ومعطياته واستفهاماته، ومحاولتهم الكشف عن شيء مما هو نسبي في ميراث المتكلمين والفقهاء"، لا يخفي معرفته بأن بعضَ محاولاتهم تلك لم تغادر المناهجَ التقليدية الموروثة بشكل كامل، فيما نجح هو في فعل ذلك، وحاول منذ البدء أن يجعل من خطابه الديني مختلفا، يمدُّ به إلى شريحة أوسع من الناس، كما لو كان  جسرا  يعبُرُ من خلاله نحو أولئك الفقراء مثله في حياته المبكرة، التي تشكلت فيها بوادرُ وعيه الديني ويقظته الروحية الأولى. يستنهض الغنى الكامنَ في نفوسهم، ويحرّك بلغته البسيطة المؤثرة ما ينطوون عليه من عوالم خير داخلية لا حدود لثرائها واستعداداتها الفطرية التي وُجِد الدينُ في الأصل لإرواء ظمئها الأنطولوجي، وتوفير كرامتها، وتخليصها من الاغتراب الميتافيزيقي الملازم لحياتها، وغير ذلك مما يرافق حياتنا جميعًا من قلق وارتباك وجودي ظاهر أو مضمر.

وهو يقول إن أكثر من سبقوه على هذا الطريق كانوا غيرَ قادرين على توظيف مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديث في فهم الدين ونقد التراث، وما هو مستتر من نظم إنتاج المعنى الكامن فيه.

وعلى الرغم من أننا لا نكتفي في هذا الكتاب، كما سيرى القارئ، بعرض ما نظنّ أنه يمثل المفاصل الأساسية في خطاب الدكتور الرفاعي، ونحاول أن نقدم له قراءةً نقدية فاحصة، نعتقد أن لا جدوى من الاكتفاء بعرض جوانب من فكر الرجل من دونها، فإننا ندرك أيضًا أن التناول العقلي أو المنطقي المجرد لهذا الخطاب الموزّع على عدد كبير جدا من الكتب والمباحث، قد لا يتمثل بشكل صحيح روحَ هذا الخطاب، وربما يسيءُ إلى صورته العامة التي تشيع فيها فيها روحُ التسامح والمحبة، وتحيل مجملُ المباحث الكلامية الجديدة فيه إلى رؤية عرفانية صريحة أو مقنعة غير قابلة في نفسها لأي مقاربة نقدية لا تراعي طبيعتها الأخلاقية والروحية، أو المشاعر الوجودية الخاصة لأصحابها. وهي،كما سنرى، مطروحةٌ ضمن تجربة ورؤية واعية ومركبة، ومسلحة بمعرفة تراثية وعصرية تكرهُ الخضوعَ لآليات المناهج الفلسفية والمنطقية التي لا تفصل بين الديني والدنيوي، أو بين المقدس وغير المقدس في موضوعات محددة تقتضي وجوبَ التسليم بنوع من العلاقة الخاصة والاستثنائية بين البشري والإلهي الذي يجسْده الوحيُ النبوي، وقدسيةُ النص القرآني، وما يتصل بذلك من أمور إشكالية يتمّ بحثها باستمرار في كتابات الدكتور الرفاعي، كالعلاقة بين الدين والأيديولوجيا، أو بينه وبين الدولة، والطريقة التي يجري فيها (تحيين) النصوص القرآنية على الطريقة الهرمنيوطيقية التي جرت عند الغربيين للكتاب المقدس منذ زمن طويل. وأسفرت عن نتائج حاسمة في علاقة المجتمعات الغربية بديانتها المسيحية، التي جعلت من عبارة السيد المسيح في إنجيل مرقص التي تقول "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" معيارًا ومثالًا للعلاقة المزدوجة بين الديني والدنيوي. وهي، كما نعرف، عبارة تمَّت مناقلتُها من سياقها التاريخي الخاص بسؤال بعض اليهود للسيد المسيح عن جواز دفع الجزية لقيصر، لتكون إجابتُه عليها دليلًا على هذه العلاقة التي لا يجب أن يتدخل فيها الإلهي المقدس في الدنيوي الخاص بمجريات الحياة المدنية، مثلما لا يتدخل الدنيوي في حياة المقدس ذي الطبيعة الروحية المختلفة. في حين ما زالت هذه العلاقة الخاصة ببناء الدولة والسلطة السياسية الحديثة في مجتمعاتنا الإسلامية مختلطة غامضة، على ما أصابها من عدوى التأثر بالنظام السياسي الغربي خلال العهد الاستعماري لبلادنا أو بعده. حيث ينفصل القول النظري فيها عن الواقع العملي، وتكتسب فيه عبارة السيد المسيح السابقة معنى آخر قد يكون فيه "ما لله وما لقيصر لله وحده" في إطار الرؤية الدينية المتسلطة، و"ما لقيصر وما لله كليهما لقيصر وحده" في إطار الرؤية الدنيوية المنفلتة. وكل ذلك يحدث في إطار ما نقرؤه ونشهده من مفارقات وغرائب مرافقة لتكوين الدولة وأمثلتها الواقعية التي يمتلئ بها تاريخنا الإسلامي القديم والحديث.

وفي الوقت الذي لا يجري فيه الاعتراض عندنا على وجود عنوان (الإسلام دين الدولة) من الناحية الدستورية، لا نجد أحدا يبالي بغياب هذا الإسلام أو عدم حضوره، ولو بروحه الأخلاقي والتربوي في مفاصل هذه الدولة. وهو ما يشير إلى جانب من بنية الانفصام العميقة القائمة بين النظرية والواقع لدى نخبِنا الدينية وأحزابها السياسية بشكل خاص، ومجتمعنا العربي الإسلامي بشكل عام.

الدعوة إلى "أنسنة الإسلاميات، لا أسلمة الإنسانيات"، التي أطلقها الدكتور الرفاعي تظل شعارًا لدى المتنورين القلّة من رجال الدين في هذه الدولة، ولكنه شعار غيرُ قابلٍ للاشتغال لدى آخرين غيرهم، ما زالوا يتدخلون في حكم هذه الدولة ويعبثون بمصالح الناس فيها تحت عناوين وشعارات إسلامية وديمقراطية مضلّلة.

وما ينطوي عليه خطابُ الدكتور الرفاعي في هذا الشأن من شفافية وغنى دلالي، وما يوفره لقارئه من عناصر اتزان عقلية ونفسية، هو الذي يحفّزنا على جعل بعضِ جوانبه موضعَ نقاش واستفهام من أجل تعميقه وإثارة الأسئلة المعترضة أو المحفّرة للحوار والنقاش حوله. وصاحبُ هذا الخطاب لا يضيق بالأسئلة، ويقول إنه لا يملك، مثل أصحاب التدين السياسي، إجاباتٍ جاهزة تتكرر فيها الشعارات التي لا معنى لها، ولا قيمة.

ومنطلقُنا في كلِّ ذلك يظل هو الإيمان المشترك بالدين عنصرًا لا غنى عنه في حياة كل إنسان، وبالحق سبحانه وتعالى خالقًا ومدبرًا لهذا الكون، لا ينتج من المواقف والآراء الفكرية التي تتبع القول برفعه من دواخلنا غيرُ أن يصبح كلُّ شيء مباحًا في هذا العالم، كما كان ديستويفسكي يقول.

وكوني أديبًا أو ناقدًا غيرَ متخصص بالشأن الديني لا يكفي للقول بأني أتدخل هنا فيما لا يعنيني، بل ربما يمنحني، على العكس من ذلك، ميزةَ رؤية هذا الخطاب من زاوية أخرى قد لا تتوفر بنفس القدر والدرجة لمتلقي هذا الخطاب من علماء دين ومتخصصين. فالمنهج ونظرية المعرفة الخاصة بنظم التفكير في إطرها العامة ليست حكرا على رجال دين ومثقفين دون غيرهم، لاسيما في خطاب يتعدى الأساليب التقليدية، ويحاول أن يستخدم المناهج العلمية والفلسفية في مقاربة موضوعاته الدينية. إضافةً إلى وجود علاقة خاصة بيني وبين الدكتور الرفاعي قد لا يعرفها غيري وغيرُه، تدفعني إلى إعارة مزيد من الاهتمام لما يكتبه ويقوله دون خوف من التجاوز على النظرة الموضوعية المحايدة. فهذا الرجل الذي هو أستاذ ومعلم في هذا الشأن للكثيرين في العراق وخارجه على نحو مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك المتكلم نفسه، كان في يوم ما تلميذا من تلاميذي!

نعم، تلميذ من التلاميذ الكثر الذين لا أعرفهم، ولا يعرفونني أحيانا إلا في وقت متأخر تقود إليه أحيانًا نوعٌ من الصدفة المحض. وليس غريبًا في تاريخ العلم أن يصبح الطالبُ أستاذا لأستاذه في هذا الجانب أو ذاك من العلم. وهو شيء أتشرف به ولا أنكره، لأن قراءتي المتأخرة لعبد الجبار الرفاعي واطلاعي على سيرته الذاتية قد أضافت لي الكثير، وعلمتني درسا آخر من الدروس الأخلاقية والتربوية الجديرة بالتقدير والاعتبار، يقدمها رجلُ دين عرفاني ومثقف استثنائي في واقعنا العراقي والعربي المعاصر. وأنا لا أتردد من الاعتراف بذلك وتقديم الشكر والعرفان بالجميل لصاحبه. فضلًا عن أن تلك التلمذة لم تكن تزيد في الواقع على الصورة الرسمية والشكلية التي لا علاقة خاصة فيها بين التلميذ وأستاذه، حينما كنت أنا وإياه في ثانوية قلعة سكر بمحافظة ذي قار التي انتقل إليها عبدالجبار الرفاعي بعد إكماله الابتدائية في مدرسة القرية القريبة من قضاء الرفاعي نهايةَ الستينات من القرن الماضي، فيما كنتُ قد بدأتُ حياتي الوظيفية مدرسًا للغة العربية، ثم مديرًا لهذه الثانوية الكبيرة خلال الأعوام ١٩٦٧و١٩٧٠ نفسها، ثم في مدينتي ومسقط رأسي (الشطرة) التي أصبحتُ مديرًا لمتوسطتها في نفس السنة التي انتقل عبد الجبار الرفاعي هو الآخر إلى المدينة، التي ألّفت مرحلة تكوينيّة بالغة الأهمية في حياته الفكرية واتجاهه الديني اللاحق، كما في حياتي واتجاهي الأدبي السابق واللاحق. وقد عمدت إلى وضع نص القصيدة التي نشرتها بمجلة الآداب اللبنانية عام ١٩٧٠ أثناء وجودي في مدينة قلعة سكر لأشير إلى أني كنت أنا الآخر مشغولًا منذ ذلك الوقت الذي مضى عليه الآن أكثرُ من نصف قرن بالبحث عن طريق مناسب للإيمان والمعرفة.

كلُّ هذا ونحن لم نلتق ولَم نتعرف على بعضنا بشكل مباشر بعد، مع أن ما قرأناه فيما بعد من سيرة بعضنا البعض في كتب متبادلة كان بالنسبة إليّ على الأقل صادمًا، أحيانًا، فيما يتصل بالظروف المتشابهة لمعاناتنا المشتركة، شأنَ الكثيرين من أمثالنا من أبناء الجنوب العراقي الفقراء؛ وما يواجهونه من ضيق وعَنَتٍ لا يغطي مع ذلك على طموحاتهم الأدبية والفكرية ورغبتهم في الخروج إلى عالَم أوسع من الحياة والفكر، على ما هنالك من اختلافات فردية طبيعية في الأهداف والتطلعات والظروف الشخصية والعائلية المرافقة.

وحين أجرينا أولَ اتصال بالتلفون بيننا بعد سنين طويلة من ذلك التاريخ البعيد، الذي لم نلتق فيه حتى الآن وجها لوجه، لم ينكر الدكتور الرفاعي أن صوتي مألوفٌ بالنسبة إليه، ويكاد أن يعرفه من نبرته كما قال لي. في حين أشعرُ أنني حين أكتب عنه الآن فإنني اكتبُ عن جانب غائب أو مفقود في حياتي نفسِها.

وقد كان لخالي المرحوم عطا القزاز مدرس العربية المعروف في الكرخ أؤخرَ القرن الماضي وبداية القرن الحالي، دخلٌ في هذا التعارف المتأخر الذي حدث بيني وبين الدكتور الرفاعي. فقد أُولعَ هذا الرجل في سنواته الأخيرة بفكر الدكتور الرفاعي الديني على نحو استثنائي، وجعل من قراءة البحوث التي تنشرها مجلته (قضايا إسلامية معاصرة) وكتاباته رفيقا ملازما له خلال قعوده الطويل في بيته، على نحو عجيب تحول فيه من حال إلى حال. وقد كان التبدّل الذي طرأ على حياته وفكره الذي انتقل فيه من يساري ماركسي إلى متدين مؤمن بسبب من تلك القراءات مثيرًا للحيرة والتساؤل بالنسبة إليّ ولكل من يعرف الأستاذ عطا من أفراد عائلته وأصدقائه. وقد أخبرني الدكتور عبد الجبار فيما بعد أنه كان يبعث بكتبه بيد المهندس فراس ابن المرحوم عطا المقعد في بيته في الإسكان غربي بغداد، بعد أن نقل له تحيات أبيه وشغفه بقراءة كتاباته. وينقل إليّ الدكتور عبد الجبار متأثرا كيف أن المرحوم عطا كان يعبر له عن امتنانه وشكره في كل مرة يتصل فيها به عن طريق الهاتف قائلا له: "إنك أنقذتني، وجعلتني أعثر ُعلى نفسي، وعلى المعنى الذي كنتُ أبحث عنه لحياتي".

وأنا أروي هذه الحادثة الصغيرة التي يظهر من خلالها مدى التأثير الذي مارسه فكرُ الدكتور عبد الجبار الرفاعي الديني الجديد على الكثير من الناس الذين يعرفهم أو لا يعرفهم، لأبيّنَ، كما ذكرت، جانبًا من السبب الشخصي الذي عزّز فيّ الرغبة والفضول للتعرف على الرجل وفكره، ثم الكتابة عنه وأنا في مقامي البعيد في كندا.

وقد سبق للناقد العراقي المعروف الدكتور عبد الله إبراهيم أن التقى قبلي بالدكتور عبد الجبار، وكتب عن تأثيره فيه، على ما بينهما من اختلاف، مقالا في جريدة الصباح وصف فيه ما رآه في شخصية الرفاعي من نبل ونقاء وتواضع وطيبة، وكيف أن تعليم الدكتور عبد الله الدنيوي الحديث لم يمنعه من أن يخصه الدكتور الرفاعي باهتمامة وتكوين علاقة خاصة معه. بعد أن كان كما يقول شديدَ النفور من ذلك النمط من رجال الذين تخمّرت كتلتها في الأروقة المعتمة، وعلى نحو لا يختلف كثيرا عما كنتُ اشعر به، أنا الآخر، إزاءَ بعض رجال الدين قبل أن أتبيّن حقيقة عديدين منهم من خلال هذا الرجل الذي تتلمذ إليهم وعاش بين ظهرانيهم وخرج عن منهج الكثيرين منهم. فللرّفاعي، كما يقول الدكتور عبد الله "شيوخٌ معمّرون، أثقلت رؤوسهم العمائمُ السّود والبيض، وأطالوا المقام في الظّلال، وتلقّف عنهم أصول الفقه، وعلم الكلام، والعقائد، فضلاً عمّا كان يتلقّاه طلبة علوم الدّين عن شيوخهم من دروس المنطق الصّوري، والنّحو القديم، والبلاغة المدرسيّة، بوصفها من الوسائل الضروريّة لمقاربة العلوم الدّينيّة، كما انحدر إليهم ذلك من شِعاب الماضي، فالمرجّح أن يكون قد أوغل في كلّ ذلك حتّى حاز درجة الدكتوراه فيه، وأحسب أنّه تآلف مع تلك الأجواء بفعل المعاشرة، ودوام التعلّم، والتّعليم، والمدارسة، مدّة طويلة، قبل أن ينأى بنفسه عن ذلك". (د عبد الله إبراهيم، جريدة الصباح، ٢٩/١١/٢٠٢٣)

والدكتور الرفاعي يشير في أحد كتبه إشارةً دالة إلى أن أكثر الباحثين ممن يمتلكون خبرةً بمناهج القراءة الجديدة عندنا في العراق يهربون من توظيفها في قراءة النص الديني، وغالبا ما يوظفونها في قراءة النص الأدبي والأعمال الفنية والإبداعية المختلفة الأخرى.

وتلك حقيقة من حقائق الثقافة العراقية التي يغلب عليها الطابعُ الأدبي والشعري أكثرَ من الطابع الفكري والعقلاني. وعبارة محمود درويش التي تقول "كن عراقيًا لتكون شاعرًا"، لا ينبغي أن تُقرأ وفق جانبها الإيجابي الجميل فقط، بل هناك جانب سلبي لا يجب إغفاله، هو أننا، نحن العراقيين، كثيرا ما نفكر ونتصرف بطريقة شعرية لا تراعي الضرورات الواقعية.

وربما كان واحدٌ من نتائج غياب الكتابات الفلسفية والاجتماعية الفاعلة في المجال الديني في وسطنا الثقافي العراقي قد دفع عديدا من الكتاب والأدباء إلى تولّي زمامِ المبادرة، ومحاولة تناول يوميات الواقع العراقي، وما فيه من إشكالات فكرية واجتماعية ونفسية، وما خلّفته الحروب الخارجية والداخلية في هذا الواقع على الذات العراقية الجريحة من ندوب غير قابلة للشفاء بسهولة.

وهذه الكتابات غيرُ معنية في جملتها بوجود الدين والروح الإيماني، أو عدم وجودهما فيما تكتب. فالمهم والأكثر إلحاحا في سنوات الجمر والجبهات الملتهبة هو وجود البشر أحياء، وتوفر حاجاتهم الأساسية، وليس كيفية ما سيكونون عليه من ماهية في هذا الوجود. والتقى المفاجئُ والعودة إلى الله يمثّل نوعا من ردة الفعل والخوف من المصير المجهول أحيانا أكثر من الإيمان المتولد عن قناعة وتأمل بالموضوع الديني، الذي ما فتئ الدكتور الرفاعي يكافح من أجل البحث عنه والتأكيد عليه ونشره ممزوجا بهذه المسحة الخفيفة من التصوف العرفاني أو ما يقع في دائرته.

وما يضيفه الدكتور الرفاعي إلى عبارته السابقة من تفسير لانصراف الباحثين عن استخدام أدواتهم المنهجية في الكتابة عن الأمور الدينية، يتمثّل في انهم "يبحثون عن ملاذ يحتمون فيه من غضب أنصار التراث" قد لا يكون صحيحًا قدْرَ صحةِ اختلاف التوجهات الناتجة عن نوع التعليم والمواد المقدمة في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية العراقية التي كان نقلُ المناهج الأدبية التراثية والغربية الحديثة الخاصة بالنقد الأدبي والفني يزيد على ما سواه من برامج ومواد دينية وفلسفية متوفرة. ولم تكن الحوزة الدينية الشيعية في النجف الأشرف، كالأزهر الشريف في مصر، منفتحةً على تعليم ديني ودنيوي يغطي كامل التراب الوطني ويصنع كوادر دينية مثقفة بثقافة دينية وعصرية متوازنة. وقد خرّجت النجف وبقيةُ مدن الجنوب العراقي الشيعية أعدادًا من الشيوعيين أو المنتمين للفكر اليساري الماركسي أكثرَ مما خرجت من رجال دين ومتدينين.

ولذلك فإن الموقف الذي عبّر عنه الدكتور عبد الله إبراهيم في هذا المقال يعبّر بالفعل عن موقف الغالبية العظمى من هؤلاء الأدباء والكتاب العراقيين من ذوي التعليم العام والثقافة الأدبية والنقدية الحديثة، التي يغلب عليها طابعُ الفكر اليساري الذي لا يميل، ولا نقول يعادي، إلى صورة رجل الدين التقليدي كما عرفها هؤلاء الأدباء في تعليمهم المدرسي وحياتهم الثقافية العامة.

وعنوان كتابنا هذا الذي يجمع بين (التصوف العرفاني) و (علم الكلام الجديد) في إطار واحد، ناتجٌ عن طبيعة التركيب أو المزج الذي حاول الدكتور الرفاعي نفسُه إدخاله على مجمل مدونته والفكرية والكلامية التي لم يكتفِ فيها برفض أغلب ما رآه فيها من تراث الفقهاء والمتكلمين القدماء، وإنما أراد أن يضفي عليها مسحةً أخلاقية وروحية متمثلة في ما يسميه تصوف العرفان والعرفاء. وسنكرّس الكلام في الفصل الأول من الكتاب للجانب الفقهي والكلامي وفلسفة الدكتور الرفاعي في النظر إليهما، فيما سيجري تناولُ الجانب العرفاني التصوفي في كل فصل من فصول الكتاب الأربعة، نظرا لحضوره الكثيف في كل منظومة الدكتور الرفاعي الدينية، التي لا شك عندنا في أن التصوف في صورته العرفانية الموجودة في كلّ كتب الدكتور تقريبًا، هو حصيلة شخصية ونتاجٌ لتجربة فردية، وتأثر بقراءات رجال دين وعرفاء آخرين حسب تسميته، مثل محي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، والعلامة الإيراني محمد حسين الطبطبائي (١٩٠٤ – ١٩٨١)، الذي منحه الدكتورُ الرفاعي على صعيد الدراسة والتدريس قدرًا من الاهتمام لم يمنحه لآخر سواه من المفسرين والفلاسفة والعرفاء المعاصرين. ولعلّ التشابه الذي وجده الدكتور الرفاعي بين حياة هذا الرجل (الإلهي) وبين حياته نفسها أن يكون ملهما ومعينا له على فهمه، والارتباط الصميم بفكره وآرائه الكلامية ومواقفه الصوفية أو العرفانية. فقد عاش الطباطبائي رحمه الله بين تبريز والنجف وقم، مثلما عاش الرفاعي نفسه، في رحلة معاكسة، بين مدينة الرفاعي والنجف وقم، حياةَ نضال وكفاح لا شبيه لها في قسوتها وقدرتها على معاندة الظروف الاجتماعية والسياسة المحيطة. ولكن ذلك لم يثنه، كما لم يثنِ تلميذه العراقي عن موصلة الدراسة والتحصيل العلمي الذي أنتج هذا القدر من الوعي والإحاطة بالمعارف الدينية والفلسفية، التي فتح الله عليهما فيها بما ينير بصيرتهما وبصيرة الكثيرين من بعدهما، ولنرى في حصيلتها هذا النوع من الرجال الذين يعدلون في ثقلهم المعرفي والروحي والأخلاقي الآلافَ من الذين خرجوا من بينهم، فأعانوهم أو وقفوا في وجوههم، ولكن ما أودعه الله فيهم من أدبٍ وسماحة خلق يقتضيهما الدينُ الحق، لا يجعلهم بعيدين عن أن يكونوا في الموضع الذي يكون فيه أيُّ واحد من أولئك الفقراء في المادة والروح من الذين خرجوا من بينهم، ولم يتسنَ لكثير منهم أن يقرأوا أو يسمعوا مثل هذا الصوت الذي يمكن ان يتسرب بيسر إلى أعماقهم.

وتلك، في تقديري المتواضع، هي القيمةُ الأساسية لخطاب الدكتور الرفاعي الروحي والأخلاقي، أعني سعة أفقه وانتشاره وقدرته على ملامسة جوانب حاضرة أو غائبة عن حياة كثير من الناس، بما في ذلك البسطاء منهم.

واللهَ تعالى نسألُ التوفيقَ والسداد.

***

الدكتور ضياء خضير

تورونتو/ كندا/٢٠٢٤

....................

* مقدمة لكتاب "الرؤية العرفانية والكلامية الجديدة: قراءة نقدية في مشروع عبد الجبار الرفاعي الديني"، تحت الطبع.

* ملاحظة: تنشر هذه المقالة بالتزامن مع نشرها في العدد الجديد من مجلة الأقلام "العدد الرابع، السنة الثامنة والخمسون، ٢٠٢٤"، التي تصدرها دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة ببغداد.

 

عرض: جيفري ب. ساكس**

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تُنسج التمثيلات الرقمية في أنشطة حياتنا اليومية، عندما نضغط على الأرقام الموجودة على هاتفنا لإجراء مكالمة، أو حل مسألة حسابية، أو تفسير رسم بياني، فإننا نفكر من خلال تمثيلات الأرقام. في كتابه "الأرقام وتكويننا"، يقدم كاليب إيفريت، وهو عالم لغوي معرفي من خلال التدريب، بحثًا مكثفًا في جذور تفكيرنا العددي، حيث يجمع بين الأبحاث من علم الآثار والأنثروبولوجيا الثقافية واللغويات وعلم الأعصاب الإدراكي وعلم النفس التنموي. وهو ينظم البحث من خلال حجة رئيسية: الأرقام، كما يؤكد، هي اختراع بشري، وفي استخدامنا لهذا الاختراع وتطويرنا له، قمنا بتحويل عوالمنا وتفكيرنا ونستمر في تحويلها.

في الجزء الأول من كتابه المكون من ثلاثة أجزاء، يرسم إيفريت تمثيلات للأرقام التي اخترعتها المجموعات الثقافية. ويستعرض التمثيلات في مجتمعات اليوم وكذلك تلك الموجودة في العصور القديمة وعصور ما قبل التاريخ. ما يثير اهتمام إيفريت بشكل خاص هو التنوع المذهل في أشكال ووظائف الأعداد. وهو يأخذ في الاعتبار القطع الأثرية القديمة من العصر الحجري القديم التي تحمل علامات إحصاء، مثل قرن الوعل مع شقوق منقوشة بشريًا في أمريكا الشمالية، أو علامات إحصاء في لوحات الكهوف، ويستمد أمثلته من مناطق متباعدة جغرافيًا في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وأفريقيا. ويتكهن بأن علامات الإحصاء، سواء على القرون أو لوحات الكهوف، تم اختراعها لتسجيل انتظام عوالمنا، مثل مرور الوقت. يستعرض إيفريت أيضًا الظهور التاريخي لأنظمة تقليدية متنوعة للتمثيل العددي، بما في ذلك نظام القيمة المكانية عند حضارة المايا القديمة، ونظام عقد الكيبو عند الإنكا، والسجلات المسمارية لبلاد ما بين النهرين القديمة. بالانتقال إلى الحياة المعاصرة، يصف إيفريت التباين المذهل بين أنظمة الأعداد الحديثة، مشيرًا إلى مجموعات حية مثل موندوروكو الذين لديهم كلمات لنقل تمثيلات 1 و 2 ولكن فقط إشارة غير دقيقة إلى كميات أكبر. وبشكل عام، فهو يرى أن الأشكال التمثيلية التي اخترعها البشر تتجسد في بناء العوالم الثقافية/المادية المتنوعة للحياة اليومية.

في الجزء الثاني، ينتقل إيفريت إلى ما نعرفه وما يمكن أن نتعلمه من الإدراك العددي في ثلاثة أنواع مختلفة من المجموعات السكانية: المجموعات الثقافية/ اللغوية التي تستخدم أنظمة عددية محدودة للغاية (مثل أنظمة موندوروكو المحدودة عدديًا)، والرئيسيات غير البشرية والأنواع الأخرى ، والرضع / الأطفال الصغار. ويبين من خلال مراجعته أن كل مجموعة من هذه المجموعات يمكنها في كثير من الأحيان التمييز بين عنصر واحد أو عنصرين أو ثلاثة عناصر، لكن التمييزات التي تنطوي على كميات أكبر من ثلاثة غالبًا ما تكون غير دقيقة. وهو يستخدم النتائج التي توصل إليها هؤلاء السكان لدعم الحجة القائلة بأن البشر، على مر التاريخ التطوري، قد وهبوا بشكل طبيعي قدرات محدودة ولكنها حاسمة للتمييز بين الكميات الصغيرة، وبالتالي فإننا نرى هذه القدرات في الأنواع غير البشرية، والأطفال الرضع، والمجموعات الثقافية. مع أنظمة أعداد محدودة، وبالنسبة للكميات الأكبر، يجب على الأفراد الاعتماد على اختراع أنظمة عد متطورة ثقافيًا، وبالتالي لا نجد مثل هذه القدرات إلا عند الأطفال الأكبر سنًا والبالغين في المجتمعات البشرية ذات أنظمة تمثيل الأعداد المتطورة.

في الجزء الثالث، يفكر إيفريت في أصول الأرقام والحساب في المجتمعات البشرية. ويوضح أفكاره بأن الكميات موجودة في العالم المادي، لكن الأرقام لا توجد في العالم المادي ولا هي أجزاء أصلية من أذهاننا. والواقع أن الأرقام بالنسبة لإيفريت «غير طبيعية». للتعمق أكثر في أصول الأعداد، يعتمد إيفريت على أعمال علماء بارزين مثل اللغويين المعرفيين جورج لاكوف ورافائيل نونيز (لاكوف ونونييز، 2000). يرى إيفريت أنه من خلال استخدام الأدوات الثقافية واللغوية مثل الاستعارة وغيرها من الاستعارات مثل الحركة الخيالية، يقوم الأفراد بتجسيد فئات أساسية ولكن مجردة من المعرفة.على سبيل المثال، يجادل بأن فئة مجردة مثل الوقت تصبح ملموسة وقابلة للقياس من خلال الاستعارات المكانية حيث يكون المستقبل "أمام" والماضي "خلف". ويشير إيفريت إلى أن مثل هذه الاستعارات قد تختلف باختلاف المجتمعات البشرية. على سبيل المثال، بالنسبة للأيمارا، المستقبل هو "خلف" (ما لا يمكن رؤيته) والماضي "أمام" (ما يمكن رؤيته). هدف إيفريت هو إيجاد طريقة لفهم كيفية فهم البشر للأرقام، ولكنه يوفر أيضًا نافذة على ظهور الاختلافات بين الثقافات في أنماط التفكير،وهي نسخة من النسبية اللغوية التي يؤيدها إيفريت.

كما قد يتوقع المرء عند قراءة معالجة طموحة لأقل من 300 صفحة، هناك إغفالات في كتاب إيفريت، وقد تكون بعض الإغفالات ملفتة للنظر لقراء التنمية البشرية. حجة إيفريت بأن العدد هو اختراع بشري تحاكي نظرية بياجيه وأبحاثه حول أصول العدد الأصلي والترتيبي وكذلك انتقادات بياجيه للتفسيرات الوطنية والتجريبية لأصول الأعداد (بياجيه، 1952)، لكن إيفريت لم يشر إلى بياجيه. الحجة الأساسية وكيف تختلف عن حجته. إن حجة إيفريت بأن ظهور الوظائف المعرفية العليا مثل الأعداد له جذور في الأنظمة اللغوية الخاصة بالثقافة والتي يعيد الأطفال بناؤها لتنظيم عوالمهم وأنفسهم تعكس معالجة فيجوتسكي التنموية الأساسية (فيجوتسكي، 1986)، لكن إيفريت لم يتصالح مع الطريقة التي قد تكون الحجج متوافقة مع أو تتعارض مع حجج فيجوتسكي، أو وجهات النظر التي بذرتها كتابات فيجوتسكي. أخيرًا، تعكس حجة إيفريت بأن الأرقام تنشأ من خلال استخدام الأفراد لأشكال لغوية محددة ثقافيًا جوانب تحليل فيرنر وكابلان (1963) لنشاط التخطيط في تشكيل الرمز، وهي عملية تأخذ فيها المركبات التمثيلية المدروسة ثقافيًا معنى شخصيًا للأفراد. ولكن لا يُبذل أي جهد لإشراك وجهة نظر فيرنر وكابلان التنموية المهمة.

على الرغم من إغفال الدراسات التنموية الرئيسية، فقد وجدت أن كتاب إيفريت عبارة عن وصف متعدد التخصصات مكتوب بشكل جيد لمجال معرفي رائع. وكان ما يثير اهتمامي بشكل خاص في قراءتي تركيز إيفريت على جذور الفهم الإنساني في كل من الأنشطة البناءة للأفراد والتاريخ الثقافي الذي يشاركون فيه. في هذه الأنشطة، يقوم الأفراد في الوقت نفسه بإعادة إنتاج وتغيير الأنظمة التمثيلية للعدد، وهو منظور تاريخي تنموي معقد قمت بتفصيله في عملي الخاص (ساكس، 2012).

***

......................

المراجع:

1- إيفريت، سي. (2017). الأرقام وصنعنا: العد ومسار الثقافات الإنسانية. كامبريدج، ماجستير: مطبعة جامعة هارفارد.

2- لاكوف، ج.، ونونييز، ر. (2000). من أين تأتي الرياضيات. نيويورك، نيويورك: الكتب الأساسية.

3- بياجيه، ج. (1952). مفهوم العدد عند الطفل. نيويورك، نيويورك: نورتون.

4- ساكس، جي بي (2012). التنمية الثقافية للأفكار الرياضية: دراسات بابوا غينيا الجديدة. كامبريدج، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة كامبريدج. https://doi.org/10.1017/CBO9781139045360

5- فيجوتسكي، إل إس (1986). الفكر واللغة. كامبريدج،ماساتشوستس: مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

6- فيرنر، إتش، وكابلان، بي. (1963). تكوين الرمز: نهج عضوي تنموي للغة والتعبير عن الفكر. نيويورك، نيويورك: وايلي.

* كالب إيفرت: عالم لغوي أنثروبولوجي. وقد نشر العديد من المقالات البحثية حول مجموعة متنوعة من المواضيع، بالإضافة إلى ثلاثة كتب: الأرقام وتكويننا (هارفارد، 2017) والنسبية اللغوية (دي غرويتر، 2013). وعدد لا يحصى من اللغات ( هارفارد 2023 ) وهو يدرس في جامعة ميامي منذ حصوله على درجة الدكتوراه في اللغويات..

