قضايا

تحليل مُفَصّل للتحولات السوسيوسياسية وتجلياتها الأدبية

المقدمة: النظام الإقطاعي الأوروبي، بتداخل علاقات السلطة المعقدة فيه، كان يشكل النظام العالمي السائد حينها، في الداخل الأوروبي ومع العالم الخارجي على حد سواء. كان هذا النظام الهرمي له تأثير عميق على المجتمع والثقافة والوعي الجمعي في ذلك الوقت. توغلت ثقافة الإقطاع عبر أدوات السرد والمنطق والأمثال في الوعي الأوروبي وحيكت خيوطها في نسيج الحياة اليومية جميعها حول النظام الإقطاعي. حتى المنازل شيدت بالقرب من المزارع هنا وهناك مما جعل المدن في أوروبا أقل بكثير من عدد القرى الزراعية المبثوثة في الرقعة الزراعية الأوروبية. التخطيط العمراني الزراعي للقرى يؤكد الترابط المتبادل بين السادة الإقطاعيين والعائلات الزراعية التي تعمل على أراضيهم. كان النظام الإقطاعي يوفر مظهرًا من الاستقرار، مضمونًا الاستمرارية الاقتصادية للمزارعين من خلال ضمان السيد شراء إنتاجهم. ومع ذلك، فإن هذا النظام الموجود تم تقليصه على حين غرة بظهور الثورة الصناعية، التي أعلنت نظام عالم جديد.

ظهور الثورة الصناعية المضطربة

ظهرت الثورة الصناعية خلال فترة مضطربة عندما بدأ النظام التقليدي ينهار بعدم قدرته من مجاراة التطورات الكونية و لم يكن مجهزًا للتكيف مع عالم يتغير بسرعة. أدت هجرة الجماهير الأوروبية من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية النامية، حيث ازدهرت المصانع، إلى ارتكاب ظلمات جسيمة واستغلال للمزارعين غير المهرة وعائلاتهم ومجتمعاتهم. هذه الهجرة الجماعية أخلت بالهياكل الاجتماعية الموجودة، تاركة الأفراد الضعفاء رهن رحمة نظام صناعي يعطي الأولوية للربح على حساب الإنسانية. في هذا السياق، كتب آدم سميث، الذي نشر عمله الأصلي "نظرية الأحاسيس الأخلاقية" في عام 1759، لتغريس القيم في نظام العالم الصناعي الناشئ، والتصدي للمشاكل الأخلاقية التي تنشأ عن هذه التحولات.

استجابة فيكتور هوغو: "البؤساء"

في مواجهة هذا الخلفية من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، لاحظ فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الشهير، التغيرات المتتالية وسجلها في أعماله الرائعة "البؤساء" المتكونة من خمسة أجزاء باعتبارها ردًا عميقًا. نُشرت موسوعة البؤساء في عام 1862، وتعتبر هذه الأعمال الضخمة تصويرًا مؤثرًا للواقع القاسي الذي تحمله العمال خلال الثورة الصناعية، حيث يظهر بوضوح ظروف عملهم القاسية والمعايير المعيشية المتدنية. يكشف السرد المتقن لهوغو عن عالم يستغل فيه أرباب العمل العمال، عبر تقديم أجور ضئيلة لا تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، مع اللجوء أيضًا إلى استغلال العمالة الأطفال المتفشي. علاوة على ذلك، يفحص بذكاء كيف تزيد إدخال الآلات الجديدة من مشكلات البطالة، خاصة بالنسبة للأفراد من الخلفيات المهمشة.

أهمية "البؤساء" في السياق المعاصر

لا يزال التصوير القوي لهوغو للحياة خلال الثورة الصناعية يرى لحد اليوم في المجتمع المعاصر، مما يجعل "البؤساء" عمل أدبي مهم ودائم الأثر. من خلال استكشاف تجارب الأفراد المتأثرين بهذه التحولات الاجتماعية بصورة شخصية، يقدم هوغو نظرات ثمينة إلى الأسباب الأساسية للثورة الفرنسية، وكذلك الموجات التالية للتقدم الاجتماعي وتحسين ظروف العمل التي نشأت بعدها.

ثورة 1832: حدث تاريخي يتم تصويره في "البؤساء"

أحد الأحداث التاريخية المحورية المصورة بوضوح في "البؤساء" هي ثورة 1832. نشأت هذه الثورة من رغبة في إجراء إصلاحات ديمقراطية، وهدفها الإطاحة بالحكومة القائمة وإقامة مجتمع أكثر مساواة. من خلال شخصية ماريوس بونتميرسي، طالب القانون الشاب الذي ينضم إلى الثوار، يقدم هوغو للقراء نظرة عن قرب على الأفكار المثالية الحماسية والالتزام الثابت لأولئك الذين قاتلوا من أجل تغيير المجتمع في هذه الحقبة المضطربة. تسجل الرواية بعناية تاريخ بداية الثورة وتقدمها وفشلها النهائي، مؤكدة التحديات والتعقيدات الجوهرية في مثل هذه الحركات الثورية.

انتقاد هوغو اللاجئ للأنظمة السوسيوسياسية

من خلال "البؤساء"، ينتقد فيكتور هوغو بلا تردد النظام الإقطاعي الأوروبي والظروف المقمرة التي أحدثتها الثورة الصناعية. يكشف تصويره الحاد عن الفروق الواضحة بين الطبقات الحاكمة والعمال المهمشين، مسلطًا الضوء على الظلم والفساد الذي ينبع من هذا النظام. علاوة على ذلك، يسلط الضوء على الجوانب الإنسانية للأفراد الذين يعانون من الفقر والحاجة، مع توجيه رسالة قوية بضرورة العدالة الاجتماعية والرحمة.

خلاصة

يعد النظام الإقطاعي الأوروبي والثورة الصناعية حقبة مهمة في التاريخ الاجتماعي والأدبي. تتعرض "البؤساء" للتحولات السوسيوسياسية التي نشأت في هذه الفترة بشكل متفائل وواقعي. تمثل الرواية صرخة واعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وتناصر النضال من أجل إصلاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المشجعة. وبفضل تأثيرها القوي وتصويرها المؤثر للحياة في تلك الحقبة، تستمر "البؤساء" في الإلهام والتأثير على القراء اليوم.

***

د. محمد الزكري القضاعي

............................

* جزء من محاضرة قدمتها لطلبة الماجستير في ألمانيا

أولا، أنا لا أدعي أن أنني راكمت تجربة مهمة أو حققت منجزا هائلا في ميدان الترجمة والدراسات الترجمية التي باتت تشغل اليوم حيزا مهما في مجالات عديدة ليس فقط داخل العلوم الإنسانية بل أيضا في العلوم الأخرى بعد أن كان ينظر إليها كنشاط ثانوي تابع لأنشطة ثقافية أكثر أهمية.  ولجت مجال الترجمة من باب الدراسات الأدبية وبالخصوص من خلفية ترتبط باهتمامي بالأدب المقارن والأدب العالمي الذي تعرفت على تاريخه ومدارسه ومبادئه من خلال اطلاعي على كتابات غوته، وويليك ووارن وإتييمبل ودامروش  وباسكال كزانوفا وغيرهم. انبهرت كثيرا بالقيم والمبادئ التي استند عليها الأدب المقارن، وبعده الأدب العاملي، بالرغم من الأزمات التي مر منها في تأثره وتفاعله مع نظريات ومنهجيات ومفاهيم أخرى لها علاقة بالانتماء الثقافي والقومي. شخصيا، لم يسبق أن فكرت في الأدب وقيمته كنسق أو نتاج جمالي يرتبط حصرا بقومية أو ثقافة أو جنس أو عرق أو لغة محددة، بل اعتبرته على الدوام حقلا معرفيا يهدف إلى تجاوز تخوم الانتماء وحدود القومية بتأكيده على أهمية الإبداع كخطاب عابر للقوميات والأوطان.

كانت قراءاتي الأولى لمختلف الأجناس الأدبية باللغة العربية في قرية أمازيغية صغيرة لا تتوفر على مكتبة مدرسية أو عمومية. اطلعت حينها على معظم القصص القصيرة والروايات والدواوين الشعرية التي كنت أشتريها أثناء زيارتي للأسواق الأسبوعية بالمدينة المجاورة. بعدها انفتحت على اللغة الفرنسية فقرأت بها أمهات كتب الأدب الفرنسي التي خطتها أنامل موليير، وراسين، ورونسار، وشاطوبريان، وهيغو، وبالزاك، وفلوبير، وزولا، وكامي، وسيلين، وسارتر، قبل أن أقع في حب اللغة الإنجليزية أثناء دراستي الثانوية. كان للغة الإنجليزية أثر كبير وراسخ في تكويني الشخصي والعلمي حيث فتحت لي آفاقا جديدة أطلعتني على ثقافات وشعوب وتجارب إنسانية مختلفة. أصبحت أقرأ لأدباء عالميين ينحدرون من افريقيا وأسيا وأمريكا وأستراليا وكندا، وأمريكا الجنوبية، وجزر الكرايبي، أدباء لم تتح لي الفرصة لأتعرف عليهم وعلى انشغالاتهم، وعلى أسلوبهم في الكتابة بسبب عائق اللغات المختلفة. بدا الأمر وكأن اللغة الإنجليزية قلصت المسافات واختصرت الأزمنة وحافظت على الجهد المبذول بما وفرته من ترجمات للآداب العالمية. كان الأدب بعوالمه المتخيلة يمثل بالنسبة لي العالم الذي كنت أتوق إليه والبديل الممكن لظروف الفاقة والحاجة التي كنت أعيشها. هناك في أحد أركان غرفة كئيبة ومهملة شيدت بلامبالاة على سطح المنزل كنت أنزوي وأتيه في عوالم شكسبير، ودانييل ديفو، وطوماس هاردي، واوسكار وايلد، وجيمس جويس، وهمنغواي، وجون ستاينبك، ولانغستون هيوز، وجيمس بالدوين، وشينوا أشيبي، ووول شوينكا، و أيي أرما، وماريما با، وديريك والكوت، وجميكا كنكيد، وجورج لامين، وبورخيس،  وماركيز، وكورتزار، وأوكتافيو باز، وفيرجينيا وولف، وجيرترود ستاين، ودستويفسكي، وتولستوي، وكوغي، وبوشكين، وكونترغراس، وهولدرلين وريلكيه وغيرهم. أدركت حينها أهمية الترجمة كمجهود نبيل يروم تقليص الهوة بين الثقافات والشعوب، كأداة تساهم في توسيع الإدراك ونشر الوعي، فانشغلت بتعميق إلمامي باللغات التي تعلمتها بالإضافة إلى لغتي الامازيغية. كنت كلما فرغت من قراءة نص أدبي في لغته الأصلية إلا وتمنيت أن أتقاسم هذه الغبطة الروحية واللذة الحسية التي اشعر بها مع أكبر عدد ممكن من القراء في اللغات التي أتقنها، وفي نفس الوقت كنت أتمنى أن أقرأ النصوص المترجمة في لغتها الأصلية والتي لم أكن أتقنها. كنت أحس بأن كل نص أدبي له تأثير خاص وهالة جمالية فريدة في لغته الأصلية يفقد جزءا منها في كل عملية نقل ترجمي يتعرض لها. وهكذا صرت اهتم بالترجمة كمجهود شخصي يسعى إلى محاولة نقل لذة الأدب والفن والفكر باعتبارها مجالات تمثل معينا لا ينضب لأسمى ما يصبو إليه الإنسان من قيم لتحسين ظرفه الوجودي.

كان للأدب والفكر في علاقتهما بالترجمة وما تحمله من قيم إنسانية مشتركة تأثير كبير على شخصيتي وتصوري للحياة فقد دفعت بي مجالات المعرفة تلك إلى الانفتاح على الآخر وجعلتني أتوق إلى استكشاف ثقافات وجغرافيات أخرى مختلفة عن موطني. كافحت بما توفر لي من موارد مادية محدودة للحصول على تأشيرات تسمح لي بالسفر إلى دول مختلفة تعرفت عليها من خلال الأدب والفكر، وتخول لي فرصة لقاء كتاب وشعراء وفنانين كنت أطلع على كتبتهم وكانت تشغلهم نفس القضايا الإنسانية التي ترتبط بالأساس بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعايش السلمي والإيمان بالاختلاف. شكلت رحلاتي إلى أمريكا وكندا وتركيا وأستراليا وأوروبا منعطفا مهما في حياتي الشخصية وتحصيلي العلمي فقد استكشفت خلالها مواقع تاريخية وثقافية وأيكولوجية مهمة والتقيت بكتاب وشعراء وفنانين كانت تربطهم علاقة وطيدة بأدباء جيل البيت الذي كنت أعد حوله أطروحة الدكتوراه. في 2013 خلال مؤتمر عن جيل البيت، التقيت بآن ولدمان، إحدى أبرز شواعر مدرسة نيويورك وإحدى أقرب صديقات ألن غينسبرغ فاستدعتني للمشاركة في دروس الكتابة الإبداعية التي يلقيها مجموعة من الكتاب البارزين بمدرسة جاك كيرواك للشعر بجامعة نروبا بكولورادو كل صيف.  هناك سأتلقى دروسا في الكتابة الإبداعية وانفتح على الترجمة من خلال كتاب ومترجمين بارزين يهتمون بالإنسانيات المقارنة أمثال آن كارسن المتخصصة في الأدب الكلاسيكي، وجاك كلوم المهتم بالشعريات الإيكولوجية، وريد باي المهتم بالفكر البوذي، وسيسيليا فيسونا المهتمة بالفنون وثقافات الشعوب الأصلية، وإيمي كتانزانوالتي تدرس تقاطعات الشعر والعلوم في نظريتها عن "شعريات الكوانتم". هناك ستتبلور أولى أفكاري عن ترجمة أشعار جيل البيت، ومدرسة نيويورك، ونهضة سان فرانسيسكو وكوليج بلاك ماونتن إلى اللغة. كان لي أيضا شرف لقاء الصديق الشاعر مايكل روتنبرغ مؤسس حركة مائة ألف شاعر من أجل التغيير، والذي سبق أن تبادلت معه رسائل عن الكتابة الإبداعية والحياة الثقافية في السبعينات ومشاكل البيئة وبالخصوص عن تجربته مع بعض كتاب جيل البيت الذين كانت تربطه علاقة وطيدة بهم، خاصة الشاعر مايكل مكلور والشاعرة جوان كايغر اللذين عرفني عليهما خلال زيارات خاطفة. هناك في سانتا روزا بكاليفورنيا سيبدأ مشروع ترجمتي لديوان مايكل روتنبرغ الذي توفته المنية عام 2022، وبعد العودة من الغرب الأمريكي إلى الضفة الشرقية سألتقي ببوب هولمان وبعض شعراء جماعة نيوريكان كما التقيت أيضا بالشاعرة والفنانة أمينة بركة، زوجة الشاعر أميري بركة، أحد أقطاب حركة الفنون السوداء، والذي ترجمت بعض أشعاره ونشرتها في الأنثولوجيا المذكورة.

الترجمة إذن مشروع إنساني نبيل وضروري يهدف إلى نقل المعرفة والفكر الإنساني في شتى تمظهراته من حيز جغرافي معين ومن لغة معينة ويجعله متوفرا في مختلف بقاع العالم. إنها محاولة إنسانية، قبل أن تكون مهنة مدرة للربح أو مشروعا سياسيا يرجى من خلاله اخضاع الشعوب كما فعلت قوى الاستعمار في عصور مختلفة، الترجمة نابعة من قناعات الشخص، وتطمح إلى ربط جسور التواصل مع الذوات والألسن، والثقافات الأخرى من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.

الترجمة عملية مضنية لأنها تتعامل مع أنظمة لغوية معقدة وغير متساوية كما تقول نظرية سابير-وورف، كما أنها يمكن أن تنطوي على تحيزات وتناقضات كما بين التوجه النسوي والتفكيكي الذي دعا إلى قراءة نقدية مزدوجة لما أنتجه الفكر الغربي من خلال تفكيك مكونات النصوص للوصول إلى المعاني التي تخفيها متجاوزا مفهوم الحقيقة الثابتة.  إنها مجهود فكري يبدو ضروريا ومستحيلا في نفس الوقت لأنها تخضع أيضا لعلاقات القوة الملموسة والمجردة، تلك التي تخترق الجغرافيات المتعددة للعالم وتكتسح البرامج السياسية والسياسات الثقافية لصانعي القرار. في هذا الصدد، يؤكد جاك دريدا على حاجة المترجم إلى التفاوض مع ما لا يقبل التفاوض من خلال نسق علاماتي معقد واعتباطي يحكمه سياق معين لترجمة ما لا يمكن ترجمته.

الترجمة بهذا المعنى تصبح ممارسة اقتصادية تتأرجح بين الاحترام والاستغلال لأنها تسعى إلى الاستملاك والاستيلاء الذي يهدف إلى نقل المعنى المناسب من النص الأصلي إلى اللغة الأم بالطريقة المناسبة بأقل عدد ممكن من الكلمات لتفادي أي خسارة. يتضح هذا العامل الاقتصادي وتبعاته في طبيعة العلاقة التي تربط بين المترجم والناشر والسوق حيث يجد المترجم نفسه في أغلب الأحيان يستجيب لاختيارات الناشر التي تفضل أعمالا ألفها كتاب معروفين يمتلكون قاعدة قراء واسعة، ويتخلى عن اختياراته الشخصية التي تحددها غاية نبيلة في تقاسم المعرفة ونشر الوعي، كما يضطر في نهاية المطاف إلى التخلي عن مقابل مادي يكلل جهوده في سبيل تأميم الرأسمال الثقافي المترجم. في ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، يمكن للترجمة أن تصبح ضحية عندما لا تغدو أن تكون سوى أداة تواصلية للعولمة التي تصبو إلى جعل العالم قرية صغيرة في نفس الوقت الذي تهدد فيه باختزال اللغات الإنسانية في لغة واحدة لأغراض اقتصادية في غالب الأحيان، وهو خطر يجب أن ننتبه إليه كي نتفادى انقراض واختفاء اللغات العالمية التي تحمل في طياتها تجارب ثقافية إنسانية متميزة وتحمل ذاكرة تاريخية فردية وجماعية.

تقول غياتري شاكرفورتي سبيفاك أن «الترجمة هي فعل القراءة الأشد حميمية" وفيه يستسلم المترجم للنص بعد أن يحصل على إذن الآخر المختلف للتجاوز والانتهاك والخيانة من خلال اللغة حيث تتجاوز الذات حدودها. لهذا السبب نجد أنفسنا كمترجمين وكممارسين لفعل الترجمة مرغمين على دخول ما أسمته سبفاك حلبة الأخلاقي-السياسي لأن الترجمة في نهاية المطاف هي "محاكاة بسيطة لمسؤولية أثر الآخر في الذات" وتستدعي تجاوز أغلال الهوية الشخصية أثناء إعادة إنتاج النص وكأن المترجم يشتغل باسم أو بسند ملكية في ملكية الذات الأخرى1.   تدعو سبيفاك إلى أخذ المنطق بعين الاعتبار واستبعاد التشويشات والإزعاج الذي يمكن أن يأتي من البلاغة لضمان السلامة في عملية تحضر فيها المجازفة والعنف اتجاه الواسطة المستعملة في الترجمة. ولهذا يبدو أنه ضروري من الناحية الأخلاقية استحضار قيم مشتركة من قبيل الحصافة والعدالة والمساواة والديموقراطية والحق في الاختلاف وحتى الحب الذي تتساءل سبيفاك عن مكانته ودوره فيما هو أخلاقي. يكمن دور المترجم، في رأي سبيفاك، في تبسيط هذا الحب الذي يربط بين الأصلي وظله، حب يسمح بالإبلاء والإنهاك، ويبعد فاعلية المترجم ومتطلبات جمهوره المتخيل أو الحقيقي2 ، وهي إمكانية تلغيها سياسات الترجمة من نصوص لا تنتمي للموروث الأوروبي لأن المترجم لا يتفاعل بشكل كاف مع بلاغة النص الأصلي. لكي يكون المترجم إذن أخلاقيا وسياسيا في الآن نفسه يلزمه أن يعي هذه العلاقة الخشنة التي تربط المنطق والبلاغة اللذين يمثلان، حسب سبيفاك، شرط ونتيجة المعرفة، فالمنطق يخول الانتقال من كلمة إلى كلمة بواسطة قرائن مشار إليها بدقة بينما البلاغة تلتزم بالاشتغال على الصمت الموجود بين وحول الكلمات وتحافظ على أدبية ولذة النص3.

سأختم بالتذكير بأهمية اللغة والثقافة الأم في أي مشروع يهتم بالترجمة، خاصة في ظل ظروف العولمة التي تختفي فيها الخصوصيات الثقافية والممارسات الاجتماعية ذات البعد الكوني. يجب إعادة رد الاعتبار للغات الأصلية وللأدب الشفهي والشعريات الإثنية التي تذكر دوما بأهمية الحفاظ على النظام الايكولوجي المعقد على هذا الكوكب، وعدم تفويت جميع السلط وملكات التفكير الإنساني لآلات ميكانيكية مرقمنة تمارس نوعا من القمع أو العنف الإبستيمي دون أن تحترم خصوصيات الذوات الفاعلة وحساسياتها.

***

د. الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب.

......................

1- ص 320.

2- نفسه ص321

3- نفسه ص 322

أنا على ثقة تامة بأن هناك الكثير ممن سيقرأ عنوان هذه الدراسة سيضحك بقرارة نفسه وهو يقول: هل من المعقول ان الدكتور عدنان عويّد لا زال يؤمن بهذه الترهات الفكريّة بعد أن أثبت التاريخ فشلها على مستوى الممارسة؟. على العموم هي قناعة ربما لا تختلف عن قناعة الذين لازالوا يعتقدن بأن الدين الإسلامي هو الحل لمشاكلنا اليوم، رغم الفشل الذريع الذي أصاب تطبيقاته العمليّة ماضياً وحاضرا. ولكن الفرق بيني وبين من يفكر بعودة الدولة الإسلامية، أن دعاة الحاكميّة ينطلقون من نصوص مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من تحتها، فهي نصوص مطلقة غير قابلة للإلغاء والتعديل أو المراجعة. أما دعوتي أنا فهي لا تنطلق من النصوص المقدس، بل من الواقع ومدى ملاءمة الفكر الوضعي لهذا الواقع. فأفكار الاشتراكيّة ورؤاها وضعيّة في معطياتها، وهي قابلة للتعديل والمراجعة وحتى الالغاء إذا اقتضت مصلحة الواقع أي مصلحة الفرد والمجتمع. ولهذا السبب أقول: بأني لا أريد في بحثي هذا أن أقنع جميع من يطلع عليه أن يأخذ به، فالحقيقة نسبية وكل منا ينظر إليها من مصلحته ودرجة ثقافته ومدى اهتمامه بمصالح الفرد والمجتمع. لذلك أقول بأني لا أريد أن أقنع بما جئت عليه هنا، إلا هؤلاء الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة وحريّة الفرد المشروط بالوعي وبالمسؤوليّة تجاه نفسه وتجاه المجتمع. أي هؤلاء الذين سيتخلون عن أنانيتهم ومصالحهم الفرديّة الضيقة، والنظر والعمل معاً لمصلح الدولة والمجتمع وحب الوطن والسمو به.

في صيف عام 2001وفي العدد (27) من مجلة "النهج" التي كان يرأس تحريرها السيد "فخري كريم"، كان محور العدد فيها (هل للاشتراكيّة مستقبل ؟). وقد ساهم في هذا المحور كل من الكتاب والمفكرين "كريم مروة" و" حسين عبد الرازق" و"الدكتور قدري جميل" و" حامد خليل" و " مصطفى الحسيني" وكان لي شرف المشاركة في هذا المحور بدراسة تحت عنوان: (الاشتراكيّة قابلة للتجديد والتطور).

لقد بينت يومها في تلك الدراسة المطوّلة بأن الاشتراكيّة – والمقصود بها " الاشتراكية العلميّة" - قابلة للتجدّد والتطور، كونها تحمل في جوهرها فهما وممارسة، الحل العقلانيّ والمنطقيّ لتجاوز الشعوب المتخلفة والمضطهدة والمستعمرة معاناتها إذا ما توفرت المقدمات الموضوعيّة المتعلقة بدرجة تطور قوى وعلاقات الانتاج، والمقدمات الذاتيّة المتعلقة بالحامل الاجتماعيّ لها، والمسلح بفكر وتنظيم ثوريين هدفهما بناء الإنسان وتقدمه.

اليوم وبعد اثنين وعشرين عاماً على نشر تلك الدراسة، وبعد كل تلك التحولات العميقة والواسعة التي انتابت العالم تحت مظلة النظام العالمي الجديد، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة ذاتها في العديد من الدول التي سارت على الخط الاشتراكيّ في التنمية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي، أجد بأن السؤال ذاته (هل للاشتراكيّة مستقبل؟.)، لم يزل قابلاً للطرح من جديد، بل وبإلحاح شديد، خاصة بعد أن تكشفت لنا الكثير من القضايا اللاإنسانيّة التي بشرت بها الليبراليّة الجديدة وعالم ما بعد الحداثة.

دعونا بداية نتعرف على أهم ما أفرزه النظام العالمي الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وسيادة القطب الواحد.

إن من تابع حركة النظام العالمي الجديد من نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، إلى نهاية القرن العشرين، كيف أخذت الولايات المتحدة الأمريكيّة تفرض نفسها على السياسة العالميّة بشكل عام، وعلى سياسات الدول الأوربية ذاتها وخاصة الدول الحليفة لها في المعسكر الغربي وهما فرنسا وبريطانيا بشكل خاص.

مؤتمر يالطا:

قام المشاركون في مؤتمر يالطا في 2 - 3 ديسمبر 1989 طرح ومناقشة النظام العالمي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهرت مفاهيم وعناصر جديدة مختلفة في هذا النظام العالمي الجديد، حيث توقع المتابعون للحركة السياسيّة العالميّة بأن سياسة الاحتواء يمكن أن تُستبدل بتعاون القوى العظمى. وقد يعالج هذا التعاون مشاكل مثل الحد من التسلح ونشر القوات، وتسوية النزاعات الإقليميّة، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتقليل القيود التجاريّة بين الشرق والغرب، وإدماج العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق في المؤسسات الاقتصاديّة الدوليّة وحماية البيئة. ووفقًا لتعاون القوى العظمى، تم توقع دور جديد لحلف الناتو، حيث اعتقد الكثير من المؤتمرين سيكون الحل الشامل لحلف الناتو وحلف وارسو، ومع ذلك، كان من المتوقع أيضاً أن يساعد الوجود العسكري الأمريكي المتواجد في أوروبا على احتواء "العداوات التاريخيّة"، مما يجعل من الممكن  وجود نظام أوروبي جديد خارج عالم الحرب الباردة. (1).

بيد أن الذي تم على أرض الواقع غير ذلك تماما، حيث تبين بعد سنوات قليلة من سقوط المنظومة الاشتراكيّة بأن ما سمي بـ" النظام العالمي الجديد"، هو ليس أكثر من حكومة عالميّة دكتاتوريّة سريّة ناشئة تقودها طبقة رأسماليّة متوحشة من خلال نظريات المؤامرة المختلفة. فجوهر الموضوع المشترك في (نظريات المؤامرة) في عالم النظام العالمي الجديد، هو أن نخبة القوة السريّة ذات الأجندة العالميّة، راحت تخطط لوضع خرائط طريق لحكم العالم في نهاية المطاف، من خلال حكومة عالميّة استبداديّة ستحل بالضرورة وفي نهاية المطاف، محل الدول القوميّة المركزيّة ذات السيادة، ومن خلال بروباغندا شاملة تعمل أيديولوجيتها عل تشييد هذا النظام العالمي الجديد باعتباره تتويجا لتقدم التاريخ أو نهايته. لذلك، تبين أن العديد من الشخصيات المعاصرة والمؤثرة على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ بأنساقه الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، راحت تُنَظِرُ وتبشر بهذا النظام العالمي الجديد، باعتبارها جزءاً من عصابة تقودها الطبقة الرأسماليّة المتوحشة، التي بدأت تعمل من خلال العديد من المنظمات الدوليّة على تنظيم الأحداث السياسيّة والفكريّة والماليّة الهامة، عبر خلق أزمات نظاميّة على المستويين الوطني والدولي، كخطوات مستمرة في تقدمها وتآمرها لتحقيق الهيمنة على العالم. (2).

ماهي أهم التجليات العمليّة للنظام العالمي الجديد.؟:

1- على المستوى السياسي: استغلال الأجهزة الرئيسة والفاعلة لهيئة الأمم المتحدة ومجالسها، وفي مقدمتها مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدوليّة. بحيث استطاعت أمريكا عبر تحكمها بأعضاء مجلس الأمن، أن تَقَرِرَ الكثير من القرارات الدوليّة التي تخدم الطبقية الرأسماليّة المتوحشة المتحكمة في الاقتصاد العالمي، بل وعند الضرورة كانت تمارس أعمالاً ذات طبيعة عدوانيّة على الدول الأخرى دون أخذ موافقة مجلس الأمن كما جرى في احتلالها للعراق. أما محكمة العدل الدوليّة فهي سلاح آخر تهدد به الأنظمة التي لا تتفق ومصالحها، تحت ذريعة غياب الديمقراطيّة في هذه الأنظمة وممارسة حكوماتها الدكتاتورية ضد شعوبها.

أو بتعبير آخر نقول: لقد تحولت الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجالسها أدوات ضغط بيد الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العظمى، تمارس عبرها فرض هيمنتها على دول العالم، والعمل على تفتيت الدول المركزيّة، وإجبار من تريد أن تخضعه من الدول لإرادتها بالترغيب أو الترهيب، حتى ولو كانت دولة من الدول العظمى، كما يجري اليوم في محاصرة روسيا  من خلال الحرب الروسيّة الأوكرانيّة.

2- على المستوى الاقتصاديّ: نمو الشركات المتعددة الجنسيات وتضخم أعمالها على مستوى العالم، وإدخال دول العالم تحت مظلة أسواقها عبر خلق منظمات وصناديق دولية تمارس من خلالها فرض هيمنتها على دول العالم، وتحويل بلادها إلى أسواق تعمل لخدمة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة التي تحولت إلى طبقة عالميّة، فوجد في هذا النظام العالمي منظمة الجات، أو السوق الحرة بكل أشكاله على مستوى العالم، إضافة إلى وجود السوق الأوربية المشتركة، وصندوق البنك الدولي للأعمار والتنمية، وصندوق النقد الدولي، وغير ذلك من اتفاقات ومعاهدات اقتصاديّة تفرض على هذه الدولة أو تلك لتحول بلادها إلى أسواق تخدم السوق الرأسماليّة العالميّة. هذا وقد أصبح لهذه الشركات المتعددة الجنسيات دوراً في التأثير على سياسة الدول الداخليّة وفرض هيمنتها على اقتصاد وسياسة بلادها، ولا تتوانى عند الضرورة من خلق مؤامرات وانقلابات على أنظمة حكم غير موالية لسياساتها إذا اقتضت الحاجة من أجل ربط دولها بعجلة اقتصاد السوق العلمية.

3- وعلى المستوى الثقافيّ بكل أنساقة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة والدينيّة: راح كباتنة النظام العالمي الجديد يعملون على تحطيم كل قيم الحداثة ممثلة بقيم عصر التنوير، حيث اعتبروا كل هذه القيم قد تجاوزها الزمن، ولم تحقق شيئاً للفرد والمجتمع والدليل على ذلك بنظرهم قيام الحربين العالميتين وما تركته من نتائج مدمرة، متناسين أو مبعدين الأسباب الحقيقيّة التي كانت وراء قيام هاتين الحربين وهي الطبقة البرجوازيّة في مرحلتها الإمبرياليّة.

عبر هذا الهجوم على قيم الحداثة والتنوير بكل أبعادها الفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة والفنيّة والأدبيّة، المشبعة بقيم العدالة والمساوة وحب الإنسان وتنميته، راحت تُطرح قيم الموت والنهايات، فالتاريخ انتهت حركته لتقف عند النظام العالمي الجديد، وعلى مستوى الفن طرح موت الفن وكذلك موت الأدب والدين وكل القيم النبيلة، وعلى المستوى الفلسفي تم التركيز على الفرديّة وحريّة الفرد وإرادته في تحقيق ذاته، وضرب كل ما يمت للروح والقيم الجماعيّة، فالفرد وقيمه المصلحيّة النابعة من ذاته هي القيم المطلوبة، وهي قيم لا يحددها العقل بقدر ما تحددها الرغبة الذاتيّة وجوانيّة الفرد وغرائزه، هذا وإن وكل الأيديولوجيات التي تدعوا إلى دور ومكانة الكتلة الاجتماعيّة، هي أيديولوجيات ربطت من قبلهم بالفاشيّة والنازيّة والشيوعيّة. وبناءً على هذه التوجهات ساد الضياع واللامعقول والعبث والوجوديّة بشقيها المادي والروحي عالم الفرد، فتذرر المجتمع وتنمذج الفرد، وأصبحت اللذّة والشهوة الغريزيّة هي المحرك لطوح الإنسان وإثبات ذاته، التي فقدت لونها وشكلها وقيمها وكل ما يعبر عن إنسانيتها.

هكذا نرى إذن، باسم الحريّة الفرديّة والإرادة الحرّة، راحت قوى النظام العالمي الجديد تعمل على إعادة هيكلة الإنسان عبر كل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والفكريّة، وفي كل مجالات حياته، من أجل قبول ما خططت له هذه القوى من قبله، وبخاصة زرع قيم الحريّة الفرديّة، وجعل الفرد سيد نفسه وهو وحده من يقرر مصيره بيده.

بعد كل هذا الذي جئنا إليه في تحليلنا لطبيعة النظام العالمي الجديد، وما يصبوا إلى تحقيقه هذا النظام على مستوى الفرد والمجتمع، بل وإعادة هيكلة العالم وفقاً لمصالح الطبقة المتحكمة اليوم بهذا النظام، يأتي السؤال المشروع ليطرح نفسه علينا من جديد وهو:

لماذا الاشتراكيّة هي الحل:

نقول: باسم الحريّة والإرادة الحرة في النظام العالمي الجديد ضاع الفرد والمجتمع وفقد الإنسان إنسانيته وقيمه النبيلة، أي استلب وغرب وشيء وهجن ونمذج، وباسم الديمقراطيّة سيطرت حريّة السوق اللامشروطة على حياة الناس بقيادة زعماء الشركات المتعددة الجنسيات. كما غاب دور الدولة ومؤسساتها والمواطنة والقانون، بعد أن أعيد صياغة مضامينها وفقاً لمصالح قادة هذا النظام، إذ باسمها يمارس ويتحكم كباتنة الرأسمال على حياة الإنسان وتحديد مسارتها الماديّة والروحيّة كما بينا أعلاه. وهذا يعني أن النظام العالمي الجديد أصبح ضد الإنسان وعدوه اللدود. لذك لا بد من البحث عن نظام آخر يحقق للإنسان ذاته ويعيد له جوهر إنسانيته التي استلبها منه النظام الرأسماليّ منذ دخول الطبقة الرأسماليّة مرحة الإمبرياليّة وصولاً إلى النظام العالمي الجديد. وهذا لن يتحقق برأيي إلا بالنظام الاشتراكيّ الذي حورب سابقاً تحت أجندات دعائيّة عديدة منها: اتهامه  بقتل الروح الفرديّة لدى الإنسان باسم تحقيق المصلحة الجماعيّة، ومحاربة حريّة الفرد والمجتمع، وبالتالي اعتبار النظريّة الاشتراكيّة ومفاهيمها، لا تختلف من حيث الجوهر عن الروح الفاشيّة والنازيّة، وكذلك اعتبروا أن الاشتراكيّة تعمل على قتل روح المبادرة والإبداع، بسبب محاصرتها للسوق الحرّة، ففي السوق الحرّة تتجلى ابداعات الإنسان كما يدعون. هذا مع تأكيدهم بأن الفكر الذي تتبناه الاشتراكيّة هو ضد الدين، إن كان من حيث تحجيم دور الملكيّة الخاصة التي يبشر بها الدين، أو من حيث البنية الفلسفيّة لفكرها الذي يدعوا إلى الإلحاد، وعلى هذا الموقف وظفوا لمحاربة الاشتراكيّة التي نعتوها بالشيوعيّة كلاً من الكنسية والجامع، وكل القوى الأصوليّة الجهاديّة.

انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتأثيرها على دعم واستمراريّة النظام الرأسماليّ بصيغة النظام العالمي الجديد:

لاشك أن سقوط المنظومة الاشتراكيّة التي لعبت عوامل كثيرة على مستوى داخل الدول المتبنية للاشتراكيّة نفسها، أو على مستوى الخارج ممثلاً بالدول التي حاربت الاشتراكيّة، وخاصة المعسكر الغربي، كان له التأثير الكبير على دعم واستفحال آليّة النظام العالمي الجديد والعمل للسيطرة على العالم. ومن أهم هذه العوامل التي ساهمت في سقوط المنظومة الاشتراكيّة التالي:

على مستوى الداخل:

غياب الحامل الاجتماعي الممثل الحقيقي للمشروع الاشتراكي، إن كان على المستوى الطبقيّ، حيث غابت هنا الطبقة العاملة كوجود مادي بسبب غياب مكونات وجودها، أي التطور الصناعي، فكثير من الدول التي تبنت النظام الاشتراكي أسلوب حياة، هي دول فقيرة متعددة الانماط الانتاجيّة وفي أضعف حالاتها، وبالتالي ساد فيها التعدد الطبقي في صيغته الهجينة، فكان الفلاح عموده الفقري، وهو يمثل قوى طبقيّة فقيرة ومجهلة وجبريّة في تفكيرها، ومعظمها يعمل لدى ملاكين لم يكتسبوا أصلاً ملامح الطبقة الاقطاعيّة الأصيلة في ملكيتها وطبيعة عملها في الدولة والمجتمع، وعندما استلمت الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة السلطة، قامت بإجراء الإصلاح الزراعي، فحولت الجميع الاقطاعي والفلاح معاً إلى ملاكين صغار ومنتجين، وفي بعض الدول ومنها الاتحاد السوفيات عملت الكولخوزات والفولخوزات، فسادت الملكيّة العامة للدولة في الزراعة وغيرها من قضايا الاقتصاد. فالملكية الأرض الصغيرة الموزع بقانون الاصلاح راحت تصغر مع مرور الأيام، ولم تعد كافية في إنتاجها بسبب تقسيمها بين الورثة، وهذا ما ساهم في دفع الفلاح إلى الهجرة الداخليّة والخارجيّة معا، ففي الهجرة الداخليّة تريفت المدن التي هي أقرب إلى المدن الريفيّة أساساً منها إلى المدينة، فعم الفقر في الريف وانتشرت الأحياء الفقيرة في المدينة. أما الذين هاجروا إلى الخارج، فراحت أموالهم تتجه إلى بناء الفيلات وتعدد الزوجات وبعض المشاريع الاقتصاديّة الصغيرة وخاصة مشاريع البناء السكني. وهنا دخلت الدولة في مآزق كثيرة في الجانب الاقتصادي، في الوقت الذي يتطلب منها النظام الاشتراكي تأمين التعليم والصحة والعمالة المجانيّة، وبناء قاعدة خدماتية مثل تأمين الكهرباء والمياه النقيّة، ومد طرق المواصلات وغير ذلك، وفي مثل هذه الأجواء تَحَمَلَ عبء مسؤوليّة قيادة الدولة والمجتمع ضباط الجيش وبعض النخب السياسيّة المثقفة، وهي بمعظمها لا تمتلك الثقافة الحقيقيّة لمعنى الاشتراكيّة، ولا أسلوب تطبيقها، الأمر الذي أدى إلى سيادة البيروقراطيّة في قيادة الدولة، رغم الانجازات الكبيرة التي حققتها هذه القيادات لشعوبها في هذه الدول على كافة المستويات مقارنة لما كانت تعيشه قبل التطبيق الاشتراكي.

أن شهوة السلطة التي تبلورت عند قيادات الأحزاب الاشتراكيّة، ساهمت في خلق طبقة جديدة من القيادين على مستوى الدولة والحزب، أخذت تهتم بمصالحها الخاصة، ووجدت في السماسرة أو الفئة الطفيليّة، ما يساعدها على سرقة الكثير من أموال الدولة والمجتمع، وبالتالي إدخال الدولة في عالم من الفساد، وهذا تطلب من القوى الحاكمة أن تمارس القمع وإرهاب الشعب كي لا يتحرك ضدها، فانتشر الكذب والتزلف والرياء والمطبلون والمزمرون والانتهازيون، وعبادة الشخص وغياب الديمقراطيّة بعد تحويل المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة إلى حزام ناقل للسلطة، وليس لخدمة الشعب أو المكونات التنظيميّة لهذه المنظمات والنقابات، وبناءً على ذلك تكلست السلطة والأيديولوجيات التي تحملها معاً. وهكذا راحت البلاد تُحكم بالحديد والنار، وأخذت تتسع الهوة بين الشعب والسلطة والأحزاب الحاكمة، الأمر الذي أدى إلى انهيار معظم هذه المنظومة الاشتراكيّة، وبخاصة الاتحاد السوفيتي، العمود الفقري لهذه المنظومة، أو تحول بعضها إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، أو اقتصاد السوق ودخول عالم النظام الجديد، ومنها من ثارت الشعوب ضدها وأجبرت الطبقة الحاكمة على تغيير نهجها تحت ضغط الشعوب وباسم التحولات الديمقراطيّة، بيد أن الطبقة الغنية من البيروقراطيين والطفيليين هي من استمر في قيادة الدولة والمجتمع بطريقة أسوأ من الماضي.

على المستوى الخارجية:

لقد لعبت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، كما عرف سياسياً، دوراً كبيراً في إضعاف المعسكر الشرقي وإنهاكه، وترك دوله في النهاية تبحث عن تأمين لقمة العيش قبل البحت عن خلق تنمية متطورة ومستدامة في بلادها. فالحرب الباردة اتسعت مجالات نشاطها ودعمها الماديّ والمعنويّ بين المعسكرين، وصرفت مليارات الدولارات خدمة لهذه الحرب. هذا وقد عمل قادة هذا النظام على إعادة هيكلة الكثير من الدول وفق عمل السوق الرأسماليّة الحرة لمنافسة الدول الاشتراكيّة وإظهار التقدم التي حققته هذه الدول المدعومة بكل وسائل الدعم المادي والتكنولوجيّ والمهارات، كما جرى لدول النمور مثلاً، أمام دول المنظومة الاشتراكيّة المتخلفة.

فعلى المستوى العسكري: اشتغل قادة النظام العالمي الجديد على تطوير الأسلحة الفتاكة بكل اشكالها وفي مقدمتها السلاح النووي، والأسلحة الذكيّة الموجهة عن بعد، حيث وصلت فكرة هذا التطوير إلى ما سمي بحرب النجوم.

وعلى المستوى الاقتصادي: عملت وبكل الوسائل المتاحة لديها الماديّة والمعنويّة على تجذير وتعميم اقتصاد السوق الحرة عالميّا، وتعميق دوره في حياة الدول والمجتمعات، والعمل على الدعاية لهذه السوق إعلاميّا وتعليميّاً وثقافيّا وفنيّاً وخلق العديد من المعاهد والمؤسسات التي تشغل لمصلحة هذه السوق واقناع الفرد والمجتمع على تبنيه، بل جعله أنموذجا للحريّة الفرديّة التي سيجد فيها الفرد ذاته وقدرته على الإبداع.

وعلى المستوى الثقافي بعمومه: اشتغل قادة هذا النظام على تجسيد قيم الفرديّة المطلقة التي تدفع الفرد ليمارس حياته وفقاً لغرائزه وأهوائه ورغباته، فلا شيء يحد من هذه الحريّة الفرديّة التي ساهمت في تجميد العقل والمنطق واقصاء القيم الإنسانيّة على مستوى الفرد ذاته وعلى مستوى الكتلة، وما النظريات الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة التي روج لها إلا لتحقيق هذه الغاية. فكل المداس المعروفة بالتفكيكيّة والبنيويّة والسرياليّة والوجوديّة والحدسيّة والوضعيّة والوضعيّة الجديدة .. وغيرها ليست إلا مشاريع فكريّة هدفها إعادة هيكلة البنية النفسيّة والعقليّة والأخلاقيّة للفرد بما يتفق وعالم اقتصاد السوق الحرة. أي نمذجة الإنسان وتعليبه خدمةً لهذه السوق التي أصبحت حتى غرائز الإنسان سلعاً تباع وتشترى فيه.

أما على المستوى السياسي: لقد أصبح حكام البيت الأبيض وبقيّة حكام الدول الموالية له، طيور جوارح في عالم الشركات المتعددة الجنسيات وأسواقها، وبالتالي راح هؤلاء الحكام يستخدمون جيوش دولهم  ومنظمات ومجالس الهيئة العامة للأمم المتحدة خدمة لمصالح عالم الرأسمال الاحتكاريّ المتوحش، وهذا ما لمسناه في العديد من دول العالم، وخاصة الدول التي لا ترضي مصالح قادة وأصحاب هذا الرأسمال، وهم الذين شكلوا حكومات الظل في هذه الدول العظمى.

ملاك القول:

أمام كل ما جئنا إليه أعلاه، من حيث قراءتنا وتحليلنا لمنظومة الدول الاشتراكيّة ومنظومة الدول الغربيّة الرأسماليّة، وكيف آلت إليه الأمور في كلا المنظومتين، إن كان من حيث سقوط المنظومة الاشتراكيّة، أو من حيث تشكيل وظهور النظام العالمي الجديد من صلب المنظومة الغربيّة، وكيف استطاع هذا النظام العالمي الجديد ان يعيد هيكلة العالم وفقاً لاقتصاد السوق الرأسماليّ المتوحش بكل تجلياته وأساليب عمله.

إن نظرة أوليّة لما جئنا إليه، يبين لنا أنه، باسم الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة في الغرب دمّر الإنسان ذاته وشيء وغرب ونُمذج وذرر، وبالتالي فقد قيمه وسلع، وفسح في المجال واسعا أمام الطبقة الرأسماليّة العالميّة المتوحشة أن تفرض سيطرتها ووجودها ومصالحها على الساحة العالميّة. في الوقت الذي تحولت فيه الكثير من دول المنظومة الاشتراكيّة إلى ذيل تابع لمصالح هذه الطبقة، وراح الفساد وقيم اقتصاد السوق تعمل على تحطيم الإنسان ذاته وكل مابنته الأنظمة الاشتراكيّة على كافة المستويات سابقاً، بل أن الكثير من هذه الدول دخلت في صراعات دامية بين الحكومات وشعوبها حرقت الأخضر واليابس كما يقال.

نعود مرة أخرى لسؤالنا المشروع وهو: (لماذا الاشتراكيّة اليوم؟)، أوهل الاشتراكيّة صالحة للمستقبل؟.

أقول: نعم هي صالحة، بل هي الحل الوحيد لخروج العالم بشكل عام من هيمنة وسيطرة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة بشكل عام، وهي الحل لعودة الإنسان إلى مرجعيته الإنسانيّة التي استلبت منه وخاصة في دول المنظومة الاشتراكيّة السابقة بشكل خاص.

إن ما تحقق من انجازات عظيمة لشعوب المنظومة الاشتراكيّة على كافة المستويات، رغم كل ما عانته دول هذه المنظومة من الداخل والخارج كما بينا في موقع سابق، لهو أمر على درجة عالية من الأهميّة، ومن الضرورة بمكان العودة للنظر برؤية عقلانيّة نقديّة إلى ما كنت عليه المنظومة الاشتراكيّة قبل انهيارها، وما آلت إليه اليوم. فعندما نقول الاشتراكيّة هي الحل، فقولنا هذا مبني على موقف منهجي عقلانيّ ينطلق من أن الاشتراكيّة بكل عيوبها هي نظام يحمل في طياته الكثير من العدالة لكل مكونات المجتمع، وهو النظام الذي يضع مصلحة الفرد والمجتمع موضع الاهتمام على كافة المستويات الماديّة والروحية معا. وعلى هذا فإن مسألة القول بأن السعي لعودة النظام الاشتراكيّ تشكل اليوم برأيي مطلباً عقلانيّا، وذلك انطلاقاً من فهمنا العميق لدور الاشتراكيّة والديمقراطيّة في تنمية المجتمع وتطوره. فمقولة: (مزيداً من الاشتراكية تعني مزيداً من الديمقراطيّة). لهي أكثر حيويّة وحاجة لعالمنا اليوم. فكلاهما مترابطتان مع بعضهما، ويعنيان بناء الدولة المدنيّة .. دولة المواطنة.. دولة القانون والمؤسسات والمشاركة. فالاشتراكيّة تحقق العدالة والمساواة وتكافئ الفرص واحترام المرأة ونشر التعليم بكل مستوياته وبناء قاعدة اقتصادية متينة، والديمقراطية تحقق العدالة والمشاركة واحترام الرأي والرأي الآخر، مثلما تمثل العلمانية التي تحترم الدين ولاترضى زجه في عالم السياسة، فالدين لله والوطن للجميع، وهذا يبعد المجتمع عن حروب طائفيّة ومذهبيّة، واعتبار المواطنة مرجعا أساس لوحدة مكونات المجتمع.. والديمقراطّية والاشتراكيّة كلاهما يدعوان إلى التقسم العادل للثروة الوطنيّة، وكلاهما يؤمنان بدور المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة في المراقبة والدعوة لمحاسبة المسيء، وتفعيل آلية الانتاج وتحقيق التنمية.. وكلاهما يؤمنان بدولة تقوم مرجعياتها الإداريّة والسلطوية للشعب، وفق دستور يقره الشعب.

هذه هي معطيات الاشتراكية، وهذا مآلها.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...................

الهوامش:

1- (راج موقع معرفة – النظام العالمي الجديد – سياسة).

2-  ). (الويكيبيديا – النظام العالمي الجديد – نظرية المؤامرة).

"الرحمن،علم القرآن،خلق الانسان، علّمه البيان".. سورة الرحمن

عندما تُذكر اللغة فأول شئ يتبادر الى الذهن النطق الانساني بكل ما يحويه من مفردات ولهجات وقواعد وكل ما يخص هذا العلم من  تفاصيل، وإذا أردنا أن نعرّف اللغة اصطلاحا: هي نسق من الرموز والاشارات التي يستخدمها الانسان للتواصل مع البشر والتعبير عن مشاعره واكتساب المعرفة، وهي عبارة عن رموز صوتية لها نظم متوافقة في التركيب والالفاظ والاصوات، وهي أحدى وسائل التفاهم بين الناس داخل المجتمع، ولكل مجتمع لغته الخاصة به.

والحقيقة ومنذ فجر الحضارة الانسانية القديمة والعلماء في بحث دائب عن نشأة الكلام، وما من علم أخذ جهدا هائلا كعلم اللغة ونشأتها والذي كان مثار اهتمام الكثير من العلماء على مر العصور، وقد اختلفت النظريات وتشعبت الاراء حول أصل اللغة حتى اعتبرها بعض العلماء من الماورائيات وإن لاجدوى من الاستمرار بالبحث فيها خصوصا وإنها وصلت إلينا كلا قائما بذاته بقواعدها ومفرداتها ولهجاتها وتنوعها، وقد تبنت المؤلفات العربية نوعين من الآراء أو فريقين من الباحثين:

الأول: النظرية التواضعية، والتي تنص على إن اللغة من صنع الانسان بطريقة المحاكاة، وهي نظرية تغوص في الغموض الى ماهو أبعد من المعقول، خصوصا إنها ليست لغة واحدة ولو كانت كذلك لقُبل الامر الى حد ما، لكن الموضوع كبير جدا لتعدد اللغات وتنوعها، وكل فرضية تبحث على إن اللغة من صنع الانسان لن تكون إلا ضربا من الخيال والتخمين، حتى إن الجمعية اللغوية في باريس قررت سنة 1878 منع تقديم الابحاث في هذا الموضوع لأن الابحاث كان فيها من السذاجة والبساطة وعدم كفاية الادلة  مايدعو الى التوقف .

