قضايا

دليل أزمة أم مؤشر وعي؟!

لوحظ في الآونة الأخيرة زيادة غير مسبوقة في مضمار (الكتابة التاريخية) والسعي خلف مصادرها، لاسيما تلك التي تستحضر الماضي ولكن استيحاء وتستعيد التاريخ ولكن على وجل. وبرغم تنوع تلك الكتابات وتعدد مشاربها من حيث طبيعة الأفكار التي تستلهمها وماهية المنطلقات التي تحفزها، إلاّ أن ما يؤخذ على أغلبها انعدام الجرأة النقدية وتحاشي الخوض في غمار المحظور السوسيولوجي، والحفر في المطمور الانثروبولوجي، والنبش في المستور السيكولوجي لذلك الماضي، وذلك من منطلق عدم إثارة النعرات والحساسيات العصبية بين الجماعات المجيشة نفسيا"والمستنفرة سياسيا"على الدوام. بل والأنكى من ذلك، ان النادر من تلك المحاولات والمبادرات الاستثنائية من تناولت المواضيع المتعلقة بتلك الحقب المندرسة من منظور (النقد) العقلاني و(التحليل) الموضوعي، بدلا"من أن تنخرط في (التمجيد) الإيديولوجي و(التطبيل) السياسي، كما بات شائعا"في مثل هذه البحوث والدراسات.

وفي الحقيقة ان دوافع هذا التوجه الاستثنائي نحو المبحث التاريخي الشائك، لا يعدم التعبير عن ظاهرة مألوفة باتت لصيقة ببنية الفكر العربي الحديث والمعاصر وهي ابتلائه بلوثة (التقليد) التي تجسدها خطابات النخب العراقية والعربية المأخوذة ب (الحداثة) والمبهورة ب (التنوير)، والمتمثلة في (إتباع) كل ما يصدر عن مراكز الفكر الغربي من موجات فلسفية وموديلات منهجية لا يفتأ بعضها ينقض البعض الآخر وفقا"لديناميات الجدل الهيجلي المتصاعد، والتي كان من نتائجها تمخض مجموعة من المنظورات الفكرية والمداخل المنهجية ذات الطابع الجذري في مضامير التحليل والتأويل من مثل: (الاركيولوجية) و(الجينالوجية) و(التفكيكية) الخ. حيث دأب أصحابها على تناول حقبة (الحداثة) وما صدر عنها وارتبط بها وتأسس عليها، على أسس تاريخية ومعرفية ذات طبيعة (نسبية) متغيرة ومتنوعة ابتداء من (نيتشه) و(ماركس) و(فرويد)، وليس آخرهم (فوكو) و(دريدا) و(بودريار) وسواهم من الفلاسفة والمفكرين، ممن استطاعوا اجتراح فكريات ومنهجيات قلبت المسلمات والتواضعات السابقة رأسا"على عقب، حيث أخضعت براديغماتيات وسساتيم العلوم الاجتماعية والإنسانية لنقد جذري واسع المدى وعميق الأبعاد لم تزل آثاره على مختلف الصعد فاعلة لحد الآن.

ولعل في إطار هذا المنعطف يعتبر علم (التاريخ) من أبرز العلوم الاجتماعية والإنسانية التي حضيت باهتمام متزايد من لدن رهط لا تني قاعدته العلمية والأكاديمية من الاتساع جغرافيا"والتنوع ثقافيا"، ليس فقط لجهة التوسيع في مجالاته والتنويع في مباحثه والتطوير في مناهجه فحسب، وإنما لجهة شرعنة التداخل في الاختصاصات والتفاعل في المجالات والتواصل في الاهتمامات أيضا". ولهذا فقد نحت الدراسات التاريخية المعاصرة منحا"مغايرا"عما كان سائدا"في الماضي، حين كان التركيز ينصب على الأمور المتعلقة بالسياسة (طبيعة الدول ومؤسساتها)، والقضايا المرتبطة بالسلطة (أنماط الحكومات والحكام)، دون يصار الى مراعاة الجوانب الأخرى والمجالات المختلفة التي لا يمكن للباحث الفطن – دون استحضارها واستنطاقها - فهم واستيعاب صيرورات الظواهر الاجتماعية وتبلور خصائصها النوعية، ناهيك عن تحليل سيرورتها وتأويل معطياتها سواء في حالات الظروف الطبيعية أو الأوضاع الاستثنائية. وهذا بالضبط ما فعله رواد مدرسة الحوليات الفرنسية – وفي مقدمتهم (فرنان برودويل) - الذين وضعوا مبحث التاريخ على مسارات جديدة ومنطلقات مبتكرة، أفضت لاحقا"الى حدوث (ثورات) معرفية و(انقلابات) منهجية غيّرت المعنى التقليدي التاريخ، واجترحت له من ثم حقول معرفية مثمرة في مجالات الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية والسيكولوجيا والآداب والفنون، الخ.

والجدير بالذكر أن الوقوف على ظاهرة ما اعتبرناه (انتعاش) السرد التاريخي في مثل هذه الأجواء الاجتماعية والظروف الاقتصادية والأوضاع الثقافية والسياقات التاريخية، المفعمة بتطوير المعارف وتنوير الذهنيات وتثوير الإرادات وتغيير العلاقات، لا يمكن للشك أن يداخلنا إزاء حقيقة أن المجتمع الذي يمر بمثل هكذا تحولات وانزياحات، لابد وأن يكون قد قطع أشوطا"واسعة في مضامير تشذيب الماضي من خرافاته، وتقويم التاريخ من انحرافاته، وتحرير الوعي من عصبياته. وهو الأمر الذي يسوقنا الى تبني الانطباع الذي مؤداه؛ ان زيادة اهتمام المجتمع المعني باللجوء الى (السرد التاريخي) في مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يدلل على أن هناك ما يوحي بوجود أزمة بنيوية تفضح هشاشة المجتمع وتهدد كيانه، بقدر ما يؤشر على أن هناك مخاضات نهضوية متفاعلة العلاقات ومتواصلة التأثيرات، مقدر لها أن تشي بمتانة المدماك الحضاري ورصانة الوعي الاجتماعي.

وإذا ما نظرنا الى ذات الظاهرة (انتعاش السرد التاريخي) من زاوية المجتمعات التي تعاني الاحتباس في مواريث الماضي، والالتباس في أحداث التاريخ، والارتكاس في أضغاث الوعي. فان الأمور ستبدو لمن يعاني القصر في النظر كثيرة الغموض وشديدة الإبهام، ان لم تكن محيرة وعصية على الإدراك والتفسير، بحيث لن يكون من السهل على من يحاول موضعة تلك الظاهرة ضمن سياقها المناسب، والذي على أساسه ومن خلاله يمكن تقدير فيما إذا اعتبرت دليل أزمة بنيوية مزمنة أم مؤشر وعي نهضوي مبشّر !. ومن هذا المنطلق، نحاول تقييم الحالة التي شهدتها - وتشهدها - الساحة العراقية المضطربة على امتداد العقود الأربعة الماضية، خصوصا"وان معدلات السرد التاريخي بلغت مستويات عالية مقارنة بإنتاج نظيرها في الفترات السابقة، ليس فقط لجهة تزايد عدد الأطروحات الجامعية والدراسات الأكاديمية من قبل المؤرخين والباحثين فحسب، وإنما لجهة ارتفاع نسب طلاب الجامعات المنخرطين في أقسام التاريخ بفروعه الثلاث (القديم والحديث والمعاصر)، بحيث يبدو الأمر كما لو أن هناك نقلة نوعية طرأت في مجال (الوعي التاريخي) أحدثت هذا التحول المفاجئ في التوجهات الفكرية والاهتمامات الثقافية للعراقيين، بعد فترة الخمول الفكري والسبات الثقافي والانقطاع المعرفي.

وكما هو الحال مع أية ظاهرة جديدة تظهر على سطح الواقع العراقي الطافح بالمفارقات والتناقضات، فان الانقسام في المواقف والاختلاف في الآراء سرعان ما يأخذ طريقه داخل الأوساط الثقافية بمختلف أنماطها وتنوع فاعلياتها وتعدد مستوياتها. لجهة دعم هذا التوجه أو ذاك، أو تغليب هذا المنحى على ذاك. وهكذا، ففريق يرى  - وهو الغالب في المشهد – ان ظاهرة تزايد الاهتمام بالتاريخ والإقبال على دراسته، ما هي إلاّ (مؤشر ايجابي) يعبر عن قدرة الجماعات العراقية المتشظية على تخطي عوائق خلافاتها السياسية وتجاوز اختلافاتها الاجتماعية وتذليل احتقاناتها النفسية، بعد أن عركتها تجارب الصراعات العصبية العقيمة والصدامات الأصولية العبثية، للحدّ الذي أوردتها – بالمحصلة النهائية - مورد الاحتفاء بتاريخها المشترك والارتقاء بحضارتها الموحدة. بعدما كان الأول (التاريخ) في حالة من التفكك والتشظي، مثلما كانت الثانية (الحضارة) في حالة من التشرذم والتفتت، وهو ما يعطي الانطباع الوهمي بأن هناك (صحوة) في الضمير الجمعي، و(نضوج) في الوعي التاريخي، و(نهضة) في الإرادة الوطنية.

أما وجهة نظر الفريق الثاني – وهم الأقلية – فترى أن حدوث هذا (الانتعاش) السطحي والاختزالي، لا يعد – وفقا" لجميع المعطيات والمؤشرات - دليلا"على (تعافي) عقلية الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية التي يتشكل منها المجتمع العراقي المتصدع من لوثة النعرات القبلية التي تتقاذفه، والعصبيات الطائفية التي تتآكله، والأصوليات الدينية التي تتقاسمه. بقدر ما يعتبر مؤشرا" (سقم)، بلّه، مرض عضال رابض في تلك العقلية لم يبرح ينخر أسس الكيان الاجتماعي المتضعضع والمتهالك تحت وطأة انقساماته المزمنة وصراعاته المتوطنة، ليس فقط على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين فحسب، بل وكذلك – وهنا الطامة الكبرى – على صعيد الجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية.

ومن باب الإنصاف القول؛ ان المجتمع العراقي لا يشكل – في هذا الإطار – نمط فريد أو حالة خاصة يستحق أن يوضع موضع الاتهام والإدانة، وإنما هو شريك (متفوق) ضمن شركاء آخرين داخل منظومة مجتمعات بلدان العالم الثالث عامة ونظيرها المجتمعات العربية خاصة، يشاطرونه هذا الابتلاء وينسجون على منواله في هذه المحنة، لاسيما في (احتضان) هذه الظاهرة وتهيئة البيئات الاجتماعية والثقافية المناسبة، ليس فقط في أنشارها واستشرائها في المؤسسات الإيديولوجية والبيداغوجية فحسب، وإنما في توطينها وتكريسها في الذهنيات العلمية والأكاديمية أيضا". وهو ما نعتقد ان هذا الأمر هو الذي حدا بالمؤرخ والمفكر المغاربي (عبد الله العروي) أن ينعى هذا النمط من المجتمعات المتصدعة بنيويا"والمتشظية قيميا"فقدانها (للرأس التاريخي)، أي بمعنى حيازتها للعقلية الملتاثة بمعاطب ومثالب المغالطات التاريخية التي تنعدم لديها قدرة التمييز بين سيرورات التاريخ وجدليات حقبه، فضلا"عن رذائل الخلط بين سياقاته المتبدلة ودينامياته المتحولة على الدوام.

وفي إطار هذه الرؤية السوريالية (اللاتاريخية) يمكن اعتبار ان عقلية المجتمع العراقي – عامته وخاصته – هي من أكثر عقليات المجموعة البشرية فقدانا"(للرأس التاريخي) رغم شدة ادعائها الافتتان بالتاريخ وحرصها على مواريثه، وذلك جراء تعاملها (البراغماتي) مع الواقع الاجتماعي المزدحم بالتناقضات والفائض بالتعارضات والغارق بالمفارقات، كما لو أنه مستنقع راكد لا أثر للحياة فيه. بحيث لا ضير عند كل من يبحث في مضان هذا التاريخ الملتبس، من استحضار أحداث الماضي وزجها في أتون الحاضر، أو بالعكس إسقاط تداعيات الحاضر على وقائع الماضي، مع التأكيد على أن توقعات المستقبل هي الغائب الأكبر عن أفق كل من دعاة الماضي والحاضر معا". لذلك فليس من الغريب أو العجيب أن يختلط في هذه البنية العقلية الحابل بالنابل، ويتم – بأريحية استعراضية - تحيين أرشيفات الذاكرة واستدعاء مخزونات المتخيل ليس من باب العبرة والاعتبار، وإنما من منطلق التباهي القبلي بها والاحتكام إليها وسط ضجيج تصادم السرديات المختلقة والمرويات الملفقة، أو – وهذا أسوأ - للاتكاء عليها في تسوية أزماتنا السياسية المتراكمة وحل مشاكلنا الاجتماعية المتفاقمة.

وبالمقارنة مع بقية المجتمعات التي تماثل في ظروفها القلقة وأوضاعها الهشة ظروف وأوضاع المجتمع العراقي، فان ما يميّز هذا الأخير عن أقرانه ويبزهم فيها هو ليس فقط (الإفراط) بإنتاج وتداول (السرد التاريخي) على المستويين الشعبي والرسمي فحسب، وإنما لجهة والتداعيات الناجمة عن مثل هذا التعاطي (البراغماتي) المعلن تارة والمبطن تارة أخرى، والذي أفضى – وسيفضي دائما"- الى ؛ إثارة الحساسيات الجغرافية / التاريخية، وتأجيج الصراعات الاجتماعية  / الاقتصادية، وتصعيد الاحتقانات الدينية / النفسية، وتسعير التوترات النفسية / الثقافية، وتفجير التوترات السياسية / الأمنية. ولعل من أبرز الأسباب التي جعلت من هذه الظاهرة تأخذ هذا المنحى المتطرف في التعبير والتأثير هي:

أولا"- غياب دور الدولة (الوطنية) المزمن في إدارة الأزمات المتواترة التي لم يبرح المجتمع العراقي يتعرض لها كما لو أنها لعنة أبدية، والعمل من ثم على إيجاد الحلول والتسويات المناسبة بما يفضي الى جعل مبدأ (المواطنة) الحضارية هو المعيار في الحصول على الثروة والاشتراك في السلطة، بدلا"من الركون الى الرعويات الأقوامية والطوائفية والقبائلية. فالمواطنة الحضارية – كما يرى بصواب الباحث العراقي (علي ثويني) – (وبال على كل دعاة التشرذم والتحاصص، بعدما يلجأ الإنسان للدولة بدل أن يلجأ لشيخ العشيرة أو رجل الدين).

ثانيا"- غياب الروابط الاجتماعية الموحدة، وانعدام الرموز الوطنية المشتركة، وفقدان السردية التاريخية الواحدة، التي من شأنها شدّ وسمتنة لحمة المكونات السوسيولوجية المقسّمة الى أقوام وأجناس، والجماعات الانثروبولوجية المتفرقة الى طوائف وقبائل، ومن ثم لملمت شعثها وجمعنت تبعثرها تحت خيمة (هوية) عراقية متسامية فوق النعرات القومية والعصبيات الاجتماعية والأصوليات الدينية.

وهكذا يتبين لنا أن ظاهرة انتعاش (السرد التاريخي) في المجتمع العراقي، لا تعبر – كما يرى البعض – عن وجود (صحوة) لاسترداد الوعي بالتاريخ الوطني المشترك، بقدر ما تشي عن (انكفاء) و(تشظي) الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية صوب أصول تاريخية مختلقة  ومرجعيات رمزية ملفقة، تضفي على وجودها الاجتماعي والثقافي والحضاري مشروعية (وطنية) مفتقدة، بعد أن تحول المجتمع المتصدع الى أقوام متكارهة وقبائل متباغضة وطوائف متنازعة.

***

ثامر عباس

لم يتوقف تيار التنوير في العالم الإسلامي عن تصحيح الظلاميات رغم الموجة السلفية التي تعصف بهذا الجزء من العالم، لأن في تراث المسلمين حزمة كبيرة من النزعة العقلانية لاسيما في الفكر الإسلامي الشيعي الذي ينطوي على خلفية تاريخية للاجتهاد الذي ينبني كمفهوم على العقلانية، والنزعة النقدية، ويعتبر البديل الاسلامي لفلسفة الحداثة في الفكر الغربي.

في أوربا مر أكثر من قرنين على انطلاق عصر التنوير، وسقطت قضبان العقل والخرافيات الظلامية  واعتبر التنوير في أوربا ضرورة لأن الثقافة والمعرفة الكنسية كانت معرفة طبقية غارقة في دوغماتية الاسطورة، ومسكونة في الطبقية، يكن التنوير أكثر ضرورة في عالمنا الاسلامي لأن مشروع النهضة في العالم الاسلامي لا يزال يعاني من مأزق الولادة منذ قرن أو يزيد ولأن التراث الاسلامي يحتضن تجارب تنويرية كبيرة، فلقد اطلق المسلمون العقلانية حتى القرن الرابع الهجري ليكتشفوا ويبدعوا ويخترعوا ويصنعوا المعجزات العلمية التي غيّرت حياة الناس، بيد ان المؤسف ان تلك التجارب لم تتحول الى اطروحات دينية وسياسية ولم تتأسس على شكل موجات للتحديث تكتسب شرعيتها من النص والضرورة وصيرورة التاريخ فظلت كأنها استثناء من الوضع الطبيعي (وأعني بها كمثال تيار المعتزلة) وفلسفة الشيعة الامامية في مجال العلوم والمعارف والكلام.

لقد قدم القرآن الكريم لقضية الأنسنة (آية تكريم الانسان) فقال: (وكرمنا بني آدم) وقدم آية عدم جواز الاكراه على المعتقد، وقدم ضرورة التعلم لكل انسان وقدم ضرورة تمتع الانسان بالحريات العامة، والحقوق الاساسية، كأصل من اصول الدين، وقدم الحديث النبوي والرواية عن آل البيت (ع) اروع النصوص في بناء الانسان وفي القيم الاساسية التي يجب أن يتحلى بها، واعطت انموذجاً رائعاً في التكافل والتضامن فلم يكن موضوع الانسنة مفهوماً اركونيا انما هو مفهوم اسلامي انطلق مع انطلاق النصوص التأسيسية للاسلام، وتزامن مع الشروح والتفسيرات..

ولعل اتفاقاً حاصلاً بين العلماء على ان ما ساد في عصور المسلمين حتى القرن الرابع من استبداد سياسي وديني، ليس من معطيات الاسلام الحقيقية، وليس من منابعه الصافية، انما كان تأويلاً ذرائعياً للنصوص بمايحقق مصالح الحاكمين والمستغلين.

وبالنتيجة: لم يكن الاستخدام العلمي للعقل في التجربة الاسلامية بعيداً عن متطلبات النص الاسلامي ولم يكن الخروج من هيمنة الارادات الاكليركية الى اشراقات الذات شيئاً غريباً على التصور الاسلامي وهذا لا يشابه حاضرنا.. أما ما ننطلق منه حالياً فهو من مصالح الطائفة او المذهب او الحزب او المرجعيات فانه الاستثناء الذي يماثل استثناء استبداد السلطة السياسي والديني في تجربة ربانية مثل تجربة الاسلام العظيمة.

لقد طرح الشيعة الامامية: العقل بوصفه المنتج للمعرفة العقائدية والحقوقية، ومنحوا العقل الانساني جميع الحمايات والضمانات التي تمكنه من مواصلة الانتاج المعرفي واعطوه مهمة نقد العقلانية ذاتها كأرفع مهمة وأصعب مهمة لعملية تصحيح دائمية للمسلمات والبديهيات، وجعلوا ذلك جزءاً من الايمان الديني الا ان التوقف الذي حصل في – مسارات التنوير الاسلامي – واختفاء مظاهر العقلانية التي أسس لها الشيعة قد حصل بسبب التدخل السياسي في العصرين الأموي والعباسي فيما هو فكري ومنهجي ومعرفي وقد تمثل في تحريم التعامل مع المنطق، وتحريم الاشتغال بالفلسفة، والغاء ممارسات الاجتهاد الفقهي، لاسيما في العصر السلجوقي الذي بدأ (447هـ) والذي امتد لقرون فرضت السياسة هيمنتها على المعرفة.

لقد أثر العامل السياسي على الفعل الحضاري في العالم الاسلامي بصورة عامة، وتردى الفعل الاجتماعي تردياً كبيراً وانحسر الفكر التنويري وانتشرت الظاهراتية والموجات النصية انتشاراً كبيراً، لكن ذلك كله بقي وسيبقى في نطاق الاستثناء.

في الخلاصة النهائية: نجد انه لا يمكن لأمة أن تصل إلى حضارة عظيمة بلا دين سماوي يحترم الفعل والممارسة العقلانية والنزعة النقدية وان اشكالية العلاقة بين النهضة والدين، والتراث والحداثة – هي مأزق الاجتهاد المعاصر -، ولابد من اكتشاف الرؤية التي تحقق لنا معطياته من خلال الدين نفسه.. ولاسيما الرؤية الشمولية للاسلام العظيم خاتم الاديان السماوية.

***

الاستاذ الدكتور

عبد الأمير كاظم زاهد

الرسول والشورى في القرآن:

الرسول (ص) نقل وبكل حرص ما حَمله الوحي له من أمانة الرسالة، المتمثلة  بالقرآن، هذه المهمة لا تحتاج الى مشاورة أحد، لأن العملية  فقط بين المرسل والرسول، تتلخص بتلقي كلام الله الموحى، من عالم الملكوت الى عالم الأنس، ولكن بعد أن دُون كلام الله بنص عربي، وأنطلق الرسول بمهمة التبليغ في مجتمعه، وبدأ بتطبيق ما أوحي له في عالم الواقع، هنا جاء دور المشاركة مع رفاقه من المؤمنين، في مشاورة بينية، بل وبتوجية من صاحب الرسالة (الله) أن يتشاور الرسول مع أخوانه وأصحابه من المؤمنين (...وشاورهم في الأمر فأذا عزمت فَتوكل على الله)(ال عمران:159) . فالمشورة جاءت بتوجيه من الله الى نبيه، لأن الرسول أذا كان محيطاً وعالماً بالرسالة، فقد لا يكون عالماً ومطلعاً بشكل كبير بشؤون حياتية أخرى، لذا يتوجب فيه أن يشارك الآخرين فيها، وخاصة الذين لهم باع وخبرة في أمر معين كأن يكون أجتماعي أو أقتصادي أو حربي. فالشورى هي تعني مناقشة أمر ما بشكل جماعي، وأستمزاج  رأي كل واحد من المجتمعين، والخروج أخيراً بقرار واحد يقرره الرئيس بعد أستمزاج وتلقي آراء المجتمع بهم  أو الأكثرية، ولكن في الحقيقة هو طريقة يشرك بها الشخص الآخرين في مناقشة قضية من القضايا، منعاً لحصول الخطاً سواء في فهم الشيء أوفي  تطبيقه، وقد قال الأمام علي (ع) (من شاور الناس شاركهم عقولهم) وهو القائل أيضاً (ما خاب من أستشار)، أذن الذي يستشير يعكس الرغبة في مشاركة غيره في التفكير معاً، وأنه بعيد عن رغبة أحتكار التفكير وأتخاذ القرار، وهو مبدأ يفتح آفاق واسعة للتداول في وجهات النظر . فالقرآن مؤسس لمبدأ الشورى، وأول ما دعى في تنفيذه الى حامل القران والمبشر به، محمد (ص)، وهو فتح جديد في أدارة الحكم وأدارة شؤون الدولة والمجتمع (وأمرهم شُورى بَينَهم)(الشورى:38)، حتى نرى أن من صفات المؤمن عدم التفرد بل التعامل على أساس التشاور، وجعلها الله في القرأن علامة له كالصلاة وأنفاقه للمال في سبيل الله (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (الشورى(36-38). فالرسول أستجاب لما أملاه عليه القرآن، والتاريخ يذكر لنا مواقف كثيرة دعى فيها الرسول (ص) أصحابه الى المشاورة، وهو القائل في بدر (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وعلى أساس هذا المبدأ الذي دعاهم الرسول على العمل به، ما دفع بأحد أصحابه في معركة بدر في توجيهه سؤال الى النبي،( قائلاً له يارسول الله مستفسراً عن الموقع الذي نزل به جيش المسلمين، وقد أختاره الرسول (ص)، فقال له أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فأنهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ماوراءه من القَلبُ (الآبار) ثم نبني عليه حوضاً فنملأ ماء، ثم نقاتل القوم و فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله (ص) لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى اذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه)(أبن هشام ج2 ص204-205).

 وحدث الأمر نفسه في معركة خيبر عندما عسكر الرسول (ص) تحت صخرة كبيرة قريبه من الحصن، ولكن أحد أصحابه وأسمه الحباب ابن المنذر سأل الرسول فقال له يارسول الله انك نزلت منزلك هذا فأن كان عن أمر أُمرت به فلا نتكلم فيه وأن كان الرأي تكلمنا، فقال له الرسول بل هو الرأي فأشار اليه بتغير المكان، وفعلاً دعا الرسول الى أحد قادته وهو (محمد بن مسلمة الأشهل) ودعاه الى أختيار موقع آخربعيد عن حصون اليهود فأختار مكان أسمه الرجيع فأنتقلوا أليه (المغازي ج2 ص645-646).

ويمكننا أن نذكر حادثة أخرى تؤكد أتخاذ الرسول مبدأ الشورى قاعدة له، وذلك عند حادثة الأحزاب، والتي في حينها تَهيئة بعض القبائل بالهجوم على المدينة المنورة، وكانت واحدة من هذه القبائل قبيلة غطفان، فراودة النبي فكرة يُحَيد بها غطفان من المعركة مقابل أن يمنحهم ثلث ثمار المدينة  أذا أنصرفوا من المعركة، ولكن قبل أن يوقع معهم معاهدة أستشار كل من سعد بن عبادة زعيم الخزرج وسعد بن معاذ زعيم الأوس فكان ردهم (أن كان هذا أمراً من السماء فأمض له، وأن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فأمض لما كان لك فيه هوى، فسمعاً وطاعة، وأن كان الرأي فما لهم عندنا الا السيف (كتاب المغازي ج2ص478 )، وهناك أحداث مشابه حدثت للمسلمين كما حدث معهم مع يهود بني قريظة وأستشار فيها النبي محمد أصحابه، حيث يذكر الواقدي في كتاب المغازي ج2 ص445 أن النبي كان يكثر من مشاورة أصحابه، وذكر أبي هريرة (لم أرى أحداً كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله)(المغازي ص580)، وهناك كذلك قول لعائشة زوجة الرسول (ص) تقول فيه (مارأيت رجلاً أكثر أستشارة للرجال من الرسول) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص63).

من الملاحظ أن الرسول يشاور في أمور خارج دائرة الوحي، وهي أمور تتعلق في الأدارة العامة وشؤون الحرب وغيرها من أمور الحياة العامة، ويشاورهم  بصفته العادية كقائد لا من موقع النبوة، كما يمكننا الأنتقال الى حادثة الأفك، وهي حادثة غاية بالأهمية لأنها تحمل  بُعدين مهمين، الأول هو عدم معرفة النبي للغيب الا ما يعلمه الله، فنراه يعتريه الشك في البداية بعائشة قبل أن تنزل الآية  التي أثبتت براءتها (ان الذين جاءوا بالافك عُصبةمّنكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرِيء منهم ما اكتسب من الأثم ...)(النور:11)، بل وأستشار أسامة بن زيد وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في تطليقها، وهنا تبرز حالتين، الأولى الشك الذي قاده بالغضب عليها، ولو كان يعلم الغيب لما غضب عليها لأن الله برأها، كما أن النبي أستشار في تطليقها، وهذا دليل على أن النبي لا يستشير فقط بالحرب كما يدعي البعض لأن حادثة الأفك لا علاقة لها بالحرب، وهي قضية ذات بعد مدني خالص. وقد أكد هذا المعنى كذلك أبو علي الجبائي المعتزلي، حيث يقول في آية (وشاورهم في الأمر) بأنها أجازت للرسول أن يستعين برأيهم، في أمور الدنيا بدون حصرها بالحرب وحدها (الطوسي في البيان في تفسير القرآن) ج3ص32 . كما هناك حوادث كثيرة شارك الرسول (ص) أصحابه في الأستشارة، ومنها عندما جيءَ بالأسرى في معركة بدر، حيث وقع بين يدي المسلمين عدد من الأسرى، وكام منهم عمه العباس وزوج بنته زينب أبو العاص بن الربيع، وقال الرسول لأصحابه، ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟ يتضح لنا أن الرسول يتعامل كباقي البشر خارج أمور الوحي، أي بدون غطاء النبوة المرتبطة بوحي السماء، وقد ذكر الزمخشري في كتابه الكشاف بأن النبي يردد بلسان حالة (أنما أنا بشر) و(عبد ضعيف) ولو لم أكن كذلك لما كنت (غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب، رابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً ومخطاً في التدابير)(الكشاف ج2 ص89 ). فالرسول كان قبل البعثة وأستمر بعدها بأنه من نصاب البشر (قل انما أنا بشر مثلكم يُوحى اليَّ) (الكهف:110) وأنه لا يُحيط بكل شيء خارج نطاق الوحي، وأنه بشر ناطق بنيابة الله بطريق الوحي، وناطق بلسان نفسة أحيان أخرى، وأنه يحتاج غيره، كما غيره يحتاجه، وهنا علينا التميز بين الرسول الموحى له، وبين الرسول البشر الذي رأيه من نفسه، وهنا وددت أن أشير الى حادثة تبين أن المسلمين الأوائل يعرفون ذلك سلفاً من خلال معايشتهم للرسول، حيث يفرقون بين ما هو موحى من الله، وبين ما هو أجتهاد شخصي من الرسول، وقد جاء ذلك في قول منهم بعد الأنتهاء من معركة حنين في ثمان للهجرة، وقد أصاب المسلمون الكثير من الغنائم، وحين قسم الرسول الغنائم أستشعر البعض بأن الرسول قد أفاض على المؤلفة قلوبهم من قريش شيء من الزيادة، ما أثار تسائل بعض الأنصار بأن قالوا، أما حين القتال فنحن أنصاره، وأما حين القسم فقومه وعشيرته . ووددنا أن نعلم ممن كان هذا، ان كان من الله صبرنا، وان كان هذا من رأي رسول الله استعتبناه) (المغازي ج3 ص956 ) . فالرسول عندما تحدث شبهه بين أصحابه، في أمر ما، وهي حالة طبيعية لا يستفز الرسول الأمر، ولا يتضايق منه، وهو معروف بالسماحة، بل وأن الله وَجَهَه بالتشاور معهم، عند حدوث مايُثير الريبه والخلاف، فالقرآن يحث الرسول بتسوية الأمر بالمشاورة (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)(ال عمران:159 ). فالشورى مبدأ متحرك في آلياته، فيكون للزمن وتطور تقنيات المعارف، وتراكم الخبرة الأثر الكبير في أختيار الصيغة الفنية له، مع الأحتفاظ بالمبدأ، بأعتباره مبدأ كلي، فالرسول عمل به بأعتباره أمر رباني مُقر بالنص القرآني، وهو مبدأ بالحقيقة يجنب العاملين به الوقوع بالخطأ، كما يشكل حزاماً قوياً لوحدتهم ولكن من المهم معرفة نقطة غاية بالأهمية، وهي أن الشورى مبدأ يشمل الأمور المتعلة بشؤون المسلمين دون الأحكام الشرعية التي ورد فيها نص ....يتبع.

***

أياد الزهيري

لا شك في أن صراع القيم يعد من الموضوعات الشائكة التي شغَلت بال المفكرين، والباحثين منذ زمن بعيد وإلى اليوم، نظراً لأن القيم تشكل عنصراً أساسياً ومكوناً رئيسياً لثقافات الشعوب، ومن ثم فهي تشكل سلوك الأفراد داخل المجتمع على كافة المستويات والمجالات. ولأن القيم نفسها ذات أدوار هامة في نحت التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وفي التطور السياسي، والجمالي للمجتمع، فهي كما يقول ماكس فيبر: التعبير عن مبادئ عامة وتوجهات أساسية، بل اعتقادات جماعية ذات أبعاد دينية وسياسية واقتصادية.

وإذا كانت أزمة القيم الضاربة في عمق الحياة العامة بجميع مجالاتها، مما يكاد يجمع عليه كل المتتبعين من الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، وأنها أصبحت ظاهرة طالت انعكاساتها كل الناس ومن مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب؛ فإننا لا نستغرب أن يفشو في أوساطهم الإدبار عن قيمهم الأصيلة التي تعمل على تثبيت شخصيتهم وترسيخ مقومات هويتهم، والإقبال المنقطع النظير على تمثل القيم الساقطة في السلوك، سواء كانت محلية أو وافدة.

ومن تلك القيم الساقطة مذهب العري أو التعري Naturism‏  وهو حسب  موسوعة ويكبيديا يمثل حركة ثقافية وفلسفية تدافع عن ممارسة الحياة بدون ملابس، حيث تبرر ذلك بضرورة حصول الجسم على منافع بدنية كوصول أشعة الشمس والهواء النقي، كما تدعي الحركة أنها تصحح الوضع الطبيعي للإنسان وتبرز وتعزز ثقتهم وإعجابهم بأنفسهم، ولكن منتقدي الحركة هاجموها واتّهموها بنشر الفحش، وقد انطلقت الفكرة من ألمانيا حيث كان الألماني ريشارد أونوجويتر أول من نادى بمذهب التعري حيث ألّف كتاب أسماه التعري عام 1906 ولكن الفكرة لاقت معارضة ومنعت من قبل النازية، ثم انتشرت إلى المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة. - الفلسفة - ينبع مذهب التعري عن مصادر فلسفية عدة ويعني أمورًا مختلفة وفقًا للاعتقادات والآراء الشخصية لكل فرد، حيث لا يوجد تعريف موحد للمذهب، ولكن عرفه الاتحاد الدولي الطبيعاني (INF) عام 1974 على أنه: "نمط حياة في انسجام مع الطبيعة يتميز بممارسة التعري الاجتماعي بنية التشجيع على احترام الذات واحترام الآخرين ومن أجل البيئة".

ولكن للأسف عندما تُقتل الحشمة في بلادنا، وتضيع بين  أزقة شوارعنا العتيقة، فتتلاشى آخر معالم حضارتنا التي اتسمت عبر العصور بالنزاهة والشرف، والحياء، يصبح الُعريِ  تطورا، وخلع الملابس دليلا على التحضر، فكما كان الفرنسيون يباهون بعضهم بعد زيارة الأندلس وبغداد بلباسهم العربي، ونطقهم لكلمة " حبيبي" دلالة على التقدم الحضاري، أصبح فتياتنا يتبارزن على منصات التوك توك والشوسيال ميديا، بعرض ما لذا وطاب من الأجسام كقطع اللحم النيئ عند الجزار، ويتنافسن: من منهن ذات أرداف أكبر وخلفية ثقافية أنضج، وإذا اعترض أحدهم، رموه باستعلاء وعجرفة، بعبارة كادت أن تتناثر بذائتها.

فحين تضيق سمات الحياة بين بعضها، فيصبح الحي كالميت، ويُحول الأموات أحياء، ويدخل الجمل في سمّ الخياط، وتتماهى المفاهيم، وتختلط الأوراق، ويصبح الأبيض أسود، والمر مالحا، ويطغى على المرء العجب ؛ هنا أقول لا يجب أن نظل في الظلام مختبئين، فلابد أن نرفع لبوس التردي الذي خنق مجتمعاتنا، ونستقصي بأسباب تفشي أوبئة الفكر في عصرنا الحديث.

ولعل قائلا يقول: إن التعري لم يكن حكرا على الحضارة الغربية المعاصرة، فهو وريث كل الحضارات السابقة، شرقية أم غربية، ألم نرى المنحوتات في أثينا وفي روما؟، وماذا عن لوحات عصر النهضة وأوساط أوروبا.

ففي منتصف الستينيات ازدادت أعداد ممارسي تلك الثقافة بشكل كبير جداً، خاصة بعد أن ساعد الإعلام بنشر مواضيع دعائية لشاطئ العراة في جزيرة زولت. ومما ساعد أيضاً على زيادة العدد كانت حركات تحرر المجتمع التي رافقت عام 1968، فباتت ثقافة التعري رمزاً لهذا التحرر. ويقدر عدد الألمان ممارسي هذه الثقافة في الإجازات بنحو 800 ألف مصطاف. وفي العقود الأخيرة بدأ مفهوم التعري في ألمانيا يأخذ بعداً سياسياً، فقد ظهرت مجموعات اتخذت من تعري الجسد رمزاً للاعتراض على حدث أو قانون ما، كما يحدث في بعض المظاهرات أحياناً.

إننا نعيش ثقافة مكشوفة لدرجة جعلتنا مكتوفي الأيدي أمام كل منظر في كل مرة، فنحن في الدرب لنصبح، أو بالأحرى أصبحنا، منيعين تجاه ما كان يعتبر في السابق صادماً أو مقرفاً أو مهولاً، فمن المذهل كيف تنقلت "ليدي غاغا" من الشذوذ إلى العري، أليس كذلك؟ مثلما فعل صوت مادونا متوسط العمر في الماضي عندما أثارت الضجة حول الصدريات البارز، والتي يمكن أن نرى في لباسها تزمتاً مقارنة بنجوم اليوم، فنلقي نظرة على تصرفات هؤلاء النجوم: الظهور دون لباس داخلي، عمليات الولادة على شاشات التلفزيون، التموضع دون ملابس لالتقاط صور تنشر على المجلات الشهيرة.

وهنا نقول مع د. مأمون علواني إن التعري بالفعل ليس حالة طارئة على أوساطنا المجتمعية وليس حالة ثورية مفاجئة قد عهدته البشرية منذ أزلها، ولكن ما يختلف في عصرنا هذا عن سابقاته من العصور هو التحضر المرفق قسرا به، فإذا ألقيت نظرة على الحضارات القديمة سترى أن أنظمة تلك البلاد كانت لا تمانع من شيوع أنماط هكذا من اللباس، بل كانت على العكس تحمي أفرادها وتضمن لهم الحقوق، وتُشرع لهم الواجبات، ولكن كانت تجر فتيات الطبقة العليا في المجتمع: الطبقة الحاكمة أو البرجوازية أو الدينية من ارتداء لباس الجواري والإماء والنساء البغايا، وعلي العكس أيضا كانت القوانين حينها تنزل أشد العقوبات إن قامت احدي نساء العبيد أو العائلات في سلك الدعارة أن يرتدين لباس المرأة الحرة، فإن ذلك يعد إخلالا بتوازن المجتمع وتمردا على قوانينه ؛ وبمعني آخر لقد العري منتشر في الدول ولكن كان مقتصرا على من هم دون القيمة الاجتماعية المتعارف عليها، وكان يعد سمة من سمات الصعلكة والوضاعة، ويرمز على قيمة أصحابها المتدنية، والذين عادة لا يملكون حرية أنفسهم، ويمكننا الاستشهاد على ذلك بحضارات عدة كالإغريق والرومان ومصر القديمة وسومر، وصولا إلى شبه الجزيرة العربية.

وهذا ما كان شائعا في الجاهلية من أصحاب الرايات الحمر عند العرب من البغايا، وكان يفاخر العرب أنفسهم بالأنساب تبعا لصفاء سلالتهم القبلية وشرفها وخلوها من المعابة والدنس، كالأشراف والسادة  الأحرار وتلك السمات الاجتماعية التي تقرن أصحابها بالعلو والمكانة العظيمة بينهم والذي كان مدعاة للفخر بينهم، ويمكننا رؤية هذا في أشعارهم القديمة أثناء الجاهلية أو بعدها.

ولهذا أقول مع د. مأمون علواني "بدلا من أن تنهك في السيطرة على كل القطعان في حظيرتك، اجعلهم جمعيا قطيعا"، وهذه تختصر جل أزماتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية، فإن اطلاق مفهوم ثقافي واحد هو تسليط على المجتمعات البشرية بإكراه وفظاظة، يعد الطابع الأجلى لسياسة الغرب تجاه شعوب الأرض، مما حمل معهم منظورا اجتماعيا واحدا، أصبح من الواضح أداة لوحشية الغرب الدكتاتورية في فرضه على المجتمعات كافة وقولبتها بشكل قسري واعتباطي بما يوائم عبر تغذيته بشتى أشكال الإعلام وأنواع الدراما والمسلسلات، وصولا إلى عالم السينما الذي أنتج مزيجا غير متجانس من التيارات الاجتماعية المتضاربة في بلاد العالم الثالث، ليضفي صراعا من نوع خفيف، ضمن أزقة المجتمع الواحد.

فبين مؤيد أعمى للغرب لكل توجهاته، ومحافظ متعنت للتراث، فيظهر لنا نوع جديد من القطبية الثقافية والاجتماعية، التي تزداد تطرفا، يوما بعد يوم في أوساط مجتمعاتنا، وهذا ما سيؤول في نهاية المطاف إلى تهتك البنى الواصل بيننا، وضياع مفهوم الاعتدال الرابط بين أواصر ثقافتنا لينهار مجتمعنا من تلقاء نفسه، وتتلاشى هويتنا الثقافية، ليتكون تحدي كبير يعد من أخطر التحديات التي نواجهها في عصرنا اليوم.

ولهذا من الصعب أن تسيطر على شخص يحمل تاريخه على كتفيه، لأنك ستضطر لمحاربة هذا التاريخ  بأكمله من خلاله.. جرده من أصالته.. وفكك روابطه الاجتماعية.. وحاربه منفردا.. لأن الروابط الاجتماعية تعد في حقيقتها أساس تكون القطيع وهيكلته، ومن بقايا حاجته الغرائزية من أجل البقاء التي ورثها عن أسلافنا البشر عندما كانوا  منعزلين في الغابات، مفتقرين لأدنى سبل النجاة، حينها تجمعوا حول بعضهم في حيز جغرافي صغير واتفقوا على عدة صيغ صوتية ترمز إلى أشياء محددة، فأبدعوا في تلك اللغة، وصاغوا الحكايات والقصص التي تحاكي تجربتهم المتميزة، وأسقطوها على منظورهم الروحي، والسلوكيات الضابطة لهم، والمتعارف عليها عندهم، فشكلوا مع انصهار تلك العوامل في قارب واحد ما يسمى بالهوية الثقافية، ليعبر الزمان بهم، فتظهر بزوغ تلك المرحلة، وتفرع لنا أبهى أشكال الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ، وبعد مئات السنين، تطورت المجتمعات الإنسانية وأخذت تتمايز فيما بينها على أسس الثقافة والإبداع والدين والذي كان لكل منها طابع خاص في التعبير عنه. ولذلك نرى هذا الزخم الإبداعي الهائل من آثار الحضارات الماضية عبر التاريخ، وكان لاجتماع هذه العناصر مسمى واحد، يسمى بـ" الهوية"،.

والهوية هي سجل الفرد أصالته، وهي مخطوطة التاريخ التي تخبرنا بتاريخ أجدادنا وعاداتهم، وقصصهم، وحتى مفهومهم ونظرتهم إلى الحياة، ولكن كيف صارت هويتنا الآن في ظل هذا الواقع المازوم؟

يقول د. مأمون: لطالما ارتبط مفهوم الانحلال الأخلاقي بعلامات أفول شمس الحضارة، فلا يمكن لحضارة أن تحيا وشعبها مارق بلا ضوابط، إلا في عصرنا هذا، فقد انقلبت المفاهيم، وأضحي الانحلال معلما للرفعة، يقول "وانج يانج" المنظر الصيني: إن الغرب قد أضحى عرضه لانهيار حضاري سريع، وذلك لابتعاده عن ان المفاهيم الأخلاقية، وجموحه للإلحاد ورفض الدين، عوضا عن تفسخه الاجتماعي، فأمان المجتمع وتماسكه، أساس أمان الحضارة، وللعلم فأن يانج قد احدث تغييرا مهما في سياسة الحكومة الصينية، فقد بادرت تحت توصياته بالاهتمام بالدين وإحياء الثقافة الدينية الصينية من جديد، ومن ثم أصبحت الصين اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التقليدانية، أي إحياء التقاليد لمواجهة التغريب الثقافي الذي اجتاحها بغية الحفاظ على مجتمعها.

إن الصين بجبروتها وعظمتها الاقتصادية تداركت أهمية الحفاظ على، ولجم الانحلال الأحلاقي الحاصل، وذلك كي تحافظ على وجودها، ولهذا فهمت الصين أن ما يسعى إليه الغرب اليوم من نشر للعهر والفجور عبر محطاته ووسائله المأجورة تحت مسميات " التحرر"، و" التطور"، ما هو إلا سم مدسوس بالعسل، إذ هدفه الوحيد حل أسس الأمم التي نعيش فيها، وتفريغها من محتواها حتى تصبح لقمة سائغة أمامهم، عير أقوى وأخطر الوسائل الممكنة.

لقد أضحى واضحا التوجهات الاستعمارية والنوايا التوسعية في ظل هجمة الغرب الثقافية الشرسة للقرن الواحد والعشرين، مع اختلاف أدوات الغزو والسيطرة، فسابقا كانوا يحتاجون إلى سفن وطائرات وجيوش ومعدات ؛ أما الآن فلم يكلفهم ذلك سوي كبس الذر حتى يستعبدونك في بيتك، وبين أهلك، وجيرانك، ويغزونك بأطنان من الأفكار والأجندات، حتى تصبح مخدر الدماغ، لزج القوام، بلا مقاومة بين أيديهم، فيصيروك كما يشاءون هم لا أنت، فبحسب آخر دراسات قام بها جامعة ويسترن بالتعاون مع جامعة هارفرد الملكية في لندن مع جامعة أكسفورد وجامعة مانشستر التي نشرها في مجلة الطب النفسي العالمي، وفق موقع " هارل بركسس " الألماني، طُلب من مئات المشاركين القيام باختبارات مختلفة للذاكرة، بالإضافة على تمارين إدراكية.

وقد خلصت الدراسة على أن الإنترنت يغير بنية وقدرات العقل البشري، فالذين يقضون ساعات طويلة على الإنترنت والشوسيال ميديا، لديهم تغييرات مزمنة وحادة في مجالات الذاكرة ومستويات الإدراك والسؤال الآن ماذا يحدث إثر ذلك ؟

والإجابة كما يرى الدكتور مأمون تتفتت الأمم وتتخدر الشعوب وتغرق السفينة، وهنا يبدأ الانهيار الأخلاقي، وهنا يقول ألبرت تشنتتز Albert Scwhitzer في كتابه " فلسفة الحضارة": إن الحضارة هي الأخلاق "، وفي نفس السياق أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وكما باتريك جوزيف في كتابه " موت الغرب": ما يعتقده الناس من صواب وخطأ، يمكن أن يتحدد بالكيفية التي يعيشون فيها حياتهم ".

وحتى وقت متأخر من خمسينات القرن الماضي كان الطلاق في أوروبا وأمريكا، يعد فضيحة وكان العيش بلا زواج مع بعضهم يوصف بكيفية عيش القمامة البيضاء، وكان الاجهاض مقرفا، واللواط أو الشذوذ هو الحب الذي لا يجرؤ أحد على النطق به، وفي جزء آخر،م ع انتشار الزنا الغير منضبط والطلاق على نطاق واسع، وانفجار الكتابة العارية،و التعاري اللباسي، وشيوع فلسفة الانحلال والعبث في التيار العام، وكيف الفتيات في العشرية الثانية يرمين مواليدهن الجدد في حاويات القمامة،ووسط الجلي.. هذا المشاهد تذكرنا بالعالم القديم، وروما الوثنية، حيث يترك المواليد الغير مرغوب بهم على الثلج لتموت.

ولكن ما الذي يمكنه أن يأتي لاحقاً؟ ما الذي يمكن لسايريس أو غيرها من هؤلاء النسوة فعله أكثر من هذا للفت الأنظار؟ ما الذي يمكن أن تستعمله ثقافة مثل هذه لتحقيق ضجة كبيرة في المستقبل؟ لقد فتحنا هذا الظرف بشكل تجاوز ما كنا نرى بأنها حدود المقبول بالمجتمع، ما الذي بقي؟

قد تخطر ببالهم أفكار أخرى، فهنالك برامج "للصدمات الكبرى" تحاول أن تجد طريقة تظهر فيها كيف يموت شخص تدريجياً، ولن نستغرب بأن يقدم نجوم على مثل هذه البرامج، إذ أصبح الكشف عن فضيحة جنسية بشريط مصور أمراً عادياً، أو رغبتهم بأن يفضحوا خلال ممارستهم الجنس، أو قد نكبر يوماً ونتحول إلى أوروبيين في منطقنا ونظرتنا للأمور، ويمكننا أن نقدم ردة فعل مغايرة لتلك التي يمكنها أن تصدر عن شباب في مرحلة المراهقة عند رؤية ثدي امرأة، وقد نتعلم بأن سقوطنا في قاع الحضارات يمكن أن يكشف عن قاع أعمق، وهذا كله يتمثل بنظرتنا إلى الأمور، وفي جميع الأحوال فإن الكثير من النجوم يعملون بجد ليظهروا بشكل مشين، لكن النتيجة في الوقت ذاته لن تجدي نفعاً بل ستظل في الحضيض.

كل ما سبق ما هو إلا عيض من فيض عن عالم الانهيار الحضاري الذين عيشه في يومنا هذا، وكيف تسقط مجتمعاتنا  تباعا لفخ التحرر الغربي الذي يواصل النهش بتعايمنا وقيمنا وعاداتنا بلا هوادة.

خاتمة

عندما ننزل مخطوطات التاريخ من على الأرفف، وننفض الغبار عنها، نرى ونقرأ على صفحاتها أن الانهيار الأخلاقي والانحلال المجتمعي، كان دائما بمثابة ناقوس الخطر، والذي يدق معلنا انهيار الحضارة بأكملها، وإن مظاهر التعري والزنا والشذوذ كانت دائما علامات ضعف لا قوة.. انهيار لا بناء.. تحلف لا حضارة.. رجعية لا تطور.. كل الحضارات السابقة اتخذت مجموعة من القيم، فحواها الصدق والأمانة والإخلاص والعفة والحياء لترتكز عليها منطلقا لنهضتها والتي صبت محور اهتمامها لرفع قيمة الفرد إلى ما فوق نزعة الغرائز والشهوات ليرقى بذلك نور الملكوت وتشريف الخالق.