**جيفري بي. ساكس: أستاذ في كلية الدراسات العليا للتعليم بجامعة كاليفورنيا، بيركلي (UCB). منذ حصوله على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة كاليفورنيا في عام 1975، شغل مناصب ما بعد الدكتوراه وأعضاء هيئة التدريس في مستشفى الأطفال/كلية الطب بجامعة هارفارد (1976-1977)، ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك (1977-1981)، والجامعة. كاليفورنيا، لوس أنجلوس (1981-1997). له منشورات واسعة النطاق في مجالات الثقافة والتنمية المعرفية. تم وضع أبحاثه في سياقات متنوعة، بما في ذلك الفصول الدراسية والمنازل في الولايات المتحدة، والمناطق النائية في بابوا غينيا الجديدة، والمناطق الحضرية والريفية في البرازيل. وقد عمل في العديد من اللجان الدائمة وفرق العمل ولجان المراجعة للمؤسسات الخاصة والعامة، بما في ذلك مؤسسة ماك آرثر، ومؤسسة سبنسر، والمؤسسة الوطنية للعلوم، ومكتب البحث والتحسين التربوي، والمعاهد الوطنية للصحة العقلية. وهو رئيس التحرير السابق لمجلة التنمية البشرية وعمل في مجالس التحرير لمجلات مختلفة، بما في ذلك الإدراك والتعليم، والتنمية المعرفية، ومجلة علم النفس التنموي التطبيقي. كان زميلًا في الفترة 2003-2004 في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد، وهو زميل سابق في برنامج فولبرايت في جامعة بيرنامبوكو الفيدرالية بالبرازيل. وهو عضو في المجلس الاستشاري لمركز جلين لين للرياضيات العرقية بجامعة جوروكا في بابوا غينيا الجديدة. تشمل كتبه ودراساته العمليات الاجتماعية في تطوير الأعداد المبكرة (مع ستيفن ر. جوبرمان وماريل جيرهارت)، والثقافة والتنمية المعرفية: دراسات في الفهم الرياضي، والتنمية الثقافية للأفكار الرياضية: دراسات بابوا غينيا الجديدة (مع جوائز الكتب من الجمعية الأمريكية الجمعية الأنثروبولوجية، والجمعية النفسية الأمريكية، وجمعية التنمية المعرفية.)

تعليق:

الأرقام محفورة في ماضينا، ومنسوجة في حاضرنا، وتشكل تصوراتنا للعالم ولأنفسنا أكثر بكثير مما نعتقد عادة. الأرقام وتكويننا هو وصف شامل لكيفية تعزيز الأرقام بشكل جذري للقدرات المعرفية لجنسنا البشري وأثارت ثورة في الثقافة الإنسانية. يقدم كاليب إيفريت رؤى جديدة في علم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الرئيسيات، واللغويات، وغيرها من التخصصات التي يمكن استخدامها في تفسير عدد لا يحصى من السلوكيات البشرية وأنماط التفكير التي أصبحت ممكنة، بدءًا من تمكيننا من تصور الوقت بطرق جديدة إلى تسهيل تطور الكتابة. والزراعة وغيرها من التطورات الحضارية.

إن مفاهيم الأعداد هي اختراع بشري، وهي أداة تشبه إلى حد كبير العجلة، تم تطويرها وتحسينها على مدى آلاف السنين. تسمح لنا الأرقام بفهم الكميات بدقة، لكنها ليست فطرية. تؤكد الأبحاث الحديثة أن معظم الكميات المحددة لا يمكن إدراكها في غياب نظام الأرقام. في الواقع، بدون استخدام الأرقام، لا يمكننا أن ندرك بدقة الكميات الأكبر من ثلاثة؛ لا يمكن لعقولنا أن تقدر إلا ما يتجاوز هذا الحد الضئيل بشكل مدهش.

يدرس إيفريت الأنواع المختلفة من الأرقام التي تطورت في مجتمعات مختلفة، موضحًا كيف أن معظم أنظمة الأعداد مستمدة من عوامل تشريحية مثل عدد الأصابع في كل يد. وهو يعرض تفاصيل عمل رائع مع سكان الأمازون الأصليين الذين أثبتوا أن الأرقام، على عكس اللغة، ليست هبة إنسانية عالمية. ولكن بدون الأرقام، فإن العالم كما نعرفه لن يكون موجودا.

***

 

جناية السياسة على الدكتور الترابي وفكره.. عرف الدكتور الترابي العمل السياسي وسما إليه منذ أن انخرط في صفوف الحركة الإسلامية التي تدرج فيها تدرجاً سريعاً حتى صار عماد حزبه، وقريع رهطه،  وقد عرفت الحركة الإسلامية الدكتور الترابي عن قرب “قائداً حزبياً ومنظراً سياسياً ومعارضاً شرساً، إضافة إلى توليه لعدد من المناصب السياسية، وأتاح له تخصصه في الحقوق، وخبرته في الفقه الدستوري المشاركةَ في كتابة بعض الدساتير في عدد من الدول العربية، وتأليفه لعدد من الكتب في مجال السياسة ومنها كتاب “السياسة والحكم” وهو من الكتب التي ألفها في السجن، ويعد خلاصة لتجربته السياسية والفكرية معاً، إضافة إلى ذلك شارك الترابي في تقنيين أحكام الشريعة الإسلامية، واستطاع نقل ما يدور في أدبيات الحركات الإسلامية عن تحكيم الشريعة إلى واقع عملي”. كل هذه المزايا والمناقب يردها الباحث للصفات التي توفرت في الترابي، منها إغراقه في العلم، وإسرافه في الاختلاط بالناس، وقد يكون حرصه على السود باعثاً له على الإيغال لوجود حلول تستبدل أرضهم الجرداء رغم خصوبتها بأرض أخرى، وواقعهم المجدب بواقع آخر، وتورط الدكتور الترابي في انقلاب رغم مناداته بالديمقراطية ربما تكون هذه مدعاته، خوفه على أهله بعث في نفسه آمالا لم يصرح بها، بل سعى لكتمها حتى تتمخض في انبلاج فجر جديد، والسود لم يفرغوا لفن السياسة كما فرغ له الدكتور الترابي، وقد تدرج في فصوله من انتصار أو اندحار، ونحن نستطيع أن نفهم حنق الدكتور الترابي على تلاميذه وابتئاسه منهم، فقد أجهضوا حلمه الجميل الذي حلم به وسعى إليه، ونقدر هذا الانفعال النبيل، ونرصد دقة الحس، وصدق العاطفة، لقد أحسن الترابي احتمال المحنة التي فرضت نفسها عليه فرضاً، فالإنقاذ صنيعة الدكتور الترابي التي سعت إلى الترف وظفرت به، كان الترابي هو من يحد من آفاقها، وينكر عليها هذا الاعوجاج، هي تريد منه أن يتركها، ولكن كيف يتركها وهو الذي يتحمل أوزارها ومساوئها، كانت هذه المحنة قد أفادت الشيخ وأضفت عليه شيء غير قليل من الرصانة والرزانة، وأفاضت على شخصه تعاطف بعض السود الذين كانوا أقرب إلى السخط منهم إلى الرضا تجاهه.

 ولكن بالمقابل كانت هناك فئة تحمل الشيخ تبعة كل الإخفاقات التي حاقت بالإنقاذ، وغيرت من مسيرتها التي كانت خليقة بالإعجاب عند البعض، هذه الفئة الثائرة الهائجة حينما تخلو إلى نفسها لا تفكر إلا في الترابي، وتستشعر عظمة ما اقترفه من جرم، حينما أصر أن يرد الإنقاذ إلى الطاعة، ويقهرها على الإذعان، ومن هنا نحس بالجور والشطط الذي وقع على الدكتور الترابي، فحقائق الأمور لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس، وبعض الساسة والأعلام ليس لهم القدرة على التغلغل في هذه الطبقات حتى يتسنى لهم معرفة الحقيقة كاملة ناصعة، من هؤلاء الأستاذ حسام تمام رحمه الله الباحث في الحركات الإسلامية، فقد ذهب إلى أن الفرصة كانت مواتية للدكتور الترابي بأن يصون ثورته التي ترعرعت على ساعديه ويكتفي بدور المفكر، إلاّ أن غروره وصلفه منعه من ذلك، يقول الأستاذ تمام:” غير أن الترابي لم يقنع بدور المفكر الذي يفكر وينظر ويجتهد، ولم يقنع أيضا أن تقوم على أفكاره دولة (كما فعلت ثورة الإنقاذ)، ولم يقبل بدور المرشد والموجه والمنظر الذي يعلو على السياسة وإن احتفظ بدور فاعل فيها، كما فعل آية الله الخوميني -مثلا- الذي ظل حاكما للعبة السياسية برمتها في إيران حتى وفاته دون أن يتورط كمرجع ومرشد ديني في صراع الفرقاء السياسيين، بل أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر “الحر” ليلعب دور مفكر “تحت الطلب” يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسياً حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية”.

ويمضي الأستاذ تمام رحمه الله في كيل اتهاماته، فهو بعد أن اتهم الدكتور الترابي بأنه السبب الأساسي في تقهقر مسيرة الإنقاذ وترديها، وبأنه كالحائك الذي يفصل ثيابه حسب تفاصيل جسد الزبون، تأتي أفكار الشيخ واجتهاداته متناغمة حسب المناخ السياسي الذي يعيشه، وخلاصة ما ذهب إليه مقال الأستاذ تمام أن الترابي اشتد فتكه بالإنقاذ، وأصبح خطره شنيعاً، الأمر الذي قاد في النهاية لإزاحته دون أن تحتفظ الإنقاذ لشيخها بالمودة الخالصة، حتماً الأستاذ تمام يجهل أن الدكتور الترابي قد سعى أن يمنع الإنقاذ من الانغماس في الترف واللذة، فهو لا يرى هذا، كل ما يراه أن الترابي قد سعى أن يزاوج بين الفكر والسياسة ولكنه أخفق في ذلك إخفاقا شديداً، يقول الأستاذ تمام رحمه الله:” وعبثاً حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر والسياسي، فيحفظ لنفسه مكانة متميزة بين أقرانه من المفكرين والسياسيين على السواء، فهو يتميز عن المفكرين بالسلطة التي هم على بعد مسافة منها إن لم يطلهم أذاها، ويفوق السياسيين بالفكر الذين هم أبعد الناس عنه، لكنه لم ينجح في هذه اللعبة طويلا، وغلب السياسي فيه على المفكر في آخر المطاف، وبدا للناس في الوجه الذي قد يقبلون به، ولكنهم لا يحبونه؛ فهو المناور الذي لا يستقر على رأي، ولا يلتزم بموقف، والثعلب المراوغ القادر على التلون باللون الذي يوصله لمراده، والانتهازي الذي يقتنص كل الفرص ويوظفها لمصلحته الشخصية، والبراجماتي الذي لا يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل التي تحقق له غايته، والميكيافيللي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة… فوقع في التناقضات وأضر -من حيث لا يدري- بأفكاره، وبدا أن هناك بوناً شاسعاً بين السياسي والمفكر في شخصية الترابي”. الباحث لا يتفق مع حديث الأستاذ تمام إلا في تمكن السياسة من الدكتور الترابي ومحاصرة المفكر في نفسه، فهي لا تسمح له بالظهور، وقد خضع الدكتور الترابي لنكر السياسة، واصطلى بنارها، ولعل أيسر ما تفرضه علينا مخايل الدقة، أن نقول أن الفكر لم يكن يتربع المشهد إلا عندما تتوارى السياسة عن الدكتور الترابي، فيغدو أرفع بياناً، وأمضى حجة، وأعظم منزلة، وهذا لم يتحقق إلا حينما يقاوم الدكتور الترابي الطغيان والاستبداد، وتنتهي هذه المقاومة بالزج به في غياهب السجون، حينها يجد من يشقي أنظمة الجور بشدة صرامته، وعظمة استبساله، يهرع إلى لون من ألوان البحث الذي يفرغ له طوال مكوثه في السجن، ويلتزم بدقائق المنهج، وصدق الحقائق، وحسن الترتيب، ليخرج لنا في نهاية المطاف مؤلف متين الرصف، محكم القواعد، عظيم الفائدة، لطيف الإشارات.

***

د. الطيب النقر

من سمات التجربة الصوفية انها ذوقية فردية خالصة، لا يمكن نقلها إلى الآخرين بالشرح والتدريب والتعليم، فمن الصعوبة أن تتحدث عن طعم العسل لشخص ما دون أن يتذوقه بنفسه، هكذا هي بالضبط حالة التذوق الصوفي التي تتطلب استعداداً وموهبة في المريد لكي يكون قادراً على أداء مقامات التصوف وما تتطلبه من زهد وترويض للجسد، وتحمل الأحوال الوجدانية والنفسية المرافقة لتلك التجربة الروحية الفريدة. لذلك فإن الباحث المصري خالد محمد عبده يحاول أن يقدم في كتابه " معنى أن تكون صوفياً " مقالة دلالية باللغتين العربية والإنجليزية لمن يريد أن يسلك طريق التصوف، وهي واحدة من عشرين مقالاً ضمها الكتاب الذي بحث في معنى التصوف ومعنى الدرويش والشيخ والمريد والطريق إلى مقامات الأولياء، فضلاً عن تسليطه الضوء على شخصيات صوفية غربية، ومقالة عن مكانة الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال في الفكر الصوفي الإسلامي .

والمؤلِف ليس مجرد باحث نظري في التصوف ومدارسه ومعانيه وتاريخه واقطابه، إنما صاحب تجربة خاصة مع التصوف نتجت عن مخالطته ورؤيته لمشايخ الصوفية المعاصرين ورجالهم، وهو أيضاً مسؤول مركز "طواسين" وله العديد من المحاضرات عن التصوف الإسلامي في كل من مصر والمغرب والسنغال وعُمان والبحرين ولبنان وتركيا، كما انه محقق للتراث الكلامي والصوفي، ومنها تحقيقه لكتاب "روضةُ المريدين" وهو نص من مخطوط في جامعة برنستون لم تنشر من قبل لصوفي فارسي يدعى ابن يزدانيار الأرموي توصل اليها من خلال إشارة قدمها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، وفيها يكتب بن يزدانيار ان أحد الإخوان سأله أن يجمع له فصولاً في معنى آداب الصوفية وأحكامهم وطريقتهم وأحوالهم وأخلاقهم، فأجابه إلى ملتمسه، وأختصر له طرفاً مما سمعه من المشايخ، وجعله كتاباً موجزاً لطيفاً سماه "روضةُ المريدين" يتكون من ثلاثةٌ وأربعين باباً، وقد نشر الباحث الباب السابع منه والمعنون "ذاتية التصوف" ضمن صفحات كتابه الذي وضعه في مستويات ثلاث " الأول منها ما يتوجه إلى الخاصّة وأرباب التفكّر العميق الذين يدركون ما ترمز إليه الكتابات الصوفية من معانٍ جليلة، والثاني يخاطب ذوي التفكير المتوسط، والثالث يخاطب طبقة العوام الذين لا يعرفون إلا القليل عن هذا العلم وأفكاره ونظرياته ومسالكه ". يحكي عبده عن حضور التصوف في حياته، وكان ذلك في أول تعرفه على كلمات الرومي التي مر عليها مرور الكرام وهو يقرأ بعض ترجمات المستشرق الإنجليزي نيكلسون، مدونة في كتاب ترجمه تلميذه أستاذ الثورة الروحية في مصر أبو العلا عفيفي : " ولم يكن هناك فرق بين ما قاله الجنيد أو ما قاله ابن عربي أو الرومي أو البسطامي أو الحلاج، الكلُّ يقول كلاماً جميلاً أكتشفه للمرة الأولى، ولا يمكن في حال من الأحوال أن أدرك ما في باطنه أو ما وراءه من عوالم ".

معنى أن تكون صوفياً، أن تكون إنساناً أولاً وقبل كلَّ شيء، ان تحقق معنى" وفيك انطوى العالمُ الأكبر"، ثم يسترسل في ذكر عدد من الصفات آخرها: أن تكون صوفياً، لا تقلّك أي أرض ولا تظلك أي سماء!.

وينهي عبده ذكره لصفات المتصوف بالقول: أن تكون صوفياً.. ألا تذكر كلّ ما كتبته هنا!. وفي ذلك إشارة إلى خصوصية التجربة الصوفية الفردانية الذوقية التي لا يمكن نقلها إلى الآخرين .

***

د. طه جزّاع  - كاتب اكاديمي

في أبريل (نيسان) من العام الماضي 2023 نشرت قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية، صورة الجندية السعودية أمل العوفي وهي تحتضن طفلاً وصل للتوّ إلى ميناء جدة، مع أمه التي فرَّت به من الحرب الأهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: «أمن وأمان وحنان... مجندة سعودية تخطف القلوب». هذه الصورة جابت العالم شرقاً وغرباً، نشرها كثير من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت تعاطف الملايين من القراء، لما تُظهره من حنان ورحمة، يتمنى كل البشر أن تكون السائدة في علاقتهم بعضهم ببعض.

تخيَّلْ أنك مررت بهذا المشهد، فهل سترى فعل الجندية حسناً أم قبيحاً؟ ماذا لو مرَّ بها شخص مسيحيّ أو بوذيّ أو هندوسيّ أو وثنيّ أو ملحد، هل سيحبها أم يُبغضها؟

لننظر الآن في الوجه المعاكس... تخيلْ أن هذا الطفل كان غريباً جائعاً تائهاً عن أهله، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه، فكيف سيكون رد فعلك؟ كيف سيكون رد فعل أصحاب الأديان الأخرى والذين لا دين لهم؟ هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع، أم سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده؟

أضِف إلى هذا... هل سألت أنت عن دين الطفل الذي حملتْه الجندية أمل؟ هل سأل الذين شاهدوا صورته في أي صحيفة أخرى عن هذا، أم فرحوا بفعلها لأنه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الإنسان بصفته إنساناً، أياً كان دينه وعرقه وموطنه؟

ماذا عن الطفل الآخر؟ هل ستسأل عن دينه قبل أن تعطيه شربة ماء؟ هل سيسأل أتباع الأديان الأخرى عن ذلك؟

لقد اخترت هذين المثالين، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته الأسبوع الماضي، أي فعل الخير بوصفه جزءاً من علاقة البشر بعضهم ببعض، لا بوصفه جزءاً من أي شريعة أو قانون.

لكنْ لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلحّ عليه... ألا تأمر الأديان كافة بعمل الخير؟

الواقع أن الأديان –في عمومها– تأمر بفعل الخير لكل إنسان، وتعدّه صفة ملازمة للإيمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظّم سلوك الأفراد، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الإحسان للضعفاء، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها أحسنت إلى كلب، وأخرى دخلت النار لأنها حبست قطة حتى ماتت جوعاً... هذا في التوجيه العام، فماذا عن الأحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمَّن يتبع مذهباً أو ديناً مخالفاً، ويصنَّف عندهم كافراً أو مبتدعاً أو غير مؤمن. بل ثمة مَن يُفتي بعدم رد السلام عليهم، أو الأكل من طعامهم أو التبسم في وجوههم أو إفساح الطريق لهم أو مشاركتهم في الأعمال... إلخ.

لا ينبغي الظن أن هذا يقتصر على مذهب دون آخر، فهي آراء موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الإسلامية. وموجود مثلها وأكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان، على مستوى التنظير أو التوجيه. خذْ مثلاً تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689 - 1755) للرقّ، حيث يقول:

«لا يلقى في الذهن كون الخالق البالغ الحكمة قد وضع روحاً طيبة في جسمٍ تامّ السواد... مُحال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناساً، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى». مع العلم أن تعاليم السيد المسيح ترى أن بني آدم كافة إخوة أمام الخالق.

ألاحظ دائماً أن الناس يذكرون المبادئ العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم أن المبدأ العام يعبر عن الإيمان ويُنسب إلى الخالق، أما الفتوى فتعبّر عن هوية الجماعة - المذهب وتُنسب إلى الفقهاء أو الأئمة. لهذا أقول: إن الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الإيمان بالخالق، فيما الخير المخصَّص (وأحياناً الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة - المذهب.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في رحلة عبر اربع عقود، زينت مسيرتي المهنية كاستاذ وباحث بتجربة فريدة تمثلت في الاشراف على نخبة من طلاب الدكتوراه، كل منهم حمل شغفا فريدا ومهارات استثنائية. لقد حظيت بشرف مشاهدة بعضهم يبحرون في رحلة المعرفة حتى نالوا تميزا واضحا سطع نجمه في سماء العلم.

من رحم هذه التجربة الملهمة في الجامعات الغربية، اقدم لكم، طلاب الدراسات العليا في الجامعات العراقية، هذه الملاحظات المهمة. قد لا تنطبق جميعها بالكامل على البيئة الاكاديمية في جامعاتنا، لكنني اؤمن بانها ستشكل لكم بوصلة ترشدكم في رحلة البحث العلمي وتساعدكم على تحقيق تطلعاتكم.

فتعالوا معي نعزز خبراتنا ونثري معارفنا من خلال عدسة هذه الملاحظات.

يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بقدرة فائقة على التفكير النقدي وتحليل المعلومات بدقة، مدفوعين بفضول فكري عميق ورغبة جامحة في فهم العالم من حولهم. كما يظهرون مهارات تواصل قوية في الكتابة والعرض الشفهي، ويعرفون بشغفهم الحقيقي بمجال بحثهم، مما يدفعهم لبذل اقصى الجهود والمثابرة.

والى جانب ذلك، يتمتع طلاب الدكتوراه المتميزون بانضباط ذاتي عال وقدرة على العمل بشكل مستقل، مع مهارات فائقة في تنظيم الوقت وادارة مشاريعهم البحثية بكفاءة. كما يظهرون مهارات متقدمة في حل المشكلات والتغلب على التحديات.

ولا ننسى اهمية روح التعاون التي تميز طلاب الدكتوراه المتميزين، حيث يسعون دائما الى تبادل الافكار مع زملائهم واساتذتهم، وخلق بيئة اكاديمية ايجابية تثري الجميع.

ولكن من المهم التاكيد على ان هذه الملاحظات هي تعميمات، وان هناك العديد من المهارات الاخرى للتميز في برنامج الدكتوراه. الاهم هو ان يكون لدى الطالب شغف حقيقي بمجال بحثه وان يكون على استعداد لبذل الجهد والمثابرة لتحقيق اهدافه.

في الواقع، لا تشبه رحلة الدكتوراه اي رحلة اخرى. تبنى هذه الرحلة الاستثنائية على صفتين اساسيتين:

اولا، القدرة على التعامل مع التحديات والاستجابة للنتائج غير المتوقعة. 

يواجه الطالب في دروب المعرفة عواصف من التحديات، بدءا من تعقيدات البحث العلمي الى صعوبة الحصول على البيانات، ومن ضغوطات الوقت الى لحظات الشك والياس. لكن لا ينسى المرء ان النجاح ليس غياب الفشل، بل القدرة على النهوض من بعده.

تذكر ان اعظم الاكتشافات العلمية ولدت من رحم الفشل والتحديات.

كن مستعدا للتعامل مع كل تحد بذكاء وحكمة، واجعل من كل فشل درسا يقويك وينعشك.

ثانيا، الحيوية وحب التعلم والاهتمام بالتحديات الجديدة والخبرات.

ان رحلة الدكتوراه ليست مجرد واجب او مهمة، بل هي شغف ينير دربك ويلهمك. فاحب ما تفعله، وكن متشوقا لمعرفة المزيد. لا تقيد نفسك بحدود، بل ابحث عن التحديات الجديدة والخبرات المثيرة.  فكل تجربة جديدة هي شعلة تنير دروب المعرفة.

تذكر ان رحلة الدكتوراه هي رحلة ملهمة تشبه رحلة البذرة التي تصبح شجرة باسقة.  فلا تستسلم، وكن مثابرا ونزيها، ولا تغرك الطرق القصيرة المشبوهة، واجعل من التحديات فرصا للنمو والتطور.

مع كل خطوة تخطوها، ستقترب من تحقيق حلمك وتنير دروب المعرفة.

رحلة الابداع والابتكار

لا تقتصر رحلة الدكتوراه على مجرد اكتساب المعرفة، بل هي رحلة للاضافة والالهام. فمن خلال بحثك الدؤوب، ستتمكن من اضافة لبنة جديدةٍ الى صرح المعرفة في مجال دراستك. وان هذه الاضافة لا تقتصر فقط على ما يتم نشره في المجلات العلمية، بل تشمل ايضا كل ما تقدمه من افكار جديدة وحلول ابداعية لمشكلات معاصرة. فكن مبتكرا، ولا تخشى الخروج من الصندوق، واجعل من بحثك رحلة ملهمة تثري حياتك وتساهم في بناء مستقبل افضل. ضع خطة منظمة لادارة وقتك، وحدد اهدافا قابلة للتحقيق، وكن ملتزما بتنفيذها. وتذكر ان رحلة الدكتوراه ليست رحلة وحيدة، بل هي رحلة جماعية تشارك فيها مع زملائك واساتذتك. فاستفد من خبراتهم وتجاربهم، وكن متعاونا ومشاركا في مجتمعك العلمي. فمعا، ستحققون انجازات عظيمة وتنيرون دروب المعرفة للاجيال القادمة.

رحلة البحث عن المعرفة العميقة

الغرض الاساسي من العمل على الدكتوراه هو تعميق وتوسيع المعرفة الانسانية. ونظراا لانك تعمل على مستوى متقدم من المعرفة، فان مادة البحث التي تعمل عليها يجب ان تكون صعبة وشاملة وغير مطروقة، لذلك يجب ان تكون قادراا على الاستيعاب وتحليل المادة بطريقة دقيقة (الذكاء والتفكير النقدي العاليين). ومع ذلك، لا يكفي فقط ان تكون ذكيا وتمتلك تفكيرا نقديا، بل يجب ان تكون مجتهدا وملتزما بالعمل الجاد، ويلاحظ ان بعض الطلاب الذين تلكاوا في دراستهم الاولية قد حصلوا على الدكتوراه بنجاح. لذلك، فان الذكاء وحده ليس كافيا في الحصول على الدكتوراه، ولكن يمكن ان يساعد في الحصول عليها بسلاسة، ولا يعني النجاح او الفشل في الدكتوراه.

ومن الصفات المهمة التي يجب توفرها للحصول على درجة دكتوراه متميزة هما الصبر والانضباط. بعض الطلاب يحبون طرح الاسئلة والتفكير في طرق للاجابة، لكنهم يفتقرون الى الصبر اللازم للعمل على ايجاد الجواب. بدلا من ذلك، يلجاون الى السوشيال ميديا او يزحفون الى فكرة اخرى. هناك حاجة للانضباط والصبر لايجاد الجواب وتجسيد الفكرة الابداعية. انت بحاجة الى وجهة نظر طويلة المدى حتى عندما لا تجد متعة في العمل (كالعصف الذهني وارضاء فضولك العلمي).

اذن، للوصول الى مرتبة الدكتوراه، يجب ان يتمتع الطالب بذكاء استثنائي وانضباط ذاتي وتخطيط دقيق وقدرة على التواصل الفعال مع المشرف، بالاضافة الى التعامل الايجابي مع التحديات. ولتحقيق ذلك، يجب ان يحيط نفسه باشخاص يتمتعون بنفس الصفات. فعلى الرغم من كفاءة الباحثين، الا انهم بحاجة الى مساعدة لزيادة الانتاجية. اما لكي يصبح "مدرسا جامعيا" متميزا، فيجب ان يمتلك جميع الصفات المذكورة اعلاه.

***

ا. د. محمد الربيعي

عالم احياء مهتم بزراعة الخلايا والانسجة وانتاج الادوية البيولوجية وهو استاذ متمرس في الكلية الجامعة دبلن (UCD)                

حدد الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) ماهية الصراخ أو الصخب في غياب اللغة، وما هذا الغياب إلّا اختفاء للمعنى، لأن الصوت عندما يمتد في صائت طويل يستدعي توقّف انسياب الجملة وتوقّف موسيقاها في آن واحد، لأن الصوت الصاخب يعطّل الكلام ويلغيه مؤقّتا حتى يتوقف الصراخ.

نحتاج في هذا السياق إلى الصراخ لأنه يعبّر عن بعض المعنى أكثر من تعبير اللغة. ولكننا لا نتصوّر متناً مصُوغاً بالصراخ أو بالصخب وحده، إذ لابد للغة أن تتجلّى، وفي تجلّيها قد تكون صاخبة وقد تكون هامسة.

نكاد نُجمعُ على أن الصخب حدد كثيراً من مقولاتنا ومن سلوكاتنا، وحتى كتاباتنا التي ينطوي بعضها على نزوع غير مفهوم لممارسة الصخب.

لقد وُلدنا في الصخب، وكان أول تحاور لنا مع الوجود صوتا صارِخا، واحتُفِل بعقيقتنا في الصّخب، وكان ختاننا بالصخب، وتمّ تزويجُنا في الصخب، وفي موتنا يكون الصخب سيد الموقف... بل كل طقوسنا الاحتفالية صاخبة.

فكيف لا تتأسى كتاباتنا بهذا الصخب، سواء في ظاهرها أو في باطنها؟ وكيف لا تستبطنه، وعياً وفي لا وعيٍ منها؟ وكيف لا يخالط شغاف قلبها فيحتل منها السويداء وأكثر؟ وكيف لها ولو حاولت أن تعيَ ذاتها خارج شرطه أن تتخلّص منه الخلاص المبين؟ وهل هو النسغُ يجري في عروقها أم هو القدر الغابر في تكوينها ؟...

أسئلة شتّى، تطرح ذاتها بإلحاح شديد، ولا تهمنا الإجابات مادامت متعددة ومختلفة من منظورات أكثر تعددا وأشد اختلافا، وهي القمينة بتقديم الإجابات الشافية الكافية مادامت تصدر من تجارب جواينة لا من اطّلاعات قشورية وبرّانية.

والمهم في هذا هو السؤال عن بديل الصخب، وهو بديل الهمس، الذي ينقص كتاباتنا بشكل ملفت. ويغيب عنها وهو القمين بتحويل مجرى ماء الكتابة تحويلات جذرية نافعة واعدة بالريّ والسقيا الحسنة.

 قريباً من  اجتهادات الناقد محمد مندور حول نظرية الهمس في الأدب، والتي تقوم على التعبير الصادق عن دواخل النفس البشرية عبر آليات  الطبيعة والأساطير وأحداث التاريخ... نقول إن كتابة الهمس – من منظورنا المتواضع – هي الكتابة التي تسعى باستمرار إلى التوغل في وجدان الآخر دون ضجيج:

- عنف التفوق: كتابة الهمس تلغي من اعتبارها الآخر كمنافس ينبغي التفوق عليه، إذ لا توجد في الإبداع كتابةٌ أولمبية تروم اعتلاء قمم المنصات، ومن ثمّة فكتابة التفوق هي كتابة مشروطة، وكل كتابة مشروطة يكون رصيدها من الحرية ناقصا، والحرية هي شرط الهمس كما هي شرط الصخب. إن اقوى منافس يمكن أن اتفوق عليه في الكتابة هو ذاتي نفسها، فالعدّاء الذي يريد تحطيم الرقم القياسي الموضوعي لا يريد في الحقيقة إلا تحطيم قياس قوّته ذاتها في ذاته  هو.. فينا  دائما شخص يركض أمامنا حتى ولو كنّا مصنّفين في العدو في الرتبات الأولى. أما أن أقيس كتاباتي بتفوّق غيري وأضعه نصب عينيّ معيارا للإبداع، فهذا ما اسميه عنف التفوّق الذي قد يؤدي بالكتابة إلى مزالق أخرى لا ترتبط بالإبداع البتّة.

الهمس هو أن أكتب خارج أي شرط من شروط العنف كيفما كان هذا العنف. وقد يقول قائل إن شرط الصراع مسألة إيجابية، أقول نعم، لكنّها نسبية. وهي لا تُفهم في سياق الصخب، فقد يكون هذا الصراع كامنا وهادئا وهامسا وناعما أيضا. وقد يكون مع الغير وقد يكون مع الآخر، وفي كلٍّ، هو صراع يقوم على الجدل الباني لفعل الكتابة لا المثبّط لانطلاقاتها الهامسة.

- حتمية الإقلاع:  كتابة الهمس هي إقلاعٌ بمفهومين، الأول ديني يفيد الإقلاع عن عاداتٍ تشدّ الكتابة إلى الأرض والحضيض والتكرار والشبه. وهذا لعمري ينتشر في أوساطنا المثقفة التي تحب أن تكرر ذواتٍ أخرى غير ذواتها الأصيلة، وأدلّ نموذج على هذا النوع هو الكتابات السارقةُ لا الكتابات المتناصّة... من هنا يفيدنا الهمس توبةً نصوحا من هذا المألوف الذي ليس لنا. والثاني إقلاع بمعنى الانطلاق والارتفاع معاً، في اتجاه سماوات الإدهاش. فكل كتابة ٍ هامسة هي ارتقاء بالمفردة وبالتركيب وبالمعنى وبالدلالة  وبالبعد وبالرمز وغير ذلك من مكونات الإبداع، إلى الأجود والأحسن والأدهش. القارئ اليوم مزورٌّ كثيرا عن قراءة المتشابه والمتكرر، لأنه يريد من المبدع أن يهمس في أذنه شيئا جديداً قادرا على زوبعة كيانه المريض بالفراغ والخواء وقادرا على أن يحدث بهمسه فيه تلك الرجّات المرجوّة والتي تعيد في المرء سؤال المساءلة وتعيد فيه رفض الماء الراكد. الهمسُ هو ذلك الحجر الصغير الذي تلقيه على صفحة النهر الراكدة فتحدث فيه دوائر صغرى تكبر وتكبر حتى نهاية مديات النهر. الكتابات الهامسة هي تلكم الحجرات الصغيرة التي في أيدينا والتي لا نعرف كيف نرمي بها، وأين نرمي بها، مع العلم أنها على ضآلة حجمها قادرة على تغيير وجه النهر.

- حتمية التغيير: من هنا تكون الكتابة الهامسة مشروع تغيير كبير، تستبطن قدرة على التأثير، وهنا أستحضر مثلا شعبيا مغربياً يقول (دُوز على الواد الهرهوري لا ادّوز على الواد السكّوتي) ومعناه (مُرَّ بالوادي الصاخب ولا تمُرَّ بالوادي الهادئ) وهو مثل يفيد قوة الصمت وقوة الهمس المبطنة بالمغامرة واختزان الخطورة. لم تكن كتابة الهمس في منظورنا بتاتا تفيد ضعفا أو تسليما أو خضوعا، إنها عكس ذلك تماما. ومادام عالم الكتابة يشبه ذلك السلم العالي والطويل فإن الركض فيه لبلوغ الأعالي وقمم الدرجات يكون فعلاً متهوّراً لا فعلاً سالكا، لكن التريت عبر الخطو الذكي والهامس يكون حريا بتقليب المدارج تبعا لإرادة الذات ورغبتها في الوصول. إن عمليات التغيير في مدارج السالكين في مجال الكتابة يبدأ من اعتبار المدرج الأول على بساطته وتفاهته، لأنه يعلمنا أن البدايات دروس قيّمة، وكل من يحرق البدايات بغية الوصول السريع يكون تغييره في حساسيات وجوده تغييرا مشوبا بالخطل والعطب في منهج التدرج.