الثاني: إن اللغة توقيفية أي إنها وحي من الله تعالى ولادخل للانسان في نشأتها إستنادا الى الاية الكريمة"وعلّم آدم الاسماء كلها" والنظرية التوقيفية ثابتة بنص الاية الكريمة ويبقى الاختلاف في تفسيرها  تفسيرا قطعي الدلالة، ومااذا كانت هذه الاسماء متداولة في الجنة أم إنها نزلت الى الأرض مع آدم وذريته فيما بعد، والأسماء هنا يقصد بها المسميات وكل مايدخل في هذا الحيز إستنادا الى كلمة "كلها"في الآية الكريمة والتي تشمل الأفعال والحروف  وإن الله علم آدم ولم يوحي له بل علّمه تعليما خصه به دون الملائكة و هذا العلم هو علم البيان "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"..ال عمران 1283359 لوحة مريم لطفي

"قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" فلنتأمل معا هذه الاية الكريمة التي جاءت على لسان آدم وزوجه فهي جملة متكاملة مرتبة ترتيبا نحويا تحوي على اسماء وأفعال وحروف، وبما إن الآية جاءت على لسان آدم وزوجه فهذا يعني إن ذرية آدم قدتعلمت الاسماء والمقصود بها اللغة ككل عن طريق الوراثة والتربية"ومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالمين"..الروم22

فاللغة إذن نزلت مع آدم وزوجه وذريته فيما بعد وتناقلتها الالسن وسلقتها وربما أضافت عليها بعض المفردات كما يحدث عند الفتوحات أو الغزوات أن تتعشق اللغة ببعض المفردات الدخيلة من الثقافات الاخرى نتيجة الاختلاط أو التجارة أو المعايشة أو الهجرة أو الزواج وهكذا وفي هذالامر  الكثير من الامثلة عن وجود مفردات دخيلة نُسبت إلى موطنها لكنها بقيت قيد التداول سواء في اللغة العربية أوفي اللغات الاخرى..

وإذا ما دعتنا هذه الآية الكريمة لتدبرها بتأنٍ  فاننا سنجد الاتي:

-ان الآية جملة مضبوطة الشكل معنىً ونحوا.

-أن الله تعالى لم يخص آدم بالأسماء فقط بل كلما يخص المسميات من أفعال وحروف "علّمه الاسماء كلها".

-إن اللغة آية وقد خلقت مع خلق السموات والارض شأنها شأن آيات الله الاخرى وهذا الاستنتاج يقودنا الى أصل اللغة بانها آية من آيات الله جل وعلا وقد تنوعت واختلفت باختلاف الناس وألوانهم واللون هنا يعني الجنس البشري بعينه ولونه كالابيض والاسود والاحمر والاصفر..الخ

"إنا جعلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون"..الزخرف3

فهذا الاختلاف في الاجناس تبعه اختلاف الامم"الوانهم" ثم إختلاف ألسنتهم" كيف لا والله هو الخالق المدبرلكل شئ"إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..الحجرات

ودليلنا الآخر على إن اللغة من الله أن الكتب السماوية نزلت وكتبت بلغة الرسل والأنبياء الذيم بعثوا لكل أمة من الامم كالتوارة والانجيل  والزبوروالقرآن" لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" ..النحل

وهذا يعني إن اختلاف اللغات إنما جاء بسبب إختلاف الامم والشعوب وإن كل رسول إنما بُعث بلغة قومه وكل كتاب نزل بلسان الرسول عن طريق الوحي لكيلا لاتبقى حجة للناس ليؤمنوا ويعلموا إن السموات والارض لها خالق عظيم وهو الاجدر بعبادته "وماخلقت الجن  والانس الا ليعبدون"..الذاريات56

وعليه فان الله قد وضع السر بين أيدينا ودعانا لتدبره من خلال ما جاء بالايات القرانية من اعجاز واسرار وآيات قال تعالى"قرأنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون"..الزمر28

***

مريم لطفي

الظّواهر الطّبيعيّة كالأعاصير والفيضانات وقوّة الرّياح والحرارة والرّطوبة والجفاف وغيرها ارتبطت بالطّبيعة منذ القدم، منها ما يكون الإنسان متسبّبا فيها كالاحتباس الحراريّ، أو تلوث المياه والبيئة وما يترتب على ذلك من آثار سلبيّة، من اضطراب في الطّبيعة، لمخالفة فعل الإنسان في تغيير ما جرت عليه من سنن، سواء تعلّقت بالأرض أو تعلّقت بالإنسان.

هذه الظّواهر الطّبيعيّة تطوّرت في تفسير الإنسان، وقديما ربطت بالأساطير والخرافة والسّحر، إلى حالة التّأويلات والتّفسيرات الماورائيّة، وربطها كليّا بالعالم الآخر كما في الأديان، ثمّ إلى العلم والفلسفة المعاصرة وارتباطها بالظّواهر من خلال تأويلها سننيّا وكشفيّا، فاستجدت جدليّة تفسيرها بين التّأويلات الماورائيّة والتّفسيرات العلميّة.

والعالم اليوم منه ما تجاوز التّأويلات الماورائيّة كالعديد من دول الغرب، وأصبح ماديّا عقلانيّا أو تجريبيّا صرفا في تأويلها، مصاحبا تقدّم العلم، وقدرته الفائقة في التّنبؤ والتّفسير، ممّا جعل من اللّاهوتيين تأويل ظاهر النّصّ المقدّس بما يوافق رأي العلم، والّذي كان يوما ما تأويلُ ذلك جريمة قد يصبح مصير المؤول الموت.

ومن العالم ما زال غارقا في الطّقسيّات الخرافيّة المرتبطة بأساطير سابقة كما في بعض أدغال أفريقيا، ومن العالم أيضا من يحاول الجمع بين اللّاهوت والعلم في ذلك، فلا يرفض العلم، ولكنّه تطبيقا وحكما يدور وفق النّصوص المقدّسة لديه، كان في الأديان الإبراهيميّة أم غيرها كما في أغلب الشّرق.

إنّ تجاوز مرحلة الدّين إلى العلم هذه لها اقتضاءاتها وأسبابها في أروبا خصوصا، وحاولت الكنيسة البروتستانتيّة تجاوز انغلاق الكهنوت الكاثوليكيّ حول العلم، ولكن الكنيسىة عموما في الغرب اليوم – في الجملة - تقف حول تأويلات ثلاثة في الجمع بين النّصّ المقدّس وتأويل الظّواهر الطّبيعيّة علميّا، ففريق يجنح إلى ظرفيّة النّصّ المقدّس، فذكره لهذه الظّواهر الطّبيعيّة كان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في ظرفيّة وجود النّصّ، ولو جاء النّصّ اليوم لكان ملازما للحالة الثّقافيّة والعلميّة في عصرنا هذا، وهذا الفريق يحاول الجمع بين لاهوتيّة النّصّ وجوهره، فالجوهر هو الاهتمام بالعلم، ولاهوتيّا كان مراعيا لمفردات وتأويلات ذلك الزّمن، ليترك مساحة للعقل البشريّ لينطلق في كشف المجهول من سنن الكون والوجود والإنسان.

ومن هذا الفريق انبثق فريق يضع النّصّ كليّا في خانة الثّقافة، إذ هو يشكل حالة ثقافيّة لفترة زمنيّة أكثر منه حالة لاهوتيّة، فلا يتكلّف في تكييف ظرفيّته والتّبرير له، بقدر ما يجعله في الحالة الثّقافيّة المؤرخة لرؤية الإنسان للظّواهر الطبيعيّة وقت نزول النّصّ، وهذه الحالة المسيحيّة تمدّدت إلى اليهوديّة كما يرى يعقوب ملكين أنّ التّوراة والتّناخ "الأساس المشترك لثقافة كلّ تيارات اليهود .... ويحتوي الذّاكرة الجماعيّة لليهود"، وأقرب إلى "الأدب الكلاسيكيّ اليهوديّ".

وفريق ثالث من يحاول الجمع بينهما، كتأويل الأيام السّتة في بداية سفر التّكوين بالحقب الزّمنيّة، ومنم من يحاول استخراج معاجز النّصّ المقدّس، ومنم من يتوقف حال التّناقض، جاعلا حالة الحقيقة العلميّة لا تتجاوز حدّ النّظريّات النّسبيّة بالمفهوم الشّموليّ لا التّجريبيّ، الفارق اليوم أنّ الكهنوت الدّينيّ كما في كاثوليكيّة القرون الوسطى لم يعد متحكما في العلم، والّذي ينطلق اليوم في فضاء رحب بلا قيود سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة في الجملة.

ولقد كانت الحالة الإسلاميّة بما ورثته من ثقافات الأمم الأخرى غارقة أيضا في الرّؤية الماورائيّة، وتمّ التّعامل مع العديد من الظّواهر الطّبيعيّة وفق الاغتراب الماورائيّ، وقد قوبل العديد من الرّمزيّات الفلسفيّة الّتي اقتربت قريبا من التّأويلات الطّبيعيّة بالزّندقة، كما قوبل في الطّرف المسيحيّ بالهرطقة، مع وجود إضاءات متقدّمة كما عند الشّاطبيّ (ت 790هـ) حيث يرى أنّ "الشّريعة الإسلاميّة شريعة أميّة؛ لأنّ الله بعث بها رسولا أميّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة/ 2] .... فيلزم أن تكون الشّريعة في معهودهم ومستواهم".

وإن كنّا لا نستطيع تحميل نصّ الشّاطبيّ فوق ما لا يحتمل وفق القراءات التّأريخيّة والظّرفيّة المعاصرة؛ إلّا أنّ العالم الإسلاميّ عموما، والعربيّ خصوصا؛ لمّا انفتح على أمّة كانت غارقة في الماورائيّات، ثمّ تجاوزت ذلك إلى الاستغراق الطبيّعيّ والعلميّ، إلى حدّ الاتّجاهات العلمويّة والإنسانويّة، مرورا بعصر الأنوار فالنّهضة والحداثة، حيث أفاق العالم العربيّ على هذا مؤخرا، فحاول الجمع بين النّصّ المقدّس وما بعده من تراث روائيّ وبين تفسير الظّواهر الطّبيعيّة، حيث بدأت بوادر ذلك عند محمّد عبده (ت 1905م)، وتلميذه محمّد رشيد رضا (ت 1935م) كما في المنار، ولازم العديد من الإصلاحيين إبعاد النّصّ المقدّس خصوصا عن النّظريّات العلميّة كما عند محمّد المراغيّ (ت 1945م) "فالنّظريّات الّتي لم تستقر لا يصح أن يردّ إليها كتاب الله"، وهي محاولة لعلمنة البحث العلميّ – إن صح التّعبير – أي المفارقة بين ظاهريّة آيات الظّواهر الطّبيعيّة في النّصّ الدينيّ، وبين البحث العلميّ ونتائجه،  ويعتبر طنطاوي جوهري (ت 1940م) من مؤسّسي التّفسير العلميّ للقرآن من خلال تفسيره "الجواهر في تفسير القرآن الكريم"، وهي محاولة مبكرة في رفع التّعارض بين النّصّ المقدّس والعلم، بما فيه تأويل الظّواهر الطبيعيّة.

ويرى رشيد الخيّون أنّ نظريّة التّطوّر لداروين (ت 1882م) اتّجهت سلبا في العراق في خمسينيّات القرن العشرين الماضي بسبب البعد السّياسيّ الّذي أدخلها كصراع من التّيارات اليساريّة، وقبل هذا لم تلق ذاك الاعتراض.

ونتيجة مرحلة الصّحوة، وارتباطها بإحياء التّراث، وأسلمة العلوم، والدّعوة تحت مظلّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمعناه الكلاسيكيّ، وقف بعضهم سلبا من التّأويل العلميّ للحقائق والظّواهر الطبيعيّة ككرويّة الأرض ودورانها، والاستغراق الماورائيّ في تفسير الظّواهر الطبيعيّة وربطها بالعذاب الإلهيّ، ومنهم من بالغ في المعاجز كعبد المجيد الزّندانيّ وزعلول النّجار.

وبعيدا عن هذه الجدليّات الدّينيّة حول العلم والظّواهر الطّبيعيّة، فالمباحث حولها لا تتعدّى الحالة المعرفيّة؛ لأنّ العلم شقّ طريقه، بيد ليس الخطر – في نظري – في هذا الاختلاف الطّبيعيّ الّذي لا يتجاوز القول والخلاف الكلاميّ؛ الخطر في نظري هو  تقمّص دور الإله، والنّيابة عنه بلا برهان قطعيّ في الحكم على الخلق، وتصوير الإله بصورة الغاضب المنتفم الّذي لا يفتأ إلّا بإرسال الجراثيم والأمراض والأعاصير والفيضانات، ليهلك العباد والحرث والنّسل، ومنهم من يمايز بين قوم وقوم، فإن أصيب قوم ما قال ابتلاء، وإن أصيب آخرون اعتبره عذابا، وكأنّ الله أوحى إليه بذلك.

إنّ استجداء النّصوص المقدّسة في التّحذير من بلايا الذّنوب والمعاصي، أو مخالفة الطّبيعة لسننها؛ هذا من حقّ الإنسان في ذلك فيما يراه واجبا عليه دينيّا، ولكن أن يجعل من نفسه نائبا على الإله، ووصيّا له، في الحكم على العباد، وكأنّ هذا الإله ليس رحمانا ولا رحيما، فهو تأله وتقمص للإله بلا براهان ولا ولا وحي.

وفي بلدنا "عُمان" رأيتُ من التّغريدات والمنشورات التّويتريّة من يربط بين قدوم الفرقة الكوريّة  "كيبوب B.I.G" وبين الحالة المداريّة "بيبارجوي" المتكوّن حاليا في بحر العرب، وكأنّ لسان الحال أنّ قدوم هذه الفرقة قابله هذا الغضب الإلهيّ المتمثل في الحالة المداريّة أو الإعصار، ومنهم من يربط تكرار الحالات المداريّة بالذّنوب كليّا، ويرسل سخطه للدّولة ومؤسّساتها، بشكل خفيّ أو مباشر، ويحاول الرّبط في العقل الباطنيّ أنّ هذا مرتبط بحداثة الدّولة، وكأنّها لا دين لها، فهو ناقم ساخط عليها في الابتداء، ولو كان في مكان آخر مرتضيّا عنده لكان لا يتجاوز حدّ الابتلاء.

بيد هذه الظّواهر الطّبيعيّة هي حالات طبيعيّة ومتكرّرة منذ القدم، ولقد تكرّرت في عمان في وقت لا علاقة لهم بالحداثة وتمظهراتها كما يرى حامد البراشديّ في صفحته على تويتر أنّ "عمان تعرضت من عام 1891م وحتى 2010م لثلاثة عشر حالة عاصفة وإعصار، وأنّه كلّ ثلاث سنوات حالة مداريّة واحدة يمكن أن تعبر السّواحل العمانيّة، خمسون بالمائة منها يوصف بالعاصفة المداريّة أو الإعصار".

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

قبلَ الحديثِ عنْ مصدرِ الاخلاقِ، هل هو الهيٌّ أم بَشَرِيٌّ؟ لابد لنا من إِثارَةِ هذا السؤال وهو: هل يمكن للانسان أَنْ يضعَ منظومَةً أَخلاقِيَّةً، ام ليس بامكانهِ ذلك؟ وبتعبيرٍ آخر، هل الاخلاقُ مَصدرُها عُلوُيٌّ سماويٌّ اَم سُفلِيٌّ أَرضيٌّ؟ هل الطبيعةُ والمادةُ يمكنُهما اَنْ تنتجَا أخلاقاً؟ وهل الغريزةُ يمكنها ان تكونَ مصدراً للاخلاق؟ مانراهُ في الحيوانات من تضحية وايثار يؤدي بالام الحيوانيّةِ أن تُضَحِيَ بحياتِها من اجلِ صغارِها. هل يمكن أنْ نقولَ من خلالِ هذه المشاهداتِ أَن الحيوانَ يمتلكُ منظومَةً أخلاقِيَّةً؟ الدارونيُّونَ وفق الرؤية التَّطَوُّرِيَّةِ يرون ان الحيوانَ يمتلك أخلاقاً حسب درجته في سُلَّمِ التَّطَوُّرِ، والاختلافُ بين الانسانِ والحيوان هو اختلافٌ في درجة الاخلاق لافي نوعها.

البَشَرُ قَدَّمُوا لنا مفاهيم متضاربةً عن الاخلاق، بعضها يناقضُ البعض َالآخر.

افلاطون يرى وفقاً لنظريته في المثل ان الاخلاق مصدرها علويٌّ وهو الخير المطلق الذي يراه افلاطون فوقَ الوجودِ شَرَفاً وقُوَّةً، وكانط يرى ان الاخلاق مصدرُها العقلُ العمليُّ، وهي مجرَّدَةٌ من المنفعة الذاتيَّةِ، وبنثام وجون ستوارت مل قالا بالاخلاق النفعيَّة والتي تأسست فيما بعد انطلاقاً من هذهِ النظرةِ النفعِيَّةِ للاخلاق، الفلسفة البراغماتية في امريكا، والتي رأتْ كل شيء على اساس منفعته، وقد فَسَّرت الاخلاقَ على هذا الاساس.

اطلاقُ الاخلاقِ ونِسبِيَّتُها

القولُ بأنَّ الاخلاقَ مطلَقَةٌ أو نِسبِيَّةٌ، يرجعُ الى مصدرِ الاخلاقِ، فالقائِلُونَ بالمصدرِ الالهيِّ للاخلاق يقولون باطلاقِها؛ لانَّ القولَ بوجودِ اله وَأَنَّهُ مصدرُ الاخلاقِ يشكّلُ الاساسَ المَوضوعيَّ للاخلاقِ. والقائِلُونَ بالمصدرِ البشريِّ للاخلاقِ يقولونَ بِنِسبِيتها. الملاحدة لايمتلكون مرجعيَّةً للأخلاقِ؛ لأنَّهُم لا يُؤمنونَ بالهٍ للكونِ ولا يؤمنونَ بيومٍ آخِر، وكما يقول دستوفسكي: " اذا كانَ اللهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مُباحٍ". ولذلك بَنَوا مرجِعِيَّتَهُم الاخلاقيَّة؛ لانَّهُم لايمتلكونَ مَرجِعِيَّةً، بَنَوها على اساس الغريزة التي لاتصلحُ أنْ تكونَ مرجعيَّةً للاخلاق، فقالوا: ان اساس الاخلاق: جلب اللذة وطرد الالم، وهذا ماقاله ابيقور في فلسفته الاخلاقية القائمة على اساس اللَّذَّةِ.

ويمكننا الاجابةَ عن هذه المرجعيَّةِ للاخلاقِ التي يتعكَّزُ عليها الملاحِدَةُ بالقول أَنَّ الطبيعةَ والغريزةَ لايمكنهما انتاج اخلاق وتاسيسَ منظومَةِ أَخلاقِيَّةٍ، فالاشياءُ المادِيَّةُ التي تسيرُ بأَمرِ الله، كالشمس التي تُشرِقُ وتغربُ بنطامٍ ثابتِ مُحَددٍ. لايمكننا وصفَ هذه الحركةَ القسريَّةَ للشمس والكواكب بأَنَّها فعلٌ أَخلاقِيٌّ؛ لانَّ الفعلَ الاخلاقِيَّ ينطلقُ من ارادَةٍ واختيارٍ. وكذلك الامرُ مع الفعل الغرائزيِّ للحيواناتِ، فلا يمكننا وصفَ ما تقوم به الاُمُ في عالم الحيوان بأَنَّهُ التزامٌ أَخلاقيٌّ؛ لانَّهُ فِعلٌ غرائزيٌّ، الحيوانُ مجبورٌ على فعلهِ؛ وعليه فالاخلاقُ خاصِيَّةٌ انسانِيَّةٌ، يتَفَرَّدُ بها الكائِنُ الانسانِيُّ.

الفرقُ بينَ الاخلاقِ والآدابِ

هناك خلطٌ يقعُ فيه الباحثون في الميدانِ الاخلاقِيِّ بين الاخلاقِ والآدابِ، فالاخلاقُ مصدرها عُلويٌّ الهيٌّ، والآدابُ مصدرُها بَشَرِيٌّ. الاخلاقُ ثابتة لاتتغير بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوالِ بينما الآدابُ تتغيّرُ بتغيّرِ الزمانِ والمَكانِ والاحوال.الاخلاقُ فطريَّةٌ والآدابُ مكتسَبَةٌ؛ ولذلك المجتمعات تختلفُ بآدابِها وثقافاتِها واعرافها مع ثباتِ أخلاقِها. فدوركايم حين يقول بأنَّ المجتمعَ هو مصدرُ الاخلاقِ لم يميّز بين الاخلاق والآدابِ. المجتمع مصدر الآدابِ ولايمكن ان يكون مصدراً للاخلاق.

يتحدثُ عالمُ الاجتماعِ الفَرَنسِيُّ دوركايم في رؤيتِهِ لمصدرِ الأخلاقِ "أَنَّ مصدرَ الاخلاقِ هو المجتمع. ويؤكدُّ دوركايم  القولَ أَنَّهُ: (ليسَ هناكَ سوى قوَّة أخلاقِيَّةٍ واحِدَةٍ تستطيعُ أنْ تَضَعَ قوانينَ للناسِ هيَ المجتمع). ويقولُ أيضاً:(أَنَّ الفردَ دُميَةٌ يُجَرِّكُ خُيُوطَها المُجتَمَعُ). وحتى الضمير يراهُ دوركايم انعكاساً للمجتمع. أَمّا ليفي برول فيقول: (الاخلاقُ ظاهِرَةٌ اجتماعِيَّةٌ تَهتَمُّ بما هو كائنٌ، وظاهرةٌ مُتَغَيِّرَةٌ يمكنُ مُلاحَظَتُها).

القرآنُ الكريمُ يتَحَدَثُ عن اطلاقيَّةِ الآخلاقِ وتجاوزها للزمان والمكان والاحوال، يقول الله تعالى:

(قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). المائدة: الآية:(100).

فالآيَةُ تتحدثُ عن خبيثٍ مطلقٍ وطيبٍ مطلق؛ اذ لاقيودَ في الاية للطيب والخبيث. والنقطة الثانية أنَّ الانسانَ ليس هو مصدر القيم الاخلاقِيَّةِ؛ لانها قالت "ولو أعجَبَكَ كَثرَةُ الخبيث".

وخلاصةُ الكلامِ عن الاخلاقِ أَنَّها الهِيَّةُ المصدر، وانها مطلقة، وانّها مما يتفردُ بها الكائن الانسانيُّ، ولايمكن ان تكون الطبيعة أو المجتمع أو التطور البيولوجي الداروينيُّ مصدراً للاخلاقِ.

***

زعيم الخيرالله

أمام العالم الذي تعيشه، هناك أسئلة كثيرة محرّمة يجب عليك اكتشافها من خلال المجاهر التي تملكها المتمثّلة في العقل والإحساس، تسمع وتتحرك في سياق الاكتشافات المتواصلة التي تخترق وعيك الداخلي. إنّها نهضة طبيعية بيولوجية، لكنها محرمة في بعض مفاصلها، تصهل لكنك لا تتحدث، فعليك أن تكون إنسانًا بذاتك، وما الحياة إلا قشّة خفيفة تطير بفعل ذراتها إلى الآفاق التي قُدّر لها.

اختلافك مع نفسك لا يساوي جناح بعوضة وقفت على ضلعها، تسأل: كيف أتت؟ ولماذا أنا هنا؟

فعلك الطبيعي يستمر، إما خطأً أو صوابًا، شعورك بالمستقبل قد يصل إلى السآمة والضجر، وحاضرك المعيش هو من يبني تلك الطوبة العالية التي تتكون في صلد النفس العوراء المتعظمة بين بالحقيقة التي تدوّي بداخلك مُشكّلةً صورًا ميتافزيقية شرسة أمام حرب داخلية دائمة تقرع طبول السلام والحرب في آن معًا، إنّها التناقضات الشريفة التي تبحث عن الحقيقة الضائعة، وما إن تأخذ خطوتك الأولى تفشل ثم تتعثر بين عناقيد الأشجار التي تزحف معك في اشتباك قد لا يتوقف أبدًا.

الفكرة كانت دائمًا هي المساحة المتوفرة لعقلك هو أن تنمو بشكل طبيعي في سياق التطور العمري الذي يفرض عليك أن تكون ناضًجا بفعل المراحل المنتظمة، تؤهل أن تكون افتراضيًّا في داخل سرايا المختبرات التحليلية في إنشاء رؤية جديدة للبشرية أمام عظمة الكون في اكتشاف الأسرار العظيمة التي لا يعرف عنها من بحار عميقة وأكوان ما زالت في بدايتها؛ مما يؤثر على علوم الإنسان المعرفية التي تتقدّم بشكل مذهل تحت انتفاضة الثورة العقلية منذ بداية خلق الكون.

العقل يكتشف نفسه بالطبيعة، إنه السحر الذي تارة لا يستطيع البشر تفطّن الأسباب التي تنير العقول وتبسط النفوس، القدرات عاجزة عن تعيين البئر التي تنبع منها الحقيقة، إنه العقل، العظمة التي تشرئب لها النفوس الظمأى بين الخوف والشجاعة إلى الطريق المستقيم بعيدًا عن الظلام، للتجلي في داخل الروح الغائبة الحاضرة، وما البحث إلا رؤية ضبابية ابتلينا بها أمام التعسر في الإبصار البعيد، يتوقف الأفق في خط أفقي مستقيم ممتد، لكنه لا ينتهي في تحدٍّ أمام البصر اللامتناهي.

إنها حركة منتظمة مستقلة عاقلة ناقلة للأحداث ببساطتها وتعقيداتها المتأثرة بالمكان والوقت الذي لا يتوقف، وما الحياة إلا معركة وجودية عميقة تتأثر بألوان السعادة والشقاء، يقول "وليم جيمز": "على الإنسان أن يتخذ من أفكاره ذرائع لحفظ حياته، ثم السير بالحياة نحو الكمال ثانيًا، اقتباسًا، إنّ الفلسفة في أفضل حالاتها تجعلك أكثر تواضعًا، فهي تجبرك أن تدرك قصورنا ككائنات مفكّرة، الأخير أن تكون واثقًا في رؤيتك للحياة، وما البشر إلا قُراء ذلك الحدث.

***

فؤاد الجشي

لإعطاء فكرة مبسطة عن الغاية أو القصد المراد من طرح هذا الموضوع، فقد آثرنا الابتداء بصيغة السؤال التالي: هل قراءة الكتب الثقافية توازي ثمن مكابدات القارئ؟!. وقبل أن نعطي جوابا"على مثل هكذا سؤال حري بنا الإقرار بحقيقة؛ أنه في معظم لغات الأمم وثقافات الشعوب لا يكاد يختلف اثنان إزاء معنى لفظة (القراءة)، مثلما لن يختلفان إزاء ما تحمله هذه اللفظة من دلالات ايجابية واضحة وصريحة، بحيث قلما تحتاج تينك اللفظتين الى إعمال العقل في التحليل أو التأويل أو التعليل لحيازة المعنى واستخراج الدلالة.

ولكن مثلما يقال، فان لكل قاعدة شواذ، أي بمعنى أن هذه القاعدة العامة في معناها والشاملة في مغزاها، لا تسري أو لا تنطبق على البعض من المجتمعات التي فقدت حصانتها وأهدرت كرامتها وانتهكت حقوقها وأعيقت حضارتها، حيث يحمل فعل (القراءة) - بالنسبة للمنخرطين في هذا النشاط الثقافي - نوعين من الدلالات؛ الأولى (ايجابية) تشي بكم وكيف المردودات الفكرية والمعرفية ذات القيمة الاعتبارية العالية التي يجنيها الفاعل الاجتماعي على المستويين الشخصي والجماعي. والدلالة الثانية (سلبية) تضمر للمتجرأ – المغامر محاذير جمّة ليس أولها الوقوع في مغطس الهامشية الاجتماعية، والخضوع للمعاناة الاقتصادية، والتجرع للمكابدات النفسية فحسب، بل وكذلك التعرض للمطاردات البوليسية والتهديدات الأمنية التي قد تستهدف ذات الفاعل ككيان اجتماعي وكوجود إنساني، لاسيما في ظل ظروف سياسية وأوضاع تاريخية وسياقات حضارية غالبا"ما تتسم بالشذوذ والانفلات، كما هي حال غالبية هذا النمط من المجتمعات.

والحال هل يعني ذلك أن على من يرغب ممارسة فضيلة (القراءة) من أفراد وجماعات البلدان المستباحة بمظاهر التخلف والتشظي والتشرذم، أن يقتلعوا هذه الفكرة من أذهانهم نهائيا"، وينصرفوا للبحث عن مجالات وأنشطة أخرى لا تسبب لهم الأذى ولا تلحق بهم الضرر، بقدر ما تحقق لهم الكسب المادي وتمنحهم الراحة النفسية؟!. الحقيقة ان أبعد ما يكون عن مرامي هذه المقالة هي الدعوة الى هجر الكتاب أو الترويج لترك القراءة من قبل الراغبين باغناء معارفهم الفكرية وتوسيع آفاقهم الثقافية وتطوير ملكاتهم الذهنية، بدعوى ان (المواطن) في مثل تلك المجتمعات المستباحة يكفيه ما يعانيه من صنوف القهر السياسي، ومظاهر الظلم الاجتماعي، وأساليب الحرمان الاقتصادي،  وأشكال الاستعباد الثقافي، وضغوط الاحتقان النفسي. وبالتالي لا حاجة له بزيادة الأعباء الاقتصادية ومفاقمة المعاناة النفسية ومضاعفة المكابدات الاجتماعية. ذلك لأن (القراءة) – في كل الأحوال والظروف - هي المدخل الوحيد والشرط الأساسي الذي يستطيع الإنسان من خلاله الولوج الى عالم الثقافة الرحيب والتجوال في رحاب الفكر الواسع، حيث الضمان الأكيد للتخلص من كل ما يكبل العقل ويغل الروح ويشل الإرادة.

وإذا ما تبين لنا ان فعل (القراءة)، ليس فقط كونه (مرغوب) و(مطلوب) بحيث يراد له يمارس على نطاق واسع من لدن الجميع، نظرا"لما يحمله من مكاسب اعتبارية (ثقافية وأخلاقية وإنسانية) فحسب، بل وكذلك هو (ضروري) و(مصيري) لإحداث التغييرات الجذرية والتحولات النوعية الواجب إجرائها على صعيد إنضاج الوعي الحضاري للفاعل الاجتماعي من جهة، وتنمية إحساسه بقيمته الذاتية من حيث هو إنسان متفرد من جهة ثانية، وتعظيم شعوره بانتمائه للأنا الجمعي الذي يحمل نمط شخصيته ووشم هويته من جهة ثالثة.

ومع كل ذلك، فان سؤالا" يبقى بحاجة الى إجابة؛ هل أن مجرد الانغماس بفعل (القراءة) قمين بانتشال القارئ من وهدة الجهل الثقافي، وتحسين مستواه الفكري، وتهذيب سلوكه الاجتماعي؟!. بالطبع كلا. ذلك لأن هذا الأمر لا يتعلق (بكم) الكتب التي تقرأ، بقدر ما يتصل (بنوع) الأفكار التي تطرحها، والقيم التي تحملها، والفكرة التي تسوقها، الرسالة التي تروجها. إذ لا يخفى ان الكثير من الكتب حملت بين متونها الكثير من الخرافات والمغالطات والعصبيات، التي ساهمت – وستساهم – في الحطّ من قيمة الإنسان وهدر كرامته، عبر تشويه وعيه ومسخ شخصيته ووأد إنسانيته، مثلما كانت – وستكون – عاملا"من عوامل صيرورته كائنا"متوحشا"لا يعرف سوى قوانين الغاب وشرائع الافتراس !.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

كان الكون كتلتين، الاشتراكيّة والرَّأسماليَّة، الشَّرقيَّة والغربيّة، ومع أنَّ الصِّين الشَّعبيَّة اشتراكيَّة وشرقيَّة، وأكثر سُكان الأرض عدداً، ظلت لزمنٍ دون اعتراف مِن الأمم المتحدة. كان الاعتراف بالصّين الوطنيَّة. دافع بمثال الصِّين أحد المتحمسين للشعر الشَّعبي العراقيّ، لعدم اعتراف شعراء الفصحى، وتضييق السُّلطة على شعرائه في السَّبعينيات، بالقول: «إنَّ عدم اعتراف الأمم المتحدة بالصِّين الشَّعبيّة، لا يعني أنّها غير موجودة»!

على مستوى الأحزاب الشّيوعيَّة، كانت الانشقاقات تحدث على أساس موسكو وبكين، ما أتذكره أنّ أحدهم عُذب، لمعرفة على أيّ نهجٍ يتحزب: السّوفييتيَ أم الصّينيّ؟! فالأخير «الماوي» كان يُشكل خطورةً، لأنّه الأكثر حماسةً وثوريّةً، لارتباطه بما عُرف بالكفاح المسلح.

لم تخلُ سوقٌ من صناعات الصِّين، بأقصى الأرض وأدناها، على ما يبدو هذا ليس مستحدثاً بالصّين، فالجاحظ(ت: 255هـ) يقول: «فأمَّا سُكان الصّين فإنهم أصحاب السَّبك والصِّياغة، والإفراغ والإذابة، والأصبغ العجيبة، وأصحاب الخرط (الحدادة) والنَّجر، والتَّصاوير»(الحنين إلى الأوطان). كذلك ورد في تُراثنا: «الصّين موصوفة بالصِّناعات الدَّقيقة، والتّصاوير العجيبة...»(الزَّمخشريّ، ربيع الأبرار). بهذا الماضي دخلت الصّين بثقة ديارنا.

سمعتُ تصريحاً لرجل الأعمال محمَّد العبار، من مؤسسة «إعمار»، أنّ مؤسسته تستثمر بعشرة مليار (لا أعلم أدرهم أم دولار) في مطار بكين، وفي شركة «أوبر» الصّينيَّة، وسلسلة مقاهٍ تفوق «ستاربوكس» و«كوستا»، وهو يقول بثقة: إنَّ الصّين خلاف أميركا والغرب عامةً، تتقاسم الأرباح مع مَن يعمل، وتضع أمامه كلَّ ما لديها مِن خبرات ومهارات. أتيت بالعبار مثالاً، وإلا الاتفاقيات الكبرى مع حكومات المنطقة في تصاعد.

نشطت المعاهد داخل الصِّين المختصة بتعليم العربيَّة، وبالمقابل نشطت بالمنطقة العربيَّة المعاهد لتعليم الصِّينيّة. كذلك سمعتُ رجل الأعمال راشد الشّامسي متحدثاً عن تواضع الصِّينيين، والحميمية التي يخلقونها في الاجتماعات معهم، بجعل العربية لغة التَّفاوض والاتفاق الرَّئيسيّة، وتجري التَّرجمة إلى الصِّينية، وهم داخل الصِّين.

لم تبق الصّينية تُسمَى «لغة الطَّيور» جهلاً بها، والقصة تتعلق بالشّيخ جلال الحنفي(ت: 2006)، عندما عاد مِن الصّين إلى العِراق، وكان يُعلم الصِّينيين العربيّة، أخذ يتحدث مع زوجته عبر الهاتف بمفردات صينية، كي لا ينساها، وإذا برقيب التَّلفونات ببغداد يدخل على الخط: «ألا تعرف العربيَّة يا شيخ جلال، هل أنت تتكلم بلسان الطُّيور»؟(بصريّ، أعلام الأدب في العراق الحديث)؟!

لم تعدّْ الصّين الأقصى، بعد اكتشاف الأقصى منها، والوسائل التي تدني البعيد وتقصي القريب، فلعظمة «البيان عن تأويل آي القرآن» لأبي جعفر الطَّبريّ(ت: 310ه)، قيل: «لو سافر رجل إلى الصِّين، حتَّى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير، لم يكن ذلك كثيراً»(البغدادي، تاريخ بغداد). أمّا الفقيه ابن حزم الأندلسيّ(ت: 456ه)، فجعلها مادة لقصة حبّ عاشها: «أرى دارها في كلِّ حينٍ وساعة/ ولكنَّ مَن في الدَّارِ عني مغيبُ/ فيا لك جار الجنب أسمع حسه/ وأعلم أنَّ الصِّين أدنى وأقرب»(طوق الحَمامة).

لم ننس قصة عنوان المقال «الدَّار صينيّ»، الذي وطناه باسم «الدَّارسين»، النّبات العجيب بنكهته، وما نقل عنه الأطباء والعشابون القدماء مِن فوائد. بين يديّ كتاب «الطَّبيخ» لمحمَّد بن الحسن البغداديّ(صنفه: 623هـ)، حُقق ونُشر بالموصل(1934)، وجدته تاريخاً لمطبخ بغداد العباسيّة، في أنواع الطَّهي للُّحوم والأسماك والدَّجاج والحلويات، غير أنَّ «الدَّارصينيّ» كان القاسم المشترك بين الأكلات كافة، وأحسب أنّ مصنف الكتاب كان طاهياً وكاتباً، أو ملأه عليه أحد الطُهاة. هذا المسمَّى بالقرفة عند بلدان عدة، كان يأتينا مِن الصِّين عبر طريق الحرير، وما زالت تجارته رائجة.

كم شغلتنا بلاد الدّارصيني (الدَّارسين) بتحريفيتها عن الماركسيَّة اللينينيَّة، وتبين تجاوب اشتراكيتها مع «كونفوشيوسيتها»، أبطل ما كنا نعتبره، عبر التَّلقين، انحرافاً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

يخللط كثير من الناس – للأسف – بين الصوفيّة والتقوى. ويورّطهم هذا الخلط بين المصطلحين – الناتج عن الجهل بالمفاهيم والمعاني – في جملة من المغالطات والانحرافات الفكريّة، ويجرّهم إلى ضروب من المتاهات المتاغيبيّة الماورائيّة، يصعب عليهم التحكّم في مساراتها ومآلاتها ومخرجاتها.

معنى الصوفية: جاء في موقع ويكيبيديا، ميلي: " الصوفية أو التصوف هو مذهب إسلامي، لكن عند الصوفية هو احد مراتب الدين الثلاثة، اهتم بتحقيق مقام الاحسان وتربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل. وهو عند الصوفية الركن الثالث من اركان الدين الاسلامي، بعد ركني الاسلام والايمان. ". قال أحمد بن عجيبة: " مقام الإسلام يعبر عنه بالشريعة، ومقام الايمان بالطريقة، ومقام الاحسان بالحقيقة. فالشريعة تكليف الظواهر، والطريقة تصفية الضمائر، والحقيقة شهود الحق في تجليات المظاهر، فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده "

والصوفيون هم جماعات ابتدعوا (من البدعة) طرقا في العبادة والتنسك في صلواتهم، وفي أذكارهم، وفي خلواتهم، ما شرعها الله. وقيل، أنّ نُعتوا بالتصوّف، لأنّهم لبسوا الصوف، وقيل: هي من الصفا، لأنهم يعتنون بصفاء القلوب من كدر الذنوب، وكدر الكسب الحرام. وقد غلب على المتصوفة البدع والزهد في الدنيا، وأغلب زهدهم كان صادرا عن الفقر والحاجة والحرمان من ضرورات الحياة الفطريّة السليمة. أي أنّه زهد فرضته ظروف الحياة الماديّة القاسيّة، او صحوة ضمير وتوبة نصوح بعد ترف ومجون وولغ في أوحال المعاصي والذنوب. أمّا مفهوم التقوى، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة. وهو مفهوم يجمع بين القول والعمل، موطنه القلب السليم، وميدانه عمل العقل والجوارح. كما أنّه شديد الصلة بالواقع المعيش، وبعيد كل البعد عن الشطحات الصوفيّة والتطرّف الرهبانيّ.

ارتبطت ظاهرة الصوفيّة، منذ ظهورها، شأنها شأن الزهد، بالحقل الديني. فاعتُبرت ردّا قويّا على مظاهر الماديّة المفرطة والفساد الأخلاقي، المتمثّل في شيوع المجون قولا وفعلا. لقد شهدت أمصار الدولة الإسلاميّة، في مشرقها ومغربها، خلال فترة العصر العباسي والأندلسي، مظاهر الانحلال الأخلاقي، بسبب اتّساع الفتوح الإسلاميّة، وامتزاج الفاتحين العرب بالعجم ؛ كالفرس والترك والزنج والروم، وغيرهما. فاختلطت الثقافات وانصهرت في بوتقة واحدة، وظهرت أجيال من المولّدين، تحمل في أوردتها وشرايينها دماء وجينات متعدّدة النسب. ونظرا. أمّا من الناحيّة الفكريّة والثقافيّة والعقائديّة. فقد أثّرت فلسفة العلوم اليونانيّة وحكمة الهند والفرس، في تحوّل العقل العربي من الحياة البدويّة القائمة على الانتماء والولاء العشائري، والعصبيّة القبليّة إلى ميدان العلوم العقليّة، والتفكير العلمي البحت، وفي مقدّمتها علوم الفلسفة والرياضيات والفلك واللاهوت، وغيرها.

و بالتوازي مع تطوّر العقل العربي وانفتاحه على علوم عصره ؛ العقليّة المجرّدة والعلوم التجريبيّة، كالبصريّات والكيمياء والطبّ وغيرها. بدأت معالم الصوفيّة، تطفو على السطح، على أيدي جماعة من الزهّاد والوعاظ، الذين آثروا العزلة عن المجتمع، واعتنقوا أفكارا ومبادئء وسلوكات ترفض ملذات الحياة، وتدعو الناس إلى هجرتها والتطهّر من مظاهرها ولذائذها، بما يشبه " الرهبنة " (لا رهبنة في الإسلام). بل الأدهى من ذلك، داسوا على مبدإ " الوسطيّة "، التي تنهى عن الإفراط والتفريط، والقبض والبسط، والتبذير والتقتير. وغضّوا الطرف عن قوله تعالى: " ولا تنس نصيبك من الدنيا ". " وقل اعملوا.. " أي، عمل للعيش في الدنيا وعمل لأجر الآخرة.

لقد تجاوز الصوفيّة، بشطحاتهم الوهميّة، معالم العقيدة " الوسطيّة "، وسبّبوا للحضارة الإسلاميّة خسائر علميّة وفكريّة فادحة. حين انشغلوا، وشغلوا الناس معهم برؤاهم وتوهماتهم ومناماتهم التي تشبه أحلام اليقظة، وكراماتهم المزعومة. فبينما كان العقل النيّر في الأمم الأخرى، يبحث ويجتهد في البحث، ويقيم المعامل للتجارب، ومراصد الكشف، وينفق علماء تلك الأمم الأعجميّة أوقاتهم في خوض غمار البحث والاختراع، كان المتصوفة، يدعون الناس إلى العزلة وترك الدنيا والغوص في عوالم وهميّة، لا تختلف كثيرا عن المتافيزقيا (ما وراء الطبيعة).

الرمز الصوفي: الرموز الصوفيّة، إشارات ودلالات نفسية أكثر منها ماديّة. نظريّة أكثر منها تطبيقيّة.

يزعم الصوفيّون أنّهم يسعون إلى التقرّب من الله سبحانه وتعالى ونيل محبّته ورضوانه. والله سبحانه وتعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد.

* التقرّب إلى الله تعالى، لا تستدعي تلك الشطحات الفكريّة والنفسيّة، التي يحاول الصوفي إبداءها وإضفاءها وإظهارها على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية بالخلق. فقد ارتبط الزهد، لدى البعض، بالعزلة، وكانت دوافعه لديهم الفقر والحاجة والمتربة. بينما الزهد الحقيقي والشرعي، هو اتبّاع المنهج الوسطي، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تبذير ولا تقتير (لا تجعل يذك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط). هذا هو المنهج الرباني السليم والمفيد.

* فلا يعقل أن يدّعي المريد، أنّه مجرّد من إرادته، ايّ منزوع الحريّة، أيّ فاقد للتكليف، وهذا ما يجرّه إلى فقدان العقل، او تسفيهه، ما دام الادّعاء، بمجاوزة الرسوم والمقامات في غير مكابدة ومشقة وجهد بدنيّ. ومن المآخذ على الصوفية، أنّهم يسفّهون العقل وهو مناط التكليف، وموطن العلم (اقرأ باسم ربّك) (لعلّهم يعقلون) (أولي الألباب) (أولي النهى)، ويدّعون أنّهم السائرون والسالكون سبيل الحق بأحوالهم لا بعلمهم، الذي أودعه الله في الفطرة الإنسانيّة (وعلّم آدم الأسماء كلّها). إنّ التوجّه إلى الله والهجرة إليه والسفر إلى مرضاته، يحدث بالقلب والعقل والنفس والبدن. وإلاّ لماذا فرض الله على المؤمن طهارة البدن ومكان العبادة والوقوف والركوع والسجود والجلوس في حالة التشهّد في الصلاة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وصوم رمضان ودفع الزكاة، لماذا، كل هذا، إذا كان السالك والمسافر، في عرف الصوفيّة، وسيلته الوحيدة توجّه القلب فقط، وترك الجسدً على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فُقِد.

لقد ابتدعت الفيوضات الصوفيّة على مرّ العصور، مصطلحات تأويليّة، يصعب في أغلب الأحيان تفكيكها وتأويلها، وأصبغتها بصبغة قدسيّة مطلقة، ما أنزل الله بها من سلطان. وكانت سببا من أسباب تعطّل العقل والفكر والعلم النافع. كـ(السحق، والمكاشفة، والتجلّي، والتخلّي، المشاهدة، السالك، القطب، النقباء، النجباء، الأوتاد..إلخ).

و قد ألّف شيخ التصوّف والعالم الروحاني والشاعر والفيلسوف محي الدين بن عربي (1165 م – 1240 م) - الذي لقبه مريدوه وأتباعه بألقاب منها: الشيخ الأكبر، والبحر الزاخر، ورئيس المكاشفين، وبحر الحقائق، وإمام المحققين - ما يربو عن 800 كتاب، ووصلنا منها قرابة 100 كتاب، في التصوّف وعلم الكون. وعمّت آراؤه العالم الإسلامي، شرقا وغربا.

و الملاحظ، أنّ ابن عربي طلع نجمه في نهاية العصر العباسي الثاني، وقبل سقوط بغداد على أيدي التتار والمغول سنة 656 هـ (1258 م)، والذي اعقبه عصر الضعف والانحطاط (عصر المماليك والعثمانيين) (656 هـ - 1213 هـ) الموافق (1258 م – 1798 م). وهي فترة شهدت البلاد العربيّة ركودا أدبيّا فظيعا، تدهورا في المنظومة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة وركون العقل العربي والإسلامي إلى التفكير المستند على البدع والخرافات والأوهام، كما أصبحت الفلسفة الصوفيّة مذهبا عقائديا جديدا. ومن المؤسف، حقّا، انتقال الفكر الصوفي إلى العامة، وأنصاف الوعاظ، وتفرّعت عنه ظاهرة (الأولياء)، وشيّدت على قبورهم (حسب زعمهم) قبب خصراء اللون وبيضاء، لتصبح مقامات للزوار، وملجأ للطرقيّة والزوايا، بل تحوّلت، مع مرور الوقت، إلى مقامات مقدّسة، تنافس المقدّسات الإسلاميّة في مكة والمدينة والقدس. يقصدها العامة طلبا للشفاء ورغبة في نيل بركات (خدّامها) وشيوخها، المدّعين بأنّهم أصحاب كرامات، خصّهم الله تعالى بها.

ساهمت الصوفيّة في تعطيل العقل العربي، وغاصت في البحث فيما وراء الطبيعة، بينما تركوا البحث في الطبيعة الماديّة، التي سخّرها الله لهم، وجعل لهم فيها معايش وسبلا شتّى. حوّلوا العلم إلى نظريّات مثاليّة، خارج الجوارح، وعطّلوا نشاط الجسد، وأفنوا مقاصد الوجود المادي، وأشغلوا عقل الإنسان وقلبه بمسائل فلسفية وشطحات صوفية كبرى كمسائل الألوهية والمحبة الإلهية والقول بوحدة الوجود ووحدة الشهود. وكان محي الدين بن عربي محل تبجيل وإجلال، من أتباعه ومريديه، حيث أنزلوه منزلة أرباب المواجد والأذواق، الناطق بلسان الكشف والإشراق. كغيره من أوائل الصوفية، كالجنيد (1) والشبلي (2) وذي النون المصري (3).

يقول د. شوقي ضيف أنّ أبا حمزة الصوفي المتوفي سنة 269 هـ: " أول من تكلّم على رؤوس المنابر ببغداد خالطا مواعظه بإصطلاحات الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهم والمحبة والعشق والأنس، وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر ممّا يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشّف ورفض كلّ متاع. " ص 528 / ص 529. (4) ويقول أيضا: " وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوّفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف في قمع شهوات النفس ولذّاتها وكيف كان الصوفي يفرض على نفسه عناء شاقا مضنيّا لا يطيقه إلاّ أولو العزم. " ص 529 / (5) المصدر نفسه.

و قد رويّ عن بشر الحافي المتصوّف المتوفي سنة 227 هـ من أنّه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كلّه ولا يُفطر إلاّ في كلّ ثلاثة أيّام مرّة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل: ما يبكيك ؟ فقال: إنّي لا أذكر أنّي سهرت ليلة كاملة، ولا أنّي صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثر ممّا يفعله العبد لطفا منه سبحانه وكرما " المصدر نفسه / ص 529. (6) عن رسالة القشيري / طبعة سنة 1346 هـ.

و الباحث في أعماق التراث ولججه، ستواجهه قصص وحكايات عجيبة عن حياة المتصوّفة ومصطلحاتهم وأفكارهم وشطحات مكرماتهم المزعومة. فقد أنزلوا أنفسهم منازل فوق الأرض والبشر، ونسبوا لأنفسهم الخوارق من الأفعال، ووصفوا أنفسهم بأقوال لا يصدقها العقلاء، ولا يستسيغها العقل الراشد. ألزموا أنفسهم وأتباعهم (مريديهم) ما لا لزوم له. وحوّلوا الإيمان بالله والتقرّب إليه إلى تعذيب للنفس، وإرهاق للروح. وحرّموا على أنفسهم ومريديهم (أتباعهم) ما أحلّه الله من الطيّبات، اعتقادا منهم – وهو اعتقاد لا أساس له في الدين ولا مسند له في العقيدة – أنّهم بنهج الصوفي ذاك، يزدادون قربا إلى الخالق سبحانه وتعالي. ونسوا أو تناسوا أو غضوا الطرف عن قوله تعالى: " ……… … »

يقول د. شوقي ضيف نقلا عن تلميذ الحلاج ابراهيم الحلواني (أخبار الحلاج ص 20): " دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء، فوجدته يصلي، فجلست في زاوية البيت، كأنّه لم يحس بي لاشتغاله بالصلاة، قرأ سورة البقرة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية آل عمران، فلمّا سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها، فلمّا خاض في الدعاء رفع صوته كأنّه مأخوذ عن نفسه، ثم قال: يا إله الآلهة ويا رب الأرباب ويا من " لا تأخذه سنة ولا نوم " رُدّ إليّ نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنسيّتي (وجودي) وهويّتك إلاّ الحدوث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إليّ وضحك في وجهي ضحكات. ثم قال: يا أبا إسحق، أما ترى أنّ ربي ضرب قدمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قدمه، فلم يبق لي صفة إلا صفة القدم، ونطفي في تلك الصفة، والخلق كلّهم أحداث ينطقون عن حدوث، ثم إذا نطقت من القدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري ويسعون إلى قتلي، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون " ص 531 / 532. (7)

و المتأمّل لهذه الشهادة الصادرة عن تلميذ لأحد أكبر الصوفيّة، يستخلص، إلى أيّ مدى وصل الصوفيّون في اعتقادهم الضال والمضلّل. وهو اعتقاد لا سند عقلي يسنده، ولا منطق عاقل يصدّقه، لأنّه لا يعدو أن يكون وهما كاذبا وخرافة وضلالة وادّعاء باطل، يسوق صاحبه إلى الكفر الصريح.

لا أدري، إلى أيّ مدى، كان يسعى الحلاج، ويمنح نفسه، التي ألهمها الله الفجور والتقوى، وجعلها تارة تذنب وتارة تتوب، هذه الصفة الربّانيّة، ووسما بها إلى عتبة القداسة ؟

لقد تحولت هذه الحكايات الصوفيّة إلى نوع من القصص الشعبي المتداول بين عامة الناس، ممّن لا فقه لهم في مسائل الدين والعقيدة. لم يكن المخيال الشعبي بمقدوره الصمود أمام هذه الحكايات الصوفيّة نظرا لهشاشة، بل انعدام، الملكة النقدية لديه بشكل كليّ. إنّ العقل العامي (الشعبي)، عقل عديم التأويل المعرفي والدلالي. لهذا السبب، شكّلت الصوفيّة خطرا داهما على النسيج الاجتماعي وبالخصوص المربّع العقائدي لدى عامة الناس وذوي التحصيل العلمي المحدود والمستوى التعليمي الزهيد. يقول الدكتور شوقي ضيف: " وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبيّة العربيّة، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأنّ التصوّف كان عاملا قويّا في ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. " ص 530. (8).