إن كل ما يغرس في أذهان شبابنا اليوم تحت مفاهيم طنانة وبراقة مختلفة ما هو إلا إطلال كبير وتشويه لعين أعظم المفاهيم الإنسانية.. إن التحرر كان دائما مطلبا وغاية الإنسان، هدفه الأساسي، إحلال العدالة، في الأرض، وإطلاق العنان للإبداع نحو السماء، ولم يكن يوما مدخلا رديئا للانحلال، بل سبيلا للرفعة والكرامة، فتنبهوا بذلك يا أبناء جلدتي،ووعوا ما يسمونكم من ضلال وانهضوا من سبات الغفلة لعلكم تدركون مجدكم القديم.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- التعري - برسم حضاري !! عندما تغرق السفينة / د. مأمون علواني - برنامج إينغما، يوتيوب.

2- لماذا لم يعد التعري يصدمنا بعد الآن؟، مقال منشور بالعربية، نشر الاثنين، 26 يناير / كانون الثاني 2015.

3- محمد سعيد اخريف: الشباب وأزمة القيم،  مقال منشور بالجزيرة 4/5/2017.

4- دفع الله حسن بشير: صراع القيم.. يصافِحونك بيد وبالأخرى يخبئون الخِنجر المسموم!، مقال منشور بالجزيرة 4/9/2018.

5- مذهب العري، موسوعة ويكبيديا.

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة. والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2-علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية

مراحل التفسير

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري واستمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير والتاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في النص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل.

1- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية.

2- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي.

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي.

3- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم:

اسمه ( قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض.

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات.

4- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص.

5- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج.

6- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

7- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه.

8- ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية.

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له.

***

بروفسور متمرس

د. عبد الأمير زاهد كاظم

أيها القارئ العربي قد خدعت طويلا وأنت تظن أن فولتير هو أهم فلاسفة كوكب الأرض، وتمت دغدغة مشاعرك المنهارة بالفطرة والاكتساب حينما ظننت بحكم قهر التعلم النقلي بأن هذا الفولتير كان مفجرا للتنوير وأنموذجا خالصا للتسامح العرقي والديني، والخدعة نكمن في الرهان على مدى وعيك واستجابتك لتلقي الروافد المعرفية لاسيما تلك التي تتصل بالغرب وخصوصا أن القارئ العربي المكلوم بطبيعته الثقافية لا يعبأ كثيرا بمطالعة الطروحات الفكرية بلغاتها الأصلية لذا لم يكترث هذا القارئ المسكين بفولتير وما أحدثه من اضطراب في الفكر المجتمعي والذي يمكن توصيف نتاجه الثقافي بأنه محض فوضى ومخرب للعقول ومصدر فتنة وعبث.

كيف ذلك والوعي الجمعي لدى المواطن العربي الذي كان قارئا بامتياز في ستينيات القرن العشرين حتى قبيل ثورات الحريق العربي التي تفجرت في نهايات العام 2010، وهو مدرك تمام الإدراك أن فولتير المفكر والفيلسوف والتنويري هو أحد رموز الثقافة بل هو بالفعل أبرز الأصنام الثقافية في تاريخ البشرية لاسيما فيما يتعلق بالفلسفة والحراك المجتمعي؟.

وإليكم نشرة أخبار فولتير الذي لم يكن كذلك بالصورة التي رسمناها له منذ أن طفقنا الذهاب إلى فصول المدرسة وحصصها الأكثر بلادة وخيبة. ل منفردا ومتفردا صوت النخبة والطبقات الحاكمة وبالقطعية قيمها الأمر الذي جعله يصف الفيلسوف والاجتماعي جان جاك روسو بأنه سخيف، ولئيم، وحقير، وكاذب. هذا ما جاء ضمن تعليقات فولتير نفسه على هامش كتابات روسو السياسية، ولم يكتف فولتير بهذا فحسب ؛ بل طفق يفتش عن خبايا روسو حتى اهتدى إلى الإعلان بأن روسو المحض على تربية الأبناء والفضائل قام بتسليم أبنائه الخمسة إلى إحدى دور الأيتام.

وظلت العلاقة مضطربة طويلا بين الرجلين المشهد الذي دعا نيتشه يتساءل: كيف ينظر بنو البشر إلى أنفسهم؟.

ورغم ما نعرفه عن فولتير كونه فيلسوفا كبيرا ومنظرا عظيما فإنه بدأ بوضوح في التفكير الشخصي الذاتي حينما لم يتردد في مدح بورصة لندن واعتبرها البناء الكامل للكيان العلماني الاجتماعي بقوله " إنها المكان الذي يتعامل فيه اليهودي والمسلم والمسيحي فيما بينهم كأنهم ينتسبون إلى معتقد واحد، فلا تنطبق صفة الكافر إلا على المفلسين". وهو في ذلك يدحض فكرة روسو القائلة بأن كلمة المالية وُجدت لتصف العبيد.

ثم تحول فولتير سريعا إلى زاوية أخرى في كتابه " الرجل الاجتماعي" مزاحما كتابات روسو التأسيسية لعلم الاجتماع، وبدا بمظهر العارف والطامح أيضا عن كثب لأن يصبح أرستقراطيا يرتاد ساحات وأماكن الأثرياء وأصحاب النفوذ والسطوة والسلطة، وهو في سبيل تحقيق ذلك اتجه ليصبح أكبر عدو علني للكنيسة الكاثوليكية والمعتقد الديني عموما وبالضرورة كعادة الغرب آنذاك وتدشينا لبزوغ نظرية المؤامرة فإن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نال قسطا من الهجوم والتطاول من قبل فولتير الأمر الذي دفع روسو لنقد فكرة فولتير عن النبي محمد. واعتبر روسو فولتير متعصبا موغلا في الراديكالية بل إنه وصل إلى أقصى شواطئ التعصب الديني والفكري.

ثم بدأ فولتير رحلة جديدة مفادها أن الملوك والسلاطين والأمراء هم وحدهم الذين يملكون حركة تسريع التاريخ والقفز بأحداثه وإحداثياته كذلك إلى مناطق أبعد ومساحات أوسع من أولئك البسطاء والفقراء والطبقات المتوسطة التي تزعم بأن الثورات سبيلا للحرية والحضارة وشهودها وتمكينها. بل إنه وصل إلى مساحة أبعد من الغلو حينما صرَّح بأن الملوك هم وحدهم الذين يرفعون مكانة العقل مغاليا في رأيه حينما اعتبر عامة الشعب من البسطاء غوغائيين وأوغاد.

وفجأة حينما وجد روسو يهاجم كاترين واصفا إياها بأنها معتدية جبارة ماكرة اكتشف خارطة طريق جديدة لتحقيق أحلامه ومطامحه الشخصية الأكثر مكرا ودهاءً. وأدرك فولتير على الفور أن التحديث الذي يرغب فيه يبدا دائما من القمة إلى القاعدة وربما كافة فلاسفة التنوير آنذاك كانوا يفكرون بنفس النهج والطريقة لذا لم يخالفهم في المطمح الجمعي، وهذا ما صنعه فولتير مع بطرس حينما وصفه بالمانح الحقيقي للحضارة لهؤلاء الرعايا الجهلاء وأنه شيد أعظم إمبراطورية في صحراء موحشة، ليس هذا فحسب بل تجاوز القول بأن بطرس الثالث هو الذي جعل من روسيا فرنسا جديدة بكل مظاهر الرقي والتحضر والثقافة الرفيعة. والأدهش أن فولتير برر شراسة بطرس التوسعية استخدامه لسياسات القمع والتعذيب ووحشية الانتقام بأنها وسيلة وليست غاية واعتبر حروب بطرس ضمن الأعمال المجيدة في الصناعة والتجارة.

كاترين.. حكاية شغف:

عند هذا الحد وقف فولتير في مدحه بل بالأحرى توقف عن كل المغازلة الفكرية لبطرس الثالث حينما وجد ضالته الكبرى وحلمه الأثير في كاترين التي سحرت الناس مرة ببطشها ومرة أخرى بالاستقطاب الذي يستدعي التأويل.

نجحت كاترين حاكمة روسيا المستبدة في الوصول إلى الحكم حينما قامت بتحييد زوجها بطرس الثالث وحرمان ابنها بولس من وراثة العرش، وكما يذكر (بانكاج ميشرا) في كتابه (زمن الغضب.. تأريخ الحاضر) وهو الكتاب الأصلي الذي نسرد منه بعض سطور هذا المقال، أنها قتلت زوجها بطرس الأكبر لكي تصل منفردة إلى سدة الحكم، وكالعادة المتأصلة بشرت لنفسها الحكم بأنها وريثة روحية لبطرس الأكبر، وسرعان ما فتحت قصورها لمفكري التنوير، وهي بحق استطاعت أن تتفوق على كافة حكام عصرها بانفتاحها المهووس على الفلاسفة والمفكرين الغث منهم والثمين (والسمين أيضا!)، فقامت بشراء المكتبات من أوروبا ونشرت دائرة المعارف التي مُنعت في باريس آنذاك.

لكن ماذا عن فارسنا المضلل فولتير ؛ لقد ظهر مجددا حينما تحول إلى مباركة كاترين بوصفها قديسة طمعا في أن يكون قديس الأرستقراطية العلمانية في روسيا حتى صار مذهب فولتير هو مذهب ومنهج الإصلاح والتجديد والتحديث والتنوير، وبالبدهي ترجمت كاترين كل أعمال فولتير إلى الروسية ولا توجد مكتبة في روسيا إلا وتضمن كل أعمال هذا المفكر الطامح.

وبلغ من السفه المتجرد من حكمة العقل أن كبار الفلاسفة في عهد كاترين مثل فريدريك ميليشور (كما يذكر بانكاج ميشرا في كتابه 2017) أعاد صيغة الصلاة الربنانية وجعلها تبدأ بهذه العبارات: " أمنا التي في روسيا "، واستبدل صيغة الشهادة بقوله: " أؤمن بكاترين واحدة"، والجائزة بالطبع كانت محفوظة له بأن استحال وزيرا لها في هامبورج ودافع عنها وعن مخططاتها لتقسيم بولندا، بولندا التي طالما هاجمها أيضا فولتير طيلة حياته وكأنها الدولة التي تسببت له في عقدة أو متلازمة نفسية جديرة بالتقصي والبحث.

أما عن فولتير، فوجدنا في حماس ديني مستدام صوب كاترين وتحول إلى أكبر مشجع لها على كل توسعاتها الإمبريالية، ونكتة التاريخ أن كاترين ادعت أنها خاضت حروبها ضد بولندا وتركيا بحجة حماية حقوق الأقليات الدينية، نعم الدينية تلك البوابة السحرية العجيبة للتغلغل الاستعماري أو لتقويض الأنظمة والحكومات بيسر وسهولة.

ويأتي الإسلام مرة أخرى بعقل فولتير، فوجد الفرصة سانحة لطرد هؤلاء المسلمين من أوروبا وأنهم برابرة يستحقون العقاب على أيدي قديسته كاترين ؛ إن المسلمين من وجهة نظر فولتير المضلل يسخرون من الفنون الجميلة ويحرمونها، ويستعبدون النساء لذلك الإبادة لهم هي الجزاء الأوفى لهؤلاء المسلمين.. هكذا قال وكتب !.

فضلا عن وصف المسلمين بالتخلف والرجعية والانحطاط الحضاري، وكل رسائل فولتير لقديسته كاترين حينما كان على شاطئ بحيرة جينيف تشير إلى دعمه في طرد المسلمين من أوروبا مصحوبة بهدايا ثمينة فاخرة لحاكمة روسيا المستبدة حامية حقوق الأقليات الدينية، وأن طرد المسلمين لن يكون إلا على يد الروس، واقترح عليها جاهدا أن تكون القسطنطينية هي عاصمة روسيا، يقول فولتير في إحدى رسائله لكاترين: " إنني أطلب من جلالتك أن تسمحي لي بالحضور عندئذ والانحناء تحت قدميك وأنت تجلسين على عرش مصطفى".

وكما يقول بانكاج ميشرا في كتابه زمن الغضب أن فولتير وصل به السخف والجنون الفكري والضلالات المذهبية إلى أنه كتب إلى كاترين رسالة بعد أن أخفقت الجيوش الروسية في سحق تركيا: " إنني أنحني عند قدميك باكيا مبتهلا في سكرتي: الله، الله، كاترين رسول الله".

إن هذا يدفعنا إلى ضرورة تحليل العلاقة العجيبة بين الحاكم وحاشيته من الفلاسفة وعلماء الكوكب وأساتذة المجرة الذين يمهدون الطريق ويعبدونها لأصحاب السطوة والجبروت والقوة الغاشمة بغير رحمة، هؤلاء الفلاسفة الذين طالما درسناهم في جامعاتنا العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج لم يتم بعد الكشف عن رؤاهم السياسية بقدر ما اغرورق الأكاديميون العرب المساكين في توصيف وسرد وإماتة الوقت العلمي بالحكي عن أيديولوجياتهم التنظيرية المملة مثل فكرة الجمال والحرية المطلقة والوجود وموت الإله وغير ذلك من قضايا عقيمة أودت بالفكر العربي إلى مناطق سحيقة.

أيضا وقبل الانتقال إلى المشهد العربي المرتبط بسياق الحديث الراهن، ينبغي أن نشير إلى أن معظم فلاسفة التنوير أو الذين نظنهم أنهم تنويريون كانوا أكثر الفئات تعصبا وميلا مطلقا للعصبيات القبلية والنزعات والنعرات القومية وأكثر هوسا بالأيديولوجيات العرقية الإثنية، رغم مزاعمهم المستفيضة بأنهم في المقام الأولى دعاة حرية وتثوير وإنارة للعقل بغير قوالب أو موجهات سياسية تدفعهم لذلك، بل إنهم كما في حالة فولتير وجد المخالف له مثل روسو عدوا وخبيثا ولئيما بل وحقيرا أيضا، هذا يؤكد ظننا الذي يشارف اليقين أن فتنة الجامعات العربية التي لا تزال غارقة في سباتها الليلكي هي البقاء عند أفكار سرمدية مجردة لهؤلاء الفلاسفة دون الربط المنطقي واللازم بين فكر المرء وتأسيسه العقائدي وتكوينه السياسي ومطامحه الشخصية.

مسقط رأسي على بلاد العرب:

وقديما كانت العصبيات القبلية هي الملمح الأبرز للحياة الاجتماعية عبر عصور التاريخ الضاربة في القدم، قدم الإنسان نفسه على وجه الأرض التي كانت طيبة أو تلك الأرض التي كتب عنها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش مادحا إياها ببساطتها وخصوبتها وبكارتها الاستثنائية، ويبدو أن العصبية كانت خيارا حتميا لبقاء الإنسان بوصفه أمة تارة، وأقلية تارة اخرى، ففي كلا الصورتين مارس الإنسان ويمارس حتى الآن تفكيرا عصبانيا مضطربا.

وبلغت العصبيات القبلية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وصولا إلى العصبيات الرياضية المزمنة إلى حد تفكير بعض المفكرين مثل عالم الاجتماع العربي الأصل فريدريك معتوق إلى اقتراح ما يسمى بمبيد للعصبيات المستعصية تزيلها من الوجود، فهو في كتابه الشيق " صدام العصبيات العربية " يشير إلى أن مساحات كبيرة من عصبياتنا القبلية القديمة بوجوهها المختلفة قد أعيد تأهيلها وتصويرها وصوغها في العقود الأخيرة المنصرمة على نحو ديني ومذهبي بغيض.

ولعل سر بقاء العصبيات في حياتنا لاسيما الاجتماعية والدينية افتقارنا الشديد إلى مبادئ التسامح وقبول الآخر والسعي إلى العيش المشترك، وهذا الافتقار مفاده الانتشار السرطاني الخبيث لبعض الفضائيات المهووسة بالتعصب الأعمى وإنكار الحقائق وبث الشائعات.

والذي لا يدرك بعض أسباب تخلف المجتمعات العربية الراهنة ويحصرها فقط في طبيعة المناهج الدراسية، لعله يفطن ان السبب الرئيس لهذا التخلف عن الركب الحضاري المسارع هو هذا الصلب المتمثل في العصبية واحتقار الآخر وافتقار الرحمة من القلوب.

والحقيقة أننا لا نريد تشخيص حالتنا الآنية أو حتى الذهاب إلى طبيب متخصص في علم القلوب والأحوال ليكتب لنا تقريرا طبيا يفيد بمرضنا العميق القديم وهو العصبية والقبلية المفرطة التي سرعان ما استحالت إلى تطرف وجنوح صوب الغرور والكبر وجرح الآخرين.

وطفق رواد النهضة منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى وقتنا المأزوم إلى الحديث عن العقل العربي، ونقده ورصد التحولات التي عصفت به خلال الحروب والأزمات الدولية، وامتهر هؤلاء بالتنظير المسكين لواقع مسكين بالضرورة، وانتهوا والحمد لله إلى نتائج أكثر خيبة وفشلا، لكنهم ابتعدوا كثيرا عن تشخيص الداء أو تجاوز سقف الحقيقة وسبر الأغوار نحو عصبية مقيتة تبدو مقدسة لدى أصحابها.

ومن المضحك في هذا السياق أن مجتمعات بعينها بدأت الانطلاق نحو تطبيقات الذكاء الاصطناعي والأخذ بمكتسبات التكنولوجيا الحميدة التي تسعى إلى الارتقاء بالإنسان ورفاهيته، ونحن هنا في بعض مجتمعاتنا العربية في منطقة شرق أوسطية مشتعلة بالصراعات والتيارات والتدخلات الأجنبية أيضا نجدد العهد بعصبيات بليدة باهتة لم تسفر قديما عن جديد يأتي بالخير.

الغريب في الأمر ايضا أن بعض البيئات العربية بدت تربة صالحة لنمو العصبيات وانتشارها في ظل غياب الوعي التعليمي بنشر ثقافة قبول الآخر والعيش المشترك، وتقاعس بعض المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في تأصيل قيم المساواة والتسامح الإنساني.

ورجوعا إلى كتاب عالم الاجتماع اللبناني فريدريك معتوق، فإنه يرى أن المجتمعات العربية تعيش مرضها (العصبيات القبلية) وتتلذذ به، بل هي مجتمعات لا ترغب في تشخيصه خشية المساس بالموروثات التي تتعلق بالماضي المقدس.

واليوم في ظل حضارة الصورة، فإن الفضائيات تلعب أدوارا جديدة غير التوعية والتنوير وتعزيز قيم الانتماء والوطنية، لاسيما في فضائيات تمول من الخارج والتي يطلق عليها وفق المنظور التأريخي أعداء الوطن، هذه الفضائيات في حربها ضد الأنظمة العربية القائمة وضد حكامها أيضا تستخدم كافة الأسلحة التي تشيع العصبية وتدعو غلى إحيائها من جديد سواء كانت دينية مذهبية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى رياضية وهم بذلك أولى بوصفهم بأهل الفتنة.

الغريب في الأمر أننا وفي إطار وعينا بخطورة انتشار تلك العصبيات القبلية نتأمل في بلادة نحسد عليها تغلغل جذور العصبية بدءًا من نواة الأسرة مرورا بالمدرسة والشارع والجامعة، انتهاءا إلى استقرار العصبية كعقيدة نؤمن بها ولا نؤمن بتغييرها يوما ما ولو للحظة عابرة.

وأصحاب فضائيات الفتنة التي تبث من خارج المجتمعات العربية تستخدم خطابا تأسيسيا يستهدف الاستمالة ودغدغة مشاعر البسطاء والعامة والعمل على تحريضهم ضد مجتمعاتهم وحكامهم تماما مثلما فعل سيد قطب في كتابه معالم في الطريق حينما سعى إلى تحريض جماعة الإخوان ضد المجتمع المصري والرئيس جمال عبد الناصر. فضلا عن أن هذه الفضائيات العصبية تتقن توصيف العدو من وجهة نظرهم بأسوأ الصفات والأفعال والأقوال، ونظرا لأن المواطن العربي المكبل بقيود البحث عن حياة كريمة لم يعد يهتم بمصدر الخبر أو التأكد من صحته، وخصوصا انه يشاهد رجالا موتورين يصرخون عبر البرامج ويقطعون عهدا مع الحقيقة التي هي من وجهة نظري زائفة.

وحينما يفتقر الطامح سياسياً إلى برنامج سياسي واجتماعي له سمات يمكن التقاط تفاصيله ومن ثم تحقيقه، فإن أيسر الطرق لدغدغة مشاعر البسطاء أن يمرر هذا الطامح مشروعه الوهمي بالطبع من خلال قنوات دينية وممرات ومعابر عقيدية تسهل له فرصة القفز إلى السلطة والسيادة التي يبتغيها. وبمناسبة القول عن الطموح السياسي بغير برنامج أو مشروع حقيقي للنهضة فإن صاحب هذا الطموح الذي يعاني فقر التفكير وخوف المستقبل عادة ما يلجأ إلى العنف لذي يقترن بالإرهاب والتطرف بالقول والفعل والسلوك الاجتماعي، لأنه باختصار يعاني من افتقاد الأمن الاجتماعي.

وكلما اقترب الوطن العربي من أي استحقاق ديموقراطي تبدأ تيارات الإسلام السياسي حائرة بين الحفاظ على معالم الأصولية والأخذ بأطراف الحداثة، والأخيرة في حد ذاتها لا تنشأ إلا من خلال توتر قائم ودائم، ففكرة تعاطي القليل من عقاقير الديموقراطية لا تؤدي بنتائج طيبة مثمرة لأن الحداثة التي ترادف أحياناً مفهوم الديموقراطية في حالة صدام مستدام مع ثوابت الفكر وركائز الأيديولوجية سواء لفرد أو جماعة، وهذا التجاذب العكسي بين الأصولية والحداثة يجعل بعض أقطاب فصائل الإسلام السياسي مضطراً إلى دحض نظرية احتكار تفسير السياسة وفقاً لتوجه ديني، وأحياناً كثيرة يعتمدون فكرة أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. ورغم أن المروجين لدولة دينية حسب منظور ضيق لا تهتم سوى بالمأكل والمشرب وطريقة ارتداء الملابس وتجريم السياحة وعمل المرأة فحسب يصرون على شرعنة السلطة أي إضفاء طابع ديني على ممارساتهم السياسية إلا أنهم مضطرون لممارسة بروتوكولات سياسية ترتبط بالحريات والحوكمة الذاتية واحترام التعددية الدينية والسياسية، وهذا ما يجعل طرح إقامة دولة دينية ظاهرية تصطدم بعلامات أخرى مثل القومية والوطنية والطائفية وشكل الدولة بصفة عامة.

وخير مثال لنظرية شرعنة السلطة هو ما طرحه الكاتب الأمريكي سكوت هيبارد في كتابه الجديد " السياسة الدينية والدول العلمانية "، حيث أشار إلى ظاهرة تأميم الإسلام التي انفردت بها مصر قديماً والتي استهدفت بادئ الأمر تقويض النخبة الدينية واستقطابها ثم الوصول إلى حالة من السيطرة على المؤسسات الدينية الرسمية ولو بشكل خفي مستتر أو صورة علنية كالسيطرة على بعض المساجد ضماناً للبقاء السياسي الذي لا يشوبه الضعف، انتهاء بتطويع الإسلام نفسه إما لخدمة نظام سياسي أو لتحقيق مطامح سياسية شخصية. ويؤكد سكوت هيبارد حقيقة أن المؤسسة الدينية الرسمية في مصر اعتادت قديماً أن تجد تبريرات في صورة فتاوى من أجل تدعيم الأنظمة السياسية الحاكمة وتوفير الأساس المعنوي لأي نظام حاكم، الأمر الذي دفع كثيراً من حركات الإسلام السياسي إلى رفض الاعتراف بشرعية هذه المؤسسة الدينية وخلق نظام احتكاري جديد للدين ظهر أيضاً في هيئة فتاوى تقلل من شأن الأزهر أو ضد الحاكم وسياساته.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

قبل ما يزيد على السبعة عشر عقداً أوفد التحديثي المجدد المصري الرائد الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى مدينة النور.. وعندما عاد بعدها إلى المحروسة مشبعاً بقيم العدل والمساواة أطلق كلماته الخالدة: هناك في فرنسا يوجد إسلام من دون مسلمين. وهنا في مصر يوجد مسلمون من دون إسلام.

والمؤلم ليس مدى انطباق هذه العبارة على واقعنا الراهن فحسب.. بل في أن عبارة تبلغ من العمر عتياً تطرح تصوراً أكثر حداثوية وملائمة لحياتنا المعاصرة من الطروحات السائدة في مجتمعنا الإسلامي في القرن الواحد والعشرين..

ولو قدر الآن لفضيلة الشيخ-رحمه الله- أن يطل علينا وعلى عالمنا، لوجد عالما يتحدث فيه الجميع عن الإسلام فالمسلمون يتحدثون عن الإسلام، والمسيحيون يتحدثون عن الإسلام، وكذلك اليهود والهندوس والبوذيون وأتباع كونفوشيوس وزرادشت ومناهضو كونفوشيوس وزرادشت.. بالإضافة إلى أهل البدع والأهواء والملاحدة والمترددين والمتشككين واللامبالين.. ولكل إسلامه الذي يتداوله.. و لرأى أشكالاً من الإسلام يصعب التفريق بينها تتصارع وتتجادل فيما بينها وكل يتبوأ مقعده من المحجة البيضاء ويحتكر لقب الفئة المنصورة.. وسيرى عندها انه لم يعد هناك لا إسلام ولا مسلمون..

بل سيلاحظ بلا كبير جهد مجتمعات قهر وظلم واستبداد وفساد وتخلف تتصارع على أحقية الاستيلاء على تراث الرسول الكريم لاستخدامه كوسيلة لسوق شعوبهم كالعبيد.. .ولوجد أن الإسلام والأمة الإسلامية اليوم يتخذان عدة صور تختلف وتتباين تبعاً للمسافة التي تفصل دعاتها عن الحاكم..

فسيرتطم فضيلته أولاً–وبالضرورة- بالإسلام الرسمي الميري.. الإسلام المخملي المعطر المطرز بالمسابح الثمينة والوجوه المدورة المحمرة والقفاطين والعمائم والجبب المكوية بعناية.. الإسلام الخاضع لإرادة وتفسير ظل الله المتمدد والمتوسع والمتحكم والمتسنم على رقاب العباد.. والمؤيد ببركات شيوخ السلطة ومريديهم ومتملقيهم.. إسلام يقتصر دور الفقه فيه على السهر على إدامة صلاحية المادة التي تقول بعدم جواز الخروج على السلطان حتى ولو كان جائراً والبحث والتخريج والاستنباط لكل ما يبرر ويشرع التأبد الدهري التام للسلطان على كرسيه والتشدد الكامل في ذلك حد الكفر.. ومحاولة تطويع المعلوم من الدين مع ما يعتقده الحاكم وما يعتنقه من تفسير.وما دون ذلك فيعد من الترف الممل المثير للضجر وخارج اهتمامات فقه النخبة ورجال الكهنوت الارستقراطي.

وسيمر بالتأكيد على " النسخة الشعبية من الإسلام" التي يترفع عنها الفقهاء المكرسون حكومياً وإعلاماً فضائياً.. لانعدام المنفعة المباشرة-نسبياً- من ورائها.. ولقلة المردود المنتظر من ممارستها.. والتي يتولاها عادة فقهاء الخط الثاني أو الثالث بل وكل من يتمتع بقابلية نمو جيدة وسريعة وكثيفة لشعر الذقن.. والذين يتصدون لمهمة ترويجها ونشرها بين زوايا المساجد المنسية والتكايا العتيقة والتي تصادفها في كل جوانب سلوكياتنا وأنماط تفكيرنا.. والتي تتحكم في قراراتنا وتقييمنا للأمور وفي تفسيرنا للعوارض الحياتية والمستجدات المعاشة.. نسخة مؤسسة على هوس مرضي بالماورائيات والميتافيزيقيا عن طريق مزج المقدس من النص مع خليط من الميثولوجيا والعادات والتقاليد الموروثة مع الأدب الشعبي المحلي والمرويات القديمة وحكايا الجدات في الليالي الباردة.. لتنتج لنا ممارسة إسلامية مكونة من مدى واسع من الطقوس والعقائد التي يكون حجرها الأساس كرامات الأولياء والمعجزات الخارقة للصالحين وما تتبعه من عادات وأدعية مخصصة ومنسوبة والتركيز على استجلاب بركة الرب بواسطة أقوال معينة يكون سرها مخزوناً في فؤاد وجوانح الفقيه.. واستبعاد العقل و تهميشه واعتماد القولبة والنمطية في الممارسات وتخطئة التفكير كنوع من الاعتراض على التسليم الكامل للإله والاكتفاء من الدين بشعارات وطقوس ميكانيكية دون إعمال العقل في فهم معناها أو المغزى منها.. وهذا الإسلام يكتب له تاريخاً موازياً للعالم الواقعي ويقحم في الأحداث التاريخية خوارق ومعجزات تكون أغلبها مستقاة من البيئة التي ينمو فيها هذا النمط من العبادة وإسنادها إلى التوفيقات الإلهية مثل السير على الماء والكلام مع السباع والهوام والحيات والملائكة التي تتدخل دائماً لنصرة العبد في شدة الضيق والكثير من الروايات المبثوثة في تراجم العباد والزهاد والنساك والصالحين والتي تماهي الهوس الشعبي التقليدي بالرجل الخارق الذي تحرسه السماء وتنفذ مشيئته بأمر الله..

وسيكون فضيلة الشيخ الطهطاوي محظوظاً إذا لم يصادف إسلام السيف.. الإسلام السياسي.. المبني على ما أقره فقهاء الجهاد.. خصوصاً أنَّ ملبسه قد لا يتطابق مع ما انتظرنا أربعة عشر لكي نكتشف بأنه الزي الشرعي الوحيد الذي سيدخلنا الجنة.. الإسلام الذي يتمتع بالاحتكار الكامل للصواب.. والتملك التام للحقيقة والتقرب إلى الله برؤوس ورقاب المخالفين.. الإسلام المسؤول عن التذابح المتعاظم بين المسلمين وتكديس الجثث في الطرقات بعضها فوق بعض.. والمعتمد على أكثر التفسيرات تطرفاً ودمويةً لآيات الحرب..

سيكون فضيلة الشيخ أمام مجموعة من الاجتهادات المحملة بشحنات هائلة من الكراهية والانقسام المتشتت حد التكفير واللاجئة إلى القتل والإقصاء كخيار أول في منازعتها للآخر المساوي في الخلق والمناظر في الدين..

اجتهادات مهدت لدول تنتظر سنوياً تقرير الأمم المتحدة للدول الفاشلة لتتيه الدولة العاشرة في الترتيب المهين على الدولة التاسعة فخراً..

اجتهادات لم تنجح في إيجاد صيغ لحل أي مشكلة.. ولا في استقراء أو حتى تلمس تصور ممكن لاشتراطات حياتنا المعاصرة.. والاجتهاد الوحيد في حل إشكالية تخلفنا كمجتمعات إسلامية هو في العودة أربعة عشر قرنا إلى الوراء..

اجتهادات لم تفلح في تحديد وبيان الأسلوب الشرعي والسليم لتداول السلطة.. وأدخلتنا في نزاع مستمر ومتقادم على السلطة منذ سقيفة بني ساعدة وحتى الراهن من أيامنا.. ودون أن يرف جفن لأعلامنا الأعلام وسادتنا الأجلاء وهم يباركون سحق الشعب تحت أحذية حكام التغلب والانقلابات..

أما الإسلام كصلة روحية تربط المخلوق بخالقه. الإسلام كدين ينادي بالحرية والثورة كدافع للتقدم والتنوير والعدل. الإسلام الممثل للكثير من قيم المعروف والتقوى والصلاح. الإسلام كدين يدعو للعدالة الاجتماعية والمساواة. وكدين تآخ ورحمة وسلام. الإسلام كدين يدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة.. الإسلام الذي يهذب المسلم على تقوى الله وأنَّ دم المسلم وماله وعرضه حرام.. فهو موجود.. وقد يشغل المساحة الأكبر من الطيف الإسلامي المعاصر.. ولكنه مدفون تحت ركام من التشويش الفقهي المبرمج للحفاظ على المكتسبات المادية والاجتماعية لدعاة السوء وفقهاء الطغيان.. مما يصعب علينا تمييزه وتلمسه.. وبالتأكيد لن يلاحظه فضيلة الشيخ الطهطاوي.

***

جمال الهنداويّ

(الحياة والموت) .. روائع الاعجاز

(وأوحى ربكَ إلى النحلِ أن،  اتخذي من الجِبالِ بيوتًا ومن الشجرِ وممايعرشون) النحل68

إن آيات الله جلّ وعلا نزلت لتلفت انتباهنا إلى كل صغيرة وكبيرة، بل إلى أمور متناهية في الصغر أو لاترى بالعين المجردة، أو غيبيات سلط عليها العلم الضوء لاحقًا وهذا مايسمى بالإعجاز.

وفي بحثنا عن النحل في القرآن الكريم وهي من الحشرات الراقية التي كرمها الله بالوحي، والوحي من الالهام وهي صفة للربوبية و آياتٍ لاولي الألباب ليتفكروا ببديع صنعه وروائع إعجازه.

وسنبدأ بالنحل متأملين الآية الكريمة التي تبتدأ ب (وأوحى ربك) وكما ذكرنا فالايحاء من الله يخص به فئة من خلقه ليضع بصمته إقرارا بربوييته (إن هو إلاّ وحيٌ يوحى) النجم4، هذا الوحي الذي جعل النحلة مكرمة الى الحد الذي تسمى بها سورة كاملة في القرآن الكريم، ولندخل هذه المملكة المباركة لنبحث بشيفرتها ونحل رموزها بإذن الله.

- ذكرت سورة النحل بصيغة الجمع دلالة على التكامل والتعاون والعمل الدؤوب  متمثلا بمجتمع النحل، فالنحلة لاتستطيع العيش بمفردها بل داخل تجمع وهذه آية إعجازية بحد ذاتها.

- الشكل الهندسي لبيوت النحل الذي لم يأتِ اعتباطا بل جاء عن دراية وحساب دقيق، فالشكل السداسي للخلية لايترك أي فجوة أوزاوية مهملة هذا البناء الذي يعجز الانسان عن القيام به إلا بواسطة إدواته الهندسية وبحساب دقيق جدا.

- تتوزع الادوار داخل مملكة النحل بشكل دقيق فلاتجاوز ولافوضى ولافساد ولاتقاعس كل فرد يعلم جيدا دوره في الخلية دون زيادة أو نقصان.

- خاطب الله النحلة بصيغة المؤنث فقال جلّ وعلا (اتخذي، كلي، اسلكي، بطونها) وفي حقيقة الامر فان من يقوم بهذه الاعمال في الخلية هي النحلة، اي إن الاعمال تقوم بها الاناث داخل وخارج الخلية، فهي تقوم ببناء الخلية وتصنيع الشمع والعسل وتلقيح الازهاروتمر بآلاف الازهار للحصول على الرحيق،  وينحصر دور الذكور في تلقيح الملكة، فمن كان يعلم بهذه الامور قبل توصل العلماء الى اكتشافها غير الله.

- سخّر الله للنحلة مسالكا محددة في الهواء الطلق (فاسلكي سُبُلَ ربكِ ذُلّلا) فمن الذي ذلل لها الطريق وهداها للسير فيه غير الله جلّ وعلا، هذه المخلوقة الصغيرة التي تملك من الذكاء الحاد المتوقد مايجعلها تكون مسؤولة وعاملة ومخلوقة مطيعة تأتمر بأمر الله، تعلم طريقها جيدا ومهما ابتعدت فلها في حاستي الشم والبصر خريطة مفصلة تعيدها أوابة إلى الخليةالتي خصّها الله بها لتكون دليلا على روعة الاعجاز.

- انتاج العسل على اختلاف ألوانه (يُخرجُ من بطونها شَرابٌ مختلفٌ ألوانه)، فالعسل يختلف باختلاف نوع الازهار التي يُصنع منها، فبعضه أبيض شفاف وبعضه غليظ وبعضه اصفر وبعضه أسود وبعضه بني وهكذا.

- هذه المخلوقة الصغيرة الملهمة جعلها الله سببا لشفاء بعض الامراض (فيه شفاءٌ للناس) فالعسل فيه خصائص عديدة لاتعد ولاتحصى فهو مضاد للبكتريا، ومطهر طبيعي كونه يحتوي على مضادات البكتريا والفطريات وفيه نسبة عالية من الجلوكوز الذي يعتبر مادة دوائية فعالة بصفته مغذيا ومقويا ومضادا للتسمم الناشئ عن المواد الخارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب وداخليا ضد التسمم  الناشئ عن امراض الكبد والاضطرابات المعدية والمعوية والتسمم في الحميات مثل التيفوئيد والالتهاب السحائي، وضعف القلب والذبحة الصدرية ولعلاج امراض السكر والسرطان، ومع التقدم قد يصل العلماء الى المزيد من المزايا التي تجعله شفاءا للناس.

- الطهارة والقدسيّة:إن هذه المملكة التي أضفى عليها الله قدسيّة من خلال الوحي (فأوحى إلى النحل) تتميز بالطهارة والعفاف –سبحان الله- فقد يحدث أن يتناول النحل أثناء جولاته بعض المواد المخدرة كالايثانول الناتجة عن تخمر بعض الثمار فيؤدي ذلك الى تخدر النحلة أو بمعنى أصح إنها تصبح (سكرى) وتثمل كالبشر تماما ويقول العلماء إن النحلة تصبح عدوانية ومؤذية وقد تُفسد العسل، لكن من رحمة الله جل وعلا أن وضع خطا دفاعيا تقوم به بعض النحلات وهي تمتلك قدرة استشعارية حيث تتحسس هذا النوع من النحل لتقوم بطرده خارج الخلية حتى يزول المسكر منهالتعود ثانية الى العمل- سبحان الله- وقد استغرقت هذه الظاهرة دراسة عميقة خلال ثلاثين عاما لمراقبة وتحليل هذا السلوك، فالنحل يخطأ ويُعاقب وقد تصل عقوبته إلى كسر أرجله لكي لايعاود الكرّة ويؤدي إلى إفساد العسل الطاهر.

- يعتمد مايقارب من ثلاثة أرباع المحاصيل في العالم على تلقيح النحل .

- انتاج الشمع  وهو مادة قابلة للاشتعال استخدمه الانسان في صناعة الشموع منذ القدم اضافة الى استخداماته الاخرى حيث انه صالح للاكل وغير سام ويستخدم في صناعة المراهم.

هذه الفوائد وغيرها الكثير مما يسهم به نحل العسل مساهمة فاعلة في حياة الانسان طبيا واقتصاديا ويوفر فرص عمل لاعداد كبيرة من الناس انما يعود الى التنظيم المذهل الذي تقوم به هذه المخلوقة الصغيرة المجبولة على العطاء والعمل والتي اتخذت من افاق الحياة سبلا لها فهي تستوطن الاماكن العالية الاكثر طهرا لتحافظ على طهارتها وقدسيتها كالجبال والاشجار وهذا السمو يدل على قدسية الحياة وسموها (أن اتخذي من الجبالِ بيوتًا ومن الشجرِ وممايعرشون).

ومن البديهي لطالب العلم أن يدرك أسرار القرآن ومغزى الايات القرآنية التي تسبرغور أمرما للفت الانتباه الى القوة الاعجازية وروعة الخلق خصوصا إذا كان المخلوق من الصغر مايجعل الانسان عاجزا أمام روعة الخالق.

وبعد أن خضنا غمار بعض آيات النحل بصورة موجزة سنتطرق الى مخلوق آخر وهو النمل وقد سميت أيضا سورة كاملة باسمه لاهميته الاعجازية، قال تعالى (حتى إذا أتوا على وَادي النملِ قالت نَملَة ياأيُّها النَّملُ ادخلوا مساكنكم لايَطمنكمْ سُليمانُ وَجُنودهُ وهم لا يَشعرون)1

لنتامل هذه الاية المباركة وهذا المشهد الجميل الذي يصف جيش النبي سليمان عند اقترابه من وادي النمل سنجد الاتي:

1- ورد في الآية الكريمة كلمة (وادي) كناية عن مكان النمل مع إن النمل يعيش تقريبا في كل الاماكن، فلم ذكروادي النمل تحديدًا؟

إن لكلمة (واد) في القرآن دلالات رائعة فقد وردت ثمان مرات، ثلاث منها تخص سيدنا موسى (ع) بُعيد رؤيته للنار والايات كما يلي:

- (إنّكَ بالواي المُقَدَّسِ طُوى) طه12

- (نوديَ من شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعةِ المباركةِ)القصص30

- (إذ ناداهُ رَبُّهُ بالوادي المقدَّسِ طوى)النازعات16

ثم بين القرآن حقيقة وادٍ آخر هو وادي سيدنا إبراهيم (ع) الذي هداه فيه ليبني بيته المحرم:

- (رَبَنا إنّي أسكنتُ من ذُرِّيتِّي بوادٍ غيرَ ذي زرعٍ عند بيتكَ المحرم رَبَنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)ابراهيم37

كما ذكر القرآان الكريم الوادي الذي كانت ثمود تُقطع صخوره وتنحتها

- (وثمود الذين جابوا الصخرَ بالوادِي)الفجر9 ومن هذه الصخرة أخرج الله تعالى لثمود آية عظيمة وهي( الناقة) فكيف انبجست من الصخر ناقة من لحم ودم لولا قدرة الله جل وعلا.

ثم تخبرنا سورة التوبة بتوصيف لطائفة من اهل المدينة امتدحهم الله تعالى:

- (ولاينفقونَ نفقةً صغيرةً ولاكبيرةً ولا يقطعونَ واديًا إلاّ كُتِبَ لهم ليجزيهُمُ الله أحسنَ ماكانوا يَعلمون)التوبة121

وأخيرا فقد أخبرنا القرآن الكريم عن وادٍ عجيب هو وادي النمل الذي مكن الله تعالى سيدنا سليمان من أن يفقه ماقالته نملة

(حتى إذا أتوا على وادي النملِ قالت نملةٌ ياأيُها النملُ ادخلوا مساكنكمْ لايحطمنكم سُليمان وجنودهُ وهم لايشعرونَ)النمل18

يتبين لنا وبتدبر كلمة (وادي) في القرآن الكريم إن فيها سرا من الاسرار الذي جعله مباركا وقد ارتبطت قدسيته بوجود الانبياء موسى، سليمان، صالح عليهم السلام هذه القدسية نفسها جعلت من الوادي مباركا وعلى قدر من التكريم كما وضحته الايات القرآنية، ومن الجدير بالذكر أن نذكر إن كلمة (وادي) تطلق على المكان الذي يدفن فيه الموتى كما في مقبرة (وادي السلام) في النجف كون المكان مباركا ليحفظ الاجساد في مكان يتسم بالطهر.

 2- الاية تصور نوعين من الجيوش الاول جيش النبي سليمان والذي يتالف من الجن والانس والطيروهم يأتمرون بأمره وهو جيش عظيم لايضاهيه اي جيش في عدده وعدته وتنوع مخلوقاته والجيش الثاني هو جيش بسيط صغير و النملة كقائدة جيوش أو مسؤولة حصن دعتها مسؤوليتها الى تحذير قومها وهذه النملة كانت تعرف تمام المعرفة بأمر من الله أن سليمان نبي وهو يعمل بوحي من الله وخشيت من تحطيم جيش النبي سليمان  (لايحطمنكم سليمان وجنوده) وقد وردت كلمة التحطيم وليس الدهس إذا اخذنا بالاعتبار إن النملة مخلوقة صغيرة سهلة الدهس، بينما التحطيم يعني التكسير، لقد توصل العلماء الى ان جسم النملة مزود بهيكل عظمي صلب يعمل على حمايتها، وهذا الهيكل الصلب يفتقر الى المرونة لذلك حينما يتعرض للضغط فهو يتحطم كما يتحطم الزجاج- سبحان الله- وجسم النملة يتكون من مادة الكيتين وهي سلسلة بوليمرات طويلة ولكنها ليست زجاج، والصوت الذي يصدر عن كسر هذه المادة يشبه صوت الزجاج، وقد ذكرت هذه الحقيقة العلمية و الاية الاعجازية قبل 14 قرنا في بديع الخطاب على لسان نملة!

ثم تقوم هذه النملة بتبرير فعل الجنود بانهم لايشعرون (وهم لايشعرون)

فهل كل النمل مبارك ومن أين أتت هذه البركة؟

لقد حدد الله جلّ وعلا النمل في القرآان الكريم بقوله (وادي النمل) إذن فهو النمل الموجود بالوادي.

وحقيقة فالنمل عالم مبهر وفيه من الاعجاز والاسرار العجيبة في طريقة عيشه وكفاحه واسلوبه في تخزين المؤونة ثم قدرته العجيبة على التمييز بين البذور فالنمل يقوم بكسر البذرة الى نصفين كي لا تنبت ثانية اثناء خزنها، لكن هناك بذورا تنبت ايضا في حال انها كُسرت الى نصفين كبذرة الكزبرة مثلا، فهو يقوم بكسرها الى اربعة اجزاء كي يضمن عدم انباتها –سبحان الله- هذه القدرة الاعجازية على التمييز انما تأتي من خالق مدبر،  فمجتمع النمل اضافة الى تنظيم حياته وقيامه بحفر الانفاق وتوزيع المهام بين الافراد  فهويمتلك ذكاءا لتمييز افراده عن افراد المستعمرات الاخرى  بواسطة الشم، كما ويتسم  بسمة الايثارو التضحية، فعندما يتعرض بيت النمل للفيضان فان النمل يسارع لعمل سد منيع من اجساد النمل الذي يتطوع للتضحية من اجل المجموع،  فهو اضافة الى كل ذلك لديه اعمال اخرى تخص التخلص من الجيف وتهوية التربة ومكافحة امراض النباتات بنوع من العلاقة التكافلية، ومع كل تلك الصفات الا ان النمل بالمجمل يعتاش أي إنه يسعى للحصول على الرزق، ويخطط ويقوم بخزن الغذاء للطوارئ وهو يعمل لنفسه ولمجتمعه، وقد يحمّل نفسه مالاطاقة له بحمله وهي صفة من الصفات الانسانية –سبحان الله

بقي إن نذكر بعد هذه الدراسة الموجزة إن النحل والنمل يشتركان بنفس الحروف ويختلفان بحرفي (الحاء) و(الميم) والحاء كناية عن الحياة فالنحل يحلق في الفضاءات الرحبة متخذا من الاماكن العالية موطنا له و يتنقل بين الازهار والثمار والاشجارليستمتع بما لذ وطاب، افاقه رحبة ولايعمل إلا بالنوروهومنتج وواهب بامتياز، فيما يعيش النمل على أو تحت الارض  ويعمل ليلا ونهارا يحمل اثقالا اكثر من طاقته  كالانسان تماما (ياأيُها الإنسانُ إنَّكَ كادحٌ إلى رَبَّكَ كَدحًا فملاقيهِ) الانشقاق6، وقد يطمع في جمع المؤونة فهو دائم السعي حتى يموت، وهو يعبر عن الكد و الكدح، فقد يكون النحل كناية عن الحياة، فيما يكون النمل كناية عن الموت أو الحياة الدنيا(فتعالى اللهُ الملكُ الحق ولاتعجلْ بالقرآن من قبل أن يُقضى إليكَ وحيّهُ وقل ربِّ زدني علمًا)طه114

***

مريم لطفي الالوسي

يعد الإعلام احد المقومات المهمة لقضية التنمية التي هي مجموعة أعمال متكاملة عديدة الأبعاد، والانسان هو منطلقها وهدفها.

ويفترض بالإعلام أن يكون هادفا شاملا وواقعيا يهدف إلى تحقيق غايات اجتماعية تنموية مرتبطة بالنواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. ويفترض بالإعلام الساعي لتحقيق التنمية أن يستند الى الصدق والصراحة والوضوح في التعامل مع الجمهور .

وعندما نريد تكامل السياسات الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فينبغي أن نفهم الإعلام وفق هكذا معطيات.

ولاننا نؤمن بأن الثقافة اساس التقدم والاصلاح والتغيير وهي سبب التغيير الحقيقي في حياة الشعوب. ولايمكن لأي أمة أن تصل إلى اهدافها ورقيها اذا لم تلامس الثقافة تفاصيل حياتها وجزئياتها فاننا نرى ضرورة أن يكون الإعلام والثقافة عنصران أساسيان وفاعلان في الاتصال التفاعلي عبر وسائل الإعلام الجديد .

أن ثقافة الفرد العربي الحاسوبية ماتزال ضعيفة وغير مؤثرة ولاتتجاوز الذهنية الورقية التي لاتعرف تحديات النشر الالكتروني واثاره الكبيرة في حياة الشعوب والامم.

اذا ماعلمنا أن الثقافة والاعلام يكادان لاينفصلان من حيث الأداء والتأثير والحاجة ندرك محنة الثقافة التي يعيشها الجيل الجديد، منذ اللحظات الأولى التي بدأ المجتمع ينظر إلى الثقافة والإعلام وادواتهما نظرة شك وعدم قناعة وعدم وجود رؤيا في تحليل المستجدات والنظر إلى المستقبل وطريقة تعاطي المجتمع مع متطلبات المرحلة التكنلوجية والثورة الإعلامية الهائلة.  نعم يمارس الإعلام اليوم دورا هاما في دعم تحقيق التنمية بكل توصيفاتها، بل أن المشتغلون بالتنمية يجدون انفسهم انهم دائما بحاجة للإعلام، الإعلام يعمل على تثقيف المجتمع، والتنمية لاتتمدد وتنمو وتزدهر وتحقق اهدافها الا بمجتمع مثقف، لذا بات الجميع يدرك بأن الإعلام والثقافة هما رافدان من نهر واحد .