و مادام هذا الماحول متناقضا ومفارقا وصادما وشرسا في الآن نفسه، فإن الكتابة الصاخبة لا تفيد في مقاومته، أو في تغييره، لأننا جربناها عبر أجيال وأجيال، وسواء تعلّق الأمر بالهمس في الكتابات الحالمة أو الهاربة أو المنزوية أو الرافضة أو المتمرّدة أو أي نوع آخر، ينبغي أن يكون رصيد الهمس فيها حاضرا لأنه أكثر تجذرا في نسغ الموضوع  وأكثر تأثيرا فيه وأكثر إحراجا له.

الكتابة الهامسة ليست هي الضوء الذي نراه، إنه نتيجة لها فقط، الكتابة الهامسة هي تلكم الأسلاك الكهربائية الخفية التي لا نراها ولكن نرى أثرها. من هنا أقول لك يا صديقي الكاتب، ويا صديقتي الكاتبة: اهمس في أذني ولا تصرخ ، فلن أسمع صخبك وسأكون سامعا شديدا لهمسك.

***

نور الدين حنيف أبوشامة \ المغرب

بقلم: كيفن بلانكينشيب

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

على الرغم  من أن هذه الحكايات يمكن أن تسمى بحق أدبًا عالميًا، إلا أن هوس الناس بمكانة العمل في الغرب يتجاهل تراثه في موطنه ويصرف الانتباه عن متعة القص نفسها.

***

في يوم من الأيام، كان هناك بدوي يمني اسمه أبو حسن، قرر ترك الحياة الصحراوية والانتقال إلى المدينة ليصبح تاجرًا. واستقر في مدينة كوكبان المحصنة، لكن زوجته الشابة ماتت بعد ذلك، مما جعله يائسًا ووحيدًا. وبعد مناشدات كثيرة، أقنعه أصدقاؤه بالزواج مرة أخرى.

وفي يوم الزفاف، أقام أبو حسن وليمة فخمة، ولكن ما إن سنحت له الفرصة، فقد مصداقيته في مرحلة حاسمة. "أخيرًا جاءت اللحظة التي تم فيها استدعاء أبو حسن إلى غرفة الزفاف،" يقول الراوي في ترجمة إن جي ديفيد الإنجليزية، "ولكن، بسبب رعبه من هول الموقف، وانتفاخه باللحم والشراب، أطلق ريحًا طويلًا ومدويًا." ثم هرب إلى الهند بعد أن شعر بالإذلال، لكنه لم يتوقف أبدًا عن الحنين إلى الوطن.

وبعد 10 سنوات طويلة، أراد أبو حسن رؤية اليمن مرة أخرى. واستقل سفينة إلى حضرموت ثم اتجه براً إلى كوكبان. وبعد ذلك، تنكر في زي درويش، وتجول في ضواحي المدينة قبل أن يجلس للراحة خارج كوخ، حيث سمع فتاة صغيرة تتحدث إلى والدتها.

قالت الفتاة:

- في أي يوم ولدت؟ أحد أصدقائي يريد أن يخبرني بثروتي .

قالت الأم:

- يا عزيزتي، لقد ولدت في نفس ليلة "ضرطة" أبو حسن.

بعد أن أدرك أبو حسن أن انتفاخ البطن سينتهي بالعار، عاد إلى الهند، حيث توفي في المنفى.

قصة "الضرطة التاريخية" لأبو حسن هي واحدة من الجواهر العديدة غير الملونة الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، لكنها على الأرجح لم تكن جزءًا من القصة الأصلية. ربما يكون المترجم الفيكتوري المغرور السير ريتشارد فرانسيس بيرتون قد أدخلها في القصة لمجرد أنها لامست عظمته المضحكة. ولم يذكر من أين حصل عليها، على الرغم من أن العلماء يتحققون من وجود أساطير مماثلة في رواية القصص العربية في القرن العشرين. ومع ذلك، وبقليل من الجهد، يستطيع أبو حسن المسكين وأبخرته أن يفعلوا شيئاً بشأن "الليالي"، أو على الأقل بشأن "الليالي" كما هي الحال في الشرق الأوسط.

حتى الآن، وبعد مرور ثلاثة قرون على قدومها إلى أوروبا، لم تعد "الليالي" مجرد عمل أدبي، بل في الواقع صناعة بأكملها. منذ أن زينت مختارات الليدي إيزابيل بيرتون الطاولات الفيكتورية بـ "ليالي" نظيفة ومهذبة، اكتشف الغرب حالة سيئة من هوس علاء الدين وعلي بابا. في الواقع، يبدو أن "الليالي" كما نراها في الغرب هي كل ما يتحدث عنه الغربيون. والأعمال القوطية والرومانسية مثل "فاثيك" لويليام بيكفورد أو "كوبلا خان" لصامويل تايلور كوليردج؛ موسيقى مثل "شهرزاد" لنيكولاي ريمسكي كورساكوف؛ والفنون البصرية مثل ورقة الرسام الحداثي هنري ماتيس “ألف ليلة وليلة”؛ وأفلام هوليوود مثل "لص بغداد" أو "علاء الدين" من إنتاج ديزني، كلها قطع شهيرة من الفن الغربي مستوحاة من "الليالي". إن الملحمة الدموية لترجمة "الليالي"، مع كل ماكبث جديد يذبح الملك الأخير دنكان، سوف تكون مألوفة من مقال خورخي لويس بورخيس "مترجمو ألف ليلة وليلة". يُظهر البحث فى جوجل عن "الليالي" مقالات حول القصص في ويسكونسن وبولندا ودلتا المسيسيبي وخارجها.

من المؤكد أن هذه الأمثلة تثبت أن "الليالي" هي تراث ثقافي عالمي. ولكن كما هو الحال في قصة "الضرطة التاريخية" لأبي حسن، فإن كل هذه الضجة حول رؤية الغرب لـ "الليالي" دفعت الطريقة التي يرى بها الشرق أوسطيون تلك القصص نفسها إلى المنفى. ولم تكن الحكايات الأكثر شهرة، والتي تصور علاء الدين والسندباد وعلي بابا، جزءًا من المجموعة الأصلية حتى القرن الثامن عشر، عندما أضافها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان ، وهو أول من نشر "الليالي" في أوروبا. مثل "حكايات جريمز الخيالية"، أعطت النسخ المعدلة من "الليالي" منذ فترة طويلة انطباعًا خاطئًا بأنها قصص أطفال. إن المعارك الصاخبة ذات الرائحة الكريهة حول التمييز الجنسي والاستشراق قد حجبت كيفية قراءة "الليالي" والاعتزاز بها وأدائها في العالم العربي منذ ألف عام. عندما نتجاهل كيف أن القصص في ذلك العالم هي بمثابة محك الطفولة، فإننا نفتقد متعة القراءة والاستمتاع بها من أجلها.

فهل سيتمسك الغربيون بكل هذا الهواء الساخن (الضراط) ، كما فعلت الأم في حكاية أبو حسن المأساوية، ويستمرون في نفي إرث "الليالي" في الشرق الأوسط؟ أم سيصفون الأجواء ويرون القصص بطريقة غير مهووسة بالغرب؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك سؤال آخر لا يمكن تجاهله. ما هي بالضبط "الليالي"؟ من أين أتت وكيف وصلت إلينا؟ إذا بدا لك أن طرح هذا السؤال لا معنى له (لا جدوى منه لأن الجميع يعرف الإجابة)، فتذكر تعريف مارك توين للكتاب الكلاسيكي: الكتاب الذي يرغب الجميع في قراءته ولكن لا أحد يرغب في قراءته.3657 الف ليلة وليلة

بهذا المقياس، "الليالي" أكثر من مؤهلة. حتى العرب في الشرق الأوسط عادة ما يكون لقاؤهم الأخير مع سندباد أو علي بابا في المدرسة الابتدائية، أو كما سنرى لاحقًا، في مطعم الدجاج المقلي المحلي. بالنسبة لهم، تتمتع "الليالي" بنفس المكانة التي يتمتع بها تشارلز ديكنز أو سانتا كلوز أو الدين في الغرب: تسلية للشباب، وربما حتى تدريب أخلاقي جيد، ولكنها شيء يجب التخلص منه من قبل البالغين الجادين. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يتجاهلون "الليالي" يفتقدون كنزًا غنيًا يفتح أبواب التاريخ والثقافة وأكثر من بضعة قلوب في الشرق الأوسط، حتى الآن.

في الواقع، هناك أسماء قليلة يمكن التعرف عليها اليوم مثل شهرزاد، الملقبة بشهرزاد، تلك المرأة الشجاعة والماكرة التي تمكنت من مقاومة غضب الطاغية باستخدام كلماتها فقط. في قصة "الليالي" المعتادة، تم خيانة شهريار، "ملك الهند والهند الصينية"، من قبل زوجته، التي قتلها بعد ذلك،وأقسم على جميع النساء بالانتقام بسبب غدرها، حيث كان يفتض عروسًا جديدة كل ليلة ثم يعدمها عند الفجر. شهرزاد، ابنة أحد وزراء شهريار، تعلم بهذه القسوة وتتدخل لإنقاذ جنسها. تزوجت من الملك، الذي وافق على طلبها، بعد أن شق طريقه مع شهرزاد، بأن تنضم إليهما أختها دينارزاد في غرفة النوم.

"أختي"، تقول دينارزاد بحزن، وربما ثمة دمعة في عينها. "أخبرنا بإحدى قصصك الجميلة لنقضي الليل، فأنا لا أعرف ماذا سيحدث لك في الصباح."

بهذه الكلمات، تروي شهرزاد حكاية ممتعة، تُركت غير مكتملة بحلول الصباح، مما دفع الملك إلى تأجيل وفاته حتى تتمكن شهرزاد من إكمالها في الليلة التالية. فقط لا ينتهي عند هذا الحد. تحتوي قصتها الأولى على شخصية تطلق قصتها الثانية، مدسوسة بشكل مريح وخفية داخل الأولى، ولا تنتهي أي منها قبل الفجر. ويستمر الأمر كل ليلة، قصة تتوالى تلو الأخرى، إلى أن يرق قلب شهريار أخيرًا ويتوقف عن سفك الدماء، على الأقل في النسخ الغربية التي يشوبها صبغة "السعادة الأبدية" للحكايات الخيالية الأوروبية. لا تذكر النصوص العربية الأقدم ما إذا كانت شهرزاد قد نجحت أم لا.

ليس هذا هو الفرق الوحيد بين القصص العربية الأصلية، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع، ونسخها الأوروبية التي أضيفت بعد ألف عام. كان التاجر المسيحي الماروني في القرن الثامن عشر حنا دياب -  الذي يظهر اسمه في مجلة غالاند كراوية أصلى- هو الذي قدم لنا القصص الأكثر شهرة، وهي السندباد، وعلاء الدين، وعلي بابا. لكن قبل ذلك، لم تكن موجودة في النص الأصلي.وقد سجلها المترجم الفرنسي غالان من رواية دياب الشفهية، لكل من القراء الأوروبيين والعرب على السواء الذين أصيبوا بحمى كل ما هو شرقي ومستشرق.

عرف العلماء عن دياب، التي تسمى أحيانًا ملهم غالاند، منذ القرن التاسع عشر. لكنهم لم يعثروا أيضًا على سيرته الذاتية إلا في تسعينيات القرن الماضي، وهي عبارة عن وصف لجوالاته عبر فرنسا وشمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط من عام 1707 إلى عام 1710. ونشرته جامعة نيويورك في عام 2015 باللغة الفرنسية، ومؤخرًا باللغة الإنجليزية في عام 2021. نشرت المكتبة الصحفية للأدب العربي، "كتاب الأسفار" لدياب باللغة العربية: ليس أكثر من مجرد سرد للرحلات. فهو يصف الأشخاص والأماكن، ويقارن بين المدن، ويكشف عن الحياة الداخلية للمؤلف.

تقول ياسمين سيل، وهي مترجمة لكتاب "الليالي": "أنت تقرأ قصة دياب الحقيقية بسبب آخرين اختلقهم". وعلى الرغم من أن العالم مدين له بتلك الحكايات المختلقة، إلا أنها لم تكن، كما ذكرنا سابقًا، جزءًا من "الليالي" طوال معظم تاريخها الممتد لألف عام حتى القرن الثامن عشر.

في الواقع، فإن القصص العربية الأقدم والأكثر "أصالة" غير معروفة في الغرب. أو، على الأقل، ليس لديهم ما يجذب دوجلاس فيربانكس أو ويل سميث للعب الدور الرئيسي. مثل علاء الدين والسندباد، يُطلق على البعض اسم أبطالهم: "معروف الإسكافي". "جولانار البحر" ؛ "الملك يونان ودوبان الحكيم"؛ "قمر الزمان والأميرة بدور." لكن في أغلب الأحيان، تحتوي العناوين على أنواع عامة - مثل "حكايات كانتربري" لجيفري تشوسر عن الفارس، والطحان، والريف، وما إلى ذلك - مثل "دورة الأحدب"، و"الوسيط المسيحي"، و"الصياد والشيطان". أو "الزوج والببغاء". وهناك «دورات»، أي مجموعات قصصية ذات شخصيات مشتركة، مثلاً «حكايات الدراويش» الأولى والثانية والثالثة؛ وهناك إعلانات قصيرة مثل "قصة ابن الملك والملك" شيطان." الأسواق المزدحمة، المحاكم الفخمة ووظائف الأبطال (التاجر هو الأكثر شيوعاً) تعطي النكهة الحضرية لـ "الليالي"، على النقيض من أقدم الأنواع العربية المحلية، وخاصة "قصيدة" العرب. الصحراء العالية، والتي تعني قصيدة من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.

عند الحديث عن الأنواع المحلية، تظهر "الليالي" ظلًا فارسيًا واضحًا، كما هو الحال في أسماء شهرزاد، "طفلة المدينة"؛ شهريار، "حارس المملكة" (أي صاحب السيادة)؛ شاه زمان، "سيد العصر"، وأكثر من ذلك. وهذا يخون المصدر المحتمل لـ "الليالي". وفقًا لبائع الكتب البغدادي ابن النديم والمؤرخ المسعودي، وكلاهما عاشا في القرن العاشر، فقد تمت ترجمة "الليالي" العربية من كتاب فارسي يسمى "هزار أفسان" ("ألف قصة"). حتى أن بعض العلماء يقترحون مصدرًا سنسكريتيًا أقدم: "بانتشاتانترا"، وهي مجموعة من الخرافات الحيوانية، على الرغم من عدم وجود أدلة كافية لدعم ذلك. على أية حال، فإن "الليالي" العربية وأسلافها الفارسية يشتركان في الكثير من نفس المادة، كما هو الحال مع مجموعات القصص العربية الأخرى في العصور الوسطى، مثل "حكايات العجائب وأخبار الغريب" المجهولة، والتي ترجمها مالكولم ليونز لـ بنجوين سلسلة الكلاسيكيات.

لا توجد ألف قصة وقصة في "ألف ليلة وليلة". يبلغ عدد ما ترجمه ريتشارد بيرتون حوالي 500 قصة، في حين أن المخطوطة العربية التي ترجمها جالان  في القرن الخامس عشر يبلغ عدد قصصها  35 فقط. وعادةً، تمتد كل قصة عدة ليالٍ، يتخللها الفجر وتنتقل إلى الليلة التالية. وقد شبه دانييل هيلر روزن هذه الحقيقة بالجمود، أي عندما ينتقل معنى بيت من الشعر من فاصل سطر إلى آخر. بالنسبة له، هذا يجعل "الليالي" لا حدود لها. يكتب: "يجب أن تكون الليلة الألف والأولى ليلة لا نهاية لها، ليلة لن يصل الفجر أبدًا - ليست "ليلة أخرى"، كما يمكن للمرء أن يؤكد، بقدر ما يمكن التأكيد على أنها شيء آخر غير أي ليلة على الإطلاق".

في بعض الليالي، يبدو المغزى من القصة واضحًا. إحداها هي "مدينة النحاس"، وهي قصة رجلين مكلفين بالعثور على زجاجات، وفقًا للأسطورة، لا تزال تحتوي على الجن المتمرد الذي أسره الملك سليمان. انطلق المستكشفون من دمشق باتجاه "الغرب الأقصى" (المغرب الحالي) لكنهم ضلوا طريقهم وصادفوا قلعة حجرية سوداء وفارسًا برونزيًا (أحد الروبوتات المسحورة العديدة في التاريخ) الذي بعد دعكه ، يشير نحو مدينة النحاس. وبعد التحدث مع شيطان حاصره سليمان في عمود من الحجر الأسود، وجد الرواد المدينة الفخرية، التي نحتت جدرانها تحذيرًا: "لو كان أي مخلوق يستطيع أن ينال الحياة الأبدية، لكان سليمان بن داود قد وصل إليها. ".

ومن تحصينات المدينة، تقوم مجموعة من النساء الجميلات بإغراء الرجال، حيث يحاول بعضهم التسلق ولكنهم يسقطون بعد ذلك ويموتون. النساء عبارة عن دمى متحركة، يتم صنعها بالسحر ويتم وضعها كطعم. يحذر القائد التقي للبعثة من بقي من هذه الحيلة ويدخلون المدينة حيث يجدون مشهدًا مروعًا. لقد مات جميع المواطنين، من المفترض بسبب المجاعة، لكن جثثهم محشوة ومدعومة في المكان الذي كانوا يعيشون فيه ذات يوم: نوع من متحف التحنيط الكئيب. يقول أندراس هاموري، الأستاذ الفخري في جامعة برينستون: "الموت هنا أصبح أبديا". حتى ملكة المدينة، تادومرا، هي عبارة عن محاكاة وهمية تهدف إلى خداع المتفرجين، حيث تمت إزالة مقلتيها وإعادة ربطهما بعد أن امتلأت تجاويفها بالزئبق.

وبطبيعة الحال، يحذر كتاب "مدينة النحاس" القراء من أنه لا يمكن لأحد أن يخدع الموت - ولكن أيضا من أن الموت يمكن أن يشبه الحياة إلى حد كبير. المظاهر قد تكون خادعة، ومن هنا ضرورة تمييز الحق من الباطل. والسبيل للقيام بذلك، كما تشير القصة، هي من خلال التقوى. تتناقض مدينة النحاس النابضة بالحياة مع مدينة أخرى، كركر، حيث يتوهج ضوء ساطع من البحر في المساء السابق ليوم الجمعة، وسكانها من أتباع الخضر (الرجل الأخضر)، الحكيم التقي والولى في التقاليد الإسلامية. حاكم كركر يعطي المستكشفين سمكة ليأكلوها (عكس المجاعة في مدينة النحاس) و12 زجاجة نحاسية تحتوي على الجن المتمردين. تعود المجموعة إلى دمشق وتحرر الجن وتقسم الكنز بين الناس.

على الرغم من تجاهلها إلى حد كبير في الغرب، إلا أن "مدينة النحاس" نالت نصيبها من المعجبين. كتب روديارد كيبلينج قصيدة تحمل نفس العنوان يشيد فيها بالقيم البريطانية التقليدية، تلك "الأسوار القديمة المنيعة"، وينتقد الضرائب المرتفعة التي فرضتها الحكومة الليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يعتقد أنها ستدمرها. في عام 2017، نشر إس إيه تشاكرابورتي رواية خيالية بعنوان "مدينة النحاس" تدور أحداثها حول فنانة محتالة من القاهرة تدعى نهري ومغامراتها الغريبة مع محارب من الجن يدعى دارا، في أرض بعيدة تسمى ديفاباد. جلبت هذه الأعمال وغيرها قصة مثيرة للاهتمام ولكنها غير معروفة للقراء، ولكنها، مثل "مدينة النحاس" الأصلية نفسها، تظل بعيدة عن المسار المطروق إلى حد كبير.

وعلى النقيض من ذلك، فإن "الليالي" العربية المبكرة الأخرى ليس لها أخلاقيات واضحة. على أية حال، فهي تقدم شيئا من مناهضة الأخلاق، ناهيك عن تلك القصص التي توجد فقط من أجل البهجة والمفاجأة. ولنتأمل هنا حالة "دورة الأحدب"، حيث تحكي أربع شخصيات (خياط، وطبيب، وكبير خدم، وسمسار) قصتهم بالترتيب الذي تظهر به. يحكي كبير الخدم عن تاجر أقمشة لم يأكل قط طبق زرباج، وهو طبق لحم أو دجاج فارسي حلو وحامض، حتى غسل يديه 40 مرة. في أحد الأيام، يقع هذا المتسكع في حب امرأة شابة، مضيفة السيدة زبيدة. لكن في حفل زفافه، ينسى العريس أن يغسل يديه ليحصل على الزرباج الذي أهداه إياه الطباخ بالخطأ.

ما سيحدث بعد ذلك يعتمد على نسخة القصة. في إحدى الروايات، من مجموعة الحكايات الورعة التي تعود إلى القرن العاشر بعنوان "الفرج بعد الشدة" للقاضي والأديب المحسن بن علي التنوخي، تتراجع عروس الوكيل الجديدة عن  شتم وتوبيخ زوجها على أخلاقه "المتدنية". يقسم أن يغسل يديه أربعين مرة قبل أن يأكل الزرباج منذ ذلك الحين وبعد ذلك يتصالحان. الدرس واضح: الفضيلة، بما في ذلك آداب المائدة الجيدة، هي مكافأة بحد ذاتها. لكن في نسخة "الليالي"، تعاني زوجة الوكيل مما يمكن أن نسميه بالصداع. تطالب بجلد زوجها وقطع إبهاميه، تماشيًا مع التشويه الذي شوهد في جميع قصص " دورة الأحدب "، وبعد ذلك - بشكل لا يصدق - يتم التصالح بينهما.

من الصعب معرفة كيفية اتخاذ هذا. تمول "الليالي" العنف سواء في رد فعل الزوجة أو في عقاب الزوج، مما يزيد من المبالغة في حد ذاته. وكما لاحظت الباحثة العربية سارة بن طاير، فإن هذا "يخلق المزيد من الجاذبية والفضول على مستوى سرد القصص، وهو أكثر تذكرًا من ’السلوك النموذجي‘" الذي ظهر في نسخة التنوخي المنقحة. وفي النهاية، قد لا تكون القصة أكثر من مجرد مشهد محض. ومع ذلك، إذا كان القارئ يتعلم أي شيء، متبعًا بن طير مرة أخرى، فيبدو أنه عكس حكاية التنوخي: هذا ما تحصل عليه مقابل السلوك السيئ.

"لقد كانت ترجمة غالان الفرنسية هي التي أنقذت "الليالي" من الغموض الذي وقع فيها في الأراضي العربية، وأكدت سمعتها الدائمة في جميع أنحاء العالم." ما الذي ينبغي للمرء أن يفهمه من هذا الادعاء الذي أطلقه الروائي روبرت إيروين، من مقدمة كتاب "حكايات العجائب وأخبار الغريب"؟ ادعاء تفوح منه رائحة الاستشراق الذي يدافع عنه إروين في مكان آخر، وبالتحديد في كتابه "المعرفة الخطرة"؟ ويبدو أن هذا يدعو إلى رفضه باعتباره هراء متمحورًا حول الغرب، مع استثناء واحد: إنه صحيح تمامًا.

في حين أن جوهر الحكايات لا يزال قائما مع مرور الوقت - وعلى الرغم من أن سجلات العصور الوسطى تؤكد تداولها، على سبيل المثال، في سجل القروض لبائعي الكتب اليهود القاهريين في القرن الثاني عشر أو في كتاب "كتاب الخطط" للمؤرخ المقريزي في القرن الخامس عشر. "، تاريخ معماري وسياسي للقاهرة في العصور الوسطى) - جميع نصوص "الليالي" التي ترجع إلى ما قبل القرن الثامن عشر هي عبارة عن مجموعة متنوعة من الإضافات والتلاعبات والزخارف. وهي تُظهر أن "المجموعة لم تكن ثابتة تمامًا سواء من حيث الحجم أو المحتوى"، كما كتب الباحث العربي دوايت رينولدز، "لكن بدلاً من ذلك، استمر منقحو العصور الوسطى في تجميع نسخهم". وقد يأتي هذا من الازدراء الطويل الأمد لـ "الليالي" بين النخب العربية. ومن المفارقات، ولأسباب مختلفة، أن النصين العربيين الأكثر شهرة في الغرب، وهما "الألف ليلة وليلة" والقرآن، ليسا ما يعتقده معظم القراء العرب، في معظم التاريخ العربي، على أنهما رسائل أدبية جميلة.

وفي حالة "الليالي"، نظر إليها القراء العرب على أنها فولكلور وليس كتابة رفيعة المستوى. حتى أن عالمًا مثل مفكر القرن العاشر أبو حيان التوحيدي يقتبس وجهة نظر مفادها أن "هزار أفسان"، المصدر الفارسي لـ "الليالي"، مليء بالخرافة. ناهيك عن المتشددون المسلمون مثل عالم القرن الثالث عشر ابن تيمية، الذي انتقد القصص الشعبية مثل "الليالي"؛ وقد وسم تلميذه ابن كثير أعمالاً مثل "حكاية الأميرة فاطمة، "المرأة المحاربة" ("سيرة ذات الهمة") بانها "كذب وزور وكتابات غبية وجهل تام وهراء فاحش لا يطلبه إلا السفهاء وأحط الجهال". وبدلاً من ذلك، كان القراء العرب في فترة ما قبل الحداثة يقدرون الشعر، وخاصة قصيدة “المديح” المستخدمة في مدح الحكام، والتباهي بالمآثر المجيدة، والإساءة إلى المنافسين. بالنسبة للنثر، كانوا يتطلعون إلى رسائل السفارة، أي المراسلات الحكومية الرسمية المكتوبة بنثر منمق. لا ينتشر أي من النوعين جيدًا في الغرب الحديث، ولهذا السبب لا يعرفهما معظم الغربيين.

على النقيض من ذلك، وصلت رواية الليالي إلى أرفف الكتب الأوروبية في الوقت الذي كانت فيه موجة جديدة من الحكايات الخيالية تجتاح القارة، ولهذا السبب انطلقت نسخة غالاند مثل النيزك، ولماذا، وفقًا لإيروين وآخرين، كانت شرارة غالاند هي التي أعادت إشعال الشغف بالقصص في الشرق الأوسط، تماماً كما فتنت الأوروبيين في البداية بتلك القصص. وكما ازدهرت التحليلات والترجمات والتعديلات الأوروبية لرواية "الليالي" مثل الطحالب في أعقاب غالاند، فقد وجد العرب وغيرهم في الشرق الأوسط طرقًا جديدة في القصص

كانت طبعة "الليالي" الصادرة عام 1835 من المعالم البارزة، والتي استندت إليها جميع الطبعات والترجمات الحديثة. هذا النص، كما كتب خبير "الليالي" أولريش مارزولف، هو الذي "وضع حداً لتطور النص العربي للعمل"، بعد أن ظل في حالة تغير مستمر لأكثر من ألف عام. وجدت دراسات "الليالي" الأكاديمية موطئ قدم لها مع أطروحة الدكتوراه التي قدمتها سهير قلماوي عام 1939، والتي أشرف عليها "عميد الأدب المصري" طه حسين. أثارت أعمال القلماوي الاهتمام برواية "الليالي" في مواجهة الرواية الحديثة، والتي شكلت موضوع مؤتمر عام 1979 في فاس بالمغرب. أعادت بعض الكاتبات العربية  صياغة القصص بعدسة نسوية، مثل ادعاء وداد السكاكيني في "إنصاف المرح" بأن أنوثة شهرزاد وسرد القصص كانا أسلحة لاحتواء النظام الأبوي. وفي عام 1989، خصصت مجلة التراث الشعبي العراقية عدداً كاملاً لـ«الليالي»، بينما نشرت المجلة الفصلية النقدية المصرية «فصول» في عام 1994 ثلاثة أعداد كاملة عن دراسة «الليالي».

لكن اهتمام الشرق الأوسط بـ"الليالي" لا يقتصر على البرج العاجي. كما أنها ألهمت الروائيين وصانعي الأفلام الذين أعادوا تفسير القصص في ضوء جديد. إحدى الحالات الشهيرة هي رواية “ليالي ألف ليلة” (“ليالي وأيام عربية”) التي كتبها الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ عام 1979، والذي اقتبس رواية "الليالي" كرمز للسياسة المصرية في السبعينيات؛ تمت مقارنة روايته بالواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية. أعادت هالة كمال والعديد من المؤلفين المشاركين تصور شهرزاد كبطلة نسوية في كتاب "قلعة الراوية" الصادر عام 1999.

يعتمد الكاتب المغربي الطاهر بن جلون على زخارف "الليالي" مثل الأحلام، والتغيير، والراوي الأعمى، والمخطوطة غير المكتملة في روايته ما بعد الاستعمارية "L’enfant de sable" (طفل الرمال) عام 1985. قال بن جلون عام 1992: "في المغرب، الواقع يتجاوز الخيال. لا يمكن للمرء أن يتخيل الواقع المجنون تمامًا لهذا البلد. "ألف ليلة وليلة" مجازية. إنه يحدث في عالم الخيال، لكنه لا يزال صحيحا ويعبر عن جزء من الواقع. لدى الشعب المغربي خيال استثنائي يتجاوز الواقع.

إن تأثير عروض "الليالي" في السينما والتلفزيون أقوى. وبينما كانت هوليوود تعيش ما يسمى بالعصر الذهبي مع أفلام مثل "لص بغداد" (1940، 1961) أو "رحلة السندباد الذهبية" (1973)، كان هناك أيضًا إبداع تحت عنوان "الليالى" في السينما العربية. صدرت أفلام مصرية بعنوان "أحد عشر ليلة وليلة" عام 1941 من إخراج توجو مزراحي، وعام 1964 من إخراج حسن الإمام. قام ببطولة الفيلم عام 1941 أسطورة المسرح الموسيقي علي الكسار، الذي اشتهر بدوره كعلي بابا في إنتاج آخر لمزراحي ، علي بابا والأربعين حرام (علي بابا والأربعين حرامي). ") فى عام 1942. تحمل هذه الأفلام طابعًا كوميديًا وموسيقيًا كان سائدًا في كل من هوليوود والثقافة المصرية في ذلك الوقت. تقول الباحثة ديبورا ستار إن عمل مزراحي على وجه الخصوص يستحضر القومية المصرية في القاهرة وعالميتها التعددية، باستخدام موضوعات التنكر والهوية الخاطئة لصياغة رؤية مفعمة بالأمل للمستقبل.

وبطبيعة الحال، تعد "الليالي" أيضًا مادة لواحد من أعظم أشكال الفن في الشرق الأوسط: "المسلسل"، أو الدراما التلفزيونية. تتضمن هذه العروض مقطوعات تاريخية يتم عرضها خلال شهر رمضان المبارك وتشبه إلى حد كبير أفلام عيد الميلاد في الغرب، مما يوفر ذريعة للعائلة والأصدقاء للتجمع والدردشة والاستمتاع بتناول وجبة. منذ الثمانينيات على الأقل، أعادت الدراما التليفزيونية في جميع أنحاء العالم الإسلامي سرد قصص من "الليالي". وتشمل العروض الأخيرة الدراما الهندية 2007-2009 "علاء الدين"؛ والدراما التركية “Binbir Gece/ ألف ليلة وليلة” التي عُرضت خلال نفس الفترة؛ والمسلسل المصري ( ألف ليلة وليلة )  عام 2015 بطولة المغنية اللبنانية نيكول سابا في دور شهرزاد.

في الواقع، قد تكون الوظيفة الاجتماعية واللمسة الشخصية التي نراها في الدراما التلفزيونية العربية هي الإرث الأقوى والأكثر ديمومة لمسلسل "الليالي". يشاهد الأطفال في الشرق الأوسط الحكايات في المنزل ويقرؤونها في الفصل الدراسي. يسمعون تلميحات "الليالي" في الحديث اليومي وفي الشارع. يقول الروائي المصري الكندي عمر العقاد في مقابلة عبر البريد الإلكتروني، واصفًا كيف تخيم "الليالي" على كل شيء في مصر: "أثناء عودتك إلى المنزل من الحضانة، قد تمر بمطعم دجاج مقلي يستخدم علي بابا كشخصية لسبب غير مفهوم". تعويذة؛ أو قد يحول بعض البالغين إشارة سندباد إلى نكتة حول أحد أفراد الأسرة الذي يحاول الانتقال إلى الغرب.

هنا تناقض رئيسي بين "الليالي" في الشرق والغرب. وعلى الرغم من كونها محبوبة بالنسبة للأوروبيين والأميركيين الشماليين، إلا أن هؤلاء القراء لا يمكنهم أن يزعموا أن الحكايات تراث مباشر، وليس بالطريقة التي يمكن أن يفعلها، على سبيل المثال، متحدث عربي أصلي نشأ في الشرق الأوسط. ليس علاء الدين وسندباد، بل هرقل، كيوبيد، أوديب، ثور - شخصيات من الأساطير اليونانية واللاتينية والإسكندنافية - هم المحلول الملحي المرجعي الذي تغرق فيه الثقافة الغربية. وحتى منح علاء الدين والسندباد مكانهما، كما ذكرنا، ليست هذه هي الحكايات التي شكلت "الليالي" في معظم تاريخها.

يروي العقاد قصة "لياليه" الشخصية في مقدمة النسخة الإنجليزية الأحدث، التي ترجمتها ياسمين سيل ونشرتها دبليو دبليو نورتون عام 2021. يحمل الكتاب عنوانًا مزدوجًا "الليالي العربية المشروحة: حكايات من ألف ليلة و ليلة"، حيث يشير "ألف ليلة و ليلة" إلى الجوهر المبكر للحكايات العربية، بينما يشير "الليالي العربية" إلى القصص الفرنسية اللاحقة التي أضافها غالاند. يعد هذا التقسيم، بالإضافة إلى الحواشي الغنية والفنون البصرية التي تحيط به، إحدى الهدايا العظيمة للعمل. تدمج سيل والمحرر باولو هورتا وجهة النظر الأكاديمية للنص مع متعة سرد القصص، والتي تتتبع كيفية رؤية الناس في الشرق الأوسط لـ "الليالي".

يتذكر العقاد عبر البريد الإلكتروني: "حتى عندما كان أعمامي يروون لي قصصًا من الليالي، كانوا يبدؤون في كتابة تفاصيل مستقلة ( وهو أمر لم أدركه إلا بعد سنوات). لم يكن هناك عقيدة تقليدية حول هذا الموضوع، بل كان بمثابة مجموعة أدوات جماعية لسرد القصص، يمكنك أن تؤلف ما تريد من الحكايات.

لكن بالنسبة للعقاد، كان أهم متحدث هو والده، الذي كان يتسلل عندما كان صبيًا صغيرًا إلى مقهى الفيشاوي، في أعماق سوق خان الخليلي الذي يشبه المتاهة في القاهرة القديمة، ويستمع إلى قصص الشعراء والمغنين والرسامين وهم يتبادلون القصص والأبيات اللاذعة في وقت متأخر من الليل.هناك شيئان حول هذا المرق المسكر عالقان لدى العقاد على مر السنين. فمن ناحية، كان والده، الذي مات صغيراً، يبتهج وهو يتذكر تلك الصالونات المسكرة. ومن ناحية أخرى، لا توجد سجلات للاجتماعات سوى شهادة والده.