و من أعجب ما تداولته كتب التراث العربي الإسلامي، قصص الكرامات التي نُسبت إلى أشخاص، يُوصفون بأنّهم صوفيون، ولا ندري هل هم بشر من سلالة آدم، أم هم من سلالة الجنّ أم هم من سلالة الوهم والخيال والخرافة والادّعاء. ومن هذه القصص العجيبة في محتواها والغريبة في تفاصيلها، ما روي عن رجل اسمه بنان الحمّال المصري المتوفي سنة 316 هـ. " فقد قيل إنّ خمارويه أمر بأن يُطرح بين يدي سبع، فطُرح وبقي ليلته، وجعل السبع يشمّه ولا يضرّه، فلمّا أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسبع بين يديه، وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه. " ص 530. (9).

و لا ندري، هل كان السبع جائعا أم شبعا ؟ وهل كان السبع بريّا ضاريّا أم من السباع المروّضة ؟ لم يخبرنا راوي القصة (الكرامة) بذلك. وأورد الدكتور شوقي ضيف قصة أخرى من قصص الكرامات (الصوفيّة)، فقد " حُكي أنّه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة، فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بُنان ليدعو له، لعلّه يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بُنان: أنا رجل قد كبرت وأحبّ الحلواء، اذهب إلى قريح (حلواني)، فاشتر رطل حلواء وائتني به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بُنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هي الوثيقة، فقال: هذه وثيقتي، فقال بُنان: خذها. وأطعم الحلواء صبيانك. " ص 530. (10).

إنّ هاتين الحكايتن، لا يصدّقهما إلاّ العامة من الناس وجمهور المغفّلين. فهما تصلحان أنّ تصنّفا في أخبار المنجّمين وسحرة بابل. وتعكس هذه القصص (الصوفيّة)، وغيرها، والمصنّفة ضمن الكرامات (الدينيّة)، المنسوبة إلى أناس انتحلوا صفة الإيمان والتقرّب إلى الله تعالى، وادّعوا حقّ اليقين وعينه وعلمه، حالة المجتمع الإسلامي، ومستوى التفكير الذي نجم عن شيوع الخرافة والترّهات وسيطرتهما على العقول التائهة في خضم المفاهيم الأخلاقيّة المغلوطة، والتديّن المخالف لروح الدين الحقّ. وهو نوع من التفكير الفلسفي الذي عطّل مبدأ السببية، وسفّه التفكير العلمي، وهمّش العقل والمنطق.

لم تكن الأمّة الإسلاميّة، وتحتضر تحت نير الاحتلال الصليبي، وتفقد مكانتها الحضارية، في حاجة إلى الصوفيّة، وقد فلت منها زمام مصيرها الحضاري. منذ القرن السابع الهجري، الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي. بل كانت في حاجة ماسة وضروريّة إلى إعادة مجدها العباسي والأندلسي، وإحياء العلوم العقليّة والإنسانيّة التي وضع أسسها علماءها الأفذاذ، من أمثال ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس وابن خلدون والخوارزمي وجابر بن حيّان وأبي حامد الغزالي ووووووو. لبناء حضارة أصيلة وجديدة خدمة للإنسانيّة جمعاء، وتقف في وجه الفلسفة الماديّة، التي أفسدت العقل البشري والأخلاق معا. وحوّلت الإنسان إلى مجرّد آلة صمّاء.

تأخرت الأمّة العربيّة الإسلاميّة، وأفلت شمسها شرقا وغربا، وسقطت في شراك الخرافات والأساطير والترّهات. وبمثل هذا التفكير، الذي لا يستقيم له عقل قويم، ولا قلب سليم، أضاعت أمّة (اقرأ) معالم الريادة الحضارية، بعد قرون من سطوعها على البشريّة جمعاء. تلك الحضارة، التي أغنت الغرب والشرق بالعلوم العقليّة والإنسانيّة والآداب. في فترات كانت فيها روما، وقبلها أثينا وغيرهما، تحارب العلم والفلسفة وتحاكم العلماء والفلاسفة، فتعدمهم أو تحبسهم أو تنفيهم.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر ..........................

هامش:

(1) الجنيد: اسمه أبو القاسم الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري، من مواليد بغداد في العقد الثالث للقرن الثالث الهجري. من أعلام الصوفية، لقب بـ (سيّد الطائفة) و(طاووس العلماء).

(2) الشبلي: هو أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي، ولد سنة 247 هـ، صحب الجنيد وعلماء عصره مات ببغداد سنة 334 هـ، وقبره هناك. قيل أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم.

(3) ذو النون المصري الزاهد، شيخ الديار المصريّة ثوبان بن إبراهيم، النوبي الإخميمي، ويكنى أبا الفيض، ولد في اواخر أيام المنصور: توفي سنة في ذي القعدة 246 هـ.

(4) العصر العباسي الثاني / د. شوقي ضيف / ط. 4 / دار المعارف.القاهرة.

(5) المرجع نفسه.

(6) المرجع نفسه.

(7) المرجع نفسه.

(8) المرجع نفسه.

(9) المرجع نفسه.

(10) المرجع نفسه.

(فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات)

إن الاحتكار الفكري في مجتمعنا العربي وبالخصوص المجتمع الجزائري وراء الكساد الذي تعيشه "النخبة" في الوطن العربي، والأفكار تنتقل من جماعة إلى أخرى، فهل حان الوقت بأن تستفيد الأمة العربية من التغيرات التي حدثت في اليابان وتركيا وماليزيا، وكيف تصنع تاريخها العربي والإسلامي بواسطة حركة الأفكار؟ تلك هي المشكلة؟

فهجرة الأفكار وصب خبرتها في مؤسسات الأجنبي مثلما نراه في الوقت الحالي، هي واحدة من أهم المشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع العربي والمجتمع الإسلامي في كل أقطاره، وقد تحدث الكثير من الباحثين عن هجرة الأفكار، ومنهم جلبرت هايت في كتابه تحت عنوان: "هجرة الأفكار"، وضع فيه فلسفة التاريخ، وقدم أمثلة عن تطور الأفكار في جانبها الإيجابي وكيف استثمرت الشعوب في أفكار شعوب أخرى، ويكفي أن تكون فكرة صغيرة قادرة على أن تغير التاريخ وتؤسس حضارات، لقد تحدث جلبرت هايت عن التاريخ بإسهاب شديد، وقال أن التاريخ من الدراسات الأكثر تعقيدا باعتباره الحقل الذي يحفز أحداث الماضي، والجزء الأكبر من التاريخ لا يدور حول الأشخاص والأفراد أو رجال عظماء، أو سجل للمعارك والحروب، وكيف انتزعت إحدى الطبقات الثروة والمجد من طبقة أخرى، وإنما يدور حول جماعات مختلفة ذات قوة أرادت أم تهيمن على جماعة ضعيفة، ليس بالسلاح بل بالأفكار، يمكن أن نقول أنه بهجرة الأفكار كان جلبرت هايت  يدعو إلى  التغريب.

فرغم  أن الإسلام تابع سيره مخترقا الحدود الطبيعية والجغرافية حتى وصل شرقا إلى إيران والهند والصين وغربا إلى إسبانيا، وشمالا إلى جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأناضول وأرض روسيا، وجنوبا إلى قلب أفريقيا وسواحلها الشرقية والغربية، غير أن العالمين العربي والإسلامي لم يعيشا عيشة الجسد الواحد، ولم يعملان بدستور الإسلام، هذا ما تؤكده العديد من الكتابات، فلم يعرف التاريخ مجتمعا نشأ سليما، أبيا مثل المجتمع العربي، ذلك أن المجتمع العربي أقبل في حماسة لكل ما يجلب له الخير والنفع، لقد كان العرب منذ أن ظهروا على مسرح الأحداث العالمية أصحاب رسالة سامية يدعون فيها إلى المحبة والإخاء، غير أنهم لم يستثمروا في أفكار غيرهم وحتى أفكارهم، وتخبط البعض منهم من أصحاب النفوس المريضة في فهم هذه الرسالة السامية، حيث اتخذ أعداء هذه الفئة طابعا خاصا في التاريخ، ومن هنا بدأت الحضارة العربية تعرف نوعا من التراجع والصراعات والخلافات بين المسلمين تحت ستار تيارات مختلفة فظهر الانشقاق في الأمة العربية والإسلامية التي كانت خير أمة أخرجت للناس، فعرفت بالشلل والجمود.

لقد ظهر رجل من شمال افريقيا ليطرح مشكلة الأفكار لكن بطريقة  تختلف عن الطريقة التي طرحها هايت، إنه المفكر الجزائري مالك بن نبي، إذ يقول وهو يتحدث عن جهل المسلمين بهذه الاعتبارات : "إنّ المجتمع الإسلامي يُعاني من السخط الإلهي الصادر من النماذج الكُلِّية في محيطه الثقافي بالذات، كما يعاني من الانتقام الشديد على الأفكار التي استعارها من أوروبا دون أن ينظر في الشروط التي من شأنها أن تُحافظ على قيمتها الاجتماعية، وينجم عن ذلك فقدان الحيوية في الأفكار الموروثة وفي الأفكار المُكْتَسَبَةِ، وهو الأمر الذي يُخِلُّ إخلالاً خطيرا بالتطور المعنوي والمادي في العالم الإسلامي، ودون تعميم طبعا، وكتابات مالك بن نبي حول مشكلة الأفكار والمشكلة الحضارية لقيت رواجا كبيرا عند المثقف الغربي كون مالك بن نبس كان يكتب باللغة الأجنبية، وقام مشارقة بترجمتها إلى اللغة العربية  لكن بالرغم من ذلك  لم تستثمر افكاره بالشكل الكافي وتؤسس لها مخابر للتحليل حتى السنوات الأخيرة بدأ ضوؤه يلمع في فضاء  الكتابة والنقاش في الفضاءات الجامعية،، حين حرك كتاب عرب وجزائريون اقلامهم للتعريف بفيلسوف الجزائر ومحررهم من التبعية، مثله مثل محمد أركون والعوّا والجابري وغيرهم من الذين اعتبروا الأفكار تخضع لسُنّة التغيير.

فحين تلتقي أفكارٌ مع أفكارٍ أخرى قد يحدث تصادم بينهما وقد تتلقح وتصبح لها قابلية التطور، وهو ما اشار إليه الباحثون بالازدواجية الفكرية  أكانت تعليمية إصلاحية أو سياسية، المشكل أن العرب لم يأخذوا بتجارب غيرهم فها هو إمبراطور اليابان الذي تحدث عنه جلبرت هايت وهو يؤدي مرسوم القسم أمام الشعب عام 1868، حيث قال: " سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم" ومن هنا بدأت سياسة اليابانيين تنحصر في تعلم كل ما يمكن تعلمه من الشعوب الأخرى، وطبقوا هذا الشعار في حياتهم اليومية، فاقتبسوا من الصين ذات الحضارة العظيمة، دون أن يصبحوا أسرى لها، فكانوا قوما أقوياء الإرادة، وقد سارت تركيا على نهج اليابانيين وكذلك الرومان الذين حوّلوا منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط من أحراش وصحاري إلى بلاد كلها حدائق وكروم وحقول يانعة، إن الفكرة الواحدة يمكن أن تولد في عقل فرد واحد، ثمّ تنتشر بعد ذلك لتشمل الجماعة كلها، فتثمر وتتحول إلى فعل أو مشروع وقد تموت عندما العرب في مفترق الطرق، الفكرة تظل فكرة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يكفي أن نؤمن بها لأنها من صنع تفكيرنا،  يبقى السؤال كيف نحقق التوزان بين ما نفكر فيه وما نقوله وبين ما نفعله؟

***

علجية عيش - كاتبة وباحثة - الجزائر

التطورات الكونية بتأثيراتها الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول الاتحاد الأوروبي) والشرقية (الصين والهند وروسيا) وضعت مصادر القرار المركزية الإدارية والتمثيلية بالمغرب أمام تحدي تجديد النخب بالشكل الذي يستجيب للمنطق الذي يخدم بالقوة والسرعة المطلوبتين طبيعة المشاريع الترابية الجديدة بأبعادها التكنولوجية والاقتصادية، وكذا بلورة هندسة اجتماعية قادرة على مواجهة الإكراهات الثقيلة والمرهقة التي تتصاعد ضغوطاتها مع مرور الزمن.

الأجندات السياسية أصبحت جد مرتبطة بالتفكير في تنمية المجالات الترابية وتأهيل العنصر البشري وإشراكه في دعم مسار الانخراط الشمولي لفهم متطلبات الحاضر والمستقبل. تحتاج المجالات الترابية إلى نخبة تمثيلية وإدارية قادرة على بلورة وتنفيذ المشاريع التكنولوجية والرقمية والروبوتية ... بمنطق سياسي يخدم هدف تخفيض مستوى الفقر والتهميش إلى أدنى المستويات.

في هذا الصدد، المهندس المنتصر للفكر الاشتراكي الاجتماعي أصبح فاعلا لا غنى عنه وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا. الحاجة للتكيف بأقل الأضرار أبرزت أهمية تقوية ارتباط المهندسين بالفلسفة الاشتراكية الاجتماعية. دول الجنوب لن تصمد أمام العواصف السياسية الكونية ما لم تستثمر في توطيد الملكية الجماعية أو الحكومة الجماعية للموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين حياة الناس على المستويين الزمني والجغرافي.

الحاجة إلى ترسيخ الثقافة الاشتراكية الاجتماعية جنوبا أصبح مطلبا لعامة الشعوب والأمم نظرا لتفاقم نسبة الفقر والتهميش. نسبة الأفراد والجماعات غير القادرين على ركوب قاطرة التطورات العالمية تزداد ارتفاعا كل يوم. الحفاظ على الأمن العام وتوطيد النظام في إطار الاستمرارية أحدث اليوم ارتباطا وثيقا بين الثروة والإنتاج ومستوى ملكيتهما من طرف الجماعات الترابية. احتكار الخيرات وتراكماتها الإنتاجية والمالية لن تجدي طالما تم التماهي مع تركيزها في يد الأقليات أو الشركات الخاصة. الهندسة السياسية في زمن التحولات المبهرة تضع في جدول أعمالها كأولوية الأولويات ضرورة توزيع الموارد بالتساوي وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية من خلال تحقيق المساواة في فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل المنصف والأجور المعقولة. الرهان كذلك يفرض تفاعلا نافعا بين الأجيال المتعاقبة، تفاعل يثمن توارث وتطوير الخبرات والتجارب بين الفئات العمرية، بما في ذلك ضمان تطويل استقلالية الفئات المجتمعية في وضعية شيخوخة وخلق الآليات المسهلة لسيولة المعارف إلى الفئات العمرية الشابة.

أمام هذه التحديات، المهندس يشكل في الحاضر والمستقبل حلقة محورية لتقوية الاندماج التفاعلي النافع بين الفكر الاشتراكي الاجتماعي والتنمية المستدامة. المهندس بمعارفه النظرية والتطبيقية هو القادر على ربط العلوم بالحياة المعيشية في روح المجتمعات الترابية. بحضوره القوي، يمكن للدولة المغربية أن تحقق السبق في بناء مجتمع يتوخى المساواة والعدالة في عالم شديد التحول. الاشتراكيون الاجتماعيون لهم الثقة الكاملة في الهندسة والمهندسين، ويعتبرونهم الأكثر جدارة على تصميم وتنفيذ مشاريع تعزز الفائدة العامة وتحسن جودة حياة الناس بشكل عام، بما في ذلك الحفاظ على المصالح الفردية أو أرباح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات والعابرة للقارات.

كما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، في زمن الذكاء الاصطناعي، يعتبر المهندس الفاعل الأكثر تمكنا للعب الأدوار المطلوبة في تبني المقاربة التشاركية وتعزيزها. فهو بذلك القادر بأسلوبه على ترسيخ التعاون والمشاركة الفعالة بين المهندسين والمجتمع الطامح لاستخدام تصاميم وتطورات التكنولوجيا والحلول الذكية في حياة أفراده. الذكاء الاصطناعي كواقع يكتسح بقوته فضاءات العيش اليومي للمجتمعات مَوْقَع المهندس في صلب المعركة التنموية. إنه الإطار الأنسب لتدريب وتعويد الناس للتفاعل مع الأنظمة الحاسوبية لتنفيذ أنشطتهم المعقدة المدرة للدخل ومساعدتهم على اتخاذ قرارات على أساس بيانات ذات مصداقية. قوة وجوده كذلك مرتبطة بكونه يشارك بشكل وثيق في عملية تصميم وتطوير هذه الأنظمة بتفاعل مباشر مع مختلف فئات المستخدمين والمجتمعات المتأثرة. باستخدامه للمقاربة التشاركية، يكتسب المهارة في التعاون المنتج مع الخبراء في المجالات الاجتماعية والأخلاقية والقانونية والثقافية، متشبثا بصفاء ذهنه بالتأثير على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالشكل الذي يجعلها متوافقة مع القيم الأخلاقية وتلبي الاحتياجات الاجتماعية والبشرية.

المهندسون بتخصصاتهم لا يجدون أي صعوبة في تبني مبادئ التصميم المستدام والمسؤول وترسيخ الاعتقاد بكون الحلول الذكية والطاقات المتجددة لا تسبب آثار سلبية على البيئة وتتوافق مع مفهوم التنمية المستدامة. كما أن التشارك كمقاربة يفرض نفسه باستحقاق لرفع مستوى توظيف المستخدمين المحتملين والمستفيدين في عملية التصميم وتجربة المنتجات وتقديم الملاحظات والاقتراحات لتحسين الأداء وتلبية الاحتياجات الفعلية. أهمية موقع المهندس تتجلى في كونه الأكفأ في لعب الأدوار الحيوية في مجال تبني المقاربة التشاركية في زمن الذكاء الاصطناعي، حيث يتعاون مع مجتمعات الاستخدام والخبراء المتخصصين لتصميم وتنفيذ حلول تكنولوجية تلبي الاحتياجات الاجتماعية وتكون مستدامة وأخلاقية.

من ناحية أخرى، المتتبعون يولون اهتماما بالغا للهندسة بسبب قدرتها الموثوقة في مجال تحقيق العدالة الاجتماعية. فبتصميم وتطوير البنية التحتية والتكنولوجيا بطريقة تضمن توفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والاتصالات للجميع، بما في ذلك الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المحرومة والمهمشة، تتيسر أمانة تعميم استفادة الجميع من الخدمات الحيوية. المهندس يعطي اعتبارا بالغا للبيانات المتعلقة بتنوع السكان واحتياجاتهم المختلفة عند تطوير المنتجات والخدمات. هو كذلك الإطار الأنسب لتصميم المباني والمنشآت لتكون متاحة وملائمة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم تكنولوجيا متوافقة مع الثقافات المختلفة واللغات المتعددة، مع الحرص التام لتقليل التأثيرات الضارة على البيئة وتغير المناخ وتضييق الفجوة الرقمية بين المواطنين. بثقافتهم وتخصصاتهم المعرفية والتقنية، يراكم المهندسون التجارب التي تجعلهم قادرين على التأثير على أنماط إنتاج الشركات بتجويد طبيعة القرارات المتخذة بها ودفعها لاستحضار مدى أهمية الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية في برامجها.

قدرة المهندس على خلق التفاعل البناء في إطار السياسات العمومية بوأته مكانة هامة في البنية المؤسساتية التنموية من الوطني إلى المحلي. لا أحد يجادل إمكانياته للإسهام في تطوير تقنيات الإنتاج المحلي، مثل تصميم أنظمة الزراعة المائية والزراعة العضوية وتقنيات تنقية المياه. فهو يوجد في صلب رهان تعزيز الاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء والموارد الطبيعية. مردوديته مشهود لها في مجالات تصميم وتطوير الحلول التقنية البسيطة والمنخفضة التكلفة التي يمكن للأفراد تصنيعها وصيانتها بسهولة، مثل تصميم أجهزة طبية محمولة أو أدوات توليد الطاقة المحلية، وتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتصميم وتطوير تقنيات الاتصال والانترنيت، وتعميم الاستفادة من الطاقات المتجددة لتشمل المناطق النائية والمهمشة وحتى وعرة التضاريس.

المهندس يوجد في جوهر الفكر الاشتراكي الديمقراطي، وبذلك فهو في صلب المعركة التنموية في الحاضر والمستقبل. دوره حاسم في تأهيل وتعزيز الطبقات الهشة والمجتمعات الضعيفة. أدواره تتجلى في ترويجه العملي لثقافة المقاولة المواطنة الاجتماعية، وإسهامه الرائد في تحسين وصيانة الشوارع والجسور ونظام الصرف الصحي والتوزيع الكهربائي والمياه. هو كذلك الحلقة القوية المدافعة على ضرورة تصميم وتطوير حلول سكنية معقولة التكلفة وآمنة وصحية ومناسبة للعيش للأفراد ذوي الدخل المحدود، واختيار المواقع الإستراتيجية لبنائها حتى تكون قريبة من فرص العمل والخدمات العامة. انشغاله هو مواجهة تداعيات العولمة المالية والتكنولوجية بالإسهام في تأهيل الطبقات الهشة من خلال تصميم وتنفيذ مشاريع وحلول تقنية تعمل على تحسين جودة الحياة وزيادة فرص النمو واستقلالية الأفراد والجماعات.

***

الحسين بوخرطة

جاء هذا الموضوع بمناسبة قرب صدور الطبعة الثالثة من المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 388 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.

ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.

وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:

الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.

ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.

ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.

في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.

لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.

ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.

مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.

ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.

من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.

في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.

بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟

وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.

هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.

أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات الشطر الأول من البيت الأول من جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.

سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟

لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.

ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.

وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي الشافي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

***

الدكتور صالح الطائي

من طريف ما يُروى عن الرئيس اللبناني الأسبق شارل الحلو، أنه استقبل ذات يوم في قصر الرئاسة عدداً من الكُتاب والصحفيين اللبنانيين، ففاجئهم بالقول:» أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان»!. وكان رحمه الله يغمز من قناتهم بسبب ولاءاتهم لبلدان أخرى غير بلدهم، فيما يُفترض أن يكون الولاء الأول للكاتب والصحفي، بل للمواطن البسيط قبل كل شيء، هو وطنه ومصالح شعبه أولاً وأخيراً.

ويبدو أن هذه الغَمزة الشارلية، كانت وما زالت تشير إلى أحد الأمراض والهموم الكبرى التي تشكو منها الصحافة في العديد من البلدان العربية، بهذه النسبة أو تلك، بصورة ظاهرة مفضوحة، أو مستترة على شيء من الحياء، يرافقها ولاء آخر، هو الولاء للسلطة على حساب المواطن الذي يعول على الصحافة في إيصال صوته ومعاناته ومشكلاته إلى المسؤولين الحكوميين. وكثيراً ما تتخطى العلاقة بين الصحفي والحكومة صيغة العمل الصحفي، ليتحول الأخير إلى صوت للسلطة، وسوطاً على المواطن، وربما أداة لنقل الأخبار إلى السلطة، ومن ذلك ما جسده الكاتب والصحفي المصري موسى صبري في روايته « دموع صاحبة الجلالة « التي تحولت إلى فيلم سينمائي في العام 1992 أدى فيه الممثل سمير صبري دور الصحفي « محفوظ عجب «، الذي يتعرف في سهرة على راقصة مصر الرسمية سوسن رفقي «مثلتها دينا» ثم يزورها في بيتها حين كان بريئاً يطلب شرب الشاي لا الويسكي، فتستقبله بملابس فاضحة ويجلسان متقابلين ويدور بينهما الحوار الآتي :

- سعيد اني قاعد مع راقصة مصر الرسمية. فتخبره أن هذا اللقب سيفيده كثيراً .

- أنا رغم أنني محرر سياسي، وما اكتبش إلا في السياسة، إنما حغير القاعدة عشان خاطر عيونك انت وبس، أنا عايز أأرخ لتاريخ حياتك الفني.

- عندك فكرة اني الراقصة الخصوصية بتاع السرايا؟. أنا أقدر أجيبلك أخبار مهمة وخطيرة.

ويمضي الحوار الساخن مع طول الجلسة ومع تحول محفوظ عجب من الشاي إلى الكحول والتدخين، وتمضي العلاقة بين الصحفي والراقصة في العمق، لتصف أحوال الصحافة في حقبة الاربعينيات وبداية الخمسينيات قبل ثورة يوليو 1952، وكيف يمكن للصحفي أن يحصل على معلومات مهمة من راقصة السراي الحكومي، لكن من طرائف الأمور أيضاً، أن أحد المواقع المصرية الإلكترونية طرح سؤالاً قبل سنوات: من هو «محفوظ عجب» هذا الزمان في رواية موسى صبري « دموع صاحبة الجلالة»؟، فأجاب أحدهم: « شوف مين اللي بيدخن سيجار وصعد، وكان على علاقة مباشرة وشخصية بالسلطة على مر العصور»، فيما أشار آخرون صراحة إلى اسماء صحفيين كبار في مصر.

ولو درسنا بعمق تاريخ الصحافة العربية، ومنها الصحافة العراقية التي تحتفل هذه الأيام بعيدها الرابع والخمسين بعد المائة، لوجدناها لا تخلو في كل حقبها من علاقة ما، إيجابية أو سلبية مع السلطة تشبه لعبة « الحَية والدَّرَج « إلى حد كبير، تكون أحياناً في خدمة الصحفيين، لكنها تنقلب في أحيان أخرى ضد أهم ما يمكنهم الحصول عليه، وهو الحرية، ففي ذلك التاريخ الطويل تجد أن السمة الغالبة على معظم حقبه تتمثل في غياب الحرية، إلا في بعض السنين المعدودة، وفي بعض البلدان لا كلها، فالحريات الصحفية، وحريات الرأي والتعبير، مدونة كنصوص قانونية في عموم دساتير الدول العربية، لكنها في الغالب أيضاً، مجرد مواد دستورية، مُعطّلة أو مُهمَلة أو منقوصة أو غائبة عن أرض الواقع. وإذا ما تحدثنا عن واقع الحريات الصحفية العربية، فإن إشكالية الانفصال بين النص الدستوري وواقع الحال تبدو ظاهرة إلى الحد الذي تسجل فيه دولاً عربية تراجعاً سنوياً ملحوظاً في المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة «مراسلون بلا حدود»، ومما يؤسف له أن الكثير من هذه الدول جاءت في ذيل آخر تصنيف للمنظمة للعام 2023. لكن لهذه الإشكالية جوانب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن الاكتفاء بمؤشر عالمي يقيس الحريات الصحفية في هذا البلد أو ذاك، اعتماداً على ممارسات وحوادث مرصودة، لكي نصدر حكماً على مستوى الحريات الصحفية فيها، فحوادث مثل الاحتجاز، أو الاعتقال والتغييب، أو الاغتيال، أو التهديد بملاحقات أمنية أو قضائية، تمثل بكل تأكيد خرقاً فاضحاً لحقوق الانسان برمتها ولا تقتصر على الحريات الصحفية، وهي ممارسات تحدث في أكثر من دولة تحمل راية الديمقراطية وتتشدق بالدستور الذي يحمي الحريات على الورق فقط، لكن الأمر الأهم من ذلك هو الحماية المجتمعية، لاسيما في الدول التي تضعف فيها سلطة القانون وتكثر فيها الخروقات القانونية والأمنية من دون أن تتمكن السلطات الحكومية من ملاحقتها واتخاذ اجراءات رادعة تحد منها، وهنا يحضر دور المجتمع الذي يوفر بيئة آمنة للصحفي وهو يؤدي دوره ويمارس حريته المسؤولة بلا خوف ولا مجاملة ولا تهاون.

ما بين غمزة الرئيس اللبناني الراحل شارل الحلو، وشخصية الصحفي «محفوظ عجب»، والراقصة الخصوصية بتاع السرايا  «سوسن رفقي «، تجد في عالم الصحافة والسلطة أشياء وأشياء من الأسرار والحكايات والخفايا والغرائب والابتزاز وتبادل المصالح .. والكثير من العجب!.

يوم مبارك للصحافة العراقية، وللصحفيين العراقيين النجباء الذين يحملون وطنهم في قلوبهم وضمائرهم وحدقات عيونهم، ويذودون عنه بمداد أقلامهم.

***

د. طه جزّاع

يمكن للأدب أن يكون صورة عن الواقع الإجتماعي بأبعاده النفسية والفكرية والشعورية والمادية، بل قد يكون الأدب الضوء الذي يتم تسليطه على معاناة معينة ويتم لفت نظر المجتمع لهذه المعاناة وبالتالي إيجاد حلول جذرية لها، أي أن الأدب يمكن أن يكون مرآة لكل ما يدور في المجتمع وبقدر جديته وتركيزه على القضايا الانسانية يكون نجاحه بأن يتحول لجزء من الواقع الإجتماعي وليس مجرد إنعكاس له، فكم من الروايات غيرت مجرى حياة الكثير من الناس بل غيرت مفاهيم متجذرة في المجتمع . ولكن الأدب أيضاً له وجه آخر وهو الوجه الخيالي، أن يتمكن الأديب من نقل القاريء العادي إلى عوالم من الخيال الذي لا يمكنه أن يتخيله كشخص عادي، أن تتحول الرواية الخيالية إلى رحلة إلى مجهول آخر جميل ومثير ومحرك للذكاء والفضول، يعلم القاريء والكاتب أنهما يبحران في عوالم خيالية ولكنهما قُبِلا ومنذ البداية على الذهاب في تلك الرحلة عبر الخيال والخيال فقط، فيطلق كل منهما العنان لمشاعره وأفكاره بالإبحار لتلك العولم الخيالية بلا قيود ولا حدود لزمان أو لمكان، بل قد يبدو أن هذا الأدب الخيالي من أجمل ما يعتري النفس البشرية بتحرريها من كل ما هو واقعي، وهذا الخيال يمنحها بعداً آخر للواقع الذي تعيشه، فهي تخرج من قيودها عبر الأدب الخيالي وترحل معه بعيداً عن الواقع وحين تعود لواقعها تعود محملة بكل تلك الصور الخيالية، فيحصل المزج ليس بين الصور الخيالية والواقعية بل يحصل المزج في عالمين من الشعور لأن الشعور لا يفرق بين ما هو خيالي وما هو واقعي، لذلك يحلق الشعور بالقاريء إلى فضاءات أخرى حتى ولو كانت أفكاره متجذرة في العالم الواقعي. وحين يكون الأدب صورة عن الواقع لابد أن يكون شديد النقاء وشديد الدقة في نقل تلك الصورة الواقعية، لأن الخيال يسمح بالإلتفاف حول الأفكار ولكن الواقع لا يسمح بذلك ولا يسامح على ذلك الإلتفاف، حين يكون الأدب واقعياً لابد أن يكون حزيناً حين يكون الواقع حزين، لابد أن يكون غاضباً حين يكون الواقع غاضب، لابد أن يكون مملاً حين يكون الواقع ممل، الأدب الواقعي عالم جدي جداُ ولابد أن يكون الأديب على درجة من المسؤولية والإدراك حين يكتب عنه لأنه لا ينقل صور فقط بل يرسم حياة بأكملها على الأوراق ولا يُسمح له بتزوير ما هو واقعي .

إذا كان الواقع خارج ذواتنا ثابت ولكنه بأعماقنا ليس ثابت، فنحن نرى الواقع بمنظار المشاعر والأفكار ونحاول أن نفهم الواقع عبر ما يدور بأعماقنا، فيكون دور الكاتب رؤية الواقع واستقراء ما يدور بداخل الأشخاص من حوله، أي أنه راصد للواقع وبذات الوقت يحل شيفرة الذات الداخلية لانسان، لأن الحياة ليست الواقع فقط، بل هناك عوالم أخرى تمتد لأبعد من الواقع الذي نحياه وعالم الفيزياء يؤكد هذه الحقيقة بجميع ابحاثه العلمية، ويبلغ إبداع الكاتب أقصى حدوده بمقدار تجاوزه لحدود هذا الواقع وبمقدر سبره للأعماق الدفينة لما يدور في الذات البشرية وإستشعاره لتلك العوالم الأخرى خارج حدود الواقع وأبعد من حدود النفس البشرية.

ولكن ما الذي يبحث عنه الكاتب حين يكتب عن الواقع؟ هل يبحث عن الحقيقة، الإثارة، أم أن يجعل كتابه أكثر مبيعا حتى ولو كتب عن كل أنواع الشذوذ الأخلاقي والنفسي مقابل شهرة دائمة أو مؤقتة؟  الكاتب الباحث عن الشهرة وتألق الأسم مهما كان الواقع الذي يكتب عنه، يبقى كاتب ولكنه لا يلبي المطلب الانساني والأدبي الأول وهو البحث عن الحقيقة، لأنه لم يبحث عن الحقيقة ولكنه بحث عن النجاح عبر ما لفظه المجتمع وأحتقره من تصرفات أو أفكار، لا يمكن أن يكون أديب ولكنه ناقل للغرابة للإثارة وبأي ثمن، القاريء حين يقرأ كتابته لا يقرأ له فعلياً ولكن يقرأ عن الغرابة والشذوذ وما خرج عن المألوف، أما الأديب الحقيقي فهو من جذب القاريء لكتابته عبر الأبعاد الانسانية المتجذرة في الذات البشرية، فمهما ابتعدت هذه الذات عن قيمها الانسانية تشعر دائماً بالحنين لهذه القيم وحين تجدها في أدب لم يتجاهلها تستعيد اطمئنانها بأنها لم تفقدها تماماً بل قد يُعيد الأدب لها الرغبة بأن تعود من جديد لهذه القيمة لأنه بدونها أصبح انسان آخر أقل انسانية . الأديب الحقيقي هو من حافظ على ملامحه الانسانية في كل المواقف وفي كل السطور والصفحات، لم يحافظ على هذه الانسانية ليبدو أجمل ولكن لأنه و ببساطة لا يستطيع أن يعيش بدونها لا يستطيع أن يكتب بدونها، لذا يبدو أن أكثر الدباء العالميين شهرة هم أكثرهم انسانية ورقة وشفافية .

قد يكتب الكاتب عن الواقع  ولكن مهمته الأساسية هو أن يكشف ما يقبع خلف الواقع من مشاعر، مشاعر قد تكون نبيلة وقد تكون وضيعة، قد تكون مثالية وقد تكون مادية ولكنها المحرك لكل التصرفات الانسانية، قد تنحرف بسبب الطمع والحقد، وقد تتخذ المسار الصحيح بسبب الحب والنزاهه، جميع الأعمال الأدبية تحمل ذلك الوجه الواقعي للعمل الروائي ثم تحمل ذلك الوجه الخفي لما يدور في الذات البشرية وما يدور في الذات البشرية يبدو أكثر تعقيداً مما يدور في الواقع الحسي، لأنه بداخل هذه النفس تكمن جميع المشاعر، جميع الرغبات، جميع التطلعات وايضاً آخر محطات اليأس والانسحاب غير المعلن.

ولكن هل الأدب يأخذ دور المصور الفوتوغرافي للواقع؟ إذا أكتفى الكاتب بأن يأخذ دور المصور فهو فعلاً يكون مصور فوتوغرافي ليس بالكاميرا الخاصة به بل بالكلمات والحروف والجمل، وهو بذلك لا يُضفي شيء جديد للقاريء، كل ما يفعله هو أن يزود القاريء بالصورة ونجاحه لا يكمن إلا بمقدار صفاء الصورة، وهو لا يفعل سوى اعطاء القاريء فرصة رؤية الواقع مرتين ليس إلا . ولكن العمل الأدبي الفني لا يكتفي بأن يأخذ دور الكاميرا بل يمنح للواقع صور أو حتى عدة صور مختلفة الألوان والحركة والتفاعل، يضع رؤية جديدة لكل تفاصيل الصورة، لأنه يرى الأحداث من منظار متعدد الأبعاد والزوايا وليس من منظار الكاميرا المحدود، الأديب الفنان يرى الواقع من عدة أبعاد وليس من بعد واحد، يكتب عما هو بسيط بلغة عميقة، ويكتب عما هو معقد بلغة بسيطة لأنه يفكك الواقع ويعيد تشكيله برؤية الانسان الأديب وبمقدار وعيه الانساني والثقافي تأخذ هذه الصورة الواقعية أبعاد أوسع، ولهذا يبدو أن الأديب الحقيقي له دور غير دور الكتابة الأدبية، له دور إيجاد الحلول أيضاً لمشاكل انسانية لأنه يرى العالم بمنظار متعدد الأبعاد .

من ناحية أخرى، لابد أن نتعلم كيفية قراءة الأدب، خصوصاً لمن قرأ الكثير من الأعمال الأدبية، لابد أن تتوفر مهارة رؤية كل عمل أدبي بنظرة جديدة ودون افكار مسبقة تقارنها أو تشبهها بعمل آخر، فمهما تشابهت الأعمال الأدبية خصوصاً حين تتحدث عن الواقع فإن روح كل كاتب تختلف عن الآخر، وعملية الكتابة عملية روحية بالدرجة الأولى رغم كونها تتصل بجميع العلوم الأخرى، ولكن العلاقة الأصلية والأساسية بين الكاتب وما يكتب هو صلة روحية مع ما يكتب، ما دفعه للكتابة ليس الألم أو الفرح وإلا يمكن لكل انسان يتألم أو يفرح أن يكتب، ما دفعه للكتابة هو نداء الروح بأن تتسلل الكلمات بهدوء دون هدف ودون غاية لتبدأ بنسج تلك العلاقة الأدبية بين الكاتب وأوراقه، هذه العلاقة الروحية تنشأ حين يكتب أول سطر ولا يدركها في البداية ولكنه مع استمراره في الكتابة يستشعر هذه العلاقة بقوة أكبر، لا يستطيع وصفها لأنها خارج حدود الوصف، ولكن كل ما كتبه يحمل طيف هذه الروح الشفافة الخفية .

وأخيراً، لكي نستمتع حقاً بالأدب لابد أن نتخلى عن جميع أفكارنا حول الموضوع الذي نقرأ عنه أن نقرأ وكأننا لا نعلم، أن نقرأ وكأننا نشعر لأول مره، أن نقرأ وكأننا برحلة اكتشاف الحياة، وحين ننتهي من القراءة يمكن لنا أن نستعيد أفكارنا المسبقة ونكتشف إن كنا قد اضفنا شيء أجمل أرفع أنقى لأفكارنا أم أننا اضعنا الوقت والجهد بقراءة ما لا يستحق القراءة . قراءة الأدب لا يجب أن تخضع للنقد خلال القراءة ولكنها تقدم نفسها طواعية للنقد بعد القراءة خصوصا حين يكون هذا الأدب يتحدث عن الواقع.

***

د. سناء أبو شرار

من البداية نقر بالإلزام أن هنالك مجموعة من المصطلحات الكبرى التي قد لا تَلْقَى اعتبار التوافد في الدلالة الرمزية، وبيان المعنى الحقيقي على مستوى (الخطاب الفكري)، لكنا قد نُطلقُ عنان اللغة في اقتحام التأويل (التجديد العقلاني والنقدي للتاريخ الثقافي)، ولما لا استيفاء رمزية الدلالة السيمائية بكل أريحية. فحين التفكير في شكل القطيعة بين الواقع والخيال، وبين الماضي والحاضر، فإننا نلعب لعبة الطريقة البولسية (البطل واللص) في البحث عن مستوى (الخطاب الفكري) بتنوع الروافد، وقد نقف عند علو سد فارغ وجاف من أثر الخطاب، وركام من الفكر الذي لا ينتج طاقة مياه تغير الواقع، وقد يرتكز التفكير عند مستوى المياه الراكدة، ببحث في خطاب الحواشي والهوامش.

فالحراك في فكر ذاكرة لغة الدلالة الداخلية (النظام المعرفي)، والتي تتأسس على الإنسان باعتباره (علامة من نسقية) من البنيات الثقافية. فلطالما الحداثة (البعدية) تخلق نوعا من غرابة تناسق (الخطاب) وائتلاف (الفكر) باعتبارهما من المتناقضات المتجانسة وغير المتنافرة كليا.

وقد تصل لغة العداوة بين (الكاتب والناقد) و(الكاتب والقارئ) في أثر الفكر. فالمهادنة في الدراسات الثقافية غير قائمة الذات، بل متحركة مثل الرمال المتموجة. من تم، يمكن الاصطلاح على تلك الفجوة القاتلة، بتسمية القطيعة الفيزيائية (الثورات العلمية مطلع القرن العشرين)، بين أثر الرسالة وأداء المرسل في الفكر من جيل لآخر ممتد.

اليوم، بات الكتابة تحمل شفرات الرقمنة و الذكاء الاصطناعي، بات فيها القارئ يتفاعل بالشكل المباشر مع النص الفكري/ والخطابي، وفتح قنوات الاندماج مع الرسالة، ولما لا خلق حالات من الضبط والتصويبات وملاحقة اللواحق، وبناء أجوبة متنوعة لتلك الكتابات التي يمكن أن تنتهي بأسئلة استنكارية، ولما حتى الإخبارية منها، القابلة للتأويل والبحث عن اللاممكن في متغيرات الخطاب.

فمن تمثل القارئ المستهلك السلبي والنمطي في نَهْلِ المعرفة والفهم، إلى ثنائية القارئ التفاعلي، الذي قد يصبح عدوا ليس للكاتب والكتابة، بل عدوا وناقدا حربيا في تطوير(الخطاب الفكري ) والنص، بعيدا عن أدب (الشكلانية). فالناقد النبيه (المسالم)، هو الذي يحبب القراءة للمتلقي و الباحث، ويُزكي توافق خطاب الكاتب و فكر المتلقي. أما النقاد من علو منبر الثقافة السمجة، ومن جهابذة علماء الشَّدة والجرِّ فَهُم ْبحق من أفزع ممارسة فعل القراءة، وبدا الكتاب يماثل الصنم الأكبر الذي حطم رمزية أصنام الثقافية والمعرفية الصغرى.

لعنة اللغة والمعنى بين الكاتب و القارئ تستفحل حدة بزيادة العداوة والغربة من داخل لغة الخطاب، فبالأحرى مع فكر القارئ المتردد والمتنوع. من تم قد تبيت الثقافة تتسم بالتحنيط، وتصيبها تعرية الحث في الزمن والمكان والحدث، وفي دلالة المعنى ونوعية الإيديولوجية. إنها الكارثة الآتية من زمن هجاء (يغرف من البحر وينحت في الحجر)، والتي أفسدت الثقافة برؤية العصيان (أنا ربكم الأعلى!!)، وأتلفت مشية الكُتابِ والقُراءِ بين نظارة الحمامة وحفرة ثقافة التناقل الذي صنعها الغراب من تاريخ قابيل وهابيل (الكاتب والناقد).

المشكلة العويصة أن تلك التيارات التقاطعية بين ثقافة الماضي، ومنتجات ثقافة الحاضر يستبيح (الصدمة الثقافية)، وما يفد من عولمة المعلومة وكونية المعنى ونقد الآليات المنتجة للمعرفة ( المنهج الابستمولوجي)، الأمر يسقطنا في تنازع الأفكار بين تمثيل رمزية (الأنا/ الهوية) و(الآخر) بالتحدي، بين (الماضي) في رمزية (الذهب) و(الحاضر) في عجز تسمية (الحديد). من تم قد نتخلى عن الذوات من شدة التحدي (الغربي) والانبهار مع منتجات (الآخر) المستنيرة بالمفرقعات المدسوسة في ثقافة الاستلاب وقتل القيم.

قد نتقمص (الأنا) العلوية (الطاهرة)، ونلبس ثوب الأسلاف ثقة في (العقل الأخلاقي)، ومفهوم (العقلانية التأسيسية)، وقد لا نحيد قيد أنملة عن اجترار المتون والحواشي (بداية التخلف)، ثم نسقط في تثمين (الماضي) باختلافه، ونجعل من (الحاضر) رمز البؤس والتيئيس، وقد نتخلى عن الذات، وما ورد من قيم الماضي ونرتمي في حضن (الآخر) و(الحاضر) المتعري بكل أنواع التفاهة ومفزعات عولمة. 

***

محسن الأكرمين

منذ الأزل ظل تاريخ الكون مجهولاً، من خلقهُ؟ وبأي طريقة خُلق؟. نظريات وهمية ليس لها في الرأي العقلي من أصل، الى ان جاءت أرشادات السماء لتدون لنا نظريات الخلق، فبدأ العقل الانساني يفكرفي ربط الظواهر، والتمييز بين الحقيقة والوهَم. ساعتها شعر ا ن لابد من خالقٍ لهذا الكون مدبر له، فمن هو هذا الخالق أذن؟من هنا بدأت قصة الحياة من جديد، لكن الحَيرة ظلت تلازم عقله حتى ادرك المعرفة الكلية لخلق الكون بعد ان اصبح مدركاً للاشياء المحيطة به، رابطا للظواهرالعلمية بعضها ببعض وخاصة ظهورالشمس والقمر وغيابهما، من هنا يحق لنا ان نقول :  ان العقل هوأول مخترعات الأنسان،

وحين بدأ الانسان المدرك يستخدم الذهن استخداما منظماً اصبح التفكير العقلي متناولا دراسة التجربة الانسانية على الارض، فبدأت دراسة الماضي لمعرفة نشأت الحاضر لتستطيع توجيه المستقبل، حتى اصبح يشمل التجربة الانسانية كاملة، وبالتدرج الزمني ظهر الفقه الديني الذي نشأ فيما بعد لتفسير ما غُمض من اسرار الكون حسب النص الذي صار مقدساً عنده، فانتشرت فكرة الاديان في المجتمعات الانسانية حتى اصبحت غريزتها الوهمية تتغلب على العقل وتذلله لرغباتها، "الغريزة اقوى من العقل"عند بعض الشعوب المتخلفة، من هنا بدأت عملية الصراع بين العقل والعاطفة التي استخدمتها السلطة لصالحها، فكانت نظرية الصراع بين العلم والدين، اي بين العقل والنص.

ومن أجل ان نعرف الحقيقة للتخلص من الأخر المجهول، يقول العالم :  فريمان الانجليزي، شعوب أدركت الحقيقة العلمية فتقدمت بعد ان احتاجت لكل جديد في المخترعات فكان اختراع الطباعة في الصين وانتقالها لاوربا فيما بعد. وشعوب غطست في الوهم النصي فتأخرت، فالمسلمون مثلاًفي غالبيتهم اعتقدوا ان الله هو الذي اعطى الانسان العقل والفكر والحكمة، فالفكر هو الذي يخترع واليد هي التي تعمل، وبهذا التوجه انتقل الانسان الى التقدم الحضاري، لكنه بقي زمنا طويلا لم يتمكن من حل معضلة كيفية قيام الحضارات لان الفكر المقيد من الجانب الديني بتفسيراته للنص ظل حجر عثرة في انفتاحية التفكيرعلى كل ما يتعارض معه. من هنا بدأ التعارض والخصام بين العلم والدين،

اذن هل كانت عقيدة الدين من اجل الخصام المستمر بين البشر الانسان، فاذا كانت من اجل الوحدة والعدل كما هو شائع عندهم، اذن لماذا أنفرد الفقهاء بتعدد الأديان والمذاهب التي لاوجود لها في الدين وطبقات المخلوقين، فاين الخطأ في الدين ام في اطروحاتهم الوهمية التي لا اصل لها في الدين؟. وهل كانت شعوب الارض كلها لا تستحق دين المسلمين الا نحن، اذن لماذا هم المتقدمون، ونحن اصبحنا في الركب الاخير، كيف نفسر النظرية، فسروها لنا يا فقهاء الدين، المتعجرفون؟. فقد مللنا منكم الرأي، ومن به تعتقدون؟.

ومادام الاصل مجهولاً فلمَ المبالغة في أختلاف المجهول، واذا كان هو سبب ثبيت المجهول دون القانون، عرفنا سبب اعاقتنا عن التقدم، فنحن لا نريد دينا من هذا القبيل دون قانون وعلم لا يقوم على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل دوما متعطشا لكل جديد، واذا كان الدين هو العدالة والحقوق كما أخبرتنا كتب السماء التي وصلتنا بعد ان احتاجت الى وقت طويل، فنحن أول المتدينين، ولكن من حقنا ان نعرف أصل التكو ين وحقوق الآدميين وكيفية التطبيق، حتى ننهي نظريات الاختلاف بين الانسان، والدين، التي يطرحها الفقهاء الوهميين والذين فسروا النص المقدس تفسيرا ترادفيا قبل ان تستكمل اللغة تجريداتها الحسية، فجاؤونا بأفكار لا تتفق وطبيعة الانسان والدين، مذاهب الشيعة والسُنة وما تفرع منها من اللامعقول؟

كل الديانات السابقة بقوانينها طبقت على منتسبيها دون اعتراض سوى التعارضات في الرأي والتطبيق، الا الاسلام الذي نتحدث عنه منذ عهد ابراهيم ظل يعيش بيننا بقوة السلاح لا بقناعة المنطق في التطبيق نتيجة انفراد الحاكم به دون الناس. فأبراهيم اراد ان يذبح ابنه قربانا للأخرين، لكن ابنه الانسان رفض الا اذا جاء بأمر من اله السماء (افعل بما تؤمر) فالحياة الانسانية ليست هي ملكا للحاكم دون دليل. وها هي النتيجة اليوم التي اوصلتنا الى العدم في دولة فاشلة تقتل العلماء والمفكرين بلا قانون معتمدة على غيبيات يرفضها الدين، (لوكنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء) الفرق، ان الاسلام حمل الوعد والوعيد دون ان يصاحبه قانون التقييس، حتى قانونهم الديني المزيف يعيش في رؤوس الناس دون تطبيق، هنا المصيبة الكبرى التي ظلت تلازم المسلمين حين فقدوا قانون الالزام في التطبيق.؟فأصبح الدين العائق الاول في التقدم وحقوق الأدميين.

أما العلاقة بين الله والناس علاقة عبادية حرة حددها النص لا الفقيه. من هذا المنطلق ندعو الى تعريف الكفر والشرك والاجرام والالحاد فلا زالت الاصطلاحات مبهمة لم تعرف سوى تعريفاً لغويا أحاديا وترادفياً، لعدم قدرة الفقهاء على الحل، فالاسلام توحيد ومثل أنسانية عليا غير قابل للتسييس، وان محاولة البعض تسييس الاسلام، والبعض الاخر أسلمة السياسة، اضاعوا السياسة والاسلام معاً.

من الخطأ ان نسمي الناس من نوح الى محمد بالكافرين، انهم كلهم من المسلمين بدلالة الاية الكريمة (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، أعد الله لهم مغفرة وأجرأ عظيماً، الاحزاب 35). من هذه الاية نفهم أمرين، الاول ان المسلمين والمسلمات شيء والمؤمنين والمؤمنات شيء اخر، لذا فأن الاسلام يتقدم على الايمان ويسبقه في تنفيذ الشريعة الربانية. اي منذ مجيء آدم وبداية التجريد الانساني، حيث بدا الايمان يرافق الاسلام خدمة في التطبيق، والالزام بضرورة عدم تجاوز النص، لكن ظل بلا قانون، والدين ان لم يرافقه القانون لا نكسب منه الا الضرر، فالدين لا يمكن ان يُكون دولة دون قانون، انظر كيف قامت دعوة المسلمين التي لم تستطع تكوين دولة خلال 656 سنة لانها كانت بلا قانون، بينما اوربا استطاعت ان تلغي دولة الكنيسة التي كانت بلا قانون، وهكذا حصل التقدم، في ظل القانون.

ان الاسلام فطرة، والفطرة تعني الايحاء الفكري للبشرجميعاً بضرورة التدبر في الحياة بالتعاون الجماعي وتطبيق العدالة لتسود المجتمعات الامن والامان والاطمئنان على النفس والمال والعرض، هنا الفطرة احتاجت الى رسالة سماوية انسانية لافهامها للناس بكل حرية، ولم يعطِ الله لرجال الدين صلاحية التصرف بالبشر كما نلاحظه اليوم حتى اماتوا الدين والبشر معاً بلا قانون، وكيف قامت دولة الاوربيين الحضارية عندما قضت على اراء الكنيسة دون قانون. فالاسلام لا يعترف بوكلاء عنه، ولا يخول احد حق الفتوى على الناس ولا يعطيهم حق الافضلية، والنصوص واضحة في ذلك لا تحتاج الى برهان. اذن لا مرجعيات ولا رجال دين، ولا فقيه ولا ولي الفقيه، كلها ألاعيب السلطة لا الدين.