***

بقلم: تهاني الطرفي - أستراليا

في صباي كنتُ اذهب بانتظام الى المكتبة التي يملكها أحد اقاربي، واعتبر نفسي احد العاملين فيها رغم معارضة صاحب المكتبة الذي كان يخشى أن يؤثر العمل على دراستي، فاقترح أن اعمل ايام العطلة الصيفية فقط، لكني اعتدت أن اعتبر المكتبة جزء من دراستي، فتجدني ما ان انتهي من واجباتي المدرسية حتى تاخذني قدماي إلى حيث عالم الاغلفة الملونة، والكتب التي توزعت على الرفوف والمصاطب . في تلك السنوات كنت احتفظ باعداد من مجلة ملونة اسمها " المعرفة "، كانت تصل كل اسبوع مزينة بغلاف احمر، تتوسطه صورة، احيانا تكون لمجموعة من الكواكب، أو اثار عالمية، او لشخصيات لم اكن اعرف عنها شيئا، كنتُ اقرأ صفحاتها بتمعن وبالكاد افهم السطور التي تنتقل بي بين العلوم والتاريخ والجغرافية والطبيعة والادب، وسحرٌ آخر عبارة عن  صفحة تتناول حياة بعض المشاهير، وعن طريق هذه المجلة تعرفت على ابو تمام وسمعت باسم نيوتن لأول مرة، وحيرتني حياة تشارلز ديكنز، وتألمت لتمزيق جسد امراة يونانية اسمها " هيباتيا " . وجدت نفسي منجذبا إلى تلك الصفحات بسبب غرابة حياة هؤلاء المشاهير والمدن العجيبة التي شهدت حكاياتهم، وكنت في الخيال اعيش اجواء هذه الحكايات واتجول مع اصحابها، اتوقف وانا انظر الى صورة فولتير وكيف ازدحمت شوارع باريس بمئات الآلاف لتوديعه عندما توفي . وياخذني الخيال مع المتنبي وهو محاصر في صحراء الكوفة، وارسم في ذهني صورة لجان جاك روسو يهرب ليلاً بعد مطاردة الشرطة له . صور كثيرة لم تغادر ذهني الصبي كانت واحدة منها لرجل يجلس في المقهى والسيجارة في فمه، وامامه كتاب يقرأ فيه، يتوسط الصورة عنوان " جان بول سارتر رائد الوجودية الفرنسية "، قرأت الموضوع ، لكني لم افهم شيئا : ماذا كان يريد هذا الرجل الغريب الاطوار؟ . بعدها ساعثر على مقال كتبه انيس منصور في مجلة الفكر المعاصر بعنوان " سارتر حياته هي كلماته " وفيه يصفه بانه " غريب في العالم، وهو غريب عنه ايضا "، ويخبرني انا القارئ الغشيم للوجودية ان فلسفة سارتر هي محاولة مستمرة لعقد صداقة مع العالم .

كان سارتر أول فيلسوف احاول  البحث عن خفايا حياته، كنت اتباهى في سني مراهقتي  بترديد بعض عباراته الغريبة . وربما كان سارتر أكثر فيلسوف شعرت بانه قريب مني، اقرأ رواياته ومسرحياته، لكني اخشى الاقتراب من كتبه الفلسفية . فيما بعد سأقتني كتابا ضخما بجلاد اسود سميك بعنوان " الوجود والعدم " ترجمة عبد الرحمن بدوي – صدرت طبعة اخرى بعنوان الكينونة والعدم ترجمة انطوان متيني -، كنت قد قرأت في مقال انيس منصور ان كتاب سارتر هذا يعتبرونه انجيل الوجودية، ورغم ذلك لم ينس انيس منصور من ان يحذرني منه فهو " كتاب غامض لم تتمكن سوى قلة من قراءته وفهمه "، لكن رغم مشاعر فقدان الامل التي تصيب كل من يحاول قراءة الكتاب اول مرة، إلا ان " الوجود والعدم " لا يزال حتى هذه اللحظة يحظى بسمعة جيدة، فهو من الكتب القليلة التي كتبت في القرن العشرين ناقشت بجدية الاسئلة المحورية حول الوضع البشري، عبر مفاهيم وتصورات فلسفية معينة، وقد شعر سارتر ان كتبه " الوجود والعدم " اصبح محصورا بالنخبة، فنجده يحاول تبسيط فلسفته عبر روايات ومسرحيات .

قررت أن الاحق سارتر من خلال كتبه وما ينشر عنه في المجلات والصحف . كنت قد بدأت بقراءة كتاب " الوجودية فلسفة انسانية " . لكني بعد عدة صفحات توقفت عن القراءة، ووضعت امامي قائمة بالمصطلحات التي برددها سارتر " الماهية .. الوجود .. الظاهراتية .. القلق .. المسؤولية .. الحرية " .كان الكتاب في الاصل محاضرة القاها سارتر في تشرين الثاني عام 1945 في باريس وفيها اعلن اننا نوجد اولا ثم نحقق ما نريد ان نكونه عبر تصرفاتنا .. ففي خياراتنا نحدد نوع وجودنا . اننا احرار تماما لتجديد ما نرغب في ان نكون عليه، لكن هذه الحرية تحمل معها عبء المسؤولية .

أنظر الى صور سارتر التي تنشرها الصحف مرة اراه متجهما، وفي بعض الصور يبدو ساهما، صور كثيرة تلتقطعها عدسات المصوؤيين الذين كانوا يلاحقون فيلسوف الوجودية وهو يتنقل بين مقاهي باريس . وكنت انا ايضا اطارد سارتر من خلال كتبه، وكانني اشاركه رحلة التنقل من مكان سكنه الى مقهى الفلور الى شقة والدته .كانت كتبه التي بدأت بقرأتها قد حددت نوع القارئ الذي ساكونه، مثلما كانت الكتب قد شكلت حياة وتفكير جان بول سارتر  منذ أن وجد نفسه يعيش في بيت جده: " في حجرة جدي كانت الكتب في كل مكان، وكنت لا اعرف القراءة بعد، ومع ذلك كنت احترمها هذه الحجارة المرفوعة. وسواء كانت قائمة ام مائلة، متزاحمة كقطع الطوب على ارفف المكتبة ام منفصلة بعضها عن بعض، فاني كنت اشعر ان ازدهار عائلتي موقوف عليها " – الكلمات ترجمة محمد مندور - انتبه الجد الى ان حفيده مغرم بشيء اسمه القراءة ويسترجع سارتر كيف اجلسه جده امامه وكان في السابعة من عمره ليقول له بكل صرامة :" من المفهوم بالطبع ان الولد سيصبح كاتبا "، ثم نبهه الجد الى ان الادب لن يملأ معدته في يوم من الايام

في العشرين من ايلول عام 1939 يلتحق سارتر بالجيش بصفته جندي احتياط، في مقاطعة الألزاس يعيش هناك في غرفة صغيرة مع اربعة اشخاص يعملون جميعا في وحدة الارصاد الجوية :" الحرب اشتراكية، فهي تختزل الممتلكات الفردية للشخص في اللشيء، وتعوضها بالممتلكات الجمعية . لم تعد ثيابي، مرقدي، أو أغذيتي ملكا لي، لم يعد لي مسكن . كل ما استعمله ملك للمجموعة " – سارتر دفاتر الحرب الغربية ترجمة عبد الوهاب الملوح -  " . اعتاد سارتر خلال الاشهر الثمانية التي قضاها في هذا المكان أن يقرأ ويكتب بمعدل 11 ساعة في اليوم، فقد انهى قراءة كتب فرانز كافكا، وتمتع بقراءة اسرار اندريه جيد كما سطرها في يومياته :" شرعت في قراءة اندريه جيد . كانت قراءة باذخة عموما " – دفاتر الحرب الغريبة - . كانت الكتب ترسلها له سيمون دي بوفوار كل أول شهر، اضافة الى ذلك كان يواصل الكتابة في روايته سن الرشد، ويكتب في دفتر صغير ملاحظات فلسفية ستغدو فيما بعد كتابا كبير الحجم بعنوان " الوجود والعدم "، والذي يدور حول العلاقة مع الاخرين، وسنجده من ايلول عام 1939 وحتى حزيران عام 1940 يملأ اكثر من خمسة عشر كراس يسطر فيها وجهة نظره عن الحرب :" لقد كنت أخوض حرباً على صورتي، حرباً بورجوازية أنا الذي اخترت السلاح الذي أخوض الحرب به، فبما أنني كنت من أصحاب النزعة السلمية اخترت سلاحاً مسالماً بفضل توصية مكنتني من ذلك. وبما أنني كنت مناضلاً ضد النزعة العسكرية أردت أن أخوض الحرب بوصفي جندياً بسيطاً، أنا الذي كنت ضد الحرب لكوني مثقفاً. ثم بسبب عدم قدرتي على الحياة الطبيعية لإصابتي بالحول جُنّدت مع القوات الاحتياطية، أي مع الرجال المتزوجين والذين لديهم أطفال. ومن هنا كانت تلك الحرب بالنسبة الينا حرباً غريبة بل مضحكة. كانت حرباً تعكس رغبتنا العميقة في عدم خوض القتال نحن الذين كنا نعرف أن هتلر لن يهاجمنا، وبالتالي كنا نتطلع الى ترك الحرب نفسها تتعفن مدركين كنه مشاعرنا. بمعنى أنني كنت أرى نفسي معكوساً في تلك الحرب التي كانت هي بدورها تنعكس فيّ وتعيد اليّ صورتي. وكانت النتيجة أنني رحت أول الأمر أكتب عن الحرب لينتهي الأمر بي الى أن أكتب عن ذاتي إذ باتت الحرب بالنسبة الي اشبه بفترة نقاهة " .- دفاتر الحرب الغريبة -

في الحادي والعشرين من  حزيران عام 1940  يُعتقل سارتر، كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وسينقل بعد ايام الى معسكر في المانيا باعتباره اسير حرب، يكتب في رسالة الى سيمون دي بوفوار، انه سعيد جداً، يشعر بانه حر، كان يقرأ هيدغر، يخبرنا في حوار اجرته مع سيمون دي بوفوار – نشر في كتاب مراسم الوداع ترجمة قاسم المقداد – ان افكار كتاب " الوجود والعدم تكونت انطلاقا من دفتر صغير كتبه خلال الحرب .. وفي الاسر عندما يسأله احد الضباط الالمان عما ينقصه، يجيب سارتر فورا : هايدغر، ليحصل بعد اسابيع على نسخة مجلدة من كتاب " هايدغر " الوجود والزمان "، كان هايدغر الذي نشر كتابه " الوجود والزمن " عام 1927 قد بحث عن الدور افريد الذي يلعبه الانسان في العالم، فالانسان كما يرى هايدغر هو المخلوق الوحيد القادر على فهم " الوجود " . بمعنى انه قادر على التصرف بوعي ازاء نفسه، وازاء الواقع الذي يعيش فيه .من هذه النقطة يبدأ سارتر الذي يخبر سيمون دي بوفوار في احدى رسائله من المغتقل في تموز عام 1940 انه بدأ بتحرير كتابه " الوجود والعدم "،. يؤمن سارتر كما يؤمن عيدفر بان الانسان قادر على التصرف بوعي ازاء " وجوده "، ويمكنه ان يقرر شيئا، وان يشكل كينونته، كما يمكنه ان يقول لا ابضا .

في تشرين الاول من عام 1943 ينشر سارتر كتابه الأهم " الوجود والعدم "، لم يحقق الكتاب نجاحا عند صدوره ، لكن بعض المشتغلين في الفلسفة ادركوا أن حدثا هاما قد حصل، فللمرة الاولى وجدوا من يطبق الفلسفة على الحياة اليومية، ظل سارتر يقول ان مهمة الكاتب ان يتكلم بوضوح وبساطة، ويقول لالبير كامو في اول لقاء بينهما :" اذا فشلت الكلمات في تأدية واجبها فان وظيفة الكاتب يجب ان تحول هذا الفشل الى نجاح " .في الوجود والعدم الذي سيصبح الركيزة الاساسية للوجودية الفرنسية يوضح سارتر ماذا تعني الحرية للانسان، انها : " المتأمل، والمتخيل، قوة العقل، قابليتها للحركة، سلبيتها المعطاة، قدرتها على النهوض من الاوضاع، الموصلة، ان احجار المنزل لاتبني سجنا "، اما الانسان فهو :" الوجود الذي يطمح ان يكون الهياً " . ذكر اندريه جيد ان سارتر يريدنا ان نقرأ الفلسفة كرواية مثيرة ومشوقة، فيما يخبرنا سارتر في الوجود والعدم، ومن ثم في معظم كتبه على اننا نفعل كل شيء للهروب من حريتنا، فنحن نتحول الى شيء يقول : ليس هذا خطئي،  ولا نقول " هذا ما قررت ان اكون " هذه النية السيئة كما يسميها سارتر احد المبادئ التكنيكية التي يتبناها كل فرد كي يتوقف عن تَحمل  حريته . في اكثر من سبعمئة صفحة يقدم سارتر عرضا للحرية بوصفها سمة من سمات تجربتنا التي تُمكننا من ان نلعب دوراً في هذه الانشطة الانسانية  الفريدة مثل القراءة والمناقشة  والتفكير والاختيار . التقط  كتاب " الوجود والعدم " مزاج الحرب في فرنسا التي انهار فيها كل يقين قديم، حيث أدت الحرب الى الفوضى في كل شيء  ؟ ارد سارتر ان يقدم  طريقة جديدة في فهم الوجود . تُمكن الناس أن يختاروا مستقبلهم بكامل حريتهم .يقول سارتر إننا لسنا مسؤولين ببساطة عما نفعله . نحن مسؤولون عن عالمنا .إن كل فرد بعيش " مشروعا " معينا في حياته وبالتالي فإن كل ما يحدث معنا يجب ان يكون مقبولا كجزء من هذا الامر . ويمضي ليقول إنه " ليس هناك من صدفة بالحياة " . يقوم كتاب سارتر على تمييز اساسي بين اشكال الوجود المختلفة . ويثير سارتر الانتباه الى الاختلاف القائم بين الوجود الواعي من جهة والوجود اللاواعي من جهة اخرى، فيسمي الاول " الوجود لذاته "، اما الثاني فيدعوه الوجود في ذاته . إن الوجود لذاته هو الوجود الذي يختبره البشر . ويلعب العدم كما يقترح عنوان الكتاب دورا محوريا في عمل سارتر . حيث يعتبر الوعي البشري فجوة في صلب وجودنا، أي انه عدم، فالوعي هو دائما وعي شيء ما، فلا يكون ذاته ابدا .إنه ما يسمح لنا باسقاط انفسنا في المستقبل واعادة تقييم ماضينا . ان العدم يدخل في تركيبة الانسان، في تركيبة وعيه، لأن الانسان محكوم عليه بالعمل كل يوم، وبالتالي هو يتغير باستمرار، وبالتالي لا يعود كما كان سابقا، يقول سارتر ان " الانسان هو ما ليس هو، وهو ليس ما هو " وقد يعتقد البعض ان الجملة لعب من العاب الالفاظ، لكنها عند سارتر تعني ان الانسان هو ما ليس هو، يعني ان الانسان لا يُكونه ماضيه، عليه ان ينسى كل ما كان، كل ما فعله سابقا، عليه ان يعدم كل لجظة سابقة للحاضر، وينتزع نفسه من كل الماضي، وبالتالي الانسان لا يصبح على الاطلاق وجود بسبب تراكم الماضي، انه باستمرار يتخلص من الماضي، وينساه ويصبح قبل كل عمل يقوم به عبارة عن ورقة بيضاء جديدة، وبالتالي هو ما ليس، أي ما لم يقم به بعد .

ورغم ان سارتر مدين في عنوان كتابه " الوجود والعدم " الى كتاب هيدغر " الوجود والزمان " إلا ان سارتر اصر ان يؤدي التحية من خلال كتابه الى ديكارت بدلا من هايدغر .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ينسى السيد قيس مغشغش السعدي موضوع واسم اللغة الآرامية الشرقية شريكة وشقيقة اللغة العربية نسيانا تاما، ويحاول "مندأة" العامية العراقية وجعل المندائية هي "اللغة الأساس" واللغة الأم قبل أن تتحول إلى اللغة "الجدَّة" للغة المشتركة العامية في العراق، كما يقول في موضع آخر من كتابه، لنقرأ ما كتب: "وبسيادة اللغة العربية لأسباب أشرنا إليها فقد أصبح صعبا أمام اللغات الأخرى حتى وإن كانت هي أساس لغة القوم والبلاد أي اللغة الأم. وشيئا فشيئا صارت هذه اللغات هي اللغة "الجَدَّة" وحلت اللغة العربية محلها وصارت هي اللغة "الأم". ص 62"، وهذا ما سنثبت بالأدلة والتوثيق الدقيق خطأه التام مؤكدين وجهة النظر التي تذهب إلى أن اللهجة العراقية هي لهجة عربية صميمة بل وإنها من أقرب اللهجات العربية المعاصرة إلى اللغة العربية الفصحى بمعجمها القديم لعهد ما قبل الإسلام! ونعود الآن إلى الظواهر اللغوية الخاصة باللهجات العامية والتي كان الجهل بها مصدرا لأخطاء لا تحصى ارتكبها السعدي في تأليفه لمعجمه:

المضارع المستمر في العاميات

لا وجود لصيغة الفعل المضارع المستمر المقابل لـ (Present Continuous) في الإنكليزية والتي تفيد الإخبار عن وقوع الفعل في الحاضر المستمر في قواعد اللغة العربية الفصحى. ونظراً لأهمية هذه الصيغة في الحياة اليومية، ولأن المضارع العام لا يؤديها تماما، فقد ابتكرت العاميات العربية صيغة عربية سليمة تفي بالغرض. ولكن صاحب معجم المفردات المندائية يعتقد أن هذه الصيغة جاءت الى العامية العراقية من المندائية؛ فتارة يقول إن صيغة "كا" في اللغة المندائية وتعني هنا أو ربما تناظر استخدام دا في اللهجة البغدادية حيث يقال (دا آكل) و (دا اكتب) ص 275، وتارة أخرى يقول من مقطعين مندائيين هما هما (كا) و(إد) التي تعني (حتى لكي ريثما)، وأن الربط بينهما يفيد معنى "هنا لكي" أو "أو هنا ريثما" أو "هنا حتى"ص 276"، وقد رددت على كلامه المضطرب هذا في الفقرة (432) من هذا المعجم.

ولكن الجزء الأول من كلام السعدي يبقى صحيحا وهو أن كلمة "قاعد" ومثلها "جاي" تجعل الفعل في حالة الاستمرارية في الحاضر، والتي تقابل في اللغة الإنكليزية ما يسمى زمن الحاضر المستمر (Present Continuous).

ولكن الرجل يجهل هذه الظاهرة التي تعم العاميات العربية مشرقاً ومغرباً بصيغ متقاربة وما كتب عنها لفقر بضاعته وثقافته اللغوية فحشرها في جملة ما حشر ضمن معجمه المندائي.

في معنى استمرار الفعل في الحاضر، يقول العراقي مثلا، ردا على سؤال "شدّ تسوي هسع؟ ماذا تفعل الآن؟"، " قاعد أكتب/ قاعد آكل/ جاي اتفرج على التلفزيون/ جاي ألعب رياضة"...إلخ وغالبا ما يتم اختصار الجوال إلى " دَ أكتب/ دَ آكل...إلخ"، وفي العامية المصرية يقابل هذه الصيغة قولهم (أنا باكل/ أنا بلعب...). والباء التي تسبق الفعل هنا حرف مختزل عن (بقى) أو (باقي) أي (أنا باقي آكل/ أنا باقي ألعب) بما تعنيه (باقي) من عدم الانقطاع والتوقف عن الفعل.

وفي لهجات بلاد الشام تسبق الفعل المضارع لفظة (عَمْ) وبعدها الباء لتفيد الاستمرارية في الحاضر. فرداً على سؤال يقول " شو عم تعمل هالق؟" يقولون "عم باكل / عم بلعب". وأعتقد أنَّ (عم) هنا هي اختزال لكلمة "عَمْال"، وهلق مختصر لعبارة " هذا الوقت إبدال بالقاف الى همزة في لبنان خصوصا.

أما في المغرب العربي وخاصة في الجزائر فيقولون (راني آكل، راني ألعب) وتعني على الأرجح؛ أراني أو تراني آكل، وفي تونس وليبيا تحل محل لفظة "راني" لفظة قريبة منها هي "هاني" المدغمة من (ها إني) يقولون " هاني نكتب، هاني ناكل...إلخ.

في العامية العراقية والخليجية فالمشتق اسم فاعل هو "قاعد/ جاي"، وليس هناك أي تركيب أو تقطيع إلى جزء أول وثانٍ، بل هناك اختزال من قاعد إلى دال مفتوحة قبل الفعل المضارع كما يرى العلوي مثلا، أو اختزال من جاي إلى دال بتذكر الإبدال بين الجيم الدال. أما الباء المفتوحة قبل الفعل المضارع في اللهجات المصرية والشامية والسودانية وبعض جهات اليمن فهي اختزال لكلمة "باقي" وهذا هو الاختزال الأرجح بين عدة احتمالات ويقتبس العلوي عن أنيس المثال التالي من مصر لتسويغ وترجيح الاختزال إلى باء (بقى له كذا يوم يعمل).

وأخيرا، فقد كانت الباء التي تفيد الاستمرارية موجودة في الأندلس العربية كما ورد في هذا المثل القديم (إذا رأيت الأمير بيضمك فاعلم أن قلبي بيبكي).

كشكشة ربيعة

لا يخلو موضوع الكشكشة من التعقيد والتداخل مع ظاهرة أخرى هي شنشنة اليمن. فلدينا أولاً إبدال الكاف بصوت أقرب إلى "تش" أو ما يضاهي صوت (CH) في الإنكليزية، ويكتب جيما ثلاثية (بثلاث نقاط تحتها "چ"). والكَشْكَشَةُ لغة (لهجة) لربِيعة، وفي الصحاح: لبني أَسد، وهذا الصوت لا وجود له في اللغة العربية الفصحى، والمرجح أنه انتقل الى لفظ القبيلتين العربيتين ربيعة وأسد من اللغة الفارسية بحكم المجاورة الجغرافية كما يرجح العلوي، حيث استوطنت القبيلتان مناطق الخليج العربي وشماله المجاور لبلاد فارس، ثم شاعت الكشكشة في العراق والخليج. ولكني أتحفظ على هذا التعليل الذي يطرحه الراحل العلوي، إذْ أنَّ قبيلة طي الكبيرة، والتي كانت بحجم شعب متوسط، كانت هي الأقرب والأكثر اختلاطا بالفرس من غيرها، ولكن لغتها ظلت خالية من الكشكشة كما أن الكشكشة موجودة في لهجة أهل الخليل في فلسطين ويقال إنها موجودة في مدينة جيجل الجزائرية ولم أتحقق من ذلك شخصيا. فهل ثمة علاقة لهذا الموضوع بكون ربيعة وأسد من القبائل العدنانية الحجازية وقبيلة طي من القحطانية اليمانية؟ ولأن هذا الصوت لا وجود له كحرف في اللغة العربية فقد عمد بعض القدماء إلى كتابته شيناً فاختلطت ظاهرة الكشكشة بأخرى هي شنشنة اليمن ومؤداها (قلب الكاف شينًا مطلقاً. فيقال: كيف حالش؟، أي كيف حالكِ؟ ونسبها ابن عبد ربه لقبيلة تغلب فقد سُمِعَ بعض أهل اليمن في عرفة يقول: "لَبِّيشَ اللُّهمَّ لَبَّيشَ"، أي لبَّيك، ولا تزال هذه ظاهرة صوتية شائعة في اللهجة الحضرمية وهي لغة مشهورة في اليمن و‌عُمان وعسير وما جاورهما). فهل نحن إزاء ظاهرتين الأولى هي كشكشة ربيعة وأسد والثانية هي شنشنة اليمن أم أنها ظاهرة واحدة باسمين مختلفين؟

أعتقد أن كشكشة ربيعة وأسد هي نفسها شنشنة اليمن سوى أن القدماء لم يستعملوا حرفا كالجيم المثلثة الذي نستعمله في عصرنا فاستعملوا الشين لتؤدي دوره. إنما ينبغي التفريق بين ظاهرة الكشكشة سواء كتب حرف الكاف بالجيم المثلثة أو بالشين على طريقة القدماء وظاهرة أخرى هي إلحاق الشين بالكاف والذي تكلم عنه ابن منظور في اللسان وقال (وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ الشِّينَ بَعْدَ الْكَافِ فَيَقُولُ: عَلَيكِشْ وإِليكِشْ وبِكِشْ ومِنْكِشْ، وَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ خَاصَّةً، وإِنما هَذَا لِتَبِين كسرةُ الْكَافِ فيؤَكد التأْني).

وأضيف هنا أن موقف الراحل هادي العلوي الذي عبر عنه في كتابه "المعجم العربي الجديد – المقدمة" والصادر مبكرا في 1983 والذي قال فيه "ليس للكشكشة علاقة بشنشنة اليمن، خلافا لوهم العلامة إبراهيم أنيس، فالشنشنة هي تحويل الكاف شينا خالصة وهي لاتزال في لهجة اليمن المعاصرة. كما في هذه الأغنية اليمنية الحديثة:

لا تكثري اللوم

لو قلبي عليش قبقب

طعمش مثيل الرطب

والعرف روتي وتونة/ ص 23"، وبين ما قاله في مقدمة معجمه العربي المعاصر "معجم الإنسان والمجتمع" الصادر سنة 1997، أي بعد أربع عشرة سنة، ونصه (الكشكشة كانت في ربيعة وأسد وكلاهما استوطن العراق فشاعت فيه. وأصل ربيعة في نواحي الخليج ولا بد أنها اخذت هذا الإبدال من الفارسية بحكم المجاورة. ولا وجود لهذا الصوت في اللغات السامية وقد أوقعه اللغويون في كاف المخاطبة نحو عليتش وكتابتش. وكتبوه شيناً لعدم رسمه في الخط العربي... وقد سميته في معجمي "تشين" ورسمته تش على الطريقة المتبعة في مضاهاة الحرف الإنجليزي. ص 88 المعاصر".

والعلوي هنا كما يبدو قد عدَّل رأيه السابق وأمسى يميل إلى رأي إبراهيم أنيس الذي يعتبر الكشكشة هي شنشنة اليمن نفسها، ويبقى تفسير لفظها في مثال الأغنية التي جاء بها العلوي بالشين ممكناً ربما في تقارب لفظ الشين والجيم المثلثة في اللهجة اليمنية وهذا التقارب أو الخلط هو ما نجده يحدث لدى العرب من غير العراقيين الذين يريدون مثلا أن يقلدوا الكلام بالكشكشة عند العراقيين فيلفظون الجيم الثلاثية شيناً.

ومن الأمثلة الأخرى التي يوردها ابن منظور ويكتبها بالشين التي حلت محل الكاف بعد أن تكشكشت نقرأ الآتي (وأَنشدوا لِلْمَجْنُونِ:

فَعَيْنَاشِ عَيْنَاهَا وجِيدُشِ جِيدُها

ولكنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْشِ رَقيقُ/ اللسان".

هناك ظاهرة صوتية أخرى تسمى "الكسكسة النجدية"، لم نتوقف عندها لانعدام علاقتها بسياق وحيثيات كتابنا هذا. ونقرأ عنها: "والكسكسة ظاهرة صوتية لغوية قديمة والكسكسة قلب كاف المخاطبة سينًا، أو إلحاقها سينًا. تنسب هذه الظاهرة إلى بكر بن وائل، وهوازن، وحي من تميم. ولها ثلاث صيغ: إلحاق الكاف سينًا وقلب الكاف سيناً، وقلب الكاف إلى «تس» مدغمةً فيقال: مررت بتس، يقصد: مررت بكِ. وهذه هي الأكثر انتشاراً في نجد، إذ هي مسموعة في اللهجة القصيمية، واللهجة الحائلية، ولهجات شمال نجد".

في هذا المعجم الصغير سنتابع العديد من مفردات اللهجة العراقية والتي اعتبرها مؤلف كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية"، قيس مغشغش السعدي، مفردات مندائية أو ذات جذور أو اشتقاقات مندائية، وهي في الحقيقة كلمات ذات عربية فصيحة أو جذور عربية أو هي اشتقاقات من تلك الجذور ولكنها كاف لفظت بكشكشة ربيعة لا أكثر ولا أقل ولكنه كما يظهر لم يسمع بهذه الظاهرة اللهجوية للأسف.

أنواع الجيم السبعة

لنبدأ بالجيم المعطشة وهي الجيم الفصيحة، الشديدة، المنقطعة (المحبوسة) والتي نسمعها في العربية الفصيحة والعاميات في وسط وشمال وغرب شبه الجزيرة العربية والعراق، والسودان وبعض مناطق اليمن.  يخرج حرف الجيم المعطشة بقوة وبهيئة الصوت الشديد المجهور حيث أنه عند النطق بحرف الجيم يتصادم طرفي اللسان مع الفم جيداً، مما يعطي حرف الجيم صفة الشدة. وفي القرآن الكريم أو في اللغة العربية الفصحى عامة لا يوجد إلا حالة واحدة لنطق حرف الجيم وهي الجيم الفصحى، ومخرجها الصحيح هو وسط اللسان عن طريق تصادم اللسان مع سقف الفم الأعلى ولا يجوز أن يخرج اللسان خارج الفم عند نطقها.

إن تعطيش الجيم كمصطلح لغوي لا وجود له في مؤلفات اللغويين العرب القدماء بل هو من ابتكار المحدثين كما يرى عالم القراءات العشر د. أيمن سويد، الذي يرى - واتفق معه في ما يرى -أن معنى التعطيش يعني وقف جريان لفظ الجيم. ونعني بالجريان جعل الجيم كما يلفظه أهل لبنان وسوريا والمغرب العربي ويسمونها هناك الجيم الرخوة، بمعنى يستمر الصوت بالجريان مع النفس، أما الجيم المعطش فلا يجري فيه الصوت بل يتم تعطيشه (وقف جريانه) بتشديد لفظه وحبسه فيتوقف بمجرد تلفظه عن الجريان.

إن الجيم المعطشة العربية الفصحى لا وجود لها في اللغات الجزيرية القديمة. ويعتقد بعض المعجميين والباحثين - ومنهم هادي العلوي - أن حرف الجيم القديم أو الجزيري هي نفسها القاف الحميرية أو الجيم القاهرية. كما أن وجود هذه الجيم الفصيحة في اللهجة العامية العراقية نقطة تحسب لمصلحة قرب هذه اللهجة من اللغة العربية الفصحى في مهدها الجزيري وبعدها عن اللغات السامية الأخرى التي ينعدم بها هذا الحرف بهذا التصويت.

أما الجيم الفارسية أو المثلثة بثلاث نقاط فهي الكاف المُكشكشة بكشكشة ربيعة.

ولحصر أنواع الجيم في اللغة العربية والعاميات في نقاط مختصرة ونقول؛ إن حرف الجيم موجود في اللغة العربية الفصيحة والعاميات العربية بسبعة أصوات هي:

1- الجيم العربية الفصيحة المعطشة كما يلفظها أهل العراق والجزيرة العربية في الفصيحة والعامية وهي المعول عليها والقياسية في القراءات القرآنية بشرط ألا يُبالَغ في التعطيش فتنقلب الجيم دالاً في القراءة ويتغير المعنى.

2- الجيم الفصيحة الجارية (الرخوة) في بلاد الشام والمغرب العربي وهي أوضح ما تكون في لبنان وتونس. وتسمى من قبل بعض الباحثين الجيم الشامية.

3- الجيم التي تلفظ قافا حميرية غير معطشة / جيما قاهرية. وهذه الجيم هي الجيم الجزيرية "السامية" القديمة في اللغات المنقرضة كالأكدية وغيرها.

4- الجيم المثلثة (چ) في كشكشة ربيعة وأسد التي تلفظ الكاف بموجبها"تش" او ما يقابل في الإنكليزية (CH). وقد فصلنا في هذا الموضوع في موضع أخر من مقدمة هذا المعجم.

5-الجيم التي تلفظ ياء في لهجات مناطق شرق شبه الجزيرة العربية وبعض جنوب العراق، ولهذا النطق أصل في القديم.

6- تنطق فيها الجيم زايا إذا تلتها زاي في بعض اللهجات التونسية واللهجات المغربية وأغلب اللهجات الشامية والفلسطينية. ففي تونس يقولون (زز الصوف) يريدون (جز الصوف) وفي الشام يقولون (ززرة) يريدون (جزرة)...إلخ، ولهذا النطق أثر في القديم، وقد رواه الجاحظ (وغيره) وإنْ كان ينسب هذا النطق لغير العرب. يقول الجاحظ في البيان والتبين في ذلك: "ألا ترى أن السندي - نسبة إلى إقليم السند- إذا جُلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا، ولو أقام في عليا تميم".

7- تنطق فيها الجيم دالا في صعيد مصر، ومناطق أخرى في المشرق والمغرب العربيين، خصوصا إذا جاء بعدها حرف الزاي ككلمة (جزدان) التي تلفظ (دزدان).

وعلى أية حال فهذا الكتاب الذي بين أيديكم، بما يحتويه من تخاريج تأثيلية ومعلومات لغوية وتأريخية شائقة وممتعة، ومستلة من المعاجم العربية القديمة، سيكون دون ريب، إضافة إلى ما تقدم من أهداف يطمح الى تحقيقها، مناسبةً طيبةً ونادرةً يتعرف من خلالها القارئ العراقي والعربي على الجذور العربية الفصيحة لمفردات اللهجة العراقية العربية الجميلة والثرية ثراء العراق وتأريخه الألفي.

***

علاء اللامي

...................

*حذفتُ الهوامش التوثيقية من نسخة النشر كمقالة صحافية وأبقيت عليها في مقدمة الكتاب.

كتب لي أحد أصدقائي الخلص يهزأ مني قائلاً : «لعلك الآن تسمي نفسك أبو ماو، بعد أن كنت تتسمى أبو فيدل « وأنا اليوم لا أبو فيدل ولا أبو ماو، فالمقدس عندي هو القضية والثوابت المبدئية وليس الأسماء، على أني أميل الآن إلى تلقيب نفسي «سليل الحضارتين». بهذه الإجابة الطريفة والعميقة يرد هادي العلوي على سؤال من الأسئلة الكثيرة في آخر حوار معه أعده خالد سليمان وحيدر جواد في كتاب «حوار الحاضر والمستقبل». والحديث عن هذا المفكر العراقي الزاهد يأتي لمناسبة تسمية الدورة القادمة لمعرض العراق الدولي للكتاب باسم « دورة هادي العلوي»، احتفاء به واستذكاراً لفكره وحياته بعد أكثر من 24 عاماً على رحيله، ذلك أن الرجل قد خرج من العراق منذ العام 1976 بعد عودة الشيخ جلال الحنفي البغدادي من الصين، فأخبر صديقه العلوي أن الصينيين طلبوا منه أن يرشح لهم من يحل محله ممن يرضي خلقه ودينه، فأختاره لتبدأ غربته الطويلة متنقلاً بين الصين ولندن وبيروت ودمشق التي توفي ودفن فيها أواخر أيلول 1998 .

ولعل من مفارقات الأقدار، ومن سوء حظ القراء والمثقفين في العراق، أن تغيب نتاجات هادي العلوي عن مكتباتهم وعن متناول أياديهم وهو في عز سنوات عطائه الفكري في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مع أنه نشر بحثه الأول في العام 1960 باسم مستعار خوفاً كما يقول من وزير الارشاد وقتذاك الذي كان يحارب المنابر اليسارية في العراق، ففي تلك السنوات صدرت وهو في الغربة معظم مؤلفاته المثيرة في الفكر والاقتصاد والأدب والتصوف والتراث الإسلامي، وكان لدار المدى للإعلام والثقافة والفنون فضل المبادرة بإصدار أعماله الكاملة لاحقاً لتكون متاحة للجميع، ومع ذلك يبقى العلوي من المفكرين الذين حرموا من الانتشار الواسع في وطنه أثناء حياته، في الوقت الذي تصدرت فيه مؤلفات بعض مجايليه في الفكر والتراث والفلسفة والسياسة والاقتصاد والمجتمع رفوف المكتبات وأرصفة شارع المتنبي بحرية كاملة مع أنه يبزهم جميعاً في عمقه وألمعيته وفرادة أسلوبه، بل وفي طرافته ونكاته التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتبه الكثيرة.

كانت شخصية العلوي سليل الحضارتين الإسلامية والصينية مثيرة للدهشة، فبسبب قراءاته التراثية المبكرة التي اتاحتها له مكتبة جده، وبسبب انغماسه في العمل الوطني وتعاطفه مع التيارات اليسارية، اكتسبت شخصيته طابع الثورة والتمرد، مثلما تحصنت بالزهد والتعفف على مسار الشخصيات الملهمة في التاريخ الإسلامي، حتى صار اسلامياً ماركسياً لينينياً مشاعياً ثورياً كاستروياً ماوياً، ومتصوفاً متعالياً على اللذائذ، لا يملك شيئاً لئلا يملكه شيء، كأي مثقف كوني. وفي هذه الخلطة الفكرية السلوكية العجيبة صار لينين شيخنا الروسي فلاديمير لينين، وصارت ركعة الصلاة ركعة كونفوشية، وما كان لفيلسوفي الصين لاوتسه وكونفوشيوس أن يتركا أثرهما في العلوي لولا نزوعه الروحي إلى المطلق الصوفي، فنجده يعمل أول ما يعمل خلال السنوات الأولى لوصوله إلى الصين، على ترجمة كتاب « التاو» لا كمترجم فحسب، بل كواحد من التاويين أصحاب الطريق القويم. وقد أعجب بالصين والقادة الصينيين: « ومن المفارقات أن راتبي في ذلك الوقت كان أكبر من راتب ماوتسي تونغ وخليفته هوا كوو فُنغ . فقد كان راتبي خمسمئة يوان وراتبهما أربعمئة يوان « !.

ولعل المشاعية وتراثها الصوفي في الحضارتين الإسلامية والصينية، هي التي ألهمت العلوي لإنجاز كتابه «مدارات صوفية «بل وزاد عليه انه وضع في نهاية الكتاب ملحقاً يتضمن برنامجاً للحركة المشاعية العراقية تحت عنوان الهيئة المشاعية العليا في العراق، متخذاً له قول أبو ذر الغفاري شعاراً : «عجبت لمن لا يجد في بيته ما يأكله كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه «. وفي هذا البرنامج لجمهورية هادي العلوي تفرض الهيئة المتخيلة عدداً من المطالب في مقدمتها استحداث وزارة باسم وزارة التنظيم المشاعي للمجتمع ، تُعهد ومؤسساتها إلى أشخاص رحماء موصوفين برقة القلب ونزاهة الضمير بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية وعقائدهم الدينية، ولا يستلم وزيرها راتب وزير بل راتب يُقنَّن بحاجاته الضرورية شأن أي مواطن. ولا تستعمل الوزارة السيارات الفارهة والغالية بل السيارات الشعبية الرخيصة. «!». وماذا بعد أيها الزاهد ؟ تقود الهيئة حملة شعبية للاستيلاء على قصور الدولة وفنادقها السياحية لإسكان المواطنين فيها ومنع توزيع القصور على المثقفين والأدباء والسياسيين الذين يحلمون بوراثتها. وماذا بعد ؟ إلغاء وزارتي الإعلام والثقافة، وتحويل اعتماداتهما إلى وزارة التنظيم المشاعي . « !! « .

كان رحيلك المبكر يا هادي العلوي رحمة لنفسك ودماغك وأعصابك، ورفعاً للإحراج عن الآخرين، فليس لمتصوف زاهد حالم مثلك كرامة في المدينة التي تحتفي بك بعد ربع قرن على رحيلك .

***

د. طه جزّاع – أستاذ فلسفة

تعلمنا كثير من الأدبيات الفلسفية وتعاليم الفلاسفة أن بناء الذات يتطلب الوحدة، واختلف الفلاسفة في تحديد ماهية هذه الوحدة وضروبها، إلا أنهم أقروا على أن حال الذات وسط الجماعة سبيل إلى ذوبانها؛ ومعنى الذوبان هنا هو أن تفقد هذه الذات جوهرها وهويتها الحقيقية، فتغدو ذاتا من الذوات تشترك في جواهر وصفات ولا تكاد تختلف إلا في درجة حضور هذه الصفات، ومن ثم يكون اختلافها اختلافا في الدرجة وليس في النوع. إنهم يرون أن الوحدة هي السبيل لتستكمل الذات ملامحها وتتحلى بسماتها الجوهرية الحقيقية، وبذلك تكون ذاتا حرة قوية ومتفردة. لكن، هل القوة والتفرد يتطلبان العزلة والاعتزال؟ ألا يمكن أن تحقق الذات ذاتيتها وتتحصل جوهرها وهويتها في تفاعلها مع الذوات المحيطة بها؟ أليس وجود الآخر شرطا من شروط وجود الذات؟ أيمكن للذات المنعزلة الوحيدة أن تتشكل بعيدا عن الجدال مع الغرية؟ أليس الغير هو الغريب الذي يسكننا على نحو غريب كما ذهب جوليا كريستيفا؟

إن الفلسفة العملية محك ليختبر الإنسان أفكاره وتأملاته الفلسفية؛ ذلك أنها تتيح لنا تجربة العزلة والألفة، وإقامة مقارنة علمية وعملية بينهما، ومن ثم اختبار الذات لذاتها وجوهرها، أي للثابت فيها والمتحول. وبما أننا قد خضنا غمار الألفة استجابة لنداء الطبيعة البشرية التي تأبى إلا العيش المشترك، وقضينا في رحابها سنوات عديدة من عمرنا، فإننا سعينا جاهدين إلى الانفكاك عن العيش المشترك، والخروج من الكهوف المظلمة طلبا لنور الحرية والتفرد، وهروبا من القيود والأغلال التي تكبل الذات من أعراف وتقاليد وأساطير، وحاولنا أن نكون ذواتا حرة متفردة سمتها القوة والإرادة، وشعارها "لا حرية للذات بوجود الآخرين".

لكن، وآه من لكن هذه، ماذا كانت النتيجة؟ وهل استطعنا أن نلبس ذواتنا الحرية والتفرد والقوة؟ هل استطعنا أن نفكر خارج التقاليد والأعراف، وبعيدا عن كل الأطر الاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية التي نشأنا بين أحضانها؟ هل استطعنا أن نأتي بما لم يسبق إليه الأوائل؟

إن واقع الحال والمآل يخبرنا أننا لم نعش الوحدة والعزلة بمحض إرادتنا، ولم نختر أن نعيش في بعد عن الناس، لا نشاركهم حديثا ولا طعاما ولا حتى نظرة خاطفة. ولعل في هذا اختلافا بين الوحدة التي يختارها المرء بعد طول عيش بين الناس، والوحدة التي تفرضها عليه ظروف الحياة. فهل كانت وحدة الفلاسفة اختيارا أم جبرا؟ أم أن حياتهم اليومية وظروفهم الاجتماعية هما اللتان فرضتا عليهم العزلة والوحدة؟ أم أنهم أحسوا تهديدا لوجودهم وأفكارهم بين الدهماء والحكام، فاختاروا طريق الوحدة والعزلة؟

تختلف أسباب وظروف اختيار المرء للوحدة، وارتماؤه في أحضانها، وتجرعه لعلقمها وشقائها؛ فهذا اختار العزلة لأن أفكاره الجديدة لم تجد قبولا لدى المقلدين، وذاك ارتمى في أحضان العزلة لأن الطبيعة قد أخذت منه صحته وعافيته، فأصبح ميئوسا منه من قبل أقاربه وأصدقائه، وهذا ثالث رأى في العزلة سبيلا للتخلص من الألفة والرتابة اليومية، فاختار اعتزال الناس حتى يحدث تغييرا وحركة دائبين في حياته الراكدة، وذاك رابع آثر الوحدة ترفا وزهدا في الحياة الاجتماعية، وترفعا عن صغائر أمورها... إلا أنهم جميعا لم يكونوا وحيدين بمحض إرادتهم، وإنما اضطروا إلى الوحدة والعزلة.

وأنت أيتها الذات الكاتبة الحائرة، هل اخترت الوحدة والعزلة طوعا أم كرها؟ هل هجرت أهلك وأصدقاءك طلبا للحرية والقوة والتفرد، أم أن الضرورة الاجتماعية دفعتك إلى الوحدة والعزلة دفعا؟ وإن كنت قد اخترت هذا الطريق الموحش تأسيا بالفلاسفة وحبا للتفرد والتحرر، فهل أنت حرة متفردة؟

ما سر عيونك الباكية وملامحك الحزينة؟ أهو حزن على مصيرك وأنت تقبعين في العتمة وحيدة كسيرة، أم حنين إلى الألفة والعيش المشترك؟ هل استطعت الفرار من الناس ودسائسهم، ومن الأقارب والأصدقاء ونفاقهم وتزلفهم؟ أم أنك ما كدت تخرجين من عتمتهم حتى وقعت فريسة لليل بهيم لما ينتقض، فكنت كمن يستجير من الرمضاء بالنار؟

إن الوحدة والعزلة الحقيقيتين لا تكمنان في هجران الناس، ولا الابتعاد عن الحياة وحركيتها والارتماء في نار السكون والجمود. بل إنهما تتحققان في خضم تلك الأجواء الحميمة التي تجمع الذات بما تقرأه، تلك الأجواء التي تتحرر فيها الذات من الحياة الخارجية وتنصهر في حياة القراءة. وهكذا، تجد الذات جوهرها وجها لوجه أمام الحيوات المتعددة التي تحبل بها الكتب. فما من كتاب مركون على الرفوف إلا وقد ضاق ذرعا بالوحدة القاتلة والغبار القذر الذي يعلوه، وما أن يحمله قارئ حتى يفتح دفتيه مرحبا به وساعيا إلى عناقه.

فما أجمل عناق الوحيد للوحيد! وما أعمق إحساس المعتزلي بالمهجور المنسي! فالقارئ والكتاب كلتاهما وحيد أعزل مهجور منسي، وعلى قدر اقتراب القارئ المتعطش إلى التحرر والتفرد والقوة من الكتاب المنسي المهجور، تصقل ذاته ويُبنى جوهرها وحريتها، وتتلبس بتفردها وصفائها.

***

محمد الورداشي

أتضح لنا بشكل واضح وجلي من خلال الحلقات السابقة بأن الرسول كما وصفه القرآن الكريم، الذي هو كلام الله المنزل على نبيه محمد (ص) (قل انما أنا بشر مثلكم يوحى اليَّ، أنما الهكم واحد...)(الكهف:110) فالرسول (ص) له صفة الناطقية الموحى بها من الله على لسان محمد (ص) . هذه المهمة الوظيفية الناطقية لا تعطي أمتياز للنبي فوق طبيعة البشر، بل تخصه بخصوصية قدسية النبوة، ومقامها المقدس، وما يتمتع به هذا المقام من أقصى درجات الأمانة والصبر، والأرادة والشجاعة، والفداء والتضحية، وهي صفات تجسدت به أساساً، وأعده الله بها بما أدبه عليها، وكان خلقه القرآن، وتبقى هذه الصفات تندرج ضمن نطاق الأنسان، وأن كان هذا الأنسان النبي يتجلى بصفة الكمال الأنساني. ولكي نضع الأمور في نصابها، وكما يصوره القرآن في نصوصه التي بين دفتيه، والتي علينا كمسلمين الأيمان بها، والألتزام بما تلزمه علينا، هو أن نقر بما يقره القرآن، وأن نلتزم به حرفياً، وبما تسمح به كلماته من تأويل لا يبتعد عن المنطق . فالقرآن الكريم يزودنا بمعرفة واضحة عن أمكانيات الرسول، وصفاته، ومهامه الملقات على عاتقه، والقرآن كلام أنزله الله بلغة عربية فصيحة (انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(يوسف:2)، نرفع هذه المقدمة للقاريء الكريم لغرض مفاده أن الرسول (ص) لا تتعدى مهامه، المهام التي وظفه الله لها، وهو التبليغ (وما على الرسول الا البلاغ المبين) ولاشك ما للتبليغ من أدوات، والتي تختلف من زمن الى آخر، كما أن الرسول لم يكتسب صفات هي من صفات الله، والتي منها كمال القوة والقدرة، وعلم الغيب، فالرسول محدود بحدود وطاقة وعلم البشر (أنما أنا بشر مثلكم يوحى الي...)(الكهف:110)، فكلمة مثلكم، أي تعني التساوي بالقدرة والقابلية، سواء كانت جسدية أو عقلية ونفسية، ولكن الفارق هو أن الرسول يوحى له .

في هذه الحلقة أسعى الى التطرق الى مدى علمية الرسول العملية والمحضة، وهل هو يعلم الغيب؟ . أنا سوف ألزم نفسي، ما ألزمني به القرآن، وما يقوله الرسول محمد (ص)، وأن الأمر لا يخضع لا للهوى، ولا للمزاج، لأنه أمر غير أنطباعي ولا عاطفي، فهو أمر ينبغي أن يكون كما يريد له الله، لا كما نريده نحن، وما تهواه أنفسنا، ومن الضروري أن نذكر ما يقوله الرسول نفسه عن نفسه (واني والله ما أعلم الا ما علمني الله)، أذن كل ما يتمتع به من علم، ومنه علم الغيب هو بمقدار ما سمح به الله له، والقرآن الكريم واضح في ذلك (فلا يظهر على غيبه أحد إلا من أرتضى من رسول)(الجن: ٢٦) وهو نفسه من قال (انما أنا متبع ما أوحى الله تعالى، غير شارع شيئاً من جهتي ولا أعلم ماوراء هذا الجدار الا أن يعلمني ربي) فالرسول مقيد بقيد الوحي تماماً، وخير دليل في ذلك هو عندما نزلت الآية الكريمة التالية (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، والمجاهدون في سبيل الله ...)(النساء:95) والذي يُذكر أن زيد بن ثابت هو من أمره الرسول بالكتابة لهذه الآية، حيث لم يكن فيها عبارة (غير أولي الضرر)، وحين سأل رجل ضرير الرسول (ص) حين سمع بفضل المجاهدون، فقال له يارسول الله، كيف وأنا رجل ضرير، فرد عليه النبي (ص) بكلمة لا أدري، فيقول زيد وبينما قلمي لم يجف مداده، غشيه الله غشيه، فقال أكتب يازيد (غير أولي الضرر)، وهنا يُعلق الرسول الجواب على الحكم الى أن يأتي له من المرسل (الله)، فالعملية في غاية الأحكام والتقيد، خالية من كل تفويض للرسول، الا ما يأتيه من الله، وهنا ومن باب الخروج قليلاً عن نطاق البحث هو أن هذه الآية تدل دلالة واضحة على عدم أزلية ما يدعيه البعض من فكرة أزلية القرأن، والتي أخذت جدل واسع فيما يُعرف بقضية قدم القرآن، وهي قضية حُكم على البعض بها بالأعدام على من قال بحدوث القرآن الكريم في زمن الدولة العباسية، وكانت تُسمى بمحنة خلق القرآن، والتي أستمرت حوالي ثلاثين سنة أبتدأت من عهد الخليفة العباسي المأمون، وكان أحمد بن حنبل ممن جُلد وحُبس لقوله بعدم خلق القرآن.