يقول العقاد: "لقد فكرت في هذا الأمر كثيرًا على مر السنين، لأنه ربما لم تكن القصة التي أخبرني بها والدي صحيحة. أو ربما قمت على مر السنين بتحويلها دون وعي إلى ما أريده، أو ربما كان هناك طفل آخر يجلس على أرضية المقهى خلال تلك الجلسات يتذكر ما حدث بشكل مختلف تمامًا. في بعض النواحي، تلك الخاصية الشفافة تخيفني. أريد اليقين، لكن لا أملكه. … نحن جميعًا أوعية للذاكرة، والفن هو السكب.

في النهاية، قد تكون الحرية المشتركة ورعب عدم اليقين هو ما ترمز إليه "الليالي" حقًا. تدعونا الذكريات الغامضة إلى ملء الفجوات، أو- كما في قصة انتفاخ بطن المسكين أبو حسن- إلى نقشها على الحجر بدقة المؤرخ. أيًا كان المسار الذي تسلكه، فكلاهما يعود إلى الماضي ويتجه نحو المعضلة القديمة المتمثلة في "كان ياما كان."

(تمت)

***

...............................

المؤلف: كيفن بلانكينشيب / Kevin Blankinship . يعمل كيفن بلانكينشيب محررا مساهما في مجلة نيو لاينزNew Lines magazine/  . وهو أستاذ مساعد للغة العربية في جامعة بريجهام يونج. ظهرت كتاباته في مجلة The Atlantic، ومجلة Los Angeles Review of Books، وThe Spectator، وThe Times Literary Supplement، وغيرها.

رابط المقال على  New Lines magazine بتاريخ 2 يوليو 2023:

https://newlinesmag.com/essays/the-forgotten-middle-east-legacy-of-1001-nights/

العدالة ممكنة من جهة الحق ومؤجلة من جهة الواقع وإن الانبثاق من صمت طويل للضحايا، يكون أكثر إيلامًا لأنه مدفون أو غير قابل للذكر أو منكر - الانتباه إلى شخصية الضحية التي هي حقيقة حديثة في التفكير في العادل. إشارة أيضًا إلى محاكمة هجمات 13 تشرين الثاني/نوفمبر، التي تغطيها الصحافة في الوقت الحالي، والتي تعطي صوتًا لصدمة الضحايا. يبدأ المتحدث مداخلته بالرفض المزدوج للخطب المهدئة و/أو الوصف المخيب للآمال للعدالة كمؤسسة. الخيارات المتناظرة للمثالية: التعامل مع العدالة باعتبارها فضيلة نقية لا يمكن الوصول إليها ــ و/أو الواقعية: العدالة "أدب القوة" (أناتول فرانس)، واللياقة، والبناء، والمسرح البسيط. إشارة إلى نقد أسلوب إيليتش: ما يشفي يتفاقم، وما يدعي القتال يزيد ويتضاعف. ان الحركة التي نجدها في بعض الفلسفة الفرنسية المعاصرة مع لهجات مقصورة على فئة معينة: دريدا، العدالة باعتبارها "تجربة المستحيل"، الالتباس، "التفكيك" في العمل: "القوة التي تطيح بكل الآخرين"؛ أو مرة أخرى، ليفيناس: العدالة الموضوعة في علاقة مع "الخير المطلق" وما لا يمكن إصلاحه. فساد العالم الذي ستكون النتائج الحقيقية الوحيدة منه هي الخلاصية أو الغنوص والهروب إلى الدين. وهذا البعد لا يغيب عن تفكير أنطوان جارابون بما يتوافق مع رسوخه في فكر ريكور الذي يستشهد منه برمزية الشر. لكنه اختار عمدا البدء من الفجوة التي هي في مركز مهمة القاضي. وبالتالي فإن المستحيل لا يشير هنا إلى العدالة نفسها، بل إلى ما يستحيل قبوله وواجب القيام بالمستحيل في رد الجميل لكل شخص "ما هو مستحق له". هناك نص بليغ من كامو يلهم المناقشة بأكملها:" نحن نعلم أننا في تناقض ولكن يجب علينا أن نرفض التناقض ونقوم بما هو ضروري للحد منه. مهمتنا كبشر هي العثور على الصيغ القليلة التي من شأنها تهدئة الألم اللامتناهي للنفوس الحرة. علينا أن نصلح ما تمزق، وأن نستعيد العدالة التي يمكن تصورها في عالم من الواضح أنه غير عادل، ويحقق سعادة ذات مغزى للشعوب التي سممت بمحنة هذا القرن. وبطبيعة الحال، هذه مهمة فوق طاقة البشر. ولكننا نطلق على المهام الخارقة التي تستغرق من الرجال وقتًا طويلاً لإنجازها، هذا كل ما في الأمر. [1] إن نقطة الانطلاق للتفكير إذن هي محنة العنف والشر التي تنشأ، أمام القاضي، في ومن خلال كلمات الضحية وكذلك المتهم. ويواجهها القاضي "وجهًا لوجه"، كإنسان أيضًا، وليس كقاضي فقط. ضحية اعتداء جنسي من قبل كاهن؛ تقول: "ما عشناه لا يمكن تصوره". تم استخدام صيغ مماثلة من قبل الناجين من المعسكر. ووفقا لصيغة بيغي، فالمسألة إذن هي مسألة "رؤية ما نرى". محاولة حل التشابك الذي لا ينفصم من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها. وستكون العدالة هي المورد الوحيد في مواجهة ما ينهار. في بعض الأحيان، يتعلق الأمر بالقوانين نفسها، من 33 إلى 45 في ألمانيا، و40 في بلدنا، وهناك حاجة إلى محكمة على مستوى أعلى كما هو الحال في نورمبرغ؛ وإلا، فإنه داخل الجسم الاجتماعي، مؤسسة (الكنيسة)، وليس مجرد شخص، ينهار شيء ما أو يصبح معقودًا، ويجب على العدالة أن تعيده أو تتفكك، بقدر ما تستطيع. إن التأمل الذي تم تطويره هنا، بعد آخر أعمال ريكور، متجذر في إطار عمل القاضي ومعناه. الإصرار على دور الإجراء والمحاكمة والجلسة والمحكمة وما هو على المحك هناك من خلال قوة الإطار وأشكاله. سيكون المؤتمر عبارة عن تعليق طويل على صيغة جستنيان المعروفة: " العدالة هي الإرادة المستمرة والدائمة لإعطاء كل ذي حق حقه ". الإرادة والجهد – الاتساق. فالعدالة إذن هي «فن عملي» (أرسطو). معادلة بادينتر: الجمهور "مثل البحر". لقد شرعنا هناك ونواجه لحظات العاصفة. العدالة كفضيلة و"فن قائد الدفة". أي الوقوف بثبات في مواقف المواجهة هذه، والوقوف بثبات في وجه الإفراط. هناك "ليتورجيا قانونية" وظيفتها السماح بـ "سرد" الكلمات المتناقضة و"عقد" المحاكمة. إشارة إلى مؤتمر ميشيل فوكو الذي عقد في يونيو/حزيران 1974 في ريو تحت عنوان الحقيقة والأشكال القانونية. يصر فوكو على فكرة علم آثار الحقيقة فيما يتعلق بتاريخ الإجراءات:أوديب الملك هو نوع من التلخيص لتاريخ القانون اليوناني. العديد من مسرحيات سوفوكليس، مثل أنتيجون وإليكترا، هي نوع من الطقوس المسرحية لتاريخ القانون. يقدم لنا هذا التمثيل الدرامي لتاريخ القانون اليوناني ملخصًا لتاريخ الفتوحات العظيمة للديمقراطية الأثينية: تاريخ العملية التي استولى فيها الشعب على حق القضاء، والحق في قول الحقيقة، ومعارضة الحقيقة. إلى سادته ليحكم على المتسلطين عليه[2].تفكير يتردد صداه مع أعمال جان بيير فيرنانت ولكنه يصر على أهمية "الخلاف" و"النزاع" ولكن بوساطة. «المظهر» يعلق أنطوان جارابون: «الظهور أمام» بعضنا البعض بمنظور «الطرف الثالث» (ريكور). واحد لن يكون موجودا دون الآخر. اربط الشخص الذي فشل بما يمكنه أن يصبح عليه مرة أخرى وبالدور الذي سيقع عليه. مرجع يسمح له باستعادة احترامه لذاته في عينيه. قطب الواجب الذي يأتي في المركز الثالث. وكذلك القانون كمؤسسة ثالثة فيما يتعلق بالحالة "السياسية" للإنسان. التوتر المؤسسي الذي ينبع من التناقض بين القيمة والحرية: وبقدر ما يتعلق الأمر بالكائنات العاقلة والحرة، تتطلب العدالة أن يكون النظام الذي تنشئه خاضعًا لموافقتهم، وأن يكون حتى، بمعنى ما، عملهم حصرًا[3]. "الآخر" إذن هو "كل" من "رد الجميل لكل واحد". هذا الذي ليس صديقاً ولا عدواً، بل هو عضو في المجتمع السياسي أو الإنساني. أمر القاضي بعدم الاستسلام للحب أو الكراهية. البقاء على "المسافة الصحيحة". التكنولوجيا الرقمية كخطر إزالة المكانية التي تذكر بالمكانة الهيكلية للفضاء في عمل العدالة: الفضاء العام، الفضاء بين بعضها البعض والذي يسمح بإجراء المحاكمة. "التسليح"، الاستخدام غير المقيد لـ "الآثار". في الفضاء الاجتماعي، "وجود الآخر يُلزم" (ليفيناس). وهنا على العكس من ذلك: الدعوة إلى الإعدام دون محاكمة، وإنكار قرينة البراءة. مطالبة مشتعلة بالعدالة وانعدام ثقة غير مسبوق في المؤسسات والتمثيل. ومن هنا التذكير بضرورة الفضاء كفاصل وكإمكان "للمشهد". المسرح التراجيدي هو مواجهة، ووسيلة لفك تشابك الخطأ الذي لا يتحمل البطل المسؤولية عنه بشكل كامل والذي يجب أن ينفصل عنه. سيكون استحالة العدالة، في نهاية المطاف، في "العقاب" الذي سيتعين عليها قياسه وإيقاعه: التكافؤ بين العقوبة والخطأ. تضاعف العنف الذي كان من الضروري القتال ضده؟ التوتر من العدالة / الانتقام، التعويض / القمع. ثم يصر أنطوان جارابون على "السرد القصصي" و"المشهد". كتب كامو: "اجعل الأمر قابلاً للتخيل". كذلك يقول ريكور: «الخلاص الجمالي من الشر من خلال المشهد التراجيدي». قد يساعد هذا في حل التوتر المبلغ عنه. دعونا نضيف إلى هذا البعد المكاني، المسح الزمني الذي يتضمنه ويسمح به: "نطق" الجملة، "تنفيذ" الجملة عكس "مسار الزمن". إنها تفتح إمكانية المغفرة وإعادة الاندماج وشكلًا معينًا من النسيان. ذلك الذي يعارضه فرويد بـ"القمع" الأول: هذا، من خلال الكلام، سيكون أو يمكن أن يكون "تجاوزه". فالعدالة إذن هي الجهد المستمر والعنيد لإعطاء كل فرد ما يستحقه.  لماذا يخفق الفاعل السياسي دوليا عندما يؤسس موقف نظام حكمه على منظومة العدالة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.................................

الاحالات والهوامش:

[1] Les Amandiers, en date de 1940 ; dans L’Été, 1954.

[2] Foucault, Dits et écrits, t. I, p. 1439.

[3] Gérard Potdevin, La justice, coll. Quintette.

Antoine Garapon, Bien juger, essai sur le rituel judiciaire, Odile Jacob.

Antoine Garapon, Jean Lassègue, Le droit sans l’espace, justice digitale II, Odile Jacob, sept 2021.

كانت المرحلة المكِّيَّة من عُمر الرسول، عليه الصَّلاة والتسليم، بعد البعثة - أي الثلاث عشرة سنة الأُولى - هي مرحلة العقيدة، كما يُمكِن أن تُسمَّى، على حين جاءت المرحلة التالية- مرحلة (المدينة المنوَّرة)، المتمثِّلة في العشر السنوات بعد الهجرة- لتكون مرحلة الشريعة. فكان طبيعيًّا، من الوجهة التاريخيَّة، أن تجيء فيها الأحكام والتشريعات، التي لم يكن لها ذِكر من قبل، لأسباب منهجيَّة وأسباب واقعيَّة. والمنهج والواقع كانا صِنوَين. فكيف يُشرَّع في (مكَّة) لِما لم يكن بعد؟ كيف يُشرَّع لدولةٍ لم تَقُم أُسُسُها، ولم تواجه مقتضياتها، ولمَّا تشرئب في وجهها التحدِّيات بعد، أو تنزل بساحتها النوازل التي تستدعي الأحكام التشريعيَّة، ولمَّا يحاصرها العدو من كُلِّ طَرَف، من أعرابٍ وثنيِّين ويهود؟!

هكذا استهلَّ (ذو القُروح) مرافعته في محكمة العدل التاريخيَّة أمام مدَّعي النصارى وأنصارهم من مدَّعي الليبراليَّة الحربائيَّة. فقلتُ:

- على أنَّ هؤلاء يتجاهلون، عمدًا- إلَّا إنْ افترضنا غباءهم المطبِق وجهلهم المطلَق- أنَّ مبدأ حُريَّة الدِّين بقي مكفولًا: «وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ؛ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»!

- لكن «مَن شاء» هذا عليه أن يحترم نفسه؛ فلا يقاتل المسلمين، ولا يتآمر عليهم. وفي (سُورة الزُّمَر): «قُلِ: اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي؛ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ.  قُلْ: إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ.» وفي (سُورة الجاثية): «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ؛ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.»  

- غير أنَّ هؤلاء يقولون: إمَّا أن يكون خِطاب الإسلام سِلميًّا دائمًا، أو حربيًّا دائمًا، وإلَّا فهذا تناقُض، أو مَكْرٌ بالناس.

- وربما استشهدوا بمرويَّات مُنْكَرة المتن، بمعايير «القرآن»، وإنْ صَحَّ سَندها. وهذا بلاءٌ عظيمٌ في الثقافة، من الانشغال بالأسانيد وصِحَّتها، وجعل المتون وما بينها من تباين مسألةً لاحقة، أو ثانوية. وزاد الطينة بِلَّة القول بالنَّسخ، أو بهيمنة المرويَّات على الكِتاب، الذي قال عن نفسه: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ، مُصَدِّقًا لِـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ؛ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ؛ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون.» [سُورة المائدة، ٤٨].

- وهكذا صار المهيمِن مهيمَنًا عليه!

- ومن هنا فإنَّ ذلك المنهاج المقلوب هو الذي يُزلِف بين يدَي العابثين كثيرًا من أدواتهم، ويقدِّم أمام الخِطابات المغرضة زادًا يكاد لا ينضب من مَداخل الادِّعاء.

- ثمَّ إنَّ هؤلاء يتجاهلون- عن تقصُّد، وكأنهم بعض كُفَّار (قريش)، أو يهود (خيبر)- مَن الذي كان المعتدي على الآخَر؟ ومَن كان الظالم؟ ومَن المعذِّب للمسلمين في (مَكَّة) لمجرَّد عدم عبادة الأصنام، أو تتويجها بعبارات التمجيد؟ ومَن المنكِّل بالعبيد والنساء والمستضعفين؟ ومَن المُلاحِق لمن قالوا ربنا الله وحده؟ ومَن المُخرِج لهم من ديارهم، تارةً فرارًا إلى (الحبشة) وأخرى هجرةً إلى (يثرب)؟ ومَن المتآمر لاجتثاث الفكرة الجديدة في حَدِّ ذاتها، بعد هجرة المسلمين إلى يثرب؟ مَن مقترف كلِّ ذلك الطغيان، والتصفيات؟ ومَن أرباب التحزُّبات، والاستبداد، والحصار؟ حتى جاء الإذن بالقتال للدِّفاع، بعد أن ضَجَّ المعذَّبون ممَّا حاق بهم من جبروت المشركين وتآمُر اليهود، وحتى أوشك بعضهم أن يُفتَن في دِينه، ويشكَّ فيما وعد الله ورسوله. و«القرآن» يَرُدُّ عن هذه المسألة في قوله من (سُورة الحَج)- وهي مَكِّيَّة، وإنْ قيل بأنَّ فيها آيات مَدَنيَّة(1)-: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا: رَبُّنَا اللهُ؛ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ، لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ؛ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.» كما يُجيب عن تَهَوُّكات أولاء الذين يلعبون على وَتَر المكِّي والمَدَني، ومعزوفة أنَّ الرسول والمسلمين قاتلوا المشركين واليهود، هكذا حُبًّا في القتال والعُدوان، غير محترِمٍ أولو الأهواء من هؤلاء الحقيقةَ التاريخيَّة، والأسبابَ الموضوعيَّة في ذلك القتال، مِن نَكْث الأيمان والمعاهدات، والإخراج من الدِّيار، والبَدْء أوَّل مرَّة بالعُدوان!

- كأنَّ هؤلاء من المثاليَّة الكاذبة بحيث يتصوَّرون بَشَرًا يتعرَّضون للأذى والتنكيل، وعليهم مع ذلك أن لا يحرِّكوا ساكنًا في مقاومة الأذى والتنكيل، والدفاع عن النفوس والجموع، وأنْ يبقَوا مسالمين، فإنْ همُ فعلوا غير هذا، رُموا بالدَّمَويَّة والخروج على السِّلم العام! فأي منطق هذا؟

- هو منطق اللا منطق لدَى الظالمين في كلِّ زمانٍ ومكان! منطق الغرب اليوم مع الفلسطينيِّين في مواجهة محتلِّي أرضهم وتاريخهم.

- ألا ترى أنَّه منطقٌ يتظاهر أحيانًا بالأخذ بمقولة مثاليَّة، غير واقعيَّة، وهي إلى ذلك متأوَّلةٌ  تأوُّلًا غير صحيح، تلك المقولة المنسوبة إلى (عيسى بن مريم): «أحبُّوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم!» وهي تدعو إلى حُبِّ الإنسان لإنسانيَّته، ولو كان عُدُوًّا. أي: حُبُّ الخير له.

- وما العداء في الله إلَّا من منطلَق هذا الحُبِّ لجماعة الإنسانيَّة؟! لكن قل لي: مَن ذا أحرق الأخضر واليابس في العالم، قديمًا وحديثًا، غير مدَّعي ذلك الحُبِّ للأعداء والمباركة للَّاعنين؟! فهم يروجون شِعار «أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم!» إذا تعلَّق الأمر بالآخَرين، أمَّا حين يتعلق الأمر بهم هُم، فشِعارهم الأبدي: «اكرهوا أحبابكم، والعنوا مباركيكم!» وأمَّا أن يُسقَط ذلك المعنى للقول بأنه يعني: اقبلوا الذِّلَّة والمسكنة أمام أعدائكم، فلعبةٌ مكشوفة، لا يقول بها عاقل، فضلًا عن أن يكون صاحب رسالة، تنطوي على ما لا يعمل به أحدٌ ولا يستطيع!

- ومن وجهٍ آخَر فإنَّ هذا المنطق يُمَجِّد الجلَّاد، ويعطيه الحصانة من العقاب، ويسلِّط اللوم على الضحيَّة، إنْ هي انتفضت في وجهه.

- إنَّه منطق الطغيان العالمي اليوم الذي يحتلُّ أرضك، ويستنزف ثرواتك، وينتهك حرماتك، ويسفك دمك، وينتظر منك أن تُحِبَّه، وتشكره، وتباركه! فإنْ أنت نهضت في وجهه، رماك بالإرهاب، وعَقَدَ التحالفات في حربك! وهو منطق الأنظمة الطغيانيَّة دائمًا، ومنطق من والاها، إنْ لأسبابٍ من المصالح أو لأسبابٍ من الأيديولوجيَّات. منطقٌ ليس منَّا ببعيد؛ فلقد بات جهاد الظُّلم والعسف والفساد سُبَّةً بعد الحادي عشر من سبتمبر 2000. ويأتي الحِلف عادةً بين السُّلطة الدِّينيَّة والسُّلطة الظالمة لترسيخ هذا المنطق الغريب في العقول والشرائع والمِلل، حتى لكأنَّ الظالم قد نُصِّب رَبًّا، لا يحقُّ للناس أن تسأله عمَّا يفعل وهم يُسألون؟ فإذا طالب الناس سِلميًّا بحقِّهم، قُتِلوا بدمٍ بارد، وإنْ اضطرهم الألم إلى التحوُّل من الكلمة والدعوة والسِّلميَّة إلى المدافعة والسعي إلى التغيير، أُطلِقت عليهم الألقاب! هذا ديدن الطواغيت السرمديُّ، وهكذا يأتي الخِطاب القرآني لتقويم ذاك المنطق الأعوج في الرؤوس. وما نشبت محاربة رسالة (محمَّد) لأنَّ القوم كانوا يكذِّبونه بالضرورة، بمقدار ما كانت من أجل المحافظة على حاكميَّة (النظام القرشي السابق) أصلًا، الدِّينيَّة والسياسيَّة: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ، وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟! أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ، إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.» [سُورة التوبة]. وذلك بعد الآية «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُمُ، فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَـهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.» وليست الآية هنا أمرًا بقتلهم هكذا ضربةَ لازب، وبلا مناسبة، وبلا سبب، كما يفهم من لا يفهم الخِطاب، أو لا يحبُّ أن يفهم، فيجتزئ ما يريد لما يريد، وإنَّما هي لبيان أنَّ ذلك مأذونٌ به، إذا انتهت الأشهر الحُرم. غير أنه بشروطه، لا عُدوانًا ولا همجيَّةً، وأوَّل تلك الشروط أن يقع العُدوان: «وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة.» بَيْدَ أنَّ ذوي الأغراض، أو حتى ذوي الجهالة القرائيَّة، يفهمون النصَّ على أنَّه أمرٌ بإطلاق اليَد بالقتل بمجرد انسلاخ الأشهر الحُرم: اقتلوا، واسلخوا، واستأصلوا شأفة المشركين!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.................................

(1) تُنظَر في هذا دراسة: الجابري، محمَّد عابد، (2006)، مدخل إلى القرآن الكريم، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العَرَبيَّة)، 1: 246.

 

يثيرني ان اقارن بين تصورين الاول ان الله سبحانه يدير ويدبر اعقد المسائل بما فيها الوجود الفيزيقي والروحاني والنفسي والكوني بطريقة متعالية، متجبرة، رحيمة، اما الثاني فهو عدم تعالي الله، عن الاهتمام بطلب او دعاء او حاجة امراة فقيرة في مدينة فقيرة، ومن المهم مقارنة الصورتين، بين المتكبر والرحيم، وبين البعيد والقريب، او بين اللامتناهي وبين معالجته  للمتناهي .

‏لا شك لدي من وحدانية الله وهو واحد بالذات والصفات، والقول بالواحد ليس ليس معناه أنه عدد كباقي الأعداد بل المقصود أنه لا ثاني له .

‏و دار في ذهني وأنا انظر إلى الاكتشافات الجديدة في الكون بواسطة المناظير الحديثة، ‏دار في ذهني المقارنة بين مفهوم الله الذي نعرفه والذي هو أقرب من حبل الوريد وبين مفهوم الله الذي هو الخالق  للمليارات من المجرات التي تبدو بأنها لا متناهية.

‏إن هذه التوسعة في الكون والتي تقترب من مفهوم والسماء بنيها بايد وإنا لموسعون، وهو النص القرآني، تلك التوسعة في الجانب اللامتناهي يخلخل في ذهني التصور النظري او الايماني، فالله الذي يبدو لي أقرب من حبل الوريد، والذي اعرفه بكونه أحد مفاهيمي أو تصوراتي أو عقائدي ‏أو ولي امر وجودي، وبإمكاني التعامل معه على أنه قوة قادرة يمكنني أن أطلب مساعدتها في كل وقت، ‏ويمكن التحدث معها يوميا خمس مرات أو أكثر في الصلوات وغيرها، واتواصل معها في شهور فرضتها هذه الذات مثل رمضان أو الأعياد أو الحج أو الشعائر، ‏إن مثل هذا التواصل القريب بصفه يمثل ‏العلاقة الحقيقية بين العبد والرب،  يختلف عن ذلك التصور الذي ينظر بنظرة شمولية ‏إلى الوجود اللامتناهي في مساحات لا يمكن للذهن ان يحدها بتصوراته البسيطة .

‏ويكون السؤال المعرفي هل أن الله الذي اعرفه واسأله دائما وهو قريب مني (الله المحلي في تصوري) هو ذاته الله الذي خلق هذه المساحات اللا متناهية من الأكوان والمجرات (الله الكوني).

‏والجواب هو ذاته الله القادر لكن ما يختلف هو القدرة على فهم النظر الشمولية لمخلوقات الله المختلفة اللا متناهية.

ففي تصوري للجانب المحلي اجد بان الله ملامس للواقع، قريب من الجزيئات، حاضر في منظومة الجانب الانساني، فهو يدبر انسنتنا بصورة مكثفة، نلجا اليه وفق كون موضوعه ضمن ذواتنا، فهو قريب منا لان ذواتنا تطلبه، ولان دائرة حضوره عند حاجتنا نشعر بها على انها ملامسة لخارطة ادراكنا، فنحن من نطلبه وهو قريب منا لانه يحيط بكل الاشياء ومن ضمنها نحن .

والمحلية هنا ‏لا تعني بأنها محدودة وغير شاملة أو أنها غير محيطة بالأشياء، بل تعني أنها وجود الخارق وتدبيره للأشياء القريبة منا، أو التي نحتاجها، أو الأشياء التي نعرفها وندركها ضمن  منظومة تصوراتنا، والمحلية قد تعني الرجوع للذهن في فهم الله، ‏والرجوع للقواعد المعرفية لفهم الخالق، ‏ومن ضمنها الصفات خاصة به، ‏وهذا فهم نظري، تفكيري، ‏يبنى على قواعد منطقية، ‏أو قوانين تعارفنا عليها، لكن الجانب الكوني يمثل الجانب التطبيقي لمعرفة عظمة الله وفهم عظمة الآيات سيما الآيات ذات الحجم اللامتناهي وسوف يقودونا ذلك ‏إلا هوة، او ‏ فراغ سيكون بين تفكيرنا النظري وبين الواقع اللامتناهي من عظمة هذا الكون المتسع وحجمه المخيف .

لهذا فان مفهوم الله الكوني هو نوع من انواع الادلة التوحيدية التي تقرب لنا منظومة خلق الله اللامتناهية في السموات العديدة، وتدمجها في تصوراتنا التي كانت مقتصرة على الفهم النظري العقائدي الايماني لله، والذي يشير الى تنميتنا لمفهوم الله النظري وتاكيده حتى اصبح عقيدة راسخة لوجود اله واحد لا اخر له، اما جانبه الاخر وهو التطبيقي فيشير الى توسعة مفهوم الخالق باذهاننا وعدم الاكتفاء بالتصور او النظر الى الايات المنطقية السببية، بل التصديق بذلك الوجود على انه ليس الاله الذي نحاول تصوره باذهاننا، والذي نسمع وفق النص الديني  بانه عادل وقوي ومتكبر وصانع ولانهاية له …الخ، بل من خلال التصديق  ب لا نهائيته وبما خلق من خلق

‏إذا بين المحلي والعالمي أو الكوني، ‏يقف تصور كل فرد لما هية كل من ‏المحلي أو الكوني، ‏ربما برزت بعض الأسئلة التي توضح هذه القضية ويمكن السؤال إن هذه السعة.

‏المكانية المليارات النجوم المجرات هل تشغل الله عن العلم بالجزئيات، أيضا كيف يمكن للرب الذي خلق هذا الكون الشاسع أن يعطي اهتماما إلى الإنسان العاصي أو غير العاصي، وهل يستحق هذا الإنسان أن يعطى الاهتمام، وكيف نفرق بين فعل الله في اعقد مسائل الكون، وفعله مع ابسط فهوم وسلوكيات وشخصيات الناس البسيطة، حتى يصل الامر انه يوصف بسريع الرضا .

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

2022-2031

انقضت صلاحية الاستراتيجية السابقة المرسومة للاعوام 2011-2022 من دون ان تحقق ما كان مخططا لها من تطبيق، وقد يعود ذلك لعدة اسباب منها تعاقب الوزراء والتغيير المستمر للقيادات العليا في الوزارتين وانعدام الاستقرار والتمويل وتغيير التشريعات والتعليمات المنظمة لقطاع التعليم، واهمال التركيز على الصورة الكبيرة والأهداف الاستراتيجية والرؤية المستقبلية والتخطيط والتحليل والتقييم للأداء والنتائج، والاقتصار على التركيز على أمور ثانوية أو غير مهمة والتحكم في العمليات الروتينية واحكام القبضة على الجامعات بشكل مباشر مما ادى الى فقدان المرونة والقدرة على التكيف مع التغيرات واضاعة فرص التطوير والاصلاح . وبررت الستراتيجية الجديدة هذا التلكؤ في التنفيذ الى:  "الظروف الامنية والمالية التي تعرضت لها البلاد في عام 2014 ". ومع ذلك، وضعت فصلا خاصا بعنوان "تقييم وتجاوز التحديات" عددت فيه منجزات ومبادرات وزارتي التربية والتعليم العالي معتبرة اياها جزءا من برامج الستراتيجية .

الستراتيجية الراهنة تشكل فرصة جديدة وهامة لإصلاح قطاع التعليم في العراق، خصوصا انه يواجه تحديات كبيرة نتيجة لسنوات من الصراعات والأزمات. كما تستجيب للاحتياجات المتغيرة لسوق العمل والمجتمع المدني في ظل الثورة الصناعية الرابعة. لكن تحقيق أهداف الاستراتيجية يتطلب التزاما سياسيا قويا من جانب الحكومة، وشراكة فاعلة مع جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المعلمين والتدريسيين والطلاب، ودعم مستمر من المانحين والشركاء الدوليين.

تتميز الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق للفترة من 2022 إلى 2031 عن سابقتها بكونها خطة طموحة لحلول وخطط وبرامج اكثر سعة ونطاق تسعى إلى رفع مستوى الجودة والكفاءة والشمول في نظام التعليم العراقي، وتزويد الشباب بالمهارات والمعارف التي تمكنهم من المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، وتحسين المهارات التطبيقية للخريجين، وضمان نموذج تمويل مستدام للجامعات. وهذا، بقدر ما هو يمثل اهداف سامية، يثير القلق والشك في قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه، فهي تسعى إلى تحقيق مستوى لا يتناسب مع حالة الأمور المتردية التي يعيشها التعليم.

وعلى الرغم من طموح وشمولية الاستراتيجية، الا أنها واجهت بعض الثغرات ونقاط الضعف، والتي يمكن تلخيصها كالتالي:

1- الستراتيجية لاتبدو شاملة للعراق باكمله لانها كما يظهر لا تشمل العراق عامة بمدارسه وجامعاته في كردستان العراق. انها استراتيجية للتربية والتعليم في الجنوب والوسط تتضمن "التعاون مع الحكومة الإقليمية في كردستان والجهات المانحة والشركاء الدوليين لتحسين جودة التعليم في الإقليم". ولا افهم كيف انها تهدف إلى "توحيد المناهج والمقاييس والشهادات في جميع أنحاء البلاد" بينما تهمل معايير ومؤشرات التربية والتعليم في جزء من البلاد.

2- تتميز الستراتيجية بضعف المعلومات او الاحصائيات عن المدارس والكليات والجامعات الاهلية ومن النادر ان نجد معلومات كافية عن دور المدارس الجامعات والكليات الاهلية ولا نتعرف عن حقيقة الارقام وهل هي تمثل التعليم الحكومي ام مجمل التعليم العام. لذلك، لا يمكن اعتبار هذه الستراتيجية كاملة وتهتم بالتعليم في البلد كله، بل تحتاج إلى مراجعة وتحديث لتشمل القطاع الأهلي والأجنبي في خططها وبرامجها وسياساتها.

3- بالرغم من الاستراتيجية هدفت إلى توفير فرص التعليم العالي اعتماداً على متطلبات سوق العمل، وللارتقاء بجودة مكونات نظام التعليم العالي بضمن العديد من الاهداف، الا اني لم أجد أي ذكر للكفاءات والخبرات والعقول البشرية في الخارج كجزء من هذه الاستراتيجية. ربما يكون هذا نقصاً في الاستراتيجية، لأن هذه الفئة من الموارد البشرية يمكن أن تساهم في تطوير التعليم في العراق من خلال نقل المعرفة والخبرة والابتكارات التي اكتسبوها في بلدان أخرى. كما يمكن أن تساعد في تحسين سمعة الجامعات العراقية على المستوى الدولي، وتشجيع التعاون الأكاديمي والبحثي مع مؤسسات عالمية. إذن، يبدو أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في هذه الاستراتيجية لإدراج هذه الفئة كشريك مهم في تطوير التعليم في العراق.

4- لم تبدي الستراتيجية اي اهمية او خطة او اشارة الى اهمية الاعتماد الاكاديمي الدولي للجامعات ومؤسسات التعليم العالي في تطوير التعليم وضمان الجودة ولا على اهمية المشاركة في برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA) مما يدل على قصر نظر واضعي الستراتيجية وعدم إدراكهم للفوائد الجمة التي توفرها محركات التعلم هذه. اما عدم الاهتمام بالتصنيفات الجامعية الدولية ولا الى المشاركة فيها فانه يدل على اختلاف واضح مع سياسة التعليم العالي الحالية وعلى قناعة واضعي الستراتيجية بعدم جدوى هذه التصنيفات في تطوير التعليم العالي ولربما ايضا الى قناعاتهم (وقناعتنا ايضا) بانها بالواقع تعرقل تطوير الجامعات.

5- تخلو الإستراتيجية من التحديات أو الثغرات أو المجالات المحتاجة إلى تطويرالتعليم فقد اشار بعض المحللين إلى أن الإستراتيجية كانت ضعيفة في مجالات مثل دور المجتمع المدني في التربية والتعليم، أو احتواء التطورات التكنولوجية، أو مواءمة المخططات التشغيلية مع المخططات الإستراتيجية. كذلك، قد يكون هناك بعض الصعوبات في تنفيذ الإستراتيجية ومتابعتها وتقييمها ورصدها، خاصة في ظل الظروف الأمنية والمالية والسياسية المتغيرة في العراق

كما يمكن أن نشير إلى بعض المجالات التي اهملتها الاستراتيجية، مثل:

1- التكافؤ: حيث لم تركز الاستراتيجية بشكل كاف على معالجة التفاوت في فرص التعليم بين المناطق والفئات المختلفة، وخاصة في ظل تأثير الصراع وانعدام الأمن على بعض المجتمعات.