الاديان كلها قوانين ربانية لم يحسن الفقهاء شرحها للناس خدمة لصاحب السلطة الذي ساووه مع الخالق العظيم:  "اطيعوا الله والرسول وآولوا الأمر منكم"وآلوا جمع لا مفردله من جنسه، وآلوا ليس جمعا لولي، فهل ادرك المفسرون الخطأ الذي وقعوا فيه، كفاية تدليس.

اين كتابنا الذين يكتبون ومثقفينا الذي يفلسفون وهم لاهون بابحاث وكتابات سطحية تملأ الخزائن كمعدة البعيربمجلات واطاريح جامعية ما انزل الله بها من سلطان، كالجائع الذي متى ما احتاج للطعام ارجعه منها للاجترار. هنا سر التخلف والانغلاقية والجمود في مجتمعاتنا العربية والانسانية، واليوم همهم الشهادة الجامعية وليس محتواها العلمي في التطبيق، لدرجة بدأوا يجرأون على استبدالة علم الفلسفة بعقيدتهم الدينة الفقهية الخائبة والبعيدة عن ماهية الدين. وحين تزور معارض الكتب وبهرجتها الاعلامية لا تخرج الا بهذه النتيجة الغير النافعة لتظيفها الى خزانة كتبك لتملأها ضعفا لا قوة. وقد ابتلينا في مجتمعاتنا العربية ، بثلاثة مجمعات دمرت عقل الانسان، الازهر في مصر والمرجعيات الدينية في ايران والعراق وجامعة الزيتونة في تونس وكلها غثاء كغثاء البعير.؟؟؟

فعلى سبيل المثال لم ارَ كتاباً عالج لنا مسألة التبني وملك اليمن سوى كلمة (حرام) التي تتصدر كل فكر ظلامي منغلق، فالتبني عملية انسانية ليس فيها ضيرأ، اما غيرنا من المستشرقين فقد أسهبوا في الصح والخطأ حتى كونوا لنا دائرة معارف فكرية في هذا المجال مطروحة للمناقشة والحوار، فلماذا نحن بعيدون؟. هنا نحتاج لحاكم متفتح جريء يؤمن ويقول وينفذ، وهذا الحاكم الجريء لم يظهر فينا الى اليوم. بينما هم وجد عندهم هذا الحاكم الجريء المنفذ لكل رأي صحيح، فتقدموا.

هناك امورا كثيرة بحاجة الى تعريف حقيقي وواقعي غير تعريف الفقهاء الذين حولوا الاسلام من اسلام آلهي الى اسلا مهم المقيت، كالفريضة والوصية والموعظة والذنب والسيئة والعبد والعبيد والمواثيق وقوانين الزواج والطلاق وضرورة ايجاد فقه موحد عند المسلمين وترك خرافة المذهبية والتفريق والدك واللطم والبكاء على السالفين، وفي الاراء والمعتقدات التي اشبعتنا فرقة وتخلفا وهي من صنع العباسيين ومن جاء بعدهم من الترادفيين. والتي هي ليست من الاسلام في شيء ابداً، لكن غالبيتها من صنع المنتفعين فقهاء الأحاديث المزورة كمسلم والبخاري وابن ماجة وبحار الانوار. فاين حاكمنا الفذ الذي نرى فيه صدق القول ومعرفة اليقين؟فأذا بقيتم على ما أنتم فيه أتركوا الدين لحاله واعبدوا ما به تعتقدون.

نحن بحاجة ماسة الى تصحيح المفاهيم وخاصة ما يتعلق بالعقيدة ونزعها من المحتكرين الذين اماتوا عقولنا وافكارنا وجعلوها مقفلة لا ترى النور، فالعقيدة تتناقض مع البندقة والسيف، وتتوافق مع الرحمة والسلام ومن يقرأ ويتمعن يرى ان لادولة اسلامية ولا دولة علمانية، ولا حزب اسلامي، بل دولة الحق والقانون. وهذا هو الاسلام الذي جاء به محمد(ص) وكتب له الوثيقة المغيبة اليوم من فقهاء الدين، ونحن ندعوا للكشف عنها وهم الذين يستميتون من اجل عدم تطبيقه أو أظهاره للناس أجمعين، لانه بأظهاره هم ينتهون، فهل من حاكم عربي مسلم يتبنى نظرية الاسلام الصحيح لينقذه من برائن الطارئين، لمَ لا تكون لنا سابقة المجددين المصلحين، ام نبقى نزور بما قاله الامام جعفر الصادق(ع) والامام ابو حنيفة النعمان(رض) والذي ابتكر منهما مذهب الشيعة والسنُة المزورين والامامين براء منهما؟

الدولة الدستورية ملزمة بالقانون الى وضع منهج جديد في أصول التشريع الاسلامي وملزمة بتعيين الكفاءات العالية في مناصب الدولة العليا وليس من هب ودب من المتخلفين كما حصل بعد التغيير في 2003، وبسلطة منتخبة شرعا وقانونا من المواطنين، مستقلة نظيفة أمينة على الدستور والقانون، لا خاضعة لفقهاء التخريف، ومنهج قائم على البينات المادية واجماع أكثرية الناس، وان حرية التعبير عن الراي وحرية الاختيار، هما أساس الحياة الانسانية في الاسلام، وترك تعاليم الأزهر والمرجعيات الدينية الميتة في ايران والعراق وجامع الزيتونة في تونس وغيرها كثير،

وهذا ليست مِنَة من أحد، بل واجب مقدس ملزم بحدود الايات القرآنية الحدية، ملزمة التنفيذ. هم يمنحون الامتيازات لمن لا يستحقون ويحجبونها عن الاخرين من المواطنين بحجة القبيلة والدين، نعم والف نعم هم الكافرون المجرمون الذين لا يستحقون، يقول الحق: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، الفتح 28). والعاقبة للمتقين. كفاية كتب واطاريح ومقالات التخريف.

واخيراً نسئل من يدعون بدولة الاسلام الفقهي، لماذا هم وابناؤهم يهرولون ويركعون من اجل الوصول الى دولة الكافرين في اوربا وغيرها من اجل الامان والقانون، لو يؤمنون لعاشوا في دولهم الخائبة بلا قانون. كفاية تدليسا ايها المنافقون. نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها وينشرها بين الناس، فأطلب الحق وان قل.

***

د. عبد الجبار العبيدي

عُد التعليم العالي في كل دول العالم هو المدخل الرئيس للتقدم والتطور في كل مجالات الدول المتقدمة، فهو الذي يؤسس لتحديث الإدارة والمصارف والتعليم الأساس "الإبتدائي والمتوسط والثانوي" والتعليم الجامعي، فهو ينظم المنهج الدراسي ومنهج التعليم بمختلف تخصصاته، الطبي والتقني " الهندسة والتكنولوجيا" فضلا عن مناهج المجموعة الطبية بمختلف أنواعها، فهو لابد أن يواكب هذا التحديث لكي يتكيف مع ما يجري مع التعليم في كل دول العالم.

تؤكد لنا التجارب النفسية والتربوية على مستوى الفرد كيف أن الفرد المتكيف تماما مع مجتمعه في الحياة اليومية ربما يصل إلى درجة من الآلية وعدم القدرة على التجديد تجعله قليل التلقائية والإبداع في مجال تخصصه، لا نقول أنه مسلوب الإرادة بقدر ما يمكن أن يكون متآلف مع أزمات مجتمعه. أما لو نظرنا إلى التطور على أنه يشمل القدرة على التغيير والتجديد تجعله مع درجة من الرفض للواقع الذي قد تتحول إلى درجة من عدم التكيف.

أما على مستوى المجتمع نستطيع أن نرى كيف أن المجتمع وهو في مرحلة التجديد أو التغيير وهو يعايش الصناعات والأجهزة والتكنولوجيا وأدوات التواصل بكل نجاح لأنها تفرض عليه مواكبة هذا التطور والتحديث ويمكنه أن يجاريه ويستمر معه في قبول أحدث المنتجات العلمية في العالم ويتقبلها ومنها الأجهزة الكهربائية والموبايلات وبناء البرامج المختلفة التي يؤثر على شريحة كاملة من الشباب، وأنظمة التواصل الاجتماعي فضلا عن موجات الملابس والموضة والماركات وغير ذلك.

تؤكد لنا التجارب أن في مختلف دول العالم التي تعرضت إلى أزمات وثورات وحالات الحصار وفرض العقوبات الدولية وغلق الحدود، إلى انغلاق التواصل مع العالم، وفيه ينسحب المجتمع من مواكبة التطور والتحديث ولكن ما أن تبدأ دورة الحياة يعود الانفتاح على العالم الخارجي بعد الوصول إلى درجة الاستقرار، حيث بات من المؤكد أنه لابد أن يجمع الفرد وكذلك المجتمع والمؤسسات التربوية والتعليمية بين ثورة التكنولوجيا القادمة من الخارج وتأثيرها على المجتمع، وقدرته على المواكبة وهو أمر فيه من الحالة السوية الصحيحة، والمفروض أن يواكب هذا التطور التعليم أيضًا بكل مراحله لأنه جزء من التطور الكلي لمجالات الحياة، ففي العراق لم نلاحظ مواكبة التطور والتحديث في المناهج والأساليب الدراسية وطرائق التدريس، وخلق دافعية الطلبة نحو التعليم ومشاهدة تأثيرات التكنولوجيا في الصناعات التي وصل لها الغرب، ظل الفرد العراقي مبهورًا بما حققته الصين أو كوريا الجنوبية بصناعاتها العملاقة فضلا عن التطور الذي وصلت له تركيا في صناعاتها وقدرتها على تجديد السياحة والتعليم ومناهجها الدراسية التي صنعت إنسان جديد واعي مواكب للتطور والتحديث في كل مجالات الحياة.

ويمكننا القول إذا لم يستطيع التعليم العالي في العراق وهو المحرك للتطور والتحديث في احداث تغيير من خلال برامجه ومناهجه وأساليب التعليم فإنه سوف يظل في حالة تدهور ومعه يتدهور الأساس في ذلك وهم الشباب وهي مادته الأساسية، وهو المحرك الرئيس في البناء، يبدأ يتشكك ويثور ويسعى إلى التغييرات الجذرية ومن خلال تلك الثورة يبحث الشباب عن هويته الجديدة في العالم خارج وطنه، ولكي لا تكون أساليب التعليم في العراق أساليب وأنظمة جامدة ومتحجرة تقاوم وتصد أية مبررات لأي فكر جديد وأي تحديث أو تطور، عليه أن يعيد الحسابات في هذه المهمة الشاقة والصعبة.

***

د. لمياء حطاب رحيم

الكلية التربوية – البصرة

شكلت العولمة انعطافاً كبيراً في حياتنا الحديثة والمعاصرة، بما في ذلك تفاصيل كل الحياة التي دخلت فيها من حيث الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية..الخ

وعُرفت العولمة بأنها: عملية من التكامل في الاقتصاديات والاجتماعيات والثقافات التي تنتشر في العالم، ومنها الثقافة في تراث الشعوب التي تدخلت بها أي العولمة لتصنع منها وجهاً ثقافياً بشكل آخر.

وهذا ما يجعل العولمة أنها أخذت بتاثيرها الواضح المعالم، ليس في الثقافات العالمية البعيدة عن ثقافاتنا في مجتمعنا العربي، بل كان لها التاثير الواضح في ثقافتنا العربية المعاصرة، التي تاثر بها جمع هائل من مثقفينا والشباب خاصة منهم، وغلبت على طبيعة حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والارث الثقافي ايضاً.

وكان من أهم التأثيرات التي واجهتها الثقافة العربية، هو تعرضها لتأثيرات الثقافة الغربية والتي حملت شتى أنواع المعرفة الانسانية وغيرها، وهذا التعرض سيؤدي حتما الى التغيرات في القيم والمعتقدات والسلوك وأنماط الحياة التقليدية العربية التي تربى ونشأت عليه أجيال متعاقبة .

فضلا عن ذلك فأن اللغة العربية هي الأخرى قد واجهت التأثير عليها من اللغات الاجنبية وخاصة اللغة الانكليزية، باعتبارها لغة عالمية بسطت نفوذها منذ ظهرت الحركات الاستعمارية او اختيارها كلغة عالمية للتفاهم بين الشعوب، أو نتيجة الهيمنة الاستعمارية التي كانت من قبل بريطانيا في القرون السابقة (التي لا تغيب عنها الشمس) نتيجة اتساع سيطرتها على دول عديدة غطت سيطرتها في الشرق والغرب .

ولكن، هل هذا يعني ان الثقافة العربية اصبحت جانب سلبي مستقبل وغير منتج إن صح التعبير؟ وبتعبير آخر إن الثقافة العربية، لم تؤثر ولم تبسط حضارتها ونتاجها الفكري وغيره؟ الواقع إن الثقافة العربية ، بفعل ما تمتلك من خزين وتراث وإرث قديم وحديث ومن مبدعين وفنانين وأدباء وعلماء، وبفضل التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي جزء لا يتجزء من جسد العولمة) ان تعزز من قوتها وفرض وجودها.

نعم ، لقد أعطت وساهمت وقدمت بحكم التفاعل مع العولمة الذي جاءت به العولمة ذاتها.

مع ذلك، ورغم تواجد فرص كبيرة للثقافة العربية مكنها أن تعزز من تفاعلها مع العولمة من خلال التبادل الثقافي، وتسهم في انتشار الأدب العربي والفن العربي في جميع أنحاء العالم. بفضل التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح بالإمكان للمبدعين والفنانين العرب الوصول إلى جمهور أكبر وتبادل أعمالهم وآرائهم وطرح ما يمكن طرحه من أفكار تتفق أو لا تتفق مع منهج الحياة العالمي، او بكل ما يصدر من إبداع إنساني عربي معاصر..

إن الثقافة العربية، تلعب دوراً هاماً في التعايش الثقافي والحوار بين الثقافات المختلفة، كما يمكنها أن تسهم في انتشار الأدب العربي والفن العربي بكل أنواعه، وبالاضافة الى الحكايات الشعبية التي تشكل موروثا شفاهيا لا غنى عنه، مما يمكن للغرب ان يطلع عليه والغور في دراسته، إضافة الى التعرف عن قرب بطبيعة المجتمع العربي وخصائصه. وهذا يقود المبدعون الى الوصول الى أكثر مساحة للتواصل والتعارف والاطلاع مع المبدعين في العالم، وبالتالي تعزز عملية التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب.

إن آتساع هذا التبادل والتفاعل الثقافي والسعي الى التكاملات الاقتصادية والاجتماعية، وبقدر الاستفادة الواسعة للجوانب الايجابية للعولمة، تبقى هنالك المخاوف من التأثير على الهوية العربية واللغة والتقاليد والعادات للشعوب .

فالعولمة، بقدر ما تمد وتعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، يمكن ان تستفيد الثقافة العربية منها من خلال اعتماد مظاهر الحضارة العالمية المتقدمة ودمجها في اطارها الثقافي الخاص.

فلا شك ان التطور التكنولوجي له دوره البارز والمؤثر في الثقافة العربية ونشرها الى أوسع مساحة في العالم، وفسح المجال للتعرف عليها من دول كانت ولا تزال لا تعرف الشيء الكثير عن القيم والثقافة العربية، و كذلك ما يحمل العرب من قيم حضارية وتأريخ حافل بالمنجزات التي لم تطلع عليه اليوم العديد من الشعوب العالم.

بصفة عامة، يتعين على الثقافة العربية البقاء مفتوحة للتغيير والتطور، مع الحفاظ على القديم أو التراث العربي الذي ورثوه العرب من أجدادهم عبر حقب تأريخية ليست بقليلة فكر وقيم وليست بجديدة و حديثة العهد، إنها موروث يعتز به إنسان هذه الأرض.

لا شك إن التنوع الثقافي سيزداد في مجتمعاتنا بسبب العولمة، وبالتالي سيقوده الى التعايش بين مختلف الثقافات، مما سينعكس ذلك جلياً على النتاجات الابداعية في الأدب والفن ومنه الغناء، ونمط الحياة بالمأكل والملبس وغيره. واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ان التكنولوجيا لعبت دورها الكبير، فمن خلال مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الاعلامية الأخرى، ستؤثر حتماً على العادات والتقاليد وتغير الكثير من المفاهيم التي عاشها العرب، وليس العرب فحسب بل والغرب أيضاَ فكل يؤثر بالآخر بحالة تبادلية، والكفة تميل الى القوة الأكثر سرعة بالتطور والانتاج .

كذلك التعليم واساليبه وطرق التدريس التي أخذت منهجاً جديداً بما يوازي ما يعيشه العالم من تطورات سريعة في كافة مجالات الحياة، ولابد من الاشارة هنا الى تأثر اللغة العربية بما ستكتسب مزيداً من الاستعارات والمصطلحات الأجنبية في اللغة العربية والعكس هو الصحيح فبقدر تأثرها لغتنا العربية، فهنالك الكثير من المفردات والعبارات في اللغات الاجنبية جاءت من أصول عربية، وإذا كانت العولمة واللغة عنصران متفاعلان، فأن الثقافة الشعبية العربية المعاصرة سوف تسعى للأخذ بما يمنحها من رمزية أو نفس معاصر توازن بين القديم والمعاصرة بحكم التلاقح بالتراث الشعبي العالمي، وتكون النتيجة في التفاعل الذي فرضته العولمة على الحضارات، بين الغرب من جهة والعرب من جهة وبين دول آسيا وأفريقيا من جهة أخرى.

ومن الجدير بالذكر إن الثقافة العربية ليست مستقلة عن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا يعني إن التطورات والتغيرات التي تطرأ في حياتنا المعاصرة والقادمة ليست بعيدة عنها ، فهي جزء من هذا العالم المتفاعل إن كنا متفقين أو غير متفقين، إذ هذه التغيرات ستسهم في تطويرها أو تغيير بعض جوانبها، فالعولمة أدت الى تقارب وتشابه بعض العناصر الثقافية في مختلف أنحاء العالم، وتوسع الحوارات الثقافية بين العرب والثقافات الأخرى.

وعليه فأن الثقافة العربية تستمر وتكون جزءاً حيوياً من المشهد العالمي، بتبادل المعلومات والتواصل السريع، وإذا كانت العولمة قد أدت الى تقارب وتشابه وتفاعل في مختلف انحاء العالم، فأن الثقافة العربية تحتفظ بخصوصيتها وتنوعها الثقافي الغني، وإن الموروث الثقافي العربي واللغة العربية عناصر مهمة في الهوية العربية، ورغم كل التحديات فأن هذه العناصر سوف تستمر في الوجود والتأثير والتأثر رغم التحولات العالمية.

***

د. عصام البرام - القاهرة

فالتر بنيامين

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

(ستشعرون كيف أنه كان على الشعوب أن تروي في طفولتها عقائدها وخرافاتها وتنشأ تاريخا لكلّ حقيقة أخلاقية)... جان ميشليه ، الشعب.

I

" إنّ الرّاوي، ومهما كان هذا الاسم مألوفا لدينا، فهو أبعد عن أن يكون حاضرا بيننا تماما في نشاطه الحيوي. إنّه بعدُ بعيد جدّا عنّا و يزداد بعدا. فليس تقديم شخص مثل ليسكوفي Leskov1  بوصفه راوٍ narrateur، هو تقريبه منّا ، بل بالأحرى زيادة المسافة التي تفصلنا عنه. وإذا ما لاحظنا من مسافة معينة  السمات الكبرى البسيطة التي تكوّن الراوي تفوّقت عليه. فتبدو بأكثر دقّة على نحو ما نقف أحيانا على صخرة ، حالما نلحظها من نقطة مقصودة، شكل رأس أو جسم حيوان. إنّ ما يرسم هذه النقطة لدينا هي تجربة يومية. فهي التي تخبرنا بأنّ فنّ الحكاية يقترب من النهاية. ومن النادر جدّا اللقاء بأناس قادرين على حكي شيء ما في المعنى الحقيقيّ للكلمة. من هنا يكون الإرباك العام حينما  يقترح أحدهم ، أثناء سهرة ، أن نروي لبعضنا بعضا حكايات. وقد نقول بأنّنا نفتقر الآن لملكة تبدو لنا غير قابلة للإستيلاب ، وأكثر ضمانة من سائر الملكات: ملكة تبادل تجاربنا.

من اليسير تصوّر أحد أسباب هذه الظاهرة: انخفاض مسار التجربة. انخفاضا يبدو أنه يمدّد في انهيارها. ما من يوم لا يثبت لنا بأنّ هذا الانخفاض قد بلغ مستوى قياسيا، وأنّ صورة العالم الخارجي لم تتأثرّ فحسب بالتغيرات الكبيرة التي تبدو مستحيلة من قبل، بل أيضا صورة العالم الأخلاقي. ظهر مع الحرب العالمية مسار، لم يتوقف منذ ذلك الوقت. ألم نلاحظ زمن الهدنة أن الناس عادوا صامتين من جبهة القتال ؟ هم لم يغتنوا فيها بتجربة تواصلية بل عادوا منها فقراء. وما الغريب في ذلك؟ ما من تجربة قطّ قد وقع نفيها بالأساس، قدر ما كان من التجارب الاستراتيجية لحرب المواقع، التجارب المادية بفعل التضخّم والأخلاقية بالحكومات. فالجيل الذي يركب بصعوبة الترامواي للذهاب إلى المدرسة،  يجد نفسه في الهواء الطلق، في منظر لم يبقى فيه شيء لم يتغيّر سوى السّحاب؛ و، وجسم الإنسان الصغير الضعيف في مجال عمل التيارات المميتة والانفجارات المؤذية.

II

إنّ تجربة النقل الشفوي هي المنبع الذي يشرب منه جميع الرواة. ومن بينهم من وضع حكايات بواسطة الكتابة، فأولئك هم الرواة الكبار الذين يبتعد النص لديهم على الأقلّ عن كلام الرواة المجهولين الذي لا يحصرهم العدّ. يجب فيما يبقى أن نميّز من بين هؤلاء الرواة فريقين لا يكفاّن عن التداخل فيما بينهما. فشخصية الراوي لا تستمدّ اكتمالها إلاّ من هذا الأصل المزدوج. يقول المثل السائر الأماني :" بعضهم شاهد كثيرا ليحتفظ بالكثير"، ويقدّم الراوي نفسه بوصفه إنسانا عائد من مكان بعيد. غير أننا نجد لذّة كبيرة في الاستماع لمن ظلّ في بلده ويعرف حكاياته وتقاليده ، و يكسب قوته بشرف. هكذا يمثلّ كل من الفلاح المقيم في أرضه والبحّار التاجر، النمط التقليدي للفريقين. وبالفعل، تنتج بيئة كل منهما سلالتها الخاصة من الرواة. ولا يبقى على الأقلّ سوى أن نتصوّر مجال الحكاية في كلّ اتساعها التاريخي دون تداخل حميميّ متبادل لكل من هذين النمطين التقليديين. إنّ العصر الوسيط بالخصوص الذي، وبفضل الترافق في العمل، قد حقّق مثل هذا التداخل. فصاحب العمل المقيم ومرافقيه يقومون بجولة في فرنسا وهم يعملون معا في الورشة، وكلّ صاحب عمل يقوم بجولته في فرنسا قبل أن يستقرّ في بلده أو بلد آخر. فإذا صحّ أن المزارعين والبحّارة كانوا هم أسياد فنّ الحكاية، كان الصانع من جهته أرقى توجهات هذا الفنّ. فلديه ترتبط رسالة البلدان البعيدة التي يحملها كلُّ من سافر كثيرا، برسالة الماضي التي تحبّذ في الحضريّ أو المقيم كونه إنسانا كاتما للسرّ. على هذا النحو تكوّنت شخصية الراوي الذي، مثلما قال جان كاسو، وهب للحكاية نبرتها وأدرك واقعها، الذي يودّ القارئ أن يلجأ إليه أخويا وأن يعثر فيه على قدرِ، ومستوى المشاعر والوقائع الإنسانية العادية. (....)

إنّ المؤشّر الأوّل لمسار أفضى إلى انهيار الحكاية هو تطور القصّة في بداية العصور الحديثة. إنّ ما يميّز القصّة عن الحكاية أو الرواية (وعن جنس الملحمي تحديدا)، هو كونها ترتبط أساسا بالكتاب. فلا يمكن للقصّة أن تنتشر إلاّ انطلاقا من اختراع الطباعة. بينما تكوّن التقليد الشفوي - وريث الجنس الملحمي - على نحو آخر غير ما يصنع أساس القصّة. إنّ ما يقابل القصّة بكلّ أشكال النثر وقبل كلّ شيء بالحكاية أو الرواية، هو كونها لا تنتج عن التقليد الشفوي ولا تعرف كيف تلتحق به.

إنّ ما يحكيه الراوي ، يستقيه من التجربة، من تجربته الخاصّة أو التجربة المتبادلة. فيجعل منها بدوره تجربة من يستمع لحكايته. وعلى العكس، فقد انحبس القصّاص في عزلته. لقد تكوّنت القصّة في أعماق الفرد المنعزل، الذي ليس له القدرة على أن يتكلّم بطريقة دقيقة عما هو أحبّ إلى قلبه، والذي يفتقر إلى النصح ولا يعرف كيف يقدّمه.

إنّ كتابة قصّة، هو أن نخرج بكل ّ الطرق ما يتعذّر قيسه في الحياة. في فسحة الحياة بالذات و تكشف القصّة، بتمثيل هذه الفسحة، عن عمق وهن إرادة الكائن الحيّ. وأولى الأعمال لهذا الجنس من الكتابة هو دون كيشوت، الذي يبيّن لنا كيف أنّ عظمة الروح والجرأة ودأب الإنسان الأكثر نبلا على المساعدة هي خالية تماما من النصح السديد ولا تتضمّن أي قبس من الحكمة.

VI

يجدر أن نتمثّل تغيّر أشكال ملحمية في إيقاع على نحو إيقاع التحوّلات التي عرفتها الأرض طيلة آلاف السنين. ومن بين جميع أشكال التواصل بين البشر، لم يوجد أكثر من القصّة شكلا اكتُسب ببطء وانحلّ ببطء. كان على القصّة التي تعود جذورها إلى العصر القديم، أن تنتظر قرونا عديدة قبل أن تعثر في البورجوازية الصاعدة العناصر التي لابدّ أن تولدّ ازدهارها. إنّ ظهور هذه العناصر الجديدة هو الذي أثار الاستبعاد التدريجي للحكاية في المجال التقليدي؛ فإذا استخدمت الحكاية غالبا المحتوى الجديد ، فهو لم يكن مع ذلك محتوى محدّدا حقّا. ونرى من جهة أخرى، في قمّة العصر البورجوازي الذي وَجد في الصحافة أحد أدواته الأكثر أهمية ، ظهور هذا الجنس الجديد من التواصل.  وأيّ كان منبته قصيّا ، فهو جنس لم يؤثّر بعدُ على الشكل الملحمي بصورة محدِّدة. بيد إنه يفعل ذلك الآن. ونحن ندرك أنه ليس أقلّ غرابة قطّ ، بل أكثر فتكا بالحكاية كما القصّة التي ستشهد من جهتها في النهاية أزمة. وهذا الجنس الجديد من التواصل هو الإعلام".

***

..............................

* فالتر بنيامين " الرّاوي".. تأملات في مؤلف نيكولا ليسكوف (القسم الأول).

LE NARRATEUR. RÉFLEXIONS À PROPOS DE L’ŒUVRE DE NICOLAS LESKOV (PREMIÈRE PARTIE), PAR WALTER BENJAMIN.

عندما يتم الحديث عن السياسات الكونية، يتبادر إلى الذهن مباشرة انشغال مصادر القرار العالمي (المستخلفون أرضا) بمستقبل شعوبهم بشكل خاص والإنسانية بشكل عام. في نفس الآن هذا الانشغال تتمخض عنه في كواليس السياسة مفاوضات وتوافقات في شأن المصالح الحيوية وأسس وطبيعة زعامة أو زعامات قيادة التغيير كونيا (مسألة التقاطب). الصراعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تعتبر أمرا طبيعيا وحتمية تاريخية، لكن من الصعب التكهن بتحويلها إلى مصدر لهدم ما بنته القوى العالمية من حياة مزدهرة لشعوبها (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين الشعبية، روسيا القيصرية، والهند الديمقراطية، والمجموعة الأوروبية). هناك انطباع كون استقطاب الكفاءات والنوابغ العلمية في مختلف المجالات لا يتم بطريقة عشوائية بل يتم على أساس ميثاق توافقي غير معلن يوجه من خلالها أصحاب المادة الرمادية إلى الفضاءات التي تستجيب لتطلعاتهم واهتماماتهم. الهندسة في هذا إطار المتحكم فيه تحتل مكانة مرموقة. فضاءات علومها زاخرة بالإبداعات لربط الكشوفات العلمية بواقع حياة الشعوب والأمم. أسرار الكون في الأرض والفضاء والبحار والمحيطات زاخرة بالخيرات والثروات الطبيعبة النفيسة. الكشوفات مكثفة في الوكالات البحثية والمختبرات المقاولاتية والجامعات والمعاهد المتخصصة.

كما أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، القوى العالمية تراكم الجهود بسرعة مبهرة لتحقيق السبق في الابتكار العلمي والتكنولوجيا. قطعت البلدان المتقدمة أشواطا بعيدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وما تتيحه من تحليل للبيانات وتحسين للقرارات وتجويد للتنبؤات وتنفيذ للمهام في مختلف المجالات الإنتاجية والمعرفية، خاصة الصحة والأدوية والزراعة والتجارة والتصنيع والتكنولوجيا الحيوية والطب الجيني ومختلف شعب العلوم الإنسانية. كل الدول الرائدة علميا تسعى إلى الوصول بسرعة فائقة لاستدراك التأخر في مجال الطب والصيدلة بحثا عن تطوير علاجات جديدة وحلول طبية مبتكرة. استخدام تقنيات التعديل الجيني في البحوث الطبية والزراعية أصبح أمرا طبيعيا.

في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، شبكات الجيل الخامس تغزو فضاء عيش الشعوب جنوبا وشمالا، وقدرات حماية البيانات الشخصية وتعميم الهوية الإلكترونية وضمان الأمان السيبراني في طريقهم ليصبحوا قدرا محتوما على الجميع. في نفس الآن الجهود تتزايد في مجال الطاقة المستدامة بحثا عن تعزيز الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات تحزينها وتحسين كفاءة استخدامها. وسائل النقل تعرف بدورها تطورا ملحوظا. السيارات الكهربائية تكتسح الأسواق بوثيرة عالية. وجودها محبذ جدا لكونها تعتبر صديقة للبيئة وملاذا للحيلولة دون تدمير الحياة أرضا. داخل المدن بمختلف أحجامها، التوصيل الذكي والمشاركة في نقل وتوزيع السلع والخدمات أصبح مدبرا إلكترونيا ببرامج وتطبيقات جد متطورة يتقاسمها المستهلكون والعملاء عبر شبكة الانترنيت. في هذا الشأن، كثافة مرور الدراجات الهوائية والنارية الكهربائية تزداد ارتفاعا يوما بعد يوم داخل المدارات الحضرية. في نفس القطاع، تطور الذكاء الاصطناعي في طريقه لتعميم تحويل السياقة اليدوية للسيارات والشاحنات والقطارات والطائرات والبواخر إلى قيادة ذاتية. لقد التحمت تقنيات الاستشعارات الروبوتية المرتبطة اللاسلكيا بالرادارات والأقمار الاصطناعية بهذا القطاع محققة أهدافها في مجال السلامة الطرقية والفضائية والبحرية. الطائرات بدون طيار ستتحول إلى وسيلة سريعة لنقل البضائع بأقل التكاليف والرفع من مستوى الكفاءة في الشحن والوصول حتى إلى المناطق النائية والوعرة.

أما المجالات العذراء التي تزخر بالثروات والخيرات فتتعلق بأعماق البحار والمحيطات والفضاء وكواكبه. لقد قطعت الإنسانية خطوات هامة في مجال تعميق المعرفة بالتنوع الحيوي في البحار والمحيطات، وفي فهم العمليات البيئية داخلها بما في ذلك دراسة أنواعها المائية وأنماط الحياة بها وتكيف الكائنات بيولوجيا في أعماقها. كما تشتد الأبحاث لاكتشاف مدى تأثير التغيرات المناخية على بيئة البحار والمحيطات وتياراتها وحرارة وحموضة مياهها وعلاقتها بالارتفاعات عن سطح الأرض. إن المتتبعين والمختصين يعتبرون أن ما تختزنه هذه الفضاءات من ثروات لا يعد ولا يحصى. لا يزال هناك الكثير من الكائنات البحرية غير معروفة بالكامل. تحتوي المحيطات على مواد غنية مثل الأسماك والمعادن والمركبات الكيماوية الثمينة. والحالة هاته، يعتبر اكتشاف الأعماق رهان البحث العلمي في الحاضر والمستقبل. أعماق الأنهار في الفضاء الأزرق والهوتسبوت والخنادق العميقة لا زالت مجهولة. الأبحاث في هذا القطاع تتواصل لاختراع التقنيات والروبوتات والغواصات ذات الأشعة تحت الحمراء لرصد كل صغيرة وكبيرة في هذه المناطق.

على مستوى الفضاء، الدول الرائدة تجاوزت الاهتمام بالقمر لتهتم كذلك بكوكب المريخ. في هذا الباب، تطوير الوكالات والمؤسسات الفضائية أصبح من الانشغالات الأساسية للدول القوية عالميا. كل الدول المتقدمة مشتركة اليوم في محطة الفضاء الدولية (ISS) التي تنخرط فيها ناسا بشكل فعال، وتساهم بشكل متواصل في تشغيلها وتمكين روادها في الفضاء من القيام بمهمات تطوير الأبحاث العلمية. تمويل الوكالات والمؤسسات الفضائية المعروفة يخضع بدوره لهاجس المنافسة والتسابق. الإدارة الوطنية للفضاء في الصين (التي تأسست سنة 1993) لا تدخر جهدا في تمويل تطوير تكنولوجيتها واكتشافاتها الفضائية والعلوم التطبيقية الهندسية المرتبطة بها. هذه المؤسسة تقود تنفيذ برنامج الفضاء المأهول، وتكثف عمليات اكتشافاتها الكوكبية، بحيث نجحت في جمع عينات من سطح القمر، ونجحت في إطلاق وتشغيل عدد كبير من الأقمار الصناعية لتطوير مجالات الاتصال والمراقبة البيئية والملاحية والتنقلات المختلفة.

بدورها الوكالة الفضائية الأوروبية تسعى للحفاظ على مكانتها الدولية بحيث تقوم بدورها بإطلاق المهمات الفضائية الخاصة بها وتشارك في المشاريع الدولية وتتعاون مع الوكالات الأخرى. روسيا، ذات الأبعاد الجغرافية الأوروبية، تتوفر على أقدم وأبرز وكالة اسمها روسكوسموس (1992). تستثمر بدورها بقوة في تطوير وإطلاق المهمات الفضائية وتنشيط البحوث لاكتشاف الكواكب والمراكب الفضائية. إلى جانب الناسا، تتوفر كندا على وكالة التي تقوم بنفس الأدوار وتهتم بنفس الانشغالات الدولية. انخرطت الهند في نفس المسار وأصبحت تتوفر على وكالة فضائية ناشئة ومتقدمة بالرغم من تأسيسها المبكر.

النجاح في اكتشاف كوكب المريخ أصبح انشغالا مؤرقا للدول العظمى. الولايات المتحدة الأمريكية أطلقت مهمة مارس بيرسيفيرانس (2020) باحثة عن أدلة وجود حياة قديمة على الكوكب الأحمر وفهم تاريخه الجيولوجي. كما أن الطموحات الدولية تجاوزت اليوم المجموعة الشمسية، بحيث أصبحت تهتم بجدية ملفتة بالكواكب الخارجة على النظام الشمسي. كما تستثمر في مشروع توجيه الكواكب الصخرية الصالحة للحياة. في مجال بذل الجهود لاكتشاف الفضاء العميق والكون البعيد ودراسة تكوين الكواكب والمجرات والثقوب السوداء تم اكتشاف تلسكوب جيمس ويب الفضائي. أكثر من ذلك أعطت الولايات المتحدة الأمريكية الانطلاقة لمهمة "باركر سولار بروب" التابعة لناسا لدراسة الشمس عن قرب وفهم الظواهر الشمسية مثل الانفجارات والرياح الشمسية.

استحضارا لما سبق يتبين أن المهندس يوجد في صلب الانشغالات المستقلبية. فهو إذن في جوهر صناعة السياسات العمومية في الحاضر والمستقبل. كلما تقدمنا في الزمان بتطوراته، تزداد مكانته أهمية في السياسة. وجوده حيوي في تصميم وتنفيذ السياسات أصبح أكثر إلحاحا. هو مصدر فوار بالنصح والاستشارات والخبرات الفنية التي ترتكز عليها السياسات والتشريعات والتوجيهات في كل دول العالم. تخصصات المهندس الحيوية والمتطورة زمنيا كانت ولازالت وستبقى الاسمنت الذي يوطد الترابط بين العلم والمجتمع والبيئة والاقتصاد والمستقبل. يشخص ويبدع ويطبق ويتأمل بنظارات الاستدامة والتكنولوجيا النظيفة. يربط في تصوراته العلمية بين التكاثر الطبيعي للشعوب والبنية التحتية والتخطيط الحضري والقروي والبيئة (الطرق، الجسور، المباني، النقل العام، الأحياء الصناعية، تدبير النفايات الصلبة والسائلة وتدويرها، الحفاظ على الثروة المائية..). يعمل المهندسون كذلك في مجالات الأمن والدفاع على تطوير التكنولوجيا والأنظمة التي تحافظ على سلامة الدولة وتحمي المواطنين. كما يشاركون في بلورة السياسات الخاصة بالدفاع والأمن القومي.

تعتبر الديمقراطية بيئة ملائمة للمهندسين للتأثير والمساهمة في السياسات العامة، وضمان تطوير السياسات التي تعكس الاحتياجات التقنية والتكنولوجية للمجتمع وتستجيب للتحديات المستقبلية. مشاركتهم المكثفة في الأحزاب السياسية جد محبذة. تواجدهم الفاعل في العمل الحكومي للدول ضرورة ملحة للغاية.  يتمثل دورهم في تقديم الخبرات والتوجيه الفني للقرارات السياسية، والإسهام في تعزيز القضايا بالغة الأهمية، وتقديم الاستشارات الضرورية في مجال تشكيل السياسات المختلفة بمنطق يراعي هاجسي التوازن والتكيف وتقوية القدرة المجتمعة على الإسهام في بناء المستقبل.

***

الحسين بوخرطة

مفتتح: بعيدًا عن طبيعة المواقف والقناعات من ظاهرة الربيع العربي وتحوُّلاتها المختلفة، من الضروري الالتفات إلى حقيقة عميقة في مسار هذه التحوُّلات الكبرى التي جرت ولا زالت تداعياتها قائمة في أكثر من بلد عربي. ويمكن بيان هذه الحقيقة كالآتي:  إن ما سُمِّي بالربيع العربي هي عبارة عن ظاهرة سياسية - مجتمعية عميقة جرت في بعض المجتمعات العربية،  وهي وليدة عوامل وأسباب عديدة، ولها جوانب مختلفة، ولا يمكن اختزالها في بُعد أو جانب واحد. فهي كأيِّ ظاهرة سياسية - مجتمعية، لها عواملها المتعدِّدة وأسبابها المختلفة، وإن هذه الظاهرة في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة لا زالت قائمة ،ومن الصعب اختزال هذه الظاهرة وأمثالها في برهة زمنية وجيزة. وإن طبيعة المآلات التي وصلت إليها هذه الظاهرة، ليست نهاية المطاف، بل ثمَّة تحوُّلات قيمية ومجتمعية عديدة تحتاج إلى تظهير تشهدها مجتمعات الربيع العربي .

ونودُّ في هذا السياق الالتفات إلى طبيعة الخيارات والمآلات التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي .

وقبل توضيح هذه الخيارات والمآلات، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جماعاتالإسلام السياسي ليست على رأي واحد أو قناعة سياسية ومجتمعية واحدة،  بل هي طيف من القوى والمجموعات التي تتبنىَّ المرجعية الإسلامية، وتتطلَّع إلى سيادة الإسلام والشريعة الحياة العامة للمسلمين، إلَّا أن هذه المجموعات متفاوتة ومتنوِّعة في خطابها السياسي ومقارباتها الاجتماعية وطبيعة نظرتها وقناعاتها إلى طبيعة اللحظة الراهنة وكيفية التعامل مع الأطراف والأطياف الأخرى. وبالتالي فإننا لا نتحدَّث عن مجموعات متجانسة في كل شيء، بل هي مجموعات متنوِّعة ومتعدِّدة إلَّا أنها جميعًا تتبنىَّ المرجعية الإسلامية .ولكونها جماعات غير متجانسة وتعيش التعدُّد في أكثر من مجال؛ لذلك لا يصح إطلاق أحكام ومواقف واحدة، على مجموعات متمايزة فكريًّا وسياسيًّا .

الأصولية والسياسة

لذلك فنحن نودُّ تركيز الحديث حول القوى السياسية الإسلامية التي تصدَّرت المشهد العام في دول الربيع العربي. فالأداء السياسي لحزب النهضة في تونس مغاير للأداء السياسي لحركة الإخوان في مصر .

فالأولى تعاملت بواقعية مع مشروع التحوُّل نحو الديمقراطية، وابتعدت في خطابها السياسي عن النزعة الدعوية التي تخلط بين إدارة ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون. وجماعة الإخوان في مصر تعاملت -في أدائها وخطابها السياسي- بنزعة دعوية طاغية، وصنعت للناس أوهامًا وآمالًا غير قادرة على تحقيقها في أقل التقادير في المدى المنظور، كما هيمنت على علاقاتها مع الأطراف والأطياف السياسية نزعة الهيمنة والسلطة. فالأطراف التي لا تتَّفق معها في الخطاب أو الأولويات أضحت من الفلول، ولا تتناغم مع خطابها وأدائها؛ لا موقع له في الخريطة السياسية .

وبالتالي فإن التباين والاختلاف في الخطاب والأداء بين المجموعات الإسلامية ،ليس ادِّعاءً يُدَّعى، وإنما هو حقيقة قائمة وشاخصة في كل بلدان الربيع العربي .

وعلى ضوء هذه الحقيقة نعمل على الاقتراب من تقويم الأداء السياسي لهذه الجماعات من خلال النقاط التالية:

1- ليس من ينجح في مشروع الدعوة قادر على النجاح في مشروع العمل السياسي وإدارة التنافس السياسي مع مختلف الأطياف في المجتمع .

فأغلب هذه الجماعات استطاعت -عبر أدوات وآليات عديدة- النفاذ لدى شرائح

المجتمع المختلفة، وتمكَّنت من تحقيق منجزات ومكاسب عديدة، سواء على مستوى الدعوةوإقناع الناس بالخطاب والمشروع الإسلامي،  أو على مستوى الخدمات ومشروعات الحماية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمَّشة.  ولكن هذا التميُّز في الحقل الدعوي والاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تميُّز في الحقل السياسي. بل على العكس من ذلك نتمكَّن من القول: إن بعض هذه الجماعات ارتكبت خطايا في عملها وأدائها السياسي، مما أربك قاعدتها الاجتماعية، وأدخلها في أتون المقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى. وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى، ومفادها: أن الجماعات الإسلامية في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتَّسع قاعدتها الاجتماعية وتزداد شعبية. وإن انخراطها السياسي ووصولها إلى الحكم يخسرها شعبيًّا، ويسحب من رصيدها الاجتماعي. وبالتالي فإن هذه الجماعات بحاجة إلى لياقة إذا صحَّ التعبير في العمل السياسي مختلفة عن لياقتها في العمل الدعوي .

وإن النجاح والتميُّز في الحقل الاجتماعي لا يساوي النجاح المضمون في الحقل السياسي.

فجماعة الإخوان في مصر في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة ،تتصدر المشهد العام، ويشار إليها بالبنان في التميُّز وحسن الأداء .

ولكن حينما وصلت إلى الحكم وإدارة جمهورية مصر العربية من موقع السيطرة على الحكومة والرئاسة، فإنها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في تبديد بعض مكاسبها في الحقلين الدعوي والاجتماعي .

وإذا استمرت هذه الجماعة بدون تصحيح أخطائها الفادحة،  فإنها ستستمر في التراجع وخسارة بعض قاعدتها الشعبية .

2- أبانت الجماعات الإسلامية عن خلل حقيقي في مشروع بناء التحالفات السياسية مع الأفرقاء الآخرين، وقدرة هذه التحالفات على البقاء في ظل صراعات سياسية واجتماعية .وينعكس هذا الخلل بشكل أساسي في رفض هذه الجماعات التعامل مع الحقل السياسي والمنافسين السياسيين بعقلية تسووية، تدفع هذه العقلية جميع الأطراف للتنازل من أجل بناء أوضاع سياسية أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود أمام التحوُّلات السياسية المتسارعة .

فالإخوان مثلًا في مصر تمسَّكوا بنتائج الانتخابات البرلمانية، واعتبروها هي النتيجة التي تُخوِّلهم ممارسة السلطة بمفردهم أو بدون منافسين حقيقيين. لذلك -وبفعل هذه العقلية- خسروا بعض حلفائهم،  كما خسروا جرَّاء التباين في مشروع الترشيح لرئاسة الجمهورية بعض قياداتهم وكوادرهم الفاعلة. ولعل ما تمتاز به جماعة النهضة في تونس هو قدرتها على بناء التحالفات السياسية وعدم استعجالها الوصول إلى القمة السياسية. فهي تتحرَّك بواقعيةسياسية، وتعمل على بناء حياة سياسية مستقرِّة وملتزمة بمقتضيات الدستور. وإن هذا العمل يستحق من الجميع التنازل حتى لا تفشل العملية السياسية برمَّتها .

فالمهم ليس أن تصل جماعتي إلى السلطة، المهم بناء واقع سياسي جديد، يعرقل أيَّة نزعة استبدادية، أو يحول دون استفراد أيَّة قوة سياسية بالمشهد السياسي. وإن هذا الهدف الاستراتيجي يستحق من جميع الأطراف التنازل وإنجاز تسوية سياسية - تاريخية لصالح التحوُّل نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي العميق .

فطبيعة تحوُّلات الربيع العربي ومحطاتها المختلفة، تجعلنا ندرك أن هذه التحوُّلات لا يمكن أن ينتصر فيها طرف انتصار كاسح مهما أوتي من قوة شعبية أو إرث تاريخي ونضالي .

فالتحوُّلات لا تفسح المجال لطرف واحد للتحكُّم في الساحة والمشهد .

من هنا فإن طبيعة التحوُّلات والقوى الفاعلة فيها تقتضي -أيضًا- بناء التحالفات ،والذهاب بعيدًا في مشروع التسويات السياسية. والقوى السياسية التي ترفض هذا النهج والخيار، فإنها شيئًا فشيئًا ستخرج من المعادلة القائمة. وهذا ليس تبريرًا لبعض المآلات، وإنما للقول: إن طبيعة المرحلة تقتضي التقاطع مع القوى السياسية المنافسة، وتنمية المساحات المشتركة معها، من أجل الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة .

3-  لا يمكن لمن يتوسَّل وسائل العمل السياسي المختلفة أن يحُقِّق إنجازات وانتصارات كاسحة، بحيث تُغيِّب جميع المنافسين أو المناوئين. فطبيعة العمل السياسي أنه يحُقِّق الغايات والأهداف على مدى زمني طويل ومتدرِّج في آن .

ولعل من الأخطاء البارزة التي وقعت فيها التيارات الإسلامية، أنها انخرطت في العمل السياسي بذهنية «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، وبالتالي فإن هذه الذهنية تفتح حالة المغالبة مع المنافسين إلى أقصى حالاتها، مما يُهيِّئ المناخ لصناعة الخصوم وخسارة الأصدقاء.

لهذا من الضروري أن تلتزم هذه الجماعات -وهي تنشط في الحقل السياسي- بمقولة الفلاسفة: «الوجود الناقص خير من العدم المطلق .»

وعليه فإن العمل السياسي لا يوصل إلى انتصارات كاسحة، وإنما يوصل إلى بناء شراكه واسعة مع بقية القوى، لإنجاز ما يمكن إنجازه .

وإن الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي، يعود -فيتقديرنا- إلى تلك الذهنية التي تحكَّمت في هذه الجماعات التي عاشت فترات طويلة من النضالالسلبي، وترى فيما سُمِّي بالربيع العربي فرصة استثنائية، مماَّ يدفعها نفسيًّا وسلوكيًّا للاستعجالفي مشروع التمكُّن. ومن المؤكد أن نزعة الاستعجال مع قصر التجربة وقلَّة الخبرة، يقود إلى ارتكاب خطايا أساسية، تضر بسمعة هذه التيارات وصدقيتها في العمل العام .

وخلاصة القول:  إن السياسة لا يمكن أن تمُارس وتُدار بذهنية الدعوة،  وإن الانخراط فيها بنسق ما ينبغي أن يكون، يجعلها ترتكب أخطاء تصل في بعض الأحيان إلى حماقات تحرق بعض أجزاء التاريخ النضالي لهذه التيارات والجماعات .

الدين وأنماط التديُّن

على المستوى المجتمعي ثمَّة خلط جوهري بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التديُّن، وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فردًا وجماعةً لتجسيد قيم الدين العليا. فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها، تتحوَّل هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التديُّن، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التديُّن منسجمة ومقتضيات قيم الدين، أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الالتزام متفاوتة ،كذلك هي أنماط التديُّن متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى. وبالتالي فإن أنماط التديُّن ليست خارج سياق التطوُّر الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية،  ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تديُّنها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها. لذلك نستطيع القول: إن الإنسان (الفرد والجماعة)، وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تديُّن والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تديُّنه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوِّعة أنماط تديُّن متنوِّعة ومتعدِّدة، وكلها تُشكِّل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والالتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يُفسِّر لنا وجود أفهام متعدِّدة ونماذج تاريخية متنوِّعة في إطار الإسلام الواحد.

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد؛ لأنه خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي .فالإنسان ليس كائناً سلبيًّا فيما يرتبط وعلاقته بقيمه الكبرى وتشريعات دينه. فهوكائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه. وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تُحدِّد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يُؤسِّسه الإنسان لبيئته أو لواقعه.

لأن أنماط التدين هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعاليًا على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعًا لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فإن أنماط التدين على العكس من ذلك تمامًا؛ لأنها نتاج الظروف والبيئة، ولا يمكن أن تتشكَّل أنماط التديُّن بعيدًا عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.

وثمَّة دائمًا مفارقة بين الدين وأنماط التديُّن. وهذه المفارقة تصل في بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التديُّن هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتديُّن، ثمَّة حاجة إنسانية ودينية ملحَّة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني. والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوَّة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التديُّن التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التديُّن السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين .

ولعل هذه المفارقة هي التي تُوضِّح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان - المجتمع، وتوجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتِّساع، مما يُفضي إلى نتيجة عملية وواقعية ،وهي أن توجيهات الدين في وادٍ وحركة المجتمع في أغلبه في وادٍ آخر. مماَّ يُؤسِّس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكَّلت في التجربة العملية .

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتديُّن. وإن جوهر الجهد الذي يبذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع .

وإن جوهر المشكلة تتجسَّد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين والتديُّن، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التديُّن. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكَّم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماعالإسلامي المعاصر .

ولو تأمَّلنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربيةوالإسلامية المعاصرة لوجدنا أن من أبرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التديُّن، تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتديُّن. ولكن المحصّلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يجُسِّر الفجوة ،وإنما يُعمِّقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها .

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمَّة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية، تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلَّا أن المحصّلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التديُّن السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر .

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلَّا بنقد وتفكيك أنماط التديُّن التي تنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر؛ لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعدِّدة تزيد من الأزمات والمآزق، وتُفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم.

وإن إحباطات الراهن الإسلامي ينبغي ألَّا تقود إلى تبنيِّ بناء مجموعات وتشكيلات أيديولوجية تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب سبيلًا لإنجاز رفعة وعزَّة المسلمين جميعًا؛ لأن هذا الخيار يُعزِّز الإحباطات، وساهم في تدمير ما تبقَّى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم .

فالوعي الديني الصحيح والذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يُؤسِّس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة ،تُحرِّر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تُقدِّم الإسلام بوصفه ديناً للقتل والتفجير والإرهاب .

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: إن نقد أنماط التديُّن ليس نقدًا للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التديُّن، ليس وقوفًا في مقابل الدين، وإن حرصنا على الدين ينبغي أَلَّا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتَّجه إلى أنماط التديُّن؛ لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التديُّن هو الدين نفسه؛ لأن بعض أشكال التديُّن، تُشكِّل عبئًا حقيقيًّا على الدين والمجال الاجتماعي للدين .

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين وأنماط

التديُّن. وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعضأنماط التديُّن. وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلَّا بتفكيكها ونقدها من جذورها ،حتى نتحرَّر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية بعيدًا عن إكراهات بعض أنماط التديُّن التي لا تُقدِّم حلولًا، بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة .

العالم العربي ودولة المواطنة

لعلَّنا لا نأتي بجديد حين القول: إن أغلب المجال العربي بكل دوله وشعوبه يعاني من تحدِّيات خطيَّة وأزمات بنيويَّة، تُرهق كاهل الجميع، وتُدخلهم في أتون مآزق كارثية.

فبعض دول هذا المجال العربي دخلت في نطاق الدول الفاشلة، التي لا تتمكَّن من تسيير شؤون مجتمعها، مماَّ أفضى إلى استفحال أزماتها ومآزقها على كل الصعد سواء الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية. والبعض الآخر من الدول والمجتمعات مهدَّد في وحدته الاجتماعية والسياسية، حيث هي قاب قوسين أو أدنى من اندلاع بعض أشكال وصور الحرب الأهلية.

ودول أخرى تعاني من غياب النظام السياسي المستقر، ولا زالت أطرافه ومكوِّناته السياسية والمذهبي، تتصارع على شكل النظام السياسي، وطبيعة التمثيل لمكوِّنات وتعبيرات مجتمعها.

إضافة إلى هذه الصور،  هناك انفجار للهويات الفرعية في المجال العربي بشكل عمودي وأفقي، مماَّ يجعل النسيج الاجتماعي مهدّدًا بحروب وصراعات مذهبية وطائفية وقومية وجهوية. ونحن نعتقد أن اللحظة العربية الراهنة مليئة بتحدّيات خطيرة، تهدّد استقرار الكثير من الدول والمجتمعات العربية، وتدخل الجميع في أتون نزاعات عبثية ،تستنزف الجميع وتُضعفهم، وتُعمِّق الفجوة بين جميع الأطراف والمكوّنات.

وفي تقديرنا، إن المشكلة الجوهرية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في بروز هذه المآزق والتوترات في المجال العربي، هي غياب علاقة المواطنة بين مكوّنات وتعبيرات المجتمع العربي الواحد.

فالمجتمعات العربية تعيش التنوُّع الديني والمذهبي والقومي، وغياب نظام المواطنة كنظام متجاوز للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكوّنات تعيش التوتُّر في علاقتها ،وبرزت في الأفق توتُّرات طائفية ومذهبية وقومية.. فالعلاقات الإسلامية - المسيحية فيالمجال العربي، شابها بعض التوتُّر، وحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدانالعربية التي يتواجد فيها مسيحيون عرب.

وفي دول عربية أخرى، ساءت العلاقة بين مكوّناتها القومية، بحيث برزت توتُّرات وأزمات قومية في المجال العربي. وليس بعيدًا عنا المشكلة الأمازيغية والكردية والأفريقية.

وإضافة إلى هذه التوتُّرات الدينية والقومية، هناك توتُّرات مذهبية بين السنة والشيعة ،وعاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توتُّرات مذهبية خطيرة تُهدِّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

فحينما تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكوّنات المجتمعات العربية،  تزداد فرص التوتُّرات الداخلية في هذه المجتمعات؛ لهذا فإننا نعتقد أن العالم العربي يعيش مآزق خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية .فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، والذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع العربي ،وإخراجه من دائرة انحباسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة.

فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية،  تهدّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

وإن نزعات الاستئصال أو تعميم النماذج لا تُفضي إلى معالجة هذه الفتنة والمحنة، بل توفّر لها المزيد من المبررات والمسوغات.

فدول المجال العربي معنيَّة اليوم وبالدرجة الأولى بإنهاء مشاكلها الداخلية الخطيرة ،التي أدخلت بعض هذه الدول في خانة الدول الفاشلة، والبعض الآخر على حافة الحرب الداخلية التي تُنذر بالمزيد من التشظِّي والانقسام.

فما تعانيه بعض دول المجال العربي على هذا الصعيد خطير، وإذا استمرت الأحوال على حالها فإن المجال العربي سيخرج من حركة التاريخ، وسيخضع لظروف وتحدِّيات قاسية على كل الصعد والمستويات.

وإن حالة التداعي والتآكل في الأوضاع الداخلية العربية لا يمكن إيقافها أو الحد من تأثيراتها الكارثية، إلَّا بصياغة العلاقة بين أطياف المجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

وإن غياب مقتضيات وحقائق المواطنة في الاجتماع السياسي العربي سيُقوِّي من اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية،  وعودة الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وسيُوفِّر لخصوم المجال العربي الخارجيين إمكانية التدخُّل والتأثير في راهن هذا المجال ومستقبله.

فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية،  التي تحتضن تعدُّديات وتنوُّعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدُّديات على نحو إيجابي إلَّا بالقاعدة الدستورية الحديثة )المواطنة( كما فعلت تلك المجتمعات الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها.

فالاستقرار الاجتماعي والسياسي العميق في المجتمعات العربية، هو وليد المواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية والسياسية.

وأي مجتمع عربي لا يفي بمقتضيات هذه المواطنة فإن تباينات واقعه ستنفجر وسيعمل كل طرف للاحتماء بانتمائه التقليدي والتاريخي،  مما يصنع الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين مكونات المجتمع الواحد.

وفي غالب الأحيان فإن هذه الحواجز لا تُصنع إلَّا بمبرِّرات ومسوِّغات صراعية وعنفية بين جميع الأطراف، فتنتهي موجبات الاستقرار، ويدخل الجميع في نفق التوتُّرات والمآزق المفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا فإن دولة المواطنة هي الحل الناجع لخروج العالم العربي من مآزقه وتوتُّراته الراهنة.

فدولة المواطنة هي التي تصنع الاستقرار وتحافظ عليه، وهي التي تستوعب جميع التعدُّديات وتجعلها شريكة فعليَّة في الشأن العام، وهي التي تجعل خيارات المجتمع العليا منسجمة مع خيارات الدولة العليا والعكس، وهي التي تُشعر الجميع بأهمية العمل على بناء تجربة جديدة على كل المستويات، وهي التي تصنع الأمن الحقيقي لكل المواطنين في ظل الظروف والتحدِّيات الخطيرة التي تمرُّ بها المنطقة.

والمجتمعات لا تحيا حق الحياة إلَّا بشعور الجميع بالأمن والاستقرار؛ لهذا فإن الأمن والاستقرار لا يُبنى بإبعاد طرف أو تهميشه، وإنما بإشراكه والعمل على دمجه وفق رؤية ومشروع متكامل في الحياة العامة.

وهذا لا تقوم به إلَّا دولة المواطنة، التي تُعلي من شأن هذه القيمة، ولا تُفرِّق بين مواطنيها لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية.

فهي دولة الجميع، وهي التمثيل الأمين لكل تعبيرات وحراك المجتمع..

فالمجال العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه، أمام مفترق طرق، فإما المزيد من التداعي والتآكل،  أو وقف الانحدار عبر إصلاح أوضاعه وتطوير أحواله،  والانخراط في مشروعاستيعاب جميع أطرافه ومكوِّناته في الحياة السياسية العامة. فالخطوة الأولى المطلوبة للخروج منكل مآزق الراهن وتوتُّراته، في المجال العربي، هي أن تتحوَّل الدولة في المجال العربي إلى دولة استيعابية للجميع، بحيث لا يشعر أحد بالبعد والاستبعاد.. دولة المواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبيه أو قومه، بحيث تكون المواطنة هي العقد الذي يُنظِّم العلاقة بين جميع الأطراف .

فالمواطنة هي الجامع المشترك، وهي حصن الجميع الذي يحول دون افتئات أحد على أحد.

وجماع القول: إن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات هي خشبة الخلاص من الكثير من المآزق والأزمات.

العالم العربي والحكم الرشيد

يعيش العالم العربي بكل دوله وشعوبه اليوم الكثير من التحوُّلات والتطوُّرات المتسارعة، حيث دشَّنت لحظة سقوط نظام بن علي في تونس عملية التغييرات والتحوُّلات التي لا زال تأثيرها ممتدًّا ومتواصلًا في كل أرجاء العالم العربي بمستويات وأشكال متفاوتة ومختلفة. ولا ريب أن ما يجري من أحداث وتطوُّرات في بعض البلدان العربية هو مذهل وغير متوقَّع، وكل المعطيات السابقة لا تؤشَّر أن ما حدث سيكون قريبًا.

لهذا فإن كل هذه التطوُّرات والتحوُّلات هي بمستوى من المستويات مفاجئة للجميع.

فالفكر السياسي العربي وخلال العقود الثلاثة الماضية كان يُبشِّر بأن الثورات والانتفاضات الشعبية لم تعد هي وسيلة التغيير السياسي في المنطقة، وأن ثورة 1979م في إيران هي آخر الثورات الشعبية في المنطقة.

لذلك فإن النخب السياسية في العالم العربي بكل أيديولوجياتها وخلفياتها الفكرية ،كانت تعيش حالة من اليأس تجاه قدرة الشعب أو الشعوب العربية على إحداث تحوُّلات دراماتيكية في واقعها السياسي وواقع المنطقة بشكل عام. ولكن جاءت أحداث وتطوُّرات وتحوُّلات تونس ومن بعدها مصر، لكي تُثبت عكس ما كانت تُروِّجه بعض الأيديولوجيات والنخب تجاه الجماهير وقدرتها على إحداث تغيير سياسي في واقعها العام. والملفت للنظر والذي يحتاج إلى الكثير من التأمُّل العميق هو أن جيل الشباب، أي جيل الإعلام الجديد من الفيسبوك وتوتير ويوتيوب، هو الذي قاد عملية التغيير، وهو الذي تمكَّن من تحريك الشارع العام في تونس ومصر. فالجيل الجديد الذي كانت تصفه بعض النخب والجماعات ،بأنه جيل ترعرع بدون قضية عامة يسعى من أجلها ويناضل في الدفاع عنها عكس أجيال الخمسينات والستينات، هو الذي قاد عملية التغيير، وبوسائله السلمية استطاع أن يحُرِّك كل النخب وكل شرائح وفئات المجتمع الأخرى.

لهذا فإن ما حدث ويحدث في العالم العربي اليوم هو مذهل، وقد أنهى حقبة وتداعياتأحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث كان الغرب ينظر إلى شرائح المجتمعات العربية المختلفة بوصفها مشروع قائم أو محتمل للإنسان الإرهابي الذي يُفجِّر نفسه، ويقوم بأعمال عنفية لا تنسجم وقيم الدين وأعراف العالم العربي وتقاليده الراسخة.

فما جرى في تونس ومصر، حيث حضر الشباب، ومارسوا حقهم بالتعبير عن الرأي ،أنهى على المستوى الاستراتيجي حقبة بقاء الشباب العربي تحت تهمة وتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

فالنموذج الجديد الذي قدَّمه الشباب العربي في تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية التي تشهد حراكًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ومطلبيًّا هو أنه جيل يستحق أن يعيش حياة كريمة،  وأن تعاطيه الشأن العام عبر عنه خارج الأطر والأحزاب الأيديولوجية،  وإنما مارسه بطريقته الخاصة، والمذهل في الأمر أن هذه الطريقة غير المتوقَّعة هي التي آتت أكلها ،ونجحت في إحداث تغييرات وتحوُّلات سياسية واجتماعية كبرى في أكثر من بلد عربي. لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربية بأسرها، تعيش مرحلة جديدة على أكثر من صعيد. وما نودُّ أن نؤكِّد عليه في هذا السياق هي النقاط التالية:

إن المجتمعات والشعوب العربية تستحق حكومات وأنظمة سياسية متطوِّرة ومدنيَّة، وتفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات.

والذي يلاحظ أن الدول العربية التي كانت أو لا زالت في منأى من موجة المطالبة بالإصلاحات والتغييرات، هي تلك الدول التي تعيش في ظل أنظمة وحكومات فيها بعض اللمسات أو الحقائق الديمقراطية، أو تمكَّنت من حلِّ بعض مشاكل شعبها الاقتصادية والاجتماعية،  ومع ذلك فإننا نعتقد أن هذه الموجة ستطال بشكل أو بآخر كل الدول والشعوب العربية.

ونحن نعتقد أن مسارعة الدول العربية في القيام بإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، ستُقلِّل من فرص خروج الناس إلى الشارع إلى المطالبة بحقوقهم. وما جرى في تونس ومصر يُوضِّح بشكل لا لبس فيه أن المجتمعات العربية تستحق أوضاعًا سياسية واقتصادية وقانونية أفضل مما تعيشه الآن.

إن التحوُّلات السياسية الكبرى التي تحقَّقت في تونس ومصر،  وموجاتهماالارتدادية في أكثر من بلد عربي، تجعلنا نعتقد وبعمق أن المشاكل الكبرى وبالذات علىالصعيد السياسي متشابهة في أغلب الدول العربية. فالحكومات والأنظمة السياسية في هذه الدول هي أنظمة ذات قاعدة اجتماعية ضيِّقة، مع تضخم في أجهزتها الأمنية التي تمارس الإرهاب والقمع بكل صوره وأشكاله، مماَّ زاد من الاحتقانات، وراكم من المشكلات البنيوية التي يعيشها المجتمع والدولة في هذا البلد العربي أو ذاك.

وبفعل هذه الحقيقة تمكَّنت هذه الدول التسلطية من إفراغ كل الأشكال والحقائق الديمقراطية الموجودة في أكثر من بلد عربي من مضمونها الحقيقي،  حتى أضحت نموذجًا صارخًا للمقولة التي أطلقها المفكِّر المصري )عصمت سيف الدولة( بالاستبداد الديمقراطي. فالأشكال الديمقراطية أصبحت عبئًا حقيقيًّا على المجتمعات العربية ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنه باسم الديمقراطية يتم تأبيد السلطة، واحتكار عناصر القوة، وتستفحل من جراء هذا كل أمراض الاستبداد والديكتاتورية.

إن الإصلاح السياسي الذي نراه جسر العبور لكل الدول العربية إلى مرحلة جديدة، تُؤهِّلها لتجاوز بعض مشكلاتها، ومعالجة أزماتها الداخلية، ويحُصِّنها من خلال تطوير علاقة الدولة بمجتمعها تجاه كل التحدّيات والمخاطر.. أقول: إن هذا الإصلاح السياسي هو ضرورة حكومية - رسمية، كما هو حاجة وضرورة مجتمعية.

فهو (الإصلاح) ضرورة للحكومات العربية لتجديد شرعيتها الوطنية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، ولكي تتمكن من مواجهة التحدِّيات المختلفة.. كما هو (أي الإصلاح) ضرورة وحاجة للمجتمعات العربية، لأنه هو الذي يخرج الجميع من أتون التناقضات الأفقية والعمودية الكامنة في قاع المجتمعات العربية، وهو الذي يصوغ العلاقة بين مختلف المكوّنات على أسس الاحترام المتبادل والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

ومن المعلوم أن الانغلاق في السلطة سمة من سمات الدولة التسلطية (على حد تعبير خلدون النقيب()1).

وهو يُعبِّر عن حالة غير طبيعية في مسيرة الدولة الحديثة، هي حالة التماهي بين السلطة والدولة؛ لهذا فإن العالم العربي بحاجة إلى أنظمة سياسية حديثة تستجيب لشروط العصر ،وتتناسب والدينامية الاجتماعية المتدفقة.

إن التجارب والتحوُّلات السياسية الكبرى تجعلنا نعتقد أن الشيء الأساسي الذي يجعل عمر الدول طويلًا وممتدًّا عبر التاريخ، ليس هو ترسانتها العسكرية وموقعها الجغرافي والاستراتيجي، وإنما هو قبول ورضا الناس بها؛ إذ إن كل تجارب الدول عبر التاريخ الطويلتُثبت بشكل لا لبس فيه أن حكم الناس بالإكراه، قد يطول، إلَّا أنه لا يدوم، وإن عمر الدول واستمرارها مرهون بقدرة هذه الدول على تحقيق رضا وقبول الناس بها. بمعنى أن الدول حتى ولو كانت إمكاناتها البشرية محدودة وثرواتها الطبيعية والاقتصادية ومتواضعة ،إلَّا أن رضا الناس بها، وقبول الشعب بأدائها وخياراتها، فإن هذا الرضا والقبول يجبر الكثير من نواقص الدولة الذاتية أو الموضوعية، ويُمدُّها بأسباب الاستمرار والديمومة.

فالذي يُديم الدول ويُوفِّر لها إمكانية الاستمرار،  هو مشاركة الناس في شؤونها المختلفة،  واحتضانهم إلى مشروعها،  وشعورهم بأنها (أي الدولة) هي التعبير الأمثل لآمالهم وطموحاتهم المختلفة.

وما جرى في تونس ومصر من أحداث وتحوُّلات سياسية سريعة يؤكّد هذه الحقيقة . فكل المؤسسات والأجهزة العسكرية لم تستطع أن تُدافع عن مؤسسة السلطة التي يرفضها الناس ويعتبرونها معادية لهم في حياتهم اليومية وتصوُّراتهم لذاتهم الجمعية والمستقبلية؛ لهذا فإننا نعتقد أن إسراع الدول في إصلاح أوضاعها وتطوير أنظمتها القانونية والدستورية وتوسيع قاعدتها الاجتماعية وتجديد شرعيتها السياسية، كل هذه العناصر تُساهم في إعطاء عمر جديد لهذه الدول.

فتحريك عجلة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولنا العربية ،أضحى اليوم من الضرورات والأولويات، التي تحول دون دخول دولنا العربية في أتون المشكلات والأزمات التي تعوق من مسيرتها ودورها في الحياة الوطنية والقومية والدولية.

ومن المؤكَّد أن اقتراب الدول العربية من قيم ومعايير الحكم الرشيد،  هو الذي سيعيد الاعتبار إلى المنطقة العربية، وهو السبيل المتاح والممكن اليوم للخروج من العديد من الأزمات والمآزق على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وحده الحكم الرشيد بكل قيمه ومضامينه ومقتضياته، هو الذي سيُعيد العالم العربي إلى حركة التاريخ، ودون ذلك ستبقى المنطقة بكل ثرواتها البشرية والاقتصادية بعيدًا عن القبض على أسباب التقدُّم والاستمرار الحضاري.

دولة الإنسان

تعدَّدت الأيديولوجيات والأفكار والمرجعيات المفاهيمية والفلسفية التي سادتفي العالم العربي، وتمكَّن بعضها من الحكم وإدارة بعض الدول العربية على أسس ومبادئتلك الأفكار والأيديولوجيات، فأصبحت في العالم العربي دول تتبنىَّ النظرية الماركسية ،وتعمل بإمكانات الدولة إلى تعميم الرؤية الماركسية، وإخضاع كل الشرائح والفئات إلى تلك الرؤية الأيديولوجية، كما تشكَّلت دول وفق النظرية القومية، حيث عمل أصحاب هذه النظرية إلى تسيير شؤون الدولة والمجتمع وفق الرؤية والمعايير القومية.

وتعدَّدت في العالم العربي الدول التي تتبنىَّ رؤية أيديولوجية، وعملت على إخضاع كل مؤسسات الدولة إلى الرؤية الأيديولوجية،  التي تحملها وتتبناَّها النخب السياسية السائدة.

ودخلت هذه الأيديولوجيات في حروب وصراعات مفتوحة،  ولقد شهد العالم العربي -وعبر فترات زمنية مختلفة- تلك الصراعات والحروب التي عمل كل طرف على إثبات أيديولوجيته ومصالحه بعيدًا عن مصالح الأمة وأمن المجتمعات العربية. ومع أن هذه الأيديولوجيات، دخلت في حروب وصراعات دامية مع بعضها، إلَّا أن بينها قواسم أيديولوجية وسلوكية وسياسية واحدة.  ولعل من أهم القواسم المشتركة بين أصحاب الأيديولوجيات التي سادت في العالم العربي، وسيطرت بشكل أو بآخر إما على الدولة ومؤسساتها أو المجتمع ومؤسساته هو أن أصحاب هذه الأيديولوجيات لا يعتنون كثيرًا بحاجات الإنسان العربي ومتطلَّباته الأساسية.  فكل الجهود والإمكانات تُصرف باتجاه تثبيت وتعميم ونشر المقولات الأيديولوجية،  بعيدًا عن الاهتمام بحاجات الإنسان أو الإنصات إلى مطالبه ومطامحه.

لذلك فإن الكثير من ثروات وإمكانات الدول الأيديولوجية صرفت على نشر المقولات الأيديولوجية والحزبية، وكأن نشر هذه المقولات هو الهدف الأسمى والغاية العليا .ووفق هذا السلوك والتصرُّف الذي مارسته الدول الأيديولوجية، كما مارسته الجماعات الأيديولوجية،  ضاعت حاجات الإنسان فردًا وجماعة،  واضمحلَّت حقوقه الأساسية ،واعتبر الإنسان كقيمة وحقوق وكرامة في أدنى سُلَّم الاهتمام. ولا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات هذه الحقيقة الناصعة في الكثير من الدول والتجارب. فيكفي أن تذهب إلى أي دولة أيديولوجية أو تقدُّمية في العالم العربي لاكتشاف هذه الحقيقة، حيث كل الإمكانات تتَّجه إلى الشعارات وتخليد الزعيم وإثبات صحَّة المقولات الأيديولوجية والحزبية التي قامت عليها الدولة، بينما الإنسان في هذه الدول يعيش العوز والضنك والصعوبات الحياتية المختلفة ،كما يعاني من الكبت والقمع والخوف الدائم من زُوَّار الفجر وأجهزة الاستخبارات.

فهذه التجارب والدول تحارب وبشعارات ثورية وتقدُّمية حقوق الإنسان، وتعمل على إبقاء مواطنيها يلهثون ليل نهار من أجل لقمة العيش اليومية؛ لذلك فإن هذه الدول لمتُحقِّق أي إنجاز يُذكر لمواطنيها، كما أنها لم تُحقِّق وخلال سنين طويلة من الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور الشعارات التي رفعتها حينما وصلت إلى سدَّة الحكم.

فالدول التي رفعت شعار الوحدة لم تُنجز إلَّا المزيد من التجزئة والتشظِّي. والدول التي رفعت لواء الدفاع عن الطبقات المحرومة في المجتمع أضحت هذه الطبقات هي أول ضحايا هذه التجربة وهذه الدولة.

ويشير إلى هذه المسألة الدكتور برهان غليون(2) بقوله:  أزمة الدولة أعمق إذن مماَّ تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام، إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والانتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من انكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحقُّقه. وهذا يعني -أيضًا- أنه نابع من تنامي الاقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لا يمكن أن يُشكِّل مدخلًا إلى التقدُّم الإنساني. وهكذا، وفي أقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تُغذِّي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدُّم، وتُثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكُّر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لا فاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، عروبيًّا كان هذا البرنامج أم قطريًّا، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية، وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الاندماج والإجماع.

فالدول الأيديولوجية والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرُّر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن. وهذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلُّعات .

لذلك فإن المطلوب اليوم هو الخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تُحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى تأهيل الإنسان، وإطلاق حرياته وتطلُّعاته.

فإننا كعرب لم نحصد من الدول الأيديولوجية إلَّا المزيد من الصعاب والتراجع والتقهقر إلى الوراء. فالوحدة التي حلم بها الآباء انتهت إلى دولة أيديولوجية مغلقة تكرّس التجزئة وتنمّي العصبيات، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية حصدنا نمو رأسمالية الدولة وتضخَّمت شريحة الانتهازيين والوصوليين .

ولقد علَّمتنا التجارب أن الدول التي تنفصل عن مجتمعها، وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظامًا قهريًّا، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. وهكذا وبفعل عوامل عديدة وعلى رأسها سيادة الدول الأيديولوجية التي لا ترى إلَّا مصالحها الضيِّقة، وتُوظِّف كل الإمكانات من أجل إثبات مقولاتها وأيديولوجيتها ،وضيَّعت بفعل ذلك مصالح شعبها وامتهنت كرامته، اختلطت المعايير، واشتبكت القضايا ،وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخليًّا، والحرب أضحت أهلية ،والتطرُّف والإرهاب أصبح من نصيبنا جميعًا. لهذا كلّه إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تلك الدولة التي تعتبر أيديولوجيتها وشرعيتها هي في خدمة الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته بصرف النظر عن أصوله الأيديولوجية أو القومية أو العرقية.

إننا في العالم العربي بحاجة إلى تلك الدولة التي تحتضن الجميع، وتصبح بحق وحقيقة دولة الجميع .

والوصول إلى دولة الإنسان والقانون في العالم العربي ليس مستحيلًا، وإنما هو بحاجة إلى الكثير من الجهد المتواصل لإنجاز هذا التطلُّع التاريخي. وإن دولة الإنسان التي تصون حقوقه وتحفظ نواميسه وكرامته ليست يوتيبيا تاريخية، وإنما هي حقيقة قائمة، ولقد تمكَّنت بعض المجتمعات الإنسانية من تحقيقها.  وإن شعوبنا العربية بطاقاتها العلمية وقدراتها الاقتصادية وطموحاتها الحضارية وأشواقها التاريخية، تستحق دولة تكون رافعة حقيقية لهذه الشعوب، لا قامعة وكابحة لطموحاتها وتطلُّعاتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والإنسان .

وإنه بدون توجُّه العرب نحو بناء دولهم الوطنية على أسس القانون وحقوق الإنسان ،فإن مشاكلهم ستتفاقم وأزماتهم ستستفحل وضغوطات الخارج ستؤثِّر على مصيرهم ومستقبلهم .

وإن التحوُّل نحو دولة القانون والإنسان بحاجة إلى الأمور التالية:

الإرادة السياسية التي تتَّجه صوب تجاوز كل المعيقات والمشاكل التي تحول دون بناء دولة القانون والإنسان، حيث إنه لا يمكن بناء دولة جديدة في العالم العربي بدون إرادة سياسية تُغيِّر وتُطوِّر وتُذلِّل العقبات وتواجه كل ما يدفع نحو إبقاء الأمور ساكنة وجامدة ومتخشّبة. فالإرادة السياسية بما تعني من قرار صريح وعمل متواصل ومبادرات نوعية وتطوير للمناخ والبيئة الاجتماعية والثقافية، هي من العوامل الأساسية للتحوُّل نحو دولةالقانون والإنسان في الفضاء العربي.

تحرير المجتمع المدني ورفع القيود عن حركته وفعاليته، حيث إن الدولة بوحدها لا تتمكَّن من خلق كل شروط ومتطلّبات التحوُّل. وإنما هي بحاجة إلى جهد المجتمع المدني، الذي يستطيع القيام بالكثير من الخطوات والأعمال في هذا الاتجاه؛ لهذا فإن رفع القيود اليوم عن أنشطة مؤسسات المجتمع المدني يُعدُّ من الأمور الهامة، التي تساهم في تعزيز الأمن الاجتماعي والمحافظة على الاستقرار السياسي. فالحاجة ماسَّة اليوم لتذليل كل العقبات التي تحول دون فعالية المجتمع المدني في العالم العربي. وإن الفرصة مؤاتية اليوم لإنهاء تلك الحساسيات التي تحملها بعض النخب السياسية السائدة، تجاه مؤسسات المجتمع المدني ووظائفها وأدوارها. فإن هذه المؤسسات ليست بديلًا عن الدولة، ولا تستهدف في أنشطتها تضعيف دور الدولة، بل هي مساند حقيقي ومؤسسي للدولة، كما أنه لا تقوم لها قائمة بدون دولة مستقرِّة وثابتة .

فالدولة اليوم في العالم العربي بحاجة إلى جهد مؤسسات المجتمع المدني،  كما أن المجتمع المدني بمؤسساته وهياكله، هو بحاجة إلى الدولة الحاضنة والراعية والضامنة لعمل مؤسسات المجتمع المدني. فالحاجة متبادلة، والأدوار والوظائف متكاملة. وإن الظروف السياسية التي يواجهها العالم العربي تتطلَّب بناء الدولة في الواقع العربي على أسس جديدة وبمضامين جديدة. فالدولة التي ألغت المجتمع وحاربت قواه الحيَّة هي أحد المسؤولين الأساسيين عن الواقع المتردِّي الذي وصلنا إليه جميعًا. وسنبقى نعيش القهقرى ما دامت الدولة العربية بمضمونها الأيديولوجي التي صحرت الحياة المدنية هي السائدة..  فثمَّة ضرورة ملحَّة اليوم لإعادة صياغة مفهوم ومضمون الدولة في التجربة العربية المعاصرة .

فالدولة التي لا تحترم حقوق الإنسان، وتتجاوز الدستور والقانون لأتفه الأسباب ،هي الدولة التي أخفقت في مشروعات التنمية والبناء الاقتصادي، وهي التي انهزمت أمام التحدِّيات والمخاطر الخارجية. والعلاقة جدُّ عميقة بين إخفاق الدولة الداخلي وهزيمتها الخارجية. ولا سبيل أمام العرب اليوم إلَّا بناء دولة الإنسان والقانون وصيانة الحقوق والنواميس، هذه الدولة حتى ولو امتلكت إمكانات محدودة وقدرات متواضعة، هي قادرة -بتلاحمها مع شعبها وبتفاني شعبها في الدفاع عنها- على مواجهة كل التحدِّيات والمخاطر .فلتتَّجه كل الطاقات والقدرات والكفاءات نحو إرساء مضامين دولة الإنسان في دنيا العرب.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث

......................

هوامش:

(1) خلدون النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر.. دراسة بنائية مقارنة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 1998م، ص531.

(2) برهان غليون، المحنة العربية الدولة ضد الأمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى

1993م، ص111.

نتعاطى ضمن هذا المقال مع مفهوم (الدين) من منطلق كونه (عقيدة) تحتوي على مجموعة من الوصايا المحددة والتعاليم الحصرية التي يؤمن بها الإنسان ويحاول مقاربة تفاصيل حياته وفقا "لشرائعها وتوجيهاتها، وليس من منطلق اعتباره مجموعة (شعائر) تقام و(طقوس) تمارس من قبل هذه الجماعة أو تلك، رغم ان كل اعتقاد ديني – وثني كان أو سماوي - لا يمكن له الاستغناء عن الفعاليات الشعائرية والممارسات الطقوسية تعبيرا"عن تفرده وخصوصيته. أي بمعنى إننا – في هذا الإطار – نتحدث عن (الدين) بصيغة الإيمان الثابت بالمطلق، وليس (التدين) بصيغة الارتهان للنسبي والمتغير.

وبهذا المعنى، فان صيغة السؤال المطروح في العنوان سوف تحتمل إجابتين: كلا، ونعم. ففي الحالة الأولى التي اعتبرنا فيها أن الدين (عقيدة) تتمحور حول قضايا (اللاهوت) المفارق، نستطيع الجزم بانعدام أية علاقة ما بين الاعتقاد الديني وبين الشعور بالاغتراب، من حيث ان هذا الاعتقاد نابع من خيار طوعي لا إلزام فيه أو إجبار عليه. أما في الحالة الثانية، والتي افترضنا فيها أن الدين لا يعدو كونه مجموعة من الشعائر والطقوس التي يمكن إدراجها تحت مسمى (التدين)، والتي تتمحور حول شؤون (الناسوت) المحايث للواقع، فان العلاقة – في هذه الحالة – غالبا"ما تكون متواشجة ومتلازمة، وخصوصا"في المجتمعات التي تستغل فيها مشاعر الجمهور الدينية لأغراض المصالح السياسية والاقتصادية.

ولعل ما كرس هذا الانطباع ورسخه لدى عامة الناس حيال قضية التلازم القائم ما بين الشعور الديني وظاهرة الاغتراب، ما نسب الى مؤسسا الماركسية (ماركس وانجلس) قولهما ان (الدين أفيون الشعوب)، والذي فسّر على أنه (إدانة) صريحة لمظاهر الوعي الديني من حيث دوره السلبي في تبرير سياسات التفاوت والاستغلال الطبقيين، فضلا"عن تأثيره إزاء حرمان المنتجين (العمال) من التمتع بثمار عملهم الإنتاجي والمطالبة بحقوقهم الإنسانية، على خلفية تسويغ عملية الفصل ما بين المنتج – بكسر التاء – والمنتج – بفتح التاء – الأمر الذي تمخض عنها وترتب عليها (العملية) استحالة العلاقات الإنتاجية من طابعها الإنساني الى طابعها السلعي، أو ما يسمى بعلاقات (التشيؤ) بين الإنسان المنتج من جهة، وبين السلعة المنتجة من جهة أخرى. 

وفي إطار هذه العملية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية – وليس الدينية بالمعنى الذي قدمناه – فان من المرجح أن تتبلور لدى الإنسان المستغل اقتصاديا"والمضطهد سياسيا"مشاعر ما يسمى بظاهرة (الاغتراب) أو (الاستلاب) كما يرد في بعض الكتابات. بمعنى ان حالة (الانفصال) الوجداني التي يستشعرها الإنسان المقصود عن الواقع الاجتماعي المعيش ومن ثم يستبطن إيحاءاتها وتمثلاتها السلبية، ليست هي بالضرورة نتاج (المعتقد) الديني الذي يعتنقه ويؤمن به على مستوى الوعي، بقدر ما تكون حصيلة (تجاربه) الدينية التي قيض له خوضها على مستوى السلوك ضمن سياق اجتماعي معين، ونسق ثقافي خاص، ونظام رمزي محدد. ولعل مواقف الجماعات الإسلامية المختلفة من هذه المسألة تبدو شديدة الوضوح وحاسمة الدلالة، لجهة التباين في مناسيب الانغمار بتلك المشاعر الروحية، فضلا"عن التفاوت في مستويات الإحساس بوطأتها سوسيولوجيا"وسيكولوجيا"- ناهيك عن بعدها السياسي – كفيلة بتوضيح الصورة المشوشة وإبراز ملامحها الغامضة.

وهكذا، فعلى الرغم من تماثل تلك الجماعات لجهة اعتقادها بوجود اله واحد (الله) وإيمانها (بدين) مشترك (الإسلام) – والأمر ذاته ينطبق على بقية الأديان الأخرى – إلاّ أنها حالما تشرع بالتعبير عن ذلك الاعتقاد وتجسيد ذلك الإيمان حتى تسارع لإظهار ميلها نحو الاختلاف، بلّه الخلاف، الذي غالبا"ما يكون مصدرا"للاستقطابات المتعصبة والحساسيات المتطرفة، عبر تباين أنماط (التدين) التي تتبناها وتمارسها كل جماعة من تلك الجماعات الطائفية والمذهبية، لاسيما على صعيد إقامة الشعائر وممارسة الطقوس وتفسير النصوص وتبني الرموز.

وإذا ما خلصنا الى استنتاج أن اقتران ظاهرة (الاغتراب) بنمط (التدين) لا تتأتى من (الدين) بذاته كاعتقاد شخصي، بقدر ما تتأسس على طبيعة ما يتمثله وعينا الاجتماعي من رؤى وتصورات خاصة، فان ذلك لا يعني تعميم هذا المعنى وفرض سريانه على مختلف القوى الفاعلة في المجتمع. فمن جهة الأطراف المسيطرة، لا يشكل (الدين) ولا (التدين) بالنسبة لها مصدرا"لأي نوع من أنواع (للاغتراب)، بل هي قد تستفيد من هذا الأخير لجهة منحها قدرة إضافية على تقوية مركزها وفرض إيديولوجيتها، أما من جهة الأطراف المسيطر عليها فان الاعتقاد (الديني) غالبا"ما يختزل لديها الى مجموعة من الممارسات (التدينية) حيث تتخذ منها سبيلا"؛ إما (للاحتجاج) على سوء أحوالها أو (كسلوى) لانعدام حيلتها، وفي كلا الحالتين تعبيرا"عن (الاغتراب) الإنساني الذي تكابده وتكتوي بلظاه.

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

             

 بقلم: شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2.

باحثة دكتوراه تخصّص فلسفة عامة، وأستاذة بجامعة 8 ماي 1945 قالمة.

ومحمد بهاء الدين بوسبحة، جامعة باجي مختار عنابة

الجزائر

***

إنّ أنفع الطُرق وأكثرها ضَمانة لنهاية مُشرقة لأجل الفلسفة إلاّ من تعنّت تعصُّبًا وجُحودًا، هي التفكّر بجدّية في كيفية التدليل على كونها العقل القلِق الناظِر باحتراق واختراق في موضوعات الحياة المُختلفة، فهي ليست من قبيل الألوان الفكرية الطامِعة في تمضية أوقات الفراغ وتسلية الذات المُتسلِّل إليها المَلل، أو أنها تسكُن أبراجًا عاجية مفصولة عن ضَجيج الواقع. بل إنّ الفلسفة حياة بالحياة وللحياة، فالأولى مَدَار إشكالاتها وتحليلاتها النقدية، والثانية هدفها المُعلن دائِمًا؛ فهمًا وتفاعُلاً. ومن بين هذه المدارات الشاهِدة على الحُضور القويّ للفلسفة طيلة تاريخ نشاطها المعرفي والمنهجي، نجد الشقّ السياسي وما يبعث به من ضرورة الاستشكال والاستدلال منطقيًا ومن جوف الواقع. وارتباطًا بالجزائر وما شهدته من حراك شعبي جذب إليه كلّ الأنظار، مُعبِّرا عن نهضة الشُعب وأن تفكيره وضَميره قد استُفِز أخلاقيًا، يستحق أن نتأمّل فيه فلسفيًا نقديًا، لنُبرز إشراقاته وظلاميته، وأن نُخصِّص المقام لإحدى ولايات الجزائر التي أدركت كغيرها زمن الحراك. ولأن الإشكال عصب الفلسفة؛ إذ لا يُمكن الخوض في التحليل والتفصيل ومحاولة النقد والحُكم، من دون سند الأشكلة وشريطة صياغتها باهتمام وانهمام، وعليه: بالاعتماد على التأمّل الفلسفي النقدي، إلى أيّ مَدَى استمر الحراك الشعبي الجزائري في الدِفاع عن جوهر رسالته؟ وماذا عن الفرد العنّابي كواحِد من أبناء الحراك؟

الحراك الشعبي الجزائري والثقافة السياسية، ولادة لم تشهد حياة

بقلم شهرزاد حمدي

مفهوم الثقافة السياسية

كأيّ مفهوم له أصول وإرهاصات أولى، تشكّلت الثقافة السياسية منذ القرن التاسع عشر إلى أواسِط القرن العشرين كلحظة تأسيسية فِعلية، في تركيز على إيلاء أهمية لدور القيم والثقافة في النشاط السياسي، وأن دِراسة المُؤسّسات لا يقتصِر على جانِبها الداخلي، بل تُدرس بموجب علاقتها بالعوامِل الخارجة عنها، أهمّها منظومة القيم والثقافة. وفي سياق الحديث عن الجُهد التأسيسي لمفهوم الثقافة السياسية، يتمّ استدعاء كتاب عالمَي السياسة الأمريكيين "غابرييل ألموند"Gabriel almond  (1911_2002م)، و"سيدني فيربا" Sidney verba (1932_2019م) المُعنون ب: "الثقافة المدنية: المواقف السياسية والديمقراطية في خمس أمم" The civic culture: political attitudes and democracy in five nations، عرّفَا فيه الثقافة السياسة، على أنها المُصطلح الذي يُشير إلى التوجّهات السياسية على وجه الضَبَط تُجاه النظام السياسي بأجزائه المُختلفة، والمواقِف بشأن دور الذات في العالمَ. نتحدث عن ثقافة سياسية مثلمَا نتحدث عن ثقافة اقتصادية أو ثقافة دينية، فهي جُملة من التوجّهات نحو مجموعة خاصّة من الأشياء والعَمليات الاجتماعية، لكنّنا نختار أيضًا الثقافة السياسية، بدلاً من بعض المفاهيم الأخرى، لأنها تمكّننا من استخدام الأطر والمُقاربات التصوّرية لعِلم الأناسة وعِلم الاجتماع وعِلم النفس(1). يُقصد بمفهوم الثقافة السياسية، التوجّهات السياسية إزّاء النظام السياسي القائِم وشكل الحُكم، والمواقِف تُجاه دور الذات وآرائِها. والحديث عن الثقافة السياسية كالحديث عن الثقافة الاقتصادية مثلاً، غير أن اختيار الثقافة السياسية جاء  بسبب أهميتها، فهي مفهوم مُركّب يتألّف من عدّة تخصّصات مُهمّة، تُعنى بالدور الإنساني والاجتماعي والفردي، وهي بهذه الكيفية تُقدِّم قيمة مُعتبرة للقيم والثقافة. يُضاف إلى أن مفهوم الثقافة السياسية يُتيح فرصة استخدام المُقاربات التصوّرية الخاصّة بالعُلوم السالِفة الذِكر، بهدف حُصول فهم أعمق والوصول إلى تفسيرات وتحليلات بشأن التفاعُلات والنشاطات الثقافية بين الشعب والنظام السياسي، من طبيعة، أشكال، عوامِل ونواتِج. ومن منظور "ألموند" Almond و"باول"Powell ، تتكوّن الثقافة السياسية من المواقِف والقيم والمهارات السارِية في جميع السكان، تلك النزعات والأنماط التي يُمكن العثور عليها في أجزاء مُنفصلة من المجتمع(2). إذن، فالثقافة السياسية هي مجموع الآراء والقيم والمواقف والأفكار التي يُعبّر عنها الشعب خِلال تفاعُله ضِمن الحياة السياسية، وهي ترتبِط بجميع الساكِنة المُجتمعية ولا تتعلّق بفرد بعيّنه، فوجودها ضروري ويُمكن إيجاده في أجزاء مُتقطِّعة من المجتمع، لأنها سارية فيه.

جزائرنا نموذجنا، الحَراك الشعبي كثَمرة لثقافة سياسية تراجَعت

بعد رِحلة طويلة من نظام مُستبِد، نهب وسرق وأدخل الشعب في متاهة من التأزيم، كانت مُستمِرة نحو نُقطة أكثر انسدادًا، بسبب فَسَاد الحكومة وتجذّر ذِهنية العُهد المُتوالية، ليكون الاستقلال المُعلن عنه في الخامِس من جويلية 1962م، ليس لحظة تصفية، بل هو انطلاقة جديدة لاستعمار جديد مسعور، فالعدو لم يخرج نهائيًا، وإنَما ترك من يخدمه في الداخِل وهو خارِج الجزائر. طوال فترة من الزمن كان فيها الشعب الجزائري صامِتاً يعيش على وقع الإنذار بقُرب الهاوية، ولا يَعِي ذلك، وحتى وإن حدث وانتبهت شريحة منه إلى خُطورة الوضع، وأن النظام يمتهن لُعبة التمويه، ويُجيد الاستغفال بإحكام، لم تكن قادِرة على المواجهة بمُفردها، فإن فعلت اتُّهِمَت بجريمة تقسيم البلاد وإثارة الفِتن. لكن ولأن الأزمة تنتهي بانفجار، جاء تاريخ 22 من فيفري عام 2019م، ليَحمِل معه شعبًا مُنتفِضًا، مُحاجِجًا ومُناهِضًا، وكأنّه فِكرًا فلسفيًا ثائِرًا ضِدّ الأفكار البالية التي ترأسُ ومن دون وجه حق ولا كفاءة. إنه الحَراك الشعبي الذي انطلق مُعارِضًا لعُهدة خامسة للرئيس المخلوع، الراحِل "عبد العزيز بوتفليقة"Abedlaziz bouteflika  (1937_2021م)، من ثم تصاعد منسوب الرفض، وكانت المُراقبة فاعِلة والمُعاقبة حاضِرة بضرورة إزالة كلّ شائِبة من شوائِب النظام السابِق تحت شعار: "يتنحاو قاع"، كتعبير من اللهجة الجزائرية يُرادِفه في اللغة العربية: "رحيل الجميع". وما ميّز الحَراك الشعبي الجزائري أنه كان سلميًا عبّر عن مطلبه بكلّ حضارية، وكان مُطّردًا اختار النُزول إلى الشارع كلّ يوم جمعة، فكُنّا نحن الجزائريون أمام لحظة تاريخية مفصلية لم نشهدها من قبل، خِلال فترة النظام الذي خرج الحَراك ضِدّه. ولقد أبان الحَراك الشعبي في تِلك الفترة الزمنية عن ثقافة سياسية خاصّة به، تجلّت في تلقائيته واندفاعه الحُرّ من دون تأطير ولا اختيار لقادة له، وفي الإصرار الكبير على تقديم المطالب بكلّ سلمية بعيدًا عن التعنيف والتكسير والتدمير، على الرغم من انتهاج الدولة للعُنف وسجن بعض أبناء الحَراك، وفي شُمولية الوعي بالخروج والانتفاضة، فكانت كلّ ولاية من ولايات الجزائر تشهد جمعة الحَراك، وحتى الطلبة في الجامعات كانوا يُندِّدون بتنحية النظام الفاسِد واختاروا يوم الثلاثاء. إنها ثقافة سياسية جزائرية، تضمّنت قيم ومواقِف وآراء، أثّمرت عن انبثاق الحَراك الشعبي، الذي حمِل روح فلسفية عالية، سواء على مُستوى النظر؛ بمعنى المبادئ التي انطلق منها كالوعي، النقد، التغيير والثورة، وعلى مُستوى العَمل؛ أيّ تجسيد تِلك المبادئ في السُلوك. غير أن هذه الثمرة "الحَراك الشعبي" المُتمخِّضة عن ثقافة سياسية، تراجَعت وانطفأت جذوة نارها؛ وذلك بِداية بتحوّل الطلب من مطلب رئيسي للشعب إلى مطالب فِئوية، فهُناك من دخل الحَراك من بوابّة الزيادة في الأجور، تحسين أوضاع بعض القطاعات كالصّحة والتعليم، وهي مطالب شرعية، ولكن لا الزمان ولا المكان مُناسِبين، ثمّ إن مُناسَبة الحَراك كانت لأجل وقف تيار النظام الفاسِد وطَمعه في استمرار القمع والقهر، بما أن مصالحه جارِية، بالإضافة إلى بُروز بعض الشخصيات التي أرادت أن تترأّسَ الحَراك وتُؤطِّره. سوف نفهم أنه بحاجة إلى تنظيم، ولكن جوهر الحَراك في اندفاعيته الحُرّة وكأن كل فرد من أفراد الشعب قائِد له، واليوم لم نعد نرى خُروج الشعب إلى الشارع ورفع اللافتات والتعبير عن رفضه المُتواصل لأيّ شكل من أشكال الفَساد الحُكومي، بل على النقيض تم تنميطه مُجدّدًا، وإخراسِه، من ذلك، الإعلان الدائِم عن غَلاء المعيشة، ونُدرة مواد المائِدة كالزيت والدقيق، في حين أنه احتكار وسلب لوعي الشعب في ربط همومه بهمّ البطن لا أكثر، حتى لا يستيقِظ عقله ويُفكِّر في توفير حاجيات أخرى تتعدّى الأكل والشرب أو مُشكلة النقل، هي سياسة السُلطة والبطن، واختزال البحث في الجانب البيولوجي، فكيف لشعبٍ ينهض يوميًا والنهوض هُنا من نوم الليل وليس من نوم الغفلة، على أخبار نُدرة الزيت والدقيق، أن ينخرِط نقديًا في الحياة السياسية؟ وكيف له أن يُزيل الغِطاء وهو مُكبّل بسياج حِفظ البقاء؟ والحقّ أن المُتّهم ثُنائي، هي الدولة بمُمارساتها المُريدة لإحلال ذهنية شعبية موصولة تحتيًا، والشعب أيضًا بقبوله الوضع والمُشاركة في استمراريته حتى من دون وجه دِراية. والنتيجة كان بالإمكان أن يكون الحَراك الشعبي الجزائري صورة حيّة لا تموت عن قيمة الثقافة السياسية وبالتحديد حينمَا تأتي مُستقلة مدعومة بوعي واستيعاب، فلقد كان ولكنه لم يزِل في انتظار المستقبل القريب وما يُدري العقل الباحِث سوى نتائج بحثه الآنية؛ لأن الاستشراف مكانه المُحتمل واللامُحتمل لا يغيب.

***

عنابيون

بقلم: محمد بهاء الدين بوسبحة

منذ نجاح الهدف الأول للحراك الجزائري، والذي هو إزاحة الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة"، ومنعه من المكوث رئيسًا للأبد لهذا البلد الواسع جغرافيًا، تشهد أغلب الولايات الجزائرية تقدّمًا لا بأس به في كل المجالات تقريبًا، من الناحية الاقتصادية، من الناحية الصحية، من الناحية التعليمية، وحتى من الناحية السياسية، واعتبارًا للاحتجاجات التي كانت تحدث في عهد الرئيس "بوتفليقة" فنحن لا نرى الآن تقريبًا أي نوع من تلك الاحتجاجات، كل هذا يبدو مُطمئنًا حتى الآن، لكن الفرد الذي يتنقل في ولايات هذا البلد يلاحظ أن ثمة تفاوتات واضحة في الحقوق المقدمة لمواطني كل ولاية، وربما قد تملكتني بعض العاطفة قبل كتابة هذا المقال لمَدَى البؤس الذي رأيته في الولاية التي نشأت بها، ولاية عنابةAnnaba ، فالملاحظ أن هذه الولاية وسكانها قد تم تهميشهم من كل مخطط للتقدم، ليس هذا فحسب، وإنما بدأت تظهر بعض بوادر العنصرية تجاه سكان هاته الولاية، ليست عنصرية بسبب الجنس، أو اللون، وإنما بسبب طبيعة الفكر الذي يحكم هاته الولاية، والحق يقال: فسكان مدينة عنابة قد تخلّفوا عن باقي الولايات -وخاصة ولايات الوسط والغرب- في احتضان أوجه الثقافة العصرية، وقد يقول الكثيرون منهم أن هذا من حسن حظهم، طبعًا من نظرة -شبه دينية-، إلا أن الحقيقة أن هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، فيمكن لأي شخص أن يلاحظ مَدَى تخلّف سكان هذه المدينة في أهم أساسيات الثقافة الجديدة، سواء في مجال المعلوماتية، أو التجارة، أو التعليم، أو السياسة، أو في أي مجال آخر، وقد صار اليوم سكان مدينة عنابة يلقبون من سكان الولايات الأخرى بالمتخلّفين، والمساجين، والمُحتالين، و"الموسوسين": والتي تعني الشخص الذي لا يتقبل أي أحد آخر، وما إلى ذلك، أمّا عن سكان هذه المدينة، فقد أظهروا حقيقة كل هذه الكلمات واحدة تلو الأخرى، بأفعالهم غير مفهومة بتاتًا، فالعنابي اليوم لا يبدي أي تقبّل لأي فرد خارج ولايته الصغيرة، أما داخل الولاية: فكل عنابي يريد النجاة بنفسه عن طريق قتل العنابيين الآخرين.

يستيقظ العنّابي كل يوم، وهو يفكر بكيفية قضاء يومه –أو القضاء على يومه-، سواء كان عاملاً أو عاطلاً عن العمل، أو طالبًا أو أستاذًا، فالسؤال هذا سيتبادر إلى ذهنه بلا شك، وبنفس القدر من الأهمية، فمشكلته لا تتمثل في قضاء الوقت فقط، بل في القدرة على قضاء هذا الوقت، ولابد هنا أن نشير إلى أن سبب هذا السؤال ليس الوقت نفسه، بل ما سيتلقاه إبان هذا الوقت، هذا ما يجعل من كل يوم عسير جدًا عليه، فأغلب مشاكل العنابي، إن لم نقل كلها، هي مشاكل اجتماعية، مشاكل تتعلق بالمجتمع الذي يعيش وسطه، وطبعًا فكل فرد في هذا المجتمع يرى أن الجحيم هو المجتمع، أو على حد تعبير سارتر "فالجحيم هو الآخرون"، إن عقل العنابي يكاد يولد مبرمجًا بهذه الفكرة، ولو جبت يومًا واحدًا في المدينة تتحدث إلى هذا وذاك، للاحظت أن كل فرد يعلن بصراحة بأن مجتمع المدينة هذه، هو المجتمع الأسوأ بين كل مجتمعات العالَم، وهل لك أن تخبره بأن هذا الكلام ينطبق عليه أيضًا، بصفته فردًا من هذا المجتمع؟ طبعًا لا.