نتناول هنا عنصرين مهمين في شخصية الرسول، ومدى ما يمتلك من قدرة فيهما، وهو العلم بشكل عام، ومدى علمه بالغيب، وقد أُثير، وقِيل عنها الكثير، وهُول عنها الكثير، وهو كلام لم يأتي عن الرسول نفسه، ولا من القرآن، ولكن جاء عن طريق المغالين من المهوسين، وقسم من قِبل ناس جهله، لم يقصدوا المبالغة، ولكن من الحب والشغف بشخص الرسول، من قِبل ناس بسطاء لم يعوا حقيقة الرسول الأكرم كما هي، فطبيعة الأنسان، وخاصة أنسان ذلك الزمن، يميل الى الأسطرة، وهناك ما يبالغ بدافع المنافحة بين أصحاب العقائد المختلفة، فمثلاً في مجال العلم بشكل عام، فالرسول ليس عالم فيزياء ولا كيمياء ولا فلك، وهو لم يدعي هذا أطلاقاً، وليس له من العلم الا ما علمه الله، وقد قال له الله في كتابه الكريم (وَأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعَلمك مالم تكن تَعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً)(النساء:١١٣) و(ولاتقف ماليس لك به من العلم) (الأسراء:36) أي أن الرسول ليس لديه كل العلم، وأنما محصور بما يُطلع عليه وهناك أحداث تدل دلالة واضحة على أن الرسول في الأمور الحياتية والعملية له من العلم بحدود تجربته ومن خلال ماتعلمه من مجتمعة، وهو كانسان لم يتجاوز الحدود المعرفية السائده في مجتمعة، ولنا في مسألة تأبير النخيل خير مثال على ذلك، والتأبير هو التلقيح، حيث مر بمجموعة من الفلاحين يلقحون أعثاق النخيل، فقال ماتصنعون، فقالوا له أشياء كنا نصنعها في الجاهلية، فقال:لعلكم لو لم تصنعوها كان خيراً، فَتركوها مما جعلها لم تثمر،فَذُكر له ذلك، فقال: انما أنا بشر أذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فأنما هو بوحي، واذا أخبرتكم بشيء من أمر دنياكم فأنما أنا بشر. هذه الرواية تدل بشكل واضح جداً بأن الرسول ينقل ما هو تام، ولا يقبل الخطأ عن طريق الوحي فقط لأنه كلام الله، أما ما يخص التجربة الحياتية والشخصية فهي قابلة للخطأ والصواب، لأن للرسول بُعدين، بُعد الألهام والوحي، وبعد التجربة الحياتية الخاصة، وقد حدث مثل ذلك في مجال الحرب، وهو بُعد يندرج تحت التجربة الأنسانية والحياتية للرسول، وذلك عندما تجحفلوا الى معركة بدر، وقد أقاموا في منطقة معينه فجاءه رجل من بني سلمة يقال له الحباب بن المنذر فقال (يارسول الله، أريت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء، ثم نقاتل القوم فننزله، ثم نغِّور ماوراءه من القُلب (الآبار)....فقال رسول الله لقد أشرت بالرأي (ابن هشام:ج2،ص204).

فالرسول (ص) لا يعلم الغيب الا مايعلمه الله منه، والروح من علم الغيب لكنه محظور علمها على الرسول، وقد جاء بالقرآن الكريم (يسألونك عن الروح قُل الروح من أمر ربي) (الأسراء:85) و جاء أيضاً (رَفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده...)(غافر:15)، فالروح أمر غيبي ولكنه مخصوص بالخالق، ولم يتاح لمخلوق ومنهم الأنبياء معرفته . ننقل في هذا الصدد للقاريء الكريم حديث يوضح فيه عدم علمه بالغيب الا مايعلمه الله به، فقد جاء على لسان النبي حديث يقول فيه (انما أنا بشر وانه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فانما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها) وهذا الحديث عن أم سلمة، وقاله عندما سمع خصومة بباب حجرته بين بعض المتخاصمين، فالموضوع المهم بالحديث، والذي يمكن أن نستنتجه، هو لو أن الرسول يعلم الغيب لما أحتاج أن يستمع أليهم، ولما قال بأحتمالية أن يكون الحكم لمن يكون كلامه ألحن من كلام خصمه فيحكم له، وقد يكون بسبب مايملكه من لباقة عالية في الكلام أتجاه خصمة فيكسب القضية وهو ظالم لخصمه، وهنا يحذر الرسول (ص) هذا الذي ألحن بكلامه وظلم خصمه بأن يتبوء مقعده من النار. كل هذه الحالات وغيرها الكثير والتي سنتطرق أليها في الحلقات القادمة لتدل دلالة واضحة على عدم أمتلاك الرسول للعلم بشكل غير محدود ولا يعلم بالغيب الا ما يمده الله به (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها الا هو) و (قل لايعلم من في السماوات والأرض الغيب الا الله ..)(النمل:65). فعلم الغيب هو حكر ألهي لا يشاطره به أحد من خلقه، وهو من يسمح بأفاضته على أحد من خلقه وبمستوى هو يقدره. سبق وأن قلنا أن الرسول محفوف برعاية الله بأعتباره ناقل أمين لوحيه، والمساهم في تربيته، والمزود له ببعض مفاتيح الغيب، التي شاءت قدرته أن يزوده بها لأمر متعلق بالرسالة، وليس لأنه محمد، وكل ذلك هو فضل من الله لنبيه لتكون عامل مساعد في تذليل كل مايعتريه من صعاب في طريق تبليغ رسالة ربه (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمَّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شي وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)(النسا133)، وخلاصة ما يمكن قوله في هذه الحلقة أن الرسول لم يكن قائل، وأنما مأمور بالقول، ولم يكن هو من يُجيب على سؤال السائل، وأنما ناقل للجواب، وينطبق نفس الحال على أمر الغيب، فكان صلوات الله عليه لا يعلم الغيب، الا بعد أن يُعلمه الله به (ان أتبع الا ما يوحى اليَّ)(الأنعام:50)، يمكنني هنا أن أذكر آيتين تفصح عن واقع حال الرسول (ص) بأنه محدود العلم والصلاحية (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ماشاء الله) الأعراف:188) و (قل ماكنت بدعاً من الرسل، وما أدري مايفعل بي ولا بكم ان أَتبع الا ما يوحى اليَّ وما أنا الا نذير مُبين) (الأحقاف:9).... يتبع

***

أياد الزهيري

الابتعاث والدراسة العليا في الجامعات الغربية

تلعب الدراسات العليا دورا مهما في تشكيل مستقبل العراقيين الذين يسعون للحصول على مؤهلات أكاديمية متقدمة. بالنسبة لهؤلاء الطلاب، فإن الحصول على درجة الماجستير او الدكتوراه في الجامعات الغربية لا بديل له لما له من أهمية كبيرة بسبب المزايا والفرص العديدة التي توفرها الأنظمة التعليمية في هذه الدول مقارنة بالدراسات المماثلة في أي مكان آخر.

استفاد العراق، كما استفادت الصين ودول شرق اسيا والخليج العربي، كثيرا من دراسة طلابه في الجامعات الغربية والأمريكية في دعم وتطوير تعليمه العالي وجامعاته الوطنية ومن خلال اكتساب المعرفة والخبرة الخلاّقة، وتعزيز التعاون والتبادل التعليمي مع ارقى الجامعات، وتحسنت لذلك سمعة العراق الاكاديمية. فمن جانب واحد، استفاد الطلاب الذين درسوا في امريكا وبريطانيا ودول غربية اخرى من تعرضهم لثقافات ومجتمعات مختلفة، وتحسين لغاتهم ومهاراتهم التواصلية، وتوسيع شبكاتهم وآفاقهم. كما تمكن هؤلاء الطلاب أن يسهموا في نشر معارفهم وخبراتهم عن العراق في أوساط الاساتذة والزملاء في الجامعات التي يدرسون فيها. من جانب آخر، تمكنت الجامعات التي استقبلتهم عند عودتهم من الاستفادة في الارتقاء بالتدريس وفي تعزيز التنوع والشمولية في بيئتها التعليمية وتطوير مناهجها وتحقيق المزيد من التعاون بين الاكاديميين والباحثين وتشجيع التعلم المستمر والابتكار المشترك.

ما هي المزيا التي توفرها الدراسة في الجامعات الغربية؟

أولاً، تشتهر البلدان الغربية خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا بجامعاتها ومؤسساتها البحثية المرموقة التي تقدم تجارب تعليمية استثنائية. نتيجة لذلك، توفر برامج الدراسات العليا في هذه البلدان إمكانية الاحتكاك بأعضاء هيئة التدريس من الطراز العالمي الخبراء في مجالات تخصصهم. يعمل التوجيه والإرشاد الذي يقدمه هؤلاء الأساتذة المتميزون على تعزيز القدرات البحثية والنمو الفكري والبحثي للطلاب العراقيين، مما يمكنهم من المساهمة بفعالية وتميز في المجالات التي يرغبون فيها عند الانتهاء من دراساتهم.

ثانيا، تعتبر النزاهة الاكاديمية أحد الجوانب المهمة للدراسة في جامعة غربية، مما يعني أن تكون صادقا وأخلاقيا في عملك الأكاديمي. تتضمن النزاهة الاكاديمية اتباع قواعد ومعايير الجامعة، مثل تجنب الانتحال والغش والتواطؤ بالضد من المصالح العامة للجامعة او الدفع لشخص اخر للقيام بعملك نيابة عنك.

تتضمن النزاهة الاكاديمية أيضا مسؤوليات أكاديمية، مما يعني أن تكون مسؤولاً ومحترماً في عملك الأكاديمي. تشمل المسؤوليات الأكاديمية الحضور في القاعات الدراسية واستكمال المهام في الوقت المحدد والمشاركة في المناقشات وإعطاء الملاحظات واتباع التعليمات. تشمل المسؤوليات الأكاديمية أيضا احترام حقوق وآراء الآخرين، مثل زملائك في الفصل والمدرسين والباحثين.

تستند النزاهة والمسؤوليات الأكاديمية إلى الأخلاق الأكاديمية، وهي المبادئ والقيم الأخلاقية التي توجه السلوك الأكاديمي. وتشمل الأخلاقيات الأكاديمية الصدق والثقة والإنصاف والاحترام والمسؤولية والشجاعة . تساعد هذه القيم في إنشاء مجتمع مخصص للتعلم وتبادل الأفكار، كما تساعد الأخلاقيات الأكاديمية أيضا في حماية نزاهة وجودة العمل الأكاديمي، مثل التدريس والبحث والنشر.

تساعد الجامعات الغربية الطلاب الاجانب على التعرف على النزاهة الاكاديمية والمسؤوليات والأخلاق بطرق مختلفة. بعض الطرق هي:

- توفير معلومات ومصادر عن النزاهة الأكاديمية على مواقعهم على الإنترنت أو في مناهجهم الدراسية.

- تقديم ورش عمل أو وحدات حول النزاهة الأكاديمية للطلاب للتعرف على قواعد وتوقعات السلوك الأكاديمي.

- استخدام برامج أو أدوات لاكتشاف السرقة الأدبية أو الغش في عمل الطلاب.

- إبداء الملاحظات أو العقوبات على سوء السلوك الأكاديمي حسب سياسات الجامعة.

- تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة أو طلب المساعدة من المدرسين أو أمناء المكتبات إذا كانوا غير متأكدين من قضايا النزاهة الأكاديمية.

- نشر ثقافة النزاهة الأكاديمية بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من خلال التكريم أو الجوائز.

ثالثا، تقدم برامج الدراسات العليا في الجامعات الغربية مجموعة واسعة من فرص البحث والتعاون والوصول إلى المرافق المتطورة. تخصص بلدان هذه الجامعات موارد مالية كبيرة لدعم المساعي البحثية، مما يسمح للطلاب بإجراء دراسات عالية الجودة ومؤثرة. يؤدي هذا الوصول إلى أحدث المرافق والموارد إلى دفع النتائج الأكاديمية والبحثية للطلاب الى اعلى المستويات العالمية، وتزويدهم بالمهارات والمعرفة اللازمة للتميز في المجالات التي يختارونها.

علاوة على ذلك، تعطي الجامعات الغربية الأولوية للدراسات متعددة التخصصات وتشجع التعاون عبر مختلف التخصصات. هذا التركيز على البحث متعدد التخصصات يعزز الابتكار ويمكّن الطلاب من استكشاف مجالات متنوعة، مما يوفر منظورا أوسع للمشكلات المعقدة. من خلال الانخراط مع العلماء من مختلف المجالات، يمكن للطلاب تطوير مناهج متعددة التخصصات لمعالجة التحديات المجتمعية، مما يجعل أبحاثهم أكثر صلة وشمولية وتأثيرا، واهمية لبلدهم العراق.

كذلك، تقدم الجامعات الغربية شبكات أكاديمية ومهنية نابضة بالحياة تمتد إلى ما وراء الحرم الجامعي. في بلدان هذه الجامعات، يمكن للطلاب الوصول إلى العديد من المؤتمرات والندوات وورش العمل والمنظمات المهنية، مما يمكنهم من التواصل والتعاون مع الخبراء والباحثين والممارسين في مجالات تخصصهم. لا يؤدي هذا التعرض إلى تعزيز شبكتهم الأكاديمية والبحثية فحسب، بل يفتح أيضا الأبواب أمام العديد من الفرص المهنية والتعاون في جميع أنحاء العالم والاستفادة منهم في تنمية العراق.

وغالبا ما توفر برامج الدراسات العليا في الجامعات الغربية خيارات تمويل أفضل للطلاب الدوليين مقارنة بجامعات الدول الأخرى. المنح الدراسية والمساعدات متاحة بشكل عام، مما يخفف العبء المالي عن الطلاب الاجانب الذين يتابعون دراساتهم المتقدمة. يتيح هذا الدعم المالي للطلاب التركيز بشكل أكبر على أبحاثهم ومساعيهم الأكاديمية، بدلاً من القلق بشأن نفقات معيشتهم أو الرسوم الدراسية.

كما ان متابعة الدراسات العليا في جامعات الدول الغربية ليس فقط الافضل للطلبة وانما هو الخيار الأفضل للتعليم العالي في العراق وللبلد ككل. وذلك لعدة اسباب منها:

1. جودة التعليم: في الدول الغربية يوجد بعض من أفضل أنظمة التعليم العالي في العالم. تشتهر جامعاتها بالمعايير الأكاديمية العالية، والمناهج الصارمة، ومرافق البحث المتقدمة.

2. الاعتراف العالمي: الدرجات التي يتم الحصول عليها من الجامعات الاوربية خصوصا المتميزة منها كاكسفورد وكمبردج ولندن وهارفارد وييل وستانفورد وباريس والسوربورن وميونخ وهايدلبيرغ و ETH زيورخ ليس فقط معترف بها عالميا وانما تحظى بتقدير واحترام كبيرين.

3. فرص البحث: الولايات المتحدة والدول الأوروبية في طليعة البحث والابتكار في مختلف المجالات.

4. التبادل الثقافي: الدراسة في الجامعات الغربية تساعد على تعزيز التبادل الثقافي والتفاهم. يمكن أن يؤدي هذا التعرض للثقافات والأفكار المختلفة إلى تعزيز التسامح والانفتاح الذهني والنزاهة الاكاديمية والبحثية والقدرة على العمل بفعالية مع أفراد من خلفيات مختلفة - وهي مهارات تزداد أهمية في عالم اليوم المعولم.

5. الشبكات والاتصالات: توفر الدراسة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية فرصا كبيرة لإنشاء شبكات واتصالات مهنية قيّمة. يمكن أن تكون هذه الشبكات مفيدة ليس فقط للنمو الوظيفي الفردي ولكن أيضا لتنمية اقتصاد العراق حيث إنها تعزز شراكاته الأكاديمية الدولية.

6. نقل المعرفة وتطويرها: من خلال متابعة التعليم العالي في جامعات الدول الغربية، يمكن للطلاب العراقيين اكتساب المعرفة والمهارات والخبرات التي يمكن أن تسهم في تنمية العراق. يمكن أن يلعب نقل المعرفة هذا دورا حيويا في نمو وتقدم العراق حيث يسعى إلى بناء مستقبل قوي ومزدهر.

بشكل عام، توفر الدراسة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية للعراق مزايا عديدة تساهم في تنمية البلاد حيث يسعى إلى إنشاء قوة اكاديمية وعلمية وتكنولوجية ماهرة وجيدة التعليم.

وباختصار، لا يمكن المبالغة في أهمية الدراسات العليا للطلاب العراقيين في اوربا وامريكا واستراليا. إن الفرص التعليمية الاستثنائية، والوصول إلى أعضاء هيئة التدريس على مستوى عالمي، ومرافق البحث المتطورة، والتركيز متعدد التخصصات، والنزاهة الاكاديمية، والشبكات الأكاديمية النابضة بالحياة، وخيارات التمويل الأفضل تجعل هذه البلدان مفيدة للغاية لدراسات الدكتوراه. من خلال متابعة برامج الدكتوراه في الجامعات الغربية، يمكن للطلاب العراقيين اكتساب ميزة تنافسية، والتطور كباحثين مستقلين، والمساهمة بشكل هادف في مجالات دراستهم عند عودتهم إلى العراق.

***

ا. د. محمد الربيعي

لا يخفى أن غالبية المدن التاريخية ذات الباع الحضاري الطويل كانت قد أقيمت عند سواحل البحار أو على مجاري الأنهار، وهو الأمر الذي جعل مصيرها التاريخي والحضاري مرتبطا"ومقترنا"بمصير تلك البحار والأنهار، سواء فيما يتعلق بضمان أمنها الإقليمي والسكاني، أو فيما يتصل بتأمين مصادر احتياجها الاقتصادي والتجاري . ولعل مدن العراق منذ عصور ما قبل التاريخ ولحد الآن تعد شاهدا"على مصداقية هذا الاستنتاج الانثروبو- ايكولوجي، حيث تغيرت في العديد من الحالات مصائر الكثير من المدن التي شيدها الإنسان العراقي القديم على ضفاف نهري دجلة والفرات، اثر التحولات الطوبوغرافية التي تعرضت لها مجاري النهرين على مدى مئات وآلاف السنين، ناهيك عن تواتر ظاهرة الفيضانات الموسمية التي كانت من جملة عوامل اندراس تلك المدن واندثار حضاراتها .

وعلى الرغم من فداحة الأضرار التي ألحقها كل من النهرين المذكورين (دجلة والفرات) بمدن العراق وسكانها، سواء في حالة تحول مجراهما وتغير مسارهما، أو في حالة ارتفاع مناسيب مياههما والتسبب بحصول فيضاناتهما المدمرة، على مدى قرون، للحدّ الذي ان آثار ذلك النفسية والسلوكية والفنية تغلغت عميقا"بين طيات الذاكرة التاريخية وضمن مخزون المتخيل الجمعي العراقي . بيد أن حرارة عشق العراقيين لهذين النهرين لم تفتر رغم تعاقب الحقب وتناوب الأجيال، لا بل ان تغني الشعراء والأدباء بهما وتقريظ الجغرافيين والمؤرخين والآثاريين لهما - لاسيما حيال أهمية دوريهما في صيرورة الحضارة العراقية المؤمثلة، وسيرورة تاريخ جماعاتها ومكوناتها المطلسمة - قد تضاعف وتعاظم مع مرّ الأيام وتوالي السنين . للحدّ الذي يبدو أن أي دراسة تتناول قضايا المجتمع العراقي - ماضيا"وحاضرا"- لا تضع باعتبارها تلك العلاقة العضوية والرابطة الجدلية بين ثالوث (الجغرافيا – الايكولوجيا – الانثروبولوجيا)، سيكون مصيرها الفشل .

ولعل هذا التمجيد والتخليد المفرط لهذين النهرين متأت من واقعة استبطان الوعي الجمعي العراقي لحقيقة قد تبدو غير مدركة من قبل البعض مفادها ؛ ان مصير الكيان العراقي (أرضا"وشعبا"وحضارة) مرتهن ليس فقط بوجود النهرين جغرافيا"وطوبوغرافيا"فحسب، وإنما مرتبط بضرورة تعافيهما الايكولوجي وغنائهما الإحيائي أيضا". ولكن، وبالرغم من كل هذا الاحتفاء التقريظي الذي يبديه العراقيين حيال ما يزعمون من أهمية لدور النهرين المذكورين، فان الأمر لا يخلو من المفارقات والتناقضات التي بات المجتمع العراقي (خبير) بإنتاجها وترويجها على نحو لا يحسد عليه .

إذ بقدر ما يبدو ان العراقيين حريصين على سلامة شرياني بلاد الرافدين وضمان تدفق نسغ الحياة فيهما (الماء)، بقدر ما يبرهنون عمليا"وفعليا"على زهدهم بأهميتهما وتبخيسهم لقيمتهما، عبر الكثير من الممارسات الضارة والفعاليات المدمرة التي لا تقتصر فقط على (الهدر) الاعتباطي لمياههما الشحيحة أصلا"فحسب . بل وكذلك تعمد الإساءات اليومية لحوضهما عبر تحويلهما الى مكب عام للنفايات ؛ سواء برمي الأنقاض والأوساخ فيهما، أو بإقامة المشاريع السكنية والترفيهية العشوائية على دفتيهما، دون تخطيط مديني مدروس أو اعتماد ضوابط حضرية ملزمة، بحيث باتا يعانيان الاختناق في المسار الجغرافي والضيق في المجال الطوبوغرافي، فضلا"عن استشراء مظاهر التلوث في صلاحية ماء النهرين للاستهلاك البشري مع القضاء على تنوعهما الإحيائي والايكولوجي .

وبدلا"من أن تهتم الحكومات (الوطنية) المتعاقبة بإنشاء السدود على مجاري تينك النهرين العظيمين وتحسين شبكات الري، تحسبا"للظروف الطارئة والأوضاع الاستثنائية – كما هي الحال في الآونة الأخيرة – من جهة، ولضمان نجاح الخطط والمشاريع التنموية في المجالات الصناعية والزراعية، ومن ثم تحقيق الاكتفاء الذاتي في مضامير الأمن المائي والغذائي للعراق من جهة أخرى . فقد تماثلت مواقف تلك الحكومات (اللاوطنية) وتشابهت إجراءاتها فيما يتعلق بإهدار تلك الثروة والتفريط بقيمتها الحيوية، على النحو الذي سمح لدول الجوار الجغرافي (تركيا وإيران) بممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية عبر سياسات (التعطيش) المتعمدة، كلما دعت الحاجة لإجبار العراق على الرضوخ لاملاءات هذا الطرف والاستجابة لشروط ذاك، للحدّ الذي بات معه مستقبل بلاد الرافدين رهينة للمصالح الإقليمية والدولية التي لن يهمها ما سوف يحيق بمصير العراق من خراب حضاري ويباب إنساني، لاسيما وأن مخاطر جفاف الأنهار، ومظاهر التصحر، والاحتباس الحراري، والتغييرات المناخية، باتت واقعا"قائما"لا تفتأ تهدد وجودنا بأية لحظة ! .

***

ثامر عباس

يعد موضوع المثلية الجنسية Homosexuality  من أكبر مشاكل الفلسفة الاجتماعية في وقتنا الحالي، وهذا يرجع إلى أسباب كثيرة، ويأتي في مقدمتها، محاولة فرض المثلية بالقوة كواقع على المجتمعات، ولا سيما المجتمعات العربية ؛ وذلك لكونها تمثل أحد أشكال الشذوذ الجنسي والتي تتضمن وجود المشاعر الرومانسية،والانجذاب الجنسي لأفراد من نفس الجنس والرغبة بممارسة الجنس معهم.

ومصطلح المثلية الجنسية ظهر سنة 1869، وما قبل ذلك فقد كان يستخدم لفظ " اللواط" و" حب الغلمان"، ويأتي تحت لفظ المثلية عدد من الأنواع منها: انجذاب الشخص عاطفيا وجنسيا لنفس نوعه، مثل انجذاب الذكر للذكر، وانجذاب الأنثى للأنثى، وكذلك يضم أيضا ازدواج الميول الجنسية، أي ميل الشخص للرجال والنساء معا، ومزدوجي الجنس والذين يميلون لأي فرد بغض النظر عن جنسه، وعديمي الجنس، وهؤلاء ليس لديهم ميول جنسية لأي نوع، وهذا يضم كل الذين يحبون الأطفال الصغار .

ويجب علينا ألا نخلط بين المثلية الجنسية وبين اضطراب الهوية الجنسية، كأن يكون الشخص ذكرا، لكنه لا يشعر أنه ذكر، وغير قابل لنفسه بأنه ذكر، وفي ذات الوقت يشعر بداخله أنه انثى، وهذه يمثل شيء مختلف .

وهناك اختلاف أكاديمي لتعريف المثلية الجنسية وتاريخ ظهورها، فهناك رأي يقول بأن المثلية الجنسية بكل أشكالها توجد في كل زمان ومكان، وهذا هو الرأي الأشهر، وإنما هناك رأي يقول بأن المثلية الجنسية تُخلق نتيجة للظروف، والمثلية الجنسية كانت حاضرة على مر العصور، وهناك شخصيات تاريخية اشتهرت بالمثلية الجنسية، ومنهم ملوك وأباطرة .

ففي أوروبا وفي روما بالتحديد كان للأباطرة شركاء ذكوراً فيما عدا كلوديوس، وفي عصر النهضة اشتهرت إيطاليا بالحب المثلي وكانت تقام علاقات مثلية أحياناً بشكلٍ علنيّ لكن السلطات كانت تعدم وتعاقب نسبة كبيرة منهم، حيث كانت معظم أوروبا منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر تعاقب المثليين بالإعدام، لكن أوروبا اليوم تعتبر المثلية ميول جنسي عادي لا يُعاقب عليه الفرد.

وأقدم تصوير للممارسات المثلية تم تسجيله على الآثار الحجرية في القرن العاشر قبل الميلاد بمدينة صقلية الإيطالية، وكذلك نجد آثار تلك الممارسات نجدها مسجلة على جدران المعابد المصرية القديمة، والحضارة الأشورية، والحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، .. إلخ.

بيد أن الرسالات السماوية قد حرمت المثلية الجنسية واعتبرتها من الكبائر، وذلك لكونها نتحرف عن الفطرة وعن القاعدة الأساسية للخلق، وهو تعميم سير الكون، ويستحق ممارسيها العذاب الأليم، وذلك مثلما حدث مع قوم لوط .

وبعد ختام الرسالات رأينا كثير من المجتمعات ترفضها كذلك، ولكن مع العصر العباسي والمملوكي أخذت المثلية الجنسية تنتشر، وبدأ يقال أسماء لخلفاء وأمراء مارسوا المثلية الجنسية، ويتفق أغلب المؤرخين على أن زمن حكم الدولة العباسية شهد شيوع (أزدهار بتعبيرهم) المثليين الجنسيين، إذ يذكر الطبري أن الخليفة الأمين "طلب الخصيان وأتباعهم وغالى بهم وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره، ورفض النساء الحرائر والإماء"، وأن والدته حاولت، بعد ان عجزت عن نصحه، أن تبعده بأن جاءت له بفتيات يشبهن الغلمان وفشلت ايضا؛ والأكثر أنه كان يتباهى بعشقه لغلام يدعى "كوثر" ويتغزل به شعرا:

"كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي ..أعجز الناس الذي يلحى محبا في حبيب."

ناهيك عن اشتهار أهل تلك العصور بعشق الصبيان بشكل صريح، مثل الدولة العثمانية، والتي انتشرت فيها الممارسات الشاذة مع الصبيان، والمعروفة باسم " الكوك"، وفيها يتم ارتداء الأولاد ملابس نسائية، ويجملوا وجوهم بالمكياج، ويجعلونهم يرقصون أمام مجموعة من الرجال، وفي النهاية كل رجل يختار صبي من تلك الصبيان ويمارس معه الجنس .

والغريب ورغم أن المثلية الجنسية محرمة عند العرب، إلا أن شعراء العرب كانوا يكتبون أشعار تتحدث عن المثلية الجنسية وتتعزل في الصبيان مثل " أبي نواس" .

وفي ستينات القرن الماضي حدث تحول في موضوع المثلية الجنسية حيث تم تسجيل أول تجمع عالمي للمثليين في الولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم ذلك ظلت كثير من المجتمعات ترفض المثلية الجنسية، حتى فترة قريبة كان علم الطب وعلم النفس يعتبر المثلية الجنسية مرض.

ولكن في عام 1973 تغيرت النظرة لموضوع المثلية الجنسية بشكل مفاجئ والسبب يعود إلى أن الجمعية الأمريكية للطب النفسي خذفت المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، ونفس الشيء فعلته جمعية علم النفس الأمريكية، التي قد أكدت أن الأبحاث أظهرت أن المثلية الجنسية بأشكالها لا تمثل مرض، وإنما يوجد لديها نشاط جنسي للبشر .

وعلى إثر هذا التغير المفاجئ خرجت حركات تطالب بحق المثليين في تقبل المجتمع لهم، وسن القوانين التي تسمح بزواجهم من بعضهم بعض، وفي تسعينات القرن الماضي انفجرت القنبلة وظهرت دراسة تؤكد أن المثلية الجنسية تحدث بسبب الحمض النووي للإنسان، وبناءاً على هذا البحث، فالمثلية الجنسية لن تكون اختيارية، بل صفة بيولوجية ووراثية  ,

وفي عام 2019 تم حذف المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، بل أصبح يوم 17 مايو من كل عام يومًا لتنظيم مسيرات مؤيدة للمثلية في مدن مختلفة من العالم، وانتقلت المثلية من حالة العيب والعار الأخلاقي والاجتماعي (منظور الفعل) إلى حالة الإظهار بل والافتخار تحت مسمى لافتة محاربة "رهاب المثلية" (منظور الهوية).

وفي هذا الإطار كان ثمة محاولات لإعادة تفسير السلوك المثليّ الجنسيّ من منظورات علمية، ويمكن أن نرصد هنا أطروحة قامت بتحلل بيانات الحمض النووي والممارسات الجنسية لأكثر من نصف مليون شخص في بريطانيا وأمريكا، وتوصلت أن الجينات بريئة من تهمة المثلية الجنسية براءة الذئب من دم ابن يعقوب ؛ بمعنى أن الموضوع لا يحمل في طياته عامل وراثي ولا اختلاف جيني، وأكد الباحثون في تلك الدراسة أن المسئول عن المثلية الجنسية يعود لعوامل خارجية، مثل: البيئة، والتنشئة الاجتماعية، والعوامل الاجتماعية والشخصية والعاطفية والنفس .

ولكن برغم التأكيد أن المثلية الجنسية اختيارية ويمارسها الأفراد بمحض إرادتهم، إلا أننا فوجئنا أننا محاصرين بالشواذ، وأن مجتمع الميم يفرض نفسه علينا ببشاعة، علاوة على وجود أيادي خفية تلعب في المجتمعات وتسوق للمظلومية المثلية، فبدأنا نرى أعلام ملونة، ومظاهرات، ومسيرات، وإعلانات لمشاهير يعترفون أنهم شواذ، واضطرت الدول الأوربية وأمريكا تعترف بهم وبحقهم في العيش في المجتمع .

ففي عام 2001 قررت هولندا زواج المثليين واعتبرتهم متساويين مع الأشخاص العاديين، ولهم نفس الحقوق والرعاية، ليس هذا فقط، بل رأينا أن العائلة المالكة في هولندا قد سمحت لإحدى بناتها أن تتزوج من بنت مثلها، واعترفوا بالأسرة المثلية وبحقهم في تنبي أطفالا كما يشاءون .

ومن هولندا انتقل موضوع الاعتراف بالمثلية الجنسية إلى 27 دولة أوربية تعترف بحث المثليين في زواج أشخاص من نفس الجنس، وتعظيهم الحق في تكوين أسرة وتبني الأطفال، ومع أن المسيحية قد حرمت المثلية، إلا أن البابا "فرنسيس" بابا الفاتيكان صرح بأنه من حق المثليين أن يقيموا عائلة، وقد رأينا أنه في عام 2019 تم الحكم بالسجن في أمريكا على  شخص بخمسة عشر عاما، وذلك لأنه ألقى علم المثليين في الأرض كان معلقا ثم حرقه.

والآن أضحت المثلية الجنسية في نظر كثير من الناس تمثل مشروع سياسي، واقتصادي يغزو العالم، واًصبح مباحا على مواقع التواصل الاجتماعي، كان تجد جروبات تسمي بمجتمع " الميم"، وفيها ملايين من الأشخاص يتحدثون مع بعضهم البعض، ويتناقشون في كل الموضوعات التي تخصهم، وحقهم على المجتمع في الاعتراف بهم، ولا سيما في المجتمعات العربية والتي ما زالت ضدهم.

وبناءً على ما سبق، أقول مع الأستاذ معتز الخطيب يجب رفض فكرة الهوية الجنسية؛ فضلًا عن أن نفترض حقوقًا لفئة المثليين بما هم مثليون؛ لأن النشاط الجنسي بما هو نشاط غريزي لا يستوجب أي حقوق. وإعادة تشكيل البشر ضمن جماعات وفئات أقلوية تارة على أساس ديني، وأخرى على أساس عرقي، وثالثة على أساس الجندر، ورابعة على أساس التوجُّه الجنسي، هو اختزال وتفتيت للإنساني، واختلاق هذه الجماعات هو عمل سياسي يهدف إلى تسويغ خطاب حقوقي مفترض لهذه الفئات بما هي مجموعات وينقلنا من ميدان تقويم الأفعال إلى ميدان الحديث عن هويات؛ في حين أن الإنسان إنما يستوجب حقوقًا بما هو إنسان لا بأي اعتبار آخر. ثم إن النشاط الجنسي الإنساني إنما يكتسب معنًى أخلاقيًّا من جهة كيفية ممارسته (وفق القانون الطبيعي والشرعي)، ومن جهة القيمة الثاوية خلفه. فمن جهة هو متعة مشروعة وطبيعية، ومن جهة أخرى يستهدف قيمة بقاء النوع، أما المثلية فهي خضوع لمبدأ اللذَّة على خلاف قانونها الطبيعي والشرعي معًا، وعارية عن القيمة بل تنطوي على مفسدة تتمثَّل في قطع النَّسْل فيما لو تمَّ تعميمها، أو اختلال نظام الأسرة فيما لو تمَّ تشريع التبني للزوجين المثليين، وقديما قال ابن حجر الهيتمي (ت974هـ) إن اللواط يؤدي إلى خلع "جلباب الحياء والمروءة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة أسيوط

..........................

المراجع

1- كيف بدأت المثلية وما الهدف منها ؟!، ناصر حكاية، يوتيوب.

2-   قاسم حسين صالح: المثلية الجنسية من منظوري الدين والعلم (1)، الحوار المتمدن-العدد: 6580 - 2020 / 6 / 1 - 13:45.

3-معتز الخطيب: المثلية الجنسية بين الاختيار والطبيعة والهوية (2)، مركز نهوض للدراسات والبحوث، ديسمبر 27, 2021.

المواطنة لغة: جاء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي. المواطنة في اللغة العربيّة مشتقة من الوطن، وهو المكان الذي يولد الإنسان ويعيش فيه، وهي مصدر للفعل واطن بمعنى يشارك بالمكان الذي يعيش فيه مولداً أو إقامة. ويشتق منها مستوطنات ومستوطنون واستيطان وتوطن ووطني، وغير ذلك.

المواطنة اصطلاحاً: تعني، تمتع الفرد بعضويّة بلد أو دولة ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضويّة من امتيازات أو حقوق وواجبات. وفي معناها السياسي على سبيل المثال، تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه.) (1). ومن المنظور الاقتصادي الاجتماعي، يُقصد بالمواطنة إشباع الحاجات الأساسيّة للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام، أي تدفعهم لتحقيق التفاف الناس حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك.

والمواطنة في أعلى تجلياتها تتجاوز القضايا الدستوريّة والقانونيّة، لتعبر عن حركة الإنسان اليوميّة المباشرة، مشاركاً ومناضلاً من أجل حقوقه بأبعادها المدنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، على قاعدة المساواة مع الاخرين دون تمييز لأي سبب كان. وإن اندماج هذا المواطن في العمليّة الانتاجيّة بما يسمح له باقتسام الموارد الوطنية، أي الدخل الوطني بطريقة عادلة في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين.

فالمواطنة بهذا المعنى، لا يمكن تجريدها عن سياقها الاجتماعي التاريخي بكل مستوياته الذي تُمارس فيه، ولا يمكن فهمها دون فهم البناء الطبقي السائد في المجتمع، والأيديولوجيا السائدة فيه، وهيكل الدولة، وطبيعة النظام الحاكم، وطبيعة نمط الانتاج، وموازين القوى الاجتماعيّة، ونمط توزيع الثروة والسلطة فيه.

هكذا يتحرر مفهوم المواطنة من مجرد كونه قيمة مثاليّة أخلاقيّة أو قيمة فرديّة يجب أن يعتنقها المرء أو يؤمر باتباعها، أو كونها مجرد قرار أو نص قانوني أو دستوري. فالمواطنة نتاج لحركة المجتمع بما يضم من مواطنين ومن المكونات والمصالح المشتركة لهم. ولهذا تطور مفهوم المواطنة تاريخيّاً، ليأخذ مفهوماً أكثر عمقاً وتعقيداً يتجاوز الجانب الخاص بالحقوق السياسيّة المباشرة للمواطن ليستوعب:

أولاً: إن الحقوق المدنيّة التي تشمل حريته الفرديّة في التعبير والاعتقاد والايمان والملكيّة والحصول على العدالة والمساوة وتكافؤ الفرص في مواجهة من يظلمونه، بأنها هي الحقوق التي يجب أن تجسدها وترعاها وتحميها المؤسسات القضائيّة والدستوريّة بشكل عام.

ثانياً: إن الحقوق السياسيّة والتي تضمن حقه في المشاركة السياسيّة ناشطاً وعضواً فاعلاً في بنية النظام السياسي أو كناخب، هذا ما يجب أن تتضمنه وتجسده مؤسسات البرلمان والمجالس المحليّة والأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني.

ثالثاً: إن الحقوق الاجتماعيّة، وتعني ضمان الرفاه الاجتماعي والتمتع بحياة إنسانيّة كريمة ومتحضرة، وفقاً لمعايير واضحة متفق عليها، هو ما تجسده نظم التعليم والرعاية الصحيّة والاجتماعيّة في الدولة والمجتمع.

رابعاً: وبأن هذا الفهم لروح المواطنة، علينا أن ندرك  بأن المواطنة لا يمكنها أن تلغي التفاوت الطبقي في المجتمع، أي كل تناقضات المجتمع وصراعاته، ولكنها تحد منها إلى حد كبير، وتحقق قدر متساوي من الفرص للجميع، تعمل – أي الفرص - على خلق حالات من العدالة والحفاظ على كرامة الإنسان ومساواته أمام القانون، وظهور المهارات الفرديّة الإبداعيّة والفسح في المجال لها لممارسة نشاطها.

ثقافة المواطنة:

“ثقافة المواطنة”، هي تلك الثقافة التي ترتكز على “مبدأ المواطنة” كمحور أساس حاكم لمجمل تفاعلاتها. وعلى اعتبار المواطنة كما بينا أعلاه، هي جملة من الحقوق والواجبات تتحقق من خلال قدر من الوعي والمعرفة، يسعي الفرد من خلالها إلى تحصيل حقوقه الطبيعيّة والمكتسبة، وسعيه للوفاء بالتزاماتها. وهذا المسعى لابد أن يتم من خلال وسائل مشروعة يحددها النظام ويتعلمها ويعيها الفرد. أهمها:

وسائل وشروط معرفة وتطبيق ثقافة المواطنة:

التطبيق الديمقراطي:

إنّ معرفة الوصول إلى مجتمع المواطنة يتطلب السعي إلى الايمان بالديمقراطيّة وتطبيقها. ذلك أنّ المواطنة هي محور الممارسات الديمقراطيّة، وهي هدف ووسيلة معاً. وبلا مواطنة تضحى الديمقراطية شكلاً بلا محتوى، وبناء على ذلك يحظى الموضوع بأهميّة كبيرة من هذا الجانب. ومثلما لكل نظام سياسي ثقافة تسانده، فإن للنظم الساعية لبناء الديمقراطيّة ثقافة المواطنة، التي تتجسد في قيم ومعايير سلوكيّة وتقاليد متعددة، مثل: احترام الآخر فلا يعود هنالك أنا مطلقة تحتكر الحقيقة والكمال لنفسها وتنكرها على غيرها. وبلا شك أنّ احترام الآخر يعني الاقرار بوجود رأي آخر، مما يتيح المجال لحريّة الرأي والتعدديّة الفكريّة والسياسيّة.

قيمة وثقافة التسامح:

وأيضاً من شروط تطبيق قيم المواطنة، لا بد من معرفة قيمة التسامح، إذ بقدر ما تبدو قيمة التسامح معنويّة وأخلاقيّة، فأنها بالضرورة تعني القبول بالآخر فكريّاً وسياسيّاً، والاستعداد النفسي لتقبل حلول الأخر في السلطة وبالتداول السلمي والدوري لها. وصناديق الاقتراع تعتبر ميدان حسم الصراع السياسي لتعزيز مفهوم المواطنة، وليس الاحتكام إلى السلاح.

لقد عد اعتماد الجزء الأكبر من الشعب على الحكومة في معيشتهم بطريقة أو أخرى، أو العمل لديها كموظفين عاملاً من عوامل تحكم الدولة عبر حواملها الاجتماعيّة بالمواطنين. فمعرفة الاستقلاليّة عن الحكومة بدرجة كافية تجعل المواطنين أكثر قدرة وحرية على الدفاع عن حقوقهم الخاصة، كما تنمي لديهم روح المبادرة والتنظيم المستقل بما يقوي روح ونفوذ المجتمع المدني.

تعدد مركز السلطة والرقابة:

لا بد من معرفة أهميّة وجود مراكز متعددة للسلطة، ورقابة متبادلة بين مؤسساتها، كمؤسسات قادرة على القيام بأعمالها في تناسق وتناغم دون اللجوء إلى الأساليب الإداريّة الخشنة التي تتمثل في الاعتداء على حقوق الأفراد والجماعات.

شرعيّة السلطة:

أي ضرورة معرفة تعبيرها الواقعي والحقيقي عند مجمل فئات الوطن، وانعكاس هذا في مشاركة المواطن مشاركة حقيقة في إدارة شؤون أو نظام الحكم، والتي تجسدها قدرة الفرد على الترشيح والتصويت في الانتخابات العامة والإسهام عبرها في حماية الحقوق العائدة إلى المجال الخاص باختيار ممثليه الحقيقيين.

فاعلية السلطة:

بمعنى معرفة قدرتها على إدارة شؤون الوطن، ولصالح كل فئاته، وحماية حقوقهم بشكل عادل ومتوازن دون الانحياز لفئة دون الأخرى.

على العموم: لقد اتسع مفهوم المواطن في الوقت الحاضر، ليتجاوز المفهوم التقليدي الذي يقصره بالمقيم على أرض الوطن، ليصبح مفهوم المواطن هو الإنسان المشارك في الحكم والسلطة السياسية، والمؤثر عليها بوسائل متعددة. ولتعزيز ثقافة المواطنة، فأن عدداً من الشروط يجب توافرها، كفيلة بتحقيق ذلك. منها: شروط سياسية، وشروط قانونية، وشروط اجتماعية. وشروط تربويّة وثقافيّة. (2)

شروط سياسية: أي المعرفة العقلانيّة والعلميّة بالسياسية وآليّة عملها وأهدافها. وشروط قانونيّة: أي المعرفة العلميّة بمفهوم الدستور وكيفيّة تشكله وآليّة عمله ودور ومكانة واستقلاليّة السلطات في.  وشروط اجتماعيّة: أي معرفة الوجود الاجتماعي ومكوناته السياسيّة والثقافيّة والعرقيّة والدينيّة وتفريعاتها، ومدى درجة تحكم المرجعيات التقليديّة في آلية عمل المجتمع . وشروط تربويّة وثقافيّة: أي معرفة الأساليب التربوية المتبعة في الاشتغال على المواطنة فكراً وممارسة، ثم معرفة البنى الثقافيّة السائدة في المجتمع ومدى توافقها مع روح المواطنة دينيّة كانت أم وضعيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

..........................

1- الويكيبيديا

2-..(لمعرفة المزيد عن ثقافة المواطنة راجع المركز الديمقراطي العربيى - عن ثقافة المواطنة.. متى تبدأ ؟ - اعداد : أ.  نجاح عبدالله سليمان.). و(مجلة العلوم القانونيّة والسياسيّة – تصدرها كلية القانون والعلوم السياسية  - جامعة ديالي – العراق - ثقافة المواطنة : مفهومها – شروطها الموضوعية - شاكر عبدالكريم فاضل.)

في صيف عام 2012 نشر البروفيسور القانوني وعالم الجيولوجيا كيسي لوسكين casey Luskin قائمة بعشر مشاكل تواجه نظرية الاختيار الطبيعي لدارون، وبعدها بفترة طُلب اليه عرض قائمة بالمشاكل الكبرى المتعلقة بالتفسيرات الكيميائية لأصل الحياة على الارض.هناك عدد هائل من المشاكل تتعلق بنظريات أصل الحياة الاولى على الارض لكن التركيز هنا فقط على المشاكل الخمس الرئيسية:

1- لا وجود لآلية عملية لتوليد الحساء البدائي:

طبقا للتفكير التقليدي السائد بين منظّري أصل الحياة، فان الحياة نشأت عبر تفاعلات كيميائية تلقائية على الارض المبكرة قبل حوالي 3 الى 4 بليون سنة. معظم المنظرين يعتقدون ان هناك العديد من الخطوات اشتركت في أصل الحياة، لكن الخطوة الاولى تطلبت انتاج الحساء البدائي – ماء في بحر من الجزيئات العضوية البسيطة برزت منه الحياة. وبينما وجود هذا "الحساء" جرى قبوله كحقيقة ثابتة لعقود، لكن هذه الخطوة الاولى في معظم نظريات أصل الحياة تواجه صعوبات علمية هائلة.

في عام 1953 قام أحد الباحثين في جامعة شيكاغو واسمه ستانلي ميلر ومعه المشرف في الكلية هارولد يوري بإجراء تجربة لغرض انتاج اللبنات الأساسية للحياة في ظل ظروف طبيعية على الارض المبكرة. هذه التجربة لكلا الباحثين قُصد بها محاكاة لصاعقة يصطدم بها البرق مع الغازات  في جو الارض المبكر. وبعد إجراء التجربة والسماح للمنتجات الكيميائية بالبقاء لفترة من الوقت،اكتشف ميلر تكوين  الأحماض الأمينية وهي القاعدة الأساسية للبروتينات .

ولعدة عقود، جرى الترحيب بهذه التجربة كونها تُظهر بأن "اللبنة الاولى" للحياة نشأت في ظروف طبيعية وواقعية مشابهة للارض، وبما ينسجم مع فرضية الحساء البدائي. ولكن ايضا كان يُعرف منذ عقود ان جو الارض المبكرة كان مختلف جذريا عن الغازات المستعملة في تجربة ميلر- يوري. ان الجو المستعمل في تجربة ميلر – يوري كان مؤلف اساسا من مركبات مثل االميثان والامونيا ومستويات عالية من الهايدروجين. علماء الجيوكيمياء يعتقدون الان ان جو الارض المبكرة لا يحتوي على كميات كافية من هذه العناصر. المنظّر في اصل الحياة ديفد ديمر يوضح في مجلة علم الاحياء المجهرية وبيولوجيا الجزيئات:

"هذه الصورة المتفائلة بدأت تتغير منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي عندما أصبح واضحا ان جو الارض الاولى كان بركانيا في الأصل، مركب بشكل كبير من ثاني اوكسيد الكاربون والنيتروجين بدلا من مزيج من الغازات  التي افترضها نموذج ميلر- يوري. ثاني اوكسيد الكاربون لا يساعد مجموعة غنية بالمسارات التركيبية التي تقود الى جزيء بسيط محتمل او monomers".

وكذلك في مقالة في مجلة العلوم "اعتمد ميلر ويوري على جو  فيه الجزيئات غنية بذرات الهايدروجين. وكما أظهر ميلر لاحقا، هو لم يستطع صنع اشياء حية في جو مؤكسد(فيه اوكسجين). المقالة أعلنت بشكل واضح:  ان"الجو المبكر لايشبه ابدا الموقف لدى ميلر – يوري". وبالانسجام مع هذا، لم تكشف الدراسات الجيولوجية دليلا عن وجود الحساء البدائي.

هناك اسباب جيدة للاعتقاد بعدم إحتواء جو الارض المبكرة على تركيز عالي من الميثان والامونيا والغازات الاخرى. جو الارض الاول يُعتقد انه جاء من إطلاق الغازات من البراكين، والمركب الناتج من غازات البراكين تلك ارتبط بنسب كيميائية لغطاء الارض الداخلي. الدراسات الكيميائية وجدت ان النسب الكيميائية لغطاء الارض كانت في الماضي هي ذاتها كما هي الان. لكن اليوم، الغازات البركانية لا تحتوي على الميثان والأمونيا .

وفي ورقة في رسائل علم الارض والكواكب وجدت ان النسب الكيميائية لباطن الارض كانت بالضرورة ثابتة عبر تاريخ الارض وهو ما يقود الى استنتاج بان "الحياة ربما وجدت اصولها في بيئات اخرى او بآليات اخرى". وهكذا يكون الدليل قوي جدا ضد التوليفة ما قبل الحيوية للّبنة الحياة الاساسية لدرجة ان دراسات الفضاء عام 1990 لمجلس البحوث الطبيعية نصحت محققي أصل الحياة ليعيدوا اختبار التركيبة البايولوجية في ظل بيئة الارض البدائية التي كشفت عنها النماذج الحالية للارض المبكرة. وبسبب هذه الصعوبات، أهمل بعض كبار المنظّرين نموذج ميلر – يوري و نظرية "الحساء البدائي" . في عام 2010، أعلن البايوكيميائي نك لين Nick Lane في كلية لندن الجامعية بان نظرية الحساء البدائي "لا تحمل ماءً" وقد تجاوزت تاريخ صلاحيتها. بدلا من ذلك، هو يقترح ان الحياة نشأت في ممرات مائية حرارية تحت البحر. لكن كلا الفرضيتين الحساء البدائي والممرات الحرارية تواجهان مشكلة اخرى كبيرة.