2- التطوير: حيث لم تشمل الاستراتيجية بشكل واضح خططا لتطوير المناهج والبرامج التعليمية، ورفع كفاءة ومهارات المعلمين والأساتذة، وإدخال التقانات الحديثة وتدريب المهارات في عملية التدريس والتعلم.

3- التشارك: حيث لم تستفد الاستراتيجية بشكل كاف من مشاركة أصحاب المصلحة في قطاع التعليم، مثل الطلاب واهاليهم والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في صياغة الأهداف والسياسات والبرامج

4- الفساد الاداري والمالي: حيث يمكنه من عرقلة او افساد اي مشروع تضمنته الستراتيجية وهو بذلك اصبح عائقا رئيسيا امام اصلاح او تطوير التربية والتعليم في العراق.

5- الاخلاق الاكاديمية: تعتبر ظاهرة الغش والانتحال والسرقات العلمية السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد.

6- الحريات الاكاديمية: بدون الحرية الفكرية وبدون الانفتاح واحترام الرأي الاخر ونبذ الاقصاء وبدون تربية العقل النقدي وتحفيز العطاء والابداع وتقديم البراهين وطرح البدائل والتي تساهم جميعها في الخروج من اطار الافكار الجاهزة والقناعات النمطية والتفكير الشمولي، فأن المؤسسات التعليمية تتحول الى مجرد مكان لتلقين المعارف الجاهزة ومعقلا لركود الفكر ولمقاومة التغيير وتحديث المجتمع.

هذا وعانت الاستراتيجية  من بعض الضعف في مجالات مثل:

1- التمويل: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى كلفة تقدر بـ 140 ترليون دينار خلال السنوات العشر المقبلة، وهو مبلغ كبير يتطلب زيادة حصة التعليم من الموازنة العامة والإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي. ولتغطية هذه الكلفة، تضمنت الاستراتيجية ثلاثة معايير رئيسية  لزيادة التمويل لقطاع التعليم، وهي:

- زيادة حصة قطاع التعليم من النفقات الحكومية من 10% في عام 2021 إلى 16% في عام 2031.

- زيادة الإنفاق على التعليم من 11 ترليون دينار في عام 2019 إلى 29 ترليون دينار في عام 2031 وهو ما يعادل 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

- استحداث بند خاص في الموازنة العامة للدولة لتمويل مشاريع برنامج “تطوير وتأهيل مشاريع تحويل التعليم”، والذي يشمل بناء وتأهيل المدارس والجامعات والمختبرات والمكتبات والورش والملاعب وغيرها من المرافق التعليمية

ندرك أهمية الزيادة الهائلة في حصة التعليم لتنفيذ الستراتيجية، لكن هل ستكون قابلة للتحقيق؟

2- التنفيذ: حيث تعتمد الاستراتيجية على فرضيات وتوقعات للتحسن التدريجي لمؤشرات التعليم، إلا أنها تتوقف على الاصلاحات المذكورة بها، والتي تحتاج إلى تنسيق متقن وتكامل محكم بين مختلف الجهات المعنية.

3- التقييم والمتابعة: حيث تحتاج الاستراتيجية إلى آليات وأدوات فعالة لقياس مدى تحقيق الأهداف والأولويات المحددة، وتحديد نقاط القوة والضعف في عملية التطبيق، وإجراء التعديلات والتحسينات اللازمة. في هذا الصدد، فأن تشكيل لجنة عليا من وزراء للاشراف على تنفيذ الاستراتيجية سيقوض عملها بسبب احتمالية التناقض الكبير بين الأهداف السياسية للوزراء والأهداف التربوية للاستراتيجية.

هل من اختلاف عن استراتيجيات الدول المتقدمة؟

بالرغم من توافق الستراتيجية العام مع استراتيجيات الدول المتقدمة للتربية والتعليم الا انها اختلفت عنها بعدة نواح، منها:

1- درجة التنفيذ والإشراف: فالدول المتقدمة تتمتع بإطار قانوني وإداري وفني يضمن تطبيق استراتيجياتها بشكل فعال وشفاف، وتحقق مؤشرات محددة وقابلة للقياس، بالاضافة إلى مشاركة جميع الشركاء المعنيين في عملية التخطيط والتقويم. أما في العراق، فإن هناك عوائق كثيرة تحول دون تحقيق رؤية الاستراتيجية، مثل ضعف البنية التحتية والإمكانات المادية والبشرية، وانعدام الأمن والاستقرار، والتأثيرات السياسية والدينية، وغياب ثقافة احترام المؤسسات التعليمية والمركزية الشديدة في صنع القرار.

2- محتوى التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تسعى إلى تطوير مناهج تعليمية مبتكرة ومتكاملة، تركز على تنمية المهارات الأساسية للقرن الحادي والعشرين، مثل التفكير الناقد والإبداع والتواصل والتعاون، وتستخدم استراتيجيات تدريس متقدمة تشجع على التعلم الذاتي والنشط والاستكشافي، كما تستفيد من التكنولوجيا الحديثة في إثراء بيئات التعلم. أما في العراق، فأن محتوى التعليم والتعلم يعاني من الجمود والتقليدية، ويتركز على حفظ المعلومات وإعادة إنتاجها، دون تطبيقها أو تحليلها أو ربطها بالواقع، كما تستخدم استراتيجيات تدريس تقليدية تعتمد على الشرح والمحاضرة، دون تفاعل أو تشارك بين المعلم والطالب، كما تكاد تغيب التكنولوجيا عن معظم المؤسسات التعليمية.

3- نتائج التعليم والتعلم: فالدول المتقدمة تحقق نتائج متميزة في مجال التعليم والتعلم، تظهر في ارتفاع مستوى الأداء الأكاديمي لطلابها في الاختبارات الدولية، مثل برنامج التقييم الدولي لطلاب المدارس (PISA)، وارتفاع مستوى الإنجاز والابتكار في مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وارتفاع مستوى التوظيف والإنتاجية لخريجيها في سوق العمل. أما في العراق، فإن نتائج التعليم والتعلم تبقى دون المستوى المطلوب، حيث يحتل العراق مراتب متأخرة في التصنيفات الدولية لجودة التعليم، ويشهد نقصاً في الكفاءات العلمية والابداعية، ويواجه صعوبات في توفير فرص عمل مناسبة لخريجيه.

واخيرا، وباختصار، الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق 2022-2031 خطة طموحة تهدف إلى تحسين جودة وفعالية وشمولية النظام التعليمي في العراق، وتعزيز دوره في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد. تقييمي للاستراتيجية هو أنها خطوة إيجابية نحو رفع مستوى التعليم في العراق، لكنها تحتاج إلى تدارك النواقص والثغرات ونقاط الضعف المذكورة اعلاه، والى التزام حكومي وشراكة مجتمعية لتنفيذها بنجاح.

***

ا. د. محمد الربيعي

تعرف النفس تمامًا ما تم اخفاءه، ولا تريد أن تعرف، لا تريد المواجهة، لأن المواجهة مؤلمة، يهرب الإنسان من عالمه الخارجي، لأنه هرب من نفسه، كلنا نحمل في دواخلنا أضدادنا، لا نتقرب لهذا الضد الذي كَونَ هذا الذي يضايقنا، ليس لدينا القدرة على مواجهته، رغم أننا نعرفه تمامًا، كما هو في حالة الوسواسي، يعرف أنه يقوم بفعل غير صحيح، ولكنه يصر على القيام به، ما هذا الصراع المحتدم في النفس؟ تقول "هيلين دويتش" فالذي يجعل الصراع الفعلي المرتهن بالواقع، صراعًا عصابيًا هو العجز الذاتي عن حله. وتضيف " دويتش" ان كل إنسان يَكون في حقيقة الأمر في حالة مستمرة من الصراع الكامن، مع العلم الواقعي من جانب، ومع قواه الذاتية الداخلية من جانب آخر، وتضيف "دويتش" ان الحل المنسجم لهذه الصراعات الداخلية والخارجية أمر يتعلق بشخصيته ولكل فرد أسلوبه الشخصي المميز في مواجهة الاحباط السوي .

انها النفس في رحلة البحث عن البناء وتكوين اسس الشخصية التي نستدل على مكوناتها من خلال ما يصدر عنها من سلوك، حيث قال علماء النفس أن السلوك هو تكوين فرضي، بمعنى أننا نستدل على ما هو متكون في دواخلنا من أبنية نفسية وفكرية ومعنوية، نلمسه في سلوكنا بعد أن تحول إلى واقع، أو قصيدة شعر، هفوة وفي ذلك يقول استاذ الأجيال العلامة "مصطفى زيور" إن الإنسان فيما يبدو لنا منه لا ينطبق على نفسه، فهو ليس هو، وهو ليس ما هو "مصطفى زيور – في النفس، ص 403"

سنحاول في السطور القادمة كيف تم بناء - بنية هذا التكوين، أقصد به التكوين النفسي، أو التكوين الفكري، أو التكوين المعنوي، الذي ينتج لنا الأدلة من خلال السلوك الصريح، أو الإيماءات، حركة الجسد بالرفض والقبول من خلال العيون، أو الهفوات وزلات اللسان والقلم، أو كما يقول سيجموند فرويد عملاق النفس البشرية مؤسس التحليل النفسي : بأن الهفوة تنطوي على قصد، وهي أن القصد في بعضها يُستبدل به قصد آخر استبدالًا كليًا، كما هي الحال حين ينطق الفرد بعكس ما يريد.

ما أعجب لهذه النفس مما تحمله من تلاعب ليس في الألفاظ فحسب، بل في ما يصدر عنها والأمر سيان بينهما . وقول فرويد " أن فلتات اللسان تنجم في كثير من الاحيان عن قصد مشين يلبس لبوس الاسم المحرف.

يرى فرويد من خلال عمق دراسته لما يدور في النفس بهذا الجزء قوله : فليست الهفوات وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، فضلا عن ذلك بأن الكثير منا ينسى، يتناسى، أو لا يريد أن يتذكر، بل أن نفسه ترفض استدعاء ما طلب منه تنفيذه، نتسائل هل هذا شيء عفوي؟ هل هذا شيء مقصود؟ هل هذه رغبة لاشعورية في عدم فعل هذا الأمر؟ ويقدم لنا فرويد الدليل بقوله : إن نسيان تنفيذ القرارات والمشروعات يمكن أن يعزى بوجه عام إلى دافع مضاد يتعارض مع تنفيذ القرار، ونقول لا رغبة له في ذلك، أو رفض لما يصدر له من أمر، وهذا له دلالة ومعنى !! فالرجل الذي ينسى يوم موعد زواجه، أو ينسى ما تطلبه زوجته من مشتريات كلفته بها قبل عودته للبيت، لم يكن أمر عفوي، أو عشوائي، أو غير ذو معنى، لابد أن يكون خلفه دافع، والله أعلم ما هذا الدافع؟ ولكن المشتغلين في التحليل النفسي يعرفون تمام المعرفة هذه الظواهر في النفس وما يصدر عنها!! هو يعرفه تمامًا مثل الشخص الوسواسي الذي يعرف ما يقوم به، وقبل أن يفعل، من فعل سخيف، لكنه يصر على القيام بفعله هذا. وتقول "نيفين زيور" أننا نجد لدى الأسوياء صراعات عصابية، تعبر عن نفسها بأشكال جدً متنوعة، وتضيف " نيفين زيور " قولها إن هناك تكوينات عرضية تشبه العصاب النفسي " الاضطراب النفسي " للدفاع من وجهة النظر الوصفية البحتة، دون أن تحمل الميكانيزمات " الآليات" نفسها، فالحصر الهائم والهيبوكوندريا "توهم المرض" والوهن ذو الأسباب النفسية، والاكتئاب العصابي يمكن أن يقترب في بعض سماته من العصاب النفسي للدفاع، حيث الوعي نفسه بالحالة المرضية بجانب الاستمرارية نفسها فيما بين الاضطراب والشخصية قبل المرضية، والمتصل نفسه بين السواء والمرض " وللاستزادة يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتورة نيفين زيور – في التحليل النفسي "

إذا ضاقت النفس بما في داخلها ولم تستطع تحويله إلى سلوك مقبول إجتماعيًا، أسريًا، مهنيًا، لأنه غير مقبول، مستهجن، مرفوض، واستطاعت النفس أن تهرب من نفسها، فتلجأ إلى التخفي والتحايل على الرقيب، ويكون الحلم هو موطأ الأسرار بلا قيود ولا رقابه، فيتقيأ الإنسان ما ضايقته تلك الأفكار، وما يحمل من تأوهات كادت أن تخنقه في حالة الوعي – الشعور، فهرب بها إلى اللاشعور – اللاوعي، ظهر لنا الحلم كرغبة في قول لا يريد قوله بالعلن، عبر عن نفسه في الطريق الذهبي – الملكي إلى اللاشعور، فالحلم رغبة، لكنها في الواقع مقموعه، وفي اللاشعور كبت لما يرغب، وقول " جاك لاكان" مجدد فكر التحليل النفسي الفرويدي : الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعه إلى اللاشعور – اللاوعي.

يرفدنا العلامة "مصطفى زيور" بفكرة رائعة قوله : يطلق سراح اللاشعور إذا ما تدثر بالجمال، ونقول بالشعر، والأدب، والرواية، والقصة، والمسرح، والخطاب المؤثر بالنثر والتأليف بأنواعه وغيرها . 

لنا رحلة نفسية في البحث والبناء عما يدور في النفس وحناياها من ديالكتيك غير منتهِ، متجدد لأن النفس متجددة – ديناميكية – لا تتوقف لحظة عن التفكير، والتفكير هو الذي يسبب لنا دائمًا الاضطراب النفسي، وأوله القلق – الحصر بأنواعه، القلق الدافع، القلق الهائم، ومن ثم القلق المرضي، أم في حالة القلق كموقف ينتهي بإنتهاء الموضوع الذي سبب التفكير الزائد ومن ثم القلق به .. لنا رحلة مع النفس لا تنتهي .

***

د. اسعد الامارة

 

مقدمة: الهجرة السكانية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، وهي تحدث استجابة لأسباب متعددة، مثل البحث عن موارد معيشية وحدوث الكوارث الطبيعية، والتغيرات المناخية، والحروب، والاضطهاد الإثني والديني والمذهبي. واستجابة لدوافع اقتصادية مثل البطالة والبحث عن عمل وحياة أفضل. ولأسباب سياسية خصوصا التعرض للقمع السياسي والفكري ومصادرة الحريات في ظل النظم المستبدة وغيرها. لكن الانتقال من المرحلة الاقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا على وجه الخصوص والتوسع الرأسمالي العالمي خصوصا الاستعماري منه زاد من أعداد المهاجرين على نحو كبير، سواء على صعيد الهجرة الداخلية مثل الهجرة الريفية - الحضرية أو الهجرة الحضرية - الحضرية أو على صعيد الهجرة الدولية. كذلك تنوعت أنماط الهجرات واتجاهاتها وتعقدت تأثيراتها المتبادلة الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والثقافية سواء في البلدان المرسلة للمهاجرين أو المستقبلة لهم.

 ارتبط ظهور الرأسمالية وخاصة في مرحلتها التجارية بالاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، وما نتج عن هذه الاكتشافات من هجرات ضخمة من أوروبا نحو ما سُمي بالعالم الجديد، الأمريكيتين وأستراليا ونيوزلندا. واستمرت هذه الهجرات في مرحلة الرأسمالية الصناعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر نتيجة الثورة الصناعية في بريطانيا. لكن بعد النمو الاقتصادي الذي شهدته بلدان أوروبا الغربية في ستينيات القرن العشرين تباطأت الهجرة من أوروبا إلى العالم الجديد، بل أصبحت مقصدا رئيسا للمهاجرين القادمين خصوصا من البلدان النامية نتيجة تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة.

 سنركز في هذا المقالة على فحص العلاقة البنيوية بين الرأسمالية كنظام وبين الهجرة خصوصا الدولية منها وآليات عملها. وكيف أن الرأسمالية تخلق شروط الهجرة وتديمها وكيف تُسهم الأخيرة في إدامة الرأسمالية. وسنتناول الجانب النظري الذي يمهد لتفسير هذه العلاقة وفهمها، ونبحث في الهجرة القسرية: تجارة الرقيق، والحرب والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا، وأخيرا تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة.

 الجانب النظري

 اشار كارل ماركس في القرن التاسع عشر إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص الفائض من البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام(1). وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع، عن طريق استعمار البلدان الأوروبية المباشر لكثير من البلدان، خصوصا النامية منها.

 كذلك ذكر ماركس بأنه في مجرى عملية تراكم رأس المال فإن مشكلة تقييم العمل لها علاقة بالتغير التقني الذي يخلق "جيشا احتياطيا" من العمالة العاطلة عن العمل أو "سكان فائضين نسبيا" ويزيد من الصراع الطبقي. لذلك، من الممكن المناقشة بأن التغير التقني هو متغير حاسم في خلق شروط الهجرة في ظل الرأسمالية من خلال خلق العمل الفائض. هذا هو السبب في أن كتلة كبيرة من العمالة المهاجرة المحلية والدولية تكون عمالة فائضة تبحث عن عمل وظروف حياة أفضل في بلدان المقصد.

 في عملية الإنتاج الرأسمالي تخلق القوى العاملة المزيد من القيمة التي تستخدم في استبدال القوى العاملة في دائرة دائمة التوسع من الإنتاج السلعي. ويعتبر ماركس التراكم الرأسمالي، من خلال السعي لإنتاج فائض القيمة وتوسيعه، القوة الدافعة للرأسمالية. لذلك، فإن هجرة العمالة من وجهة نظر ماركسية هي عامل ضمني في عملية الإنتاج السلعي الرأسمالي، وهي تلعب دورا مركزيا في التراكم الرأسمالي وفي النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. وبقدر ما تساهم العمالة المهاجرة والأنشطة الاقتصادية التي تنطوي عليها عمليات الهجرة في تراكم رأس المال، بقدر ما تصبح الهجرة جزءا حيويا من القوة الدافعة للرأسمالية(2). وهكذا يتضح الترابط البنيوي بين الرأسمالية والهجرة الدولية .

 يترافق توسع رأس المال عالميا مع هجرة كل من العمالة الماهرة والعمالة غير الماهرة كي يؤدي دوره في انتاج القيمة في النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. لذلك، يطوف رأس المال العالم للبحث عن فرص الاستثمار ويتحرك العمال للبحث عن عمل أفضل وتحسين ظروف معيشتهم. ومع ذلك، يواجه العمال معوقات أكثر في حركتهم من رأس المال. لا يذهب رأس المال فقط إلى العمالة في البلدان الأجنبية فهو يجند أيضا العمالة من البلدان الأجنبية، وبهذه الطريقة يديم بروليتاريا العمالة والصراع الطبقي على الصعيد العالمي(3).

 كان مفهوم "الدفع – الجذب" غالبا ما يستخدم في تعليل أسباب الهجرة والذي يخص الهجرة الداخلية والدولية في المجتمعات الصناعية والريفية. وعلى قاعدة هذا المفهوم يهاجر الأشخاص إلى المناطق التي تتوفر فيها فرص عمل أفضل من أماكن إقامتهم. وفي برنامج بحث لجنة "التغيير العالمي وحركية السكان"، عُدّ هذا المفهوم قديما من بعض النواحي وبسيط جدا في هذه الأيام لتفسير الهجرة التي لها علاقة بالشرط المالي وبالنشاطات الإنتاجية. فقد نشأت أيضا حركية السكان في السنوات القليلة الماضية من الاستهلاك والترفيه والسياحة والبحث عن أسلوب حياة جديد(4)، حتى خارج البلدان المتقدمة، وهذا يمكن أن ينطبق على ما يُسمى بهجرة المتقاعدين خصوصا إلى البلدان الأوروبية المتوسطية والتي تكون في كثير من الأحيان موسمية.

 تتضمن الهجرات عملية مزدوجة من التحويلات الاقتصادية. فمن ناحية، فهي تمثّل نقلا للعمالة من مجتمعات الأصل إلى الاقتصاديات المتطورة. ومن ناحية أخرى، تشكل التحويلات والسلع والخدمات التي يرسلها المهاجرون نقلا معاكسا يُسهم بإعادة الإنتاج الاجتماعي للمهاجرين وعائلاتهم ومجتمعاتهم. ويربط هذا النظام المزدوج للتحويلات الاقتصادية إعادة إنتاج قوى العمالة المهاجرة في أماكن الأصل مع إعادة إنتاج رأس المال والاقتصاد في مجتمعات المقصد، لذلك، يُسهم في إعادة إنتاج الرأسمالية كنظام اقتصادي منتج وعالمي.

 في الحالة الأولى، عندما تشترك العمالة المهاجرة في العملية الإنتاجية فإنها تُصبح جزءا من عولمتها. وهنا تقع أهميتها بأنها تمثّل قوى عاملة تتجلى مساهمتها على حد سواء في آليات سوق العمل وفي الإنتاج والنمو الاقتصادي في المجتمعات المتقدمة، وتُسهم في توليد الفائض الاقتصادي اللازم للحفاظ على إعادة إنتاج رأس المال المتوسع. وفي الحالة الثانية، فإن التحويلات المالية هي صندوق للأجور وظيفته إعادة إنتاج القوى العاملة الضرورية والمتاحة لنمو رأس المال وتراكمه(5). هذه القوى العاملة تكون في البلدان المرسلة للمهاجرين خصوصا النامية منها.

 كذلك تُسهم الهجرة في خفض تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، خصوصا، الشبكات الاجتماعية التي تديم الهجرة في اتجاه واحد، فإنها من ناحية أخرى تُسهم بجزء من تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة من خلال التحويلات إلى العائلات ومجتمعات الأصل(6)، وهذا ما نلاحظه في مجتمعات البلدان المرسلة الرئيسة للعمالة مثل مصر والمغرب وتونس وغيرها.

الهجرة القسرية

 1- تجارة الرقيق

 الاتجار بالبشر ظاهرة لا إنسانية قديمة اقترنت بالانقسام الذي حدث في المجتمعات إلى فئات مالكة وأخرى غير مالكة أو معدمة. وكانت معروفة من قبل عدة شعوب أوروبية، مثل الرومان وآسيوية مثل العرب والأتراك والفرس والهنود. وهناك من يرى بأن العبودية وتجارة الرقيق تمثل الجذور التاريخية للاتجار بالبشر الذي يمارس حالياً.

 يُعدّ كارل ماركس وفردريك أنجلز من أبرز من أهتموا بدراسة نظام الرق في المجتمعات القديمة، حيث بيّنا أن الحضارة الإنسانية اعتمدت في مرحلة من مراحلها على العمل العبودي لتجاوز معالم المشاعية البدائية المتميزة بغياب الملكية الخاصة(7).

 تحفزت وتيرة تجارة الرقيق إلى حد كبير في العصر الحديث، وخاصة من غرب أفريقيا إلى الأمريكيتين ومنطقة الكاريبي، بعد أن بدأ المستعمرون البرتغاليون والإسبان السيطرة على أغنى الموارد الطبيعية في أمريكا. وعلى الرغم من وجود عدم اتفاق حول حجم هذه التجارة، لكن التقديرات الأكثر شهرة تذكر بأن حوالي ألفين من الرقيق كانوا يُنقلون سنويا بالسفن إلى أمريكا في القرن السادس عشر. وقد قفز هذا الرقم كثيرا إلى عشرين ألفا في السنة في القرن السابع عشر، حيث اكتسبت مزارع السكر في البرازيل ومنطقة الكاريبي زخما. وقد ثبت أن القرن الثامن عشر كان علامة فارقة في الاستعباد، حيث ارتفعت الأرقام السنوية إلى 55000 في بداية القرن وإلى 88000 في نهايته. وبعد أن انتهت تجارة الرقيق عبر الأطلسي في القرن التاسع عشر، فإن ما بين 10-12 مليون أفريقي استعبدوا في المزارع والمناجم الأمريكية(8). وهناك من قدر بأن ما بين 15-20 مليون أفريقي نقلوا عبر المحيط الأطلسي. وترفع تقديرات أخرى العدد إلى 50 مليونا(9). على الرغم من أن هذا العدد قد يكون مبالغا فيه، إذا أخذنا في الاعتبار البطء الشديد لنمو السكان خلال تلك الفترة.

إضافة إلى ذلك، ربما وقع ضحية تجارة الرقيق ما يصل إلى عشرة ملايين في شمال إفريقيا وغربها، حيث استمرت هذه التجارة بالرغم من عدم شرعيتها إلى القرن العشرين(10)، علما أن هذه المناطق كانت خاضعة للاستعمار الأوروبي.

 وطيلة ثلاثة قرون، كان الرقيق يمثل أهم صادرات أفريقيا، والتي مارسها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والسويديون والدنماركيون. وفي القرن السابع عشر، أصبحت التجارة بالإنسان الأسود أمراً معترفاً به، ونوعاً من النشاط التجاري. وهذا واضح من تصريح دار تماوث وزير المستعمرات البريطانية عام 1775، الذي قال فيه "إننا لا نستطيع أن نسمح للمستعمرات أن توقف أو تقاوم- إلى أي حد- تجارة مربحة لهذه الدرجة لشعبنا"(11). ورغم تحريم بريطانيا لتجارة الرقيق فيما بعد طبقاً لقانون 1807، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً، فقد اندفعت دول أخرى لهذه التجارة.

 لقد تعرض السود إلى أسوأ ما يمكن أن يعامل به بنو الإنسان، حتى في المناطق التي نقلوا لها قسراً، حيث كانوا يعاملون بالقسوة والتمييز العنصري، ويعتبر وضعهم في أمريكا الجنوبية أكثر حظاً، حيث اختلطوا بالسكان، لكن في أمريكا الشمالية، لم يحدث هذا وكانوا يباعون ويشترون مع الأرض. ففي عام 1705، صدر قانون امتلاك السود واعتبارهم جزءا من الممتلكات الشخصية، إلى أن الغي قانون الرق عام 1865، بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في أمريكا(12) لكن مع ذلك استمر التمييز العنصري ضدهم على أشده إلى أن بدأ يخف نسبيا في العقود الأخيرة نتيجة النضالات التي خاضها السكان السود للمطالبة بالمساواة، ودعم القوى التقدمية على المستوى الداخلي والعالمي لهذه المطالب العادلة.

 وحاليا يُقدر تقرير مؤشر الرق العالمي لعام 2023 عدد الأشخاص الذين عانوا الرق المعاصر بخمسين مليون إنسان خلال عام 2021. وبيّن أن الفئات الأكثر تعرضا للرق المعاصر، جاء على رأسها النساء والأطفال والمهاجرون. ويؤكد التقرير أن العمالة المهاجرة باتت أكثر عرضة للعمل الإجباري بمقدار ثلاثة أضعاف بالمقارنة بالعمالة غير المهاجرة. ومن أسباب الرق المعاصر بحسب التقرير ارتفاع معدلات الفقر المدقع والهجرة القسرية، وبيّن أن هذين الأمرين ساهما معا بنصيف وافر في زيادة المخاطر المتصلة بالرق المعاصر. وكذلك سياسات الهجرة الصارمة للدول، وخاصة الأوروبية منها، التي أفضت إلى تعريض المهاجرين والنازحين لمزيد من مخاطر الاستغلال. وتؤدي ممارسات الشراء التي تتبعها الحكومات والشركات الغنية إلى تفاقم الاستغلال في البلدان المنخفضة الدخل التي تُمثّل الخطوط الأمامية لسلاسل التوريد العالمية. ويشدد التقرير على "تغلغل الرق المعاصر في الصناعات التي تعمل في القطاع غير الرسمي، والتي توُظّف أعدادا أكبر من العمالة المهاجرة وتوجد في مناطق تتسم بمحدودية الرقابة الحكومية"(13). وهكذا نرى بعد تحريم الرق في أشكاله التقليدية، انبثقت أشكال أخرى من الرق في مجرى النظام الرأسمالية وآليات عمله.

2- الحرب والهجرة

 بما أن الحروب هي وسيلة من وسائل النظام الرأسمالي للسيطرة السياسية والاقتصادية وتوسيع نفوذه واسواقه على المستوى العالمي، فلا بد من أن تكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهجرة العمالة وتدفق اللاجئين. وهناك أمثلة كثيرة يمكن إيرادها لتأكيد هذه الفكرة.

 لم يسبق لمجموعة مهاجرة في التاريخ الأمريكي أن أكدت أو كانت قادرة على أن تؤكد مطلبا تاريخيا بمنطقة أمريكية مثل ما يستطيع المكسيكيون والمكسيكيون – الأمريكيون تأكيده. كانت تكساس ونيومكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا ونيفادا ويوتاه جميعها تقريبا جزءا من المكسيك إلى أن خسرتها نتيجة حرب تكساس 1835- 1836 والحرب الأمريكية - المكسيكية 1846- 1848. وقد دخلت القوات الأمريكية المكسيك وعاصمتها، والحقت نصف أراضيها بالولايات المتحدة. لذلك لا ينسى المكسيكيون هذه الأحداث. ومن المفهوم تماما، أن يشعروا أن لديهم حقوقا خاصة في هذه المناطق خلافا للمهاجرين الآخرين(14). لذلك وصلت أعداد المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة إلى الملايين سواء المهاجرين بطريقة نظامية أو غير نظامية. ويمكن أن يكون هذا الحيف أحد الأسباب لضعف اندماجهم في المجتمع الأمريكي.

 كانت إحدى الأفكار المطروحة بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص إيطاليا هي التقليل من السكان المسببين للفوضى، أي المطالبين بحقوقهم في العمل عبر تشجيع الهجرة. فقد استخدمت أموال خطة مارشال الأمريكية في إعادة بناء البحرية التجارية الإيطالية "لمضاعفة أعداد المهاجرين الإيطاليين الممكن نقلهم لما وراء البحار سنويا"، واستخدمت الأموال أيضا في إعادة تدريب العمال الإيطاليين "بحيث يصبحون أكثر قبولا في البلدان الأخرى". لذلك أقر الكونغرس الأمريكي مخططات "بهدف نقل المهاجرين من إيطاليا لأماكن في العالم غير الولايات المتحدة". واختارت بعثة مشروع مارشال أمريكا الجنوبية ذات "المناطق الأقل تطورا نسبيا"، وكانت البرازيل من أوائل المتلقين لهذه المساعدات عام 1950(15).

 ونتيجة الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، والتدخل العسكري الأمريكي والأوروبي المباشر في الحرب في سوريا، أسفر ذلك عن هجرة قسرية ضخمة في المنطقة لا مثيل لها في تاريخها الحديث، حيث تدفق الملايين من اللاجئين داخل المنطقة وخارجها. مما أحدث تغيرات كبيرة في البنية الديمغرافية والاقتصادية - الاجتماعية لبلدان المنطقة.

 لذلك لا غرابة أن تشهد المنطقة العربية مستويات غير مسبوقة من الهجرة الدولية. ففي عام 2021 استضافت البلدان العربية أكثر من 41 مليون مهاجر ولاجئ. وخلال الفترة نفسها، بلغ عدد المهاجرين من الدول العربية نحو 33 مليونا، 44 في المائة منهم يقيمون في المنطقة العربية(16).

الليبرالية الجديدة والهجرة

 استتبعت الليبرالية الجديدة الكثير من "التدمير الخلاّق"، ليس فقد للأطر المؤسساتية السابقة (إذ تحدت حتى الأشكال التقليدية لسيادة الدولة)، بل أيضا لتقسيمات العمل، والعلاقات الاجتماعية، وخدمات الرعاية الاجتماعية، والتركيبات التكنولوجية المختلفة، وطرق الحياة، والتفكير والتكاثر، والارتباط بالأرض والعادات الشعورية والوجدانية(17)، لا غرابة في ذلك، لأنها أيديولوجية تهدف إلى تشكيل العالم وفق منظورها وربطه بالمتروبول.

 تعاني الليبرالية الجديدة من إشكالات في موقفها من الهجرة، إذ يذكر دينيس كانتربري "تتميز الرأسمالية النيوليبرالية بنزعتين متناقضتين تجاه الهجرة الوافدة – هما زيادة الهجرة وفي الوقت نفسه تقييدها. الأمثلة التي تُبرز هذا التناقض هي أعمال إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في تقييد الهجرة الوافدة، مستهدفة على نحو محدد بلدانا فقيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. والدعوة في الوقت نفسه إلى زيادة الهجرة المنظمة". ويضيف "هناك بُعد آخر للتناقض وهو أن الرأسمالية النيوليبرالية تعزز الهجرة المنظمة بحيث يجري تفضيل فقط المهاجرين الذين يتوفرون على المال والمهارات العالية للقبول في البلدان الغنية"(18). ويشير نعوم تشومسكي إلى أن أنبياء الليبرالية الاقتصادية لم يفكروا بالسماح "بالانتقال الحر لقوة العمل... من مكان لآخر"، والذي هو أحد أسس حرية التجارة التي أكد عليها آدم سميث(19). ويقول صموئيل هنتنغتون: في عالمنا المعاصر، يأتي التهديد الأكبر لأمن الأمم المجتمعي من الهجرة. وتستطيع البلدان أن تواجه ذلك التهديد بإحدى طرق ثلاث أو توليفة منها. وهي: هجرة ضئيلة أو لا هجرة، هجرة دون اندماج، أو هجرة مع الاندماج(20). علما أن هذه الطرق الثلاث قد جربت، لكن نتائجها لم تكن دائما تتوافق مع ما تخطط له البلدان المتقدمة. 

 وهناك دليل آخر على تناقض الليبرالية الجديدة تجاه الهجرة، فقد "تمثّل خط الصدع الرئيسي في قضية الهجرة بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009، وفي النقاش حول الاتجاهات الجديدة والتفكير بشأن التأثير التنموي للهجرة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية... لقد اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات منحطة لبناء جدران عازلة لمنع دخول العمالة المهاجرة الفلسطينية والإفريقية والمكسيكية، على التوالي، في حين استثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروات في ليبيا، كي يراقب هذا البلد البحر المتوسط لإبعاد العمالة المهاجرة الأفريقية عن الاتحاد الأوروبي"(21).

 ويذكر كانتربري "أجبرت سياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالية البلدان النامية على الانخراط في ما يسمى بـ"ترشيد" مؤسسات الدولة لتقليل تكاليف تشغيلها. وباتت سياسة الهجرة الآن شكلا من أشكال "الترشيد" ولكن تشمل البلد بأكمله بدلا من أن تشمل مؤسسة معينة مملوكة للدولة"(22). وهذا دليل على عمق اختراق سياسات الليبرالية الجديدة لسيادة البلدان.