عبر العالَم، تجري ثورة هائلة في مجال التكنولوجيا، حتى أنه يمكنك القول إنها بنفس القيمة مع الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا العصر الحديث، إننا نسجل اختراعًا أو اكتشافًا كل يوم على الأقل في مجال التكنولوجيا، ولازال هذا العلم يحمل في طياته الكثير من الأمور المجهولة، حتى أن التكنولوجيا قد صارت بطريقة ما، تمثل العلم كله، وصارت علوم كبرى، كالرياضيات والفيزياء مثلاً، في نفس موضع الفلسفة في القرون القليلة الماضية، مع كل هذه الأحداث والتطورات في العالَم، نجد العنابي لا يزال يفكر في كيفية قضاء يومه، من نظرة فيزيائية بحتة، يمكننا القول بصريح العبارة أن المجتمع العنابي في حالة عطالة، لكن السؤال هنا، هل يكفي العنابي وجود قوة خارجية تأثر عليه ليتحرك؟ لو لم نكن قد رأينا بالفعل تجارب لهذا الأمر، لتفاءلنا كثيرًا، وقلنا أنه ربما ينجح ذلك، لكن التجارب التي مرت، تفسر لنا أكثر من أي أمر آخر، أن الخلل في العنابي ليس فيزيائيا فقط، بل إن العنابي عاطل نفسيًا، وعقليًا أيضًا.

بدأ الحراك الجزائري في الثاني والعشرين من شهر فيفري 2019، ومعه بدأ أمل جديد للشعب، حيث شهدت تقريبًا كل ولايات الوطن تظاهرات ضخمة في شوارعها، ترفض ترشح الرئيس السابق "بوتفليقة" من الترشح للعهدة الخامسة، حيث حكم الأخير البلاد قرابة العشرين سنة، كان الشعب يندد بحراك سلمي، لا يريد أحد تكرار ما حدث في سنوات التسعينات من القرن الماضي، حيث صار الموت صاحب كل جزائري، ولم يكن أحد يُؤمن أن يعيش لليوم التالي، وقد زاد الأمل في تحقيق هذا الحراك السلمي في العاشر من مارس من نفس السنة، حيث خاطب رئيس أركان الجيش "قايد صالح" الشعب قائلاً إنه يقف في صفوف المتظاهرين، وأن الجيش هو ابن الشعب، وأنهما يتشاطران القيم نفسها.

لم يطل الأمر كثيرًا، فبعد خطاب "القايد صالح" بيوم واحد، أعلن الرئيس السابق "بوتفليقة" انسحابه من الترشح للعهدة الخامسة، وبالتالي حقق الشعب غايته الأسمى والأولى من حراكه، لكن، هل توقف الحراك بعد ذلك؟ طبعًا لا، كان الوعي الجمعي للشعب الجزائري آن ذاك يستمر في التطور شيئًا فشيئًا، فقد عَلِم الشعب أن "بوتفليقة" لم يكن هدفه الوحيد منذ البداية، إنما كل من كان ينتمي إلى ما سُمّي بـ: "العصابة"، ويقصد بها كل من ينتمي إلى النظام القديم، والذي يتفق كل الشعب الجزائري على أنه سبب تخلّف ودمار هذا البلد.

استمر الحراك أسبوعًا بعد أسبوع، كان ثمة استمرارية واضحة في عدد الجماهير المتظاهرة، لكن، لم تكن الاستمرارية في المطالب نفسها، فكل من شارك في الحراك يمكنه أن يخبرك أن الثورة قد تحولت إلى احتفال، تحديدًا بعد عزوف الرئيس السابق عن الترشح للعهدة الخامسة، فخروجك للحراك أصبح يقتضي عليك أن تحمل هاتفًا جيّدًا للتصوير، وأن تحفظ بعض الأغاني التي كانت تتغنّى بها الجماهير في الملاعب الجزائرية، وأصبح هناك تنافس واضح في إبداع لافتات جديدة، حتى إن كانت لا تمت للحراك بصِلة، وأصبح كل من هبّ ودبّ يحاول قيادة الشعب للمطالب القادمة، كما رأينا أيضًا العديد من الوجوه المعروفة أو غير المعروفة تحاول الوصول لكرسي الرئاسة، وصار استعطاف الجماهير مهنة لهم، وقد تفنّنوا فيها على كل حال، بعبارات كـ: "البطل الوحيد هو الشعب!"، "ألقوا الثورة للشارع فسيحتضنها الشعب!"... وغيرها من العبارات المُلفتة للنظر، والتي تعطي الشعب الثقة في نفسه على أنه الحاكم الوحيد للبلد.

وبعد أسابيع قليلة، صار من السهل أن تلاحظ مَدَى انحراف الشعب عن مساره الأول، أي عن الثورة، ويمكن القول، أن الحراك ليس سوى الأربع أسابيع الأولى، وأن كل ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تظاهرات سلمية يقوم بها الشعب ليُروّح عن نفسه بعد نهاية أسبوع عمل طويل، وقد انتهى الحراك ببداية حقبة جديدة في العالَم، حقبة فيروس كورونا، والطريقة التي انتهى بها، أكدت بأن نهايته كانت بعد أقل من شهر من بدايته.

تم انتخاب رئيس جديد للبلاد، قرر أغلب الشعب في البداية أن يعزفوا عن الترشح، وذلك بسبب أن المُترشحين الخمسة لم يكونوا ممن أرادهم الشعب حقًا ليحكموا هذا البلد الكبير، لكن ما بليد حيلة، وقرر الشعب بعد ذلك أن يختاروا أحد هؤلاء الخمسة، وكان "عبد المجيد تبون" هو قرار الشعب الأول، وبالفعل فقد فاز بالعدد الأكبر من الأصوات، ومعه بدأت قصة جديدة لهذا البلد، ولهذا الشعب.

كان للرئيس الجديد "تبون" قصة سياسية مُغرية بالنسبة لشعب عانى الأمرين من قبل النظام القديم، وبالطبع فالقصة وحدها لا تكفي لنيل إعجاب الشعب، بل إن الخطابات التي قام بها الرئيس الجديد مُلفتة للنظر، وباعثة على الأمل، وبالرغم من أن بعضها كان يصرح بوضوح على حقبة صعبة تلوح في الأفق، وعلى تحدٍّ جديد لهذا الشعب، إلا أن الكثيرين، تحديدًا من ولايتنا هذه لم يلاحظ ذلك، وهو أحد الأسباب في الواقع الذي جعلت من العنابيين يتخلّفون في الركب عن الولايات الأخرى، ففي إحدى الخطابات الرئاسية التي قام بها " تبون" للشعب الجزائري، يقول بصريح العبارة: "لي حاب يخدم يشمّر على ذراعه!"، فليس هنالك حتى مجال لتحليل مثل هذه العبارة، ببساطة شديدة، يخبر الرئيس شعبه، أنه في حالة تخلّف عن الركب، فإن ذلك بسبب عدم استعداده، والحق يقال، فإن الرئيس الجديد يقوم ببعض التغييرات التي من شأنها أن تغير ولو قليلاً جدًا من مصير هذه البلاد، ولعلّ هذا سيتضح أكثر لو سئلت سكان الولايات الوسطى، الغربية، وكذا بعض سكان الولايات الصحراوية، ولو أن الشرق يعاني بعض التهميش كمَا هي الحال دائمًا، إلا أن النظرة العامّة للوضع تجعلنا نرى النُقص فينا كشعب أكثر من أي سبب آخر ممكن.

إن أفضل القرارات التي جاء بها الرئيس الجديد هو بالتأكيد إطلاق وزارة المؤسسات الناشئة، فنحن نلاحظ مَدَى فعالية هذه الوزارة في إنماء الاقتصاد الوطني، وليس مهمَا حاليًا رؤية أرقام كبيرة، بل ما يهم حقًا أن ترى بعض الشباب الجزائري وهو يتحول إلى نموذج القيادة المعاصر، ولا يهم ما تنتجه هذه المؤسسات أو الخدمة التي تقدمها، بل ما يهم هو الطريقة التي تنتهجها هذه المؤسسات، والطريقة التي أنشأت بها، وكيف صارت الدولة تستثمر في أفكار شعبها، فما كنا نراه سابقا في عهد الرئيس القديم من هجرة الشباب وموت الأفكار العظيمة قد بدأ على الأقل بالتناقص، وصرنا نرى تنافسًا احترافيًا واضحًا بين هذه المؤسسات بين بعضها البعض، سواء في تقديم منتج حصري، أو خدمة أفضل، وما إلى ذلك.

وبين كل هذه الأحداث، وهذه التطورات، نجد العنابي قد بدأ يُنمّي شيئًا فشيئًا وعيه بمَدَى تخلفه عن كل ما يحدث، ولسنا على يقين مما سيحدث بعد ذلك، هل ستكون ثورة داخلية لهذا الشعب، يظهر من خلالها أنه هو الآخر قادر على تغيير مصير هذا البلد؟ أم هل سيكتفي العنابي بمشاهدة هذه الأحداث من بعد، منتظرًا مجيء أحد ما، شيء ما، حدث ما، يجعله يتحرك أخيرًا؟ أم هل سيبقى هذا الشعب مصرًا على الاستمرار في حالة العطالة هذه، مُلقيًا كل انتباهه وتركيزه على الأخطاء التي ترتكبها الدولة، مُتناسيًا بذلك أن التغيير لا يكون من داخل الذات نفسها؟ وتبقى كل هذه التساؤلات بلا إجابة، فالوحيد الذي يمكنه الإجابة عنها هو الشعب العنابي نفسه، وبدِقّة أكثر: الفرد العنابي نفسه.

وبهذا القدر، تأمّلت الفلسفة نقديًا في الحراك الشعبي الجزائري، مُبرِزة أنه يستحِق التفاتتها النقدية بما تضمّنه من قيم وما طاله من تحوّلات استدعت حُضورها بالمُعاينة والمُناقشة. والسؤال المطروح: كيف سيكون الحراك إذا عاد مُجدّدًا؟ هل سيفتح المجال مرة ثانية لإقامة تأمّلات فلسفية نقدية بشأنه؟ وهل سيشهد ذات المَسارات أم سيتّخذ خِلافها؟

***

.....................

الهوامش:

(1)   Almond, g, Verba, s, the civic culture, political attitudes and democracy in five nations, London, library of congress catalog, printed in the united states of America, 1989, p 12.

(2)   Aparajita, topic: political culture, rambagh, bihta, patliputra university, G.J.College, department of political science, p 2.

 

أصر الجاحظ أن ينقل لنا أخبار بخله وشحه، فرسم في كتابه الشهير: "البخلاء" صورة مضحكة لواحد من أشهر الفلاسفة العرب، والذي يُوصف بانه اول فيلسوف عربي خالص، فيروي الجاحظ عن أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وصيته لإبنه التي يقول فيها:" وقول لا، لا يصرف البلا، وقول نعم، يزيل النِعم، وسماع الغناء برسام حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب فينفق فيسرف، فيفتقر، فيَغتم فيَعتل ويموت .. يابني كُن كلاعب الشطرنج مع الناس تحفظ شيئك وتاخذ من شيئهم، فإن مالك ان خرج من بين يديك، لم يعد إليك . واعلم ان الدينار محموم اذا صرفتنه مات " واذا صحت رواية الجاحظ، أو انها نوع من المبالغة، فنحن ازاء شخصية أتسمت بالغرابة والعبقرية في نفس الوقت، وكما يذكر ابن النديم في كتابه " الفهرست "، أَميل الى طلب الفضيلة والسعي الى حياة الزهاد والعزوف عن البهرجة والبذخ رغم كونه ابن أحد ولاة الدولة العباسية، فقد كان أبوه اميراً على الكوفة . يصفه لنا المسعودي في " مروج الذهب "، بأنه كان مربوعاً، حسن الوجه، يمشي على نحو غريب، يرتدي الملابس البسيطة برغم غناه . ويذهب البعض الى ان زهد الكندي لم يكن بخلاً كما صوره الجاحظ، وانما إعجاباً بشخصية فلسفية أثرت على حياته كثيراً، وهي شخصية الفيلسوف اليوناني " سقراط "، والذي ترجم له الكندي بعضاً من شذراته، ولهذا نجده في كتابه " السيرة الفلسفية "، يضع سقراط بمنزلة الإمام، ويرد على الذين سخروا من حياة التقشف والزهد التي عاشها الفيلسوف اليوناني، ويصفهم بالجهلة، مشيراً إلى عظمة سقراط لأنه كان يستخف بالملوك، ويرفض لبس الثياب الغالية، ويحب الحديث مع الناس . اضافة الى شخصية سقراط اعجب الكندي بفيلسوف يوناني آخر غريب الطباع اسمه " ديوجين "، كان يرى في فلسفته طريقاً لأن يتعلم الانسان كيف يشبع احتياجاته بطريقة مناسبة وبسيطة جدا، وينقل الكندي في احدى رسائلة الحوار الذي دار بين ديوجين والاسكندر، حيث يقال إن الإسكندر الكبير مر يوما بديوجين فوجده جالسًا في برميله يستحم بأشعة الشمس، فوقف الإسكندر أمامه قائلاً: أنا الملك الإسكندر الكبير.. فرد عليه ديوجين: وأنا ديوجين الكلبي.. فقال له الإسكندر: ألست خائفًا مني؟ فرد عليه ديوجين: وهل أنت رجل صالح أم شرير؟ فقال له الإسكندر: بل أنا رجل صالح.. فرد عليه ديوجين: ومن يخاف من الصالح إذًا! ثم سأله الإسكندر: هل تعيش في هذا البرميل فقط لكي تلفت انتباه الناس وإعجابهم بك؟ قال ديوجين: وهل فعلا تريد أنت فتح بلاد فارس وتوحيد كل بلاد الإغريق.. أم تفعل ذلك فقط لتنال الإعجاب؟ ابتسم الإسكندر وقال: هذا برميل مليء بالحكمة، فقال ديوجين: أتمني لو كان لدي بدل هذا البرميل المليء بالحكمة.. نقطة واحدة من الحظ الجيد.. للحكمة طعم مر.. وأحيانًا تؤدي بك إلي الهلاك.. بينما الحظ يفتح لك أبوابًا ويحقق لك السعادة ما كنت تحلم بها! أعجب الإسكندر.. الذي يعرف جيدًا معني الحظ.. بكلام ديوجين، ثم أخبره أن يطلب منه ما يشاء ليلبيه له.. فأجابه ديوجين بهدوء: أريد منك شيئًا واحدًا.. إنك الآن تقف أمامي وتحجب عني أشعة الشمس.. لذا لا تحرمني من الشيء الوحيد الذي لا تستطيع منحي إياه.. لا تحجب شمسي بظلك! .

في واحدة من رسائله الفلسفية يحاول الكندي ان يسير على خطى سقراط في وصاياه لتلامذته:" قال سقراط الزموا العدل تلزمكم النجاة، العدل أمان النفس من الموبقات، والحكمة سلم العلو، فمن عدمها عدم القرب من باريه، وكان يقول راحة الحكماء في وجود الحق، وراحة السفهاء في وجود الباطل، وقال له رجل: " ياسقراط، ما الذي أغنت عنك الحكمة وانت لا تستتب، فقيرا، فقال: اغنت عني ما آلمك مني ". . وكان يقول: " أما ينبوع فرح الإنسان، القلب المختلف المزاج، وينبوع حزن العالم، الملك الجاير، وثبات الأشياء بالعدل، وبالجور زوالها . لأن المعتدل هو الذي لايجور " . ومثل سقراط كان الكندي يرى ان الفلسفة هي السلم لهذا العالم من الُمُثل، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده، فدرجاته العليا محفوظة لمن يتمتعون بمهارة المحاججة والسؤال .

يعرف الكندي الفلسفة، بانها السعي ان يكون الإنسان كامل الفضيلة، وهي إماتة للشهوات . ثم يضع لها تعريفا علمياً يقول فيه انها:" علم الأشياء الابدية الكلية: انباتها، ومائيتها، وعللها بقدر طاقة الانسان " .كان سقراط يقول "ان الفضيلة ما هي الا دعوى دائبة لإعمال العقل." وعرف الكندي الفضائل الإنسانية بانها هي الخلق الانساني المحدود، واما الحكمة فهي فضيلة علم الاشياء الكلية، ولذلك كان الكندي يعتقد ان السعادة تتحقق للانسان عندما يكتشف اهمية الحكمة في حياته . ومثل سقراط فقد تبنى الكندي مذهباً يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة . في محاكمته الشهيرة قال سقراط:" الحياة التي لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش "، وكان الكندي يؤكد في رسائله الفلسفية:" ان كل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وان يعيش حياة ذات قيمة "، ولم يقتصر شغف الكندي بسقراط على تتبع نمط معيشته وتمثل سيرته، بل تعداها إلى تاثره بمفاهيمه الفلسفية، وهو ما نجده في رسائله التي حققها محمد عبد الهادي ابو ريدة، حيث يستخدم فيها الكندي عدداً من مقولات سقراط عن طلب الفضيلة والإهتداء بالعقل دون سواه في مقارعة احداث الزمان، والإيمان ان ما كتب علينا من ألم وموت هو من مقومات أنسانيتنا:" فلو لم يكن موت، لم يكن انسان "، وكان الكندي مثل سقراط يؤمن ان الحياة أن لم تخضع للأختبار لا تستحق ان تعاش..ويذكر ابن النديم في كتابه الفهرست ان الكندي كتب عددا من المؤلفات التي تدور حول سقراط وسيرته منها رسالة في خير فضيلة سقراط، ورسالة محاورة جرت بين سقراط واحد تلامذته، ورسالة في الفاظ سقراط .

***

بدأت الحكاية باليتم، فالأب الذي كان والياً على الكوفة توفى وترك غلاماً لا يتجاوز عمره الثلاثة اعوام، عاش في ظل عزٍ زائل، حيث لم يبق للصبي اليتيم إلا امه التي اخبرها بعد ان بلغ الخامسة عشر من عمره بنيته الرحيل الى البصرة:" في البصرة علم كثير، وعلماء كبار، خاصة في علم الكلام " وتقرر الام ان ترافق ابنها، ولم يطل به المقام طويلا في البصرة فبعد ثلاث سنوات قرر السفر الى بغداد، فدخلها سنة 819 للميلاد، واستقر في جانب الرصافة حيث كان أبوه قد ترك له دارا واسعة وبستاناً.

منذ ان ولد ابو يوسف بن اسحق الكندي عام 801 للميلاد، وحتى وفاته عام 871 وهو يسعى الى العِلم، قالت امه لإحدى جاراتها وهي ترى الفتى مهموم بالبحث والإنقطاع الى دروس المتكلمين: " ابني جائع إلى الكتب .. ولن يهدأ له بال، الا مع امراة عاقلة وجميلة " ..ووافقت الجارة ان تزوج ابنتها لسليل عائلة الامراء، لكن الكندي الشاب لم يجد في الزواج ضالته مثلما وجدها في كتب الأقدميين، قالت زوجته عنه:" كان قد اصبح مهموماً، تغلغلت حروف القرطاس في داخله واختلطت مع عطشه للعلم " . في البصرة تَتلمذ على يد المعتزلة واخذ عنهم اصول التحرر العقلي ومسؤولية الإنسان الكاملة عن اعماله، واستقلاله المطلق عن القدر وقدرته على التوصل الى الجميل والقبيح دون حاجة الى من يبلغه ذلك، وفي بغداد دخل بلاط المامون بعد ان كتب له " رسالة في العلة والمعلول "، وكتب للمعتصم " رسالة في الفلسفة الأولى "، ثم صار معلماً لاحمد بن المعتصم .ولعل قائمة الكتب التي الفها الكندي تدل دلالة واضحة على المدى الواسع الذي وصل اليه في مجال الفلسفة والفكر واللغة والعلوم .يكتب ابن النديم في الفهرست:" قد يقع في تعداد كتب الكندي خلاف بين المؤرخين، بالزيادة والنقصان، لكنهم متفقون على ان له في اكثر العلوم، مؤلفات من المصنفات الطوال والرسائل القصار " ويأخذ ابن النديم بتعداد مؤلفات الكندي كتاباً كتاباً، ليصل الى انه كتب في الفلسفة والهندسة والسياسة والمنطق والموسيقى والرياضيات، وكان اول فيلسوف يكتب في باب جديد اسمه علوم النفس، وقد اتبع الكندي في تحرير كتبه طريقة جديدة لم تكن معتمدة من قبله، فكان يبدأ رسالته بتحقيق وفحص الموضوع بعدها يبدأ بتحليله، ثم يخرج من ذلك بما يريد من أحكام ونتائج، ونجده يؤكد على أن التحليل والإستنتاج هما اساس كل معرفة حقة، فهذا بن موسى البيهقي في كتابه السنن والأثار يكتب:" انه كان فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها " .

يقال دائما إنّ الفلسفة العربية قد بدات مع الكندي، الذي ادرك منذ البداية ضرورة صياغة منهج دقيق للبحث، ولانه كان مولعا بالرياضيات والموسيقى والفلك منذ صغره، فقد انتهى إلى انه يمكن صياغة منهج للفلسفة يشبه العزف الموسيقى او العمليات الحسابية ونجده يحدث تلميذه ماسويه قائلا:" الرياضيات اولا .فلا سبيل إلى استخدام علم المنطق، إلا اذا سُبق بدراسة علوم الرياضيات، من حساب وهندسة وفلك، فمقدمات المنطق وأقيسته واشكاله تعتمد على الرياضيات " . وفي الموسيقى وضع الكندي عددا من الرسائل في التاليف الموسيقي، وصناعة الموسيقى واخبارها، وطرائق الالحان، حيث مزج فيها العلم بالفن،ولاول مرة في تاريخ الموسيقى العربية، نجد سلماً للموسيقى العربية، لايزال مستعملا الى اليوم،استرشد فيه الكندي بالسلم الموسيقي الذي وضعه فيثاغورس، ووزع الكندي انغام سلمه على اوتار العود الخمسة، فصار لكل وتر ستة انغام، اي ان اوتار العود تنتج ثلاثين نغما، وفي رسالة الكندي عن التاليف الموسيقي اكد ضرورة التاليف في العزف عند الانتقال من نغمة الى نغمة:" الموسيقى هي فن تالف النغم، وهو فن قائم على النسبة العددية رياضيا " .

كانت الفكرة المهيمنة على الكندي هي أنه لا مفر للإنسان من تحكيم العقل، فهو المحرك لكل المخلوقات، ويضع الكندي بعض الوسائل التي يمكننا بها تحرير عقولنا من سطوة الإرادة . يعتبر الزهد أحد هذه الوسائل، وهناك أيضًا الموسيقى . حيث نتأثر شعوريا بتلك الإشارات الصوتية أو المرئية التي نستمدها من سماع الموسيقى، ولهذا نجده يضع تعريفا متميزا للموسيقار يقول فيه ": الموسيقار الباهر الفيلسوف يعرف ما يشاكل كل من يلتمس اطرابه من صنوف الايقاع والنغم والشعر، مثل حاجة الطبيب الفيلسوف الى ان يعرف احوال من يلتمس علاجه او حفظ صحته " .

اضافة الى ان تجربة الكندي الفلسفية تميزت في تبيان معاني الفلسفة الصحيحة، وكشف امكانياتها ورسم حدود مفاهيمها، ووضع حجر الأساس في الفكر العقلي العربي، كان الكندي يدرك قيمة الفلسفة ووظيفتها في الثقافة الانسانية، والإيمان بان الفلسفة ملك الناس جميعا، وان هذه الفلسفة مهمتها بناء الحقيقة الواحدة، لاقامة صرح انساني متوحد .

في " رسالة في الفلسفة الاولى " يقدم الكندي تعريفا للفلسفة، ومهمة وعمل الفيلسوف، حيث ذكر ان:" الفلسفة هي التشبه بافعال الله تعالى بقدر طاقة الانسان "، والانسان الكامل الفضيلة، هو التعريف الذي يستحوذ على انتباه الكندي، ونراه يوضح في اكثر من رسالة الجانب الأخلاقي في تعريف الفلسفة، ليبين لنا انها صناعة الصناعات، وحكمة الحكم، وهي حياة الخير، ويضع الكندي فعل الشر نقيضا للفلسفة، ويعرفه بانه:" تشاغل بالذات الحسية وترك استعمال العقل "، ومن هذا التحليل يبرز اهتمام الكندي بوظيفة الفلسفة ومنزلتها ونحن نراه يعبر عن رأيه الخاص حين يذكر في احد رسائله الى ان:" اعلى الصناعات منزلة واشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الانسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه اصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق، ولذا كان الفيلسوف التام الاشراف، هو المرء المحيط بهذا العلم الاشرف، وكانت الفلسفة عالمة بالأشياء التي علمها بحقائقها "، وان: " علم الفلسفة هو كمال العلم بالحقائق " . كما نجد الكندي يدعو الى مبدأ الانفتاح الذهني والروحي على الأمم والشعوب، ومحاربة كل مظاهر الإنطواء والعزلة الفكرية مؤكداً ان الافكار لاحدود لجغرافيتها و لا جنسية لها، ولهذا فالإنسان لايمكنه ان يكتفي بنفسه، فيستغني عن معارف وافكار الآخرين، ويتفق الكندي مع سقراط وافلاطون على الوسيلة التي توصلنا الى المعرفة، فهو يحدد وسيلتين، الاولى هي الإدراك الحسي وهو مشترك بين الانسان والحيوان وهو يدرك المحسوسات المادية الجزئية الدائمة التغير التي لها صورة في المخيلة، والمعرفة الناشئة عن الإدراك الحسي غير ثابتة نظرا لعدم ثبوت موضوعاتها، والوسيلة الثانية العقل الذي يدرك الحقائق العميقة التي هي أبعد عن الانسان، لكنها اقرب الى طبيعة الأشياء، ونجده يرهن وجود المادة بتصورها في العقل .

وكان الكندي اول فيلسوف عربي يهتم بموضوعة الفيزياء .. ونجده من اوائل الذين تطرقوا لمفهوم النسبية، فقد صرح بان العالم لمادي وجميع الظواهر المادية تتسم بجوهرها النسبي، حيث تعد النسبية جوهر قانون الوجود . ووفقا للكندي فإن الزمان والفراغ والحركة والجسم تعتبر جميعها نسبية، وليست مطلقة . الجدير بالذكر ان كل هذه الظواهر قد اعتبرها جميع المتخصصين في علم الميكانيكيا امثال غاليليو وديكارت ونيوتن نسبية وهو ما اتفق عليه اينشتاين ايضا . يقول الكندي:" إن كانت هناك حركة وجد زمان، وان لم تكن هناك حركة لم يكن زمان .والحركة انما هي حركة الجسم، فان كان هناك جسم كانت هناك بالضرورة حركة " .بناءً على هذه العبارة التي ادلى بها الكندي فإن كل الظواهر الفيزيائية ترتبط ببعضها البعض، فهي ليست مستقلة، وبالتالي ليست مطلقة . وهذا ما عبر عن اينشتاين عندما تطرق لشرح نظرية النسبية العامة، حيث قال:" قبل النظرية النسبية العامة اعتبرت الفيزياء الكلاسيكية دائما ان الزمان مطلق، وهذا يعني ان الزمان مستقل عن حركة أي جسم، ولكن من الواضح اننا اظهرنا عدم كفاية تلك النظرية مع التعريف الحقيقي للزمان " – اينشتاين النسبية النظرية الخاصة والعامة ترجمة رمسيس شحاتة - . ووفقا لما ذكره الكندي وايضا اينشتاين، لا يتسم الجسم والزمان والحركة والفراغ بالنسبية فقط بالنسبة لبعضهما البعض، بل ايضا بالنسبة للاجسام الاخرى والفرد المتابع والمراقب لهما . وهذا ما يفسره الكندي بمثال شخص يرى جسما اصغر او اكبر وفقا لحركته العمودية بين الارض والسماء، فإذا اتجه الشخص لأعلى نحو السماء سيرى الاشجار اصغر حجما، اما اذا اقترب من الارض فسيراها اكبر حجما، ووفقا للكندي لا نستطيع ان نقول إن هناك شيئا صغيرا او كبيرا في المطلق، بل يمكننا القول عنه أصغر أو اكبر بالنسبة لجسم آخر محدد . وبالمثل، خلص اينشتاين إلى انه لا توجد قوانين مطلقة في ظل كون القوانين فيه مستقلة عن الشخص المتابع او المراقب للجسم المرئي، ومن ثم يجب اثبات القانون من حيث القياس الخاص بالشخص المتابع للجسم المرئي . من ناحية اخرى يقبل الكندي تلك الحقيقة التي مفادها ان الانسان نفسه يتسم بالنسبية والمحدودية . كذلك يتسم كل من الزمان والحركة والجسم بالمحدودية، ونجد اينشتاين يعبر عن هذه الفكرة فيقول:" يتسم هذا العالم الذي يضم كل هذه الكائنات بمحدوديته، على الرغم من وجود كل هذه الكائنات بشكل محدود " .

***

يعود الفضل في الصياغة الاولى لفكر الفلسفة الاسلامية بمعناها الدقيق، للكندي .. ويعد كتابه حول الفلسفة الاولى عملا اصيلا ولا يعتبر شرحا، كما انه ليس ملخصا لميتافيزيقيا ارسطو، ولان الكندي كان معاصرا للوقت الذي تم فيه ترجمة الاعمال الفلسفية اليونانية الى العربية، فان كتابه " رسالة في حدود الاشياء ورسومها " وهو كتاب صغير لكنه قاموس فلسفي دقيق، وربما يكون اول قاموس للفلسفة باللغة العربية، يتضمن ما يقارب المئة مصطلح، بعض هذه المصطلحات وضع لها الكندي تعريفا فلسفيا خاصا .إن الفلسفة يجب ان تستخدم المنهج الذي يثبت او يدلل على معنى كل كلمة او لفظ او مفردة، وقيمة كل تاكيد . وبالتالي فان من يجهل علم الرياضيات والمنطق لايمكن ان يتخصص في الفلسفة لان الاستدلال او الاستنتاج فقط هو الذي يقودنا الى العلل الاولى .

وثمة رواية توضح لنا كيف حاول الكندي الدفاع عن الفلسفة ضد خصومها، اذ يروي لنا احد تلامذة الكندي وهو احمد بن الطيب السرخشي ان الخليفة المعتصم سأل الكندي ذات يوم عن غاية الفلسفة، وهل تتعارض مع الدين، فقرر ان يكتب له رسالة يدافع بها ضد من يسخرون من الفلسفة وان يرد عليهم  وكانت عدته في ذلك مجموعة من الأفكار والاسئلة التي حددها بثلاثة اسئلة رئيسية هي:

1- السؤال عن أنية الشيء، هل يعني هو موجود بالإطلاق

2- السؤال عن ماهية الشيء، يعني ما هو؟ أو تحت اي جنس يقع؟

3- السؤال عن غاية الشيء، يعني لِم هو؟ اعني السؤال عن علته الغائية، او بمعنى ادق عن غايته

ويقول الكندي اذا اجتمع السؤال عن: ما هو الشيء؟ واي شيء هو، كان ذلك نوعا من الفلسفة .

ويسعى الكندي ان يمزج هذه الاسئلة بوظيفة العقل عند الانسان:" من ادرك طريق الحق، فليكثر مسائلة الحكماء ومشاورتهم، وليكن اول شيء يسأل عنه العقل، لأن جميع الاشياء لاتدرك الا بالعقل "، وكان الكندي مؤمنا بان لا تعارض بين الفلسفة والدين، وقد حمله هذا الايمان على التصريح بالفلسفة وبحثها دون خشية، بل ذهب اكثر من ذلك فوصف اعداء الفلسفة بالكفار وانهم لا يؤمنون بدين، وسعى الى التوفيق بين الاراء المختلفة في الدين ليخرج منها برأي فلسفي يقول ان الآراء مهما ظهر من تباعدها في النظر إلى الله متفقة على انه واحد وخالق، وبذلك نجد ان الكندي حاول ان يدخل الفلسفة الى عالم الدين بوصفها عامل توفيق تذوب فيه الأختلافات وبسبب هذه الآراء التي كانت تطرح للمرة الاولى في المجتمع الاسلامي، تعرض الكندي لمحنة شديدة وواجه عداء رجال الدين الذين وصفهم باصحاب:" الكراسي المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لان من تجرأ بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجرا بالدين لم يكن له دين، ويحق ان يتعرى من الدين من عاند الفلسفة وسماها كفرا " . ويصر على أن يضع الفلاسفة في موضع الورثة الجديرين بالأنبياء، وبحسب الكندي تعد الفلسفة استمرارا للمعرفة النبوية، استمرار اكثر منه قطيعة، والإختلاف بينهما في الاسلوب، ليس اختلافا يتعلق بالحقيقة، هو اختلاف في شكل نقل الحقيقة . لان الحقيقة تظل واحدة، وهذه الاستمرارية طبقا للكندي بين هذين الضربين من الكلام، (النبوي والفلسفي)، تتم تحت سلطة العلم، ولهذا ينبغي ان نُدين الدجالين الذين يوجهون امة المسلمين ضد المعرفة العلمية، اولئك الذين يزعمون ان الفلسفة عدو للدين، رجال الفرقة هؤلاء كما يقول الكندي " يتاجرون بالدين في حين انهم بلا دين " .

وبسبب هذه الاراء اشاع بعض رجال الدين بان الكندي ليس عربيا وانه من اصل يوناني، وانه كفر بعد الأخذ باراء الفلاسفة اليونانيين، ونجد احد الشعراء " ابو العباس بن محمد الناشيء " يؤلب عليه السلطة:

اتقرن الحادا بدين محمدا

لقد جئت فينا يا اخا كندة غدا

وتخلط يونان بقحطان ضلة

لعمري لقد باعدت بينهما جدا .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الفكر اليساري التقدمي هو الخميرة الإنسانية الأولى دون شك لكل مراهق ثوري في زمن المراهقة، وخميرة اليسار واليسارية ضرورة للوعي النقدي ولكل أديب ومثقف، لكن التحول قد يحصل حال اكتمال الفكر بعد سن المراهقة، وقد تكون خاتمة العلاقة مع جميع الأحزاب، لأن الفتى السياسي في عمله الحزبي في سن المراهقة كان وحشاً كاسراً في تمسكه بموقفه ودفاعه عن فكره وعقيدته، لكن استمرارية العمل السياسي والحزبي حتى سن الكهولة سيصبح جحشاً ينفذ ما يرغب به قيادات الحزب من اعمال ومهمات سياسية وحزبية، وهذا ما يؤكده الدكتور ميثم الجنابي في كتاب (العراق حوار البدائل) وقد حاوره مازن لطيف، إذ يؤكد (من لا يكون يسارياً ثورياً زمن المراهقة فهو وحش! ومن يبقى يسارياً ثورياً بعدها فهو جحش!) ص32.

علماً أن وجود الأحزاب والأفكار جميعاً ضرورة ولكن بوصفها جزءاً من منظومة عليها أن تحتكم إلى الاعتدال وتسترشد به في الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات والمجتمع والدولة والثقافة.

وقد أوصلتني تجربتي السياسية والحزبية إلى أن الأحزاب السياسية جميعاً لا يمكنها أن تكون ميداناً ولا ممراً للحقيقة والبحث عنها. والأحزاب السياسية اليوم جميعها هي مصيدة شرسة لقتل الثقافة والمثقفين والروح النقدي الحر. وهو السبب الذي جعل منها أن تقتل أنبل القلوب وأصفى العقول وأشد العزائم دون أن يخامرها الشك بأن ما تقوم به هو عين النبل والعقل والعزيمة! وهي نتيجة يمكن العثور عليها عند الأحزاب المسترشدة بعقائد دينية ودنيوية.

فالأحزاب اليوم هي تجمعات قوى اجتماعية رثة، وأقليات ضعيفة، تعاني من أزمة النمو والتكامل، وتقلد بطريقة فجّة كل موضة إيديولوجية يدفعها المركز المتخلف! من هنا تحولت بعض الأحزاب إلى تجمعات يصعب تحديد هويتها، لأنها منذ البدء بلا هوية وإنما تابعة لدول أخرى ترعاها، فتحولت إلى مسخ ومن ثم إلى صراع حزبي دموي، بحيث أصبحت فكرة الحزب والقيادة الحزبية رديفاً للمؤامرة والمغامرة وانعدام الأخلاق، ورديفاً لكل الرذائل الواقعية والممكنة، وبالتالي صعوبة توقع ظهور شخصيات سياسية لها وزن وطني ودولتي، وإنما ظهور شخصيات طفيلية همها المناصب والمكاسب والكذب على الجمهور واعضاء الحزب، وبعض القيادات تجدها ناقصة وجاهة أو خرجت من مجتمعات قروية متخلفة فتأخذ من الأحزاب قيادات لملأ النقص فيها. والشيء الوحيد الذي تتفنن به تلك القيادات السياسية هو احتراف الخديعة والدخل والمكر والكذب، بوصفها الصفات المعوضة عن غياب الكفاءة المعنوية والمهارة العلمية والاحتراف العلمي.

وليس مصادفة أن تكون الأحزاب السياسية في العراق هي احزاب أهواء إيديولوجية. إنني لم أعثر لحد الآن على دراسة جديدة واحدة كتبها أي من قياديي الأحزاب السياسية المعروفة في العراق، أو حتى عند الحزب السياسي بأكمله، يمكن اعتبرها دراسة ذات ابعاد وطنية واستراتيجية متكاملة أو ذات أفق يشمل رؤية واضحة الآفاق تطور الدولة بمختلف ميادينها على أسس فكرية مستقلة وعلمية. لككني أجد جميع الأحزاب لها اجترار للأهواء الإيديولوجية، وحالما تنظر إلى تاريخها الآن فأنك تصاب بالغثيان من هذه الكمية الهائلة والسطحية بلا سياسة ولا فكر.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في عالم الوجود الاجتماعي المصطخب بهدير الصراعات السياسية، والتناقضات الاجتماعية، والانقسامات الثقافية، والاحتقانات النفسية، والصدامات الحضارية، والحساسيات التاريخية. لا وجود لمؤسسات أو كيانات أو ظاهرات خارج إطار الكينونة الزمكانية التي تتبلور على أساسها الأنماط والدوار والوظائف. بحيث تتمكن من فرض حضورها البنيوي وتمارس تأثيرها الرمزي، الذي من خلاله تفصح عن ماهيتها / هويتها في خضم هذا المعترك الوجودي الصاخب. وبرغم أن الدولة – بحسب علم السياسة - كيان (اعتباري) عديم الفعالية بدون سلطة تدعمه وتبث الحياة في أوصاله، إلاّ أنها تعد واحدة من أبرز وأخطر المؤسسات التي استطاع المجتمع الإنساني – على مدار تاريخه المديد – ابتداع فكرتها لضمان أمنه وتنظيم شؤونه وتحقيق مصالحه.

والمفارقة ان الضرورات الإنسانية الملحة التي استدعت وجود مثل هذه المؤسسة الحيوية في حياة الإنسان المادية والمعنوية، لم تكن على الدوام ضمانة أكيدة لدرء المآسي السياسية والفواجع الاجتماعية والكوارث الاقتصادية، لاسيما في المجتمعات المتصدعة البنى والمتهتكة القيم. حيث كانت هي السبب الرئيسي في اصطناع أزماتها، والعامل الأساسي في إشعال فتيلها، والمحرك الدافع لإيقاع مصائبها على من يفترض أن تكون المسؤول الأول والمباشر، ليس فقط عن احتضانهم (كمواطنين) ينعمون بالأمن والسلام والرفاهية وفقا "لمبادئ العدالة والمساواة، مثلما التعبير عن (هويتهم الحضارية) كجماعات قومية لها تاريخ وجغرافية وثقافة فحسب، بل وكذلك لاستمداد الشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية عبرهم ومن خلالهم.

ولعل الدولة العراقية كانت – ولا تزال  - سواء في حضورها الطاغي (الشمولية) أو غيابها المجحف (الفوضوية)، من أكثر العوامل المسببة لتفكيك مدماك المجتمع العراقي الى شظايا جماعات متناثرة، وتدمير معماره الحضاري الى بقايا أصوليات مبعثرة، ليس لأنها مارست سياسة (مركزية) مفرطة في الحالة الأولى، أو أجبرت على انتهاج (حيادية) مفرّطة في الحالة الثانية. فتلك – على أية حال – نتيجة لتضافر ظروف داخلية وعوامل خارجية ما كان بمقدورها أن تتغلب على شروط صيرورتها أو أن تفلت من سياقات سيرورتها، وإنما جرّاء تاريخها الموسوم (بالغربة) عن كيان المجتمع العراقي والانقطاع عن تواريخ جماعاته والانفصال عن ثقافات مكوناته. إذ لا يخفى ان ولادة الدولة العراقية لم تكن ولادة طبيعية - كما في غالبية الدول - نمت وترعرعت داخل حاضنة محلية (عراقية)، بحيث استمدت من أمشاج جماعاتها السوسيولوجية وتفاعل مكوناتها الانثروبولوجية مقومات كينونتها الحضارية، وتحمل بالتالي خصائص تلك الجماعات والمكونات من خلال التشبع بقيمها والتمثل لرموزها والانعكاس لذاكرتها والتماهي بمخيالها. وإنما انبثقت الى الوجود بإرادة أجنبية وقرار خارجي لا يمت الى الواقع التاريخي والحضاري العراقي بصلة، وهو الأمر الذي ترتبت عليه جملة من الإشكاليات والمفارقات شكل لديها بمثابة (عقدة نقص) لم تبرح تطاردها منذ عام 1921 ولحد الآن.

ومما فاقم من أعراض (القطيعة) التاريخية والسوسيولوجية ما بين الدولة (الوطنية) والمجتمع (العراقي)، وضاعف من تبعاتها وتداعياتها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي أن جميع الأنظمة التي وثبت الى سدة الحكم واعتلت صهوة السلطة – سواء عن طريق الانقلابات أو المؤآمرات – بدلا"من أن تعمل على تجسيير أو تقليص تلك الفجوة / الهوة التي لا تني مساحتها تتسع وأبعادها تتعمق، سعت الى تكريسها مؤسسيا"وترسيخها سيكولوجيا"، بحيث لم يعد هناك ما يجمع بين الطرفين سوى انعدام الثقة المتبادل وغياب لغة التواصل والتفاعل البيني. وذلك على خلفية ما كانت تكنّه الجماعات والمكونات من مواقف سلبية حيال (دولة) طالما أثبتت عجزها – رغم كل ما بحوزتها من إمكانيات مادية ومعنوية – عن إثبات صدقية تمثيلها مصالح المجتمع (العراقي) الكلي، بدلا"من كونها أضحت مؤسسة تعمل لصالح جماعات أو مكونات بعينها على حساب مصالح جماعات ومكونات أخرى، كما عودتنا على ذلك طيلة تاريخها المعمد بالعنف والقسوة.

وعلى هذا الأساس، فقد واجهت (الدولة) العراقية إشكاليتان لا يمكن دون استيفاء شروط تخطيهما والمضي باتجاه حل ألغاز المآسي والكوارث والفواجع، التي لم تفتأ مكونات المجتمع العراقي من تجرع مرارتها والاكتواء بلظاها والاحتراق بسعيرها من حين لآخر كما لو أنها لعنة أبدية. هذا وقد تمثلت الإشكالية الأولى بتجاهل مسألة (تعريق) الدولة وحسم موقفها من الانتماء الى العراق أرضا"وشعبا"، دون تمييز أو تفضيل على أساس سياسي / حزبي أو إيديولوجي / عصبوي. أي بمعنى ان الدولة العراقية لم تكن منذ تأسيسها دولة (مجتمع) كلي، وإنما كانت – ولا تزال – دولة أصوليات ؛ إيديولوجية أو اقوامية أو طوائفية أو قبائلية أو عشائرية أو جهوية، والآن بات عليها أن تستحيل الى كيان مؤسسي يتمتع بالسيادة الوطنية والقوة الشرعية التي من شأنها السمو به فوق تلك الأصوليات الفرعية والعصبيات التحتية. أما ما يتعلق بالإشكالية الثانية، فقد تمثلت بعجز تلك الدولة وانعدام قدرتها على حيازة (هوية حضارية) عامة وشاملة عابرة للانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، والتي طالما شكل غيابها عائقا" جديا"في تحوّلها من دولة (رعويات) أصولية (اثنية ومذهبية وقبلية) متكارهة، الى دولة (مواطنة) عراقية (معيارية ودستورية وإنسانية) جامعة وموحّدة.

وعلى هذا الأساس، فان قضية (استعصاء) حيازة الدولة العراقية لكينونة حضارية عليا تتميز بها وتدل عليها، وتكون لها بمثابة (هوية) وطنية جامعة تنضوي تحت رايتها – ولا نقول تنصهر في بوتقتها - مختلف أنماط الهويات والثقافات التي يتشكل من تفاعلها وتواصلها وتكاملها النسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي، ستبقى العائق الأكبر والتحدي الأخطر ليس فقط حيال معضلة (اغترابها) المزمن عن بيئتها الاجتماعية الحاضنة (الوطنية) فحسب، مثلما (فشلها) في استعادة سلطتها المنتهكة وإمكانية فرض هيبتها المستباحة فحسب، بل وكذلك ستمنح للجماعات والكيانات الأصولية المنفلتة المبررات الواقعية والمسوغات المنطقية، لكي تستمر بالتمترس داخل حصون عصبياتها الأولية والتحصن وراء جدران نوازعها البدائية.

***

ثامر عباس

يبدو من المعطيات القائمة اليوم، أن ثمة عودة للخطابات التحريضية الطائفية التي توزع الأحكام المطلقة الكاسحة، وتبث الكراهية بين المواطنين، وتسعى نحو خلق حواجز عميقة بيم مواطن خليجي وآخر باعتبارات مذهبية.. فأصبحنا صباح مساء نسمع الرديح الطائفي الذي يوغل الصدور، ويشحن النفوس بغضا وكراهية وعداوة ضد الآخر المذهبي.. والذي يثير الأسى أن هناك شخصيات أكثر حكمة ووعيا وإدراكا لمآلات هذه الخطابات والنزعات، إلا أنها ولأسباب نجهلها وقعت في الفخ الطائفي، وبدأت تمارس عملية التحريض الطائفي.. والمادة المستخدمة في عملية التحريض وبث الكراهية المذهبية، هي مزيج بين أحداث التاريخ وأحداث الراهن، ومعادلة صفرية يعمل أصحاب هذا الخطاب على تعميقه في المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي الخليجي.. 

فالأحكام والأوصاف الشنيعة،لا تتجه نحو  فرد ارت كب خطأ أ وخطيئة، وإنما نحو مجتمعات بكاملها، يوصف بصفات أقل ما يقال عنها أنها ضد ومخالفة للتوجيهات القرآنية التي تقول [ ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ].. فغابت ثقافة التمحيص والتبين، وشاعت الأحكام الجاهزة والسهلة، التي تعادي مجتمعات، وتطلق أوصافا مقززة للنفس لم يطلقها رسول الله صلى ال عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه على أعدائهم وخصومهم من الكفار والمشركين والمنافقين.. 

وفي زمن التحريض الطائفي، الجميع يدعي أن واجبه الديني والأخلاقي والوطني، يقتضي فضح هذه الفئة أو تلك، دون أن يتبصر أحد بمآلات ما يقولون أو يطلقون أحكاما ظالمة تجاه بعضهم البعض.. فليس سرا أن المسلمين اختلفوا أو توزعوا في مذاهب فقهية عديدة منذ مئات السنين، وأن لكل مذهب منظومته الفقهية والعقدية، وإن لكل مذهب مبرراته النقلية والعقلية لما يذهب إليه أو ما يؤمن به.. وهذا الأمر حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها وتجاوزها.. وإن الخلاف بين المسلمين لم يبدأ اليوم، وإنما من مئات السنين.. لهذا فإن التحريض المذهبي والطائفي اليوم، ليس بريئا، وإنما هو جزء من أجندة سياسية، تستهدف زيادة الشرخ الطائفي في منطقة الخليج، وزيادة وتيرة السجالات المذهبية لتمرير خطط ومؤامرات تضر بالسنة والشيعة في الخليج معا.. وإن صمتنا تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي أو مشاركتنا فيها، هي جزء من الخطايا التي نرتكبها بحق أنفسنا وبحق المجتمعات التي نعيش فيها.. 

فالتحريض الطائفي لن ينهي السنة أو الشيعة من الخليج، وإنما سيوفر لهما أسباب الاحتراب والكراهية.. وإن أسباب الاحتراب والكراهية حينما تتعمق في نفوس الناس، فإننا جميعا نصبح أمام خطر حقيقي على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.. فالنار الطائفية حينما تشتعل فإنها لن تحرق فقط خصمك المذهبي وإنما ستحرق أيضا شاعلها.. 

لهذا فإننا نحذر الجميع من الصمت تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي التي تشهدها منطقة الخليج هذه الأيام.. وأرى إن أي جهد تحريضي بين السنة والشيعة في الخليج، فإنه ينذر بمخاطر جسيمة علينا جميعا.. لهذا فإن المصلحة الخليجية العامة، تقتضي الإسراع في إخماد نار الفتنة والتحريض الطائفي،و عدم السماح القانوني لخطابات الفتنة والتحريض من الاستمرار في خلق الفتنة أو التحريض الطائفي بين مجتمعات الخليج.. 

ولعل من أهل المغالطات التي تلوكها الألسن هذه الأيام، أن من أجل الوحدة الوطنية في بلدان الخليج العربي، نحن نمارس عملية فضح هذه الجهة المذهبية أو تلك.. لأن التحريض الطائفي بكل أشكاله ومستوياته، هو مناقض للوحدة الوطنية في الخليج.. فالوحدة الوطنية في الخليج، لا تبنى بمحاربة السنة أو الشيعة، بل تنهدم كل أركانها حينما نسمح للحروب الطائفية بالاستمرار.. فالوحدة الوطنيةكمفهوم وكحقائق اجتماعية وسياسية وثقافية، هي على النقيض من خطابات التحريض الطائفي.. وإن من يبحث عن تعزيز قيم الوحدة الوطنية في مجتمعات الخليج، فعليه أن يكف عن ممارسة التحريض الطائفي..لأن مآلات خطاب التحريض المذهبي لا ينسجم ومقتضيات الوحدة الوطنية.. 

وإن السمح لأي طرف في أي دولة خليجية للاستمرار في خطاب التحريض وبث الكراهية المذهبية بين المواطنين، يعني على المستوى الواقعي السماح له بهدم مرتكزات الوحدة الوطنية في المجتمعات الخليجية.. وإن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة.. ليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية،  في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحد.. 

فالمسألة الطائفية في منطقة الخليج العربي، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتوتير الأجواء وخلق الخطابات التحريضية التي تزيد المشكلة اشتعالا.. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة السياسية والعامة التي تفكك المشكلة من موقع التعالي عن الاصطفافات الطائفية.. فالدعاة والعلماء والخطباء والمثقفيم والأدباء، ينبغي أن يكونوا جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.. وإننا مهما كان الوضع على صعيد العلاقات المذهبية صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والاحترام المتبادل.. ولا بد من الإدراك أن الخطابات الأخلاقية والوعظية بوحدها، لا تعالج المشاكل الطائفية.. وثمة ضرورة فائقة لإسناد هذه الخطابات والتوجيهات الأخلاقية، بسن منظومة قانونية متكاملة، تجرم وتعاقب كل من يسيء إلى مقدسات الآخرين.. وندعو هنا كل دول الخليج وهي جميعا تحتضن في مجتمعاتها تعددية مذهبية، إلى الإسراع في سن القوانين التي تجرم أية ممارسة تمييزية بين المواطنين على أسس مذهبية، وتحث من  موقع القانون والإجراءات الدستورية والإدارية إلى الدمج بين المواطنين وجعل قاعدة العلاقة على كل المستويات هي قاعدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي للمواطنين.. 