المشكلة 2: تكوين مركب كيميائي (polymers) يتطلب تركيبة جافة

لنفترض ان هناك طريقة لإنتاج جزيئات عضوية بسيطة في الارض المبكرة. ربما نشأت من حساء طبيعي او ظهرت قرب بعض الفتحات الحرارية. مهما كانت الطريقة، يجب على منظّري أصل الحياة توضيح كيف ارتبطت الأحماض الامينية او الجزيئات العضوية الاخرى الهامة لتشكل سلسلة طويلة من مركب البوليمير مثل البروتينات او RNA.

كيميائيا، آخر مكان ربما انت تريد ان تربط  فيه الاحماض الامينية الى سلسلة سيكون بيئة مائية شاسعة مثل "الحساء البدائي" او تحت الماء قرب الفتحات الحرارية. وكما تؤكد الاكاديمية الوطنية للعلوم، "اثنان من الاحماض الامينية لايرتبطان تلقائيا في الماء، وانما رد الفعل المقابل  هو تفضيل الديناميكية الحرارية. بكلمة اخرى، الماء يحلل سلسلة البروتين الى احماض امينية او الى مكونات اخرى، جاعلا من الصعب جدا انتاج بروتينات في الحساء البدائي.

مشكلة 3: فرضية RNA العالمية تفتقر للدليل المؤكد

دعنا نفترض مرة اخرى، ان البحر البدائي الممتلئ باللبنات الاساسية للحياة هو موجود حقا في الارض المبكرة، وشكّل بطريقة ما بروتينات وجزيئات عضوية معقدة اخرى. منظّرو أصل الحياة يعتقدون ان الخطوة القادمة في أصل الحياة هي – مصادفة تامة – جزيئات اكثر واكثر تعقيدا تشكلت حتى بدأ بعضها بالاستنساخ الذاتي . من هنا هم يعتقدون انطلاق مسؤولية الاختيار الطبيعي الداروني، مفضلا تلك الجزيئات التي هي اكثر قدرة على الاستنساخ. بالنهاية، هم يفترضون، انه اصبح حتميا ان تلك الجزيئات سوف تطوّر آلات معقدة مثل تلك المستعملة في الكود الجيني حاليا – لتعيش وتتكاثر.

هل استطاع المنظرون الحديثون توضيح كيف حدث هذا الجسر الخطير والحاسم من كيمياء خاملة غير حية الى أنظمة جزيئات تُستنسخ ذاتيا؟ كلا ابدا . في الحقيقة، حتى ميلر اعترف بصعوبة توضيح هذا في مجلة إكتشف Discover Magazine:

" اول خطوة، هي عمل مركب المونومور ، ذلك سهل. نحن نفهم هذا جيدا. لكن بعد ذلك عليك ايجاد اول بوليمور يُستنسخ ذاتيا. ذلك جدا سهل، هو يقول، بسخرية. مثلما من السهل عمل نقود من سوق الاوراق المالية – كل ما عليك تشتري بسعر أقل وتبيع بسعر أعلى. لا احد يعرف كيف تم ذلك".

اكثر الفرضيات البارزة في اصل الحياة تسمى RNA world(فرضية عالم الحمض النووي). في الخلايا الحية، المعلومات الجينية تُحمل بواسطة الـ DNA ومعظم الوظائف الخلوية تتم بواسطة البروتينات. لكن RNA هي قادرة على الاثنين حمل المعلومات الجينية وتحفيز بعض التفاعلات البايوكيميائية. وبالنتيجة، بعض المنظرين يفترضون ان اولى الحياة ربما استعملت الـ RNA وحدها لتقوم بكل هذه الوظائف.

لكن هناك العديد من المشاكل في هذه الفرضية. احداها، ان أول جزيئات RNA كان يجب ان تنشأ بعمليات غير بايوكيميائية. لكن الـ RNA لا يُعرف انها تتجمع بدون مساعدة كيميائي ماهر مختبريا في توجيه العملية. الكيميائي من جامعة نيويورك روبرت شابيرو Robert Shapiro انتقد جهود اولئك الذين حاولوا عمل RNA في المختبر قائلا: "العيب هو في المنطق – افتراض ان هذا التحكّم التجريبي من جانب الباحثين في مختبر حديث كان موجودا في بدايات الارض".

ثانيا: بينما RNA تبيّن انها تؤدي عدة أدوار في الخلية، لكن لا وجود هناك لدليل بانها يمكن ان تؤدي كل الوظائف الخلوية الضرورية التي تُنفذ الآن بواسطة البروتينات.

ثالثا: فرضية الـ RNA  العالمية لا يمكنها توضيح أصل المعلومات الجينية. أنصار الـ RNA العالمية يقترحون انه اذا كانت اول حياة مستنسخة ذاتيا مرتكزة على الـ RNA ذلك سيتطلب جزيء بين 200 و 300 من جزيء الـ nucleotides (الحجر الاساس في الاحماض النووية) في الطول. غير انه لم تُعرف هناك قوانين كيميائية او فيزيائية تملي نظاما لتلك الجزيئات. لتوضيح ترتيب النيكلوتايد في اول جزيء من RNA المستنسخ ذاتيا، يجب ان يثق الماديون باحتمال قليل جدا. لكن الغرابة في تحديد 250 نيكلوتايد على سبيل المثال  في جزيء الـ RNA بالصدفة هو دون عتبة الاحتمالية الكونية بواحد في  10150 ، وهو التعبير الذي يصف أحداثا لا تقع الاّ باحتمال ضعيف جدا ضمن تاريخ الكون او يمكن اعتبارها غير ممكنة. شابيرو يعبر عن المشكلة بالطريقة التالية:

"الظهور المفاجئ لجزيء مستنسخ ذاتيا مثل RNA هو غير محتمل بدرجة كبيرة ... الاحتمالية صغيرة جدا الى حد الضآلة لدرجة ان حدوثها مرة واحدة في أي مكان من الكون المرئي سيُعتبر جزءاً من حظ استثنائي".

رابعا: وهي الاكثر جوهرية ان فرضية RNA العالمية لايمكنها توضيح أصل الكود الجيني ذاته. لكي تتطور الـ RNA الى حياة مرتكزة على بروتين DNA/ الموجود اليوم، ستحتاج الـ RNA العالمية لتطور مقدرة على تحويل المعلومات الجينية الى بروتينات. لكن هذه العملية من النسخ والترجمة تتطلب مقدارا كبيرا من البروتينات والآلات الجزيئية – التي هي ذاتها مشفرة بواسطة المعلومات الجينية. كل هذا يخلق مشكلة الدجاجة والبيضة حيث تظهر الحاجة الى انزيمات وآلات جزيئية ليؤديان المهمة التي تؤسسهما.

المشكلة 4: العمليات الكيميائية التلقائية لا تستطيع توضيح أصل الكود الجيني

لكي نقدر المشكلة، لننظر في أصل اول اسطوانة DVD و مشغل اسطوانة  DVD  player. الـ DVD غني بالمعلومات لكن بدون الة DVD player لقراءة الاسطوانة، ومعالجة معلوماتها وتحويلها الى صوت وصورة، فان  الاسطوانة (الدسك) ستكون بلا فائدة. لكن ماذا لو كانت التعليمات لبناء اول DVD player مشفرة فقط في الـ DVD ؟ انت لن تستطيع ابدا تشغيل الـ DVD لتتعلم كيف تبني  DVD player. اذاً كيف يظهر أول دسك وأول نظام لـ DVD player ؟ الجواب واضح: لابد من عملية موجهة الهدف – مصمم ذكي – لإنتاج كل من مشغل الاسطوانة والاسطوانة. 

في الخلايا الحية، الجزيئات الحاملة للمعلومات (مثل الـ DNA  او الـ  RNA) هي مثل الـ DVD ،والماكنة الخلوية اتي تقرأ تلك المعلومات وتحوّلها الى بروتينات  هي تشبه الـ DVD player. كما في مقارنة الـ DVD، المعلومات الجينية لايمكن ابدا تحويلها الى بروتينات بدون آلة ملائمة. ايضا في الخلايا، الآلات المطلوبة لمعالجة المعلومات الجينية في الـ RNA او الـ DNA هي مشفرة بواسطة نفس تلك الجزيئات الجينية – انها تؤدي وتوجّه نفس المهمة التي تبنيهما.

هذا النظام لايمكن ان يوجد مالم تكن كل من المعلومات الجينية وآلة النسخ والترجمة كلاهما حاضران في نفس الوقت، ومالم يتحدث كلاهما نفس اللغة. بعد وقت قصير من اكتشاف الكود الجيني، اوضح البايولوجي فرانك سالزبري Frank Salisbury في ورقة نُشرت في معلم البايولوجي الامريكي American Biology Teacher التالي:

"جميل الحديث عن استنساخ جزيئات الـ DNA في بحر من الحساء، لكن في الخلايا الحديثة هذا التطبيق يتطلب وجود انزيمات ملائمة ... الربط بين الـ DNA والانزيمات معقد جدا حيث يستلزم RNA وانزيم لتركيبه على الحامض النووي والانزيمات وبناء خلوي داخلي مصنوع من البروتين والـ RNA لغرض تفعيل الأحماض الأمينية وتحويل جزيئات الـ RNA ... في غياب الأنزيم النهائي كيف يمكن للاختيار ان يؤثر على الحامض النووي وجميع آليات استنساخه؟ انه كما لو ان كل شيء يجب ان يحدث دفعة واحدة: كامل النظام يجب ان يأتي للوجود كوحدة واحدة، والاّ فانه بلا طائل. هناك ربما طرق للخروج من هذا المأزق ولكن لا أرى ذلك حتى الآن".

نفس المشكلة تواجه باحثي عالم الـ RNA وهي لاتزال بلا حل. وكما لاحظ اثنان من المنظرين عام 2004 في مقال نُشر في بايولوجيا الخلية الدولية:

"سلسلة مركب النيلوتايد هي ايضا بلا معنى بدون مخطط مفاهيمي ناقل وقدرات "آلات" مادية. جميع البناء الخلوي الداخلي وتركيبة الـ RNA والاحماض الامينية هي عناصر آلية لـ "المستلم". لكن التعليمات لهذه الآلة هي ذاتها مشفرة في الـ DNA وتُنفّذ بواسطة البروتين "العمال" المنتج بواسطة تلك الآلة. بدون الآلة وعمال البروتين، لايمكن استلام الرسالة وفهمها. وبدون تعليمات جينية لايمكن تجميع الآلة.

مشكلة 5: لا وجود لنموذج عملي لأصل الحياة

رغم عقود من العمل، لم يتمكن منظرو أصل الحياة في توضيح كيفية نشوء هذا النظام(1). في عام 2007، مُنح الكيميائي من جامعة هارفرد جورج وايتسايد مدالية بريستلي وهي أعلى جائزة للجمعية الكيميائية الامريكية. اثناء حديثة الافتتاحي عرض هذا التحليل المثير، واعيدت طباعته في اخبار المجلة الكيميائية والهندسية:

"أصل الحياة. هذه المشكلة واحدة من أكبر المشاكل في العلوم. انها تبدأ بوضعنا نحن والحياة معنا في الكون. معظم الكيميائيين يعتقدون كما انا، ان الحياة نشأت تلقائيا من مزيج من الجزيئات في الارض ما قبل الحيوية. كيف؟ لا أعلم ذلك".

العديد من المؤلفين الآخرين طرحوا تعليقات مشابهة. ماسيمو بيجو يقول: "صحيح ليس لدينا فكرة عن كيفية نشوء الحياة على الارض". او كما كتب الكاتب العلمي كريك ايسبروك في مجلة ويرد،" كيف خُلقت الحياة بحيث صُنعت أشياء حية من مركبات ميتة ؟ لا أحد يعرف. كيف جرى تجميع اول الاشياء الحية؟ الطبيعة لم تعطنا أقل لمحة. الاسطورة تعمقت بمرور الزمن".

نفس الشيء، تستنتج المقالة المشار اليها انفا في بايولوجيا الخلية الدولية:

"مطلوب اتجاهات جديدة للتحقيق في أصل الكود الجيني. القيود على العلم التاريخي هي ان أصل الحياة ربما لا يُفهم ابدا". انها لا يمكن فهمها ما لم يرغب العلماء بالتوضيحات العلمية الموجهة نحو هدف مثل المصمم الذكي.

***

حاتم حميد محسن

..................

Evolution News and Science Today, Dec, 12, 2012

الهوامش

(1) بالاضافة الى تلك النظريات عن أصل الحياة، هناك نظرية تفيد ان أصل الحياة جاء من كوكب آخر غير الارض عن طريق النيازك او المذنبات، لكن هذه النظرية لن تحل المشكلة ويبقى السؤال ذاته كيف نشأت الحياة في ذلك المكان من الكون.

الاتجاه الغالب المميز للأدب الجديد هو أدب الحياة، أو الأدب في سبيل الحياة، حيث كل أدب حتى المأخوذ من بطون الكتب القديمة في السير والحكم والبلاغة، إنما هو في سبيل الحياة وتجميلها وتهذيبها، يقوم الأدب على التجربة الحية للإنسان أوالعصر أو الشعب، وأن تكون هذه التجربة صادقة خالصة، لا تزيف الصور ولا تهويل الوقائع، لا تفسد التاريخ ولا تحجب الحقائق، تلك الحقائق التي وسيلة العصر الحديث للكفاح من أجل التطور والتقدم، وبذلك يخرج الأدب من وظيفة الحلية البديعة الساكنة فوق الصدور، إلى وظيفة النور البراق المتحرك الذي يفتح الأبصار، ويثير ما داخل النفس البشرية، ويبرز ما في الأذهان من أفكار معاصره.

إن أدب الحياة لا يكون عميقا إلا إذا كان الأديب نفسه عميقا في اطلاعه وفكره وفنه، ومتمسكا بالصبر والجلد، مشيدا على العمل والجهد والإطلاع على ما كان ويكون، ليبرز للناس "الحياة" في عمقها وإتساعها وشمولها للفكر والمعرفة والتجربة، لأن تلك هي "الحياة" تجربة وفكر ومعرفة. 

 ومن أبرز سمات الأدب الجديد "التجربة الحية"، ومعنى ذلك أن يكون الأدب ذاته عنصرا فعالا حيا في العصر الذي يعبر عنه، أو في المجتمع الذي يصفه، أو في البيئة التي يسجل أحداثها، ومن هنا كانت المشاركة الذاتية أهم أركان التجربة في الأدب الحديث، وعلى وجه الخصوص أدب القصة، لأنها تستمد مادتها من الكتب والوثائق القديمة، ولا تنبع من الوثيقة الحية التي هي الأديب نفسه، فالأديب اليوم في نظر الأدب الجديد هو شاهد عيان يقسم أن يقول الحق أمام محكمة الضمير الإنساني.

وهناك يطرح سؤال مهم، وهل معنى ذلك أن الأدب الجديد يطرد من حضيرته كل عنصر تاريخي، فالجواب يكون، بالطبع..لا... ولم يعد الأدب الجديد مجرد تسجيل للقديم، بل هو إعطاء روح جديدة للزمن الغابر، وبعث جسد قديم برأس حديث. ولم يزل التاريخ، ولم تزل القصصص والأساطير وكل صور التراث القديم مهبط وحي لكثير من الأعمال الأدبية الحديثة، ولكن الأدب الجديد عندما يستلهم المادة الجديدة يستهدف إلى غرض آخر، وهو البعث في الحياة الجديدة  بلباسها الجديد وأفكارها الحديثة.

  الأدب الذي ينتجه من الوثائق الشخصية المعهتمدة الصالحة للشهادة على روح عهد من العهود، أو حديث من الأحداث،إنما هو أدب الصياغة أو الصناعة أوالبراعة، فالأدب الجديد فلا بد أن يكون من صميم التجربة الحية لعامل في مصنعه، أو جندي في معركته، أو فلاح في حقوله، أو كل شخص في مجاله.. كل من اجتاز تجربة إنسانية أو فكرية، واستطاعت ظروف المجتمع أن توفر له الثقافة التي تؤهله لحمل أداى التعبير الأدبي والفني.

 ولن يكون الأدب مجرد رغبة في الكتابة، ولا مجر تريده لألفاظ لغوية، إنما الأدب الجديد سيكون هو أداة التعبير الفنية في يد التجربة الحية، فالأديب الحي الجديد يجب أن يستمد حياته من الأرواق الخضراء لا من الأوراق الصفراء. الأدب ليس هو فنا مطلقا يقصد منه مجرد الفن، الأدب بنحوعام رسالة في الحياة، وبهذه الرسالة يكتسب الأديب مكانته وقيمته الحقيقية بوصفه راعيا لقيم الخير في المجتمع، وموجها للثقافة النافعة التي تسهم في البناء الحضاري. ولايكون الأدب أدبا إلا يعكس فيه الحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح، ومن ألام وأحزان، حيث الأدب بمفهوم وسيع هو مرآة المجتمع وتصوير الحياة.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

الغرض من هذه الكتابة هو إيضاح الحاجة للفصل بين الدين والعلم، في الوظيفة والقيمة ومناهج البحث، لا سيَّما أدوات النقد.

لا نريد مجادلة القائلين بأنَّ العلم جزء من الدين، أو أنَّ الدين قائم على العلم، فهذه تنتهي غالباً إلى مساجلات لفظية قليلة القيمة، تشبه مثلاً إصرار بعضهم على أن قوله تعالى «وعلّم آدم الأسماء كلها» دليل على أن العلم والدين كليهما يرجعان لمصدر واحد، لهذا فهما متصلان. هذا النوع من الجدل لا ثمر فيه ولا جدوى وراءه.

- ربما يقول قائل: فلنفترض - جدلاً - أنَّنا قبلنا بهذا التمهيد، فما جدوى هذه النقاشات التي أكل عليها الدهر وشرب؟

جواباً عن هذا، أقول إن غرض النقاش هو التشديد على استبعاد المؤثرات العاطفية، عند النظر في هذه المسألة وأمثالها. وهي مؤثرات مُحرّكها - فيما أظن - ارتياب في الأفكار الجديدة، لا سيما إذا لامست قضايا مستقرة لأمد طويل. واقع الحال يخبرنا أن الإصرار على ربط العلم بالدين أدى إلى إقصاء المنطق العلمي الضروري لمواجهة المشكلات. فكأن العقل الكسول يقول لنفسه: ما دمنا نستطيع تحويل المشكلة على الغيب، والخروج بحل مريح، فلماذا نجهد أنفسنا بحثاً عن حلول غير مضمونة؟ ولعل بعضنا يتذكر الواعظ، الذي هاجم الداعين لإغلاق الجوامع والمشاهد التي يزدحم فيها الناس أيام وباء «كورونا»، وقال ما معناه: إن العلاج الحاسم للوباء يكمن في التوسل إلى الله والاستشفاع بأوليائه كي يُنعم على المرضى بالشفاء. وهذا غير ممكن إلا بترك أماكن العبادة مفتوحة للمصلّين والداعين، أما المرض فهو موجود في أماكن الإثم وليس في أماكن العبادة، المرض لا يأتي إلى محل التشافي منه!

ومن ذلك أيضاً التوافق القائم منذ قرون، على أن «علم الدين» ينبغي ألا يتجاوز الحدود التي رسمها العلماء الماضون، لهذا اقتصرت بحوث المعاصرين على شرح أقوال السابقين، أو تحقيقها، أو التعديل عليها قليلاً، ونادراً ما تصل لنقضها أو اقتراح بدائل تُعارضها جوهرياً. بمعنى آخر، فإن «علم الدين» المعاصر ليس أكثر من تأكيد لأخيه القديم.

ونظراً لشيوع هذا المفهوم وتلبُّسه صبغة الدين، فقد تمدَّد في غالبية نظم التعليم والبحث العلمي العربية، لهذا ترى العلم القديم حاضراً بقوة في معظم الأبحاث، لا كموضوع للنقد والمجادلة، بل كأساس يقف عليه الباحث أو دليل يرجع إليه، مع أن القاعدة العقلانية تفترض أن العلم الجديد أكملُ من سابقه.

العلم والدين عالمان مختلفان في الوظيفة، فالعلم غرضه نقض السائد والموروث، واستبدال ما هو أحسن به، ولذا فإن معظمه يركز على مساءلة الأدلة والتطبيقات، والعمل على نقضها والبحث عن بدائلها، أما الدين فوظيفته معاكسة، يوفر الدين اليقين؛ أي الرؤية الكونية التي تجيب على أسئلة الإنسان الوجودية، فتولد الاطمئنان إلى المصير. كما توفر الشريعة الأرضية الفلسفية للقانون، والمضمون المناسب لقواعد العمل الفردي والجمعي في المجتمع الإنساني. ونعلم أن تواصل الإنسان مع الكون الذي يعيش فيه ليس من نوع الآراء التي يمكن تغييرها بين حين وآخر. كذلك فإن الاستمرارية جزء من طبيعة القانون، حتى لو قلنا بإمكانية تغييره وتحديثه.

نظراً لاختلاف الوظيفة، فإن منهج البحث في الدين مختلف عن نظيره في العلم. وهنا لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، حيث يراعى في الدين مصدره الإلهي، بينما المعرفة الدينية بشرية وغير معصومة، فهي تخضع لنفس قواعد وأدوات النقد المتعارفة في العلوم العادية.

***

د. توفيق السيف

العمليات الحسية  ما هي العمليات الحسية؟ العمليات الحسية هي تلك العمليات التي تساعدك على فهم أو إدراك الطريقة التي يتبعها العالم من حولنا. لديك خمسة أعضاء حسية. إنها تشفر العالم المادي تعطيك التفسير لانك بشر. التفاعل مع العالم يمر بشيء يسمى عملية حساسة أو أنظمة حسية. ما هي العمليات الحسية، ولماذا هي ضرورية وكيف تصبح جزءا من علم النفس. دعونا في الواقع نوظف سيناريو لبيان ما تعنيه العملية الحسية. تخيل أنها ليلة رائعة مليئة بالنجوم وأنت جالس على مقعد في الحديقة, الليل رائع، النسيم يهب. وفي هذا الوقت، عندما تجلس في هذه الليلة على مقعد الحديقة، هناك العديد من الأشياء التي تسمعها ,هي عدة أنواع من المحفزات التي تؤثر عليك، عدة أنواع من الإشارات من البيئة. على سبيل المثال، حفيف الأشجار الذي يدخل أذنك، الضوء الذي يأتي من عمود الإنارة المقابل لك. الخدش الذي تشعر به في ساقك. وزن الزهور أو الحقيبة التي لديك على كتفك. الطائر الذي يزقزق قريبا. نسمات الريح والعديد من الأشياء الأخرى الموجودة هناك والتي تصطدم بك.

أعضاؤك الحسية المختلفة، على سبيل المثال العيون ترى شيئا ما، أنت تنظر إلى شيء ما، وبالتالي هناك الكثير من المعلومات التي تجمعها. وهي المعلومات التي يمكنك قراءتها. هذه الاصوات التي يمكنك سماعها. هذه المدخلات التي يمكنك استلامها أو الانتباه إليها. لكن هذه ليست المعلومات الوحيدة التي تدخل عليك. هناك العديد من المعلومات التي تأتي إليك بشكل أساسي، لكن لا يمكنك استلامها. على سبيل المثال، يرسل جهاز إرسال الميكروويف الموجود في مكان ما أسفل التل إشارات ميكروويفية أو الهواتف المحمولة، وهي في الواقع تنتهك جسدك عنوة  لكن لا يمكنك سماعها لأنها خارج نطاق السمع.

ضوء الأشعة تحت الحمراء الذي يأتي من بعض الأبراج في مكان ما، برج الميكروويف أو من برج الهاتف الخلوي الذي يرسل الترددات ولكن لا يمكنك رؤيته بالفعل، وهناك العديد من الأنماط والموجات الكهرومغناطيسية وغيرها من الأنواع الأخرى التي لا يمكنك رؤيتها.

 لذا فإن جزءا من الأطياف المرئية أو جزء من التحفيز الذي يمكنك سماعه والذي يتم ضبطك عليه وجزء من الأطياف لا يمكنك سماعه. لذلك مجرد الجلوس على مقاعد الحديقة,أنت لست وحدك هناك أشياء كثيرة. هناك الكثير من المحفزات او الاشارات التي تصل اليك. كيف تقوم بالتشفير أو كيف تلاحظ هذه الإشارات، هذه الإشارات تجعلك تفهم العالم من حولك العالم .

هناك نافذة، ومن تلك النافذة طلبت منك أن ترى أن هناك شيئا ذا طبيعة معينة، كائن أسطواني بني في القاعدة وأخضر على الجانب العلوي، ماذا ترى؟ ما تراه عيناك في الواقع هو الفوتونات المنعكسة من هذا الهيكل. لذا فإن العين ترى في الواقع فوتونات، جسيمات ضوء. وهذه الجسيمات الضوئية التي تسقط على العين يتم نقلها بعد ذلك إلى منطقة معينة من الدماغ، والتي تنظمها، وتقارنها ببعض الهياكل، وتقارنها ببعض المنظمات، وتقارنها بتمثيل شيء تم ترميزه من قبل ويقول إن هذه شجرة. لذلك إذا كان شخص ما يرتدي بنطالا بني اللون و قميص أخضر اللون في الأعلى، فهو ليس شجرة. ولكن إذا كان هناك شيء يحتوي على عمود بني وورقة خضراء اللون فوقه، فهو شجرة. فكيف تميز بينهما؟ هذا هو الشيء المثير للاهتمام. إذن ما تراه العيون في الواقع هو المثير الفيزيائي، وهو في الأساس الفوتونات. لكن ما يدركه البشر، ما يراه منه هو شجرة وأشياء من هذا القبيل.

إحساسنا هو الجزء الذي تقوم فيه بالفعل بتشفير هذه الفوتونات إذا كان ضوءا أو ضغط موجات صوتية أو لمسية إذا تم لمسها وما إلى ذلك. إذن كيف يمكنك ترميز درجة الحرارة والضغط، هذا النوع من التحفيز المادي هو كيف يأخذ النظام البشري أو كيف يأخذ النظام الحسي البشري هذه المعلومات ومنها يخلق عالما نفسيا هو ما يدور حوله الإحساس.

ولتبسيط ذلك، علي أن أخبركم بالعمليات الحسية بهذه الطريقة، هذه هي بيئتي الخارجية وهذه البيئة الخارجية لديها أشياء مثل الفوتونات وضغط الهواء ودرجة الحرارة. إذن هذه هي الصفات الفيزيائية، الأشياء التي تصنعها الفيزياء. ولكن بعد ذلك هذه الأشياء، تقع في النظام البشري, النظام المادي، و النظام النفسي. لذلك في النظام النفسي هذه الفوتونات هي الضوء، أمواج ضغط الهواء هي الصوت، درجة الحرارة هي الشعور بالدفيء او الحرق. عندما تقع هذه الاشارات على الأعضاء الحسية للإنسان، كيف تترجم هذه الأعضاء الحسية هذا؟ الفوتونات والضغط ودرجة الحرارة إلى فعل رؤية ضغط الهواء حيث الصوت ودرجة الحرارة الأشياء الباردة والساخنة، هذا هو كل ما تدور حوله العمليات الحسية . لذلك في هذه الواجهة حيث يتحول العالم المادي إلى عالم النظام الحسي. النظام الحسي هو آلية كشف إنه في الواقع يشفر العالم المادي في العالم النفسي.

 في العالم المادي لديك درجات حرارة، على سبيل المثال، درجتان، ثلاث درجات، أربع درجات، 18 درجة، 20 درجة، 40 درجة. في العالم النفسي تسمى هذه الأرقام ساخنة، باردة,دافئة. في العالم المادي لديك فوتونات. 4 فوتونات، 8 فوتونات، حفنة من الفوتونات، عدد كبير من 1 مليار فوتون في العالم النفسي لديك اشراق او أضاءة، أقل سطوعا، سطوع أعلى يخلق لك تدرج أقل حيث اللون غير اللون، في العالم المادي لديك نغمات مثل واحد هيرتز 5 هرتز، 10 هرتز، 50 هرتز، 20 هرتز، 200 هرتز 1000 هرتز. في العالم النفسي لديك صوت عالي، نغمة منخفضة، نغمة عالية. إذن كيف يتم تحويل هذه المحفزات الجسدية إلى قواعد علم النفس المخصصة وكيف يتم مطابقة ذلك؟ هو ما يدور حوله الإحساس. لذا فإن الإحساس هو عملية تشفير الحافز المادي وادخاله مرة أخرى أو تحوله بشكل أساسي إلى شكل حتى يتمكن الدماغ من فهمه وجعل المعنى منه هذه الأحاسيس.

يحصل البشر في جميع الأوقات على هذا النوع من المعلومات. حتى في الظروف الشائعة، يقصفنا زخم من المعلومات. الكثير من المعلومات تصل إليك و من هذه المعلومات فأن الكائنات الحية تحتاج إلى استيعاب العالم. كيفية تحويل المثير المادي إلى محفز هو في الأساس العنوان. كيفية تشفير هذه المعلومات من البيئة بشكل أساسي في شكل يمكن للدماغ قراءته وتفسيره، عملية من جزأين. الاول، جوانب من المعلومات البيئية تسجل معنا. لذا فإن إحدى مشاكل الإحساس هي ما هي جوانب العمليات الحسية أو المثير الحسي الذي نحتاجه بالفعل؟ ومن الصعب جدا الإجابة هنا على هذا السؤال بالمعرفة الحالية. على سبيل المثال، انظر إلى الخفافيش يمكن للخفافيش سماع صوت عالي النبرة فقط، لكنها لا تستطيع الرؤية، وبالتالي هناك أنظمتها الحسية أو أنظمة السمع، ما يحدث هو أنها عندما تطير، فإنها تحصل على صدى من أي مادة في طريقها، ومن ذلك تختار المسار. انظر إلى الكلاب، لديها رؤية ضعيفة للغاية، لكن لديها حاسة شم قوية للغاية.

في الأساس الإجابة السريعة على هذا هو أنه يأتي من التكيف. إنه قادم من سلالة طويلة من التكيف. إنه في الأساس لماذا لا يستطيع البشر رؤية النطاق المرئي للطيف كله؟ الجواب هو أن البشر يمكنهم الرؤية فقط من الأشعة فوق البنفسجية إلى الأشعة تحت الحمراء، وبعد ذلك لا يمكنهم الرؤية. الطيف البصري هو الألوان. ولكن عيون البشر تتدرب بهذه الطريقة وتتكيف و يمكنهم الرؤية بهذه الطريقة ولكن الكلاب يمكنهم رؤية الأشعة تحت الحمراء، و الأشعة فوق البنفسجية، يمكن لبعض الحيوانات رؤية الأشعة فوق البنفسجية.

 الثاني هو كيف تعمل الأعضاء الحسية للحصول على المعلومات التي يمكن اكتسابها بشكل فعال. إذن ما هي خصائص الأعضاء الحسية أو كيف يجمعون هذه المعلومات وليس فقط جمع المعلومات، بل هم يكتسبون هذه المعلومات بشكل فعال ويجعلون المعنى مثاليا. الأحاسيس والمستوى النفسي، هي القانون الأساسي للتجارب المرتبطة بالمحفزات. ما يحدث حقا هو أن الأحاسيس هي تفسيرات للتحفيز البدني. التحفيز الفيزيائي مثل درجة الحرارة والضغط وشدة الضوء وعدد الفوتونات وضغط الهواء. أحاسيس البصر  وهو اللون إذا نظرت إلى الفوتونات. يحتوي نفس العدد من الفوتونات على العديد من المتغيرات أو عدة معلمات. نفس المستوى من عدد الفوتونات يمكن أن يحدد أيضا الحقائق النفسية مثل الشدة، والحقائق النفسية مثل تدرج اللون. حقائق أخرى مثل اللون و التشبع. لذلك عندما تدرك العين شيئا ما، فإنها لا تدرك فقط نوع الكائن، بل و شكل الكائن.

العيون ذات خلايا خاصة تتعرف على الزوايا والخطوط والمنحنيات. لذلك يمكن أن تخبرك الأحاسيس كيف يكون هذا الكائن أو ما هي طبيعة هذا الكائن. اما مستوى الإدراك فهو تجارب المعالج لذا فإن المعلومات الخارجية أو المحفزات الخارجية، عندما تطبع على أنظمتنا الحسية، فإن أنظمتها الحسية تدمج أو تأخذ هذه المعلومات بشكل أساسي و تجمعها في شكل حتى يتمكن الدماغ من قراءتها وفهم معناها. لذا فإن صنع المعنى من تجاربنا الخام يسمى الإدراك، العملية التي يتم من خلالها تشفير المحفزات من البيئة الخارجية في الدماغ أو في أنظمتنا الحسية أو في أذهاننا. ما هو الفرق بين الإحساس والإدراك؟ الإحساس هو نظام يقوم بتشفير المعلومات المادية في الدماغ. الإدراك هو نظام يأخذ هذه المعلومات الأولية في صناديق البريد الوارد ثم يجعل منها معنى.

مدى حساسية أو دقة نظامك الحسي. بعض خصائص أو بعض طرق أو بعض صفات الجهاز الحسي هي الحساسية. الحساسية هي مدى سهولة فهم نظامك الحسي أو إدراكه لما يرده من البيئة. هناك نوعان من الخصائص المشتركة بين جميع الطرائق الحسية. وهاتان هما المعلمتان الرئيسيتان لأي أعضاء حسية واي محفزات تضرب الأذن تضرب العين أو الجلد أو أي الحواس الخمسة الأخرى. تتمتع هذه الحواس الخمسة بجودة تخبرك بمدى دقة ذلك ومدى حساسيته.

تكون حساسية الجهاز الحسي بحيث يمكنه تلقي التحفيزات عالية الكثافة و منخفضة الشدة. تصف الحساسية الطريقة الحسية والمستوى النفسي. إنها تقول كيف الجودة، جودة المعلومات، كم من جودة المعلومات يمكن للنظام الحسي تضمينها بالفعل. هناك ترميز حسي، والذي يصف الطرائق الحساسة مثل الترميز الحسي البيولوجي.

 الأنظمة الحسية، الحس البشري؟ الحساسية هي في الأساس مدى دقة نظامنا الحسي على المستوى النفسي، ما هي جودة المعلومات التي يقدمها لك النظام الحسي؟ هل يمكن أن يعطيها اللون، هل يمكن أن تعطيك تدرج اللون؟ هل يمكن أن تعطيك التشبع؟ يمكن أن تعطيك الرقم والخلفية. إذن ما مدى دقة الأنظمة الحسية من حيث الترميز الحسي، هذا يعني كيفية تشفير هذه المعلومات في الدماغ؟ بمجرد سقوط جسيم ضوئي في العين، جسيم فوتون، يسقط في العين، كيف يتم تفسير هذا الفوتون من حيث اللون، في علم النفس، يتم التعبير عن الحساسية باستخدام مفهوم العتبات.

يحتوي الدماغ البشري على عدد من الخلايا العصبية وهذا يخلق ضوضاء في حد ذاته. سأعطيك مثالا. حاول أن تغمض عينيك حاول أن تكون ساكنا. في اللحظة التي تفعل فيها ذلك دماغك يستمر في إطلاق الضوضاء في جميع الأوقات. من الصعب جدا التزام الصمت, هذا هو الضجيج العصبي .

إحدى ميزات قياس حساسية النظام هي قياس العتبة المطلقة، الحساسية هي دقة النظام أو دقة نظام الكشف. الآن في حالة البشر، نظام الكشف مرتفع. لذلك إذا أخطأت العين، إذا لم تستطع العين اكتشاف شيء ما، فلن يتمكن الدماغ من صنع معنى منه. عندها لن تفهم ما يدور حول العالم المادي، وبالتالي يعتمد نظام الدقة على الحساسية، وتعتمد حساسية النظام على مدى سرعة أو مقدار الدقة التي يمكن للنظام اكتشافها.

***

د. احمد المغير

تطرقنا في الحلقة السابقة كيف كانت الشخصية المحمدية تمتلك قابليات فطرية وأخلاقية كبيرة ساهمت في أختيار القدرة الألهية له كنبي مرسل للبشرية كافة (وما أرسلناك الا كافة للناس)(سبأ:28)، ولكن هذه القابلية لم تكتفي القدرة الألهية بها لأتمام المهمة الرسالية، فالبيئة الأجتماعية والظرف التاريخي الذي عاش فيه الرسول يضفي بظلاله، ويترك بصماتهِ عليه، وهذه مسألة بديهية  لايفلت منها احد من البشر، لذا لم تتركه عين الله في رعايته له، والتوجيه بأعداده  (وأصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا وسبح بحمد برك حين تقوم)(الطور:48) . فكما هو معلوم أن سياقات التربية والتعليم تتضمن التوجية، والتنبيه، والتحذير، وأحياناً التقريع والتهديد، ولو ننظر في القرآن لوجدنا هذه المفردات لها حضور في توجيه الله له، فمثلاً نجد تحذير الله واضح لنبيه في هذه الآية (ولئن اتبعت أَهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واقٍ)(الرعد:37)، كما أن توجيهات النهي له من الله في أكثر من آيه (ولاتطع المكذبين....ولاتطع كل حلاف مهين)(القلم:8،10) و (ولاتصل على أحد منهم مات أَبداً ولاتقم على قبره.....)(التوبة:84) كذلك (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)(النمل:70)، كما نجد نداءات التنبيه له من الله كثيرة، وتأتي على هيئة ياء النداء، مثل (يا أيها النبي اتقِ الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) (الأحزاب:1) و (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أَزواجكوالله غفور رحيم)(التحريم:1) و (يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال)(الأنفال:65) (ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك..ز(المائدة:67) (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...)(التوبة:73)، كما نلاحظ صيغ التنبيه للنبي من الله بصيغ فعل الأمر، وارده بأكثر من مكان في آيات القرآن، ومنها (فأعرض عنهم....)(النساء:73)

فأصدع بما تؤمر...)(الحج:94)

(وأصبر على مايقولون وأهجرهم هجراً جميلاً)(الزمل:1)

(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)

(قم وجهك للدين حنيفاً ولاتكونن من المشركين(يونس:105)  حيث في هذه الآية تجمع الأمر والنهي معاً، يتضح من هذه الآيات، وهذا الأسلوب من الأمر والنهي بصيغ ذات بُعد تعليمي، حيث نلاحظ  هناك جدلية من الفاعلية الألهية والمفعولية الرسولية المحمدية .

كما يمكننا بعد ذلك الأنتقال الى صيغة قرآنية تبدأ جملتها بقل، وهذه الصيغة تكشف عن بعدين، البعد الأول هو التوجيه والأرشاد الألهي  للرسول، وبدوره يبلغ الناس بها، وهذه هي مهمة الرسول في وظيفة التبليغ والتبشير، كما ان هذه الصيغة  تكشف لنا أن الله هو القائل وليس الرسول، والرسول ليس عليه الا البلاغ المبين، وهناك عدة آيات تبدأ بكلمة قل، الذي يكون فيها القائل الله، والمخاطب اليه الرسول، الذي بدوره يمررها الى الناس الموجه لهم الخطاب، ومنها الأتي:

قل لا أَقول لكم عندي خزائن الله (الأنعام:50)

قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ماشاء الله (الأعراف:188)

قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الي (فصلت:6)

قل اني أُمرت أن أكون أول من أسلم (الأنعام:14)

قل أنما أمرت أَن أعبد الله ولا أشرك به (الرعد:37)

وكما قلنا أن الرسول خضع للأعداد الألهي بكل  الطرق والأساليب التي تطرقنا لبعضها من صيغ الأمر، والنهي، كذلك لم تخلو من التنبيه الشديد، الذي يقترب من لغة التهديد، والآية القرآنية التالية واضحة في ذلك ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لاتجد لك به علينا وكيلاً)(الأسراء:86) هذه الآية وغيرها من الآيات كما الذي جاء في آية ( ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته) لتدل دلالة واضحة، تضع حد لقول البعض بأن القرآن من وحي محمد (ص)، وأنه منتوج ثقافته بل نجد في آية قرآنية ترد به على هذا الأفتراء الذي ينسب فيه النص القرآني الى محمد ( قل ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)(الأحقاف:8) . كما هناك أحداث وقعت تدل دلالة واضحة على بشرية الرسول، وما قد يتعرض له من حالات تلامس ما مألوف من طبائع ذلك المجتمع عند التفاعل معهم في مسائل أستدراجهم للدين الجديد، فنراه وقد كاد أن يستجيب لطلب ثقيف، حين طلبوا منه أن يؤجلهم سنة لكي يتمتعوا باللات وأن لا يأخذ عشور الأموال، ولايسجدوا في صلاتهم ولايكسوار اللات عند رأس الحول ... وقالوا له أذا سألك العرب، فقل لهم أن الله أمرني بذلك، وكاد الرسول أن يقبل بعرضهم هذا أملاً بأستدراجهم  الى الأسلام في العام القادم، وأن المسألة مسألة وقت، ولعل هو أبن هذا المجتمع وأرتأى بأن هذا الأسلوب يُلين به قلوبهم، ولكن الله لما عَلم ما في نفس الرسول، أنزل عليه آية ( وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره ...)(الأسراء:73)، فهنا أُلغِت الأراده المحمدية أمام أرادة الله، وصَرف الرسول ما في نيته، وما هم به، وفُرضت أرادة الله بأعتباره هو الآمر، ومحمد هو المأمور، ولا أرادة فوق أرادة الله، وكما أسلفنا أعلاه بأن عين الله هي الراعية، وأرادته هي الطاغية وهي من تسير الرسول، وقد وضحتها الآية الكريمة ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم)(الأسراء:74)، وقد نقل الواحدي هذه الرواية عن ابن عباس، والذي ذكرها الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن ج17، ص508، ويُذكر أن النبي قال بعد نزول هذه الآية (اللهم لاتكلني الى نفسي طرفة عين)(جامع البيان في تفسير القرآن:ج15،ص69-71، من هذا لايبقى شك في رعاية الله وحماية الرسول في المسيرة التي خطها الله له في تبليغ رسالته، وأن رعاية الله له كالغمامة تسير فوق رأسه، تحميه من أحتمالات الزلل .

فالقرآن الكريم يرسم بوضوح تام مهمة الرسول (ص) ويحدد وظيفته في النقل والتبليغ، ولا مصدر للأجابة الا الله، حيث الناس تسأل والله يُجيب على لسان النبي ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج )(البقرة:189) و (يسألونك ماذا  ينفقون...)(البقرة:215) و (يسألونك عن الخمر والميسر...(البقرة:219 ) و(يسألونك عن المحيض....)(البقرة:222 ) و(يسألونك ماذا أحل لهم ..)(المائدة:4 )، وهناك آيات تأتي بصيغة  الأستفتاء مثل (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ....)(النساء:127) فنلاحظ أن هناك سائل وهو الناس، وهناك مجيب وهو الله، وأن الرسول واسطة في هذه العلاقة (ان أتبع الا مايوحى اليَّ)(الأنعام:50)..يتبع

***

أياد الزهيري

إنّه أمرٌ في غاية الخطورة، عندما يُسعَى إلى إرضاء العوام، ففكرة «النَّاس على دين ملوكهم» (ابن الطّقطقيّ، الفخري)، أو «على دين الملك» (ابن خلدون، المقدمة) فاعلةٌ، فإنْ ارتفع الملوك بالنَّاس حلقوا، وإن نزلوا بهم هبطوا، وهذا ما ظهر جلياً عندما تفاقم أمر الأحزاب الدِّينيّة وصحواتها، هبط العديد مِن الأنظمة، فتبنت ما أشاعته تلك القوى نفسها، بإظهار الحملات الإيمانيّة، وهذه حصلت عبر التّاريخ.

نجد في سياسة الحاجب المنصور ابن عامر(ت: 392هج)، مثالاً على هذه المسايرة، وما ترتب عليها مِن انهيار معرفي وثقافي، ظلت تعاني منه الأندلس طويلاً، فكان حاجباً لخليفةٍ صبيٍ، قيل كان مع ابن عامر «صُورةً بلا مَعنى»(الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء).

قام الحاجب بجرد خزائن الكُتب، التي جمعها المستنصر بالله الأمويّ(ت: 366هج)، والد الخليفة، المركون في قصره، وكانت مكتبات عظام، تحوي مِن الكُتب «يُضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطَّويلة»(الأندلسيّ، طبقات الأُمم). أخرج منها كتب الفلسفة والمنطق والفلك، وكُتب الأقدمين، وأمر بحرقها ورُميها في آبار القصر، وهيل التَّراب عليها. لم يكن الحاجب كارهاً للكتب ومؤلفيها، ولا صاحب موقف فكريّ أو عقائديّ، كي يثأر مما يخالفه، إنّما كان الغرض تحبباً للعوام، أيّ طلب الشَّعبية بلغة اليوم، وإن لم يكن آنذاك انتخابات وتصويت، لكن رضاء العوام يعينه على التمكن مِن ابن المستنصر الذي حجبه تماماً، بالوصاية عليه.

خلاف ما كان عليه عهد الخليفة المستنصر بالله، ففي عهد الأخير كانت الحياة العقلية منتعشة، أراد الحاجبُ احتواء النّاس بأسهل الطّرق، بمحو كلِّ ما عمله الخليفة المتنور، فصار مَن قرأ المتعلم المجادل «متهماً عندهم بالخروج عن المِلة، مظنوناً به الإلحاد في الشَّريعة، فسكن أكثر مَن كان تحرك للحكمةِ عند ذلك، وخمدت نُفوسهم، وتستروا بما كان عندهم مِن تلك العلوم»(طبقات الأُمم). استلم ابن عامر النّفوذ السَّنة(366-392هج) أي استمر كتم أفواه وأقلام الفلاسفة والمفكرين، لستٍ وعشرين سنةً، وظل الحال عليه بوراثة ولده لمنصب الحِجابة، والسَّير على النّهج نفسه، حتَّى «افترق المُلك إلى جماعة مِن المخربين»(نفسه).

هذا ولكم تقدير محنة مَن صعب عليه قفل عقله، ونُكب بتدمير كتبه، فهرب بعيداً ومات بمنفاه الاختياري! وصل الحال بالأندلس، التي فتح المستنصر أبواب المعرفة والفنون بها، وتشجيع كلِّ ما يفيدُ العقلَ ويضرُ الجهلَ: «إنه كُلما قيل فلان يقرأ الفلسفةَ، أو يشتغل بالتَّنجيم، أطلق عليه العامة اسم زَنديق، وقُيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهةٍ رجموه بالحجارة، أو أحرقوه، قبل أنَّ يصل أمر السُّلطان، أو يقتله السُّلطان تقرباً لقلوب العامة»(المُقريّ، نفح الطَّيب).

هنا استغل الفقهاء، مِن خصوم الفلاسفة وأهل المعرفة، فقاموا بتحريض العوام ضدهم، استغلالاً لمنزلة الدّين الرّوحيّة عند النَّاس، ورضاء الحاكم، ففي زمن المرابطين مثلاً «كانوا يُسمَّون الأَمير العظيم منهم، الذي يريدون، بالفقيه»(نفح الطّيب).

لو تنظرون في الثَّلاثين سنة الماضية، وبما حصل لبلدان، عبر غزو وعبر ما سميّ بالرّبيع العربيّ، ستجدون سياسة ابن عامر الحاجب ماثلة أمامكم، تسير أمور بلدان بمجاملة العوام، وتُفشي الجهل بها، وهنا لا يبرز غير «الأدب الكابي»، بدلاً مِن العلم والمعرفة، ومَن راقب المشهد العراقيّ خصوصاً مؤخراً لا يكون جاهلاً بأحوال الحاجب ابن عامر، بينما ارتفع حُكام ببلدانهم، وشيدوا المكتبات العظام وبثوا المعرفة العقليّة. نذكر ما يُعبر عن الحال: «وزُمرةُ الأدبِ الكابي بزُمرتهِ/ تَفرَّقت في ضَلالات الهوى عُصَبا/ تَصيَّد الجاهَ والألقابَ ناسيةً/ بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةً لَقبا»(الجواهريّ، قف بالمعرة 1944). يستقيل بمسايرة العوام العقل، فلا مكان له، بانتعاش الأدب الكابي. هذا، ومعنى الكابي الرّماد أو الفحم.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

هل يغير القانون الواقع؟

أم أن الواقع يعدل القانون؟

هناك ثلاث عوامل أساسية في أي مجتمع: الدين، القانون والواقع الاجتماعي، وهذه العوامل الثلاثة يمكن أن تكون مترابطة فيحصل الانسجام والتكامل النفسي والاجتماعي في المجتمع وذلك لانسجام أفراد المجتمع مع بعضهم البعض دينياً وقانونياً وواقعياً. ولكن تختلف المعادلة وتختل وتصبح بحاجة إلى الإضافة أو الحذف المتواصلين بحال اختلال أحد هذه العوامل.

فمجتمع يحترم فقط القانون دون مبادئ دينية سوف يحتاج إلى المزيد من القوانين وإلى القوة الرادعة لقهر نوازع الشر. ومجتمع لا يحترم القانون ولا يتمسك بالقيم الدينية هو مجتمع يعيش في واقع الجريمة والعنف وانعدام الضمير الأخلاقي الفردي أو الجماعي.

هناك مجتمعات اختارت سيطرة القانون وأن القانون هو الذي يغير المجتمع ويقوم بعملية تطويره، وأصبح لديها أكوام هائلة من القوانين الزاجرة التي تردع أو ترصد أي تصرف مخالف للمجتمع أو للدولة أو للأفراد، ولكن المشكلة بهذه المجتمعات هو أنه بمجرد أن تحدث أي فوضى شعبية بها يفقد القانون أي سيطرة وتتحول تلك المجتمعات إلى بيئة بدائية لم تعرف ولا تعترف أبداً بما يُسمى بالقانون.

وهناك مجتمعات محكومة بالواقع الاجتماعي ويقف القانون عاجزاً عن تغير العديد من الظواهر الاجتماعية لشدة تجذرها في ذلك المجتمع حتى ولو نتج عنها جرائم قتل أو تشريد الأسر، وهنا يقف القانون عاجزاً عن التغيير وعن مقاومة ذلك الواقع الحديدي الصدئ.

وهناك مجتمعات اختارت الأحكام الدينية ولكنها تصطدم أيضاً بنوازع الشر الموجودة بأي مجتمع والتي لا يكبحها أو يحد من خطورتها إلا القوة الجبرية للقانون.