 واكتشفت المؤسسات الرأسمالية أن الحراك العالمي لرأس المال يتطلب بالمثل حراكا عالميا للعمالة كي يستطيع توظيفها أينما ذهب؛ إذ يتحدث البنك الدولي عن الفقراء، ويقول إن حل مشاكلهم هو الدخول في السوق العالمية في حين أنه يهدف في الحقيقة لمساعدة الحراك العالمي لرأس المال على خلق حراك عالمي مثيل في صورة عمالة دولية رخيصة سهلة التحرك من مكان إلى آخر يستطيع رأس المال جلبها معه أينما ذهب. إذا حدث ما يأمل فيه البنك الدولي، فإنه يكون بذلك قد ساعد على تكوين بروليتاريا عالمية(23). وهذا هو ما يحدث على أرض الواقع.

 يمكن أن تستمر في السنوات القادمة حركية السكان بسبب توسع الفجوة في معدل النمو السكاني بين الدول المتقدمة والدول النامية. يحدث هذا خصوصا مع ظهور فكرة "بدون حدود" العائدة للعولمة التي خلقت عدم توازن جديد بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وبالإضافة إلى عدم التوازن القديم والجديد في الثروة انبثق عدم توازن ديموغرافي. ينتج عن هذا الوضع عدم توازن في سوق العمل في اتجاه معاكس، حيث يكون الطلب في قطاعات معينة أعلى على نحو مهم من العرض(24)، وهذا ما تشهده العديد من البلدان خصوصا في أوروبا الغربية، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها.

 تشكلت مع العولمة أشكال جديدة من التفاوت الاجتماعي التي لا تتوافق مع كلا من الاشكال التقليدية للاستبعاد الاجتماعي أو على الأقل استمرار البنى الاجتماعية التقليدية أو ما قبل الحديثة. ففي العولمة، يتشكل الفقر والعمالة غير المستقرة، في هذه الحالة فإن المهاجرين، هو ليسوا نتيجة استبعادهم من سوق العمل (البطالة والجيش الاحتياطي الصناعي الخ)، لكن على العكس هم نتيجة الطريقة التي جرى بها ضمهم ودمجهم في عالم العمل، على وجه التحديد كعمالة مهاجرة. المسألة هي انهم عمالة ضعيفة أو عالية التأثر جرى دمجها بالقطاعات الاقتصادية الديناميكية. وبالمعنى الدقيق للكلمة، هذه عملية متناقضة فهي تحفز على الدمج والاستبعاد الاجتماعي في الوقت نفسه. في المجتمع الدولي، لم يُعدّ يُشكل وضع الأقلية الاجتماعية (حالة المهاجرين) خطر استبعادهم الاقتصادي المحتمل، بل أصبح الشرط الضروري لاندماجهم الجزئي والهش. إذ يجري في النظام الاقتصادي العالمي، وبهذه الطريقة، إعادة انتاج رأس المال، والتراكم والنمو الاقتصادي على قاعدة إعادة انتاج حالة التفاوت الاجتماعي اللانهائية والذي هو في هذه الحالة أيضا أساس استغلال العمالة المهاجرة(25)، والعامل على خلق ديمومتها.

 وفي هذا الاطار من المفيد الإشارة إلى أن انهيار الاتحاد السوفيتي قدم وسائل جديدة لتعميق انقسام الشمال - الجنوب داخل المجتمعات الغنية على نحو أشد. فخلال إضراب عمال الاشغال العامة في ألمانيا في أيار 1992، حذر رئيس شركة ديملر – بنز من أن رد الشركة على الإضراب قد يتمثّل بنقل مصانع سيارات مرسيدس إلى أماكن أخرى، ربما إلى روسيا نظرا لتوفرها على العمال المدربين المتعلمين الأصحاء والمطيعين(26). وهذا يمثّل عملية استغلال جلية من خلال دفع أجور أقل لهم مقارنة بنظرائهم في ألمانيا.

الليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا

 ولدت مبادئ الليبرالية الجديد التي فرضت قسرا على البلدان النامية نتائج كارثية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي. وتمثل أحد التداعيات في تنامي تيارات الهجرة الداخلية خصوصا الهجرة الريفية - الحضرية والهجرة الخارجية، وأبرز مثل على ذلك في المنطقة العربية يتمثّل في مصر كونها أكبر بلد عربي مرسل للعمالة المهاجرة سواء على المستوى العربي أو الدولي.

 فقد تلقت البلدان العربية 57,9 مليار دولار من تحويلات مهاجريها عام 2020، أي بنسـبة 8 فـي المائـة مـن تدفقـات التحويلات العالميـة(27). واحتلت مصر المرتبة الأولى عربيا؛ إذ تلقت 29,6 مليار دولار من التحويلات في هذا العام(28).

 إن المصاعب الاقتصادية التي جلبتها الليبرالية الجديدة واشتراطاتها الاقتصادية الهادفة إلى تحجيم وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية أدت بدورها إلى مزيد من التحولات الطبقية في التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية، الأمر الذي أفضى إلى تزايد الهجرات الجماعية القسرية لأسباب اقتصادية - سياسية أمنية(29). وهذه الحالة تنطبق على البلدان العربية التي اتبعت هذا النهج ومنها مصر.

 توفر مصر مثالا نموذجيا لفحص العلاقة بين تبني الليبرالية الجديدة والهجرة. فقد كانت نموذجا إقليميا للإصلاح القائم على الليبرالية الجديدة، وفي الواقع، تم إدراج الحكومة المصرية في زمن الرئيس حسني مبارك باعتبارها واحدة من أفضل عشر حكومات في العالم في مجال تنفيذ الإصلاحات، وذلك من قبل البنك الدولي. ومن السبعينيات فصاعدا، أنتج التحرير الاقتصادي ضغطا مستمرا على معظم المصرين، مع تفاوت في تأثيراته استنادا إلى الحالة الاجتماعية-الاقتصادية. وكانت إحدى نتائج هذه السياسة ارتفاعا كبيرا في مستوى الهجرة الداخلية والدولية(30).

 فقد أدى الضغط الشديد على سكان الريف الناتج من الإصلاح النيوليبرالي إلى المساهمة بشكل حاسم في حركات السكان هذه. وتؤكد دراسة هجرة الأطفال غير الموثقة من منطقة الدلتا في مصر من جانب منظمة إنقاذ الأطفال في المملكة المتحدة في عام 2012 هذه العلاقة. وقد ركز مشروع الدراسة على القرى التي ينطلق منها عدد متزايد من القاصرين غير المصحوبين بوالديهم والذين حاولوا عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا أو إلى بلدان أوروبية أخرى. وسجل الباحثون شهادات قرويين في العيون في محافظة البحيرة. وقد اكتشفوا بأن إيجار الفدان الواحد ارتفع إلى 6000 جنيها مصريا بعد أن كان في السابق مستقرا نسبيا عند 500 جنيه مصري. وارتفعت أثمان الأسمدة بشكل حاد أيضا، في حين انخفضت أسعار المنتجات المصرية الموجهة إلى التصدير بشدة. النتيجة، هو أن الشباب تركوا العمل الزراعي بصفة متزايدة وتوجهوا إلى السفر إلى الخارج. وباتت التنمية يُنظر لها بشكل سلبي من قبل السكان المحليين. وقد لاحظت المنظمة أن الأراضي المتاحة للزراعة تقل بطراد مما يدفع بالمزيد من الشباب إلى الهجرة إلى الخارج وتحفيز المزيد من البناء على الأراضي الزراعية(31)، ومن ثم تراجع الإنتاج الزراعي. 

تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة

 باتت الهجرة الدولية جزءا مهما من المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في البلدان المتقدمة المستقبلة للمهاجرين، لذلك لا بدّ أن تنتج عنها تأثيرات عميقة الأثر في بنية مجتمعات هذه البلدان على مستويات عدة.

 توضح المعطيات الآتية أطروحة الدور المركزي الذي تبدأ الهجرة الدولية في توليه في هيكلة المجتمعات المتقدمة. إذ تُظهر ديموغرافية هذه المجتمعات الفشل البنيوي الواضح في توليد العمالة المنوط بها ملء الوظائف التي يحتاجها النمو الاقتصادي الديناميكي لهذه المجتمعات على نحو يومي. وفي مواجهة عدم التوازن البنيوي بين الآليات الديموغرافية الداخلية والنمو الاقتصادي، كان الحل يتمثّل في اللجوء إلى هجرة العمالة الوافدة بأعداد كبيرة، في المقام الأول، من البلدان النامية التي تعيش وضعا ديموغرافيا مختلفا.

 ستحدث منافذ مختلفة في سوق العمل في سياق استقطاب المهن متأت من العولمة الاقتصادية في المجتمعات المتقدمة والتي يُفضل في الغالب إدخال العمالة المهاجرة فيها، والتي تكون في كثير من الحالات غير موثقة، فهي لا تتوافر على أدوات اجتماعية وسياسية ضرورية للمواجهة وإعادة التفاوض بشأن شروط انعدام أمن العمل وثباته، والتي تسود في هذه الأقسام من سوق العمل(32).

 يعزز النمو الاقتصادي استهلاكا جديدا وأنماطا أخرى من أساليب الحياة. وتؤثر النزعة الفردية وعمليات التغيير في الأدوار المنزلية والعائلية، جنبا إلى جنب مع زيادة دمج المرأة في الحياة العامة والعمل، وتتضمن تحررا وانعتاقا مؤكدين من السلاسل القديمة التي ربطت النساء بالعمل المنزلي.

 تفتح هذه التغيرات الاجتماعية أيضا المجال لزيادة اندماج العمالة المهاجرة، رجالا ونساء، في هذه الأنشطة المتنوعة المرتبطة بإعادة الإنتاج الاجتماعي للسكان الأصليين. من هذا المنظور، تساعد أيضا الهجرة الدولية على إدامة التغيرات الاجتماعية والثقافية والديموغرافية التي تميز المجتمعات المتقدمة الحالية. فعلى سبيل المثال، تتوقف رعاية الأطفال وكبار السن، كخدمات منزلية بحد ذاتها، عن كونها مهمة المرأة المحلية، وتصبح عملا سلعيا يقوم به المهاجرون، لكن وفقا للشروط التي تمليها مرونة العمل وإلغاء القيود التنظيمية التعاقدية في المجتمعات ما بعد الصناعية(33). ونحن نعرف أن هذه البلدان تعاني نقصا كبيرا في العمالة في هذه المجال، وكذلك في مجال الخدمات الصحية، ومجالات أخرى مثل التكنولوجيا، مما تطلب في بعض البلدان مثل ألمانيا وفرنسا إقرار سياسات لقبول العمالة المهاجرة ومنحها إقامات لفترات طويلة. ففي الأولى يتقاعد سنويا مئات الآلاف. وإذا لم يتغير شيء، تتوقع وزارة العمل الألمانية نقصا قدره 7 ملايين عامل بحلول عام 2035. سيكون نقص الموظفين على حساب الرفاهية وقدرة الصناعة الألمانية التنافسية. ولتعويض هذا النقص، تريد ألمانيا جذب 400 ألف عامل إضافي سنويا من الخارج(34).

 إذن، لا مفرّ من الاستعانة بالهجرة الوافدة خصوصا من البلدان النامية التي تشهد فيضا في القوى العاملة، نتيجة لضعف اقتصاداتها، لكن المشكلة تتمثل في صعوبة الاتفاق على سياسات موحدة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فمع صعود اليمين المتطرف والذي يتخذ من الهجرة والأجانب ورقة انتخابية رابحة، تتردد بعض الحكومات الأوروبية في تبني سياسة هجرة واضحة وتتبنى إجراءات خجولة في هذا الجانب.

 من جانب آخر، تشدد الرؤى النظرية الفردية ما بعد الصناعية، على سيولة الهويات الاجتماعية - الثقافية، وتقترح أبعادا متعددة للمؤشرات الاجتماعية – الثقافية، وأنواعًا أخرى من الاندماج، فالمجتمعات المتقدمة لا تتطلب، وعلى نحو متزايد، هويات عرقية معينة، أو توجهات جنسية، أو حالات زوجية، أو أفضليات دينية أو سلوكيات عائلية تكون على صلة وثيقة بعضها ببعض. وفي الواقع، تشدد هذه المقاربات، في كثير من الأمثلة، على أنّ ثمة تيارًا واحدًا سائدًا (أو حتى تياريْن أو ثلاثة تيارات محددة)، وتعبّر، على نحو أقل بكثير، عن السمات المعتادة لكثير من البلدان الغربية(35). وتعكس هذه المقاربة واقع الحال في كثير من البلدان الأوروبية، خصوصًا الغربية منها، حيث يزداد التنوع الاجتماعي والثقافي بفعل مكون الهجرة الوافدة المستمر.

 وأخيرا، ثمة دليل قوي على العلاقة البنيوية بين النظم الرأسمالية والهجرة الدولية، فقد ارتبطت فكرة إرجاع عدد من العمال المهاجرين إلى بلدهم الأصلي، بإعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي. وهي فكرة ليست جديدة بل تناولتها كثير من الدراسات وذلك قبل الوقف الرسمي للهجرة في معظم بلدان أوروبا الغربية بعد عام 1974، ففي تقرير قدم للمجلس الأوروبي في كانون الأول/ ديسمبر 1973 يرد ما يأتي: "إن الصناعات في البلدان المتقدمة، خصوصا الصناعات التي تستخدم عددا كبيرا من العمال المهاجرين، ملزمة بمحاولة إقامة مصانع في الدول المصدرة لليد العاملة على أساس أن لا يكون إنتاج هذه المصانع مرتبطا بيد عاملة متخصصة جدا. فنظرا لكون مستوى الأجور في هذه الدول أقل ارتفاعا مما هو عليه في بلداننا، نظن أن المخطط المقترح يمكن تحقيقه بالنسبة لبعض الصناعات دون أن تتعرض هذه الأخيرة لأية خسارة"(36). لكن هذه الفكرة لم تتطور، إلا ابتداء من عام 1974 نتيجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البلدان المتقدمة خصوصا في أوروبا الغربية، ومحاولتها إيجاد مخارج لهذه الأزمة من خلال إعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي.

 ***

 د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

1- ورويك موراي، جغرافيات العولمة: قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ترجمة سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة 397، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013، ص 42.

2- Dennis C. Canterbury, Capital Accumulation and Migration, Leiden: Brill, 2012, pp. 30-32.

3- Ibid, pp. 30-32.

4- مجموعة من الباحثين، دراسات اجتماعية – اقتصادية معاصرة، ترجمة هاشم نعمة فياض، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 249.

5- Alejandro I. Canales, Migration, Reproduction and Society: Economic and Demographic Dilemmas in Global Capitalism, Leiden: Brill, 2020, 135-136.

6- p. 164.

7- الحسين بو لقطيب، "أوضاع الرقيق في المجتمع العربي الوسيط"، النهج، العدد 32، السنة 1990، ص 140.

8- Charles H. Parker, Global Interactions in Early Modern Age, 1400-1800, Cambridge: Cambridge University Press, 2020, p. 115.

9- هاشم نعمة فياض، أفريقيا: دراسة في حركات الهجرة السكانية، سبها ـ ليبيا: مركز البحوث والدراسات الأفريقية، 1992، ص 21-24.

10- Parker, p. 115.

11- فياض، أفريقيا، ص 21-24.

12- المصدر نفسه، ص 21-24.

13- هيئة التحرير، "مؤشر الرّق العالمي 2023"، حكامة، العدد 7، المجلد الرابع، خريف 2023، ص 236-239.

14- صموئيل ب. هنتنغتون، من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية، ترجمة حسام الدين خضور، دمشق: دار الرأي للنشر، 2005، ص 235.

15- نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر، ترجمة مي النبهان، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996 ص 75.

16- الإسكوا، الأمم المتحدة، الاستعراض السادس للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 35.

17- ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)، ترجمة مجاب الإمام، السعودية: مكتبة العبيكان، 2008، ص 15-16.

18- Canterbury, p. 173.

19- تشومسكي، ص 22.

20- هنتنغتون، ص 187.

21- Canterbury, p. 175.

22- Canterbury, p. 174.

23- أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2008، ص 336-337.

24- مجموعة من المؤلفين، ص 252-253.

25- Canales, p. 1

26- تشومسكي، ص 100.

27- الإسكوا، الأمم المتحدة، معالجة قضايا الهجرة في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 4.

28- ESCWA, Situation Report on International Migration 2021 Building forward better for migrants and refugees in the Arab region, UN, 2022, p. 148.

29- لطفي حاتم، المنافسة الرأسمالية وسمات بنيتها الأيديولوجية، القاهرة: دار الحكمة، 2017، ص 126.

30- هاشم نعمة فياض، العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية من منظور البلدان المرسلة للمهاجرين، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 103-104.

31- المصدر نفسه، ص 105-106.

32- Canales, pp. 205-206.

33- Canales, p. 207.

34- هاشم نعمة فياض، موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق، بغداد: دار أهوار للنشر والتوزيع، 2024، ص 128.

35- Caroline B. Brettell & James F. Hollifield (eds.), Migration Theory: Talking Across Disciplines, London: Routledge, 2015, 80.

36- عزيز صدقي، "حول إشكالية عودة وإعادة دمج العمال المغاربة المهاجرين في الاقتصاد الوطني المغربي"، النهج، العدد 16، لسنة 1987، ص 114.

* نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024.

 

بقلم: ديفيد يادن

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

بدلاً من تشاؤم فرويد أو حماسة يونج، نحتاج إلى نهج استقصائي في التعامل مع الأشكال غير العادية من الوعي.

في عام 1901، وقف ويليام جيمس على المنصة في قاعة المحاضرات بجامعة إدنبره وألقى أول سلسلة من 20 محاضرة يفترض أنها عن اللاهوت. لقد دُعي لإلقاء محاضرات جيفورد المرموقة حول الدين الطبيعي في إحدى الجامعات الاسكتلندية، لكنه قدم نفسه على أنه عالم وعالم نفس، وليس لاهوتيًا. وكتب لاحقًا أنه اختار "أن لا يأخذ في الاعتبار اللاهوت أو الكنيسة على الإطلاق". وبدلاً من مناقشة العقيدة الدينية، ركز على حالات الوعي المتغيرة التي أبلغ عنها أشخاص مختلفون عبر الزمن. وتحدث عن رؤى وأحلام وهلوسة بوذا وعيسى ومحمد والقديس فرنسيس وزعماء الطوائف المسيحية والملحدين والكفار، بالإضافة إلى شخصيات تاريخية أخرى وحتى الأشخاص الذين يعيشون في عصره. بالنسبة للكثيرين، كانت هذه التجارب عبارة عن لقاءات شخصية غير عادية وعميقة مع "الإلهي"، لكن محتويات هذه التجارب كانت متنوعة. وصف جيمس هذه الأنواع من التجارب بأنها "دينية" أو "صوفية" أو "أشكال من الوعي"، لكنه أصر على أن التسمية الدقيقة لا تهم حقًا. وكانت أسبابهم وفيرة. وقال إن البعض بدأ بتعاطي المخدرات.

كان من المقرر أن تكون سلسلة غير عادية من المحاضرات، والتي من شأنها أن تغير مسار علم النفس في القرن العشرين. ولعل الأغرب من ذلك كله هو أن جيمس، طوال محاضراته في جيفورد، التي استمرت على مدى عامين، لم يستنكر هذه التجارب باعتبارها أوهام جنونية ولم يشجع على استخدامها كإجابة ثورية للمشاكل الشخصية أو علل المجتمع. لقد سعى ببساطة إلى فهمها بشكل منهجي، وأعرب عن أمله في أن تفعل التخصصات العلمية المستقبلية الشيء نفسه. كتب جيمس لاحقًا: «السؤال هو كيف ننظر إليهم، لأنهم منفصلون تمامًا عن الوعي العادي». لكن سؤاله أصبح الآن في طي النسيان. وبدلاً من السعي إلى فهم هذا النوع من التجارب، فإننا نتجه نحو مشكلة مختلفة: ما مدى فائدتها؟

أرى التوتر بين الفهم والاستخدام - بين الوصف والوصفة الطبية - في عملي كباحث في علم النفس يدرس تجارب مثل تلك التي وصفها جيمس، بما في ذلك التجارب الناجمة عن المخدرات. لقد صادفت العديد من الأشخاص الذين يفترضون أن علماء النفس الأكاديميين  يجب أن يروجوا أو يدينوا شيئًا ما، سواء كان ذلك عقارًا، أو علاجًا، أو نهجًا، أو تقنية، أو سلوكًا، أو عملية عقلية، أو حالة متغيرة. يخلق هذا النوع من الافتراض توقعًا بأن العلماء يجب أن يكونوا دائمًا "مع" أو "ضد" هذا النوع من التجارب الفريدة التي أثارت اهتمام جيمس. يجب أن يعتقد هؤلاء الباحثون، أو هكذا تقول الحجة، أن مثل هذه التجارب هي إما اكتشافات شفاء لقوى خارقة للطبيعة أو رؤى وأوهام غير مفيدة ناجمة عن التغيرات الكيميائية في الدماغ.

هذا النوع من التفكير المفرط في التبسيط منتشر على نطاق واسع.عندما أتحدث إلى الجمهور حول موضوع التجربة الروحية، أفاجأ بعدد الأشخاص الذين يقبلون بالكاد أن دوافعي قد تكون أشبه بدوافع جيمس: الفضول البسيط. كمجتمع، يبدو أننا نميل إلى الشك في أن العلماء يروجون لوجهة نظر معينة، وعلى الرغم من وجود أسباب وجيهة لذلك، إلا أن هناك أيضًا فوائد حقيقية لمجرد الفضول واتخاذ نهج وصفي، وليس توجيهي. من الصعب أن نكون "مع" أو "ضد" ما يسمى بالتجارب الروحية، أو أن نقترح أنها "تثبت" أو "تدحض" شيئًا ما عندما نعلم أن الملحدين يفسرونها بمصطلحات غير خارقة للطبيعة بينما لا يزالون يستفيدون منها، أو أن المتدينين يمكن أن يكون لديهم تجارب تتماشى مع تقاليدهم الدينية وما زالوا يعانون منها بشكل هائل، أو أن جميع أنواع التجارب يمكن أن تخلق نتائج مربكة ومختلطة تتحدى التفسير السهل. هذا التعقيد في المحتوى والتفسير والنتائج هو ما أراد جيمس إظهاره.

ادّعى فرويد أنه لم يكن لديه مثل هذا "الشعور المحيطي".

لم يكن اللغز بالنسبة لجيمس هو ما إذا كانت هذه التجارب "جيدة" أو "سيئة" أو كيف ينبغي استخدامها على الفور، ولكن بدلاً من ذلك، كيفية فهمها. اليوم، لدى مجال أبحاث المخدر الكثير ليتعلمه من الدروس التي قدمها جيمس منذ أكثر من قرن من الزمان. لفهم دافعنا الحالي بشكل كامل لتصنيف شيء ما على أنه "جيد" أو "سيئ" (سواء كان مفيدًا أم لا)، يجب أن ننظر إلى أصول علم النفس الحديث، بدءًا من القرن الحادي والعشرين إلى الوقت الذي ألقى فيه جيمس محاضرات جيفورد. في مطلع القرن، نجد عالمين نفسيين مختلفين تمامًا، تناولا قيمة الحالات المتغيرة و"التجارب الروحية" كما نميل إلى القيام بها اليوم: سيغموند فرويد وكارل يونغ.

في كتابه "الحضارة وسخطها" (1930)، كتب فرويد عن تجارب شخصية عميقة كانت مصحوبة بـ "شعور محيطي" بالوحدة. خلال هذه التجارب القوية (التي كان جيمس سيسميها «دينية» أو «صوفية») كان الشخص يصف «كونه واحدًا مع الكون». ادعى فرويد أنه لم يكن لديه قط أي «مشاعر محيطية» كهذه، وأن أوصافها بدت غريبة بالنسبة له - على الأقل عندما حدثت خارج سياق الحب الرومانسي والجنسي. في الواقع، بناءً على افتقاره إلى الخبرة الشخصية، اعتبر مثل هذه التجارب مرضًا نفسيًا واعتقد أن العالم الذي كشفت عنه لم يكن أكثر من مجرد وهم. وهو يحث القارئ، بشكل توجيهي، على تجنب مثل هذه الأعماق من الخبرة. وبدلا من استكشاف هذه التجارب العميقة، يقتبس فرويد من الشاعر فريدريش شيلر: "فليبتهج من يتنفس هنا في ضوء وردي!" وهكذا، يتخذ فرويد في نهاية المطاف موقفا "ضد" هذه التجارب المعقدة.

وجهة نظر يونج هي تقريبًا عكس وجهة نظر معلمه السابق. ويصف هذه التجارب بأنها "روحية"، أو يشير إليها أحيانًا باسم "الموت النفسي" (والذي أصبح يُعرف فيما بعد باسم "موت الأنا"). كما اتسمت هذه التجارب بمشاعر الرهبة والوحدة الروحية، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على حياة الشخص. على عكس فرويد، كان يونغ على دراية بتجارب من هذا النوع، ووضعها في نهاية المطاف في مركز نظام العلاج النفسي الخاص به، معتقدًا أنها تكشف عن بُعد روحي خفي للواقع. وفي رسالة إلى أحد زملائه في عام 1945، أكد يونج على مدى أهميتها لنظام العلاج النفسي الخاص به: "لكن الحقيقة هي أن النهج إلى الروحي هو العلاج الحقيقي وبقدر ما تصل إلى التجارب الروحية فإنك تتحرر من اللعنة". "علم الأمراض." كان يونغ، بكل معنى الكلمة، "يصف" مثل هذه التجارب لمرضاه بسبب إيمانه بقدرتهم على الشفاء وقدرتهم على الكشف عن حقائق معينة حول الواقع.

واليوم، يبدو أن الغلبة لنهجى فرويد ويونغ. إن التجارب "الروحية" المعقدة والغريبة - سواء كانت "روحية" أو "محيطية" - غالبًا ما يتم اختزالها إلى قيمتها الاستخدامية باعتبارها شيئًا جيدًا أو سيئًا. أرى هذا في سياق المناقشات حول التجارب المخدرة بين "المتحمسين للغاية" و"المتشككين للغاية" الذين يتخذون مواقف إيجابية أو سلبية بشكل مفرط تتجاوز الأدلة. ويتجلى هذا الاختزال إلى الخير أو الشر بشكل خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتم مكافأة المواقف المتطرفة خوارزميًا، ويصبح انتقاء الحكايات المذهلة أو المرعبة أمرًا طبيعيًا.أتساءل: هل يمكن للعودة إلى نهج جيمس الفضولي أن تجعل وجهات نظرنا الجماعية أكثر توافقًا مع البيانات المتاحة؟.

ولد جيمس، "أبو علم النفس الأمريكي"، في عام 1842، أي قبل فرويد بأكثر من عقد من الزمن وقبل يونغ بثلاثة عقود. ظهر نهج جيمس الفريد تجاه التجارب المعقدة والغريبة خلال دراسته في أوروبا، حيث تعلم الجمع بين تقنيات المختبرات الألمانية وفلسفة التجريبية البريطانية. دُرّب كطبيب، وكتب الكتاب المدرسي التأسيسي لعلم النفس، وساعد في تأسيس المدرسة الفلسفية للبراغماتية. كما أنه ينحدر من إحدى العائلات الأدبية الأكثر نفوذاً في البلاد - كان شقيقه الروائي هنري جيمس وشقيقته كاتبة اليوميات النسوية المؤثرة أليس جيمس. وعندما توفي بسبب قصور في القلب عام 1910، اعتبر الفيلسوف برتراند راسل جيمس هو الأكاديمي الأكثر شهرة في العالم. لكن اسمه اليوم أقل شهرة من اسم فرويد أو يونج.

لعب جيمس دورًا حاسمًا في تطبيع هذه اللحظات المكثفة، والتي غالبًا ما تكون ذات أهمية كبيرة في الحياة العقلية الداخلية.

ومع ذلك، كان لجيمس وجهة نظر أكثر دقة ومتعددة الأوجه من أي من هؤلاء المفكرين الآخرين. في كتابه الأكثر شهرة، أصناف الخبرة الدينية: دراسة في الطبيعة البشرية (1902)، استنادا إلى محاضرات جيفورد، يتضمن جيمس روايات عن عشرات التجارب. ويصفها بعدة طرق في جميع أنحاء الكتاب، باستخدام عبارات مثل "أشكال الوعي"، أو "التجربة الدينية" أو "التجارب الصوفية". لقد اتخذ وجهة نظر ملحدة بشأن العناية الإلهية، ووضع الأسئلة الفلسفية واللاهوتية جانبًا للتركيز بدلاً من ذلك على ما يقوله الناس عن هذه التجارب وما إذا كانت تؤثر على حياتهم، للخير أو للشر. يناقش جيمس التجارب التلقائية، تلك الناجمة عن الممارسات التأملية، وكذلك تلك الناجمة عن المواد ذات التأثير النفساني مثل أكسيد النيتروز. يتضمن تجارب كانت مصحوبة بالفرح، ولكن أيضًا باليأس. وهو يتضمن التجارب التي أدت إلى تحولات إيجابية دائمة بينما يناقش أيضًا حقيقة أن مثل هذه التجارب يمكن أن تؤدي إلى أمراض نفسية ومعاناة أو ترتبط بها. يتناقض هذا الاعتراف مع نظرية فرويد المرضية الانعكاسية وحماس يونغ المفرط أحيانًا. علاوة على ذلك، وعلى النقيض من يقين فرويد بأن هذه التجارب ليست سوى أوهام ويقين يونغ بأنها وحي، يعترف جيمس بأن الدراسة العلمية لهذه التجارب لا يمكن أن تخبرنا ما إذا كانت تمثل حقيقة خارقة للطبيعة أم لا: "بصدق حزين أعتقد أننا "يجب أن نستنتج أن محاولة إثبات حقيقة خلاصات التجربة الدينية المباشرة من خلال العمليات الفكرية البحتة هي محاولة ميؤوس منها تمامًا." وأخيرًا، لا يقدم جيمس أي وصفة للبحث عن مثل هذه التجارب أو تجنبها - وهو نهج وصفي أجده منعشًا

ولكن قد تتساءل ما الفائدة من مجرد وصف هذه التجارب الشخصية الغريبة؟ تأتي قيمة منهج جيمس عندما ندرك مدى ندرة مناقشة الناس لهذه التجارب بعد أن مروا بها. حتى اليوم، لا يزال هناك من المحرمات مناقشة التجارب الروحية بجدية. ربما لعب جيمس دورًا حاسمًا في البدء في تطبيع هذه اللحظات المكثفة والتي غالبًا ما تكون ذات معنى عميق في الحياة العقلية الداخلية. أعلم أنه فعل من أجلي. وتتمثل قيمة منصبه أيضًا في السماح باتباع نهج معتدل في التعامل مع مجموعة معقدة للغاية من التجارب الشخصية.

ومن المؤسف أن جيمس هو الآن الأقل شهرة بين هؤلاء علماء النفس الثلاثة. اليوم، مع دخول التجارب المخدرة في النقاش السائد (تجارب تشبه أحيانًا تلك التي وصفها جيمس)، أصبح منهجه في علم النفس ضروريًا أكثر من أي وقت مضى. هل يمكننا أن نتعلم تقييم النهج الوصفي القائم على الاستقصاء دون دعوة مقابلة للعمل أو دافع غريزي لإصدار حكم حول قيمة استخدام شيء ما؟ وهذا لا يعني أننا ينبغي لنا أن نتجاهل التطبيقات المفيدة: فقد أراد جيمس أن يضع الأفكار الجيدة موضع التنفيذ، حتى ولو شمل ذلك استخدام المواد ذات التأثير النفساني التي قد تكون مفيدة، ولكن ليس على حساب الفهم أو دون الاعتراف بالمخاطر. ليس من الضروري أن تصبح كل تجربة جديدة، وكل تحقيق جديد، على الفور طريقة جديدة لتحسين أنفسنا في شكل حل سريع.

إذًا، ما الذي يمكن أن يقوله فرويد ويونج وجيمس عن هذا العصر الجديد من تجارب المخدر؟ خلال حياة فرويد، لم يكن لديه ما يقوله عن المخدر؛ ربما شعر بالانزعاج الشديد بسبب حماسته المحرجة للكوكايين "الطبي" في وقت مبكر من حياته المهنية لدرجة أنه ابتعد عن الادعاءات الثورية حول علم الأدوية النفسية. ومن ناحية أخرى، انضم يونج إلى قائمة طويلة من الرجعيين، المتدينين غالبًا، الذين لم يروا أي قيمة في التجارب التي تجلبها المواد ذات التأثير النفساني.وجيمس؟ وبدلاً من ذلك، كان مفتونًا بالتشابه الظاهري بين التجارب الناجمة عن المواد ذات التأثير النفساني وتلك الناشئة عن محفزات أخرى (أو حتى تحدث بشكل عفوي).وقد شجع على إجراء المزيد من الأبحاث حول كل هذه الأمور، بقطع النظر عن السبب.

في عام 1902، أنهى جيمس آخر محاضراته في جيفورد في إدنبرة بدعوة لمزيد من البحث العلمي الوصفي حول هذه التجارب وغيرها. اليوم، في وقت حيث يتم الترويج لتجارب المخدر بشكل مسعور باعتبارها علاجًا قويًا (أو يتم التنديد بها باعتبارها خطيرة للغاية)، يمكننا أن نفعل ذلك بجرعة من انفتاح عقلية جيمس واندفاعه لجمع الأدلة بعناية. إن موجة جديدة من أبحاث المخدر تقدم فرصاً جديدة لمتابعة المشكلة التي وصفها جيمس قبل قرن من الزمان: "السؤال المطروح هو كيف ننظر إليها، لأنها منقطعة تماماً عن الوعي العادي". وبدلاً من التهكم الفرويدي أو الحماس اليونجي، ربما يكون ما نفكر فيه: استدعاء الاستقصاء الجيمسانى ( نسبة إلى ويليام جيمس).