وفي تقديرنا أن التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هو ليس بفعل الخلافات العقدية أ والفقهية أو التاريخية، وإنما بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.. لذلك نجد أن موضوعات التوتر الطائفي اليوم، كلها أو أغلبها ليس له صلة بالخلافات التاريخية (مع إدراكنا أن بعض الأطراف تعمل على تفسير هذه التوترات بفعل هذه الخلافات) وإنما صلته الحقيقية بدائرة المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وعليه كلما كانت مشروعات التنمية متوازنة، وفرص العمل متكافئة، تتضاءل فرص التوتر الطائفي.. 

وأود في هذا السياق أن أثير المفارقة التالية وهي: 

أن الإسلام في تجربته الأولى كان طاقة توحيدية ووحدوية واستيعابية خلاقة، فاستوعب جميع الأفرقاء والأقوام والقبائل تحت مظلة الإسلام.. أما ما يقدمه بعض دعاة وخطباء اليوم باسم الإسلام، فهو مفارق في المظهر والمضمون لتلك الميزة الاستيعابية الهائلة للإسلام في تجربته الأولى.. فبعض دعاة اليوم يتحدثون عن فهم وسياق فكري وثقافي وتاريخي واحد، والرافض لهذا الفهم والسياق، هو خارج عن الملة ومتورط في عملية هدم الإسلام من الداخل.. كما أن بعض خطباء اليوم يقدمون الإسلام وكأنه طاقة للتصنيف والتجزئة وكل القيم المضادة للتوحيد والوحدة.. 

لهذا فإذا أردنا أن نساهم في ضبط النزعات الطائفية في مجتمعاتنا، علينا التعامل مع الدين الإسلامي بوصفه طاقة توحيدية – استيعابية للجميع، وإن قسر الناس على فهم بشري واحد، هو مناقض لسعة الإسلام وتيسيره، كما أنه مضاد لتجربته الأولى التي جمعت أمزجة وأقوام شتى، جميعهم وجدوا في الإسلام ضالتهم الذي أشبع روحهم وعقولهم.. فتعالوا أيها الأحبة يا دعاة الإسلام من كل المذاهب والمدارس الفقهية، لا تضيقوا الإسلام، ولا تحولوه إلى عنوان للتمزق والاحتراب والكراهية بين الناس.. فالإسلام هو دين الرحمة، فلانحوله بعصبياتنا الطائفية إلى دين القتل والاقتتال.. إنها مهمة وجودية ومعرفية قادرة على إخراج المسلمين اليوم من مآزق ومشكلات عديدة.. 

وحراسة قيم الدين وثوابته، لا تتأتى بطرد المختلفين معنا في الفهم والإدراك لقيم الدين، ولا باستعداء السلطات عليهم، بل بمساواتهم مع الذات في الفهم والالتزام والحقوق..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

ختم معرض أبوظبي الدُّولي للكتاب دورتَه (32)، بندوة «ابن خَلدون.. المُقدمة والتَّاريخ» (28/5/2023)، فابن خَلدون (732-808هج) الشَّخصيَّة المحتفى به. كان الحضور يرجون الرَّأي بابن خلدون، أمَّا سيرته وتفاصيل التَّحقيق فمجالها آخر. يُعد ابن خَلدون الثَّاني، مِن الأقدمين، كتب مذكراته بقلمه، بعد أسامة بن منقذ (ت: 587هج) في «الاعتبار». فهما خصصا كتابيهما لسيرتيهما.

يظن المقدسون أنْ ما كتبه ابن خَلدون لم يسبقه سابق، مثلما قال: «وأكملت المقدّمة على ذلك النَّحو الغريب، الّذي اهتديتُ إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام، والمعاني على الفِكر» (المقدمة). يقصد خلوته بقلعة بني سلامة (776هج)، غير أنّ مقدمته، على فصاحتها، لم تكن «نحو غريب»، ولا تُقصد ببيت كعب بن زُهير(ت:25هج): «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا» (ابن عبد ربه، العقد الفريد)، ففيها الجديد ومنها تطبيقات آراء السّابقين على الدّول والمجتمعات التي أدركها.

كان ابن خَلدون حريصاً، يذكر مصادره، مشارقةً ومغاربةً، إلا رسائل إخوان الصَّفا، التي ظلالها وارفة على مقدمته (مقالنا في الحياة 21 يناير1997): مِن دورة نشأة الكائنات، والعلوم، والموسيقى، عنده «صناعة الغناء»، إلى السِّحر وعلاقته بالحروف، وما بين النَّبي والفيلسوف، عنده النَّبي والحكيم، كلها واحدة، وفلسفة الدَّولة أهمل منها دولة الخير، ومراتب «مجتمع الإخوان»، وكل ما تعارض مع عقيدته، مع الغرابة بأخذ فكرتهم في التَّكوين نصاً، التي لا تنسجم مع أشعريته.

لم يكن «إخوان الصَّفا» ينتمون لمذهب، كي نعذر ابن خَلدون بعدم ذِكرهم، ولا اتجاه سوى الفلسفة، فالمثقف لا تحتمله المذاهب. قد يُقال: كيف أطلع ابن خَلدون المغاربي على رسائل فلاسفة عراقيين؟! يُجيب صاعد الأندلسيّ (ت: 462هج) أنّ عَمرو الكرماني (ت: 450هج) كان ببغداد فـ«جلب معه الرِّسائل المعروفة برسائل إخوان الصّفا، ولا نعلم أحداً أدخلها الأندلس قبله» (طبقات الأُمم).

كان ابن خَلدون، ابن عصره عظيماً، في كتابة التاريخ والأسلوب الذي كتب به مقدمته، لكنه ليس الأول الذي أستهل تاريخه بمقدمة فكريّة، سبقه ابن الطّقطقي (ت: 708هج) في «الفخريّ»، مع الاختلاف، وأنْ ما ورد في مقدمته كان استيعاباً للرسائل المذكورة.

لسنا مع تقديس عليّ الورديّ (ت: 1995) عندما اعتبر المقدمة: «مِن فيض الخاطر» (منطق ابن خلدون)، ولا ساطع الحصريّ (ت: 1968): «تدفق مفاجئ بعد حدس باطنيّ» (دراسات في المقدمة). بالمقابل لسنا مع تبخيس سامي شوكة (ت: 1986)، مدير المعارف العراقيّة: «لو كنَّا وطنيين حقَّاً لنبشنا قبر ابن خَلدون، وأحرقنا كتبه» (الحصري، مذكراتي). فالعِلم ليس إلهاماً وفيوضَات، تراكم معرفيّ. كذلك لو أمتلك شوكة حِجةً لقدمها.

ابن خَلدون ابن زمانه، لا يُحاسب بروح زماننا هذا. لأنه قال عن تيمورلنك (803هج): «مدّ يده إليّ فقبّلتها» (كتاب التَّعريف)، أو لأنّ تيمورلنك طلب منه كشفاً بجغرافيا المغرب - بنية غزوها –: «وأحبُّ أنْ تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره، وقراه وأمصاره، حتَّى كأني أشاهده». فكتب له: «مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة مِن الكراريس» (التَّعريف)، أو مخاطبته: «ما أعتقد أنه ظهر في الخليقةِ، منذ آدم، لهذا العهد مَلكٌ مثلك، ولستُ ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم»(نفسه).

مَن يؤاخذ ابن خَلدون، ويعتبره خنوعاً للسلطان التَّتري، ليفهم أنّ ذلك كان عصر الإمبراطوريات المتغلبة، لا يُقاس بالخيانة والوطنيَّة. فالمعتزلة، الذين نعتز بهم، وننتقد ابن خَلدون لأنه أشعريٌّ ضدهم، كان قطبهم عبد الجبار بن النُّعمان السَّمرقنديّ المعتزليّ(ت: 808هج)، ترجماناً عند تيمورلنك، ترجم بينه وبين ابن خَلدون (التَّعريف)، وطاف معه البلدان (حاجي خليفة، سلم الوصول إلى طبقات الفحول)، فشهد الفظائع، وآلام مَن غزاهم.

أقول: إنَّ سبيلَ العلم لا تقديسٌ ولا تبخيسٌ، إنصافٌ باعتماد دراية، وتحقيق رواية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الأنماط يملك مقومات ذاتية أو موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين، من 1901 إلى 1920 مثلاً (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة)، وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيراً، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس، وبموازاة هذين، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة، مع نظيرتها في الفترة نفسها من القرن الجديد، أي الفترة من 2001 إلى 2020.

فما الصورة التي نتوقع أن تولد من تلك المقارنات؟ وفي الأساس، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟

أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولذا لا أطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني أعلم أن الاقتصاد ليس عالماً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها «النظام الاجتماعي»، الذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية أعضاء المجتمع. من هنا، فإن السؤال عن مصادر الإنتاج وأنماط المعيشة، يشكل مدخلاً لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للأفراد، وكيف يعاد إنتاج تلك الثقافة أو بدائلها، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي أو السياسي. أما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع، والعوامل التي حركتها أو تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي أن حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90 في المائة من السلوك اليومي للفرد، وهي بالتالي جزء مما نسميه العقل الجمعي. الثقافة العامة لأي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم، وبالتالي فهي مؤثرة جداً في تحديد نوعية الحياة والإنتاج، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الثقافة لا تبقى على حال واحدة، فهي أيضاً تتحول باستمرار، ولكن ببطء. وحين تتحول، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم، وعلى نوعية الأعمال التي يميلون إليها أو ينفرون منها.

لقد أثرت حتى الآن قضايا كثيرة، لا يتسع المجال لشرح أي منها، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة إلى أننا بحاجة فعلاً إلى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على أسواق العالم. وفدت بعد اتصاله بالعالم أو تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جداً في تحديد ما هو راسخ الجذور، ثم تطويره إن كان قابلاً للتطوير، بحيث يتحول إلى مصدر إنتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتماداً على تفاعلات محلية.

يمكن أن نضرب مثالاً على هذا بالسياحة (بمختلف أغراضها) والزراعة والتعدين، إضافة إلى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى أن كثيراً من المجتمعات العربية يميل إلى التفريط في هذه الموارد، ثم يعيد استيراد وسائل إنتاجها أو منتجاتها من السوق الدولية. نحن الآن نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر إنتاجها، وأمثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة، وكان الأمثل تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج إلى إضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟ هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك؟ أم ساعدنا في التحرر من عقلية قديمة؟

***

د. توفيق السيف

تعد الرقابة ظاهرة إنسانية متجذرة في البنية التكوينية للكائن البشري؛ إذ إن لها حضورا في المجتمعات البدائية الأولى، واستمرارا حتى حياتنا المعاصرة. بيد أن أسبابها، الظاهرة والمضمرة، والأهداف المرجوة منها، وتمظهراتها وتجلياتها، ودرجة حضورها تختلف باختلاف المجتمعات البشرية، والشروط التاريخية والثقافية والاجتماعية لهذه المجتمعات. ومن ثم، أخذت الرقابة وأشكالها وطرق ممارستها تتطور بتطور الوعي والفكر والأهداف على مر التاريخ.

في هذا المساق، تأتي دراسة الباحث المغربي سالم الفائدة، المعنونة ب"الثقافة والرقابة، دراسة تاريخية معرفية"، لمقاربة هذه الظاهرة من خلال تتبع حضورها في التاريخ البشري منذ المرحلة البدائية إلى القرن العشرين، مقاربة يتقاطع فيها التاريخي والمعرفي والثقافي.

على أن الباحث انطلق من خلاصة مفادها أن الدراسات العربية السابقة التي تناولت الرقابة، لم تدرسها دراسة شاملة تقف على مختلف أبعادها وتجلياتها التاريخية والسياسية والثقافية والأدبية في الثقافة الإنسانية. ومن ثم، رام الباحث مقاربة الرقابة على مجال الفكر والإبداع الأدبي، والثقافة عموما في السياقين الغربي والعربي.

هكذا، تحددت إشكالية الدراسة في التساؤل عن الكيفية التي تمارس بها الرقابة؟ وما تجلياتها عبر التاريخ الغربي والعربي؟ فضلا عن رصد الأسباب التي حفزت الرقيب على ممارسة سلطته الرقابية؟ وما تجليات الصراع الديالكتيكي بين الإبداع والحرية؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع بين المثقف والسلطة، بين المعرفة والسلطة؟ والعوامل التي دفعت إلى استمرار الحظر والمنع على الخطاب الأدبي والفكري؟ وما أوجه الاختلاف والائتلاف بين التجربتين الغربية والعربية؟

أما المنهج المتوسل في دراسة الظاهرة ومقاربة إشكاليتها، فإنه يجمع بين التحليل التاريخي من خلال تتبع تاريخ الرقابة في الفكر الإنساني، والحفر المعرفي الذي يتخذ التحليل النفسي (سيغموند فرويد، كارل يونغ)، وأركيولوجيا المعرفة كما بلورها ميشيل فوكو، واجتهادات الباحثين في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية، فضلا عن الاستفادة من مفاهيم النقد الثقافي لفهم المنظور الثقافي العربي لمفهوم الرقابة.

أ‌- الرقابة تاريخيا:

على مستوى الثقافة الغربية، يذهب الباحث إلى أن تجليات الرقابة بدأت منذ عهد الإغريق، لتستمر ممارستها بأشكال وضروب مختلفة باختلاف السياق السياسي والثقافي والديني، في القرون الوسطى، وعصر النهضة، وصولا إلى الفترة التاريخية التي انفتحت فيها أوربا على أنوار العقل، إلى حدود القرن العشرين.

في حين، أنه يفند الرأي القائل بأن العصر الجاهلي لم يعرف ظاهرة الرقابة، ومن ثم عدم الاهتمام ببحث الظاهرة في هذا العصر. وهذا ما سعى الباحث إلى القيام به؛ إذ إنه حفر في مصنفات التاريخ العربي القديم التي تضمنت مجموعة من القصص والحكايات تقدم نظرة شاملة عن الحياة في ذلك العصر. كما أن الباحث تتبع تجليات الرقابة على الفكر والأدب في صدر الإسلام، ثم في العصر: الأموي، والعباسي، والأندلسي، والحديث؛ إذ أكد على أن العصر العباسي، عصر الانفتاح والتقدم الفكري والحضاري، قد عرف ظاهرة الرقابة. ومن ثم، يخلص إلى أن الغزل كان سببا للرقابة على الخطاب الشعري في العصر الأموي؛ والهجاء في العصر العباسي.

والآتي أن الظروف الاجتماعية والمادية للشعراء الذين تجرعوا علقم الرقابة أكثر من غيرهم في تلك المرحلة التاريخية، تظل سببا في عدم ثباتهم على مبدأ أو موقف؛ لكونهم كثيرا ما يتأرجحون بين الهجاء والمدح. يقول هادي العلوي في سياق عرضه أسباب محنة الشيرازي: "فالمثقفون ليسوا أقل من سائر الناس حبا للثروة، وتمرغا على أعتاب السلطة، وتكالبا على المنصب والجاه"(1).

أما عن العصر الحديث، فإن الباحث بين أن ثمة تحولا في أدوات الرقابة وتجلياتها؛ إذ تختلف عن رقابة الماضي بكونها" أدركت أن القمع الزائد لكتب الفكر والأدب والعلم، أكبر وسيلة دعائية لها، لذلك صارت توظف أدوات خفية لممارسة الحظر، في ظل عصر الحاسوب والإنترنيت والسماء المفتوحة"(2).

على هذا أساس، يلاحظ أن الأعمال السردية الأدبية التي لاحقتها يد الرقيب في التاريخ الحديث، تحظر وتمنع بتهم ومزاعم لا تخرج على الثالوث المحرم: الدين، السياسة، الجنس (الأخلاق). ذلك أن المؤسسة السياسية العربية تتحرك كلما أحست أن في العمل السردي نقدا لاذعا لها؛ في حين أن المؤسسة الدينية تتحرك بدعوى أن العمل السردي يهتك حرمات الدين والأخلاق، ويخدم الحياء ويفسد السلوك المجتمعي.

تتجلى الرقابة، في الثقافتين الغربية والعربية، في مصادرة الكتب، وسجن مؤلفيها وناشريها ومروجيها، وأحيانا كل من يقرؤها، وقد يصل فعل الرقابة إلى القتل والتصفية. وهكذا، خلص الباحث بعد تتبعه لتاريخ الرقابة في الثقافة العربية، قديما وحديثا، إلى أنها اتخذت بعدا جديدا يتمثل في "قوانين وتشريعات وممارسات زجرية وقمعية مختلفة. تشتد وتخف تبعا للعوامل السياسية والدينية"(3).

بيد أن الباحث لم يتطرق إلى تبيان الكيفية التي تمارس بها الرقابة عبر/على وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، ولا الآليات والأدوات التي تتوسلها لمراقبة وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير والفكر في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت متنفسا متاحا لجميع الأفراد. كما أن السياق، يستدعي كشف آليات الرقابة على الصحفيين، والمدونين في مواقع التواصل.

ب‌- الرقابة معرفيا:

تناول الباحث، في الفصل الثاني، مفهوم الرقابة ودلالته والتصورات المعرفية التي أنتجت حوله، ومن ثم، الحاجة إلى دراسة مفاهيم تتداخل مع مفهوم الرقابة من قبيل: الكبت، والقمع، والتابو، والمحرم، والمقدس، والمدنس..إلخ؛ وذلك في سياق اجتهادات التحليل النفسي. في حين، أن الرقابة في تصور أركيولوجيا المعرفة كما بلوره فوكو هي "عبارة عن آليات وتقنيات ينبغي استعمالها بشكل ملائم، لا يبدي معه أفراد المجتمع أي مقاومة أو رفض للسلطة وآلياتها المتعددة"(4).

وهكذا، يبدو أن مفهوم السلطة، بناء على ما خلص إليه الباحث من قراءته لفوكو، صار يعرف ب"السلطة الانضباطية"، والنتيجة أن السلطة لم تعد "في المجتمعات الحديثة غاية، بل وسيلة لبلوغ غايات محددة؛ فهي استراتيجية التطويع التي لا يمكن تملكها"(5). ومن ثم، فإن ظاهرة الرقابة، تبعا لفوكو، "ليست سوى وهم تم الانخداع به عبر التاريخ"(6)؛ لكون الظاهرة تتحدد في "أن ثمة أجسادا وقوى تتصارع وتحاول أن تضمن استمراريتها بلعب دورها المرسوم ضمن الاقتصاد السياسي للمجتمع"(7).

أما الرقابة في المنظور الثقافي العربي، فإنها تجلت في: 

- القرآن الكريم؛ إذ إن فهم كلمة "الرقيب" ومشتقاتها "يمكن السلطة الدينية من إيجاد مبررات لرقاباتها المتعددة، ذلك أنها تخول لنفسها السهر على تطبيق أوامر الله ونواهيه"(8).

- المجاميع اللغوية العربية القديمة: تُقدم معانيَ ودلالاتٍ متعددةً للجذر اللغوي "ر ق ب"؛ ذلك أنها تدل "على الإشراف من مكان عال لغاية الحراسة أو الرصد أو المراقبة، وذلك لأهداف قد تكون حسنة أو سيئة"(9). فضلا عن كون الباحث يقيم تشاكلا دلاليا وثقافيا بين دلالة "الرقيب" على الإنسان الذي يقوم بفعل المراقبة من مكان عال، والحية السامة التي ترصد وترقب مَنْ تَعَضُّ.

- معجم المحدثين: خلص الباحث، بعد تتبع المعاني والدلالات اللغوية والاصطلاحية للمفردة، أن التصورين العربيين، القديم والحديث، يتفقان في كون الرقابة "تهدف إلى الحماية ودرء الخطر، تمارس من قبل القوي على الضعيف، العارف على الجاهل، والسلطة تجاه المجتمع، و"الفوق" تجاه "التحت"(10).

إن المثقف العربي قد أنتج تصوره المعرفي حول ظاهرة الرقابة/التحريم؛ إذ ربطها، من جهة أولى، بقضية الحرية في كل مجالات الفعل الإنساني؛ ومنطلقه في ذلك هو نظرته الشمولية لخطاب التحريم، والنتيجة ضرورة تحرير الفن بحسبانه مدخلا للحرية الإنسانية وممارستها. ومن جهة ثانية، يقيم تعالقا جدليا ماركسيا بين البنية التحتية للمجتمع، ونوع الرقابة، وطنية ديمقراطية، أو قهرية، التي تتمخض عن هذه البنية.

على أن ثمة تصورات أخرى للرقابة، أو الوصاية، على الفكر في العالم العربي، من بينها تصور المفكر الجزائري محمد أركون، في سياق تفكيكه وكشفه للآليات المعرفية للفكر العربي الإسلامي، متوسلا في ذلك الثالوث المفاهيمي: المُفَكَّرُ فيه، اللا مُفَكَّرُ فيه، المستحيل التفكير فيه. على أساس أنه حاول تفكيك وتعرية الجوانب التي لم يفكر فيها الفكر العربي والإسلامي، أو تلك الجوانب التي استحال عليه التفكير فيها بحسبانها ممنوعا ومحظورا(11).

لقد سعى الباحث، سالم الفائدة، إلى الكشف عن الكيفية التي تحول بها الدين والسياسة والجنس إلى طابوهات ومحرمات، فضلا عن علاقة هذه الأخيرة بالسلطة من جهة، وبالمعرفة من جهة أخرى. كما رام البحثَ في الخيط الناظم بين مكونات الطابو، وكيف يتواشج و"يتزاوج" السياسي بالديني.

ففي الثقافة الغربية، تم التعامل مع الثالوث تعاملا فكريا نقديا وتفكيكيا مكّن من إنتاج معرفة وخطاب حول الجنسانية. أما الثقافة العربية، فقد تناولت الموضوع من زوايا دينية وأدبية بوصف الجنسانية محظورا من قبل السلطتين الدينية والسياسية، علاوة على ثقافة المجتمع العربي وشرطه التاريخي والحضاري؛ حيث نبع تناول الجنسانية "فيما يبدو من حاجة اجتماعية وإنسانية إلى علم للجنس"(12).

إن ما اهتم به الباحث في هذا السياق، يمكن صياغته في السؤالين الآتيين: ما علاقة الرقابة بالثالوث المحرم؟ ولمَ تُمارس الرقابةُ على الأدب إن اقتحم هذه المنطقة المحرمة؟

- على سبيل الختم:

من خلال تتبعنا دراسة الباحث لظاهرة الرقابة، تبين لنا حجم هذه الظاهرة ومدى شموليتها؛ ذلك أن الرقابة موجودة في كل مكان وزمان، إذ يمكن تشبيهها، مجازا، بأفعى تغير جلدها بتغير السياقات حتى لا تهلك، والنتيجة أن الرقيب يتفنن في ممارستها، ويبدع في طرق وأشكال ممارستها بناء على تطور الحياة الفكرية والاجتماعية والعلمية في المجتمع.

لعل هذا الاهتمام بظاهرة الرقابة من في الدراسة، يفتح آفاقا رحبة للتساؤل أمام القارئ؛ ومن ثم، فإننا نبسط التساؤلات التالية بناء على تفاعلنا مع دراسة الباحث، من قبيل: كيف يتصور الإنسان العربي العادي الرقابة؟ وكيف يمارسها على من هم أضعف منه أو أنداد له؟ وما نوع الرقابة التي يمارسها على نفسه وغيره؟ وما أدواتها وآلياتها وتجلياتها؟ وما الأهداف والدوافع الثاوية خلف هذه الرقابة؟.

***

إعداد: محمد الورداشي.

............................

- المصادر والمراجع:

(1) هادي العلوي: نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، ط2: 2007، دار المدى للثقافة والنشر، ص: 34.

(2) سالم الفائدة: الثقافة والرقابة دراسة تاريخية معرفية، ط1: 2019، منشورات القلم المغربي- المغرب، ص 108.

(3) المرجع نفسه، ص 125.

(4) المرجع نفسه، ص 145.

(5) المرجع نفسه، ص 150.

(6) المرجع نفسه، ص 151.

(7) المرجع نفسه، ص 151.

(8) المرجع نفسه، ص 155.

(9) المرجع نفسه، صص: 156-157.

(10) المرجع نفسه، صص: 159-160.

(11) للمزيد من التوضيح، ينظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، ط2: 1996، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ت. هاشم صالح، ص: 18.

(12): سالم الفائدة، ص: 188.

الكل يتابع اليوم الوثيرة والمستوى العاليين لاندماج وتضامن رواد المعارف الهندسية التقنية والتجارية والمالية. المقاولة العصرية، خاصة ذات البنية المعقدة، تسعى باستمرار لتقوية التكامل وزيادة فرص النجاح والرفع من مستوى أدائها التجاري إلى أعلى المستويات. المعرفة الهندسية التقنية التحمت مع المعرفة التجارية والمالية. لم يعد مستساغا، في زمن التكنولوجيات المتطورة، الحديث عن الهندسة كمجالات معرفية منعزلة داخل المقاولة، بل برزت منذ مطلع الألفية الثالثة التقائية قوية بين ملاكي الأموال والمعارف والتقنيات فارضة وقعها الكبير على مصادر القرار السياسي في العالم.

كل المنابر الإعلامية تروج اليوم بكل الوسائل المتاحة لما يسمى بمفهوم هندسة المقاولة. هذه الأخيرة أصبحت عالية الكفاءة في توفير الموارد والمال إلى درجة أصبح تركيزهما يسيرا على المستثمرين. الاهتمام انصب اليوم أكثر على أنماط إدارة وتنفيذ المشاريع من خلال نهج مخططات هندسية شاملة ومتعددة الاختصاصات، وتغطى التفاصيل الكاملة للأنشطة انطلاقا من البلورة، ومرورا بالتنفيذ، ووصولا إلى التقييم المصاحب. تتفاعل المهارات الهندسية في الإنتاج والتسويق والمبيعات وتحليل السوق وإدارة المخاطر وتدبير العقود. المهندس، بمجاله التخصصي الذي يتقاسمه مع باقي زملائه وشركائه، يراكم بشكل دائم معلومات جديدة في مجال الخبرة في تقييم توافر الموارد، وتخطيط المشاريع الكبرى، ومواجهة التحديات بفعالية، وتوجيه الفرق الفنية بمردودية ونجاعة كبيرتين. تتسع لدى الكل المعرفة التقنية والتجارية والفنية، وكذا الكفاءة في تحديد الفرص التجارية في العالم.

الهندسة الفلاحية مثلا اندمجت مع الهندسة الصناعية بشعبها المتعددة. المقاولة الهندسية الفلاحية الصناعية تتطلب اليوم معرفة متخصصة تشمل الزراعة والصناعات الفلاحية. بالإضافة إلى الخبرة في الهندسة المدنية والهندسة الزراعية، يتعين على المقاولين المهندسين أيضًا التعامل مع التحديات الفنية والتنظيمية، مثل الالتزام بالمعايير الزراعية والبيئية والصحية والسلامة من المخاطر. التضامن في إنجاز المهام أخضع المبادرات الاستثمارية لمنطق السلسلة. تبتدئ هاته المبادرات من مرحلة إنجاز البنية التحتية والتجهيزات المتطورة التي تشمل إنشاء الطرق والشبكات الكهربائية والمياه والصرف الصحي، وتأمين التزويد بالمياه اللازمة للري والزراعة، وتوفير البنية التحتية لتخزين وتوزيع المنتجات الفلاحية، وبناء المستودعات والمصانع الزراعية والمناشير والمصانع اللازمة لتحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات نهائية، وتجهيز وتركيب وصيانة المعدات الزراعية والصناعية (كالآلات الزراعية، ومعدات التجهيز الغذائي، وآلات ومعدات الصناعات التحويلية والتعبئة والتغليف...)، وتصميم وتنفيذ أنظمة الري الحديثة (مثل الري بالتنقيط والري بالرش والري الموضعي وإنشاء الأحواض وتركيب وصيانة الأنابيب والمعدات اللازمة...)، وتقديم الاستشارات الهندسية للعملاء، بما في ذلك تقييم المشاريع المقترحة وتصميم الحلول الهندسية المناسبة.

أما المختص في مجال الإحصاء والاقتصاد التطبيقي وعلوم الإعلام، فيعتبر بالنسبة للمقاولات الهندسية المعقدة القلب النابض لمسارها الزمني والجغرافي. يستخدم علم الإحصاء في تحليل البيانات المتعلقة بالمشاريع السابقة والحالية، مما يساعد على توقع النتائج المستقبلية وتقدير الأداء المالي والجدوى الاقتصادية للمشاريع المقبلة. يستخدم كذلك تقنيات الاحتمالات والتوزيعات الإحصائية لتحليل البيانات وتوقع المخاطر المحتملة. كما يطبق طرق المراقبة الإحصائية لتمحيص جودة المنتوجات. كما يسهر على جمع البيانات وتحليلها بشكل دوري للتأكد من أن المشروع يلبي المعايير المطلوبة وأنه لا يوجد به عيوب أو انحرافات غير طبيعية.

في نفس الآن عمل الإحصائي واستنتاجاته هو الأساس المعرفي الميسر لمهام الفريق القيادي المكلف باتخاذ القرارات الإستراتيجية. يستخدم تقنيات الإحصاء في تحليل البيانات المالية والتجارية والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية وتقدير الاحتمالات والمخاطر المرتبطة بالقرارات المتخذة. يعتمد النماذج الإحصائية ويحلل البيانات الرقمية التاريخية لتحديد المخاطر المحتملة وتقدير احتمالات وقوعها، مما يساعد في اتخاذ إجراءات ملائمة لإدارة وتقليل حدوثها. يركز يوميا على تعميق البحث في العلاقات بين المتغيرات المختلفة في المقاولة وعلى تحليل التباينات ومناحي انحداراتها وصعودها، بحيث يستنتج بوضوح تام حدة تأثير المتغيرات المختلفة على الأداء والنتائج في المشاريع، وبالتالي اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المحددة.

الإحصائي يوجد في جوهر الفعل المقاولاتي. يجمع البيانات، يرتبها، وينتقيها، ويفهمها، ويحللها بشكل كمي وكيفي، ويستخدم الأدوات والتقنيات العلمية التي تساعد على اتخاذ القرارات المستنيرة وإدارة المخاطر في المقاولة. هدفه السامي هو الإسهام القوي في تحسين الأداء والكفاءة وربحية المشاريع.

التطورات في أشكال وبنيات المقاولات لا تتوقف إلى أن عم الحديث عن المقاولة الهندسية المعقدة. هذه الأخيرة تتميز بمستوى عالٍ من التعقيد والتحديات التقنية. تشمل هذه المشاريع الاستثمارات في البنية التحتية الكبرى مثل الجسور الضخمة، والأبراج العالية، والمصانع الصناعية الضخمة، ومشاريع الطاقة الكبيرة مثل المحطات النووية والمحطات الكهربائية... التصاميم الهندسية المطلوبة أصبحت أكثر تقدما وتعقيدا. حاجيات البنيات الإنتاجية من هذه الأصناف الجديدة تميل اليوم إلى التعقيد والإبداع المعرفي. إنها تستند اليوم على تقنيات تحليل هندسي جد متطورة، وعلى أحدث طرق تصميم الهياكل المعقدة، وعلى أنجع منظومات تنسيق الأنظمة والتجهيزات المختلفة.

المقاولة المعقدة المعاصرة لا ولن تطيق الخلل. التنسيق اللوجستي بها يجب أن يكون دقيقا وإدارة مشاريعها فعالة. المقاولين المهندسين يوردون أو يصنعون الآلات والمعدات والجزيئات الإلكترونية الدقيقة، ويقومون بتنسيق الأعمال بين الفرق المختلفة، ويسهرون على بلورة وتنفيذ إدارة الجداول الزمنية والمالية بالدقة المتناهية. كسب رهان المنافسة يجبر العقل المقاولاتي الهندسي على اقتناء أو تطوير أحدث الروبوتات والاعتماد الكلي على التحكم الآلي. يحتكم في مرحلة الإنشاء على تقنيات البناء المتقدمة مثل البناء الجاهز والإنشاء بالوحدات المعيارية. في مجال الإنتاج، أصبح هذا العقل حريصا على ضمان ديمومة تنفيذ إجراءات رصد الجودة ومراقبتها بشكل مستمر، وترسيخ ثقافة التعاون والتنسيق الوثيقين بين الفرق المتعددة والمتخصصة.

التعقيد في البنية والشكل المقاولاتي عزى كذلك المقاولة الهندسية الصحية والصيدلانية (الأطباء والمهندسون يعملون جنيا إلى جنب). فلبلورة وتنفيذ المشاريع في هذا المجال الحيوي يعني تنفيذ المشاريع الهندسية في مجال الرعاية الصحية والصيدلية. ويتعلق الأمر ببناء وتجهيز المستشفيات والمراكز الطبية والصيدليات والمختبرات الطبية وغيرها من المرافق ذات الصلة. فنجاح هذا النوع من المشاريع يستند على التخصص المعرفي بمعاييره ولوائحه الصحية والصيدلانية المتطورة. فبناء مجمع صحي بالمعايير الحديثة يتأسس في بدايته على الخبرة في الهندسة المعمارية والهندسة الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية والمعلوماتية. وتستمر هذه الخبرة في أداء أدوارها التجديدية لتشمل حتى مجال الصيانة والتجديد. علبة الخدمات التي تتضمن تخطيط الفضاء والتصميم الداخلي والتهوية والتبريد والتدفئة وأنظمة السباكة والصرف الصحي والإضاءة والكهرباء وأنظمة السلامة والأمان تبقى جد حيوية ولا يفقدها الزمن فائدتها ونفعها الجوهريين. المقاولة الهندسية الصحية الصيدلانية في حاجة مستمرة لتوريد وتركيب المعدات والأجهزة الطبية وأنظمة التحكم والمراقبة وأنظمة تكنولوجيا المعلومات الصحية وأنظمة الاتصالات والأنظمة الصوتية والبصرية. أما التنمية المستدامة بالنسبة لهذا النوع من المقاولات فلا تستوي إلا بتوفر منشآتها على أنظمة مصممة ومركبة بالدقة المتناهية للصرف الصحي والمياه النظيفة وفقًا للمعايير واللوائح الصحية المعمول بها، وكذا على أنظمة للتصريف والتنقية والتحلية ونقل المياه وتخزينها واستغلالها من جديد، وتدبير النفايات الطبية، والتزامها بالمعايير واللوائح المتعلقة بالسلامة والأمان في عامة مرافقها. كما أن الوفاء لشرط الديمومة يتطلب نجاعة تدبير أنظمة الحماية من الحريق وأنظمة الإنذار وأنظمة الحماية الكهربائية والتهوية المناسبة، وإنعاش التنفس بالأكسيجين.

هذا النمط من المقاولة، الذي نجح في فرض ذاته كونيا، أصبح حقيقة. مشاريعه تستوطن أتربة الأوطان شمالا وجنوبا. إنه نمط مشاريع ما بعد الحداثة النيوليبرالية بشقيها الغربي والشرقي الذي يتطلب مستويات عالية ومتطورة من الخبرة والمهارات التقنية، وإلمام عميق بمفهوم الإدارة الفعالة للمشاريع الإنتاجية، وقدرة هائلة على التنسيق الدقيق بين الفرق المختلفة. فخبر تعيين أول مدير عام روبوتي بالصين، كإشارة واضحة لمرور العالم إلى نمط المقاولة المعقدة، يضع الآباء والأمهات في وضع اضطراري للتفكير في مستقبل فلذة أكبادهم بنفس وطموح جديدين.

***

الحسين بوخرطة

منذ أكثر من مائتي عام، توهم الفيلسوف الألماني إمانويل كَنْت بأنه يمكن أن يقدم مشروعاً للسلام الدائم، حين نشر في العام 1795 كتيباً يتضمن فكرة انشاء حلف بين الشعوب من أجل وضع حد للحروب وشرورها وأهوالها. ولأن الفلاسفة حالمون بطبعهم مثل الشعراء الرومانسيين، ولأن الحرب هي « حال الفطرة للإنسان»، فإن الحروب والنزاعات بين البشر لم تتوقف لا قبل ذلك التاريخ ولا بعده، ومنها حربين عالميتين مدمرتين، وحروب أخرى كبرى وصغرى، وطويلة وقصيرة، وعادلة وعدوانية، وحروب أهلية، وصراعات دولية، ونزاعات إقليمية، لم توقفها لا عصبة الأمم، ولا هيأة الأمم. صحيح أن الرئيس الأميركي ويلسون الداعي إلى إنشاء عصبة الأمم- كما ينقل عثمان أمين مترجم «مشروع للسلام الدائم» إلى اللغة العربية، عن بعض الكُتاب تأكيدهم – أنه كان يحتفظ لقراءاته اليومية بهذا الكتاب، لكن واقع الحال يؤكد إن الإنسان بفطرته مجبول على الحرب، أكثر من نزوعه للسلام، وبدليل هذه الحروب المتصلة والمتسلسلة في مختلف بقاع الأرض، فما تكاد حرب في جبهة ما تضع أوزارها، حتى تنشب في جبهة أخرى، بذرائع ومسببات لا حصر لها.

وفي عالمنا هذا الذي تسوده الفوضى والاضطرابات والنزاعات المسلحة، وتحتكم فيه الشعوب والجماعات إلى منطق القوة الغاشمة والغلبة وشريعة الغاب، وتتواتر فيه صور وأخبار القتل المريعة والإجرام، والبشاعة في ابتكار وسائل القتل والتعذيب والانتقام، لا يبقى للإنسان الذي خصه الخالق من دون الكائنات الحية كلها بالعقل المبدع والروح السامية، من خيال رومانسي وإبداعي، إلا ما يعينه على حماية نفسه من الأذى، وما يسانده في صراعه من أجل البقاء، شأنه شأن أي حيوان بري، لا هدف لحياته ولا معنى لها إلا بتدبير ما يقيه من الموت جوعاً وعطشاً، والبحث عما يفترسه من حيوانات أضعف منه، والاختباء والهروب عن حيوانات أقوى منه وأشد فتكاً وافتراساً في معركة البقاء من أجل الحياة. ولقد مرت البشرية بحقب تاريخية من العنف والحروب والإرهاب والترهيب والدمار والاقتتال الوحشي وقساوة القلوب ومكر العقول الدواهي في الكر والفَّر، وقعقعة السيوف ودوي المدافع، واكتوى ملايين البشر بنيران الحروب ومصائبها، وذهبت ملايين الأرواح البريئة ضحية لا إنسانية الإنسان، فما أنتجت لنا تلك الأزمان غير التخلف والآلام والتقهقر في الخيال والابتكار والإبداع البشري، مثلما مرت البشرية بحقب قصيرة من السلام والتآلف والتعاون والوئام، فازدهرت الحضارة الإنسانية علماً وبناءً وأدباً وفناً، حتى إذا ما انتهى الإنسان إلى عصرنا الراهن، الذي يسمى عصر العلم  والتقدم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات، وجد نفسه في أسفل سافلين، بعد أن فقدت الروح الإنسانية سموها الذي خصها بها الخالق، وتبارت العقول في ابتكار أبشع وسائل القتل والتدمير وانتهاك المحرمات، فأينع خيال الشر في الإنسان، وجَّفت منابع الخيال الإنساني الخَّير، ونهضت إرادة الشر في الإنسان، وتوارت إرادة الخير خلف حجاب. وإن الإنسان المسالم البسيط ليعجب اشد العجب من هذه القدرة العجيبة التي يمتلكها الآخر في ابتكار وسائل القتل والإيذاء والإجرام والانتقام والتباهي بها، وكيف اتخذت مسيرة البشرية هذا المسار الذي عاد بها القهقري إلى منطق القوة وشريعة الغاب، وظلام الكهوف، وفحيح الأفاعي، وصوت الخفافيش، في زمن تتحدث فيه الحكومات عن لوائح حقوق الإنسان، ويتبارى فيه المتبارون والخطباء في كل مناسبة للحديث عن الحق والعدالة والجمال وإنسانية الإنسان.

ولأن الفيلسوف كَنْت، يُعد من بين أكبر الفلاسفة الأخلاقيين في الفلسفة الحديثة، فقد كان يحلم بالتوافق بين السياسة والأخلاق: السياسة تقول « كن مستبصراً كالثعابين» وتضيف الأخلاق شرطاً مقيداً «وكن بسيطاً كالحمائم»، هكذا يكتب، ثم يتحدث عن الأساليب الملتوية المنافية للأخلاق التي تعمد اليها السياسة «بدعوى قيادة الشعب من حال الحرب – التي هي حال الفطرة – إلى حال السلام»، وتتمثل تلك الأساليب في مقولات مثل « افعل ثم برر»، و « إذا فعلتَ فأنكر»، و» فرق تسد»، ومن ذلك: « إذا كنتَ قد دفعتَ الشعب إلى اليأس وإلى العصيان، فأنكر أن يكون الذنب ذنبك، وأنسبه إلى عناد رعاياك، وإذا استوليت على شعب من جيرانك، فألق الذنب على طبيعة الإنسان، وقل إنك إذا لم تسبق جارك بالعدوان، فلست تأمن ألا يبادرك هو، ويستولي عليك». أما المواد التمهيدية التي وضعها كَنْت لتحقق سلام دائم بين الدول، فهي تبدو في عالمنا المعاصر أشبه بالنكت والطرائف، ومنها المادة التي تنص على الغاء الجيوش الدائمة الغاءً تاماً على مر الزمان، وكذلك المادة التي تقول أنه : « لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها».

عُرف كَنْت بفلسفته النقدية التي هيمنت على توجهات الفلسفة الحديثة، والتي أسس لها في مؤلفاته الثلاثة:» نقد العقل المحض» الذي خصصه لنقد مبادئ العلم، و» نقد العقل العملي» لنقد مبادئ الأخلاق، و» نقد مَلَكة الحُكم» لنقد مبادئ الذوق، لكنه في محاولته الفلسفية هذه، كان ناقداً سياسياً وقانونياً وأخلاقياً واسع الخيال، حين توهم بإمكانية وجود عالم خالٍ من النزاعات والحروب والشرور بين الأمم.

وتبقى مشاريع الفلاسفة مجرد أحلام وأمنيات لا توقف شناعات الإنسان وأفعاله المنكَرات، مادامت ثعابين السياسة تنتصر دوماً على حمائم الأخلاق.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

للزبائنية السياسية (Clientelism) عدة تعريفات في علم الاجتماع السياسي، أشهرها يقول إنه "نظام سياسي واجتماعي قديم نجد جذوره في دولة روما القديمة (ونجد ملامحه خلال حكم معاوية في بلاد الشام)، ولكنها زبائنية هرمية وغير متكافئة، وقد جرى تحديث هذا المفهوم وتبنية في العلوم السياسية في العصر الحديث. إنه نظام من العلاقات غير المتكافئة وغير الندية بين مجموعات من الفاعلين السياسيين ينقسمون إلى رعاة (أصحاب عمل/ باترونات) وزبائنهم الجمهور والأحزاب سياسية. وهي علاقات قائمة على المحسوبية. يعتبر هذا النظام سلبيا، لأنه يرتبط بالفساد السياسي والإداري وعرقلة مؤسسات الدولة ومخالفته للقيم الديمقراطية.

في العصر الحديث تحولت الزبائنية إلى ظاهرة واسعة وعالمية في العديد من البلدان، وخاصة تلك التابعة وذات المجتمعات الاستهلاكية وغير المنتجة والتي يقوم اقتصادها على الريع الواحد المتأتي من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز (كالعراق) أو الزراعية ذات المنتوج الواحد كالقهوة أو الشاي (سريلانكا) وغيرها، أو كونه ممرا للتجارة الدولية عبر قناة مائية أو برية (دولة قناة بنما) أو مقصدا سياحيا كلبنان.  وحتى في الدول الصناعية وجدت هذه الممارسات الزبائنية وقد اتخذت بعض الدول إجراءات محدودة وشكلية لمكافحتها؛ ففي الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما تم تجريم شراء الدعم غير قانوني في الانتخابات وغيرها، سواء كان عن طريق نقل السلع مباشرة أو توفير فرص عمل مقابل التأييد (في العراق نتذكر مثال توزيع البطانيات وبطاقات الهاتف ودجاج الكفيل ...إلخ، خلال الانتخابات).

* من التعاريف الأخرى الحديثة للزبائنية نقرأ الآتي في الموسوعة السياسية / مترجمة: "الزبونية تشمل تقديم الموارد كالوظائف أو العقود والمخصصات للجمهور الزبائني، مقابل الدعم السياسي. وهو يختلف عن شراء الأصوات من نواحٍ عديدة، أهمها امتداد الصفقة لفترة زمنية أطول ولا يقتصر على فترة الحملة الانتخابية. وهناك من المتخصصين من يعرّفها على أنها تحالف عمودي ثنائي بين طرفين غير متكافئين في الوضع أو القوة أو الموارد.

*عن الزبائنية السياسية في لبنان القريبة من التجربة العراقية كتب الباحث ألبر داغر"حين يكون دأب النخبة السياسية تجيير الموارد العامة لتوزيع منافع خاصة، تكون الدولة نيو-باتريمونيالية الطابع، أي يتعاطى السياسيون معها وكأنها إرث لهم. لكنّ الأدبيات النظرية أكدت العلاقة القائمة على عدم تكافؤ شديد بين "رئيس شبكة المحاسيب" وبين المستفيدين من أعطياته. وأظهرت أن تقاسم المغانم والمكاسب على أساس إثني أو طائفي بين أطراف النخبة هو ما يُعطي نظام الزبائنية السياسية قوّته.. لكنّ الوجه الآخر للصورة تمثّل بالتردي الهائل لفعّالية الدولة، باعتبار أن توزيع المواقع والموارد والتنفيعات كان يجري لمصلحة المحاسيب، وأن التمثيل في الإدارة العامة كان يتم على حساب الاستحقاق والإنتاجية هذا ما يُسمى في لبنان "المحاصصة".

* في العراق، يعتبر نموذج الحكم، قبل وبعد الاحتلال الأميركي نموذجاً صارخاً ورثاً للزبائنية المدَمِّرة الفظة ذات السمات الفاشية في أسوأ صورها ونتائجها في بلد استهلاكي ونفطي بشكل تام ويتوجه نحو كارثة اجتماعية واقتصادية وبيئية حتمية إذا استمر نظام الحكم القائم اليوم على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية وبدعم المرجعيات الدينية والقبلية المحلية والدول الأجنبية ولم يتم تفكيكه وتغيير دستوره المكوناتي!

* يصف عالم السياسة والإناسة الأميركي جيمس سكوت العلاقات الزبائنية بأنها صداقة منفعية بغرض الاستفادة يستخدم فيها الطرف الأول "الباترون/ صاحب العمل/ السياسي النافذ" وضعه الاجتماعي والاقتصادي الأعلى إضافة إلى نفوذه وموارده لتوفير الحماية أو الامتيازات للطرف الثاني وهو شخص أقل مكانة مقارنة بالطرف الأول.

هذه العلاقة قد تكون أو تبدأ طوعية وأقرب إلى فعل الارتزاق وقد تأخذ شكل تهديدات بدلاً من الإغراءات المادية وهو ما أشارت إليه سوزان ستوكس، وعبّر عنه كيتشليت بقوله: "الزبائنية تنطوي على المعاملة بالمثل والطوعية ولكن أيضا بالاستغلال والسيطرة".

* وقد قام الباحث أوليفييه روا بحصر الزبائنية في أنماط ثلاثة:

- الشبكة المعاونة التي تتشكل حول رجل يتمتع بسلطة ما والتي تزول بزوال هذه السلطة.

- العصبية التقليدية المتمثلة في العشيرة والقبيلة والطائفة.

- العصبيات الحديثة الاجتماعية والسياسية (النقابات، الأحزاب).

من حيث النتائج تعتبر الزبائنية شكلا من أشكال الفساد ومشكلة حقيقية ومرضاً ينخر في جسد الدول والديموقراطيات المعاصرة، وقد اعتبرها الباحث الجزائري مالك بن نبي (1905-1973م)، ظاهرة مَرضية في المجتمعات. سياسياً وأيديولوجياً، اختلفت وجهات النظر حول آثار الزبائنية بين اليمين واليسار التقليدي، فاليمين يراها أمراً طبيعياً يجب توظيفه لحسن تسيير المجتمع، واليسار التقليدي يحاربها عالمياً ويتعايش معها محليا. وعلى العموم فإن آثار الزبائنية مدمِّرة للاقتصاد وهي محبطة لتطلعات الناس نحو المساواة، ومعرقلة للتنمية المستدامة".

وفي التراث العربي الإسلامي يمكن أن نجد مثيلا لحالة الزبائنية في حكم معاوية بن أبي سفيان لبلاد الشام، قبل وبعد أن نجح تمرده على الدولة الإسلامية الراشدية، وصار خليفة لكل بلاد المسلمين. فقد دأب معاوية - بدهائه الخارق وميكافيليته التكتيكية - على أن يسوس أهل الشام بكياسة ويكسب طاعتهم مقابل إغراقهم بالعطاءات السنوية والجرايات والمِنَح والغنائم والقيعان الزراعية. لقد عاملهم بلين وتسامح، ولكن أيضا بحزم وصراحة وفق مبدأ الإعارة الذي أسس له بشعاره الذي بدأ به واحدا من خطاباته الحربية حين قال: "أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم.."! ولكنه كان يتجاوز حتى حدود الإعارة ويتدخل في تفاصيل وجودهم الفيزيقي فلم يكن مثلا يسمح لهم بالإقامة الطويلة في أقطار أخرى كالعراق ومصر والحجاز بعد أن ينجزوا مهماتهم الحربية هناك "حتى لا يتغيروا عليه"، ولهذا أوصى ابنه يزيد قائلا: "وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شَيْءٌ من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم. وأنظر أهل العراق، فإنْ سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كلَّ يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليَّ من أن تُشهر عَلَيْك مائة ألف سيف / الطبري –مج 5 –ص222".

ويبدو أن التاريخ قد انقلب في عصرنا رأساً على عقب في عهد الزبائنية النفطية الحديثة فأصبح الجمهور في العراق يستطيب السكوت والمسكنة والتفرج على خيرات بلاده وهي تنهب وأنهاره وهي تزول وصناعته وزراعته وثقافته وهي تدمر!

***

علاء اللامي

في العراق علماء موهوبين بوسعهم ان يتعاملوا مع تحديات البلاد، وان يوجدوا حلولا لمشاكله، لكن الافتقار الى التمويل يعيقهم.

كيف، بدون تمويل كاف، يمكن لأساتذة الجامعات وللباحثين من استثمار عقولهم في ايجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والطبية والهندسية والزراعية والاجتماعية العديدة في هذا البلد المنكوب بالآفات والسرقات، وكيف يمكن لهم من التصدي للتحديات التي تواجه الجامعات في مواكبة التقدم العلمي العالمي، وكيف لهم من الاشراف على بحوث رصينة وعالية الجودة تستحق ان يمنح منتجها شهادة عليا او ان يستحق على اساسها ترقية علمية لدرجة اكاديمية اعلى؟

أضحت اليوم قضية انعدام التمويل تشكل عائقا كبيرا أمام تطور البحث العلمي وتقدمه في العراق.

فهل يمكن حقا الاستمرار في الطلب من الباحثين العراقيين بتقديم ما يستحيل تقديمه وبدون منح مالية للبحث العلمي، علما ان كثيرا من البحوث العلمية إن لم نقل كلها، تحتاج الى مصادر للتمويل الدائم ومبالغ مالية وفيرة حتى يتم انجازها على اتم وجه؟

لقد مرت سنوات طويلة والبحث العلمي يتم اجرائه بتمويل فردي وبجهود فردية. لا توجد استراتيجية للبحث ولا سياسات مالية، ولا اولويات تمويل حكومية، مع انه توجد دوافع وضغوط على الطلاب والأساتذة لإجراء البحوث لانها المرتكز الاساسي للحصول على الشهادات العليا وعلى الترقية الوظيفية، وكذلك على التكريم والتقييم والرقي الوظيفي.

انعدام المنح البحثية نتج عنه ظواهرسلبية كانتشار دكاكين تجارة الرسائل والأبحاث العلمية والجامعية، وشراء اوراق البحوث الجاهزة دون بحث، ودون بذل اي مجهود للحصول على المعلومات في المكتبة او المختبر او الحقل. وكنتيجة انصرف الباحثون نحو تمويل ذاتي للنشر العلمي في مجلات الوصول المفتوح والمجلات المفترسة والتجارية، وهو النشر الذي لا يخضع الى رقابة ذاتية صارمة ونزيهة مثل النشر في المجلات التقليدية.