القانون أداة تغيير هامة للمجتمعات، بل هو أقصر الطرق لإحداث هذا التغيير ولكن الخطورة هي أنه إن لم يكن هناك نضج اجتماعي وديني وثقافي لهذا التغيير فسوف يكون تطبيقه مقتصر على قاعات المحاكم، فتعقيد الذات البشرية يكمن جزء منه برفض المفروض والتمرد على الأحكام. هناك حالة واحد حيث تستجيب الذات الإنسانية للقانون ويكون المجتمع مطواع للقانون وهي انسجام الدين والقانون والمجتمع معاً، فأي خلل أو تشرذم بهذه المعادلة سوف يكون هناك تناقض أو رفض أو تحدي، وسوف تكون علاقة الأفراد محكومة بنصوص القانون وليس بالضمير الجماعي والقيم الأخلاقية.

من الحكمة أن تكون مؤسسات تشريع القانون لديها من الخبرات النفسية والدينية والاجتماعية الكافية والتي تُسهم في تشريع القانون وألا يكون المشرع شخص قانوني منفصل عن التغيرات الاجتماعية والصراعات والانتماءات الدينية.

القانون ليس قوة قاهرة فقط بل هو منظم للمجتمعات ومطور لها وإلا سيكون عامل من عوامل هشاشتها، القانون لابد أن يتحلى بروح الحكمة قبل الإصرار على العقوبة. ونحن جميعاً نتاج لعملية قانونية منذ ولادتنا حتى مماتنا؛ ومن هنا تنبع ضرورة انسجام القانون مع الدين ومع الواقع الاجتماعي لتحقيق التطور المُستديم للمجتمع.

***

د. سناء أبو شرار

قبل خمسة سنوات كنت أدردش مع صديقة مصرية، فقصت علي بعضا من حكايا طفولتها المخيفة والمرعبة، فقد كان جارها عم عبد السلام رجلا طيبا حنونا ويتعامل معها كابنته التي لم ينجبها  لأنه لم يرزق بأبناء، فيجلب الحلوى والورود ويصطحبها يوم عطلته الأسبوعية الى السينما وتشاركه هوايته مشاهدة افلام دراكولا وتعود الى اهلها خائفة مذعورة !!!

بالوقت نفسه كانت تستمع لحكايا مرعبة بشأن الماكينة التي تدار لنقل صور الفيلم على الشاشة، لا تعمل بداية تشغيلها الا اذا وضع فيها طفلا بريئا وتسيل دماؤه الطاهرة !!!

صديقتي لم تنس يوما هذه الحكايا ولا دراكولا، وكانت تظن ان مثل هذه الحكايا مجرد أقاويل تتناقلها البلدة كنوع من الفانتازيا، وظننت مثلها ايضا ان هذه الحكايا محض فانتازيا، حتى طلت حكاياها بأم رأسي مجددا، وخاصة بعد ان انتشر الحديث عن عبدة الشيطان وطقوسهم ومن بينها تقديم قرابين بشرية لإبليس اللهم احفظنا واياكم .

فمن اين جاء انسان عصرنا الحالي بهذه الافكار والطقوس الشيطانية، وهل هذه الوثنية الممجوجة والوحشية بالتهامها الاطفال القرابين لها أصل في ثقافة البشرية بالأزمنة السحيقة أم لا؟

وهل تقديم السينما شخصيات الوحوش ودراكولا مصاص الدماء كفنتازيا، كان تمريرا لعقول الناس وقبول فكرة الاله الوثني وابراز قوته وتفوقه على بني البشر؟!!

مولوخ والاطفال

بالرجوع الى الميراث البشري وجدنا تقديم الاطفال قرابينا للنار موجودا بالعديد من الثقافات القديمة بأفريقيا وآسيا التي ارتبطت بالنار وعبدت الاله الوثني مولوخ، والذي ايضا تعددت مسمياته .

فهو الإله الفينيقي بَعْل مُولُوخ شرها إلى الدماء، مُغرَماً بالقرابين البشرية، وخاصة الأطفال وحرقهم على مذبحه، فيُنزل بركاته على أتباعه، وتقدم لها الأضاحي بشهر أبريل ويحتفل البستان البوهيمي في كاليفورينا بحضور شخصيات كبيرة بهذه الطقوس ّ!!!

وبمنطقتنا العربية كان حضور مولوخ قويا بالمناطق الكنعانية والتي تشمل حاليا إسرائيل وفلسطين وبعض أجزاء من الأردن وسوريا ولبنان .

بالتأويل الاسلامي يذهب المفسرين الى ان مولوخ هو بعل بمعنى السيد أو الحاكم ورد اسمه في سورة الصافات في قصة النبي الياس وقومه الذين عبدوا صنم بعل لاستنزال المطر.

وفي بابل خلال عهد النبي إبراهيم حيث انتشرت عبادة الشمس بواسطة حاكمهم النمرود، وتسلطت الشياطين على قومه، وأكبرهم مولوخ السيد او الملك يقدمون له اطفالهم لدفع الشرور عنهم والحصول على القوة عبر طقس قرع الطبول والحان المزامير ليأتي دور الكهنة بإشعال النار تحت الصنم ووضع الطفل بداخله فيحترق حتى الموت.

كنا نظن هذه اساطير خرافية لكنها كانت حقائق واقعية أثبتتها أدلة عديدة منها ما نعيشه في عالمنا المعاصر من افعال شيطانية .

بالتأويلات الاسلامية، فقد حارب الله مولوخ في العراق، بأبي الانبياء ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل الذبيح، عندما ضحي به وقدمه كبش فداء، حيث كان الشيطان فوميت يتشبه بالكبش والماعز فكان ذبح الكبش كناية عن ذبح عقيدة الشيطان و شطبها من اساسها .

في اليونان عرف مولوخ بأسماء مختلفة مثل ميلكوم أو مولك أو مولكوم أو مولوك .

و في نصوص الكتاب المقدس عرف اسم مولك في سفر ارميا عرف هذا الاله الوثني بالبعل.، كما عرف ايضا لدى الشعوب التي عبدت الشمس، والأخرى التي عرفت البومة .

أخذت عبادة مولوخ طقوسا متنوعة، بعضها ذو طبيعة لها اختراقات اخلاقية عديدة، وتقديم الأطفال قربانا بجعلهم يمرون على النار، وكانت الاسر تعتقد بأن تقديم الابن الاكبر قربانا يحقق لهم الوفرة الاقتصادية لباقي الابناء .

ونصوص العهد القديم تشير لوجود معبد في الهواء الطلق بالقرب من القدس تقدم فيه قرابين الأطفال ومعروفًا باسم توفة، و يقع في وادي بن حنون، ولم يعثر على بقاياه الاثرية .

كاإلاه بجسد رجل ورأس ثور، و عرف باسم  Topheth يجسد مولوخ بتمثال “ الثور المقدس". و تتخلل تماثيل مولوخ المصنوعة من البرونز سبعة ثقوب تعتبر غرفًا، في كل واحد منهم يودع قربان من طحين، طيور، شاة، أبقار وأطفال.

وارتباط مولوخ بالبومة له تأويلات مختلفة في العالم بين الحضارات القديمة.

ففي حضارتنا الحديثة يؤل رمز مولوخ بالبومة كرمز للحكمة، اما الشعوب القديمة كاليونانيين والعبرانيين والعرب تعبر عن الشياطين والموت .

ويذهب بعض المؤرخين الي بأن عبادة مولوك لا تزال سارية حتى يومنا هذا بفضل الماسونيين، ووجودها ايضا لدى النادي البوهيمي في الولايات المتحدة التي اأنشئت عام1872 ولها رموزها الخاصة بها أشهرها بومة مرتبطة بمولوك.

تجسيدات مولوخ الفنية والادبية

حضرت تمثيلات مولوخ في الأدب ببعض القصائد والروايات كما فـي أعمال مثل روبين داريو وفريدريك نيتشه ودان براون . وقدمته السينما في صورة وحش، وفي شخصيات ألعاب الفيديو كإلاه قديم، بينما يحفظ مولوخ إلهًا لوسيفيريًا، في متحف تورينو السينمائي .

اخيرا، بعد هذه الوقائع هل يمكننا تصديق فكرة ان الاخيلة العديدة التي عشناها وقرأناها بأعمال أدبية واخرى فنية هي مجرد اساطير خرافية ؟ شكي هو يقين بأن هذه الاساطير نسيج لإبليس و اعوانه مثل مولوخ والذي يتشكل في كل عصر بأشكال مختلفة ومسميات متنوعة لتدفع الناس بالنهاية بتكريس عبادة ابليس بالارض من دون الله الواحد القهار، عبر قضاء البراءة والطهارة المتمثلة في دماء الاطفال الاطهار .

***

 سارة طالب السهيل

يجدر بنا الحديث عن احد اهم المعالجين للازمات في التاريخ، فالأمام الحسن بن علي (ع)، قاد وبنجاح مرحلة خطيرة من مراحل تأسيس الحضارة  الاسلامية، بالرغم من المعوقات التي وضعها واسسها ضده البعض منالمجتمع المحلي والخارجي .

وفي وقت شهد فيه القرن السابع الميلادي (زمن حياة الامام) توترات عالمية مثل انتهاء الحروب الرومانيةالفارسية والقضاء على سلالة سوي الحاكمة في الصين وتأسيس لسلالة تانغ وايضا انتهاء فترة ممالككوريا الثلاث واستقرار القبائل الجرمانية والسكسون بأراضي هولاندا كما احتلت الامبراطورية الساسانيةمصر والقدس بالإضافة الى حروب في البلقان وبلغاريا، فانه وفق كل هذه الاحداث برزت الحضارة الاسلاميةبصورة مثالية ومجددة للفكر والحياة الانسانية، مدعومة من السماء، ودخلت معترك التاريخ بوصفها احداهم المتغيرات العالمية ضمن مفهوم الدول او الحضارات العظمى، فقد انهت او حجمت حضارات الفرسوالرومان الهند، وفتحت حضارات العالم الاخرى من المشرق والمغرب والشمال والجنوب .

وقد دخل الامام الحسن في افق تلك الاحداث العالمية، بوصفه راس الهرم والقائد العام للقوات المسلحة للدولالاسلامية التي ضمت الشعوب المختلفة لاهم حضارة فتية، وقد دُجنت الحضارات ضمن الوجود الاسلاميالوليد وانتشاره، من خلال السياسة والثقافة والجانب العسكري .

ان الدورالاستراتيجي للإمام المجتبى في ادارة الدولة وترويض الازمات، سار بنحوين: الاول هو انه كان وزيراومساندا لأبيه الامام علي في المساهمة او بمعالجة ازمات الحروب العديدة فقد التحق بجيش عقبة بن نافعبأفريقيا، كما ذكر ابن خلدون، مع عبد الله بن عباس والحارث بن الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن جعفر بنأبي طالب والحسن والحُسين، وفتحوها سنة 26 هـ أو 27 هـ. كما شهد فتح طبرستان تحت قيادة سعيد بنالعاص وشارك بمعركتي الجمل وصفين .

اما الجانب الاخر فهو الذي اختص باستيعاب وتذويب الازمات، وهي التي برزت في مرحلة استلامه الحكماثر استشهاد والده، فقد اعد للحرب وفاوض ورسم الطريق لثورة الامام الحسين، وهذا يعني ايضا مساران فيحياة هذه الشخصية المقاتلة والمحاورة والمفاوضة، المسار الاول هو فهم طبيعة الارض والمجتمع والعدو،والثاني هو فهم تداعيات المرحلة الخطرة والاعداد للمستقبل، بإخراج ثورة الامام الحسين بوصفها وجودامستقلا يغطي المرحلة من زاوية الظرف الاجتماعي والنفسي والسياسي ويتوافق مع السنن الالهية، وقد جمعبين فهم الحتمية الالهية والتاريخية لشهادة الحسين (ع) والمروية عن جده المصطفى، وبين الاعداد الواقعيالتطبيقي والراهني لتلك الثورة، كما انه (ع) تلافى سيناريو القتل الجماعي له وللإمام الحسين معا واهلبيتهم، ويمكننا تخيل ان الطف وقعت بمشاركة الحسن والحسين (ع) مما يعني مقتلهما واهل بيتهما بوقتواحد، وهنا ستختلف المعادلة من الناحية التاريخية و الاستراتيجية والمستقبلية وهي التي توجب لها انتتألف من:

1. التمهيد والاعداد للثورة وقد اسس ذلك الامام الحسن (ع) .

2. التضحية من اجل طلب الاصلاح (وقام بتنفيذه ببسالة الامام الحسين(ع) واهل بيته) .

3. تعرية الباطل واختبار الامة وكشف المخططات الخارجية والداخلية بالإضافة الى الاعلام ونشر مبادئ ذلكالفعل النقي (وهو جهد المراة الباسلة، التي الجمت الطاغية و التي جرجرت القلوب لضفة ال محمد، وخبأت التاريخ في اكمامها (السيدة زينب ابنة علي والامام السجاد (عليهما السلام) . وهذه التضحية وتلك الادوار منعت الوقوع في فخ ال امية (معولالشيطان) و معاوية وبطانته التي ارادت قلب الحقائق وتخريب الامة وزرع الفتن واستخدام السفسطةوالجانب النسبي وتحويل الامة من المنهج السماوي الى الملكي طبقا لما يطبقه الروم . 

ان خارطة المعادلة اعلاه تمثلت بفعل الامام الحسن والحسين (عليهما السلام) بتعرية المنهج البركماتيالسفسطائي النسبي الاموي، وتوضيح الجهة التي هي احق بتولي الحضارة الوليدة ثم المرحلة الثانيةبرزت معادلة التضحية التي غيرت ومازالت تغير وجه التاريخ اليوم ومن ثم الجانب الثالث وهو الرساليوالاعلامي للسيدة الطاهرة زينب بنت علي (ع) والامام السجاد (ع) .

لقد كان الفهم الاستراتيجي للأمام الحسن يشير الى الهدف والغاية بوضوح والى المنهج والرؤية الشاملة للوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، والى متابعة قوة الادوات التي يستخدمها (الافراد).

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

إعداد الرسول محمد: 

كما ذكرنا في الحلقة السابقة بأن الرسول محمد (ص) أُسند ألية مهمة الإبلاغ عن الله الى الناس، وهي مهمة تتطلب صفات قيادية، ودرجة عالية من الإعداد والتدريب، مؤطرة بنسق أخلاقي عالي. أن مهمة الرسول (ص) مهمة ثورة حضارية مخطط لها أن تحدث أنعطافة تاريخية في مسيرة الأنسانية، فكان الأختيار الألهي لمحمد (ص) قائم على أستعداد فطري لدى الرسول (ص)، وهي مَلَكَة القيادة، وهي مَلكَة فطرية صقلها الله بتأديبه له، وهو من قال في حديث نبوي شريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، والأدب يعني الخُلق، وقد وصفه الله في القرآن الكريم (وإنك لعلى خلق عظيم)(القلم:4) وهذا الخُلق العظيم الذي تَخَلق به الرسول الأكرم محمد (ص)، هو ما أهله لمهمة أُوكلت له، في نشرها، وأشاعتها بين بني البشر، وقد عبر عن هذه الوظيفة بحديث له (انما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و(يا أيها النبي انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)(الأحزاب:45). يتضح للقاريء الكريم أن الرسول كان يحمل صفات قيادية أهلته للتصدي لموقع النبوة، والتي كملها الله بجولة من الإعداد والصقل لشخصيته الرسولية، وفي هذه الحلقة سنرى كيف أَعده الله عن طريقِ التوجيه والمتابعة لحركته في حقل عمله التبليغي، ونذكر هنا بعض الآيات التي يُنبهه الله فيها، ومثال ذلك هو عدم تحديد زمن لأجابة السائل وهو لم يمتلك الأجابة عنها من الله، وخاصة فيما يتعلق بأمور العقيدة والشريعة، لأن الأمر يتعلق بالله وليس به، وقد جاءت الآية التالية مصداق لذلك الأمر ( ولاتقولنَّ لشيء اني فاعل ذلك غداً)(الكهف:23)، هذه الآية تنبه النبي أو تذكره، ليس لك أن تحدد زمن الأجابة، وهو أمر ليس من صلاحيته يامحمد، وهذه الآية جاءت على ما سُئل به الرسول (ص) بثلاث أسئلة من قريش، والتي تَمركزت عن أخبارهم بالفتية الذين ذهبوا بالدهر الأول، وهم أهل الكهف، والثاني عن الرجل الذي طاف في مشارق الأرض ومغاربها (ذو القرنين)، والثالث عن الروح. فقد حدد الرسول لهم الأجابة بالغد، وقد رد الله عليه بالآية التي ذكرناها، وهو ضرورة أنتظار الجواب من الله لينقله اليهم، وليس من صلاحيته تحديد الوقت لأن زمام الأمر بيد الله، وليس بيده، بأعتبار أنه مُبلغ، وليس منتج للرسالة، ومن مقتضيات المُبلغ أن يلتزم بما يمليه عليه الذي يُبلغه، أما السؤال الثالث الذي سألوا به قريش عن الروح، فقد أحتفظ الله به لنفسه، ولم يُعلم به البشرية، ومنهم محمد رسول الله، وجعلها الله من خصوصيته، وهكذا تستمر الملاحظات والتنبيهات الآلهية من الله الى رسوله، والتي تسير بالتوازي مع العملية التبليغية، ومثال آخر عليها هو عدم التعجيل بأي أمر، قبل أن يُقضى اليه، وأن لا يفصح عن ما تخالجه به نفسه، بل ينتظر الى ما يوحى اليه، وهذه الآية توضح ذلك (ولاتعجل بالقرآن من قَبل أن يُقضي اليك وُحيه وقل ربي زدني علماً)، وهي آية واضحة المعنى في تسديد خطى الرسول (ص)، والتحذير من أستباق القول بالقرآن، قبل الأذن من الله. فهاتين الآيتين المذكورتين أعلاه تُلزم وتعلم الرسول الحذر والأنضباط والتأني في أصدار الأقوال خاصة التي يُسأل عنها، والتي يستمد جوابها من الوحي لأن أمانة الرسالة تقتضي هذا الأنضباط العالي، والدقة المتناهية في القول، بأعتبار ماينقله للناس هو كلام الله، وهو كلام تترتب علية أمور عقائدية وآخرى تشريعية، وتنبوئية وتاريخية تخضع للتطبيق العملي في الجانب التشريعي، وللنظرالفلسفي والعبادي في الجانب الأعتقادي، وللفحص والتدقيق في الجانب التاريخي، وهذه عملية يكون الخلل فيها كبير وخطير، ويرتد على الدين نفسة، وعلى الرسول (ص) بذاته أمام الله وأمام التاريخ. ومن مستلزمات النبوة وأستعدادات الرسولية ومتطلبات التبليغ الذي كُلف بهما الرسول الأكرم هو الحصول على العلم والأستعداد اليه، ومنطوق الآية الكريمة خير دليل على ما يسوقه الله له من طلب العلم (...وقل ربي زدني علماً) (طه:114)، وحث الله له في أول آية نزلت عليه بصيغة الأمر هي (أقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم....)(العلق:3). كما أشار الله الى صفة مهمة أراد الله لرسوله التحلي بها،الا وهي الصبر (فَاصبر كما صَبَر أُولو العزم من الرسل ولا تستعجل....)(الأحقاف:35) وكذلك (أصبر لحكم رَبك فانك بأعيننا....)(الطور:48) و(أصبر صبراً جميلاً)(المعارج:5) وكذلك (أتبع مايوحى أليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)(يونس:109). فالرسول كان شخصية صبوره، وبيئته القاسية ساهمت في طول أناته، ولكن النبوة، ومهامها العصيبة تحتاج من الصبر ماتنأى منها الجبال، لأنه سوف يواجه في دعوته مجتمع صعب المراس، وقاسي الطباع، يتطلب تغيرهم طاقة كبيرة، وجهود عظيمة، ونفس طويل تجعل منه أن لايضعف أمام خصومه، ويهتز أزاء تقلبات الأمور، وتغير المواقف، وفعلاً كان لصبر الرسول (ص) الأستثنائي هو ما لفت الكاتب الأمريكي (مايكل هارت) في كتابه (العظماء مائة وأعظمهم محمد) بأن رشحه على رأس قائمة أعظم شخصية عبر التاريخ، وصاحب الكتاب عالم فيزياء فلكي أمريكي الجنسية، ويهودي الديانة، كما نشر عنه الكاتب المصري أنيس منصور الذي ترجم كتابه المذكور الى العربية. من الأمور التي تبين الرعاية والمتابعة والأعداد الألهي له هو عندما شاهد ما حدث لعمه الحمزة في معركة أحد وكيف قُتل بطريقه وحشية، حتى أَخرجت قلبه، ولاكت به هند زوجة أبي سفيان، فتعصب الرسول (ص) وقال (والله لأقتلنَّ بك سبعين منهم)، وكان الرسول في حالة أنفعالية، وهو كما قلنا بشر له عواطفه وأحاسيسه كباقي البشر، ولا يمكن عن يتجرد منه، ولكن كما قلنا أن رعاية الله له حاضرة، وتسديده له دائم،فنزلت الآية ( وأن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُقبتم به)(النحل:126)، فالرسول (ص) تراجع عن وعده هذا وأمتثل لأمر الله الذي تحدد بهذه الآية، فالرسول ليس أصيلاً في أحكامه، بل هو ذو صلاحية محددة ومقننة بشكل صارم.

كما أن لصاحب الدعوة شخصيته الكارزمية التي تشد الجمهور له، ولكن كما قنا كانت هذه الشخصية المحمدية تحت أعداد وتوجية ورعاية الله (المرسل)، فكانت من أشتراطات هذه الشخصية الدعوية والقيادية أن لا تكون لينة فتعصر، ولا صلبة فتكسر، فقد خاطبه الله ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك)(ال عمران:159)، وهذه الصفة من أكثر الصفات أهمية للشخصية القيادية على كل المستويات،سواء كانت اجتماعية أو عسكرية أو سياسية، وهذا مانلمسه في شخصية الرسول من صلابة في الحق، وقد أمره الله في ذلك (فصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (الحجر:94) أنه أسلوب الشدة والأقرار والصرامة، والموقف القوي الذي يجب ان يتخذه الرسول(ص) في مواقف يستدعي لها الظرف، في حين يدعو الله نبيه الى العفو في مواقف آخرى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)، كما نرى الدعوة الى السماحة في آيات أُخر (فبما رحمةً من الله لِنت لهم...)(ال عمران:159)، وما دعوة الرسول في فتح مكة وما دعى مايشبه بالعفو العام لمشركي مكة والذين بعضهم مم تلطخت يده بدماء المسلمين، حيث قال لهم (أذهبوا فأنتم الطلقاء)....يتبع

***

أياد الزهيري

تتلاحق الاخبار وتتناسل الرسائل والتغريدات والفيديوهات عبر منصات التواصل الاجتماعي حول مخططات الخداع المقبلة نهاية هذه السنة، وعبر تصريحات رسمية لبعض الدول العظمى ضد شرطي العالم الفاسد، هناك جائحة جديدة بدأت تظهر ملامحها ضمن يوميات كندا والولايات المتحدة الأمريكية والاصابات الجديدة بأوروبا واحتمال عودة الاحترازات مع منتصف شهر ايلول القادم، هذه المعطيات والصور والقراءات والتحليلات التي تملأ الاعلام وصفحات الشبكة العنكبوتية ما محلها من الاعراب في راهن العرب والمسلمين؟

هل قدرنا ان نظل الصدى وفئران التجريب لمختبرات شيطانية لا تعرف سوى الاصفار بعد الارقام الربحية من الدولار واليورو؟ الجائحة الفائتة فاجأت العالم برمته لكن كما يعرف لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين، هناك رهانات كبيرة بعد جائحة كورونا الفائتة اشتغلت عليها امم ودول من اجل تعزيز أمنها القومي العام من صحة واقتصاد وحياة اجتماعية، الى الان يمكن رفع منسوب الوعي والضبط لدى مجتمعاتنا حتى لا نكون أول المستغفلين عالميا، التحدي القادم هو تحدي ادارة ازمة، مركز الثقل فيها هو اعلام رصين وارشادي صادق، لان حرب الجيل الخامس سلاحها المحوري هو تحطيم القدرة الدفاعية الاعلامية القائمة على التوجيه والارشاد للإرادة البشرية، ومن جهة أخرى ترتيب حركة الاسواق المحلية لمدى سنة او سنتين كاستراتيجية احترازية ضد الاضطرابات القادمة في السوق العالمية من جراء الترهيب الاعلامي من سيناريو الجائحة الجديد، والعنصر الثالث والاهم في جغرافيتنا العربية والاسلامية هو برامج التكافل والتعاون الاجتماعي في مجتمعاتنا من جمعيات ومؤسسات خيرية ومجتمع مدني خاص وقوي بشبابه واجتهاداتهم، هذا العنصر موجود في غير المجتمعات العربية والاسلامية وقوي جدا بأنظمته وطاقاته لكن ببيئتنا الحاضنة له يكون فعال ومؤثر وذا قوة طويلة المدى اذا ما سارعنا في تفعيله من خلال مقاربة عملية لمقومات الوقف الاسلامي على طول السنة وفي جل الميادين بما يشكل جدار صد منيع ضد كل المحاولات الخبيثة لضرب أمن مجتمعاتنا..

في ظل هذه التحديات التي تواجه الانسانية جمعاء ونحن ضمنها كأمة لها كيانها ووزنها في معادلات الحضارة الانسانية، هناك تكتلات اقليمية واخرى شبه قارية وثالثة عالمية، قد تصمد امام الهزات والاضطرابات التي ستحدثها الجائحة الجديدة، لكننا سنكون رقما ثانويا في السيطرة والصمود اذا لم نتحرك بفكرة القوة الاستباقية وإنشاء الغيمة الاحترازية للعرب والمسلمين، غيمة تحمي على الاقل مجتمعاتنا من مجاعات وتجويع وتطهير ممنهج متوقع في العقود المقبلة!!

أمام العقل القيادي العربي والمسلم بضعة أيام حتى يتحرك استراتيجيا وبإرادة إنسانية راسخة كما تحددها قيمه الاسلامية الخالدة، لابد من حركة استراتبجية ذات تكتيكات سريعة لتخليص واقعنا من فوضى التبعيات والعنتريات والجاهليات، الرهان الاول قبل ان يقع الضياع الشامل هو استثمار المتوفر بأكبر قدر ممكن من الدقة والتركيز في تحقيق أكثر مصالح ممكنة على المدى القريب والمتوسط...

إدارة الأزمات أول ما تعنيه استغلال الواقع بعمق واتقان ووعي بماهية الأمن الاجتماعي العام أي الحفاظ على القيم وتفعيلها في حركة الدفاع الاستباقي، فبيولوجيا الازمات المفتعلة هي واقع تاريخي يراهن على مستويات العقل والواقعية والصبر والامل والصمود لدى الشعوب، فتفكيك الازمات عملية ثقافية بإمتياز، أي توفر ثقافة مواجهة ونصر ضد كل مخططات القهر والترويض والابادة والمليار الذهبي!!

و عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. فلسفة الحياة اسلاميا ذات قيمة عظمى لا تتوقف عند الماديات ومعادلاتها الربحية بل هي هندسة دقيقة وعميقة لكرامة الانسان في مشوار الحياة ومسؤولياتها.. لذلك وعينا للمنعطفات التاريخية لابد ان يكون منطلقا من صميم مسؤوليتنا الوجودية كمسلمين، حتى نضع الخطوة الاولى في طريق "كنتم خير أمة أخرجت للناس" نناضل من أجل الحياة الكريمة للانسانية وليس الاستغراق في سيناريوهات الموت المبرمج والخبيث..

لم يبق من الوقت البدل الضائع في لعبة الأمم التي خطفت القرارات الاممية وتاجرت بمصائر الشعوب وسرقت ثرواتها، الشيء الكثير، فالسودان سيضيع لو بقينا ننتظر واليمن.

سيضمحل اذا ما تكاسلنا عن جبر كسوره وسوريا لابد ان نوقف نزيفها ولا نظلمها زيادة وفلسطين المحتلة لن تنتظرنا لنقتلع السرطان الجاثم على ترابها الطاهر..

القفزة الاستباقية الضرورية هي ثقافية اجتماعية شبابية بإمتياز لحماية دولنا من التيه والضياع في ظل مسلسل خدع أبناء العم سام، وايضا ذات أبعاد اقتصادية طويلة المدى فيما يتعلق بخصائص العمل الأهلي الانساني والتنموي الاجتماعي مما يشكل سياجا مناعيا للمجتمعات ضد المشكلات والامراض والمخاطر بشتى اشكالها في الصحة والتعليم والبيئة والعلاقات العامة والسلم الاهلي العام..

وأهم حقل راهنا هو الإعلام بمختلف وسائله، خصوصا منصات الحوار والتواصل الاجتماعي التي لابد ان لا تستغرق في العناوين العريضة التي تسقط المعنويات وتدمر النفسيات وتفتن البلدان، لابد من خطاب رصين ومؤثر لنظم امور مجتمعاتنا سواء بلغة الثقافة الحية او القيم الدينية او الفن او الأدب حتى نؤسس لمرحلة استثنائية في مواجهة الخدع الغربية الامبريالية المقبلة..

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30]

***

أ. مراد غريبي

نحن كمسلمين لا نرى في الذات الآلهية الا كنه يصعب أدراكها، وهي ذات لايمكن لقدرة الأنسان أن تستوعبها، لا من حيث الجوهر، ولا من حيث القدرة (ليس كمثله شي...)(الشورى:11)، وهنا نذكر رأي للفيلسوف الألماني كانط رأيه في مسألة الله ومدى أمكانية العقل في أدراكه فأشار الى أن العقل يسبك التجربة وينظمها في أطار الزمان والمكان وينظمها وفق مقولاته. لكنه لا يستطيع تجاوز الظواهر والمحسوسات. فالعقل مسوق الى التصور بأن وراء كل حد شيئاً أبعد منه، وهكذا الى مالا نهاية،  ومع ذلك فأن اللانهاية في حد ذاتها شي لايمكن أدراكه. محصلة ذلك أن العقل مصمم ألهياً للتعامل مع الطبيعة ومحسوساتها فقط، ولابد من ترك أمور ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقا) للقلب والشعور الذين هما أسبق من العقل. هذا رأي كانط في محدودية العقل في أدراك الخالق، مما حول أمره الى الشعور والقلب ليلتقط نفحاته وتلمس وجوده، والسبب يرجع الى أختلاف الطبيعة الأنسانية عن الطبيعة الألهية فالذات الألهية والذات الآنسانية ذات طبيعتين ذاتيتين مختلفتين يمتنع التواصل بينهما، ولكن حتمية التواصل بين الخالق والمخلوق، أختار الله وسيلة النبوة، والتي أمن لها وسيلة الوحي، وهذا ما جعل لوجود الوسيط بينهم أمر ضروري للتواصل والتخاطب بين المخاطِب والمخاطَب، بين الآمر والمأمور، وهذه ضرورة حتمية، لأن الخالق لم يترك مخلوقه سدى، فكما جعل الله للقوانين الطبيعية مرشداً للطبيعة ينظم أمرها بها، فلابد من أن يجعل للأنسان كمخلوق لخالق أن يجعل له نظام من نوع آخر يتناسب وطبيعته العقلية، وما يملكه من أرادة حرة، فما كان الا أن يكون هناك رسول من طبيعة هؤلاء المخلوقين (لقد مَنٌ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته)(ال عمران:164). أذن تقتضي الضرورة أن تكون حلقة الوصل من نوع الأنسان فتجتمع أدوات المعرفة، وهي العقل والقلب والرسول ۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الشورى:51)

فهذه الأدوات الثلاثة مجتمعة تكمل بعضها بعضاً لتأمين التواصل مع الذات الألهية، لأيصال خارطة طريق للأنسان، وهو الكائن الذي سيتخذ من الأرض مسرحاً حياتياً له.

قد يسأل سائل، ماضرورة الرسول والرسالة للأنسان، فلماذا لا يدعه الخالق ونفسه، هنا نحن نسأل، هل الشركات المصنعة للأجهزة بكل أنواعها وأشكالها، وخاصة المنتجات البالغة التعقيد أن تكون بدون مندوب بيع وتسويق وأرشاد للمستهلك والمشتري لها؟!، كما هل من المعقول أن تسوق منتوجاتها بدون أرشادات وتعليمات في كيفية الأستعمال الصحيح؟!، أي ما يٌسمى بال(كتلوك)، فأكيد الشركة التي لا تزود منتجاتها بهذه الأشياء تُعتبر شركة غير رصينة، ولا يمكن الركون أليها، فهذه المستلزمات تكفل الأستخدام الحسن لها، وتجنب الوقوع بالضرر، كما من مستلزمات التسويق الناجح لهذه المنتجات، أن يكون هناك مندوب تسويق لهذه المنتجات التابعة لهذة الشركة، يشرح للمستهلك تعليمات التشغيل الصحيح، وكيفية تجنب الوقوع بالخطأ، وهنا يكون المندوب هو رسول الشركة والشارح عن منتجاتها. السؤال الذي يطرح نفسة، وهو هل من المعقول أن تهتم شركة وترعى مستهلكي منتجاتها؟!، ولا يرعى الله مخلوقاته مع الفارق الكبير بين أنتاج منتوجات مادية وبين خلق الأنسان سيد الكاىنات، هذا الأنسان الذي هو خليفة الله بالأرض، وهو مقام ومسؤولية تتطلب تأهيله لها بأحسن مايمكن من ناحية التكوين وكذلك التوجية والتعليم (علم الأنسان مالم يعلم)(العلق)، وهكذا يكون الرسول محمد (ص) بوصفه مندوب الله الى خلقه، حيث هو حلقة الوصل بين صاحب الخطاب والمخاطب، فهو ليس أكثر من ناقل للخطاب ومبلغ له (وما على الرسول الا البلاغ المبين)(النور:54)، ومن خلال هذه الآية تتضح مهمة الرسول (ص) وتتحدد وظيفته من قِبل الذات الألهية بمهمة التبليغ، وأكيد للتبليغ أدواته التي ينبغي عليه القيام بها، كما أن وظيفة التبليغ يُختار لها شخص على قدر أهمية ووزن الرسالة التي يحملها، وخاصة أذا كانت بمقام عالي من التقديس، وهذا ما حتم على صاحب المهمة أن يتصف بالثقة والأمانة والذكاء، والشعور العالي بالمسؤولية، وأن يتمتع بقدرات وطاقات تستوفي المهمة الملقات على عاتقه، فالله هو المشرع، والرسول هو المشرع اليه، أذن مسألة التشريع مناطة بالذات الألهية، وهو من يختص بها حصراً، وما على الرسول الا البلاغ المبين، أي لا حق له بالتشريع، والآية واضحة في هذا الأمر (ليس لك من الأمر شي) (آل عمران-128)، فمنطوق الآية تمنع الرسول من أن يضيف أو يحذف شيء مما كُلف بتبليغه، بل ويحذره من حتى تأخير التبليغ (بلغ ما أُنزل اليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته)، فهو ليس مطلق الحرية، بل محكوم بأوامر مشددة، وهذه العملية تحتاج الى مصداقية عالية، بحيث ينسى المكلف في نقل الرسالة حتى  ذاتيته، لكي ينقلها بحذافيرها، والى شخصية غاية بالألتزام العملي والأدبي، وهذا ما جعل الله أن يختار محمد بن عبد الله (ص) لهذه المهمة الخطيرة لما يتمتع به من تلكم الصفات التي تأهله لذلك، وقد وصفه الله نظراً لأمتلاكه لهذه الصفات ( وأنك لعى خلق عظيم)(القلم:4)، أنها عملية نقل لأمانة عظيمة، وهي نقل الرسالة المعدة للبشرية، ولكل الأجيال وعبر العصور والأزمان، وهذا التخطي للبعدين الزماني والمكان هو ما جعل الرسالة خاصة بخالق الأنسان، لأن الذات الألهية، هي الوحيد القادرة على تخطي هذين البُعدين، وهي القادرة الوحيدة بمعرفة كينونة الأنسان بحقيقتها المطلقة، لذلك حصر الله الأمر به، ولا يتعداه الى غيره، وهذا ماتوضحه الآية الكريمة (ماينطق عن الهوى أن هو الا وحي يُوحى)(النجم:3، 4).

هذا البحث يركز على أنسانية الرسول (ص)، والذي سوف يتخذ من القرآن كمصدر وحيد للتعرف على شخصيتة وصفاته وأمكانيته كبشر يحمل مهام أبلاغ وتبشير لرسالة سماوية، وقد أعتمدنا في كشف هذه الصفات، على القرآن الكريم، كتاب الله، المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا يمكن التشكيك في سلامة نصوصة من الأضافة والطرح، وهو النص الذي حمله رسول الله للناس، فعندما يكون الله هو الواصف لنبيه يكون هنا هو فصل الخطاب، ومادام الميزان الألهي هو من يوزنه، فلاينبغي أن نَزنه بميزان غيره، فلامقارنة نجريها بين الله الذي أنتخبه نبياً، وأميناً لرسالته، وبين غيره من البشر لأعتبارات كثيرة.، المهم في بحثنا أن أختيار الله له كرسول لا يخرجه عن كونه بشر، ولا يعطية أمكانات تخرجه عن دائرة باقي البشر، وأنه لا يختلف عن غيره من البشر في الأمكانيات الذاتية، ولا يتميز عليهم بقدرات خارقة، خارج قدرات البشر، ولا يتميز بصفات تجعل منه فوق البشر (أنما أنا بشر مثلكم يوحى الي....) (الكهف:110)، وهناك حديث نبوي يؤكد هذا المعنى، عن أم سلمه (أن رسول الله (ص) – سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج اليهم فقال: "ألا انما أنا بشر مثلكم، وانما يأتيني الخصم، فعل بعضكهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فأنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها). هذه الآية، وهذا الحديث النبوي تعني بشكل واضح ان الرسول هو أنسان بكل ماتعني الكلمة من معنى، وان لا خوارق ولا أسطرة في سلوك الرسول (ص)، وأن الرسالة يكون المخاطبين بها على مقدار سعة أستيعابهم. عن أبن عباس عن النبي قال (نحن معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم)، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسول من نوع المُرسل أليهم، وغاية ذلك بأن ما أرسله لهم يقع ضمن قدراتهم، وسعة أمكانياتهم، وأنه يمكن أن يكون نموذج عملي لغيره من بني البشر، لأن الله سبحانه وتعالى ليس من المنطقي أن يرسل لهم رسول ونموذج أيماني خارج نطاق قدراتهم، وبالتالي لا يمكن أن يكون عليهم حجة بأعتباره ذو قدرات خارجة عن المالوف، فشخصية الرسول (ص) لم تخرج تكوينياً ولا نفسياً عن مألوف البشر، فهو يأكل، ويشرب، وينام، ويتزوج النساء، ويتعب ويمرض ويفرح وينزعج (عبس وتولى...)(عبس:1).

وظيفة الرسول محمد (ص):

لاشك أن وظيفة الرسول (ص) واضحة ومحددة، وقد أفصح عنها القرآن بالآية (فهل على الرسول الاالبلاغ المبين) (النحل:35) (ما على الرسول الا البلاغ...)(المائدة:99)، والا هنا جاءت كصيغة استثناء، وتكون مسبوقة بكلام مثبت، ويُخاطبه الله ب (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك...)(المائدة: 67)، وأن النبي محمد (ص) يقر على لسان القرآن بأنه لا يتبع أحد ولا حتى نفسه الا ما أمره الله به (ان أتبع الا ما يوحى اليَّ) (يونس:15)، وهذا دليل واضح على العلاقة التشريعية التي مرجعها الله، والوظيفة التبليغية التي يقوم بها رسول الله محمد (ص)، كما أنه ينفي أي علم الا ماعلمه الله به، وفي حديث للرسول (ص)(واني والله ما أعلم الا ما علمني الله). فمصدر العلم الذي يبلغه للناس والمتمثل بالشريعة هو علم ألهي المصدر، وليس هناك ما أضيفه من عندياتي، فأنا لا أعدو أكثر من ناقل ومبلغ لهذه الرسالة التي كلفني الله بمهمة النقل وشرف التبليغ بها، وقد وضح ذلك ابن حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط، حيث ينقل عن الرسول (انما أنا متبع ما أوحى الله تعالى غير شارع شيئاً من جهتي ولا أعلم ماوراء هذا الجدار الا أن يعلمني ربي)، وهذا يتضح بأن الرسول مقيد تماماً بقيد الوحي، وأن لا سلطان له في التشريع، وليس له الا الأمتثال والطاعة المطلقة لله، وخير دليل على ذلك، هو عندما سُئل عن معنى الكلالة، قال للسائل (هذا ما أُتيت، ولست أزيدك حتى أُزاد) (من أسلام القرآن الى أسلام الحديث ص23). يتبع

***

أياد الزهيري

توجد جامعات متخصصة لدراسة العلوم الانسانية فقط في العديد من بلدان العالم، بما فيها طبعا في بعض بلدان عالمنا العربي، ولكننا نريد التوقف في مقالتنا هذه عند جامعة العلوم الانسانية في روسيا بالذات، لاننا نتابع مسيرة التعليم العالي الروسي بكل ظواهره الايجابية والسلبيه، وذلك لأننا نظن، ان هذه المتابعة الدقيقة مفيدة لنا،  اذ ربما (نكرر – ربما) نستطيع ان نستخلص منها بعض الدروس والاستنتاجات المفيدة في حياتنا الجامعية العراقية، فالاطلاع على تجارب الاخرين في مسيرة التعليم العالي ضرورة  (ونحن بشكل عام لازلنا مبتدئين في هدا المجال،  فمسيرة التعليم العالي عندنا ترتبط زمنيّا ببداية القرن العشرين ليس الا)، والاطلاع على تجربة التعليم العالي في دولة مثل روسيا يعني، امكانيّة ان نأخذ بنظر الاعتبار ايجابيات تلك التجربة الجامعية (ولكن ليس بشكل تلقائي اعمى، وانما حسب واقعنا و ظروفنا وامكانياتنا طبعا)، وان نتذكّر دائما  سلبياتها و نتجنب تلك السلبيات قدر ما نستطيع، وهذه السلبيات ليست قليلة مع الاسف في الجامعات الروسيّة عموما (رغم كل ما قيل ويقال من هذا الجانب المؤيد او من الجانب الآخر المعاكس له، فالاقوال كثيرة ولكن الوقائع هي التي تحدد و تتكلم في نهاية المطاف، وهي التي يجب ان نستند عليها  عند التقييم الموضوعي العام  لمستوى تلك الجامعات) .

بدأ التفكير بتأسيس جامعة للعلوم الانسانية في روسيا في تسعينيات القرن العشرين من قبل بعض اعضاء اكاديمية العلوم الروسية، اذ لاحظ اعضاء الاكاديمية الوهن والضعف (ان صحّ التعبير) الذي اصاب المجتمع الروسي تجاه العلوم الانسانية حصرا، وقرروا معالجة هذا الجانب في المجتمع عن طريق تأسيس جامعة متخصصة تدرس العلوم الانسانية بالذات، وتحاول – بالتالي - الارتقاء بتلك العلوم وتوسيعها، كي تشغل هذه العلوم مكانتها الطبيعية في وعي المجتمع وتؤدي دورها المهم في مسيرته اللاحقة، وهي ملاحظة علمية صحيحة ودقيقة جدا في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الروسي وتشخيص موضوعي للخلل المرعب الذي اصاب الاوساط الاجتماعية الروسية، اذ انهارت الدولة السوفيتية عام 1991(وهو حدث هائل جدا محليا وعالميا !)، ولم تنهض بعد الدولة الجديدة و البديلة (اي روسيا الاتحادية) محلها كما يجب، وهي ظاهرة طبيعية في مثل تلك التحوّلات الاجتماعية الكبرى في تاريخ الامم والشعوب . وهكذا حققت اكاديمية العلوم الروسية افكارها تلك عام 1994 ضمن الامكانيات المتاحة لها آنذاك، واعلنت حكومة روسيا الاتحادية وفق أمر اداري رسمي  تأسيس - (جامعة العلوم الانسانية)، وقد تم تسجيل عدة صفات محددة في نفس التسمية تلك، منها – (الجامعة الحكومية الاكاديمية)، فهي (حكوميّة)، اي انها جامعة رسمية تكون  الدراسة فيها مجانا، وليست جامعة اهلية خاصة تعتمد على اجور الدراسة وتهدف للحصول على الربح من تلك الاجور (كما يحدث عندنا مع الاسف، وكذلك في بلدان اخرى في العالم، بما فيها روسيا)، وان هذه الجامعة (اكاديميّة)، اي تديرها اكاديمية العلوم الروسية وتابعة لها و وهي التي تشرف عليها، ولا علاقة لها مع اي مؤسسة اخرى . لقد اثبتت تجربة السنوات الاخيرة نجاح هذه الجامعة فعلا، فاعداد طلبتها كانت غير كبيرة، ويستمع طلبتها منذ البداية الى محاضرات يلقيها عليهم اكاديميون كبار متخصصون في تلك العلوم الانسانية، ولا تهدف الجامعة الى (تخريج!) موظفين هنا وهناك، وانما تسعى الى خلق متخصصين شباب في العلوم الانسانية، يعرفون قيمة تلك العلوم وكيفية استخدامها في مسيرة المجتمع الروسي واهميتها لهم ولمجتمعهم .

السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا التعريف الوجير بجامعة العلوم الانسانية في روسيا هو الآتي – هل يمكن للمجمع العلمي العراقي ان يقيم مثل هذه الجامعة في بغداد ؟ والجواب عن هذا السؤال – نعم (حسب اجتهادنا المتواضع)، فالمجمع العلمي العراقي يضم شخصيات علمية رفيعة المستوى، ويمتلك بناية كبيرة في قلب بغداد يمكن ان تستوعب المشروع، وليكن هذا المشروع في بدايتة مقتصرا على الدراسات العليا فقط، اي ان تكون هذه الجامعة مخصصة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه ليس الا، وان تكون اعداد طلبة الدراسات العليا هؤلاء ضمن الحد المعقول وفي اطار الاختصاصات المتوفرة  في المجمع العلمي العراقي، مثل اللغة العربية، او الادب العربي، او التاريخ، او الفلسفة، او الاقتصاد، او علم الاجتماع . او علم النفس ...الخ، ومن المؤكّد، ان ادارة المجمع العلمي (ذات التجربة الغنيّة) تستطيع تنظيم هذه الدراسة حسب الضوابط الجامعية المعمول بها في العراق من طريقة قبول الطلبة واعداد كورسات دراسية وامتحانات شاملة واشراف علمي على الاطاريح من قبل المتخصصين المرتبطين بالمجمع ومناقشة تلك الاطاريح .... .

ان خطوة تأسيس جامعة خاصة للعلوم الانسانية باشراف المجمع العلمي العراقي ستكون الاجابة العلمية الحقيقية على هذا (السيل !) من الجامعات الاهلية، التي (غمرت!) العراق في السنين الاخيرة، والتي زادت من مشاكله المتشابكة، اضافة الى (السيل الهائل الآخر!)، الذي غمرنا ايضا من جامعات تجارية او شبه وهميّة تأتينا الى بيوتنا عبر اجهزة الكترونية (ليلا ونهارا!) .

يا رجالات العلم في المجمع العلمي العراقي العتيد، اتمنى ان تحاولوا دراسة هذا المقترح واتخاذ قرار مناسب بشأنه، فجامعة مثل تلك ستؤدي الى بناء جسر فكريّ صلب بين المجمع العلمي والمجتمع العراقي يربط علومكم بابناء مجتمعكم ، ويمكن له ان يساهم في اصلاح مسيرة التعليم العالي في العراق.

***

ا. د. ضياء نافع

وجهات النظر المختلفة في دراسة السلوك البشري

هناك وجهات نظر مختلفة في علم النفس لتفسير السلوك البشري . هناك خمسة وجهات نظر او منظورات في علم النفس وهي المنظور السلوكي، المنظور البيولوجي، المنظور المعرفي، منظور التحليل النفسي والمنظور الذاتي. ما  هي  وجهات النظر هذه؟ بادئ ذي بدء، يجب أن نعرف ما هو المنظور. المنظور هو طريقة تفكير، طريقة لتحليل مشكلة. لنفترض أن هناك حدثا. صبي يغضب ويضرب شخصا ما. فعل ضرب شخص ما هو  سلوك وفعل الغضب هو حالة معرفية، فعل ضرب شخص ما بسبب الغضب. يمكن تفسير هذا السلوك من خلال وجهات نظر مختلفة في علم النفس. ولذا ما سأفعله هو إخباركم بوجهات نظر مختلفة يمكن من خلالها تفسير هذا السلوك.

المنظور البيولوجي: والمنظور البيولوجي لفهم العلاقة بين السلوك والعمليات العصبية. ما يريد هذا المنظور فعله في الواقع، هو أنه ينظر إلى ما يحدث السلوك من حيث الوظائف العصبية؟ ما معنى هذا؟ هذا يعني أنه إذا غضب شخص ما، إذا أصبح شخص ما حزينا، إذا أصبح شخص ما سعيدا، إذا قدم شخص ما هدية لشخص ما أو أظهر تعاطفا أو أي نوع من الأفعال، أي نوع من السلوك فهو بسبب حافز، لأن معظم التحفيز يؤدي إلى سلوك. وإذا كنت ترغب في دراسة ذلك على مستوى الدماغ، فأنه عندما يقوم شخص ما بشيء ما، تكون الخلايا العصبية نشطة، و الناقلات العصبية تعمل، أي أن نوعا من النشاط يحدث في الدماغ، مناطق من الدماغ تتحد معا لإدراك التحفيز ثم في وقت لاحق أخبر أو أؤمر الشخص بشكل أساسي بالتصرف بطريقة معينة. وهذا ما يسمى المنظور البيولوجي. فهم السلوك في سياق علم الأعصاب، في سياق العمليات العصبية، في سياق عمليات الدماغ، في سياق الناقلات العصبية هو المنظور البيولوجي.

المنظور السلوكي :وما يقوله هو أن كل السلوك تقريبا هو نتيجة التكييف والتعزيز. لذا ما يقوله المنظور السلوكي هو أن أي سلوك يقوم به شخص ما هو بسبب مكافآت معينة حصل عليها من قبل لقيامه بهذا النوع من السلوك وقد تعلمها. فلماذا يقوم الناس بسلوكيات معينة؟ يقوم الناس بسلوك معين في مواقف معينة لأنه في الماضي أعطته تلك السلوكيات في الواقع نوعا من المكافأة وبسبب المكافأة تعلم أن القيام بذلك يعمل ويفيد.

لذا فإن المنظور البيولوجي يفسر سلوكنا في سياق الوظائف العصبية، والمنظور السلوكي يفسر سلوكنا في سياق التكييف والتعلم. تقوم بسلوك معين لأنه تمت مكافأتك على القيام بهذا السلوك.