المؤلف: ديفيد يادن/ David Yaden   أستاذ مساعد في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز ويعمل في مركز أبحاث الوعي والمخدرات. ينصب تركيز بحثه على علم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي، وعلم الأدوية النفسية للتجارب الروحية، والمتسامية ذاتيًا، والتحويلية الإيجابية الناجمة عن المواد المخدرة ومن خلال وسائل أخرى. على وجه التحديد، فهو مهتم بفهم كيف يمكن أن تؤدي هذه التجارب إلى تغييرات طويلة المدى في الرفاهية وكيف تغير بشكل مؤقت القدرات الأساسية للوعي مثل الإحساس بالزمان والمكان والذات. وهو محرر الطقوس والممارسات في أديان العالم: منحة دراسية عبر الثقافات لإعلام البحوث والسياقات السريرية.. كتبت مراجعات عن أعماله العلمية والأكاديمية في صحيفة نيويورك تايمز، وول ستريت جورنال، وواشنطن بوست، ومجلة نيويورك، والإذاعة الوطنية العامة. وهو مؤلف كتاب أصناف الخبرة الروحية: أبحاث ووجهات نظر القرن الحادي والعشرين (OUP، 2022).

***

................................

رابط المقالة على سايكى:

https://psyche.co/ideas/william-james-was-right-about-our-strange-inner-experiences

إذا أطلق لفظة الإمام فى الإسلام على الإطلاق فلا ينصرف الذهن مباشرة إلا إلى واحد أوحد هو أبو الأئمة حقيقة، وسيدهم غير منازع، إمام الأولياء، هو بلا شك الإمام عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه؛ فهو بحق الإمام الذى لا يتخطاه الذهن البصير من حيث كون الإمامة لا تكتسب بالدُّرْبَة والمران والتحصيل؛ بل توهب توفيقاً من عطايا الفضل الإلهى، ولا تقوم بالحيلة ولا بالوسيلة، بل بالجعل الإلهى تحقيقاً كما فى قوله تعالى: (إنى جاعلك للناس إماماً).

ولا ينقض هذا وجود أناس من بين الأئمة من ينتزع مثل هذا الفضل انتزاعاً لنفسه، فيجريه اكتساباً على حياته بالقدوة والمثل الأعلى وسياسة النفس بالحيلة كما جرى فى حياة النوادر بالموهبة المُفَاضة والاصطفاء المخصوص.

والفارقُ بين عطاء الفضل الإلهى وكسب المنزع البشري، هو فارقٌ بين الحقيقة والمجاز، حتى إذا أطلقنا الإمامة على الإمام عليّ ابن أبى طالب أطلقناها حقيقةً ولم نجاوز الحقيقة فى شيء ولا فى صورة ولا فى ملمح من ملامح حياته الظاهرة أو خصاله الباطنة، فهو إمامٌ على الحقيقة وله بالإمامة أصالة الشرف، وعراقة النسب، ونقاء الحسب، وطلاقة الروح، ومواهب التفوق فيها ومواهب الامتياز.

أمّا إذا نحن أطلقناها على غيره، فربما نطلقها ونحن فى حاجة ماسّة إلى سدّ الفجوات التى يُحدثها فعل النسبة البشرية المكتسبة بإزاء مقرّرات التفوق والامتياز فى المواهب المُفاضة لا فى الجهد البشرى المحدود، فلا يوجد عظيم من العظماء إلا ومعه لُمَّة النقص الذى يصاحب الطبيعة البشريّة فى صورة من صورها أو فى نحو من أنحائها، ومع ذلك فهو بالمقياس الإنسانى عظيم، ولا يتجرّد من مقياس العظمة إذا نقص فى صفة من الصفات، أو إذا بهت ظل من ظلال الصورة التى تكوّنت عنه بعد بحث واطلاع.

والإمام على رضوان الله عليه، كامل فى معدن الإمامة، بمقدار ما هو كامل فى الفضل، كامل فى الدين، كامل فى العلم، كماله فى حربه وسلمه، وفى شجاعته وتقواه، ولا يوجد كامل فى تلك الجهات العلويّة، ويكون النقص حليفه فى الملكات الباطنة أو فى مواهب التفوق والامتياز، فهو الكرار فارس الهيجاء عليٌّ، الفتى الغالب، الشجاع المغوار الذى تعجز عن ضربات حُسامه شجاعة الشجعان، وهو الذى نسجت الشجاعة على منواله واستنت بسننه واهتدت بدرْبه، وهو الذى تلاقت فيه القوتان، قوة البدن وقوة الجنان، ولا عمل أقوى ولا أكثر امتيازاً من قوة الروح الباقية وفضائلها التى تستخف بكل ما هو زائل دُوُنٍ فى عالم الأطماع والشهوات.

هذه القوة الروحيّة العالية هى التى أنشأت الفضل المسبوق على التحقيق فى كل علم وفى كل فضل فى الإسلام وفى الحضارة الإسلاميّة، تماماً كما أرست قواعد الغلبة والانتصار إبّان ظهور الإسلام ومهده الأول ثم توالى عليها تبعات النهوض بالدعوة والجهاد، وملاك الأمر كله فى الكرار يومئذ ارتقاء الروح، والزهادة فى الدنيا، والاستخفاف بالدُّون والأطماع، ونصرة الحق على الباطل، وموالاة الله ورسوله على الحقيقة التى تشع وتسطع كأنها  الشمس فى ضحاها.

ولد رضوان الله عليه فى جوف الكعبة، ونشأ وعاش وهو ربيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصيه، لا تغرّه الدنيا بل يطويها تحت قدميه، كأنها خرقة بالية، ممتثلاً قول النبيّ عليه السلام : لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، إلى أن آخى النبيُّ فى دار الهجرة بينه وبينه.

ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يكتم حبّه لعلي، ولا تقديره لشجاعته، ولا دفاعه عنه فى موضع الغيرة العارضة أو موطن البغض الذى يشوب النفوس من جرَّاء الحسد والضغينة؛ بل كان معه، ومن ورائه، معيّة الأب لأبنه، يؤثره بالعطف المشمول والشفقة الرحيمة كما تجلّت فى قلب أعظم نبيّ، وليس بالقليل أن يزوجه كريمته فاطمة الزهراء أحبَّ الناس إليه وسر أبيها وبضعته، وقد تقدّم لخطبتها قبله أبو بكر وعمر فردّهما رداً جميلاً مؤثراً عليَّاً الفقير التقيّ النَّقى العالم الزاهد الورع صاحب السبق فى الإسلام، رغم فقره وقلة يده من وفرة الحطام، وهو عليه السلام يقول (فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأولهم سلماً).

وكان الصحابة يعرفون مأثرة النبيّ لعليّ، كما يُكاشفون بمحبته له، وهو أول من تحدى صناديد الكفر فنام بفراشه ليلة الهجرة وهو يعلم نواياهم المعقودة على قتل النبى إذ ذاك، فلم يبال بقتل نفسه إذا أنقضت قريش مترقبة ثائرة.

(وللحديث بقيّة)

***

د. مجدي إبراهيم

 

ليست بي حاجة لإحاطة القارئ اللبيب باستشراء ظواهر أضحت فاقعة وضاجّة في واقعنا الراهن تشي طبيعتها بان مجتمعنا العراقي المتخم بالمشاكل والفائض بالإشكاليات بات من غزارة المعطيات الغريبة والسلوكيات العجيبة، ما يستوجب على الباحثين في شتى الاختصاصات العلمية والمجالات الإنسانية ليس فقط متابعة رصدها وتحليلها كما تتبدى في وعينا وعلاقاتنا وسلوكياتنا، ومن ثم الوقوف على مصادر صيرورتها وديناميات تحولها ومآل مصيرها فحسب، وإنما لقدح زناد الفكر وشحذ أزاميل التحليل لإيجاد المفاهيم المناسبة والمصطلحات الملائمة التي من شأنها تأطير المعاني واستخلاص الدلالات القارة فيها والمعبرة عنها  .

ومن هذا المنطلق، فقد اجتهدنا لاقتراح مصطلح (الإقطاع السياسي) كنموذج تحليلي نصف من خلاله نمط من أنماط التضامنيات الاجتماعية والتوافقات السياسية القائمة بين مكونات المجتمع الأهلي (القبائل والطوائف) المدججة بالسلاح، على أساس (المحاصصات) الإقطاعية التي تمخضت عن تجربة النظام السياسي لما بعد سقوط بغداد عام 2003، حيث تعكس ليس فقط ما يحتدم بين تلك الجماعات من ضراوة (التكالب) على تجاوز خطوط الصدع الفاصلة بين جغرافيات كل منها، لحيازة أكبر قدر ممكن من عناصر السيطرة السياسية والهيمنة الإيديولوجية داخل كيان المجتمع المتفكك بنيويا"والمتشظي سوسيولوجيا"فحسب، وإنما (لضمان) الفوز بأهم المواقع المؤثرة داخل الحقل السياسي المتمثل بسلطة (الدولة) ومؤسساتها، استنادا"الى ما تتوفر عليه من قدرات عسكرية وإمكانيات اقتصادية .

وكما هو الحال في نموذج (الإقطاع الاقتصادي) الذي كان سائدا"في ربوع هذه الديار، حيث التنافس والصراع كان على أشده بين كبار (الملاك) و(الإقطاعيين) لضمان الاستحواذ على أكثر ما يمكن الحصول عليه من (الأراضي) الزراعية التي كان استثمارها (مشاع) بين فلاحي العشائر والقبائل سابقا"، والتي كان لاعتبارات (سعة) المساحة و(خصوبة) الغلة دورا"أساسيا"لا في حجم العوائد الاقتصادية (المالية) التي كان يجنيها المالك - الإقطاعي فحسب، بل وكذلك في تراكم المردود الاعتباري المتمثل بمظاهر (الهيبة) و(النفوذ) اللتان تسبغان عليه هالة من السلطان (الكاريزمي) المفتعل بين أتباعه وأشياعه، سواء أكانوا من أهل الريف أو من أهل المدينة . إذ بدلا"من سعي المتنافسين لحيازة (الأرض) التي يتمحور حولها نمط (الإقطاع الاقتصادي) ومن ثم التصرف بعوائدها، تستحيل (الدولة) في نمط (الإقطاع السياسي) هي الهدف المركزي الذي تشرأب نحوه أطماع الأطراف السياسية المتكالبة على بلوغ مأربه وتقاسم مغانمه، كل بحسب ترتيبه من تسلسل القدرات والإمكانيات التي بحوزته وتحت تصرفه، والتي غالبا"ما يكون مصدرها إقليمي أو دولي من خارج الحدود . 

والجدير بالذكر ان هذا النمط من (الإقطاع) المقترح لا يوجد إلاّ في حالة واحدة ؛ تتمثل باقترانه عضويا"مع استشراء مظاهر تراجع سلطة (الدولة)، وتراخي قبضتها الرادعة، وانكفاء هيبة القانون، إزاء حالات الانفلات الأمني وطغيان الفوضى في المجتمع المضطرب والمحتقن على إيقاع الأزمات والتوترات . الأمر يعطي الإشارة للجماعات العابثة والمتربصة بالتحرك للتسلل الى داخل الحقل السياسي للانقضاض على أهم المواقع المؤثرة في مدماك الدولة لاغتصاب سلطتها واقتسام مؤسساتها وتوزيع أسلابها، وثم تجريدها من سيادتها والسطو على شرعيتها . قد يبدو في بعض الأحيان ان تلك الجماعات الخارجة عن القانون تنشط بموازاة سلطة (الدولة) الضعيفة، وتتجنب الإفصاح عن رغبتها في العمل خارج إطار تلك السلطة المتراخية ان لم يكن ضدها . ولكن هذا الأمر لا يعدو أن يكون ذرا"للرماد في العيون لخلق الانطباع بأنها لا تزال تعمل وفقا"لشروط الدولة وتحت وصايتها من جهة، وانتظار اللحظة الحاسمة التي لم يعد فيها المواطن المجرد من كل أنواع الحماية والأمان يثق بالدولة ولا يحترم قوانينها، بحيث تكون (الطائفة) و(القبيلة) و(الاثنية) هي منقذه الوحيد وملاذه الأخير من جهة أخرى .

وأخيرا"، إذا صح قول الاقتصادي العراقي المعروف (عصام الخفاجي) الذي أشار فيه الى أن (تفتيت السيادة كان عنصرا"مكونا"لمجمل نمط الإنتاج الإقطاعي) بمفهومه الاقتصادي، فان ما يصح أكثر هو القول ؛ ان (الإقطاع السياسي) لن يعمل على تفتيت (السيادة) التي هي عنصر أساسي من عناصر كينونة (الدولة) فحسب، وإنما – وهنا الطامة الكبرى -  سيكون بمثابة معول هدم قادر على أن يضع الدولة ذاتها تحت طائلة التشظي والتذرر الى كانتونات – إقطاعيات متناحرة تتصارع فيما بينها على نهب البلاد واسترقاق العباد ! .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

منذ عام 2003، خضعت ساعات الدوام في الكليات العراقية لتغيرات جذرية، بدافع الاوضاع الامنية المضطربة، حيث تم تقليصها لعدة ساعات وانتهائا في افضل الاحوال بالساعة الثانية ظهرا. مثلت هذه التغيرات تتويجا لتدهور أوضاع التعليم العالي الذي بدأ بتسيس التعليم في السبعينيات وبلغ ذروته بالانهيار في التسعينات. نتيجة لذلك، فقدت ساعات الدراسة مرونتها، وباتت الجامعات تعاني من قيود كبيرة في إدارة العملية التعليمية.

مع مرور الوقت، ساد تيار بما يعرف بالدراسات المسائية، وتم تخصيص نفس مرافق الدراسة الصباحية لها، مما ادى الى تحويل الجامعات الى نموذج يشبه المدارس الابتدائية والثانوية المزدوجة او الدوام الجزئي. فباتت الدراسات المسائية تشارك نفس المباني مع الدراسات الصباحية وتدرس نفس الاختصاصات وتمنح نفس الشهادات، وتبدا في الساعة 2 ظهرا بدلا من السادسة مساء كما كانت عليه سابقا، لتنتهي في الساعة 5 او 6 مساء. مع ملاحظة انه حديثا تم تغيير موعد بداية الدراسات المسائية الى الساعة الرابعة لربما لمنح وقت اطول للدراسات الصباحية.

وبالرغم من اننا ناقشنا هذا الموضوع واعترضنا على نظام الدوام المزدوج في عدد من الكتابات واللقاءات منذ 2003 الا انه لم يحضى بالاهتمام اللازم بسبب الضغوط السياسية والامنية ولتفضيل التدريسيين والموظفين لساعات العمل القصيرة، بالرغم من كونه يحمل في طياته مخاطر جمة، خاصة على صعيد جودة التعليم، حيث يعد من اهم واخطر المشاكل التي تواجه هذا القطاع، ويتعارض مع متطلبات الجودة والاعتماد. كما ان تأثيراته السلبية تمتد الى الدراسات العليا والتي تتطلب قضاء اوقات طويلة في المختبر والمكتبة وهو ما دفع كثير من الطلبة الى شراء خدمات المختبرات والمكاتب الاهلية. 

ويزيد من الطين بله صدور قرار مجلس الوزراء ببدء دوام الكليات في الساعة 10 صباحا حيث انه من المؤكد انه سيفاقم المشكلة، وسيوسع الفجوة بين الجامعات العراقية ونظيراتها العالمية، ويؤثر سلبا على مستوى التعليم العالي في البلاد خصوصا بعد تحديد نهاية الدوام بالساعة الرابعة.

يعتبر عدد ساعات الدوام الدراسي في الجامعات العراقية منخفضا للغاية مقارنة بالجامعات العالمية. بدون ادنى شك تمنع قصر هذه المدة الطلاب من فترات الدراسة اللاصفية داخل الجامعة، وتشكل عائقاً رئيسياً أمام تحقيق التميز على المستوى العالمي، حيث لا يتيح للطلاب الحصول على المعرفة والمهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل.

ولعلّ الحل الامثل لمواجهة هذه التحديات، يكمن في اعادة ساعات فتح الجامعات الى ما كانت عليه سابقا، اي من 8 صباحا الى 6 او الى 9 مساء، وهو ما سيمنح الدراسات الاكاديمية خصوصا العلمية مزيدا من المرونة في جدولة ساعات التدريس والتدريب، بما يتناسب مع خيارات الاقسام والاساتذة ومحتوى المنهج من ساعات نظرية وعملية ومكتبية ومشاريع تطبيقية بالاضافة الى النشاطات اللاصفية والتي لا يتضمنها المنهج.

ولكن تطبيق هذا الحل يتطلب اتخاذ خطوات حاسمة، اهمها التوقف عن اعتماد نظام الشهادات المزدوجة، وعودة اوقات الدراسة الى حالتها الطبيعية، واعادة النظر في نظام الدراسات المسائية، اما من خلال عودتها الى ما بعد الساعة السادسة مساءً، او استخدامها لمباني اخرى، او حتى فصلها تماما وتأسيس جامعات مسائية مستقلة.

من خلال هذه الاجراءات، ستتمكن الجامعات من تحقيق الاستفادة القصوى من مرافقها، وتقديم المزيد من الخيارات للطلاب، وتحسين جودة التعليم العالي في العراق، ليواكب التطورات العالمية في هذا المجال.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

أكتب هذه السطورَ تأييداً لرؤية د. رضوان السيد، في مقاله المنشور بهذه الصحيفة نهاية الأسبوع الماضي. كان د. رضوان يعقّبُ على نقاشات «المؤتمر الدولي: بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» الذي استضافته مكة المكرمة في الأسبوع المنصرم. وزبدة رأيِه أنَّ على الهيئات الدينية ورجالِ الدين، أن يتبنُّوا مفهوماً محدداً لتجديد الفكر الديني، محوره فهم «المعروف في إطار عالمي». وينادي د.رضوان بإطلاق مبادرات مشتركة تجمعُ النخبَ الدينية الإسلامية مع نظرائها في المجتمعات الأخرى، هدفُها تعزيزُ المفاهيمِ والأعمال التي يتَّفق فيها أهلُ الأديان وتخدم البشرية بشكل عام. ويضرب مثالاً على هذا بالمبادراتِ الرامية إلى إغناءِ الحياة الروحية، وحياة الأسرة وتطوير التعليم، وحقوق المرأة والطفل.

على السطح تبدو هذه المهمة سهلة المنال، فهي طموحٌ مشتركٌ لجميع محبّي الخير في العالم، من أتباع الأديان وغيرهم. لكنَّ الشيطانَ يكمن في التفاصيل كما يقول الإنجليز. التعاون يحتاج –كما نعلم– إلى تعارف، يتلوه اعترافٌ متبادلٌ بحقّ كلِّ طرفٍ في اختيار طريقة عيشه في الدنيا وسبيلِ نجاته في الآخرة. هذا يعني بصورة محددة القبولَ العلني بتعددية الفهم الديني، أو –على وجه الدقة– الفصل بين المصدر الأصلي للدين، أي القرآن الكريم، وبين المعارفِ والشروحِ والتفسيرات التي قامت حوله، والتي نسمّيها معارفَ دينية أو تراثاً دينياً.

نعلم أنه لا خلافَ على القرآن ولا مكانته. لكنْ ثمة خلافٌ عريضٌ حول ما يأتي من بعده، لا سيما المعارف التي أنتجها العلماءُ طوالَ القرون السالفة، حتى اليوم. وشهدتِ السنواتُ الأخيرة جدلاً حول مكانة السنة النبوية، لا سيما كونها حاكمة على فهمنا للقرآن، وكونها مصدراً مستقلاً للتشريع، عابراً للزمان والمكان. وهو نقاش له مبرراته ما دام بقي في الإطار المدرسي- العلمي البحت. وأشير هنا إلى أنَّ المعارضين لاعتبار السنة وحياً ثانياً، كما عند الإمام الشافعي، يستندون إلى مبررات علمية متينة. والعام الماضي تابعتُ حلقة دراسية تجاوزت مدتها 40 ساعة، حول هذا الموضوع بالذات، فوجدتُ أنَّ أدلة هذا الفريق ليست هيّنة.

ما سبق بيانُه يتعلَّق بتعددية المعرفة الدينية والتفسير، أي تعددية الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية. وقبوله يعني –بالضرورة– قبول تعدد المذاهب والآراء مهما بعدت عن قناعاتنا الراهنة. لكنّ دعوة د.رضوان تذهب مسافة أبعدَ مما ذكرنا. فهي تعني –إنْ أردنا تفسيرها– تحريرَ «الخير» من الهوية الدينية – المذهبية، وجعله مشتركاً إنسانياً، يشارك فيه المؤمنُ انطلاقاً من إيمانه، من دون أن يحصرَ ثمارَ عملِه في إطار الجماعة التي تحمل هُويتَه وتشاركُه قناعاتِه.

أعتقد أنَّ تطوراً كهذا سوف يعيد هيكلة الفهم الديني، ليس على مستوى العلاقة مع غير المسلمين فقط، بل حتى على المستوى النظري، أي فهم النص الديني والاجتهاد في إطار الشريعة. وفي أوقاتٍ سابقة، تحدَّثَ عددٌ من كبار الفقهاء والمفكرين عمَّا عدّوه انفصالاً بين الفكر الديني والواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان المعاصر، سواء في المجتمعات المسلمة أو خارجها. وأرى أنَّ أوضحَ وجوهِ الانفصالِ المدَّعَى هو رفض «مبدأ الحسن والقبح العقليين». وفقاً لهذا المبدأ فإنَّ كلَّ فعلٍ بشري ينطوي –في جوهره– على حسنٍ أو قُبح، يدركه عامة العقلاء، بغضّ النَّظرِ عن أديانهم، وأنَّ قدرة العقل على إدراك حسنِ الفعل وقبحِه كافية لتحديد قيمته الأخلاقية، أي اعتبار الحسنِ موجباً لمدح فاعله واعتبار القبحِ موجباً لذمّه، سواء ورد فيه نصٌّ ديني أم لا.

أمَّا الوجهُ الثاني الذي يكشف الانفصالَ بين الشريعة والواقع، فهو الفصل التعسفي بين الأحكام الشرعية ومقاصدها، أو تحديد المقاصد فيما ذكره الأسلاف، من دون الأخذ بعينِ الاعتبار حقيقة كونِها اجتهادية وأنها قابلة للانكماش والتوسعِ أو حتى الاستبدال.

هذه إذن لمحة سريعة، وجدتها ضرورية لوضع رؤية د.رضوان في السياق الذي أراه مناسباً، وأحسب أنّي قد أوضحت الفكرة بما لا يحتاج إلى مزيدِ بيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نوعية الأسئلة التي يطرحها العقل الجمعي تُخبرك أين نقف، وإلى أين نسير؟ في أعقاب إقدام أحد الشباب المصري على الانتحار من أعلى بُرج القاهرة، لم يكن السؤال المطروح: كيف تحوّل "الانتحار" إلى ظاهرة اجتماعية، تحتل مصر فيها المرتبة الأولى بين الدول العربية، والمرتبة السادسة عشرة عالمياً حيث تمّ تسجيل ٤٢٥٠ حالة انتحار العام الماضي؟

فتركنا سؤال الحاضر، وهو كيف نُواجه تلك الظاهرة؟ وعدنا إلى أسئلة الماضي التي نتجادل حولها منذ أكثر من ألف عام، فسيطر على وسائل التواصل الاجتماعي جدل حول: ما حكم مرتكب الكبيرة؟ هل المنتحر مُخلّد في النار لارتكابه كبيرة "قتل النفس" أم في منزلة بين المنزلتين أم مُعذّب إلى أجلٍ؟ هل هو كافر أم أمره إلى الله تعالى؟ متجاهلين أنّ تكليف الله تعالى للإنسان منوط بالعقل، فمتى اختلت السلامة العقلية بما في ذلك النفسية تعطّل التكليف المستوجب للحساب الذي هو في حقيقته عملية غيبية تتم من الله تعالى للمُكلَّف، ولا يملك إنسان أو ملاك أو شيطان أن يحسم هل ستخضع عملية المحاسبة لقواعد العدل أم لعوامل العفو الإلهي، أضف إلى ذلك أنّه ليس في مقدورنا أن نقطع بتحقق العقوبة الأخروية على ذنب مهما كانت بشاعته؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأتيه الوحي قالها بوضوح: "أمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه".

وسورة "البروج" تحكي لنا جريمة بشعة في حقّ أطفال ونساء وشيوخ أُلقوا أحياء في حفرة طولية (أخدود) من النيران، ورغم أنّ الله تعالى توعّد الجُناة بالعذاب إلا أنّه استثنى منهم التائبين بقوله عزّ وجلّ: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ"، والأخبار في ذلك كثيرة. فإذا كان ما بعد الموت منطقة غيبية نعجز عن القطع بمصائر الراحلين إليها، فلماذا تأخذ هذا الحيز الجدلي في حياتنا!

انشغلنا بمحاكمة الموتى عن مساءلة الواقع، واكتفينا في تناول الظاهرة بالخطب والكلمات الرنانة، وانتظرنا من الفكر الديني بنبرته الوعظية وصوته المرتفع أن يقوم بمهمة البحث العلمي في قضايا ذات طبيعة اجتماعية نفسية معقّدة، تحتاج إلى عقلانية هادئة، وبحوث ميدانية تتعاطي من خلال بيانات ومؤشّرات إحصائية مع العوامل الواقعية التي تقف خلف الظاهرة. فإيجاد مشروع حضاري متوازن ومتكامل يحتاج إلى هياكل جادة للبحث العلمي في مختلف مجالات الدراسات الإنسانية، تحْظى بتمويل وتشجيع حكومي، والتزام مؤسسي بالعمل بنتائجها وتوصياتها؛ لإيجاد حلول ناجعة للمشاكل والهموم الاجتماعية.

لن نخترع العجلة من جديد؛ فالأعمال السوسيولوجيّة المتراكمة والمتتابعة تُمثّل مدخلاً نظرياً ومنهجياً مهماً في دراسة تلك الظاهرة التي شغلت عدداً من الباحثين بداية من "موريس هالبواش" ومروراً بـ "إميل دوركايم" صاحب كتاب "الانتحار"، وصولاً إلى الباحث المصري "مكرم سمعان" صاحب كتاب "مشكلة الانتحار" وغيرهم من الباحثين الذين رأوا الانتحار آفة تفتك بالأفراد، وتنخر في المجتمعات.

ويُعرف الانتحار بأنّه كلّ فعل يحدث بواسطة الضحية نفسها ويُؤدي إلى الموت بصفة مباشرة، مثل الارتماء تحت عجلات المترو، أو بصفة غير مباشرة مثل أن يُهمل الإنسان حالته الصحيّة، ويتعمد عدم معالجة مرض خطير يُؤدي تطوّره إلى الموت.

وقد استبعدت الدراسات المعاصرة أن يكون العامل الوراثي والأصل العنصري مسؤولاً عن تفسير تلك الظاهرة، فـ"الانتحار لا يُورث، ولا يتبع الخصائص الجينية للإنسان، وإنما ما يُورّث أو يُورَث هو بعض حالات الأمراض العقلية، وهي لا تُؤدي بالضرورة إلى الانتحار".

فالانتحار كغيره من الظواهر الاجتماعية تفسّره مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية والمعطيات الثقافية المتداخلة، ففي دراسة مكرم سمعان الميدانية على الانتحار في المجتمع المصري، انتهى بعد قياس معدلات الظاهرة ومقارنة الإحصائيات إلى أنّ هناك عدّة عوامل تتدرج في مدى تأثيرها، وتُسهم في حدوث الانتحار، أولها، ويكاد أن يكون القاسم المشترك في حالات الانتحار والشروع فيها، "الشعور بالعزلة والاغتراب"، فهو العامل الأساسي الذي يعمل على تنمية الدوافع والميول الانتحارية، لما لهذا الشعور من آثار على اختلال الأنا وتدهور الشخصية بكاملها، والدخول في اضطرابات نفسية وعقلية، وهو ما أطلق عليه "دوركايم" اسم "الانتحار الأناني"، فنسب الانتحار ترتفع لدى الأفراد الذين لهم نزعة فردية مفرطة، مثل مَن تضعهم الظروف الاجتماعية في حالة انفصام للرابطة الأسرية بالطلاق أو الترمّل، فالمتزوجون من منظور "دوركايم" أقلّ انتحاراً من العزّاب، والأسرة التي فيها أبناء أقل انتحاراً من الأسرة التي لم تُنجب.. والأسرة الأكبر والأكثر عدداً أقلّ انتحاراً من غيرها الأصغر والأقل عدداً.

ويأتي في المرتبة الثانية بفارق طفيف الصراعات الاجتماعية التي منها الصراع بين الزوجين أو مع الرؤساء أو مع الوالدين، وما يُصاحب ذلك من توبيخ شديد، وشعور أحياناً بالدونية، وفي المرتبة الثالثة جاءت الصعوبات المعيشية بسبب البطالة وتراكم الديون بكثرة، وتدهور الدّخل بصورة عامة، وهذا النوع من الانتحار يُسميه "دوركايم" باللامعياري، ويرتبط بالأزمات الاقتصادية حيث ينعدم التوازن بين الطموحات والإمكانيات، فالإنسان لا يستطيع العيش والبقاء على قيد الحياة بشكل سليم ومقبول إلا عندما يكون هناك توافق بين الضرورات أو الحاجيات من ناحية والإمكانيات أو الوسائل من ناحية أخرى.

وانتهى سمعان في دراسته إلى أنّ العلاج النافع الواقي من ارتفاع نسب الانتحار في المجتمعات المعاصرة يأتي من خلال دمج الأفراد في العمل والجماعات المهنية، فالاندماج في الحياة الاجتماعية من العوامل الأساسية التي تحمى الأفراد من الأمراض الاجتماعية والأزمات، كما أنّه يُساهم في إرساء تماسك وترابط اجتماعي مبني على الأخلاق والقيم الجماعية، فانخراط الفرد في جماعة العمل المهنية يُحقق ذاته، ويقوّى شعوره بالانتماء، ويدعم ويوسع روابطه الاجتماعية؛ فالانعزال أو ضعف الاندماج في الجماعة يجعل الفرد ضعيفاً، وغير قادر على التّغلب بمفرده على المشاكل التي قد تعترضه أثناء مباشرته لتكاليف ومشاغل الحياة.

أخيراً الحياة السويّة قائمة على الانتظام والانخراط في الجماعات المجتمعية من أسرة وجامعة وجماعة العمل وحراك مجتمعي مع مختلف المؤسسات التي تعمل في إطار المجتمع المدني كالجمعيات العلمية منها والحقوقية والإنسانية والخيرية والثقافية والأدبية.. فإضعاف الدولة لدور تلك المؤسسات الاجتماعية وتهميشها من جانب، وخوف الأسر على أبنائها من الاندماج في المجتمع الخارجي والعمل على عزله، وخوْض غمار الحياة نيابةً عنه، من جانب آخر، هو المسؤولٌ عن الضعف النفسي والاجتماعي الذي يعيشه البعض والذي قد يُؤدي بهم إلى الانتحار.

***

د. عبد الباسط هيكل – مصر

بقلم: ألكسندر تي إنجلرت

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عالم المنطق العبقرى كورت جودل يؤمن بالحياة الآخرة. وفي أربع رسائل صادقة إلى والدته شرح السبب، باعتباره أعظم منطقي في القرن العشرين، يشتهر كورت جودل* بمبرهنتيّ عدم الاكتمال ومساهماته في نظرية المجموعات، التي غيرت منشوراته مسار الرياضيات والمنطق وعلوم الكمبيوتر. عندما حصل على جائزة ألبرت أينشتاين تقديرًا لهذه الإنجازات في عام 1951، ألقى عالم الرياضيات جون فون نيومان خطابًا وصف فيه إنجازات جودل في المنطق والرياضيات بأنها مهمة للغاية لدرجة أنها"ستظل مرئية بعيدًا في المكان والزمان". وعلى النقيض من ذلك، تظل وجهات نظره الفلسفية والدينية مخفية عن الأنظار. كان جودل يتحدث عن هذه الأمور بشكل خاص، ولم ينشر شيئًا عن هذا الموضوع خلال حياته. وبينما كان العلماء يتصارعون مع دليله الوجودي على وجود الله، والذي وزعه بين أصدقائه في نهاية حياته، فإن المبادئ الأخرى لنظام معتقداته لم تحظ بأي نقاش مهم. أحد هذه الاعتقادات هو اعتقاد جودل بأننا ننجو من الموت.

لماذا كان يؤمن بالحياة الآخرة؟ ما هي الحجة التي وجدها مقنعة؟ اتضح أن الإجابة الكاملة تقريبا على هذه الأسئلة مدفونة في أربع رسائل طويلة كتبها إلى والدته، ماريان جودل، في عام 1961، والتي ذكر لها أنه من المقدر لهما أن يلتقيا مرة أخرى في الحياة الآخرة.3609 كورت

كورت وماريان جودل في الصورة معًا عام 1964. حقوق الصورة لمكتبة مدينة فيينا.

قبل استكشاف آراء جودل حول الحياة الآخرة، أريد أن أتعرف على والدته باعتبارها البطلة الصامتة في القصة. على الرغم من أن معظم رسائل جودل متاحة للجمهور عبر الأرشيف الرقمي لـ Wienbibliothek im Rathaus (مكتبة مدينة فيينا)،، إلا أنه من غير المعروف أن أيًا من رسائل والدته قد بقيت. ولا نملك سوى طرف حواره من محادثتهما، ومن ثم لم يبق لنا سوى استنتاج ما قالته من ردوده. وهذا يخلق غموضًا عند قراءة رسائله، كما لو أن المرء قد حصل على حوار أفلاطوني مع إزالة جميع السطور، باستثناء تلك التي نطق بها سقراط.على الرغم من أننا نفتقر إلى كلماتها الخاصة، إلا أننا ندين بالامتنان لماريان جودل. لأنه لولا فضولها واستقلاليتها في الفكر، لكان لدينا مورد واحد قليل وضعيف لفهم فلسفة ابنها الشهير.

بفضل سؤال ماريان المباشر حول إيمان جودل بالحياة الآخرة، حصلنا على وجهات نظره الناضجة حول هذه المسألة. طلبت منه ذلك في عام 1961، عندما كان في أعلى مستوياته الفكرية ويفكر بشكل موسع في الموضوعات الفلسفية في معهد الدراسات المتقدمة (IAS) في برينستون، نيوجيرسي، حيث كان أستاذًا متفرغًا منذ عام 1953 وعضو دائم منذ عام 1946. لقد أجبرت طبيعة التبادل جودل على تقديم وجهات نظره بالتفصيل بطريقة شاملة وسهلة المنال. ونتيجة لذلك، أصبح لدينا (مع بعض المكملات) ما يعادل حجة جودل الكاملة للإيمان بالحياة الآخرة، والتي تهدف عمدا إلى الإجابة بشكل شامل على أسئلة والدته، والتي تظهر في سلسلة الرسائل إلى ماريان من يوليو إلى أكتوبر 1961. في حين أن دفاتر ملاحظات جودل الفلسفية غير المنشورة تمثل مساحة قام فيها بتطوير وجهات نظره واختبارها من خلال الأمثال والتعليقات المختصرة في كثير من الأحيان، أراد جودل أن تكون هذه الرسائل مفهومة وتوفر إجابة محددة للبحث الجاد. ولأن المراسلات كانت خاصة، فإنه لم يشعر بالحاجة إلى إخفاء آرائه الحقيقية، وهو ما كان من الممكن أن يفعله في الأوساط الأكاديمية رسمية وبين زملائه في الأكاديمية الدولية للعلوم.3610 كورت

تم تصوير ألبرت أينشتاين وكورت جودل في IAS من قبل الاقتصادي أوسكار مورجنسترن في عام 1948.