المنظور المعرفي: وما هو المنظور المعرفي؟ أن السلوك يفهم من خلال مجموعة من العمليات العقلية بما في ذلك الإدراك والتذكر والاستدلال واتخاذ القرار وحل المشكلات. لذلك إذا كنت ترغب في شرح سلوكيات معينة، فيمكن فهمها أيضا من حيث ما يفكر فيه الشخص، وكيف يدرك الشخص. ما هي عملية التفكير الجارية؟ ما هي عملية صنع القرار التي تجري في دماغه. وبناء على عمليات التفكير هذه، واتخاذ القرار، والإدراك، والتذكر، والذاكرة تقود الشخص إلى القيام بعمل معين.

منظور التحليل النفسي: وهذا المنظور يقول أن معظم السلوك هو بسبب العمليات اللاواعية بما في ذلك الرغبة. وهذا المنظور يعتقد أن أي سلوك يقوم به الشخص، أي فعل يقوم به الشخص هو بسبب وجود بعض العمليات اللاواعية. هناك مخاوف معينة لدى الشخص مثل القلق او لدى الشخص رغبات ومخاوف معينة مخفية في عمق اللاوعي ولا تدرك تجعله يفعل شيئا. و مثال على ذلك هو أن شخصا ما يدخن في سن متأخرة  لأنه منع من مص إبهامه في وقت ما من طفولته وبسبب ذلك دخلت إليه رغبات معينة ولم يتم التعبير عن تلك الرغبات في ذلك الوقت. لذلك في وقت لاحق من الزمن، هذا التدخين هو في الواقع مظهر من مظاهر مص الإبهام الذي تم قمعه في طفولته. هذا ما يقوله فرويد. وبالتالي فإن معظم السلوكيات التي تجعل شخصا ما يفعل شيئا ما يمكن تفسيرها أيضا في سياق عملياته  اللاواعية، المخاوف اللاواعية،  الرغبات اللاواعية، الأفعال اللاواعية.

المنظور الذاتي: يقول أن السلوك يفهم على أنه تنظيم للناس والتجارب الذاتية وبناء العالم من حولهم, إنه أكثر من منظور اجتماعي. ولذا فإن ما يقوله حول لماذا يفعل شخص ما شيئا ما لأن هذا الشيء مقبول من قبل الناس من حوله أو تجاربه الذاتية وما تعلمه من المجتمع من حوله، بسبب أفعال معينة من المجتمع، يقوم بنوع معين من السلوك ويكافأ هذا السلوك. لذا فإن جزءا منه يأتي أيضا من السلوك. ولكن بعد ذلك يفعل، لأن المجتمع يريده أن يفعل بهذه الطريقة وهكذا يفعل.

 دعونا نأخذ سلوكا ونحاول شرح هذا السلوك باستخدام كل هذه المناظير. دعونا نأخذ مثال هناك صبي وهذا الصبي يغضب بالفعل وعندما يغضب يضرب شخصا ما، لذلك يضرب صبيا آخر. الآن لماذا هذا الشخص عندما يغضب يضرب شخصا ما. لنأخذ المنظور البيولوجي, يقول المنظور البيولوجي أن عملية الغضب تجعل مناطق معينة من الدماغ تستجيب وبعض الناقلات العصبية المتعلقة بالغضب تستثار وتفرز و عندما تكون هذه الناقلات العصبية مستثارة، يتم استقبالها من قبل مناطق معينة من الدماغ أو نوع معين من المستقبلات، مما ينتج عنه شعور بالغضب، وهذا الغضب يجعله يضرب بالفعل.

الآن، باستخدام المنظور السلوكي،  لماذا يضرب هذا الشخص عندما يغضب لأنه في وقت مبكر في وقت ما عندما ضرب هذا الصبي عندما كان غاضبا، تمت مكافأته. لقد حصل بالفعل على التشويق منه،  أو عندما يضرب الصبي الآخر، يهرب الصبي الآخر وهذه مكافأة. لذلك عندما تغضب وتضرب شخصا ما ويبتعد الشخص الآخر ولا يواجهك، فإنك في الواقع تحصل على مكافأة. وهكذا تعلم أن الضرب فكرة جيدة لأن ذلك يمكن أن يجعل أعداءك يختفون ولهذا السبب يضرب شخصا ما.

في المنظور المعرفي،  يغضب الصبي وبسبب الغضب، يضرب شخصا ما؟ الآن باستخدام المنظور المعرفي، يمكن القول أن الحافز كان سبب الغضب، وبسبب ذلك بدأ التفكير. عندما بدأ يفكر، أدرك أن هذه الكلمات هي شيء من المحرمات. شيء لا يعجبه، شيء  مهين وبسبب ذلك يبدأ الغضب فيه، يقرر طرقا متعددة لإخراج الغضب وإحدى الطرق التي تمت مكافأتها في وقت سابق أو التي تم اختيارها من خلال نفس عملية صنع القرار هي الرد وهكذا يضرب مرة أخرى لأن اتخاذ قرار هو عملية لأي أفعال قام بها من قبل كلما غضب، وبالتالي فإن عملية صنع القرار الخاصة به ستنظر في جميع السلوكيات، وأفضل سلوك يجب القيام به عندما يغضب وبسبب ذلك يختار سلوك الرد.

منظور التحليل النفسي لسبب رد شخص ما عندما يكون غاضبا هو بسبب مخاوفه الداخلية، وبالتالي فإن غريزته الحيوانية تستثار. يعتقد أن الشخص الغاضب، لديه في الواقع بعض الرغبات الخفية أو بعض الدوافع الخفية. وهذه الدوافع تجعله يرد لأن هناك مخاوف معينة فيه ويدرك أنه قبل أن يتمكن الشخص الآخر من ذلك، فهو في حالة ذهول، ويريد أن يحصل على مكافأة أو أي شيء آخر يجعله يرد.

ما هو رأي المنظور الذاتي في (لماذا يغضب شخص ما ويضرب). المنظور الذاتي هو أنه نظرا لأن المجتمع في حد ذاته يريد من الأولاد أن يردوا بالفعل، يجب أن يكونوا جيدين لأنه يرغب أن يكون لديه فتاة. لذا فإن المجتمع من حولك يريد من الأولاد أن يتولوا بالفعل مسؤولية المواقف. يقول المنظور الذاتي أن البيئة المحيطة به والأشخاص من حوله وتجاربه السابقة أظهرت أن هذا متوقع  منه.

لذا فإن نفس سلوك الغضب، يمكن تفسيره بخمس وجهات نظر مختلفة أو خمس مقاربات مختلفة. ما هي العلاقة بين المنظور السلوكي والبيولوجي، يختلف المنظور البيولوجي عن المنظور الآخر في أنه مبدأ مستمد جزئيا من علم الأحياء. يختلف المنظور البيولوجي في الواقع عن جميع المنظورات الأخرى لأن هذا المنظور يأتي من العلوم البيولوجية ومعظم العلوم البيولوجية تركز في الواقع على شيء يسمى الاختزالية. لذا فإن العلاقة بين المنظور النفسي والبيولوجي تتجمع حول شيء يسمى الاختزالية.

ما هو الاختزال او التخفيض؟ انظر إلى التفسير الذي يقدمه المنظور البيولوجي بالفعل. يقول المنظور البيولوجي أن الشخص الذي يغضب يتراجع. لأن منطقة معينة من الدماغ تطلق النار بطرق معينة. يتم إطلاق بعض الناقلات العصبية ويتم جمعها  والتقاطها بواسطة مستقبلات معينة وبسبب ذلك، يتجلى الغضب بالفعل. إذن ما نقوم به هنا هو شرح علم النفس، تفسير الضرب، السلوك مقسم في سياق اختزالنا، في سياق الخلايا العصبية والدماغ وبعض مناطق الدماغ، وهذا ما يسمى الاختزالية. العوامل المرتبطة بالعقل والدماغ لأي سلوك هي تبسيط الظواهر النفسية والاجتماعية المعقدة من حيث المبادئ البيولوجية. لذا فإن المبادئ البيولوجية أو  وجهة النظر البيولوجية تقلل أو تبالغ في تبسيط الظواهر المعقدة. لذا فإن الغضب في حد ذاته ظاهرة معقدة.

لذا فإن وجهة النظر النفسية تقول أنه إذا غضب شخص ما وأصيب بالإحباط فذلك لأن تجاربه السابقة قد عززت سلوكه بطرق معينة، ولهذا السبب يغضب. لذا فإن نفس الحالة البيولوجية لشخص ما يمكن أن تسبب الغضب أو يمكن أن تسبب شيئا آخر. لذا فإن نفس الناقلات العصبية، نفس العدد من الخلايا العصبية في الدماغ، نفس المنطقة من الدماغ يمكن أن تعبر عن سلوكيات مختلفة. لذا فإن علم الأحياء وحده غير كاف لأنه يتعين علينا أن نأخذ وجهة النظر النفسية والتجارب السابقة.

الآن، ظهرت وجهات نظر أحدث أيضا. مع مجيء القرن الجديد، وفي نهاية القرن 20 وهي في الواقع طريقة أخرى للنظر إلى الظواهر النفسية. أحد المنظورات التي ظهرت، منظور حالي يسمى منظور المكتب المعرفي للعلوم. وما هو هذا المنظور؟ هو يركز على فهم المعالجة المعرفية باستخدام تقنيات جديدة تشمل التصوير العصبي. يبحث هذا المنظور في الواقع في سبب قيام أشخاص معينين بسلوكيات معينة من حيث عمليات الدماغ. وهكذا مع ظهور آلات جديدة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي أو التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني أو تخطيط كهربية الدماغ. وهذه التقنيات في الواقع يمكن أن تدرس الدماغ أثناء قيامه بأفعال معينة. وهكذا يمكن لعلم الأعصاب الإدراكي الآن أن ينظر إلى ما يحدث بالفعل في الدماغ، أي منطقة من الدماغ مسؤولة عن نوع معين من السلوك. سأعطيك مثالا. هناك   منطقة من الدماغ تسمى الفص الصدغي الإنسي  هي المسؤولة عن الذاكرة و عند القيام بالتصوير العصبي واثناء ما يتذكر شخص ما شيئا ما أثناء عملية التصوير سيجد نشاطا أكثر أهمية في الفص الصدغي الإنسي للدماغ. هذا يعني في الأساس أن الشخص يتذكر شيئا ما ، وعندما يقوم ببعض التخطيط، ويقوم باتخاذ القرار، وبالتالي يتم التعامل مع اتخاذ القرار من قبل الجزء الأمامي من الدماغ، المنطقة الأمامية من الدماغ، في حين أن التذكر يتم بواسطة المنطقة الصدغية الجدارية. حتى الآن السلوكيات التي تمت دراستها باستخدام الطريقة السلوكية في الأيام الخوالي يمكن الآن معالجتها في الواقع من حيث مناطق الدماغ.

هناك منظور جديد يسمى منظور علم النفس التطوري. وما يفعله هذا المنظور هو دراسة الأصول البيولوجية للآلية النفسية. كما يتضمن أفكارا من الأنثروبولوجيا والطب النفسي. ماذا يفعل هذا المنظور؟ يأخذ في الاعتبار البيولوجية  والسلوكية ويخلط بينهما، يأخذ في مدخلات من كل من الأنثروبولوجيا والطب النفسي. على سبيل المثال، لماذا يبتعد البشر عندما يشعرون بخوف الموقف ولكنهم لا يستطيعون القتال؟ أحد الأسباب هو تلك الطبيعة التطورية، أو لماذا تنام بطريقة معينة؟ لماذا يمكن لأمهات حديثي الولادة سماع صوت عالي النبرة فقط اثناء النوم. يحدث هذا لأن أمهات حديثي الولادة يمكنهن سماع صوته لأن الطفل يصدر صوتا عالي النبرة. لذلك إذا كنت تتحدث بنبرة همس أو منخفضة، فلن تتمكن الأمهات من سماعك. لكن الصوت عالي النبرة يمكن أن يخبر الأم في الواقع أن الطفل يبكي وبالتالي  يمكنها النهوض والاعتناء به. هذا هو المنظور الذي يأتي من   التطور ودراسة هذا النوع من السلوك هو في الأساس وجهة النظر التطورية لعلم النفس، علم النفس التطوري.

اما علم النفس الثقافي الذي يدرس كيفية حدوث الاختلافات الثقافية. يهتم علم النفس الثقافي بدراسة كيفية تفاعل الثقافات المختلفة مع شيء معين. على سبيل المثال، قول نعم ولا من خلال الإيماء. الآن إذا ذهبت إلى الغرب، نعم هو كذا ولا هو كذا. ولكن بعد ذلك إذا ذهبت إلى مكان ما عبر الدول الآسيوية، فقد يعني هذا أحيانا نعم وهذا قد يعني أيضا لا. أو قد يكون هذا يمكن أن يعني نعم. لذا فإن النوع المختلف من الأفعال، النوع المختلف من الأفعال يعني أشياء مختلفة. وهكذا يخبرك علم النفس الثقافي هذا كيف تشكل الثقافة السلوكيات . على سبيل المثال، في ثقافة يعد شرب الشاي أو المشي مع الطعام جيدا جدا في الغرب، لكن المشي مع الطعام في الشارع ليس جيدا في الشرق. وهذا هو السبب في وجود فرق بين هذين الشخصين والسلوكيات الاجتماعية لا يمكن التعبير عنها أو لا يمكن الجمع بين الثقافتين وبالتالي فأن سبب اختلاف هذه الثقافات هو وجهة النظر أو موضوع علم النفس الثقافي.

ثم هناك فكرة علم النفس الإيجابي. تقول الفكرة إنها تسعى إلى فهم ازدهار الإنسان والأساليب التجريبية. ينظر إلى كيفية سعي البشر ليصبحوا ناجحين. إنهم ينظرون إلى كيفية ازدهار البشر ويستخدمون الأساليب التجريبية ويختبرون أشياء مثل كيف يكون البشر سعداء، وكيف يسعون جاهدين ليكونوا ما يريدون أن يكونوا، وكيف يسعون جاهدين ليكونوا جيدين. لذلك فهو ينظر إلى الجانب الإيجابي للبشر وهذا هو الجوهر الأساسي لدراسة علم النفس الإيجابي.

***

د.احمد المغير/ طبيب اختصاصي

الدنمرك وألمانيا نموذجاً

يتعرض الناس في جميع أنحاء العالم للتمييز والمضايقة والاضطهاد لأنهم يعتنقون ديناً معيناً، أو لأنهم لا دينيين. في أجزاء كبيرة من هذا العالم يعيش بعض السكان في بلدان تتعرض فيها الحرية الدينية لضغوط شديدة ومتواترة.  ولم يحدث ذلك أبداً في الماضي حيث الناس أكثر هروباً بسبب إيمانهم مما هم عليه اليوم. هذه التطورات جعلت قضية الحرية الدينية على رأس جدول أعمال السياسيين والتنمويين في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية الأخرى.

الحكومة الدنماركية كانت قد أعلنت عبر مؤسساتها الحكومية أنها ستركز بشكل خاص على تقوية التعاون الدولي لحماية الأقليات المسيحية.

يتعلق الحق في حرية الدين بالحق في اعتناق أو تغيير الدين (أو ألا يكون لديك دين كلياً)، وكذلك للتعبير عن/ أو ممارسة هذا (أو عدمه) بمفردك أو مع الآخرين.

تتعلق الحرية الدينية بكل من حرية الفرد في اختيار الدين وفي حرية الممارسة والعبادة. لا يمكن استخدام الحق في حرية الدين لتقييد حقوق الآخرين، ولا يعطي تفويضاً مطلقاً للتحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف للسيطرة على الآخرين، ومنعهم من التعبير عن معتقداتهم، أو إلى قمع النقد الديني.

تُرتكب انتهاكات للحرية الدينية من قبل الدولة، وكذلك من قبل الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل المنظمات الدينية والحركات المتشددة أو من قبل المجتمع محلي. تتراوح الانتهاكات بين التمييز والتحرش، إلى الاضطهاد الذي قد يصل مرحلة الخطورة عبر الاعتداء الجسدي الذي يهدد حياة وحرية الفرد. والذي قد يحدث في سياق حيث الدولة لا تستطيع ـ أو لا تريد ـ حماية المضطهدين، أو حيث الدولة نفسها تكون نشطة ومشاركة في الاضطهاد.

تتعرض الأقليات الدينية بشكل خاص لانتهاكات حريتهم الدينية. الذي – التي نادرا ما تكون أقلية دينية واحدة فقط. إذا سمح المجتمع بذلك إن اضطهاد أقلية يفتح الطريق أمام اضطهاد الأقليات الأخرى. لكن الجماعات الأخرى تتعرض أيضاً للتمييز الديني والمضايقات والاضطهاد، بما في ذلك الملحدين، والمتحولين، والنساء، والمثليات، والمثليين، ومزدوجي الميل الجنسي، ومغايري الهوية الجنسانية.

يجب أن تكون الجهود المبذولة لتأمين الحرية الدينية وتعزيزها متاحة للجميع، بغض النظر عن الدين الذي يعتنقونه، وبغض النظر عما إذا كانوا ينتمون إلى أقلية دينية أم لا.

ترتبط حرية الدين بالتعددية والتسامح واحترام التنوع، وهو شرط أساسي للديمقراطية واليقين القانوني والسياسي والاستقرار المجتمعي. إذا تم إضعاف الحرية الدينية تضعف إمكانيات الديمقراطية، وتفشل سياسات التنمية، وبالتالي قد تضعف النمو الاقتصادي. لذلك من المنطقي تعزيز الحق في الحرية الدينية كعنصر مركزي في السياسة الخارجية والتنموية.

طبيعة التسامح وكيف نشأ

نشأ التسامح في شكله الحديث كرد فعل على حروب الدين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كانت السياسة والدين يرتبطان مع بعضهما البعض قبل الإصلاح. اعتبر جميع الأوروبيين المسيحية كأساس للحياة الاجتماعية والحضارية، ورفضوا الإصلاح لصالح فكرة أن كل فرد داخل الدولة يجب أن يتبع ديانة الأمير.

أدى ذلك إلى نشوب حروب بين كل من الأمراء البروتستانت والكاثوليك وداخل ممالك الأمراء الأفراد. فكان التسامح حلاً لهذه النزاعات بين الدول وداخل الدول من خلال الاعتراف التدريجي بالحرية الدينية، وبالتالي فإن الشرط الأساسي للتسامح هو وجود اختلاف أو خلاف مع طرف آخر، على سبيل المثال حول المعتقد الديني الحقيقي.

يمكننا أن تتسامح فقط مع ما لا نوافق عليه أو ننأى بأنفسنا عنه بطريقة أخرى. علاوة على ذلك، فإن احتمالات التسامح تظهر أيضاً فقط عندما تتاح الفرصة لأطراف الخلاف للتصرف عن بعد باستخدام القوة. على سبيل المثال الإبادة، طرد الآخرين أو قمعهم أو تحويلهم قسراً. عندما يتم استيفاء هذه الشروط المسبقة يكون التسامح ممكناً. لكن التسامح لا ينشأ إلا عندما تمتنع الأطراف - على الرغم من توفر إمكانية القوة للتدخل - عن القيام بذلك. وبالتالي فإن التسامح يتمثل في التمييز بين ما توافق عليه وتختلف معه من ناحية، وما الذي سيستخدمه الفرد لفرضه أو حظره على الجانب الآخر.

التسامح الديني قد لا يعني أكثر من الصبر والإذن الذي تمنحه أتباع الديانة السائدة للديانات الأخرى. على الرغم من أنه يُنظر إلى هذه الأخيرة باستنكار على أنها أدنى، أو مخطئة، أو ضارة. من الناحية التاريخية، إن معظم الحوادث والكتابات المتعلقة بالتسامح تنطوي على وضع الأقلية ووجهات النظر المعارضة فيما يتعلق بدين الدولة المهيمن. ومع ذلك فإن الدين أيضاً عمل اجتماعي، وممارسة التسامح كان لها دائماً جانب سياسي أيضاً.

نظرة عامة على تاريخ التسامح والثقافات المختلفة التي مورس فيها التسامح، والطرق التي تطور بها هذا المفهوم المتناقض إلى مفهوم إرشادي، يسلط الضوء على استخدامه المعاصر باعتباره سياسياً واجتماعياً ودينياً وعرقياً، ينطبق على مجتمع الأفراد والأقليات الأخرى، والمفاهيم الأخرى ذات الصلة مثل حقوق الإنسان.

يمكن وصف التسامح بأنه احترام لآراء ومعتقدات ومواقف وأفكار الآخرين. فقد نختلف في التوجهات، لكننا لا نلجأ إلى استخدام القوة أو التشريعات الذي تتعارض مع الطرف الآخر. وهذا النوع من التسامح في طريق الانحسار حالياً في العديد من الدول الأوروبية.

في العصور القديمة

في أوائل القرن الثالث حدد كاسيوس ديو سياسة الإمبراطورية الرومانية تجاه التسامح الديني:

لا يجب عليك فقط عبادة الإله في كل مكان وبكل طريقة وفقاً لتقاليد أجدادنا، ولكن عليك أيضاً إجبار الآخرين على احترامه. أولئك الذين يحاولون تشويه ديننا بطقوس غريبة يجب أن يُكرهوا ويعاقبوا، ليس فقط من أجل الآلهة، ولكن أيضاً لأن هؤلاء الناس ـ من خلال جلب آلهة جديدة ـ يقنعون العديد من الناس بتبني ممارسات غريبة تؤدي إلى المؤامرات، والثورات والفصائل التي لا تناسب الملك على الإطلاق.

وفي عام 311 م أصدر الإمبراطور الروماني غاليريوس مرسوماً عاماً بالتسامح مع المسيحية، باسمه وباسم ليسينيوس وقسطنطين الأول (الذي اعتنق المسيحية في العام التالي).

العصور الوسطى

في العصور الوسطى كانت هناك حالات من التسامح مع مجموعات معينة. كان المفهوم اللاتيني التسامح مفهوماً سياسياً وقضائياً متطوراً للغاية في اللاهوت المدرسي والقانون الكنسي في العصور الوسطى يتعلق بالمسلمون أو اليهود، ولكن أيضاً في مواجهة الفئات الاجتماعية مثل البغايا والجذام.

التحليلات والنقد الحديث

سلط الباحثون المعاصرون الضوء على المواقف التي يتعارض فيها التسامح مع المعايير الأخلاقية المعمول بها على نطاق واسع، أو القانون الوطني، أو مبادئ الهوية الوطنية، أو غير ذلك. يلاحظ المفكر الأمريكي "مايكل والزر" michael walzer أن البريطانيين في الهند تسامحوا مع ممارسة الهندوسية مثل حرق الأرامل حتى عام 1829. من ناحية أخرى رفضت الولايات المتحدة التسامح مع ممارسة المورمون لتعدد الزوجات. ويمثل الجدل الفرنسي حول غطاء الرأس تضارباً بين الممارسة الدينية والمثل العلمانية الفرنسية. والتسامح مع الغجر في الدول الأوروبية ما زالت قضية مستمرة.

تشير المؤرخة البريطانية "ألكسندرا والشام" Alexandra Walsham إلى أن الفهم الحديث لكلمة "التسامح" قد يكون مختلفاً تماماً عن معناها التاريخي. تم تحليل التسامح في اللغة الحديثة كعنصر من مكونات الرؤية الليبرالية أو التحررية لحقوق الإنسان.

وطالما لم يتضرر أحد أو لم تُنتهك حقوقه الأساسية، يجب على الدولة أن ترفع يدها وتتسامح مع ما يجده أولئك الذين يتحكمون في الدولة مثيراً للاشمئزاز أو مؤسفاً أو حتى مهيناً. كان هذا لفترة طويلة هو الدفاع الأكثر انتشاراً عن التسامح من قبل الليبراليين. وهو موجود على سبيل المثال في كتابات الفلاسفة الأمريكيين "جون راولز" John Rawls ، و"روبرت نوزيك" Robert Nozick ، و"رونالد دوركين" Ronald Dworkin.

مقترحات قوانين

في السادس من فبراير/شباط من هذا العام، طرحت وزارة العدل الدنمركية مشروع قانون للمناقشة في البرلمان بشأن تغطية الوجه في الأماكن العامة أو ما يسمى "النقاب". بحيث يتم اعتبار ارتداء ملابس تخفي الوجه جريمة جنائية، ما لم يخدم غرضاً يستحق التفهم، على سبيل المثال ـ الحماية من الرياح والطقس السيء، أو هو إجراء للسلامة المهنية. يعرف القانون بالعامية باسم حظر البرقع. ومع ذلك فإن فرض حظر محدد على البرقع يتعارض مع المادة 70 و71 من الدستور الدنمركي التي تضمن حرية العبادة والدين وتمنع التمييز.

وشهد الأول من فبراير/شباط محاولة جمع خمسة آلاف توقيع لتقديم اقتراح إلى البرلمان الدنمركي من المواطنين لتحديد سن ثمانية عشر عاماً كحد أدنى لختان الأطفال الأصحاء.

يختلف مؤيدو الاقتراح ومعارضوه حول ما إذا كان الحظر سيتعارض مع المادة 67 من القانون الأساسي للحرية الدينية. تنتقل الدنمرك خطوة إلى الخلف في موضوع التسامح الديني.

تجدر الإشارة إلى أن التسامح كان في السابق أمراً محوريًا لفهم الدنمارك الذاتي ، كما يقول البروفيسور الدنمركي "سون ليجارد" Søn Legard.

في العام الماضي ، كان البرلمان الدنماركي بصدد النظر في مشروع قانون قدمته الحكومة بشأن ما يسمى بحظر التنكر، وهو في الواقع حظر على النقاب والبرقع. ليس من قبيل المصادفة أن هذين الأمرين يحدثان في نفس الوقت. فقد وصف معهد حقوق الإنسان العام الماضي في وضعه السنوي بشأن حالة حقوق الإنسان في الدنمارك، اتجاهاً عاماً لتقليص حريات الدنماركيين.

تتعلق هذه القيود عموماً بأمور تتعلق بطريقة أو بأخرى باللاجئين والمهاجرين، وأكثرها لفتاً للنظر تتعلق بالدين. ويمكن وصف هذا الاتجاه عمومًا بالانتقال من درجة عالية من التسامح إلى درجة أقل من التسامح.

هذا الأمر جدير بالملاحظة لعدة أسباب. فالتسامح هو أحد أحجار الزاوية في الفهم الغربي الحديث للسياسة، وكان في السابق محورياً لفهم الدنمارك الذاتي.

حرية الدين في الدنمرك

التسامح يعني أنك تمتنع عن استخدام قوتك لاتخاذ إجراءات ضد ما تجده مستهجناً أو خاطئاً. وبالتالي يكمن التسامح في مكان ما بين المواقف التي يتفق فيها الجميع على ما هو جيد، ولماذا لا توجد حاجة لاستخدام القوة، وبين المواقف التي يستخدم فيها البعض قوتهم لفرض وجهة نظرهم حول ما هو صواب. إنها هذه المساحة بين الاتفاق واستخدام القوة ضد ما يختلف معه المرء، والتي تم تحديها في الاتجاه الموصوف في المقدمة.

وبعبارة أخرى، فإن الاتجاه هو أن يتحرك السياسيون والسكان بسرعة أكبر من مجرد إبعاد أنفسهم عن شيء ما، إلى الرغبة أيضاً في فرض ـ عن طريق استخدام القوة ـ لحظر ما لا يحبونه.

يظهر هنا سؤال مثير للاهتمام: لماذا تتقلص مساحة من التسامح تحت الضغط الآن؟

كان التسامح في الماضي شيئاً يتربى عليه العديد من الدنماركيين ويفخرون به. ومنذ الستينيات كان التسامح تجاه كل شيء من المواد الإباحية والمثلية الجنسية إلى التعبيرات الاستفزازية بشكل عام جزءًا من الهوية الدنماركية. هل أصبح الدنمركيين مختلفين جدًا بحيث لا يمكنهم العيش معًا؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أنه في الماضي لم تكن هناك اختلافات كثيرة يجب التسامح معها. على الرغم من الاختلافات الطفيفة ، كان السكان متجانسين تماماً دينياً وعرقياً وثقافياً. حتى التجاوزات الوحشية يمكن اعتبارها تجاوزات يرتكبها البعض ممن يشبهون الأغلبية في نواح أخرى، لذلك كان من السهل نسبياً أن تكون متسامحاً. لكن اليوم لم تعد الدنمرك أحادية الدين والعرق، والثقافة، بسبب وجود اللاجئين والمهاجرين.

التسامح يعني أنك تمتنع عن استخدام قوتك لاتخاذ إجراءات ضد ما تجده مستهجنًا أو خاطئًا. ولا يجب أن يصمد التسامح حقًا أمام الاختبار إلا مع زيادة التنوع في المجتمع - بما في ذلك الوجود الواضح للأقليات الدينية التي يُنظر إليهم على أنهم غرباء..

يتضح هنا أن الدنماركيين ليسوا متسامحين كما كنا نظن. فهل أصبح العالم أبيض وأسود؟ تفسير آخر يرى أن الاتجاه هو تعبير عن فقدان أكثر عمومية للفوارق الدقيقة في السياسة. يمكن توضيح ذلك برسوم محمد.

لقد أدى نشر الرسوم المسيئة للرسول ـ صل ـ إلى نقاش مجتمعي واسع حول حرية التعبير. حيث انقسم المشاركون إلى مجموعتين متطرفتين إلى حد ما. في جانب كان الذي رأى الرسوم الكاريكاتورية مسيئة وفتح الطريق أمام تقييد التعبيرات الهجومية، مثل خطاب الكراهية. على الجانب الآخر كان هناك "أصوليو حرية التعبير" ،الذين يرون أن حرية التعبير مطلقة ولا يجب أبدًا ربطها بعلامة "لكن".

في هذا النقاش كانت وجهة النظر الوسطية التي تفصل بدقة بين مسألة الموقف من حرية التعبير عن مسألة تقييد حرية التعبير. الديمقراطية تعني أيضاً- احترام الأقلية مهما كان تفسير الاتجاه بعيدًا عن التسامح، فإنه يثير السؤال عما إذا كانت الدنمرك في ديمقراطيتها الليبرالية تتعامل مع أفراد الأقليات التي ترفض ممارستهم على أنهم مواطنين متساوين؟

وهل شرط حريتهم أن يستخدموها بطرق توافق عليها الأغلبية؟ وهل هي الحرية الحقيقية إذا كانت الحرية مشروطة بقبول الآخرين لكيفية اختيار المرء لعيشها؟

التنوع والتسامح الديني في ألمانيا

بالتزامن مع الذكرى السبعين لصدور القانون الأساسي لألمانيا، أعلنت مجلة Religion Monitor نتائج دراسة قامت بها حول العلاقة بين الدين والثقافة السياسية في ألمانيا. حيث تحظى المبادئ والقيم الديمقراطية الأساسية بتأييد واسع بين أعضاء الديانات المختلفة، وتوافق الغالبية على التسامح الديني، وهو أمر حاسم للتعايش السلمي في مجتمع متنوع. ومع ذلك لم يتم تضمين جميع الأديان على قدم المساواة.

يعتقد غالبية أعضاء الديانات المختلفة في ألمانيا أن الديمقراطية هي شكل جيد من أشكال الحكم. هذه إحدى النتائج التي توصلت إليها دراسة "التنوع الديني والديمقراطية" ، بناءً على مرصد الدين لعام 2017 واستطلاع متابعة في عام 2019، وآخر في عام 2023.

ووفقًا للنتائج فإن 89 %من سكان ألمانيا يدعمون الديمقراطية. من بين المسيحيين أعرب 93 % من الذين شملهم الاستطلاع عن هذا الرأي، وكذلك 91 % من المسلمين و83 % من غير المتدينين. ما يقرب من 80 % من المواطنين الألمان يقدرون أيضًا حماية مصالح الأقليات كمبدأ أساسي للديمقراطية الليبرالية.

عندما يتعلق الأمر باحترام التنوع الديني لا يزال هناك مجال لتحسينه. وجدت الدراسة أنه من حيث المبدأ 87 % من الذين شملهم الاستطلاع منفتحون على وجهات نظر أخرى للعالم. يقول حوالي 70٪ أن الأديان الأخرى تحتوي أيضاً على عناصر من الحقيقة. يعتبر هؤلاء المستجيبون متسامحين دينياً. لكن حوالي 50 % فقط من المستجيبين في ألمانيا يعتقدون أن التعددية الدينية تثري المجتمع. فيما يتعلق بالإسلام، فإن هذه الحصة أقل: ثلث السكان فقط يعتبرون الإسلام مُثرى. في المقابل ترى الغالبية أن المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية هي أديان مُثرية.

الإسلام يمثل تهديداً

بشكل عام، يرى حوالي نصف الذين شملهم الاستطلاع أن الإسلام يمثل تهديدًا. هذه النسبة ترتفع في مناطق شرق ألمانيا حيث تبلغ إلى 57٪، مقارنة بألمانيا الغربية التي تبلغ (50٪).

هذه النتائج، التي تم تسجيلها في ربيع 2023 تشبه إلى حد كبير نتائج استطلاعات السابقة التي أُجريت في 2013 و2015 و2017 و2019. من الواضح أن العديد من الناس في الوقت الحاضر ينظرون إلى الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية أكثر من كونه ديناً وبالتالي لا يستحق التسامح الديني. يتم تضخيم هذا الموضوع من خلال النقاشات المجتمعية والتقارير الإعلامية في السنوات الماضية، والتي غالباً ما توجه للإسلام نقداً سلبياً يصل حد التهجم.

التشكك في الإسلام لا يعني بالضرورة كراهية الإسلام

لقد ألقيت نظرة فاحصة على نسبة السكان الذين يعتبرون الإسلام تهديداً. كان الاستنتاج أنه من المهم هنا التمييز. على الرغم من أن الدراسة تظهر أن التشكك في الإسلام واسع الانتشار إلى حد ما، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة رهاب الإسلام. حيث كثير من الناس يُعبرون عن تحفظات على الإسلام لكنهم لا يربطون ذلك بمطالب سياسية أو آراء معادية للديمقراطية. وتشير الدراسة إلى أن أقلية فقط من المواطنين تُظهر موقفًا معادياً للإسلام بشكل واضح، وتدعو إلى حظر هجرة المسلمين.

تصاعدت النسبة الإجمالية للأشخاص الذين لديهم مواقف معادية للإسلام في ألمانيا في السنوات الأخيرة، وفقًا لمرصد الدين من 13 % في عام 2017 إلى 20 % في عام 2023. وتظهر التحليلات أيضاً أن الأفراد الذين لديهم مواقف معادية للإسلام غالباً ما يرفضون الأقليات الأخرى حيث يناهضون التعددية، ويعتبرون ان ألمانيا للألمان العرقيين.

رفض التنوع يضر بالديمقراطية

النتائج الإضافية التي توصلت إليها الدراسة: موافقة أغلبية السكان على الديمقراطية كشكل جيد من أشكال الحكم،  تنخفض هذه النسبة إلى 68٪ بين الأشخاص الذين لديهم موقف واضح معاد للإسلام. النتائج متشابهة فيما يتعلق بحماية مصالح الأقليات: هذا المبدأ الديمقراطي يحظى أيضاً بموافقة ثلثي أولئك الذين يعبرون عن معارضتهم لهجرة المسلمين.

على الرغم من أن المواقف المعادية للإسلام يتم التعبير عنها بوضوح من قبل أقلية فقط، إلا أن الشكوك المنتشرة حول الإسلام تثير القلق، وبسبب هذه التحفظات الحالية يُفتح الباب للجماعات والأحزاب اليمينية الشعبوية لتصعيد مواقفها من الإسلام والمسلمين، ويمكن استغلال المخاوف من قبل تلك الأحزاب وتحويل الشك إلى رفض.

الاتصال الشخصي بين الجماعات الدينية يعزز التعايش الناجح

إحدى النتائج المهمة التي توصل إليها الدراسة هي أن الأشخاص الذين لديهم اتصال منتظم مع أعضاء الديانات الأخرى غالباً ما ينظرون إلى التنوع الديني والإسلام على أنه تهديد. في هذه المجموعة ، يعتبر 46٪ فقط أن الإسلام شكلاً من أشكال الإثراء. على النقيض من ذلك من بين الأفراد الذين نادراً ما يكون لديهم اتصال شخصي مع أتباع الديانات الأخرى يرى 64٪ منهم أن الإسلام يمثل تهديداً.

تُظهر هذه الدراسات وتجربتنا اليومية أن الناس من مختلف الأديان يتفقون بشكل عام بشكل جيد في الحياة اليومية. هذا هو بالضبط المكان الذي يمكن للمشاريع العملية أن تركز فيه وتعزز بشكل متعمد اللقاءات الشخصية وتبادل الآراء في محاولة للحد من التحيزات، وتعزيز الثقة، وتعزيز التعايش الناجح. وعلى وجه الخصوص فإن المنظمات مدعوة لخلق مساحات من أجل الناس للقاء والتفاعل.

على سبيل المثال، يمكن تعليم الأطفال في مراكز رعاية الأطفال والمدارس - بغض النظر عن الطائفة - عن الدين والتنوع الديني. سيسمح هذا للأطفال بالتحدث عن القواسم المشتركة والاختلافات بين خلفياتهم الدينية المختلفة والتعلم من بعضهم البعض.

تُظهر الاستطلاعات مدى مشاركة الناس لبعض القيم مثل قيم الديمقراطية الأساسية والرغبة في العيش معاً بسلام. ولهذا السبب من المهم الدخول في حوار مفتوح مع أتباع الديانات الأخرى.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

الأصول التاريخية لدراسة السلوك البشري

هل تذكر الحالة التي ذكرناها عن إعطاء البيتزا للطلاب الذين ينجزون؟ حيث أظهرنا بالفعل أن إعطاء مكافآت معينة جعل الطلاب يؤدون أداءا أفضل. الناس في مواقف معينة يتصرفون بطريقة معينة. إذا كان الفعل الذي يقومون به مجزيا، فإنهم يتعلمونه ويفعلون هذا الفعل مرة أخرى في المستقبل. إذا أصبح الفعل غير مجزي، فلن يقوموا بهذا الإجراء. وهذا ما يسمى قانون التأثير البسيط. يقول قانون التأثير أن الناس يتعلمون إذا كان القيام بشيء ما في موقف معين مجزيا، فسوف يفعلون ذلك مرارا وتكرارا وإذا لم يكن كذلك، فلن يفعلوه. ويمكن التحقق من ذلك لأن الشخص أكثر عرضة لفعل شيء ما في موقف معين، يمكننا بسهولة التنبؤ بأن الدخول في هذا الموقف حيث سيفعل الشخص الشيء نفسه، على سبيل المثال، شخص ما يخاف من أفلام الرعب سيغلق عينه.

 وإذا أثبتنا هذا، فيمكننا بسهولة التنبؤ بأن هذا الشخص، عندما يذهب إلى الفيلم مرة أخرى، وهو فيلم رعب، سيغلق عينيه مرة أخرى لأن ذلك مجزي له. وهكذا يمكن إجراء هذا التنبؤ وليس هناك حاجة لفهم عقله، العملية العقلية، التفكير. إنه حافز يؤدي إلى الاستجابة ولماذا يفعل هذه الاستجابة؟ لأنها مجزية. إن إغلاق عينيه يجعله في الواقع غير خائف لأنه إذا فتح عينيه فسوف يشاهد الفيلم ويصبح خائفا. ولذا فإن إغلاق عينيه مرتبط بمشاهدة هذه الأفلام. وهذا ما يسمى السلوكية. كل ما يفعله علم النفس هو من حيث التحفيز والاستجابة. يتم تعلم الاستجابات التي تتم مكافأتها، ولا يتم تعلم الاستجابات التي لا تكافأ.

 علم النفس الجشطالت . في الوقت الذي توصل فيه جون واتسون إلى فكرة علم النفس الموضوعي ,ما فعلته هذه المدرسة في الواقع هو أنهم أرادوا دراسة الإدراك الحسي. أرادوا دراسة الإحساس والتصورات الحسية وأشياء من هذا القبيل. كان والد هذه المدرسة هو ماكس فارديمان و معنى الجشطالت باللغة الألمانية الشكل ولذا فإن ما قالوه هو أن الإدراك يعتمد على الخلفية التي يتم تقديم شيء ما. لذا فإن الإدراك يعتمد على الخلفية. كيف ندرك الأشياء؟ كيف نرى الأشياء؟ يقول هؤلاء أننا نرى الأشياء فيما يتعلق بأمرين. أولا، ما هي الخلفية التي يتم تقديمها فيها، وثانيا، كيف يتم تنظيمها. يتم تنظيم الأشياء بطريقة معينة او مفردة والطريقة التي يتم بها تنظيم الأشياء معا. لذا فإن بعض الأشياء القريبة من بعضها البعض، ندركها معا. جلبت لنا فكرة هذه المدرسة معرفة كيف يدرك الناس الحركة. كيف ينظر الناس إلى الأفلام. كيف نرى الأفلام؟ هناك 24 إطارا تتابع واحدة تلو الأخرى. وبما أن هناك 24 إطارا تمر امام العين واحدة تلو الأخرى، فإننا نرى الفيلم يتحرك بالفعل. إذا صنعنا 22 إطارا فقط أو أقل، فلن يرى الناس هذه الحركة لأن هذه الإطارات ال 24 تبدو مجمعة معا وهذه هي الطريقة التي نرى بها الأفلام. لذلك في الأساس هذا ما اقترحه علماء النفس الجشطالت أنهم يعتقدون أن الإدراك يدور حول الموقف والأشياء الموجودة حوله وكيفية تنظيمها. أيضا هناك شيء مهم مع الجشطالت، إحدى المعارف المهمة من الجشطالت هي أن الكل ليس مجموع الأجزاء. ما معنى هذا؟ التجربة التي لديك من خلال مراقبة شيء ما ككل لا يمكن أن تكون مكافئة لشيء يرى جزءا منه لوحده. فكر في الأغنية المفضلة التي يمكنك سماعها، عندما تسمع الأغنية، تحتوي على كلمات، وموسيقى، ولديها أشياء أخرى كثيرة فيها. الآن عندما تسمع الأغنية الكلمات والموسيقى وكل شيء، لديك تجربة مختلفة. الآن ازل الكلمات وفقط ليستمع الى الموسيقى. يزيل الموسيقى ويسمع فقط كلمات الأغاني ويزيل كلمات الأغاني ويسمع فقط اللحن وما إلى ذلك. إذا قمت بذلك واحدا تلو الآخر، فإن نفس التجربة التي تحصل عليها عندما تسمع الصوت أو عندما تسمع الأغنية الإجمالية لا تعادل مجرد سماع هذه الأجزاء. الموسيقى وكلمات الأغاني بمفردها، إذا قمت بدمجها معا، فإن التجربة التي لديك مختلفة تماما عن التجربة التي لديك من خلال النظر إليها جزئيا أو النظر إلى هذه الأشياء الثلاثة بشكل منفصل، مما يعني في الأساس أن الأغنية نفسها، كل شيء مؤلف معا، يمنحك تجربة مختلفة تماما. ثم يتم عزف اللحن بمفرده، ثم يتم تشغيل الكلمات بمفردها، ثم يتم تشغيل الموسيقى حولها.

 التحليل النفسي، بدأ التحليل النفسي من قبل سيغموند فرويد على أساس فكرة أن معظم السلوك البشري نتيجة اللاوعي. لذا فإن معظم رغبات الناس هي توقعات الطفولة. رغبات الطفولة، إذا لم تتحقق أو إذا كانت لا تستحق الوفاء يتم دفعها إلى اللاوعي. ما هو اللاوعي؟ اللاوعي هو جزء من الدماغ أو جزء من العقل لا يمكنك رؤيته، ولا يمكن لأحد رؤيته. وما آمن به فرويد هو أن اللاوعي يشكل وعينا. نحن، شخصياتنا، لذا فإن هذه النظرية هي في الأساس نظرية شخصية بالإضافة إلى نظرية التحليل النفسي أو نظرية العلاج النفسي. ما اعتقده فرويد أن السلوك الذي نقوم به، أي سلوك نقوم به، يحكمه كثيرا اللاوعي. ما هو في اللاوعي، اللاوعي يتكون من كل تلك الأفعال، كل رغبات الطفولة، كل تلك الرغبات التي لدينا، والتي لا يمكننا التعبير عنها علانية. لذلك يتم دفع تلك الرغبات إلى اللاوعي. على سبيل المثال، إذا رأيت فتاة، فأنت تفكر في تقبيلها، لكن لا يمكنك فعل ذلك. وهكذا هذا الفعل من تفكيرك، أو كنت تفكر في القيام بذلك، يتم دفعه إلى اللاوعي، أو دفعه إلى عقلك في أعماق الذهن حيث لا يمكن أن يأتي. وهكذا من خلال فعل عدم القدرة على تقبيل هذه الفتاة، ما يحدث حقا هو أنك تظهر سلوكا منحرفا. لذلك يمكنك تقديم تعليقو الآن هذا التعليق هو في الواقع تغطية لرغبتك في تقبيل هذه الفتاة ولكن لا يمكنك فعل ذلك، وبالتالي فإن التعليق هو في الواقع مظهر من مظاهر اللاوعي. اللاوعي يريد إظهار السلوك، الآن هذا السلوك هو هذا التعليق هو في الواقع سلوك يظهر بشكل أساسي أنك تريد القيام بهذا الفعل، ولكن بما أنك غير قادر على القيام بهذا الفعل، يتم استبداله بهذا الفعل. وهذا ما قاله فرويد. ومعظم ما قاله فرويد أو معظم ما قالته نظرية فرويد حول السلوك البشري هو من حيث الجنس، أن معظم السلوكيات لها جوهر جنسي أو قلق وراء سلوكها. لذا فإن معظم السلوكيات لها إما تفسير جنسي أو نوع من القلق أو العدوان.

 بدأ القرن 20 مع مجال جديد من علم النفس يسمى مجال معالجة المعلومات. لذلك مع اقتراب الحرب العالمية، كانت مدارس علم النفس هذه ذات طبيعة نظرية في الغالب ولديها بيانات لا يمكن التحقق منها على مستويات معينة. لذلك بعد الحرب العالمية الثانية جاءت معدات أحدث، جاءت طرق أحدث. نظرية معالجة المعلومات التي تعتقد الآن أنه يمكن دراسة السلوك البشري من خلال نموذج الكمبيوتر. بالطبع تم تطوير تصميم الكمبيوتر تشبيها بالإنسان. يمكن دراسة السلوك البشري من خلال نموذج معالجة المعلومات. ما هو نموذج معالجة المعلومات؟ تعتقد تكنولوجيا المعلومات أن البشر مجرد عمليات بسيطة. إنها آلات يمكنها معالجة المعلومات. لذلك لديهم نظام إدخال يأخذ مدخلات وبالتالي فإن أجهزة الاستشعار او الحواس هي نظام إدخال. ثم عقلك الذي لديك هو في الواقع نظام معالجة المعلومات. ومن ثم السلوك الذي تقوم به هو في الواقع نظام إخراج. لذا فإن نظام الإدخال، الطريقة التي يمتلكها العقل هي نظام المعالجة ونظام المخرجات يمكن أن يفسر أي سلوك نقوم به.

 مجال آخر مثير للاهتمام جاء مع القرن 20 كان فكرة ما هي اللغة البشرية، ما هي اللغة البشرية وما هي الهياكل العقلية الموجودة في اللغة البشرية. كيف اخترع الناس اللغة؟ اللغة شيء قوي جدا. الشيء الأساسي، الشيء الأكثر إثارة للاهتمام الذي يحدث للإنسان، هو اللغة. معظم الأشكال الدنيا من الحيوانات ليس لديها لغة. لديهم طريقة للتواصل، لكن ليس لديهم لغة. مع البشر لدينا لغة, يمكننا التواصل مع بعضنا البعض. وهكذا كان تطور اللغة دافعا كلاسيكيا لدراسة علم النفس. طور نعوم تشومسكي هذه الفكرة حول ماهية الهياكل العقلية التي تشارك في اللغة، وكيف يصنع الناس اللغة، وكيف يفهمون اللغة وكيف تتشكل اللغة. وهذه مدرسة أخرى مثيرة للاهتمام بدأناها في القرن 20 كانت حول ما هي الهياكل العقلية التي تشكل اللغة وكيف تتم معالجتها. كيف يتم استخدام اللغة من قبل الناس.

كانت المدرسة المهمة التي جاءت مع القرن 20 وبداية القرن 21 هي دراسة علم النفس العصبي. علم النفس العصبي هو المجال الذي يدرس في الواقع كيف يصنع الدماغ العقل. يدرس العلاقة بين الأحداث العصبية والعملية العقلية. على سبيل المثال، تظهر مناطق معينة من الدماغ نشاطا، لذا فهي تظهر بالتصوير بالرنين المغناطيسي، EEG، PT. كل تلك الآلات أظهرت في الواقع أنه كلما كان الشخص يفعل شيئا ما ويحدث حدث عقلي فأنه يمكن التقاط هذه الأحداث من خلال عمليات معينة في الدماغ. على سبيل المثال، تدفق الدم، نشاط معين في الدماغ، النشاط الكهربائي في الدماغ. لذلك هناك نشاط ارتباطي في وقت واحد في الدماغ. لذلك إذا كنت تفكر في شيء ما، فهناك نشاط للدماغ. ويمكن دراسة هذه الأنشطة في الواقع والتنبؤ حول ما تفكر فيه وما هي العملية التي تستخدمها، لذلك اذا كنت تستخدم الذاكرة، فهو الفص الصدغي الأوسط، إذا كنت تستخدم الإدراك، فهو تأثير الفص القذالي. لذا فإن المناطق المختلفة من الدماغ لها ادوار مختلفة، كان جورج بيري هو الشخص الرئيسي الذي طور هذا المجال من علم النفس العصبي وأظهر أن كلا المنطقتين من الدماغ متصلتان بشيء يسمى الألياف الرابطة وهو ما يعني في الأساس أن الدماغ ينقسم إلى جزأين وكلا الجزأين من الدماغ متخصصان للقيام بعمليات متخصصة، ولهذا حصل على جائزة نوبل . ما نوع المشاكل التي ندرسها في علم النفس وما هو نطاقها. كانت هذه الأسئلة هي التي يطرحها الفلاسفة، وكيف تعامل علماء النفس مع هذه الأسئلة. القينا نظرة على بعض المدارس الأساسية، وما هي أساسيات هذه المدارس؟ وكيف تتعامل هذه المدارس مع مشاكل السلوك، وكيف تشرح هذه المدارس في الواقع كيف يمكن تعريف السلوك البشري.