وروى مورجنسترن كيف أسر أينشتاين بأن «عمله الخاص لم يعد يعني الكثير، وأنه جاء إلى المعهد فقط... ليحظى بشرف العودة إلى المنزل مع جودل». الصورة مقدمة من مركز أرشيفات شيلبي وايت وليون ليفي، IAS، برينستون، نيوجيرسي، الولايات المتحدة الأمريكية.

في رسالة بتاريخ 23 يوليو 1961، كتب جودل: "في رسالتك السابقة، طرحت السؤال الصعب حول ما إذا كنت أؤمن بـ Wiedersehen". كلمة Wiedersehen تعني "أن أرى مرة أخرى". وبدلاً من المصطلحات الرسمية الفلسفية مثل «الخلود» أو «الحياة الآخرة»، يضفي هذا المصطلح على التبادل صفة حميمة. بعد هجرته من النمسا إلى الولايات المتحدة في عام 1940، لم يعد جودل أبدًا إلى أوروبا، مما اضطر والدته وشقيقه إلى أخذ زمام المبادرة لزيارته، وهو ما فعلاه لأول مرة في عام 1958. ونتيجة لذلك، يمكن للمرء أن يشعر هنا بما كان يجب أن يكون شوقًا عميقًا إلى لم شمل دائم من جانب والدته، ويتساءل عما إذا كانت ستقضي قدرًا كبيرًا من الوقت مع ابنها مرة أخرى. وكانت إجابة جودل على سؤالها إيجابية بشكل لا يتزعزع. وحجته في الإيمان بالآخرة هي:

إذا كان العالم منظمًا بشكل عقلاني ومنطقي، فيجب أن يكون كذلك. لأنه ما هو المعنى الذي قد ينشأ من ولادة كائن (الإنسان) يتمتع بهذا المجال الواسع من إمكانيات التطوير الشخصي والعلاقات مع الآخرين، عندها فقط نسمح له بتحقيق ما لا يقل عن 1/1000 منها؟

ويعمق السؤال البلاغي في النهاية باستعارة من يضع حجر الأساس لبيت ثم يبتعد عن المشروع ويضيعه. يعتقد جودل أن مثل هذا التبذير مستحيل لأن العالم، كما يصر، يعطينا سببًا وجيهًا لاعتباره منظمًا وذا معنى. ومن ثم، فإن الإنسان الذي لا يستطيع تحقيق سوى إنجاز جزئي في حياته، يجب أن يسعى إلى التحقق العقلاني من هذا النقص في عالم المستقبل، عالم تتجلى فيه إمكاناتنا.

آراؤه مستنيرة وانتقادية، وإن كانت مشبعة بالتفاؤل.

قبل المضي قدمًا، من الجيد أن نتوقف مؤقتًا ونلخص حجة جودل باختصار. بافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني، فإن الحياة البشرية – كما هي جزء لا يتجزأ من العالم – يجب أن تمتلك نفس البنية العقلانية. لدينا أسباب لافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني. ومع ذلك، فإن حياة الإنسان منظمة بشكل غير عقلاني. إنها مكونة من إمكانات كبيرة ولكنها لا تعبر أبدًا عن هذه الإمكانات بشكل كامل في الحياة. ومن ثم، يجب على كل واحد منا أن يحقق إمكاناته الكاملة في عالم المستقبل. السبب يتطلب ذلك.

دعونا نتوقف أولاً عند الفرضية الأساسية للحجة، وهي الادعاء بأن العالم والحياة البشرية، كجزء منه، يُظهران نظامًا عقلانيًا. على الرغم من أنه ليس موقفًا غير معتاد في تاريخ الفلسفة، إلا أنه قد يبدو من الصعب في كثير من الأحيان التوافق مع ما نلاحظه. وحتى لو كنا كائنات عقلانية، فإن التاريخ البشري كثيرًا ما يُكذب هذه الحقيقة. كان النصف الأول من عام 1961 - الذي تخلل خلفية وعي جودل - مليئًا بتوترات الحرب الباردة المتزايدة، والعنف الذي استهدف المتظاهرين السلميين خلال حركة الحقوق المدنية،والمعاناة من أحداث عشوائية مثل فقدان فريق التزلج على الجليد الأمريكي بأكمله في حادث تحطم طائرة. ويبدو أن الحماقة واللاعقلانية في الشؤون الإنسانية هي القاعدة التاريخية وليست الاستثناءوكما يقول الملك لير فى مسرحية شكسبير لجلوسيستر عندما يشرح "كيف يسير هذا العالم"، يبدو أن الاستنتاج هو: "عندما نولد، نبكي لأننا وصلنا إلى هذه المرحلة العظيمة من الحمقى".

ومع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن جودل كان ساذجًا في إصراره على أن العالم عقلاني. وفي نهاية رسالة مؤرخة في 16 يناير 1956، أكد أن "هذا عالم غريب". وتظهر مناقشاته في مراسلاته مع والدته أنه كان على اطلاع دائم بالموضوعات السياسية والأحداث العالمية. في رسائله، كانت آراؤه مستنيرة ونقدية، وإن ظلت مشبعة بالتفاؤل.

الأمر المثير، وربما الفريد، في حجته بشأن الحياة الآخرة هو حقيقة أنها تعتمد في الواقع على اللاعقلانية الحتمية للحياة البشرية في عالم مشبع بالعقل. إن انتشار المعاناة الإنسانية في كل مكان وإخفاقاتنا الحتمية هو على وجه التحديد هو ما أعطى جودل يقينه بأن هذا العالم لا يمكن أن يكون نهايتنا. كما لخص بدقة في الرسالة الرابعة إلى والدته:

ما أسميه رؤية لاهوتية للعالم هو وجهة النظر القائلة بأن العالم وكل شيء فيه له معنى وعقل، وهو في الواقع معنى جيد لا يقبل الشك. ويترتب على ذلك على الفور أن وجودنا الأرضي – بما أن له في حد ذاته معنى مشكوكًا فيه على الأكثر – يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق غاية لوجود آخر.

ولأن حياتنا على وجه التحديد تتكون من إمكانات غير غير محققة أو متساهلة، فهو مقتنع بأن هذه الحياة ليست سوى مرحلة لأشياء قادمة. لكن مرة أخرى، لن يكون هذا ممكنًا إلا إذا تم تنظيم العالم بشكل عقلاني.

إذا كانت البشرية وتاريخها لا يظهران نظامًا عقلانيًا، فلماذا نعتقد أن العالم عقلاني؟ تُظهر الأسباب التي قدمها لوالدته في الرسائل ميوله العقلانية واعتقاده بأن العلوم الطبيعية تفترض مسبقًا أن الوضوح أمر أساسي للواقع. كما كتب في رسالته المؤرخة في 23 يوليو 1961:

هل لدى المرء سبب للاعتقاد بأن العالم منظم بشكل عقلاني؟ أعتقد ذلك. لأنه ليس فوضويًا واعتباطيًا على الإطلاق، بل – كما يوضح العلم الطبيعي – يسود في كل شيء أعظم قدر من الانتظام والنظام. النظام هو في الواقع شكل من أشكال العقلانية.

يعتقد جودل أن العقلانية واضحة في العالم من خلال البنية العميقة للواقع. يوضح العلم كمنهج ذلك من خلال افتراضه المصدق بأن النظام الواضح يمكن اكتشافه في العالم، ويمكن التحقق من الحقائق من خلال تجارب قابلة للتكرار، ويتم الحصول على النظريات في مجالاتها الخاصة بغض النظر عن مكان وزمان اختبارها.

هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره

في الرسالة المؤرخة في 6 أكتوبر 1961، يشرح جودل موقفه: "إن فكرة أن كل شيء في العالم له معنى هي بالمناسبة التماثل الدقيق للمبدأ القائل بأن كل شيء له سبب يرتكز عليه العلم بأكمله." كان جودل - تمامًا مثل جوتفريد فيلهلم لايبنتز، الذي كان يقدسه - يعتقد أن كل شيء في العالم له سبب لكونه كذلك وليس غير ذلك. (في المصطلحات الفلسفية: يتوافق مع مبدأ العقل الكافي). وكما عبر عن ذلك لايبنتز شعرياً في كتابه مبادئ الطبيعة والنعمة، استناداً إلى العقل (1714): الحاضر حامل بالمستقبل؛ يمكن قراءة المستقبل في الماضي؛ يتم التعبير عن البعيد بالقريب. » من خلال البحث عن المعنى نجد أن العالم قابل للقراءة بالنسبة لنا. ومن خلال الاهتمام نجد أنماطًا من الانتظام تسمح لنا بالتنبؤ بالمستقبل. بالنسبة لجودل، كان العقل واضحًا في العالم لأن هذا النظام قابل للاكتشاف.

على الرغم من عدم ذكره، إلا أن إيمانه بالحياة الآخرة متشابك أيضًا مع نتائج نظريات عدم الاكتمال والأفكار ذات الصلة بأسس الرياضيات. اعتقد جودل أن البنية العميقة والعقلانية للعالم ووجود الروح بعد الوفاة يعتمدان على زيف المادية، وجهة النظر الفلسفية القائلة بأن كل الحقيقة تتحدد بالضرورة من خلال الحقائق المادية. في ورقة بحثية غير منشورة تعود إلى عام 1961 تقريبًا، أكد جودل أن "المادية تميل إلى اعتبار العالم كومة من الذرات غير منظمة، وبالتالي لا معنى لها". ويترتب على ذلك أيضًا من المادية أن أي شيء لا يرتكز على الحقائق الفيزيائية يجب أن يكون بلا معنى وواقع. ومن ثم، فإن الروح غير المادية لا يمكن اعتبارها تمتلك أي معنى حقيقي. يتابع جودل: "بالإضافة إلى ذلك، يبدو الموت بالنسبة [للمادية] بمثابة الفناء النهائي والكامل." لذا فإن المادية تتناقض مع حقيقة أن الواقع يتكون من نظام شامل للمعنى، بالإضافة إلى وجود روح غير قابلة للاختزال في المادة المادية. على الرغم من العيش في العصر المادي، كان جودل مقتنعًا بأن المادية زائفة، واعتقد كذلك أن نظرياته حول عدم الاكتمال أظهرت أنها غير محتملة إلى حد كبير.

أثبتت نظريات عدم الاكتمال (بشكل عام) أنه بالنسبة لأي نظام رسمي ثابت (على سبيل المثال، رياضي ومنطقي)، ستكون هناك حقائق لا يمكن إثباتها داخل النظام من خلال البديهيات وقواعد الاستدلال الخاصة به ومن ثم فإن أي نظام ثابت سيكون حتماً غير مكتمل. سوف تكون هناك دائماً حقائق معينة في النظام والتي تتطلب، على حد تعبير جودل، "بعض أساليب الإثبات التي تتجاوز النظام". ومن خلال برهانه، أثبت بمعايير رياضية لا تقبل الشك أن الرياضيات في حد ذاتها لا حصر لها وأن الاكتشافات الجديدة ستكون ممكنة دائماً. . هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره.

وبضربة واحدة، أنهى هذا الهدف هدفًا رئيسيًا للعديد من علماء الرياضيات في القرن العشرين، مستلهمين ديفيد هيلبرت، الذي سعى إلى إثبات اتساق كل حقيقة رياضية من خلال نظام محدود من الإثبات. أظهر جودل أنه لا يوجد نظام رياضي رسمي يمكنه أن يفعل ذلك أو يثبت بشكل قاطع بمعاييره الخاصة أنه خالٍ من التناقض. والرؤى حول هذه الأنظمة - على سبيل المثال، أن بعض المشاكل فيها غير قابلة للاكتشاف حقًا - تصبح واضحة لنا من خلال التفكير المنطقي. ومن هذا المنطلق، استنتج جودل أن العقل البشري يتجاوز أي نظام رسمي محدود من البديهيات وقواعد الاستدلال.

فيما يتعلق بالآثار الفلسفية لنظريات عدم الاكتمال، اعتقد جودل أن النتائج تمثل معضلة إما/أو (تم توضيحها في محاضرة جيبس عام 1951). إما أن يقبل أحدهما أن "العقل البشري (حتى في عالم الرياضيات البحتة) يتفوق بلا حدود على قوى أي آلة محدودة"، ويترتب على ذلك أن العقل البشري غير قابل للاختزال في الدماغ، الذي "يبدو في كل المظاهر آلة محدودة". مع عدد محدود من الأجزاء، وهي الخلايا العصبية واتصالاتها. أو يفترض المرء أن هناك مشكلات رياضية معينة من النوع المستخدم في نظرياته، وهي "غير قابلة للحل على الإطلاق". إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن "دحض وجهة النظر القائلة بأن الرياضيات هي من صنعنا فقط. وبالتالي، فإن الأشياء الرياضية لها واقع موضوعي خاص بها، مستقل عن عالم الحقائق الفيزيائية، “التي لا يمكننا خلقها أو تغييرها، ولكننا فقط ندركها ونصفها”. وهذا ما يسمى الأفلاطونية حول حقيقة الحقائق الرياضية. ومما يثير استياء الماديين أن كلا التبعات المترتبة على المعضلة "تتعارض تمامًا مع الفلسفة المادية". والأسوأ من ذلك بالنسبة للمادي هو أن جودل يشير إلى أن الانفصال ليس حاسما . ومن الممكن أن تكون كلتا النتيجتين صحيحين في ذات الوقت .

كيف يرتبط هذا بوجهة نظر جودل بأن العالم عقلاني وأن الروح تنجو من الموت؟ إن نظريات عدم الاكتمال ومضامينها الفلسفية لا تثبت أو تبين بأي حال من الأحوال أن النفس تنجو من الموت مباشرة. ومع ذلك، اعتقد جودل أن نتائج النظرية وجهت ضربة قوية للنظرة المادية للعالم. إذا كان العقل غير قابل للاختزال إلى الأجزاء المادية من الدماغ، والرياضيات تكشف عن بنية يمكن الوصول إليها عقلانيا تتجاوز الظواهر الفيزيائية، فلابد من البحث عن رؤية عالمية بديلة أكثر عقلانية وانفتاحا على الحقائق التي لا يمكن تجربتها بالحواس. مثل هذا المنظور يمكن أن يدعم عالمًا منظمًا عقلانيًا ويكون منفتحًا على إمكانية الحياة بعد الموت.

لنفترض أننا - المتشائمون والجميع كذلك- نقبل أن العالم، بهذا المعنى العميق، عقلاني. لماذا نفترض أن البشر يستحقون أي شيء يتجاوز ما يحصلون عليه في هذه الحياة؟يمكننا أن نخمن أن شيئًا مشابهًا أزعج والدته. يقول جودل في الجزء اللاهوتي من رسالته التالية: "عندما تكتبين أنك تصلين إلى الخليقة، فربما تقصدين أن العالم جميل في كل مكان حيث لا يستطيع البشر الوصول إليه، وما إلى ذلك." هنا،ربما تكون ماريان قد وافقت هنا على أن الكثير في الخليقة يبدو منظمًا، لكنها تحدت الافتراض القائل بأن الواقع برمته منظم على هذا النحو، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالبشر. هل يجب على العالم كله أن يكون عقلانيا؟ أو ربما يكون البشر مجرد انحرافات غير عقلانية عن نظام عقلاني آخر؟

يكشف رد جودل عن فروق دقيقة إضافية في موقفه. في رسالته الأولى، أشار جودل بشكل فضفاض إلى "مجال واسع من الإمكانيات" الذي كان لا يزال غير متطور ولكنه يحتاج إلى الكمال. وفي رسائله اللاحقة يشرح بالتفصيل ما الذي يتطلب استمرار وجود الإنسانية، أي ما هو ضروري للإنسانية.

من المهم أولًا أن نشرح ما يعنيه جودل بخاصية «جوهرية». لدينا، بالطبع، العديد من الخصائص. لدي القدرة، على سبيل المثال،أن أحدد هويتى (أنا لست أنت)، وأن أكون مواطنًا أمريكيًا، وأن أستمتع بنوع الرعب. على الرغم من عدم وجود إجماع حول كيفية فهم استخدام جودل لكلمة "جوهري"، إلا أن برهانه الوجودي لوجود الله يتضمن تعريفًا لما يعنيه بخاصية جوهرية. ووفقا لهذا التعريف، تكون الخاصية ضرورية لشيء ما إذا كانت مرتبطة بالضرورة ببقية خصائصه، بحيث إذا امتلك الشخص هذه الخاصية، فإنه بالضرورة يمتلك جميع خصائصه الأخرى. ويترتب على ذلك أن كل فرد لديه جوهر متفرد، أو كما يشير جودل في مسودة الإثبات المكتوبة بخط اليد: "أي جوهرين لـ X لا يمكن تحديدهما". [كذا] مكافئ.‘ اعتقد جودل، مثل لايبنتز، أن كل فرد يمتلك جوهرًا فريدًا يمكن تحديده.

إنها قدرة الإنسان على التعلم من أخطائه بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر

في الوقت نفسه، حتى لو تم تعريف الجوهر في الدليل على أنه خاص بالفرد، فهناك دليل على أن جودل يعتقد أن الجواهر يمكن أيضًا أن تكون خاصة بالنوع. كان يعتقد أن جميع البشر مقدر لهم الحياة الآخرة لأنهم جميعًا يشتركون في الخصائص بحكم كونهم بشرًا. هناك مجموعات من الخصائص الضرورية التي ترتبط ببعضها البعض وتعتمد على بعضها البعض، بحيث أن امتلاك هذه المجموعة يعني أن شيئًا ما هو نوع الشيء الذي هو عليه. في برهانه الوجودي، على سبيل المثال، يعرّف الكائن "الشبيه بالله" بأنه كائن يجب أن يمتلك كل خاصية إيجابية. أما بالنسبة للبشر، فأنا إنسان بحكم امتلاكي مجموعة محددة من الخصائص التي يمتلكها جميع البشر بالضرورة، والتي على الأقل بعضها فريد تمامًا بالنسبة لنا (تمامًا كما أن كائنًا شبيهًا بالله هو وحده الذي يمكن أن يمتلك خاصية امتلاك كل خاصية إيجابية).

في رسالة جودل بتاريخ 12 أغسطس 1961، يشير إلى السؤال الحاسم، الذي غالبًا ما يتم التغاضي عنه: "نحن لا نعرف فقط من أين ولماذا نحن هنا، ولكننا أيضًا لا نعرف من نحن (أي في الجوهر وكيف نرى من الداخل) ثم يشير جودل إلى أنه إذا كنا قادرين على التمييز باستخدام «الطرق العلمية للملاحظة الذاتية»، فسوف نكتشف أن كل واحد منا لديه «خصائص محددة تمامًا». يشير جودل مازحًا في نفس الرسالة إلى أن معظم الأفراد يعتقدون عكس ذلك: "وفقًا للمفهوم الشائع، سيتم الرد على سؤال "من أنا" بحيث أكون شيئًا ليس له أي خصائص على الإطلاق في حد ذاته، شيء على غرار رف المعاطف الذي يمكن للمرء أن يعلق عليه أي شيء يريده." أي أن معظم الناس يفترضون أنه لا يوجد شيء أساسي في الإنسان، وأنه يمكن للمرء أن ينسب إلى الإنسانية أي صفة اعتباطية. ومع ذلك، بالنسبة لجودل، فإن مثل هذا المفهوم يقدم صورة مشوهة للواقع - لأنه إذا لم تكن لدينا خصائص أساسية محددة للنوع، فعلى أي أساس يمكن أن يبدأ تصنيف وتحديد شيء ما باعتباره شيئًا؟

إذن، ما هي الخاصية الإنسانية التي تشير بشكل أساسي إلى مصير يتجاوز هذا العالم؟ إجابة جودل: قدرة الإنسان على التعلم، وعلى وجه التحديد القدرة على التعلم من أخطائنا بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر. بالنسبة لجودل، هذه الخاصية ترتبط بالضرورة مع خاصية العقلانية. وبينما يعترف بأن الحيوانات والنباتات يمكن أن تتعلم من خلال التجربة والخطأ لاكتشاف وسائل أفضل لتحقيق غاية ما، إلا أن هناك فرقًا نوعيًا بين الحيوانات والبشر الذين يمكن للتعلم بالنسبة لهم أن يرفع المرء إلى مستوى أعلى من الفهم. هذا هو جوهر منطق جودل في نسبة الخلود إلى البشر. في رسالة 14 أغسطس 1961، كتب جودل:

الإنسان وحده هو الذي يمكنه الوصول إلى حياة أفضل من خلال التعلم، أي إعطاء حياته معنى أكبر.إن الطريقة الوحيدة للتعلم، وغالبًا ما تكون الطريقة الوحيدة، هي القيام بشيء خاطئ في المرة الأولى. وبالطبع يحدث ذلك بكثرة في هذا العالم.

إن حماقة البشر المذكورة أعلاه تتوافق تمامًا مع الإيمان بعقلانية العالم. في الواقع، يوفر حماقة العالم المزعومة بيئة مثالية لتعلم وتطوير عقلنا من خلال التأمل في عيوبنا، ولحظات معاناتنا،وميلنا البشري الشديد إلى الاستسلام لميولنا الأكثر دناءة. إن التعلم وفق مفهوم جودل لا يتعلق بقدرتنا على تحسين الوسائل التقنية لتحقيق غايات معينة. بل إن هذا المفهوم المميز للتعلم هو قدرة البشرية على أن تصبح أكثر حكمة. ربما أتعلم، على سبيل المثال، أن أكون صديقًا أفضل بعد خسارة صديق ما بسبب سلوك أناني، وقد أتعلم تقنيات التفكير الإبداعي في النهج النظري بعد نكسات تجريبية متعددة. وبعبارة أخرى، فإن السمة الأساسية لكوننا بشرًا هي أننا نميل إلى تطوير عقولنا من خلال التعلم المناسب. نحن لا نتعلم طرقًا جديدة للقيام بالأشياء فحسب، بل نكتسب المزيد من المعنى لحياتنا في نفس الوقت من خلال التفكير في دروس أعمق تم اكتشافها عبر ارتكاب الأخطاء.

كل هذا قد يقود المرء إلى استنتاج أن جودل يؤمن بتناسخ الأرواح. لكن هذا سيكون أمرا متسرعا، على الأقل وفقا لمفاهيم معيارية معينة عنه. إحدى السمات المثيرة للاهتمام في رؤية جودل اللاهوتية للعالم هي اعتقاده بأن نمونا إلى كائنات عقلانية تمامًا لا يحدث كتجسيدات جديدة في هذا العالم، بل في عالم مستقبلي متميز:

على وجه الخصوص، يجب على المرء أن يتخيل أن "التعلم" يحدث في جزء كبير منه أولاً في العالم الالآتى، أي أننا نتذكر تجاربنا من هذا العالم ونتوصل إلى فهمها حقًا لأول مرة، بحيث تكون تجاربنا الدنيوية هي – إذا جاز التعبير – فقط المادة الخام للتعلم.

ويشرح أكثر:

علاوة على ذلك، يجب على المرء بالطبع أن يفترض أن فهمنا سيكون أفضل بكثير هناك منه هنا، حتى نتمكن من التعرف على أي شيء مهم بنفس اليقين المعصوم من الخطأ مثل 2 × 2 = 4، حيث يكون الخداع مستحيلًا موضوعيًا.

ولذلك يجب أن يكون العالم الآتي هو الذي يحررنا من حدودنا الأرضية الحالية. بدلًا من العودة إلى جسد أرضي آخر، يجب أن نصبح كائنات لديها القدرة على التعلم من الذكريات التي نحملها معنا سرًا إلى مستقبلنا، إلى حالة أعلى من الوجود.

إن الاعتقاد بأن جوهرنا هو أن نصبح شيئًا أكثر مما نحن عليه هنا يفسر سبب انجذاب جودل إلى فقرة معينة في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، والتي اكتشفتها عندما كنت أتصفح مكتبته الشخصية في أرشيفات الجمعية الدولية للعلوم.في طبعة لاتينية بحجم الجيب للعهد الجديد، كتب جودل في أعلى صفحة العنوان بقلم رصاص خفيف: "ص. 374. بعد هذه الإشارة، ننتقل إلى الفصل 15 من رسالة القديس بولس حيث وضع جودل الآيات من 33 إلى 49 بين قوسين مربعين ورسم سهمًا إلى آية واحدة على وجه الخصوص. في الآيات التي بين قوسين يصف القديس بولس قيامتنا الجسدية. باستخدام استعارة المحاصيل،، يقول القديس بولس أنه يجب تدمير البذور المزروعة لكي تنمو لتصبح النباتات التي من طبيعتها أن تصبح نباتات. ويشير إلى أن الأمر سيكون هو نفسه معنا.إن حياتنا وأجسادنا في هذه الحياة ليست سوى بذور، تنتظر تدميرها، وبعد ذلك سننمو إلى حالتنا النهائية من الوجود. رسم جودل سهمًا يشير إلى الآية 44 لتسليط الضوء عليها: "يُزرع في الضعف ويُقام في القوة". "يُزرع جسدًا ماديًا، ويُقام جسدًا روحانيًا." بالنسبة لجودل، من الواضح أن القديس بولس قد وصل إلى النتيجة الصحيحة، وإن كان ذلك من خلال الرؤية النبوية بدلاً من التفكير العقلاني.

لقد تركنا إلى حد كبير لنتساءل عن رد فعل ماريان على آراء ابنها حول الآخرة، رغم أنه من المؤكد أنها كانت في حيرة. في الرسالة المؤرخة في 12 سبتمبر 1961، أكد جودل لوالدته أن ارتباكها بشأن منصبه لا علاقة له بعمرها بل يتعلق أكثر بتفسيراته الموجزة. وفي الرسالة الأخيرة، بتاريخ 6 أكتوبر 1961، اعترض جودل على الادعاء بأن آرائه تشبه "السحر والتنجيم". فهو يصر، على العكس من ذلك، على أن وجهات نظره لا علاقة لها بأولئك الذين يستشهدون فقط بالقديس بولس أو يستمدون الرسائل مباشرة من الملائكة. وهو يعترف بالطبع بأن وجهات نظره قد تبدو "غير محتملة" للوهلة الأولى، لكنه يصر على أنها "ممكنة وعقلانية" للغاية. في الواقع، لقد وصل إلى موقفه من خلال الاستدلال وحده، ويعتقد أن قناعاته ستظهر في النهاية أنها "متوافقة تمامًا مع جميع الحقائق المعروفة".وفي هذا السياق يقدم أيضًا دفاعًا عن الدين، معترفًا بالجوهر العقلاني له، والذي يدعي أنه كثيرًا ما يسيء إليه الفلاسفة وتقوضه المؤسسات الدينية السيئة:

ملحوظة: لا يساعد منهج الفلسفة الحالي كثيرًا في فهم مثل هذه الأسئلة حيث أن 90% من الفلاسفة المعاصرين يرون أن هدفهم الأساسي هو إخراج الدين من رؤوس الناس، وبالتالي يعملون مثل الكنائس السيئة.

سواء أقنع هذا ماريان أم لا، لا يسعنا إلا أن نخمن.

بالنسبة لأولئك منا الذين ما زالوا على قيد الحياة في هذا العالم، فإن حجة جودل تعطينا رؤية رائعة حول السبب الذي قد يجعلنا نستمر في الوجود بعد التخلص من هذا الملف الفاني. وفي الواقع، فإن خطابه يتوهج بالتفاؤل بأن حياتنا المستقبلية، إذا أردنا إرضاء العقل، يجب أن تكون حياة نعظم فيها بعض الصفات الإنسانية الأساسية التي لا تزال في حالة هشة هنا. سيكون مستقبلنا أكثر ذكاءً وقدرة بطريقة أو بأخرى على فهم المادة الخام للمعاناة التي نعيشها في هذه الحياة. هل يمكننا أن نفترض أن كورت وماريان قد تم لم شملهما الآن؟ لنأمل ذلك.

(انتهى)

***

...........................

* ألكسندر تي إنجلرت/ Alexander T. Englert: باحث مشارك في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيوجيرسي. وهو يبحث في كانط وهيجل والتقاليد المثالية الألمانية، وكذلك الأخلاق ونظرية المعرفة والدين.

* كورت جودل: (28 أبريل 1906 - 14 يناير 1978) منطقي ورياضياتي وفيلسوف. ولد في برون في مورافيا في ما كان يعرف باسم نمسا-المجر. بعد تفكُك تلك المملكة أصبح غودل تشيكيا في عمر 12، ثم أصبح نمساوياً في عمر 23 وبدخول هتلر إلى النمسا وضمها إلى ألمانيا أصبح غودل مواطِناً ألمانيا في عمر 32. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر غودل إلى الولايات المتحدة حيث أصبح مواطِناً أمريكياً وعمرهُ اثنان وأربعون عاماً. من أهم إنجازاته مبرهنات عدم الاكتمال.

سألني أحد طلبة الإعلام يوماً: هل يمكنكَ مساعدتي على كتابة مقال صحفي؟ فأجبته بلطف معتذراً لن أتمكن من ذلك!. والحق أنني لم أكن أقصد القساوة في رده، أو البخل في تعليمه، أو بث اليأس في نفسه، إنما هذه هي الحقيقة التي اردت من خلالها أفهامه أن فن المقال لا يشبه بقية الفنون الصحفية التي تتحصل بالتعليم النظري والتطبيق العملي، ذلك لأنه مرتبط بالموهبة أولاً، وبثقافة الكاتب المتأتية من قراءاته المتنوعة ومطالعاته في شتى أنواع المعارف والعلوم والآداب ثانياً، والأهم من ذلك كله المثابرة التي تحافظ على الموهبة وتنميها، والصبر على طول التجارب حتى يتبلور الأسلوب الذي يمنح كل كاتب ملامحه وبصمته وهويته.

حكى لي أحد الزملاء ممن ترأسوا قسماً للإعلام في احدى الكليات الأهلية، أنه أراد أن يختبر طلبته في أولى محاضراته، وأن يتعرف على مستوياتهم الثقافية التي دفعتهم للتقديم إلى هذا القسم دون غيره، قياساً على ما كان عليه هو وأقرانه من الطلبة قبل خمسين عاماً، فسألهم عن دوستويفسكي هل سمعوا به؟ فلم يجبه أحداً منهم، فتنازل قليلاً، ليسألهم من هو نجيب محفوظ ؟، فحاروا جواباً، ثم تنازل أكثر ليسألهم، ماذا تعرفون عن جواد سليم؟ فتلاقت الأعين بالأعين والآذان بالآذان بحثاً عن الجواب المفقود!. كان هذا الزميل يقيس الأمور على مقاييس زمانه، يوم كان المتقدم لدراسة الإعلام مؤهلاً للخضوع إلى اختبار معلوماتي وثقافي يفتح له باب القبول في هذا التخصص الذي من أولى متطلباته أن يكون المتقدم له قد قرأ كثيراً وطالع مطالعات خارجية في المرحلتين المتوسطة والإعدادية وربما حتى في الإبتدائية، وعندما تقدم هو لدراسة الإعلام كان قد ختم القرآن الكريم مرات عديدة فتمكن من اللغة والبلاغة وحسن التعبير، واكتسب خيالاً واسعاً من قراءة القصص والروايات العربية والعالمية، وتعرف على خبايا الخير والشر في النفس البشرية من شخصيات الروائيين الروس العظام أمثال نيكولاي غوغول وتورجينيف وتولستوي ودوستويفسكي وشولوخوف، وعرف اعمال سارتر وكامو، وعاش مع رعب كافكا في صرصاره وقلعته، ومع فيكتور هيجو في أحدب نوتردام، ومع همنغواي في الشيخ والبحر، ولمن تقرع الأجراس، وقرأ  أيام طه حسين، وعبقريات العقاد، وحمير توفيق الحكيم، وتماهى مع شخصيات نجيب محفوظ في ثرثرة على النيل، والكرنك، وأولاد حارتنا، وسي السيد في ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وقرأ كلاً أو بعضاً من أشعار الرصافي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر، وقصص وروايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وموسى كريدي وعبد الرحمن مجيد الربيعي. وبمثل هذه العدة الثقافية، تقدم هو وغيره من أبناء زمانه للدراسة الجامعية، ولدراسة الإعلام على وجه التحديد الذي قد يُعلِم صناعة الخبر والتقرير الخبري والريبورتاج واللقاء والتحقيق الاستقصائي، لكنه لا يُعلِم كتابة المقال الصحفي، إلا للموهوبين الذين اكتشفوا مبكراً مواهبهم في كتابة مادة الإنشاء أو التعبير خلال مراحلهم الدراسية الأولية، فعززوها بالقراءة وسعة المعرفة والثقافة الموسوعية التي تمكنهم من كتابة المقال الصحفي بأساليبهم المتعددة في الكتابة، وبمعلوماتهم وثقافتهم التي تمنح المقال قيمة وجوهراً وغاية.

أذكر أنني حضرت قبل مدة مدعواً مع عددٍ من الزملاء الصحفيين إلى مهرجان إعلامي طلابي بصفتنا مُحَّكمِين على نتاجات الطلبة، ومنها نتاجاتهم في المقالات الصحفية، وعندما عُرضت علينا بعض المقالات، فوجئنا بأسلوبها وحرفيتها، فساورنا الشك فيها، بالأخص وأنها تبدو ليست جديدة على ذاكرتنا، فعدنا إلى محرك البحث في الإنترنت لنكتشف أن كل ما عمله الطلبة أنهم اقتطعوها ولصقوها " كوبي بيست" وحذفوا إسم الكُتّاب المعروفين، ووضعوا أسمائهم عليها بغية الحصول على جائزة المقال الصحفي!. قد لا يكون الطالب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن هذه "السرقة" الصحفية، إذ انه قد يتوهم بأن المطلوب أن يختار مقالاً صحفياً من الإنترنت ويضع عليه اسمه، نعم قد يكون بعض الطلبة بمثل هذا المستوى من الإدراك والفهم، لكن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر هو التدريسي الذي يُفترض أن لا تمر عليه مثل هذه المقالات المسروقة، مثلما يُفترض أن يوجه الطلبة توجيهاً صحيحاً بالاعتماد على أنفسهم، وعلى مواهبهم في الكتابة إن وجدت، وأن يعمل على تنميتها وتحفيزها وتشجيعها في المسابقات والجوائز والدعم المعنوي.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

في المثقف اليوم