***

د.احمد المغير - طبيب اختصاصي

الجمال والقبح، لا وجود حقيقيّ أو خارجيّ لهما، سواء في الأشياء المادية أو المعنوية، إنّما وجودهما ذهني فقط، ومن يوجِدْهما في الذهن هو الشعور بهما؛ فما يشعر به الإنسان أنه جميل؛ فهو جميل في ذهنه، وما يشعر به أنه قبيح؛ فهو قبيح، وإلّا لا وجود لشيء قبيح أو جميل في هذا الكون. وليس الحديث هنا يرتبط بنسبية الجمال والقبح واختلاف الأذواق من شخص لآخر، أو الحسن والقبح العقليين وفق تصنيفات علماء الكلام، بل يختص الحديث في أصل الشعور بمصادق الجمال والقبح المحسوسة، التي تتفق عليها المشاعر الإنسانية عموماً.

وقد خلق الله للإنسان قدرة الشعور، التي تجعله ينجذب ويحب ويميل لأشياء، ويكره ويشمئز وينفر من أشياء أُخر، ويكون محايداً في مشاعره أو لا مبالياً تجاه أشياء ثالثة؛ فالعاطفة والوجدان والألم واللذة والشهوة والحب والبغض والكره والخجل وغيرها، هي المشاعر، والمشاعر هي نتاج الشعور. والشعور يحوِّل وجود الأشياء من القوة الى الفعل، أي أنّ الشعور بالشيء دليل على وجوده.

ولنتصور أجزاء الوجود الإنساني الخاص، التي تكوّن هويته الشخصية؛ فهي تتكون ــ حسب الموروث ــ من جسد وروح ونفس، ولعلّ الشعور هو جزء من خزين النفس، أي أنّ مخرجاته ونتائجه هي جزءٌ من مكونات النفس وخزينها. وسواء كان كذلك أو لم يكن؛ فهذا ليس موضوعنا، وليس موضوعنا أيضاً البحث في علاقة الشعور بالعقل والفطرة والوعي والإدراك والغريزة والقلب والفؤاد، وتداخلات وظائفها ومخرجاتهما، أو الغوص في منشأ الشعور؛ فهذه الموضوعات بحاجة الى مساحة بحثية أُخرى، أكثر سعة وعمقاً، ولكن نريد من الإشارة الى وجود أجزاء متعددة مكونة لوجود الإنسان؛ فهم موقع الشعور في هذا الوجود وحضوره الأساس كجزء مكوّن؛ فإذا كان جسم الإنسان هو الجزء المادي من الخلقة، والروح هي الطاقة التي تعطي هذه الجسم القابلية على العمل؛ فإن القدرة هي نقل قابلية الجسم وأعضائه في الأداء، من القوة الى الفعل، وهذه القدرة ليست هي الروح، بل هي سلطة مستقلة عن الروح والجسد؛ لأن الروح لا تتحرك بذاتها، إلّا بوجود أداة تعمل فيها هذه الروح، وهذه الأداة لا تعمل، مع وجود الروح فيها، إلّا بوجود قدرة على تفعيل هذه الأداة. وهذه القدرة تتجلى في الشعور والتعقل والإدراك والوعي والتفكير، أي أن الدماغ (أداة العقل) لا يعمل دون وجود الروح، كما لا ينتج العقل الإدراك والتعقل والوعي والتفكير دون وجود قدرة تفعّل عمل الدماغ.

إنّ مخرجات الشعور والعقل والقلب، هي أعظم مصادق الميتافيزيقا الإلهية، وإذا كانت جرم الروح قد تم قياسه، كما تمت مشاهدة حركة خروج الروح من الجسد عبر التصوير الحراري (الأشعة تحت الحمراء)؛ فإن المشاعر لا يمكن مشاهدتها إطلاقاً، ولا معرفة كنهها وأسرارها، رغم أن مخرجاتها وآثارها ملموسة ومحسوسة. وعندما خلق الله أعضاء جسم الإنسان، خلق معها وظيفتها، كما خلق معها القدرة على أداء هذه الوظيفة؛ فقد خلق وظيفة البصر مع العين، والتفكير والتعقل والوعي مع العقل، والشم مع الأنف، والتذوق مع اللسان، والسمع مع الأذن، وهكذا، ثم خلق القدرة على ممارسة هذه الأعضاء لوظائفها، وهذه القدرة التي يلخصها الشعور، هي الخلقة الأعظم على الإطلاق؛ صحيح أن خلقة الأعضاء وخلقة وظائفها هي خلق عظيمة، لكن القدرة على النظر والسمع والشم واللمس والتذوق والتفكير والتعقل، هي الخلقة التي تفوق خلقة الأعضاء بما لا يمكن قياسه وحسابه.

والجمال والقبح الاعتباريان، يخلقهما شعور الإنسان بالأشياء وتحسسها، من خلال وظائف أعضاء جسم الإنسان، أي أن الله لم يخلق جمالاً وقبحاً بذاتيهما، بل خلق الأشياء، وخلق الشعور، وقال للشعور: هذا قبيح وهذا جميل؛ فصار هذا المخلوق جميلاً في نظر الإنسان ومشاعره، وصار الآخر قبيحاً، سواء كان هذا المخلوق مادياً أو معنوياً. مثلاً: الكذب والنفاق والنميمة والفتنة، ليست قبيحة بذاتها، بل أصبحت قبيحة لأن الله أمر شعور الإنسان باستشعار آثارها وتحسسها، بل حتى هذه الآثار ليست قبيحة بذاتها؛ إنما صارت قبيحة لأن مشاعر الإنسان قادته الى استشعار قبحها، ولولا وجود الشعور لما كانت قبيحة.

وكذلك؛ لو خلق الله شعوراً معاكساً للإنسان تجاه منظر الماء والشجر والخضرة، أو تجاه الجنس المقابل (ذكر/ أنثى)، بل تجاه كل ما يعتبره الإنسان جميلاً؛ لكرهها واشمأز منها واعتبرها أشكالاً ومعاني قبيحة، والعكس صحيح تجاه الأشياء التي يعتبرها الإنسان قبيحة، وهي في الحقيقة قبيحة في ذهنه الذي دلّه عليها الشعور بها، وليست قبيحة بذاتها. والمرأة تميل بالفطرة الى الرجل والرجل يميل بالفطرة الى المرأة، والإنسان يحب الخضرة والشجر والماء والالوان بالفطرة. هذه الفطرة هي التي تخلق الشعور بالحب والكراهية، ولو انتجت الفطرة شعورا آخر، كأن يشعر الرجل ــ مثلاً ــ بقبح المرأة وجمال الخنزير البري، وتشعر المرأة بقبح أولادها وجمال الجثة المتفسخة؛ فسيكون ذلك طبيعياً. وإذا أخذنا خلقة التذوق أو حاسة التذوق؛ سنجد أنّ الأشياء الطيبة والحلوة التي يذوقها الإنسان، هي ليست طيبة وحلوة بذاتها، بل إنّ حاسة التذوق هي التي يقودها الشعور الى كونها طيبة المذاق. وكذلك خلقة اللمس، تقود ــ مثلاً ــ الى أن هذا ناعم الملمس وهذا خشن الملمس، أي أنّ هذه النعومة ليس نعومة بذاتها، بل الاحساس بها يجعلها ناعمة.

وبالتالي؛ ليس الخنزير البري قبيحاً بذاته ولا المرأة جميلة بذاتها، ولا وجود الأولاد جميل بذاته ولا الجثة المتفسخة قبيحة بذاتها، إنّما الشعور بذلك، هو الذي جعلها جميلة أو قبيحة. كما أن الشعور هو الذي يحدد للإنسان عظمة الأشياء المادية والمعنوية أو هزالها وضعفها، أي أن الكون بكل ما فيه ليس عظيماً بذاته، أو أنّ ما فيه من مخلوقات هي عظيمة وجميلة أو هزيلة وصغيرة وقبيحة، إنما يعود ذلك الى طبيعة الشعور بها.

صحيح أنّ خلقة الإنسان عظيمة، وهي دليل على عظمة خالقها، وصحيح أنّ وظيفة الأعضاء وآلية عملها عظيمة، وهي دليل آخر على عظمة الخالق، لكن الأعظم منها جميها هي حاضنة الوظائف، وأقصد بها القدرات التي تمكِّن الأعضاء من أداء وظيفتها؛ فخِلقة العين عظيمة، ووظيفتها أعظم، لكن الأعظم من كليهما، قدرة العين على أداء وظيفتها، وهذه القدرة هي قدرة النظر، أي أن خِلقة النظر هي أعظم من خِلقة العين ووظيفتها، وكذلك خِلقة الأذن عظيمة، لكن خِلقة السمع أعظم منها، وهكذا الحواس الأُخر؛ فلولا النظر والسمع والشم واللمس والتذوق لما كانت هناك أشياء خارجية، ولكان كل شيء عدم، حتى لو امتلك الإنسان ألف عين وأنف وأذن ولسان ويد. وبالتالي؛ فوجود الأشياء يتوقف على وجود الحواس والعقل والشعور، بل حتى وجود الله سيكون مخفياً (خلقتُ الخلق لكي أعرف).

ولذلك؛ يؤكد الله على خِلقة العقل والقلب والفطرة والشعور والفؤاد والسمع والبصر واللمس والتكلم، وقدرتها على أداء وظيفتها، وليس على خِلقة القلب (الأداة) والعين والدماغ والأنف والفم واللسان (والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون)، (وَلَا تَقْفُ ما ليس لك به عِلم إِنّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً). وهنا لم يمنّ الله على الإنسان بأدوات الحس، بل بالحس نفسه وبقدرة الحس على ممارسة وظيفته؛ إذ لولاه لما علم الإنسان شيئاً، كما لم يحمّل اللهُ الأذن والعين واللسان أية مسؤولية؛ لأنها مجرد أدوات لا قيمة لها بدون وظيفتها والقدرة على أدائها للوظيفة، بل حمّل السمع والبصر والفؤاد كامل المسؤولية. وهذه المسؤولية تنسحب على فهم نوع العذاب والنعيم الأُخرويين أو الثواب والعقاب.

إنّ الشعور والوعي والإدراك والتفكير والتعقل (القدرة على ضبط الفعل بواسطة العقل) والقلب (بمعنى دليل الإنسان وقدرته على إنشاء الفعل)، هي قدرات عظيمة إعجازية خلقها الله ليمنّ بها على الإنسان، وهذه القدرات هي الخلقة الأعظم في الكون، وطبيعة عملها يخضع لقانون إلهي جبري، لكن توجيهها يتبع لحرية الإنسان. ولا شك أنّ قدرة الإنسان عليها، أي قدرة الإنسان على الشعور والوعي والإدراك والتعقل والتفكير والقلب، هي أعظم ما خلق الله، وأنّ مجرد التفكير بها والتأمل فيما تفعله؛ سيقود الإنسان الى معرفة الخالق المبدع؛ فهي هي أعظم الأدلة على وجوده، وهي أعظم من خلقة الإنسان والكون وكل الأشياء الأُخر. وهذه القدرة، بتجلياتها ومشاعرها الفطرية، يستحيل على أي مخلوق أو جهة أخرى خلقها، سواء كانت الطبيعة أو الصدفة، بل الإنسان نفسه، مهما بلغ من العلم، سوى صانع قادر مطلق؛ لأنها عالم عجيب سري لا مرئي، وهي مفاتيح الغيب: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هو).

ولعل قول الله في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون) يشير الى القابلية الفطرية الذاتية لهذه القدرة لدى الإنسان على التطور والتنامي، كلما اقترب الإنسان أكثر الى الله، حتى تتحول الى مراتب الكرامة والإعجاز، وحينها لن يقتصر الشعور على الجماليات المادية والمعنوية الدنيوية، بل يتعداها الى الشعور بالجماليات والقبائح الغيبية.

***

د. علي المؤمن

لا أحد يعرف على وجه الدقة واليقين، لماذا تجاهل عميد الأدب العربي طه حسين الرد الذي كتبه معروف الرصافي على كتابه الشهير «مع أبي العلاء في سجنه» وإن كان من المرجح أن حسين لم يطلع على كراسة الرصافي الموسومة «على باب سجن أبي العلاء» بسبب صعوبة توزيع ما يصدر من كتب ومطبوعات في تلك الحقبة من أربعينيات القرن الماضي، وخصوصاً الكتاب العراقي الذي لا يكاد توزيعه يتعدى حدود البلاد إلا ما ندر، وقد ينطبق الأمر إلى حد ما على الكتاب المصري وصعوبة وصوله إلى القارئ العراقي، بدليل أن الرصافي نفسه لم يطلع على كتاب طه حسين  إلا بعد ثلاث سنوات على صدوره عندما وجده عند أحد أصدقائه في حزيران 1942، ولم يكن له علم قبل ذلك بصدور الكتاب منذ سنة 1939 .

بل أن طه حسين- كما يخبرنا الكاتب والباحث العراقي ماجد شُبَّر- « لم يردَّ على نقد الدكتور علي الوردي عندما نشر دراسة نقدية عن كتاب في الشعر الجاهلي!!». ويضيف شُبَّر في تصديره لكتاب صادر عن دار الوراق، ضم الجزء الأول من رد معروف عبد الغني الرصافي على كتاب طه حسين : «وقد بحثتُ كثيراً وطويلاً في الكتب والمجلات عن ردّ أو تعليق من طه حسين على كتاب معروف الرصافي فلم أجد شيئاً»، لكن ذلك بالطبع لا يقلل من جهد الناشر في ترتيب الكتاب الذي يبدأ بدراسة شيقة من ثلاثين صفحة عن الرصافي كتبها الباحث محمد علي الزرقا، ومن ثم كتاب الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ملحقاً به كتاب طه حسين «مع أبي العلاء في سجنه»، مما شكل مادة أدبية- تاريخية – نقدية، مهمة وممتعة ونافعة ومثيرة, يُشكر عليها حقاً.

وقد أسهب الزرقا في تعداد مناقب الرصافي السياسية والأدبية وفهمه لغاية الأدب، فهو بحسب وصف الباحث «من الأدباء المناضلين الذين وَهبوا عبقريتهم وحياتهم لشعوبهم «. كَتبَ الرصافي رسالته في الأعظمية نهايات حزيران/ يونيو 1942 وهي بمثابة درس في أخلاقيات النقد الأدبي عند الكبار، ففيها يورد كل عبارات التبجيل والإحترام لعميد الأدب العربي، سواء في بدء رسالته أو بين سطورها وفي ختامها، مع ذكر وجهة نظره في أمور محددة جاءت في كتاب «مع أبي العلاء في سجنه» أغلبها يخص ديوان «اللزوميات»، فالرصافي يعتقد « أنَّ أبا العلاء هو أول من تعمد التزام ما لا يلزم في الشعر» وهو بذلك يرد على طه حسين الذي كان يرى» أنَّ اللزوميات ليست نتيجة عمل، وإنَّما هي نتيجة الفراغ، أو ليست نتيجة الجد والكد وإنَّما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئت فقل: إنَّها نتيجة عمل دعا إليه الفراغ، ونتيجة جد جرّ إليه اللعب» ثم يشرح الرصافي رأيه هذا مطولاً ضارباً فيه الأمثلة والمقاربات التي تؤيده، وينتقل من قضية الصناعات اللفظية إلى ما أسماه طه حسين بعبث أبي العلاء الفلسفي، العبث بالنحو أو بالصرف أو بهما جميعاً، ويورد الأمثلة على ذلك، ويخص بالذكر بيتين من شعر المعري، غير أنَّ الرصافي يستغرب من الدكتور طه حسين «جعله قول أبي العلاء في هذين البيتين من العبث الذي لا يصح إطلاقه إلاَّ على فعل لا فائدة فيه لفاعله « كذلك لا يتفق الرصافي مع اتهام المعري بالتشاؤم بسبب فقدان بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة.

الطريف أنَّ الرصافي يروي حكاية ذهابه إلى لبنان مصطافاً ومعه الرسالة التي كتبها رداً على طه حسين، وبينما هو ينتظر جواب أصحاب مجلة» المكشوف» لطبعها، نشبت الحرب العالمية الثانية فعاد إلى بغداد مع العائدين، ومع أنَّ أحد أصدقائه في بيروت أخبره بعد شهرين ان الدار وافقت على طبعها، لكنهم أخّروا طبعها حتى تنتهي الحرب، لارتفاع سعر الورق هناك .

يكتب الرصافي: ولم تزل الرسالة حبيسة عند أصحاب « المكشوف» إلى يومنا هذا الذي لم تزل فيه نيران الحرب قائمة على قدم وساق.

***

د. طه جزاع

السلوك البشري بين الفطرة وتأثير المحيط

كان تعريف علم النفس هو دراسة الروح أو العقل ومعرفته مظاهره . وهذا تعريف قديم جدا، التعريف الأحدث والدقيق لعلم النفس هو الدراسة العلمية للسلوك والعمليات العقلية. السؤال هو ما هي الدراسة العلمية؟ كان الفلاسفة ينظرون ويخبرون الكثير من الأشياء عن ماهية علم النفس وبشكل غير مباشر، فما هي الروح، وما هي فكرة العقل، ما هي فكرة الوعي، وما إلى ذلك، لكن لم يكن أي منها علميا. إذن كيف أصف علم النفس بأنه علمي، لهذا عليك أن تعرف ما هو العلم. الفهم الأساسي للعلم هو نظام من أربعة أجزاء او مجموعات. يمكن تسمية أي مجموعة من المعرفة بالعلم عندما يكون هناك ما يسمى بالملاحظة. عندما يمكنك ملاحظة ظواهر معينة،أي تحدث أفعال معينة ويمكنك ملاحظتها. ليس فقط ملاحظتها، ولكن يمكنك تكرار هذه الظاهرة. لذلك إذا لاحظت ظاهرة وكررتها وكان بإمكانك التحقق من ظواهرك ودحضها. هذه الأربعة هي المعايير الذهبية للعلم. كلب ينبح، أشعر بالخوف. ما هي الطريقة الأكثر علمية لشرح ذلك؟ هل يمكنني ملاحظة خوفك عندما ينبح الكلب؟ إذا كان بإمكاني القيام بذلك، فإن ما أفعله هو دراسة علمية. هل يمكنني تكرارها؟ تكرارها بمعنى في بيئة طبيعية، بالطبع عندما ينبح الكلب ستشعر بالخوف، ولكن يمكن أن يأخذك إلى المختبر ويجعلك تسمع نفس الصوت حيث لا يوجد الكلب وإذا كان بإمكاني التخلص من الخوف، فهذا يسمى النسخ المتماثل. وبالتالي فإن المعرفة التي أجمعها علمية بطبيعتها. يعني في الأساس أنه في كل مرة ينبح فيها، فإنك تدخل في حالة قشعريرة وهو في الأساس رد فعل على الخوف أو مظاهره، ثم أقوم بالتحقق من ذلك ودحضها. إذا كان من الممكن ملاحظة مجموعة من المعرفة، وتكرارها والتحقق منها ودحضها، إنها دراسة علمية. وهكذا علم النفس. لماذا هو علم لأنه يمكن أن يفعل كل هذه الأشياء كلما حدث شيء ما، كلما حدث حدث، كلما تصرف شخص ما بطريقة معينة. وإذا استطعنا ملاحظة ذلك، ليس فقط الملاحظة، ولكن يمكننا تكرار هذا السلوك، يمكننا أن احداث هذا السلوك مرارا وتكرارا، نؤكد أن نفس السلوك سيحدث إذا ظهرت نفس الظروف، فهذا يسمى النسخ المتماثل. يمكنك التحقق من أنه في حالات أخرى أيضا يتصرف الشخص بنفس الطريقة وإذا كان بإمكانه دحض ما أثبتناه سابقا فهوعلم. فإن علم النفس، إذن، هو في الواقع دراسة علمية لما يفعله الناس.

ما هي العمليات العقلية؟ العمليات العقلية هي تلك الأحداث الذهنية التي تحدث في ذهنك أو سنقول الدماغ. أشياء مثل الذاكرة، الإدراك، التفكير، حل المشكلات، الانتباه، كل هذه عمليات عقلية. هذه عمليات سرية بمعنى أنها غير مرئية لك ولكنها تحدث في رأسك وهذه العمليات تجعلك في الواقع تتخذ قرارا.

علم النفس نفسه واسع النطاق للغاية حيث يبدأ بالإدارة من جانب وعلم النفس العصبي على الجانب الاخر. يمكننا أن ندرس في علم النفس، على سبيل المثال، التعرف على الوجوه هناك منطقة محددة جدا من الدماغ والتي يطلق عليها اسم التلفيف المغزلي يساعدك في الواقع في التعرف على الوجوه وبالتالي فإن تلف هذه المنطقة من التلفيف المغزلي يجعلك لا تتعرف على الوجوه الشهيرة أو المعروفة. وهذا ما يسمى حبسة الوجوه. الضرر الذي يلحق بهذه المنطقة يجعل المصابين لا يفهمون الناس، أو يجعلهم لا يتعرفون على الناس على الإطلاق. تمت دراسة العديد من الأشخاص و كمثال كانت لشخص كان يجلس في مطعم واشتكى الى النادل من أن شخصا ما كان ينظر إليه. أشار النادل إليه بهدوء شديد وبلطف، قائلا سيدي، إنها مرآة، لا يستطيع الشخص التعرف على نفسه.

المشكلة الأخرى المثيرة للاهتمام التي يمكن دراستها في علم النفس هي فكرة العدالة الاجتماعية. ماذا يعني الحكم الاجتماعي؟ لنفترض أنك تقف في طابور، الوقوف في طابورطويل جدا و تلاحظ أن هناك سيدة تشتري لوازم البقالة ويظهر شخص ما فجأة أمام هذه السيدة ويقول إنني أريد جمع بعض الصدقة. السيدة تعطي بعض المال للجمعيات الخيرية. ماذا ترى؟ هل السيدة كريمة؟ الآن معظم الناس، في الواقع سيخبرون أن هذه السيدة كريمة وتحب مساعدة الناس. لكن هل هذا صحيح؟ أليس صحيحا أنها تفعل ذلك لأنها امام الآخرين وهذا هو سبب كرمها. إذا درست هذه السيدة في مرحلة ما بمرور الوقت، فقد لا نرى انها كريمة وذلك لأن هناك أشخاص آخرين يقومون بتقييمها في ذلك الوقت ولا تريد أن تبدو غير كريمة وغير متعاطفة، فهي تعطي بعض المال لهذه المؤسسة الخيرية، ولكن اذا لم يكن هناك احد يراقبها قد يكون التصرف عدم الاعطاء وهي غير كريمة.

كيف قررنا أن هذا الشخص كريم أو هذه السيدة كريمة؟ فكرة تفسير سلوك الآخرين، فإن سلوك الآخرين يحمل مسؤولية شخصيتهم أو سماتهم لتكون سبب السلوك وهذا يسمى خطأ الإسناد الأساسي وبالتالي الأحكام الاجتماعية. في الواقع هي مثال جيد جدا على علم النفس. لذلك عندما ننظر إلى سلوك الآخرين، فإننا نعتبر أن شخصياتهم أو أنهم، أو أن سماتهم مسؤولة عن أي سلوك يقومون به. وهذا ما يسمى خطأ الإسناد الأساسي. وبالتالي فإن دراسة خطأ الإسناد الأساسي هي في الأساس انحراف. الانحراف هو عندما ندرس الآخرين ونعتقد أن شخصياتهم مسؤولة عن سلوكهم ولكن عندما يدرس هؤلاء سلوكنا، فإننا نحمل الظروف او المحيط المسؤولية. لنفترض أن شخصين في امتحان أنت وصديقك، فشل صديقك،ما هو سبب فشلك؟ أعتقد أنه كان سيئا، ولم يكن يدرس وهذا ما يسمى خطأ إسناد أساسي لأنك تضع وزنا أكبر عليه او على شخصيته. ما هو السبب في أن معظم الناس يصفون هذا بأن الاختبار كان صعبا، وكان الوضع سيئا، وكانت قاعة الامتحان حارة ولم يكن الوضع جيدا، والنظافة لم تكن جيدة، وكانت الخدمة بائسة، وكانت الضوضاء كبيرة، والعديد من الأسباب الأخرى. أنت لا تحمل نفسك المسؤولية أبدا، وبالتالي تحميل الظروف المسؤولية عن سلوكك .

هناك مثل اخر عن دراسات علم النفس،هناك نوع من الاضطراب في الذاكرة حيث يفقد الناس ذاكرتهم قصيرة المدى. في هذه الحالات ما حدث بالفعل هو أن الناس غير قادرين على التعرف على أي شخص، الأشخاص الذين فقدوا منطقة معينة في الدماغ تسمى الفص الصدغي، ليسوا قادرين على تكوين ذكريات قصيرة المدى. لذا فكر في شخص يتحدث إليك وفي غضون كل 5 دقائق يسأل من أنت. كيف يتم تخزين المعلومات،معلومات مثل القواعد الرياضية، مثل أين أمريكا؟ وهذا النوع من المعرفة المتعلقة بعيد ميلادك، المتعلقة بما حدث في يوم آخر أو حدث آخر.

الكثير من الناس في هذا العالم يعانون من السمنة المفرطة، وهذه مشكلة من مشاكل البشرية الكبيرة. أحد الأسباب هو أن بعض الأشخاص الذين حرموا من تناول الطعام في وقت ما في مرحلة الطفولة يصابون بالإفراط في تناول الطعام ومن الأسباب الأخرى هو أن الاكتئاب الذي يجعل البعض يأكل أكثر وأكثر.

العنف لماذا يمارس الناس العنف؟ لماذا يتحول الناس إلى عدوانيين؟ الذين يلجأون إلى العنف يعتقدون في الواقع أنهم يكافأون به وهكذا . تم إجراء تجربة بسيطة للغاية مع مجموعة من الأطفال حيث تم عرض فيلم عنيف على مجموعة منهم ولم يتم عرض فيلم عنيف على المجموعة الأخرى من الأطفال. وفي وقت لاحق تعرضت كلتا المجموعتين من الأطفال لشيء يسمى دمية القاذفة، وهي في الأساس دمية غير مؤذية وكان رد فعل الأطفال الذين شاهدوا أفلاما عنيفة عنيفا. في حين أن الأطفال الذين لم يشاهدوا فيلما عنيفا، كان رد فعلهم طبيعيا جدا على الدمية. هناك نوعان من النظريات. تقول إحدى النظريات أن هذا الفيلم يجعل الأطفال يدركون أنه عندما يفعل البطل عنفا، فإنه يكافأ. وهكذا يتعلمون هذا ويقومون بالعنف للدمية. لكن المجموعة الأخرى من الأطفال في الواقع لم يروا أبدا أن أي شخص قد حصل على مكافأة بسبب العنف. ولكن هناك نهج آخر يقول بشكل أساسي أنه عندما يمارس الأطفال العنف، فإنهم في الواقع يطلقون المشاعر المطهرة وبسبب ذلك يجب أن يشعروا بالرضا.

 شيء آخر مثير للاهتمام هو أن علم النفس يجب أن يقلل من الاختلاف. لذلك يتم إجراء البحوث لزيادة معرفتنا حول كيفية تفكير الناس وسلوكهم. في دراسات مختلفة لدينا أشياء مختلفة. لأن ما يفعله علماء النفس ليس فقط دراسة، بل يصممون تجارب لفهم العملية النفسية وراء أي فعل وليس فقط أنهم يطرحون دراسات ثم يقومون لاحقا بنوع مختلف من الدراسات التي تنفي أحيانا بعضها البعض أو تضيف أحيانا إلى بعضها البعض. لأننا لا نستطيع فقط الملاحظة والتكرار والتحقق، يمكننا أيضا الدحض. إذن هذه هي فكرة الدحض. يتم إجراء التجارب للنظر في كيفية تصرف الناس، وأحيانا يضيفون إليها أو ينفون في بعض الأحيان وهذا يزيد من معرفة سبب قيام شخص ما بشيء ما.

 تعود جذور علم النفس إلى القرن 4 و 5 و 6 قبل الميلاد ومن فلاسفة اليونان القدماء العظماء سقراط وأرسطو و آخرين، كانوا يعتقدون أن علم النفس هو دراسة الوعي، ودراسة النفس، ودراسة العقل، وما إلى ذلك. يعتقد معظم هؤلاء الناس أن سلوك الناس، الطريقة التي يفعل بها الناس ما يفعلونه يحكمها هذا الوعي أو العقل . ومن أشهر النقاشات حول الطبيعة الفطرية. هناك سؤال في علم النفس يقول أنه مهما كان السلوك الذي نقوم به فأنه يأتي من الطبيعة أو من الفطرة، ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن السلوك الذي نقوم به، أي فعل نقوم به أي حدث والاستجابة، مهما كانت طريقة الاستجابة، شخصياتنا، أنفسنا، ذكرياتنا، انتباهنا، عملياتنا، إدراكنا، كل هذه فطرية في الطبيعة، فطرية بمعنى أنها تتسلل من الأب إلى الابن بشكل ما. الشخصيات هي الذات هي السلوكيات كلها موصولة بالدماغ. لذا فإن الجدل حول الطبيعة يعتقد بشكل أساسي أن معظم القدرات البشرية كالمهارة في الرياضيات أو الغناء أو أي قدرة أخرى تعتمد بشكل أساسي على الطبيعة او الفطرة.

***

د. احمد المغير

(الحمدُّ لله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام1

 الظلمة لغة: ضد النوربضم اللام والجمع ظُلمات وأظلم الليل أو ظلام الليل أي أول الليل والليلة الظلماء أي المظلمة.

والظلمة اصطلاحا: هو انعدام الضوء فيما من شأنه أن يكون مضيئا.

والظلام هو عكس السطوع ويعني غياب الضوء المرئي وغياب الضوء يعني ظهور اللون الاسود في المساحات الملونة.

والحقيقة فقد وردت كلمة الظلمة بالقرآن الكريم في مواضع عدة ،وكل ماورد من الظلمات والنور يعني (الكفر والايمان) إلا في الاية الأولى من سورة الانعام فالمراد بها (الليل والنهار) ،فعبر القرآن الكريم عن الصراط بالنور فيما عبّر عن الكفر والباطل بالظلمات فالابتعاد عن النور يعني الدخول في الظلمات وهي حقيقة ثابتة لايختلف عليها أثنان.

وقد خلق الله النور ليهدي به الانسان والنور الذي ذكره الله له عدة وجوه:

الاول: النور المحسوس (المادي) الذي يميز الليل من النهار وهو النورالذي تهتدي به كل المخلوقات بدون استثناء كضوء الشمس (وسخَّرلكُم الشَّمسَ والقَمَرَ دائبَينِ وسخَّرَ لكم الليلَ والنهارَ) ابراهيم 33

الثاني: نورالله وهونور الهداية وهو النور الي يخرج الله به الناس من ظلمات الكفر الى نور الايمان (قد جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مبين) المائدة15

الثالث: نور الامتحان والغاية وهو النور الذي يمتحن الله به عباده الصالحين (يهدي الله لنوره من يشاء) النور35

وقد وصف الله القرآن بالكتاب المنير لانه ينير الظلمات فيهتدي به الناس (قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين) النور 2

وقد وردت الظلمات على أربعة أوجه في القران الكريم:

-أهوال البر والبحر

-قل من ينجيكم من ظلمات ِ البرِّ والبحرِ) الانعام 63

-ظلمات ماقبل الولادة (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم في ظلماتٍ ثلاثٍ) وهي ظلمة البطن والرحم والمشيمة

-ظلمة الشرك والكفرقال تعالى (يُخرجهم من الظُلمات إلى النور) البقرة257

-ظلمة الليل قال تعالى (الحمدُ لله الذي خَلقَ السماواتِ والأرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام 1

وتقسم الظلمات إلى حسية ومعنوية وسنحاول ان نتناولها بشئ من البحث.

اولا: الظلمة الحسّية وتشمل:

-ظلمة الليل قال تعالى (قُل أرأيتم إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم الليلَ سَرمَدًا إلى يوم القيامة) القصص71

-ظلمات السحاب قال تعالى (أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيٍّ يغشَاهُ مَوجٌ من فوقهِ مَوجٌ من فوقهِ سَحابٌ إذا أخرجَ يَدَهُ لم يكد يرأها ومن يجعل اللهُ لهُ نورًا فماله من هاد) النور40

وإذا تأملنا هذه الاية الكريمة لوجدنا،إن الظلمات فيها ثلاث وهي ظلمة البحر اللجي العميق متجسدة بظلمة الموج وفوقه موج آخر وفوقه سحاب ،فهي إذن ثلاث ظلمات ،وقد شبه الله هنا الظلمة بالبحر اللجي دلالة على العمق والاستئثار بالظلمات الثلاثة التي هي القلب والسمع والبصر، وهذه الجوارح الثلاثة إذا غشتها الظلمة تفقد جانبها المضئ وتبقى تتخبط بالضلالة والكفروالعصيان وهذا مثل الكفار الذين تراكمت عليهم الضلالة والشرك والفساد ومن يضله الله فما له من هاد.

-ظلمات البطن قال تعالى (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم خَلقًا من بعدِ خَلقٍ في ظلُماتٍ ثلاثٍ ذلكم الله ربكم) الزمر 6

وهذه الاية توضح الظلمات الثلاث في بطن الام والتي تمر بثلاث أطوار هي البطن،الرحم،المشيمة –سبحان الله وقد أثبت العلم صحة هذه الاطوار الثلاثة وهذه الاية تعتبر من روائع الايات الاعجازية.

-ظلمات بطن الحوت قال تعالى (وذا النون إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظُلمات) الانبياء87

والمقصود بهذه الاية الكريمة النبي يونس بن متى حينما التقمه الحوت بعد أن عجز عن هداية قومه فضاق صدره وقد ابتلاه الله بثلاث ظلمات وهي ظلمة البحر والليل وبطن الحوت وقد أقر بظلمه لانه لم يصبر على قومه فقال (لاإله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين) الانبياء87

والحقيقة إن هذه الآية الاعجازية إنما أراد الله بها أن يُري النبي يونس كيف خلقه الله في ظلمة مالها من قرار وكيف أخرجه منها إلى النور بقدرته جلّ وعلا ،ألا تشبه هذه الظلمات الثلاث ظلمات الجنين في بطن أمه؟

هكذا يكون الاعجاز القرآني وهنا تكمن سيميائية كل آية بكل ماتحوي من معان دعانا الله فيها للتدبر (كتاب أنزلناهُ إليكَ مُباركٌ ليدبروا آياتهِ وليتذكر أولو الالباب) ص 29

-ظلمات البر والبحر قال تعالى (أمَّن يَهديكم في ظُلماتِ البر والبحرِ) النمل 63

ثانيا: الظلمات المعنوية وتشمل:

-ظُلمة الشرك والكفر والنفاق قال تعالى (مَثلهم كمثلِ الذي استوقدَ نارًا فلمّا أضاءت ماحولهُ ذَهَبَ اللهُ بنورهِم وَتَرَكَهم في ظُلماتٍ لايبصرون) البقرة 17

-ظلمة الجهل (والذين كذَّبوا بآياتِنا صُمُّ وبُكْمٌ في الظُلمات) الانعام39

إن الظلمات التي ذكرها القرآن الكريم هي كل الامور السوداوية التي تجعل الانسان يقبع في ضلالة مدقعة يتخبط بخطى الظلام يزينها له القرين والنفس الامّارة بالسوء، أما غاية النور في القرآن الكريم فهو نور تام لاظهار حقيقة الاشياء بوضوح فهو نور معنوي وحسّي يشعر به الانسان المؤمن الذي يتخذه صراطا للهداية فيقال (جنة المؤمن في قلبه) وما أروعها من جنة تملأ دنياه وتضمن له الحياة الأبدية في جنان النور.

هذا العلم الغزير والخير الكثير الذي وضعه الله بين أيدينا انما هو نور يستضاء به في الظلمات ،وكل حكم فيه دليل قطعي على صحته ونشأته وتشريعه،هذه الحكمة من التدبر والتأمل انما اتت من دعوتنا الى تدبرها مرة بعد مرة وصولا إلى الادراك والتذكير بنعم الله جل وعلا وعلى رأسها نعمة العقل التي تجعل الانسان يفر ق بين الخير والشر على اسس رسمها الله له لكي يحيا بتقويمه الرائع الذي باهى الله به ملائكته (إذ قالَ ربُكَ للملائِكةِ إنّي خالقٌ بَشرًا من طينٍ فإذا سوّيتهُ وَنَفَختُ فيهِ من روحي فقعوا له ساجدينَ) ص71

ومن بحثنا هذا توصلنا الى حقيقة الظلمات التي حددها الله بثلاث ظلمات وهي كما اسلفنا ظلمة الجنين في بطنه الذي يمر بمراحل ثلاث،وظلمة النبي يونس في بطن الحوت وتحددت ايضا بثلاثٍ،وظلمة الضال التي تغشي جوارحه الثلاث القلب والسمع والبصر.

أن في كتاب الله لنا سفينة نجاة ولنا فيه نورا نستنير به من ظلم الظلمات فالظلم ظلمات واقبح الظلم هو ظلم الأنسان لنفسه عندما يختار طريق الضلالة،في حين إن الله وضع بين أيدينا ميزان عدله واشرق بنوره ليرينا طريق الحق.

فهل يوجد أعظم تكريما للانسان من هذا التكريم لاخراجه من الظلمات الى النور قال تعالى (وأشرقت الأرضَ بنورِ ربَّها ووضعَ الكتابُ) الزمر69

***

مريم لطفي الالوسي – العراق

ربما لا يخطر على ذهن أعتى مفكري أوروبا، من الذين يستشرفون المستقبل، أن الثورة  الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789، وما حملته من شعارات الحرية والمساواة والإخاء وحقوق الإنسان، التي انتظمت فيما بعد تحت مسمى (الحداثة) أو (العلمانية)، وألقت بظلالها على كل أوروبا وأمريكا ومن ثم باقي العالم، ستشهد من التحولات ما يصدم الأسلاف والمؤسسون من آباء الحداثة والتنوير حد الذهول.

لقد ظهرت الحداثة بوصفها رد فعل على لاهوت العصور الوسطى، واستطاعت تحرير الفرد من ظلامية وقيود تلك الحقبة، وأعلنت عن تقديس الإنسان، والعقل، والحرية، والمساواة، لكن تحولاتها الدائمة، وطغيان مبدأ المنفعة، وتفشي الإلحاد الذي أدى إلى عزل المجتمع عن القيم الدينية والأخلاقية، وهيمنة الأيديولوجيا الرأسمالية التي تقدس الربح وزيادة الاستهلاك، والتوسع في مفهوم الحرية لدرجة هدم الثوابت... جميع هذه المظاهر آلت إلى أشكال خطيرة من القيم، تهدد الجنس البشري وتعلن الحرب على الفطرة الإنسانية، وهو ما يتعارض مع جوهر فكرة الحرية وحقوق الإنسان. وما إعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بأن: (أمريكا أمة المثليين) سوى امتداد لهذه التحولات التي تطيح بالثوابت، بل وتحاربها لمصلحة الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة.

وأخطر ما في تصريح الرئيس الأمريكي هو تبني إدارته العلني لظاهرة الشذوذ ودعمها. ذلك أن هذا الدعم والترويج سيلقي بظلاله على باقي دول العالم. ويكمن جوهر الخطر، في أن تبني أمريكا لقيم ونماذج ما، فإنها لا تكتفي بإبقائها داخل حدودها، وإنما تعمل على تصديرها للآخرين كما تصدر سلعها ومنتجاتها. وتلك هي العولمة التي تعني تعميم الشيء وجعله عالمي التداول والانتشار، أي تحويل الظواهر والنماذج من نطاقها المحلي إلى مستوى العالمي والكوني واسع الانتشار. وظاهرة الشذوذ موضوع وثيق الصلة بما يعرف بــــ (العولمة الثقافية). وهو مصطلح يقصد به نقل قيم وعادات شعب ما إلى شعوب أخرى. والمصطلح يشير أيضاً إلى هيمنة الثقافة الأمريكية وسيطرتها، وذلك نتيجة قدرتها على التأثير في ثقافات المجتمعات الأخرى ونقل قيمها وأفكارها. 

إن صعود هذه الظاهرة وتداولها على نطاق واسع، أعلام ترفع، مهرجانات تقام، رؤساء يصرحون علناً بتأييدهم للشذوذ، مؤسسات دينية لها منزلة وأتباع (الفاتيكان وموقف البابا الأخير المؤيد صراحة للمثلية)، وكالات تجارية عالمية وأندية رياضية شهيرة (مثل نادي برشلونة)، وسائل إعلام (صحافة، تلفاز، سينما)..... أقول إن هذا الصعود جزء من سياسة تعميم الشذوذ والتحول الجنسي على أوسع نطاق ممكن، الأمر الذي يجعل مما هو محرم ومنبوذ مقبول ومتداول. وإذا كان بدايات هذه الظاهرة يصدم حد الذهول، ولا سيما في المجتمعات التي نطلق عليها تقليدية ومحافظة، فإن الحديث عنها وتداولها على نطاق واسع، كما يجري منذ مدة، سيجعل منها أمراً طبيعياً ولا إشكال فيه في المستقبل.

ولعل المشاهد البصير لم تغب عنه سياسات هوليود الأخيرة وشبكات التلفاز والإنتاج السينمائي، مثل(Netflix، HBO، Cinemax،APPLE TV + )، وخاصة Netflix، إذ يندر وجود عمل من أعمالها (فلم، مسلسل)، لا نجد فيه مشاهد تروج للشذوذ وتسوقه للمتلقي في إطار درامي لا يخلو من المكر والدهاء. يتجلى ذلك في طريقة بناء شخصية البطل أحياناً، محور العمل ونقطة جذب المتلقي. طبعاً، البطل هنا، كما في كل الأعمال، يقدم بوصفه مثالاً للخير والوفاء، أو للشجاعة ورفض الظلم، أو للحب والتضحية، ما يجعل من المتلقي يتفاعل معه، يتأثر به، يعجب بشخصيته، وربما يعمل على تقليدها.

ولكن هذا البطل، وبعد تحقيق تأثيره في المتلقي، يرفع الستار عن ميوله، عما كان يخفيه صانع العمل بمكر ودهاء، فإذا هو شاذ أو من مؤيدي الشذوذ والمتسامحين معه !!! والمهم أن ثمرة هذا الأسلوب، جعل شذوذ البطل آخر ما نفكر فيه ونستهجنه أو ندينه، لأن تعاطفنا معه والتأثر به، هو من سيتكفل محو ما يبدو أنه مخالف لقيمنا وسلوكنا، فيغدو انحرافه في النهاية شيئاً طبيعياً لا مشكلة فيه، ما دمنا نرى فيه نموذجا للإنسانية في محاربة الشر، أو عمل الخير، أو التضحية والوفاء.

على هذا النحو تمرر هذه القنوات أجندتها. فهي (ولا مبالغة في ذلك) أكثر الأدوات خطورة وتأثيراً على قيم المجتمع وتقاليده، شأنها في ذلك شأن مناهج التربية والتعليم والقوانين، إن لم تكن أكثر. وما يبدو صادماً وغير مقبول، مع مرور الوقت سيجعل الأعلام والسينما والتلفاز منه طبيعياً ومتداولاً، بل ويعمل على دمجه في حياتنا، جاعلاً منه جزء من قيمنا وسلوكنا.

وهذا ما حصل في الغرب. فهذا الأخير مثله مثل باقي الأمم والشعوب فيما مضى، كان يفرض أِشد العقوبات على ظاهرة الشذوذ، بما فيها القتل والحرق، ومن ثم انتقل إلى عقوبة السجن والغرامة، وبعدها أكتفى بالغرامة فقط، إلى أن خلص، في أحدث تحولاته، إلى تشريع القوانين التي تحمي الشذوذ. لكنه لم يكتف بذلك، فذهب نحو مرحلة أشد خطورة، وهي الترويج للشذوذ والدفاع عنه، في سلوك يبدو أن مريديه والمدافعين عنه قد أعلنوا الحرب على الفطرة البشرية، وعلى كل الديانات والأعراف والتقاليد التي عرفها الإنسان واتفق عليها الحكماء والعقلاء. 

***

د. عدي حسن مزعل

وإشكالية تهديد تماسك الأسرة والمجتمع بالتفكك

مع تسارع تأثير تداعيات العصرنة في مجريات الحياة اليومية المعاصرة للناس، ومن خلال وسائلها المفتوحة في كل الاتجاهات، وبلا قيود، ازدادت المناكفات اليومية في حياتنا الأسرية، والمجتمعية، حتى أضحت تهدد وحدة صف العائلة والمجتمع بالتفكك، بعد أن تعمقت مشاعر الإنفلات والتسيب، وبما باتت تتركه من مفاعيل مؤذية، نفسيا، ومنهكة إجتماعيا.

ولاريب أن تداعيات العصرنة السلبية، بما أفرزته من وسائل الإتصال الرقمي، على كل إيجابياتها، من انغماس الجيل، آباء وأبناء، في فضائها، وما تركته من عزلة بين أفراد العائلة، وداخل أفراد الوسط الاجتماعي العام، قد عمقت حالة التفكك، ووسعت الفجوة بين الناس، وألغت ترادف الأجيال بين الناشئة والآباء؛ مما خفف من جذوة التفاعل بالحضور الوجاهي الحقيقي، وأضعَف صميمية العلاقة الحميمة التقليدية بين أفراد الأسرة ببعضهم البعض، وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وذلك بسبب التنشئة الخاطئة، وغياب دور الآباء والأمهات، في الإشراف العملي المباشر على تربية الأبناء، وإهمال مراقبة سلوكياتهم، وغض النظر عن مدى تطابقها مع معايير الصلاح، والتصرف الرشيد.

ولعل من الملاحظ على سبيل المثال، ان ظاهرة الانغماس الكلي في فضاء الواقع الافتراضي، قد أفضت إلى استلاب إجتماعي نتيجة انفصال المستخدم تدريجياً، عن واقعه الحقيقي، متمثلاً بعزله عن أسرته، وانفصاله عن أصدقائه، ومجتمعه، بعد أن حل محله، الاندماج التام بالواقع الافتراضي الجديد، الذي انغمس فيه. وهكذا فقد باتت هذه الظاهرة تشكل مصدر قلق للمجتمع، ولمؤسساته التربوية، والتعليمية معاً، بل وحتى الدينية، بعد أن أوشكت هذه الظاهرة ان تعزل المستخدم، وتقصيه عن أداء واجباته الدينية، والاجتماعية.

ولا ريب أن تسلل الواقع الافتراضي الجديد إلى حياة الناس، ليحل محل الواقع الحقيقي لهم، قد بات يطرح من بين الكثير من التداعيات السلبية، محاذير إشكالية التفاعل مع المحتوى الهابط، الذي يطرح للتداول عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، مع أنها ليست هي من يصنع هذا المحتوى، لكنها تظل، مع ذلك، وسيلة نقل المحتوى، الذي قد تقف وراءه أوساط غير منظورة، لها مصلحة في صنع المحتوى، أو فبركته، بالطريقة التي تخدم مصالحها الخاصة، دون مراعاة لمشاعر المستخدمين، أو ملاحظة لمعايير الأخلاقيات العامة للمجتمع، حيث تنجح مثل تلك الفبركة، في كثير من الأحيان، في تغيير القناعات، والتأثير في المزاج الجمعي العام للمجتمع، بشقيه، الافتراضي، والحقيقي، وفقا لأغراض تلك الأوساط، وما قد يترتب على ذلك بالمحصلة، من منعكسات اختلاط الرؤى، وتشويش القناعات، والتأثير في السلوك.

 وهكذا فنحن اليوم، شئنا أم أبينا، أمام تداعيات ضاغطة باتجاه تفكيك الأُسرة، وهدم المجتمع، سواء من خلال ما باتت هيمنة الإنترنت تتركه بالإدمان على استخدامها، او التفاعل مع محتوياتها الهابطة، ناهيك عن الدعوات الأخيرة، لشرعنة ثقافة الشذوذ الجنسي المنحرف عن الفطرة الإنسانية، والقوانين السماوية والأرضية، والترويج لها، ومحاولات دعمها، سياسيا وفكريا وقانونيا، من قبل أطراف دولية، من خلال سعيها المستمر لتقنين حقوق الشواذ، بذريعة حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، مما سينعكس سلبا على تماسك الأسرة، بسبب الانحلال الأخلاقي، والتسيب، وضعف الانضباط داخل الأسرة، والمجتمع، في نفس الوقت، ولتكون بذلك عامل هدم مضاف، في كيان الأسرة، والمجتمع.

 ولا ريب أن مثل هذه التداعيات السلبية، ستكون لها آثارا حادة، تنخر في كيان الأسرة، وتهدم أركان المجتمع، لاسيما وان الكثير من مجتمعات اليوم تعاني من إشكاليات التفكك العائلي والاجتماعي، بسبب المساوئ الناجمة عن ضعف آليات التربية للأبناء داخل الأسرة، وغياب الدور الاجتماعي، والتربية الدينية المتوخاة، في تحصين أفراد الأسرة، ضد كل أشكال الانحلال الأخلاقي والقِيَمي، والانحراف عن صراط الله المستقيم .

ولذلك يتطلب الأمر الانتباه إلى مخاطر التداعيات السلبية لمخرجات العصرنة، والحرص على تقوية الوازع الأخلاقي، وتقوية الوازع الديني لدى أفراد الأسرة ابتداءً، والجيل الصاعد من الشباب، بقصد التحصين، وذلك لغرض النأي بهم عن مسارات التسيب، والانحلال، والضياع، والانغماس في مواقع التواصل الرقمي الضارة، وبالشكل الذي يضمن الحفاظ على وحدة الأسرة، ويعزز استمرار تماسك المجتمع، ويديم أواصر التواصل الاجتماعي الحقيقي المباشر وجها لوجه، ويحد من ظاهرة العزلة والانحدار الأخلاقي، وذلك من خلال اعتماد نهج المسؤولية الجمعية في التربية .

وهكذا يتطلب الأمر الحرص على التوعية الدينية اجتماعيا، ومدرسيا، وإعلاميا، لتعزيز المعايير التربوية الفاضلة بين أفراد الأسرة والمجتمع، والارتقاء بمستوى ثقافة الآباء والأبناء، والحرص على تعميق ثقافة تماسك الأسرة فكرا وسلوكا، وبالشكل الذي ينعكس إيجابا على إرساء وتعميق دعائم المجتمع الرشيد الذي ننشده.

***

نايف عبوش

في المثقف اليوم