الحكومة العراقية ووزارة التعليم العالي مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بتخصيص منح بحثية، واموال للبحث والابتكار والتطوير، وبوضع آليات ملائمة لاستخدام هذه المنح في تنفيذ سياسات رائدة لانجاز بحوث ممولة لباحثين، وعلماء عراقيين فرديا او جماعيا وفق خطط شفافة وأولويات هدفها دفع عجلة البحث العلمي نحو تحقيق الريادة في التقدم العلمي والتكنولوجي في المنطقة والعالم.

البحث العلمي الرصين يحتاج الى اموال لتوفير مستلزماته من مختبرات وأجهزة ومعدات ومواد ومكتبات، كما يحتاج الى عقول مؤهلة ومتوثبة دائما للتعلم ومواكبة التطور العلمي وعن طريق التعاون العلمي العالمي، والمشاركة في المؤتمرات العالمية المهمة. وهذا كله يحتاج بدوره الى تمويل حكومي واسع لكي يتمكن كل الباحثين من ترويج نتائج بحوثهم عالميا ومواكبة التطور العلمي والتربوي والتكنولوجي ولكي ننفض رداء الحصار الذاتي، ومشاركة الباحثين في العالم جهودهم لخدمة الانسانية .

التمويل الحكومي مهم ايضا لتثمين جهود الباحثين ومكافأتهم كما هو مهم في توفير البيئة التحتية لإجراء البحوث وتطبيقها وتسجيلها عالميا كابتكارات واختراعات مما يحفز الباحث والطالب ويشجعهما على الاستمرار في مسيرتهما البحثية لأنهم سيدركون ان مجهودهم لن يترك سدى بل سيؤخذ به ويطبق ليكون له الاثر في تقدم العراق والعالم.

ولي امل كبير في ان تتضمن الموازنة الجديدة اموال مخصصة للبحث العلمي والابتكار، كما اتمنى ان تتبنى وزارة التعليم العالي والجامعات العراقية فكرة التعاقد مع الوزارات والمؤسسات والشركات اي الطلب من الباحثين الاتصال بالجهات المستفيدة وطرح المقترحات البحثية عليهم والطلب منهم تمويل هذه الابحاث، وهنا لابد من الاشارة الى المشاكل التي تواجه التنفيذ. المشكلة الاولى هي صعوبة اختيار المشاريع البحثية المناسبة للجهة المستفيدة لعدم تمكنها من تحديد احتياجاتها بطريقة صحيحة، والمشكلة الثانية انه بعد الوصول الى اتفاق على المشروع البحثي تحتاج الجهة المستفيدة سنة او سنوات لتوفير التمويل. وتكمن المشكلة الثالثة في ان معظم البحوث التطبيقية لحل المشاكل المحلية غير ملائمة للنشر العلمي، وهو ما يتعارض مع سياسة الوزارة في تأكيدها على اهمية نشر نتائج البحوث لأغراض الترقية الوظيفية.

باختصار، تحتاج النخب العلمية في العراق الى دعم وتمويل حكومي كاف للتمكن من العمل على انجاز الابحاث ذات الاولوية والأهمية العالية بدلا من العمل على بحوث سطحية وغير مجدية. وعلى الحكومة ان تعيد النظر في سياستها المالية وتعطي الاولوية لتمويل البحوث العلمية والابتكار، وتوفر الدعم المالي والموارد اللازمة للعلماء والباحثين العراقيين لتمكينهم من الاسهام في تطوير البلد وحل مشاكله.

***

ا. د. محمد الربيعي

لـ "تشوانغ تسو" و"هان فاي تسو"

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- "أُطْلِقُ العنان لقوى الفكر"

"تشوانغ تسو " Tchouang-Tseu

"ذبح الجزّار تينغ ثورا للأمير "وانهاو Wenhouei". وكان إذا ما قبضت يده الذبيحة، والتصقت كتفاه بكتلتها اللحمية، ونزل بركبتيه وغرسها فيها، نسمع رنين صوت "تشيك"!؛ ليردّ سكّينه على الصوت بآخر"تشاك"! في إيقاع يبدو كأنّه يستعيد رقصة قديمة "بستان التوت"، مستجيبا لمناخ سلالي " رأس مقطوعة".

صاح الأمير: "آه! إنّه لرائع !أن يكون بالإمكان إدراك مثل هذا الكمال التقني!"

فيجيبه الطبّاخ، وقد وضع سكّينه: "إنّ ما يأتيه خادمكم في عمله، هو الطريقة ذاتها التي تسير عليها الأشياء، فيما وراء مجرّد التقنية. فحينما باشرت مهنتي أوّل مرّة، كنت لا أرى إلاّ الثور أمامي. وبعد ثلاث سنوات لم أعد أنظر إليه ككلّ. وفي الحاضر، أجده و أتمثّله بالفكر دون اللجوء إلى البصر: فليس لمعرفة حواسيّ أن تتدخّل وأطلق العنان لقوى الفكر، التي تستهدي الهيكل الداخلي للثور. يقصّ سكّيني بين الفواصل، ينتقل عبر التجاويف متّبعا ما هو كامن. وتسير شفرته إذن دون أن تصطدم بالعروق و الشرايين، ولا بالأربطة والأوتار، ولا، طبعا بالعظام. يغيّر الجزّار الماهر شفرة سكّينه مرّة كلّ سنة، لأنّه يصقلها. ويغيّرها جزّار عاديّ كلّ شهر، لأنّه يقطع. إنّ السكّين الذي تشاهده مرّ عليه تسعة عشرة سنة، لقد قصصت به آلاف الأبقار، غير أنّ شفرته ظلّت حادّة كما لو كانت للتوّ على حجر الشحذ. يوجد بين المفاصل فجوة؛ بيد أنّ حافّة الشفرة رقيقة. فإذا ما نفذنا إلى هذا الحيّز الفارغ أو الفجوة بواسطة شفرة غير متينة، كانت لنا فسحة أن ننسلّ إلى الداخل؛ بل إنّنا نضمن فيه هامشا! لأجل هذا أستعمل هذا السكّين منذ تسعة عشر سنة، وهو شديد الحدّة كما لو كان قد شحذ للتوّ. بيد أنّه حينما أصِلُ إلى مفصلٍ معقّد، أحدّد كيف تبدو الصعوبة؛ وأتوقّف للملاحظة، متحوّطا، ثمّ أتصرّف بتِؤدة. وأستخدم السكّين بمرونة فائقة، ثمّ " بوف" ! هذه الأجزاء تتساقط على الأرض وقد قسّمت، لتمرّ البقرة من الحياة إلى جثّة هامدة دون أن تحسّ بذلك! فأسحب إذن الشفرة، وألتفت وأنظر حولي، مغتبطا، راض، وأنظّف سكّيني وأضعه في مكانه."

-" ممتاز! يقول الأمير وهو يستمع لكلمات الجزّار تينغ، لقد أدركتُ معنى أن يغذّي المرء حياته".

Tchouang-tseu, chap. 3, «Clef pour nourrir sa vie», trad. Romain Graziani dans Fictions philosophiques du «Tchouang-tseu» © Gallimard, 2006

....................

2- "تَخَلّص ممّا تحبّ وتكره"

هان فاي تسو Han Fei-tseu

" يتحكّم صاحب السيادة المستنير ويراقب رعاياه بواسطة مقبضين، ولا حاجة له لغيرهما. " وهذان المقبضان هما العقاب والثواب. ماذا نعني بهذا؟ " يُتَرجم العقاب بالاتهام والحكم بالموت. و الثواب بالشرف والمكافأة." وحينما يستقيم احترام الرعايا بالعقوبات و يلتمسون نفعهم في نيل الشرف والمكافآت، فإنّه يكفي الحاكم تطبيق نظام العقوبات عن طواعية حتّى يعبّر رعاياه، مهما كان عددهم، عن خشية واحترام أمام سلطته وينضمّون إلي نفعه.(...) ولكن في عصرنا الحاضر ومع وجود الوزراء الخونة والمخادعين، يكون الأمر على نحو آخر:" يناولون من الحاكم اتهام أعداءهم والزيادة في مكافأة من نال رضاهم." ففي أيامنا، ليس الحاكم أصلا للمنافع التي نغنمها من نظام المكافآت. ولا يتمتّع حتى بالسلطة الناجمة عن مختلف العقوبات الجزائية. بل نرى أكثر الحكّام يطيع وزراءه حينما يوزّع العقوبات والمكافآت. وهو ما ينتج عنه خشية البلاد كلّها للوزير الأول ولا يجدون ذلك للحاكم على أيّ حال. (...) ذلك هو بلاء حاكم البشر حالما يفقد التحكّم في العقوبات والمكافآت. بيد أنّ النّمر يتغلّب على الكلب بفضل أنيابه ومخالبه. لكن أقْنِعوا النّمر بالتخلّي عن أنيابه ومخالبه لفائدة الكلب، فسترون الكلب يتغلّب على النّمر. (...)" قوجيان، ملك يو Yue، يجدّ في طلب الشجاعة، فكان العديد من أفراد شعبه يعلنون كرههم للموت. أمّا لينغ ملك شِي Chu، فيعشق ذوات القوام الرشيق: فشاع التدرّب على فقدان الشهية في بلده. ويوهان دوق كي Qiقد عرف بغيرته من وزراءه وضباطه وإيلائه كامل اهتمامه لحياته الخاصّة: شو دياهو Shu Diao كان يعذّب نفسه أيضا لأجل أن يدير القصر (حيث يقيم النساء)؛ وكان الدوق يوهان أَكُوًلا: فطبخ يي يا Yi Ya رأس ابنه وقدّمه له؛ ولمّا كان زي كييا Zi Kuai ملك يان Yan يحبّ الحكماء، كان زيزهي Zizhi يؤكّد أنّه لن يقبل بقيادة البلاد. وحينما علم الحاكم ببغضه، أخفى كلّ وزراءه دوافعهم ومبرّراتهم. وحينما علم بميولاته، كان الرعايا يتكتمون على قدراتهم الحقيقيّة. إنّه لمّا تقع خيانة رغبات حاكم البشر، يعدّ جمهور الرعايا أنفسهم للتصرّف على نحو يخدم جانب الحاكم. من هنا كان القول:" تخلّص ممّا تحبّ وتكره، فسينكشف جمهور الرعايا على حقيقتهم . فمن المستحيل خداع حاكم كبير حينما يكشف الرعايا عمّا في قلوبهم".

Han Fei-tseu, chap. 7, trad. Romain Graziani.

***

ليس من قبيل الاكتشاف القول إن جميع الأديان (الوثنية والتوحيدية) تحيل ضمن نصوصها وخطاباتها إلى أزمنة ماضية موغلة في القدم، تتمحور حول بدايات الخلق والصيرورات الأولى للكائنات والموجودات، بحيث إن أتباعها ومريديها غالبا"ما يضفون على ما حدث في الماضي من وقائع وما تمخض عنه من معطيات طابع التوقير والتبجيل، من منطلق نشوء هذه الأخيرة في حضن الدين ومن ثم حملها لقيمه واكتسابها لاعتباره. ولهذا فقد عبّرت الفيلسوفة (ميريام ريفولت دالون) عن هذه العلاقة بالقول (إن يكون المرء (متدينا") يعني أن يكون متصلا"بالماضي (...) فللديني دلالة ترتبط بالماضي، أي ببداياته الخاصة)(1).

وعلى الرغم من ادعاءات الإنسان المعاصر إزاء دور (الحداثة)(2) وما بعدها في تطهيره من (خرافات) الماضي وتطعيمه ضد (أساطير) الدين، بحيث بات يعتقد انه أصبح في حلّ من أي التزام حيال علاقاته بالماضي أو خالي الوفاض من أي شعور بالدين، باستثناء انصياعه لمتطلبات الحاضر واستجابته لتطلعات المستقبل. بيد إن الواقع أثبت إن الأمة التي لا ماض لها مجبورة على إيجاده حتى وان اضطرت إلى اختراعه، وان المجتمع الذي لا يدين بدين معين لابد أن يحصد عواقب هذا الإنكار على شكل اغتراب نفسي وضياع إنساني. وكما توصل (مرسيا الياد) إلى قناعة مفادها إن (الإنسان الكلي (total man) لا يسعه البتة أن يكون تماما"منزوع القداسة (Desacralized). ويحق لنا أن نشكّ في أن كان ذلك ممكنا"أصلا". إن العلمنة تحرز نجاحا"كبيرا"على مستوى الحياة الواعية: فالأفكار اللاهوتية القديمة والعقائد الجامدة (Dogmas) والمعتقدات والطقوس (ٌRituals) والمؤسسات... الخ. أخذت تفرغ تدريجيا"من المعنى. ولكن ليس ثمة إنسان سوي يمكن أن يختزل إلى مجرد نشاطه الواعي والعقلاني)(3)، وبالتالي فانه سيبقى يدور ضمن فلك جاذبية التصورات الدينية أو الميتافيزيقية، التي تلون أنماط وعيه للماضي وللتاريخ بألوان أطيافها المختلفة والمتنوعة .

وبقدر ما يحاول الإنسان الغربي - متسلحا"بادعاءات العلمنة والعقلنة - الإفلات من أسار الماضي وملابساته، والتخلص من بقايا الدين ومخلفاته التي لازالت عالقة بين ثنايا وعيه ومترسبة تحت طمى لاوعيه، فان الإنسان الشرقي لا يفتأ متشبثا"بالأول كما لو أنه وسيلة مضمونة لإنقاذه من احباطات ضياع الأمل وفقدان المعنى من جهة، ومحتكما"ومتوسلا"، من جهة أخرى، إلى الثاني عسى أن يمنحه دفء الشعور بالأمان في واقع بات يلفه الغموض، ويحقق له من ثم ما عجز أن يناله حتى ولو بالعالم الآخر. ولذلك فالشرقيون – كما لاحظ الروائي (عبد الرحمن منيف) – (مغمورين بأمرين: الماضي والكلمات الكبيرة، ثم بالتدريج يصبحون عبيدا"لهما. قد يقرأون التاريخ أكثر من غيرهم، لكنهم بسرعة يحولونه إلى كلمات ضاجّة، ويستريحون في ظلال الكلمات، لا يعرفون أن الماضي ذهب ولن يعود، كما لا يدركون إن الذي يعيشونه حاليا"مختلف. هذا ما يجعلهم سكارى تائهين، فلا هم في الماضي، ولا هم في الحاضر، وان ما كان صحيحا"أو قويا"في الماضي لم يعد كذلك الآن، وفي الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ورثة أكثر من حضارة وأكثر من إمبراطورية، إلاّ إن الحضارة كالنهر، لا تعرف التوقف ولا تثبت على حال)(4).

هذا وقد كان المؤرخ (جوزيف هورس) اعتبر – وهو يتحدث عن شعوب الشرق الأدنى – (إن معرفة الماضي بقيت على صلة بالدين في هذه البلاد)(5)، وهو الأمر الذي أبقى مواريث الماضي حية وفاعلة لدى شعوب هذا الشطر من العالم، ليس فقط على مستوى التدوين الأكاديمي / والمؤسسي عبر الدراسات والأبحاث من جهة، والاستثمار الرسمي / الإيديولوجي عبر الممارسات والخطابات الحكومية من جهة أخرى فحسب، وإنما على صعيد الإدراكات الذهنية والعلاقات التواصلية من لدن مختلف الفئات و الشرائح والطبقات الاجتماعية أيضا"، للحدّ الذي بات – عبر اقترانه بالوعي الديني – لا يؤطر فقط معطيات حاضرها المعيشة فحسب بل وكذلك يقنن خيارات مستقبلها المتوقعة. بحيث ان أي تفكير يذهب باتجاه الماضي، لابد أن يستحضر في التو واللحظة ما يوازيه من تصورات دينية التي يفترض بها – وفقا"لمسلمات الوعي التقليدي - أن تبرر وجوده وتسوغ مضامينه وتشرعن سردياته، وذلك بصرف النظر عن الكيفية التي تم بموجبها فبركة ذلك الماضي 

ولتوضيح أبعاد هذه الفكرة على صعيد التجربة الخاصة بالمجتمعات العربية والإسلامية، التي لم يختلط في وعيها فقط التصور الديني بالتصور التاريخي فحسب، وإنما تمكن الأول من تأطير مضامين الثاني وتحديد خياراته كذلك، فقد لاحظ أستاذ التعليم العالي في جامعة محمد الخامس المغربية (إن فلسفة التاريخ الإسلامية ما فتئت تكرر القول بأن التدوين التاريخي، بل الثقافة التاريخية الإسلامية، ليست سوى نتاج التصور الديني، كما أن (تاريخ التاريخ) العربي لم يكف عن التذكير بأن التدوين التاريخي هو مجرد تعبير عن حاجة دينية، والحال أن (فلسفة التاريخ) و(تاريخ التاريخ) تجاهلا تكوين الوعي التاريخي، بل تكوين الوعي الديني الإسلامي نفسه الذي ليس في نهاية المطاف سوى نتاج التدوين التاريخي)(6).

***

ثامر عباس

.........................

الهوامش

1. مريام ريفولت دالون؛ سلطان البدايات: بحث في السلطة، مصدر سابق، ص68 وص69.

2. كتب المؤرخ جان شينو يقول (فككت الحداثة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل) . مذكور لدى فرانسوا دوس؛ التاريخ المفتت: من الحوليات الى التاريخ الجديد، ترجمة الدكتور محمد الطاهر المنصوري، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص282.

3. مرسيا الياد؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مصدر سابق، ص45.

4. عبد الرحمن منيف؛ أرض السواد، ج3، (بيروت، المركز الثقافي العربي 1999)، 201.

5. جوزيف هورس؛ قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، (بيروت، منشورات عويدات، 1974)، ص22. وتأييدا"لوجهة النظر هذه فقد أشار (مرسيا الياد) إلى إن (الثقافات غير الأوروبية، سواء أكانت شرقية أم بدائية ما زالت تتغذى من تربة دينية خصبة). للتوسع في هذا الموضوع، راجع مؤلفه الموسوم؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة الدكتور سعود المولى، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007)، ص49.

6. الدكتور رضوان سليم؛ نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية – الإسلامية، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص51.

ظلت العلاقة المعقدة بين الديمقراطية والتنمية مثار بحث سواء على المستوى الأكاديمي أو مستوى المنظمات الدولية المتخصصة. ويحتدم النقاش ويتعقد البحث أكثر خصوصا عند تناول هذه العلاقة في إطار البلدان النامية؛ نظرا لأن مسار بناء الديمقراطية ومقدماته وعوامله وتحولاته وفق النموذج الغربي خصوصا في أوروبا، قد بُحث لفترة طويلة ومع ذلك فهو لا يزال يُبحث، وهذا هو ديدن المعرفة. أما في البلدان النامية التي لا تزال تجربتها في التحول الديمقراطي حديثة العهد، ومن ثم فإن معطياتها التجريبية والنظرية المشتقة من هذا التحول لا تزال أيضا في طور البحث والاستنتاج ولو بمديات أقل، بل أن هناك بلدانا نامية أخرى لا تزال لم تشهد هذا التحول وتعيش في ظل نظم مستبدة، هذه البلدان هي أيضا موضع بحث في سياق هذه العلاقة بين التحول الديمقراطي والاستبداد والتنمية.

تهدف هذه المقالة البحث في هذه العلاقة من خلال التعرف موجزا على تطور الديمقراطية، وتناول الجانب النظري ذي العلاقة، وفحص الدولة الهشة، وبعض الدروس المستخلصة، وإلقاء الضوء مع شيء من التركيز على تجربة البلدان النامية، وأخيرا التوقف عند تجربة العراق. نأمل أن تُسهم هذه المقالة في توضيح بعض جوانب هذه العلاقة الشائكة واستخلاص بعض الدروس لعلها تكون نافعة.

نبذة عن تطور الديمقراطية

تُعد اليونان القديمة (خصوصا أثينا) على نطاق واسع المكان الذي نشأت فيه الديمقراطية الغربية والفكر السياسي، وكلمة ديمقراطية تمت صياغتها من الكلمتين اليونانيتين demos تعني "الشعب" و kratia تعني "الحكم". نظريا، كان هذا يعني حكم الشعب للشعب عكس حكم الفرد (الأوتوقراطية) أو حكم الأقلية (الأوليغارشية)، أي على شكل ديمقراطية مباشرة، حيث يمكن لجميع المواطنين أن يتكلموا ويصوتوا في الجمعية العامة. عمليا، لم تشمل الديمقراطية الأثينية بالمساواة وحق الانتخاب جميع الأشخاص، لذلك سُمح للمواطنين الذكور فقط بالمشاركة المباشرة، ونخبة سياسية صغيرة، واستُثنيت غالبية عامة الناس المتكونة من النساء والرقيق والمقيمين الأجانب. في الواقع، لم تشمل الديمقراطية اليونانية معظم العناصر الرئيسة للديمقراطية الحديثة – المساواة لجميع الأشخاص قبل القانون وحق الانتخاب. وبالتالي، مثّلت المشاركة المباشرة في الحكومة من قبل قلة خاصة فحوى الديمقراطية الأثينية(1) . وعند عرض هذه التجربة لابد من أخذ السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الاعتبار ودوره في نشأة هذه التجربة وتطبيقاتها.

وبعد قرون تلت، شهدت إنكلترا تحولا بطيئا من المجتمع الزراعي إلى الديمقراطية البرلمانية. وفي فرنسا، كانت هناك حاجة إلى ثورة لإزالة العقبات من أمام الديمقراطية. وفي ألمانيا، أدى نضال الاشتراكيين الألمان في البداية إلى قيام جمهورية فايمار، وهي محاولة هشة لديمقراطية برلمانية والتي ثبت عدم قدرتها على الصمود أمام الكساد الكبير والنازية. واستمر النضال من أجل قيام ديمقراطية دائمة بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى ذلك إلى قيام نموذج ديمقراطي ناجح في ألمانيا الغربية. وفي هولندا، لم يُقر حق الاقتراع العام حتى عام 1919، وفقط في عام 1922 ثبت في الدستور حق النساء في التصويت. ويلقي بارينغتون مور الضوء على الظروف التاريخية التي حدثت فيها هذه التحولات، في أوروبا وأماكن أخرى، ويبيّن الدور الأساس الذي لعبته المجموعات الاجتماعية في العمليات السياسية هذه(2). طبعا، كان لعصر النهضة بدءا من القرن الرابع عشر وعصر التنوير الفكري والديني في القرن الثامن عشر اللذين شهدتهما أوروبا والتحولات الاجتماعية - الاقتصادية التي تلت ذلك وتمثلت في زوال الإقطاع وصعود البرجوازية التجارية ومن ثم الصناعية دورا أساسيا في نشوء الديمقراطية الليبرالية وتطورها وتعززها.

هناك العديد من الطريق لفهم الديمقراطية التي تُرتكب باسمها في كثير من الأحيان أكبر الانتهاكات. بالنسبة إلى الإغريق القدماء، تعني الديمقراطية "حكومة الشعب"، كما اشرنا. وبالنسبة إلى مونتسكيو تتضمن الديمقراطية توزيع سلطات الدولة لتأسيس توازن بين هذه السلطات. مع ذلك، بالنسبة إلى البلدان النامية، على سبيل المثال، بلدان أمريكا اللاتينية، أصبحت الديمقراطية تعني فقط حق أي شخص بالإدلاء بصوته بحرية في الانتخابات. لم يُمارس في الحقيقة هذا الحق بشكل كامل وأسوأ من ذلك، أن الناخبين في الغالب ليس لديهم خيارات حقيقية. وعندما يجري النضال من أجل الديمقراطية في سياق إقليمي من التدخل الأجنبي المستمر تقريبًا، فإن النتائج، تميل إلى التطور نحو أشكال أكثر تعقيدًا من الهيمنة(3) سواء الداخلية منها المتمثلة بالأحزاب السياسية والمجموعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المهيمنة أو الجهات الخارجية متمثلة بالدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي لها تاريخ طويل في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وتغيير نظمها السياسية بالقوة كما حصل في دعمها الانقلاب الدموي في تشيلي عام 1973 ضد حكومة منتخبة دمقراطيا؛ لأنها تعارض توجهات الولايات المتحدة في الهيمنة، وهذا مجرد مثال.

في الجانب النظري

لاحظ عالم الاجتماع الأمريكي سيمور ليبسيت لأول مرة عام 1959 بأن الديمقراطية ترتبط بالتنمية الاقتصادية. هذه الملاحظة ولدت كما كبيرا من البحث في موضوعات السياسة المقارنة ذات العلاقة. فقد جرى دعم هذه الفكرة والاعتراض عليها، ومراجعتها وتوسيعها، وإهمالها وإنعاشها. وعلى الرغم من إعلان الخروج بخلاصات من هذا النقاش إلا أنه لم تظهر نظرية ولا حقائق واضحة حول هذه العلاقة(4).

ظلت العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مثارا للنقاش وسط العلماء ويبدو أن هناك وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي بشأن تأثير هذا التفاعل. من ناحية، يناقش بعض المنظرين بأن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية يعزز كل منهما الآخر. من ناحية ثانية، يرى آخرون بأن الديمقراطية تضر بالتنمية. وما يزال البعض يؤيد فكرة عدم وجود علاقة ملموسة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. علما أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، حاول العديد من الباحثين تأكيد مواقفهم بشأن هذه العلاقة، لكن انتهوا إلى استنتاجات متباينة.

يجادل بعض المنظرين أن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إضافة إلى ذلك، فإن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات السياسية تولد الظروف الاجتماعية التي تكون ملائمة أكثر للتقدم الاقتصادي؛ إذ يستنتج البعض بأن هناك علاقة ثابتة وإيجابية بين التنمية الاجتماعية - الاقتصادية والديمقراطية، وهذا واضح من حالة كثير من الدول التي مرت بالتجربة الديمقراطية.

هناك مقاربة واسعة الانتشار تعتبر أن الديمقراطية هي ثمرة للتنمية الاجتماعية -الاقتصادية. ومن بحوث تجريبية لمجموعة مختلفة من البلدان خلصت إلى أن التنمية الاقتصادية تتضمن التصنيع والتحضر (ارتفاع نسبة سكان المدن) ومستويات عالية من التعليم وزيادة منتظمة في الثروة الإجمالية للمجتمع، وتكون هذه الشروط أساسية لديمقراطية مستدامة. وعلى الرغم من اتفاق هؤلاء المنظرين بأن الديمقراطية تتطلب مسبقا مستوى معينا من التنمية الاقتصادية، ولكن لا يوجد اجماع واضح حول هذا المستوى ونمط التنمية الذي يخدم هذا الهدف، مع أنه يوجد اعتقاد واسع بأن الفقر يشكل عقبة أساسية أمام التنمية الاقتصادية والديمقراطية.

إنّ نظرة عابرة للعالم ستظهر أن البلدان الفقيرة تميل لتكون ذات نظم مستبدة، بينما الدول الغنية تميل لتكون ذات نظم ديمقراطية، (توجد دول غنية لكنها ذات نظم مستبدة وهذا ينطبق على الدول ذات الاقتصاديات الريعية خصوصا) مع ملاحظة بأن الديمقراطية ترتبط بدون شك مع مستوى معين من التنمية الاقتصادية. ومع أخذ الأهمية المركزية للتنمية الاقتصادية بالاعتبار، ينبغي التمييز بين آليتين قد ولدتا هذه العلاقة وذلك بالتساؤل فيما إذا كانت البلدان الديمقراطية قد انبثقت على الأرجح من تطور اقتصادي في ظل نظام دكتاتوري أو ظهرت لأسباب أخرى غير التنمية، والملاحظ أنه تستمر الديمقراطية على الأرجح في البلدان التي كانت متطورة بالفعل(5). ومن الضروري الأخذ في الاعتبار عند التحليل، تجربة النمو الاقتصادي للفترة السابقة من الحكم الاستبدادي عند تقييم "نقطة البداية" للديمقراطيات الجديدة مقارنة بحالات الديمقراطيات الأكثر استقرارا(6). وكما لاحظ البولندي برزيورسكي وآخرون فانه يبدو من المعقول الافتراض أن الفقر يولد الفقر والدكتاتورية. كما أن انتشار فكرة التنازل عن ميزة من أجل الحصول على ميزة أخرى بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لا يبدو سليما.

تعكس العلاقة القوية بين الديمقراطية والتنمية حقيقة أن التنمية تفضي إلى الديمقراطية. لكن يثار سؤال لماذا تقود التنمية بالضبط إلى الديمقراطية؟ هذا ما جرت مناقشته بصورة مكثفة من قبل الباحثين. بالطبع لم يكن نشوء المؤسسات الديمقراطية تلقائيا وذلك عندما يحقق بلد ما مستوى معينا من الناتج المحلي الإجمالي. ثم أن التنمية الاقتصادية تجلب تغيرات اجتماعية وسياسية وبالتالي تفضي إلى الديمقراطية إلى الحد الذي تخلق طبقة وسطى كبيرة ومتعلمة وواضحة، وأن يرافق ذلك حدوث تحول في قيم الناس ودوافعهم.

ولكن إذا كان لنظرية التحديث من أي قوة تنبؤية، فلا بد أن يكون هناك مستوى معين من الدخل يؤشر نسبيًا إلى أن البلد سيتخلص من ديكتاتوريته. ومن الصعب على المرء أن يعثر على هذا المستوى: حتى وسط البلدان التي تفي بنظرية التحديث؛ إذ يكون مدى الدخل واسعا جدا، حيث يمكن للدكتاتوريات الاستمرار. علما أنه تطورت نظم مستبدة قليلة على مدى فترة طويلة، وحتى لو تحول معظمها في النهاية نحو الديمقراطية، لكن لا يوجد مستوى معين من الدخل يمكن على ضوئه توقع متى يجب أن يحدث ذلك التحول(7)؛ إذ أن هذا التحول يرتبط بجملة من المتغيرات ذات التأثيرات المتبادلة الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والبيئية الخارجية والتي قد تساعد هذا التحول أو تعيقه.

الدرس الأكثر أهمية الذي تعلمناه أن البلدان الثرية التي تميل أن تكون ديمقراطية ليس لأن نشأة الديمقراطية جاءت نتيجة التنمية الاقتصادية في ظل الدكتاتوريات ولكن بسبب - كيفما نشأت- أن الديمقراطيات من المرجح أكثر أن تبقى على قيد الحياة في المجتمعات الثرية. يمكن أن تفتح التنمية الاقتصادية إمكانيات التحول إلى الديمقراطية، عندما تكون ظروف الديمقراطية ناضجة، وأما الصراعات السياسية فتكون نتيجتها غير معروفة. لذلك من الصعب كشف أي عتبة للتنمية من شأنها أن تجعل نشوء الديمقراطية أمرا متوقعا. باختصار، يبدو أن نظرية التحديث تتوفر على القليل من القوة التفسيرية، إن وجدت مثل هذه القوة(8) أصلا.

أثيرت بعض الأسئلة ذات البعد التاريخي مثل من يسبق أولا الديمقراطية أم التنمية؟ وهل أن الديمقراطية شرط مسبق للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي؟ وهل ستكون الديمقراطية فقط قابلة للتطبيق وتتعزز عندما يكون هناك مستوى معين من التنمية قد انجز؟ وهل يجب أن تكون المجتمعات مؤهلة للديمقراطية أو تكون كذلك من خلال تطبيق الديمقراطية؟ وهل تكون التنمية الاقتصادية مستدامة بدون التطور السياسي والعكس بالعكس؟

من ناحية أخرى، تظهر العلاقة الطردية في الاقتصاد الريعي ما بين الاعتماد القوي للدولة في إيراداتها على النفط مثلا وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الافراد للمطالبة بحقوقهم السياسية. وبما أنهم لا يساهمون في الدخل لذا يصبحون اقتصاديا وبالتالي سياسيا رعايا يسعون وراء منافع فردية أثناء قيام الدولة بإعادة توزيع الريوع النفطية في شكل إنفاق حكومي هدفه الأساس الحفاظ على الأوضاع الراهنة وتناسب القوى السائدة وتأبيدها(9)، وهذه تُعد من العوامل المهمة في إعاقة التحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي كما في حالة العراق. علما أنه لا يكون النضال من أجل الديمقراطية يتعلق فقط بإقامة نظام سياسي، بل يكون الأمر الحاسم قيام ديمقراطية دائمة.

لا بد من التذكير بأن وجود اقتصاد متنوع كأساس يساعد على إقامة ديمقراطية حقيقية لا يعني أن دول الإنتاج ذات الاقتصاديات غير الريعية هي دول تشهد ازدهارا ديمقراطيا، ولكنها الأقدر على التحول نحو الديمقراطية من البلدان النفطية(10). وهذا يتفق مع ما أشرنا إليه أعلاه.

في الواقع، وجد أن استمرار الديمقراطيات من السهل جدا توقعه. على الرغم من أن بعض العوامل الأخرى تلعب أدوارا، إذ أن معدل دخل الفرد هو إلى حد بعيد أفضل مؤشر على بقاء الديمقراطيات على قيد الحياة. تستمر الديمقراطيات في المجتمعات الثرية على الرغم مما يحدث لها، بينما تكون الديمقراطيات هشة في البلدان الفقيرة. ولكن لا يحكم دائما عليها بالموت. ويساعد التعليم على استمرارها بشكل مستقل عن الدخل، ويجعلها التوازن بين القوى السياسية أكثر استقرارا. وتكون المؤسسات أيضا مهمة: فتتوافر الديمقراطيات الرئاسية على احتمال أقل للاستمرار في ظل جميع الظروف التي يمكننا أن نلاحظها مقارنة بالديمقراطيات البرلمانية(11) التي هي أكثر شيوعا على ما نعتقد.

هناك سببان واضحان لقيام الديموقراطية قد يكونان مرتبطين بمستوى التطور الاقتصادي: قد يزداد احتمال قيام الديمقراطية مع تطور البلدان اقتصاديا، أو بعد قيامها لأي سبب من الأسباب، وقد تتوافر الديمقراطيات على احتمال أكثر للاستمرار في البلدان المتطورة. علما أنه يُدعى التفسير الأول "ذاتي النمو" ويُدعى الثاني "خارجي المنشأ"(12).

أخيرا، هناك عوامل أخرى تؤثر في البناء الديمقراطي منها: الارث السياسي، أي هل كان البلد مستقلا أم خضع للسيطرة الاستعمارية (في كثير من الدول كانت الديمقراطية من ارث الاستعمار لكنها لم تستمر)، والتاريخ السياسي للبلد وعدد المرات التي حكم فيها من قبل النظم المستبدة، والبنية الطبقية والدينية والمذهبية والبنية الإثنية واللغوية، والبيئة السياسية الدولية ونسبة النظم الديمقراطية في العالم خلال فترة معينة وغيرها.

الدول الهشّة

عندما نعالج الدول الهشّة(13) فإنه من الخطأ الفادح تجاهل أهمية الشرعية؛ إذ إما بسبب نقص الشرعية تصبح الدولة هشة، وإما لأنه يجب بناء دولة قابلة للحياة وبالتالي شرعية في بلد ما بعد الصراع. في الوقت نفسه، علينا التأكد من أن المؤسسات تتلقى الإشارات من المجتمع وتستجيب لها على نحو كاف. لذلك من المهم ليس فقط دعم القدرات الفنية للبرلمانيين، لكن مساعدتهم أيضا لزيادة شرعيتهم كممثلين من خلال محاسبة ناخبيهم لهم على أفعالهم. من الأهمية بمكان عدم التقليل من مخاطر الاستعانة بمصادر خارجية في ما يخص مهام ومسؤوليات الحكومة الرئيسة. ومن الطبيعي أن تكون الخدمات الأساسية عاجلة، لكن ينبغي أن تؤخذ الشرعية في الاعتبار في ضمان استلامها(14) من قبل المواطنين. وهذا الحالة تنطبق على العراق، حيث أن نقص أو انعدام الخدمات الأساسية يضعف شرعية النظام السياسي.

يُعد نسبيا تقدم الديمقراطية هدفا جديدا في التعاون الإنمائي، إذا فُهم بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو يعني التطور السياسي. لكن ينبغي أن يميز بوضوح تعزيز الديمقراطية عن حقل تقوية نظام الإدارة العامة، حيث للأخيرة تاريخ طويل في التعاون الإنمائي. يظل في الواقع كثير مما يُطلق عليه حاليا بتعزيز الديمقراطية في سياق برامج الحوكمة الجيدة ذات الطبيعة التقنية: المساعدات الانتخابية ودعم الخبراء والدعم المادي للمؤسسات ذات العلاقة مثل البرلمان(15)، وهو غير كاف لتعزيز الديمقراطية في البلدان النامية.

هناك من يرى أن إجراء الانتخابات خلال عمليات الإصلاح الأولية يعمل عمليا على إبطائها؛ لسبب بسيط يتمثّل في أنه في البيئات ذات الدخل والتعليم المنخفضين جدا، تميل الانتخابات إلى أن تطغى عليها الأجندات الشعبوية. وستنتصر الشعبوية تقنيا على الاستراتيجيات الأكثر تطورا في هذه البيئات(16)، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ومنها ما يجري في العراق.

بعض الدروس

في الواقع، تستمر الدكتاتوريات لسنوات في بلدان كانت ثرية، استنادا إلى معايير المقارنة ذات العلاقة. ومهما كانت العتبة التي من المفترض أن تؤدي التنمية عندها إلى حفر قبر النظام المستبد، إلا أنه من الواضح أن الديكتاتوريات لا بد أن تكون قد مرّت بهذه العتبة وهي في وضع جيد. علما أنه ازدهرت أيضا الدكتاتوريات في سنغافورة وتايوان وإسبانيا والمكسيك وبلدان أخرى لسنوات عديدة بعد أن ارتفع الدخل فيها فوق 5000 دولار، هذا الدخل الذي لم يكن لدى أستراليا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا الغربية وإيسلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج بحلول عام 1951. وهناك دكتاتوريات استمرت على الرغم من الاحتمال القائل أنه ينبغي ان تتحول إلى الديمقراطية، إذ جرى توقع ذلك استنادا إلى مستوى التنمية وحده(17). وهذا يُظهر مدى تعقد العلاقة بين التحول الديمقراطي والتنمية وارتباطه بعوامل أخرى أكثر تشعبا.

فُرضت الديمقراطية في بعض البلدان من قبل دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية. تشمل هذه البلدان ألمانيا الغربية التي بحسب التوقع كان ينبغي أن تصبح ديمقراطية بحلول عام 1952، واليابان التي أصبحت ديمقراطية عام 1965(18)، علما أنه ذُكر هذان المثلان مرارا في خضم احتلال العراق من قبل أمريكا وبريطانيا لتبرير الاحتلال وفرض ما ادعي أنه ديمقراطية.

حاليا، من الممكن أكثر مقارنة بالسابق قياس التغيرات الرئيسة والمدى الذي تقدمت فيه بلدان معينة. فقد جعل التحليل المتعدد المتغيرات من استطلاعات القيم ذلك ممكنا لفهم التأثير النسبي للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأشارت النتائج إلى خلاصة تقول بأن التنمية الاقتصادية تفضي إلى الديمقراطية بقدر ما تحدث من تغييرات هيكيلية معينة (خصوصا صعود قطاع المعرفة) وتغييرات ثقافية معينة. كما تؤثر الحروب، والاضطهاد والتغييرات المؤسساتية، وقرارات النخب وقادة معينين في ما يحدث، لكن تعد التغييرات البنيوية والثقافية عوامل رئيسة في نشوء الديمقراطية واستمرارها.

وهناك من يرى أنه من أجل تعزيز الديمقراطية نحتاج أن نتعلم من أخطاء الماضي. ولا يمكن للدمقرطة أن تتعزز بالاعتماد على النماذج الغربية فقط. إذ أن الدعم المؤثر للدمقرطة ينبغي أن يركز على المبادئ الديمقراطية العامة في سياق اجتماعي - اقتصادي، سياسي معين.

في الهند مثلا، لم تتغير بشكل جذري نسبة السكان الذين يمكن تصنيفهم كفقراء بالمقياس المطلق منذ الاستقلال. يعني هذا أن التجربة الهندية لا تؤكد توقع الأداء الجيد للنظم الديمقراطية في جميع الأحوال بشأن الرفاه الاجتماعي. إذ من ناحية بُعد النمو تبدو الصورة أكثر تعقيدا قليلا: حيث كان هناك تأكيد على التصنيع، ولكن بسبب المعدل المنخفض للنمو في القطاع الزراعي، كانت النتيجة الإجمالية نموا ضعيفا إلى حد ما.

لم تعتمد كوريا الجنوبية على الاطلاق في بداية التصنيع على الديون الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية، وبدلا من تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي الدوغمائية (المتزمتة)، اختارت قيادة كوريا الجنوبية تبني استراتيجية تنمية خاصة بها. وتميزت سياساتها البديلة باستبدال الواردات مترافقة مع ترويج أو تعزيز مكثف للصادرات، وكلها مدعومة بتدخل الدولة القوي كمخطط وقائد ومحفز التنمية. وفيما بعد، جرى فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أجل جذب رأس المال، وكان الهدف من ذلك هو توجيهه نحو الشركات، حيث يمكنها بلورة نقل التكنولوجيا والمساعدة على بناء قدرات تكنولوجية محلية(19). وكانت النتيجة تحقيق تطور اقتصادي وصناعي لافت، وأصبحت الشركات الكورية تستحوذ على عدد غير قليل من المشاريع الصناعية في العديد من البلدان ومنها العراق، حيث على سبيل المثال أن الشركة الرئيسة التي عُهد إليها بإنشاء ميناء الفاو هي كورية. على الرغم من أن هذا التطور لم يكن بعيدا عن الازمات التي هي سمة النظام الرأسمالي، كما حدث في أزمة عام 1998 في منطقة شرق آسيا، حيث أن كوريا الجنوبية جزء منها.

البلدان النامية

ينبغي علينا أن ندرك أن الحد من الفقر البنيوي لا يمكن تحقيقه دون ديمقراطية حقيقية. لكن هذا لا يعني فرض الديمقراطية بالقوة، أو الترويج لإرساء الديمقراطية كحل سريع لمشاكل التنمية المعقدة. وينبغي أن يشجع التعاون الإنمائي ويدعم عمليات التغيير والتحرر السياسيين الناشئة في البلدان النامية والتي ستساهم في نهاية المطاف بوجود عالم مستدام مع فقر أقل ومزيد من المساواة. للقيام بذلك، هناك حاجة إلى التركيز على زيادة وصول الفقراء أنفسهم إلى هذه العمليات والمشاركة فيها. لقد حان الوقت لفاعلي الديمقراطية والتنمية لتوحيد جهودهم .إذ يتطلب هذا النوع من التعاون الإنمائي مؤسسات سياسية، وطموحات واقعية، واستراتيجية تتناسب مع الحقائق السياسية على الأرض. في الواقع، يتطلب الأمر، عين على الإصلاحات الديمقراطية الضرورية وعين على ميزة الديمقراطية. وفي السياق العالمي المضطرب الذي نعيش فيه خصوصا، فإن أوروبا ملزمة بأن تفعل أكثر بكثير مما فعلت حتى الآن؛ إذ أن مصداقية جهودها الإنمائية على المحك(20) في الوقت الحاضر في ما يخص دعم البلدان النامية أكثر من أي وقت مضى.

لا توجد علاقة تلقائية بين الشكل الديمقراطي للنظام وإجراءات تحسين الرفاه الاجتماعي للجماهير.  تتوافر الديمقراطية على إمكانات في هذا الصدد، والتي قد تتكشف أو لا تتكشف، وهذا يعتمد على عدد من العوامل من بينها الأكثر أهمية، الموارد والقوة والوعي والتنظيم والتأثير السياسي للقوى الشعبية. وينبغي أن يُنظر إلى هذا الأمر في ما يتعلق بطابع النخب وقوتها، التي تتعاون غالبا في تحالف مهيمن. ويكون وضع النخبة الزراعية ذا أهمية خاصة، بسبب من أنها قد تمنع إجراء الإصلاح في المناطق الريفية، والذي غالبا ما يكون حيويا لتحسين الرفاهية بشكل عام(21) ويمكن مقارنة ذلك بالعقبات الإدارية والاجتماعية التي واجهت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في العراق الذي شرع عام 1958.

عندما يشرع النظام العسكري في تبني نسخة من النمو المركزي الذاتي والذي يكون موجها بشكل خاص إلى النخبة، في جانب كل من العرض (التركيز على السلع الاستهلاكية المعمرة) والطلب (التصنيع ذو رأس المال الكثيف مع تحقيق معظم الفوائد لطبقة قليلة من الموظفين والعمال المهرة وذوي الياقات البيضاء). فإن هذا يعني أن الغالبية الفقيرة من السكان لم تكن تشارك حقا في عملية التنمية؛ إذ أن الاحتياجات الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذه الغالبية هي الصحة الأساسية والسكن والتعليم وفرص عمل مجزية(22).

هناك مشكلة أخرى تثار بشأن برهان الاستقرار. فعلى سبيل المثال، يكون في الغالب الاستقرار في الشرق الأوسط إما ظاهريا وإما هشا في أفضل الأحوال. إن القيام بإصلاحات ديمقراطية سيمكن بلدان المنطقة من الارتباط مع عالم آخذ في العولمة. وكما في أماكن أخرى، فإن الدمقرطة تُشكل شرطا أساسيا للعدالة والازدهار في هذه المنطقة. اليوم، وبعد الفشل في العراق، نحن نشهد إعادة التأكيد على الاستقرار كهدف رئيس. ولكن يمكن فقط أن يكون للاستقرار معنى عندما يستند إلى التنمية والسلام والأمن. لذلك ستزيد في النهاية الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية من داخل المجتمعات الاستقرار الحقيقي(23) . وما اندلاع الانتفاضات الشعبية في عدد من البلدان العربية، بدءا من عام 2011، إلا محاولات أولية لإقامة نظم ديمقراطية في المنطقة العربية، وعلى الرغم من الفشل الذي أحاط بتحقيق أهدافها فيمكن القول أنها تمثّل بروفات أولية تنبئ بحدوث تحولات أكثر عمقا واتساعا مستقبلا.

إذا كانت مؤسسات دولية خصوصا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد أدت دورا في دفع بعض النظم العربية التي لجأت إليها بهدف جدولة ديونها والحصول على قروض وتسهيلات اقتصادية، للسير في طريق التعددية السياسية والانفتاح السياسي، وذلك باعتبار أن هذه المؤسسات تشدد على مسائل مثل حقوق الإنسان وسيادة القانون والشفافية، إلا أنه في المقابل، فإن سياسات التكيف الهيكلي التي اضطرت النظم المعنية لتنفيذها بحسب وصفات الجهتين وبضغوط منهما قد كان لها تأثيراتها السلبية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول المعنية، حيث أدت إلى تزايد حدة مشكلة البطالة، وتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وتدهور معيشة قطاعات واسعة من المواطنين وخصوصا الفقراء ومحدودي الدخل. ونظرا لذلك فقد ترتب على هذه السياسات اندلاع تظاهرات وأعمال عنف في العديد من الدول، اصطلح على تسميتها بـ "إضرابات صندوق النقد"، ما دفع النظم الحاكمة إلى اتخاذ إجراءات غير ديمقراطية بهدف مواجهة هذه الاحتجاجات الجماعية، والاستمرار في تنفيذ السياسات المعنية(24). وهذا ما فاقم الأوضاع أكثر وعجل باندلاع الانتفاضات العربية المشار إليها.

في البلدان الأفريقية، وبسبب تقصير أداء جميع المؤسسات الرسمية بشكل نظامي في نظر التوقعات الشعبية، سوف يسد الناس الثغرات المؤسساتية بالعلاقات غير الرسمية. وكما في أماكن أخرى، تقرر فعالية الديمقراطية مقدار المساحة المتبقية للمؤسسات غير الرسمية لتقويض التنمية المستدامة والمنصفة(25). وينطبق هذا الحال على العراق، حيث تقوض المؤسسات غير الرسمية ومنها المليشيات أي تنمية حقيقية بمعناها الشامل.

طالما طُرح سؤال هل التدخل الخارجي وتعزيز الديمقراطية يتوافقان في ما بينهما على طول الخط؟ إن المساعدات الإنمائية في نموذجها التقليدي من شأنها أن تقوض الديمقراطية بدلا من تعزيزها فعليا؛ بسبب من أن مثل هذه المساعدات تقدم في الغالب في ظل شروط غير شرعية، فعلى سبيل المثال، جعل المساعدات هذه عرضة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها في الهيئات الوطنية مثل البرلمان، كما وضح ذلك إنيك فان كيسيل في بحثه حول مستقبل الديمقراطية في إفريقيا(26)  وهذا ينطبق أيضا على بلدان أخرى خارج القارة.

في ضوء مشكلات التنمية المعقدة، وعدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي والعنف والإفلات من العقاب التي ابتليت بها أمريكا اللاتينية. سيتعين على الديمقراطيات في المنطقة إيجاد الحلول لهذه المشكلات قريبا إذا هي أرادت الاستمرار. وعندما لا يستطيع عدد كبير من الشباب المشاركة في التقدم الاقتصادي، فهم ليس لديهم ثقة في المؤسسات الرسمية الحاملة للديمقراطية. وإذا ترك التهميش دون معالجة، فإنه سيقود إلى المزيد من العنف والاجرام المؤسساتي. إن منع ذلك هو أكبر تحد لبقاء الديمقراطية في أمريكا اللاتينية(27) التي شهدت نظمها السياسية تقلبات ما بين الدكتاتورية والديمقراطية بتأثير العوامل الداخلية والخارجية.

هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن العامل المهم لاستقرار النظام هو أيضا توزيع الدخل بين المجموعات المختلفة. ويمكن أن يحفز التفاوت الكبير في الدخل في ظل النظم الدكتاتورية، الحركات التي تجذبها وعود المساواة في الديمقراطية. وقد تسعى المجموعات الاجتماعية المهيمنة في ظل الديمقراطية إلى اللجوء إلى الاستبداد عندما يمارس الفقراء حقوقهم السياسية- سواء في شكل حق الاقتراع أو حرية تأسيس الجمعيات- التي تنتج منها الضغوط  المطالبة بالمساواة.

لسوء الحظ، يكاد يكون من المستحيل اختبار هذه الفرضيات. إذ أن أفضل معطيات متوفرة بشأن توزيع الدخل العائدة إلى دينينجر وسكوير عام 1996، لا تزال بعيدة عن الاكتمال وتجمع بين الأرقام التي جرى جمعها بطرق مختلفة. وبالنسبة إلى كثير من البلدان الأخرى، فإن المعلومات إما غير متوفرة على الاطلاق، وإما متوفرة فقط لسنوات متفرقة وبشكل غير مُنظم(28) . وهذا ما يعيق التحليل المنهجي والخروج بخلاصات أكثر موثوقية.

هناك حاجة لإلقاء نظرة نقدية على الحكومة وأعمال مانحيها، وعند الضرورة، اتخاذ خطوات لضمان أن التعاون من أجل التنمية لا يُضعف المؤسسات الديمقراطية الوطنية أكثر. وإذا أثر هذا الجانب في التعاون الإنمائي، فإن المساعدة ستكون في الواقع غير مسؤولة(29) ، لأنها تمثُل تدخلا في الشؤون الداخلية.

العراق

بالنسبة إلى العراق، فقد جاءت تجربته الديمقراطية المتعثرة إثر احتلال، وكان البلد قبل ذلك منهكا بسبب الحروب الداخلية والخارجية والعقوبات القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو الكويت من قبل نظام صدام حسين عام 1990؛ إذ انتشر الفقر على نطاق واسع وتراجعت الخدمات الأساسية والتعليم والصحة. ونتيجة تبني نهج المحاصصة الطائفية والإثنية الحاضن للفساد المالي والإداري بعد سقوط النظام عام 2003، لذلك لم تنطلق تنمية اجتماعية - اقتصادية حقيقية ترافق التغيير السياسي وتعززه نحو بناء نظام ديمقراطي على الرغم من ارتفاع عائدات العراق من النفط، بل ظلت أغلب المصانع معطلة والزراعة تتراجع، وتعزز التفاوت الطبقي وانتعشت الفئات الطفيلية وتفتت النسيج الاجتماعي وضعفت الهوية الوطنية أمام انتعاش الهويات الفرعية، الطائفية والإثنية والقبلية والمناطقية. وكل هذه الأمور لا بد أن ترتبط بعلاقة عكسية سلبية مع تعزيز الديمقراطية وتزيد من تعثرها وتشوهها.

ونحن نعرف من تجارب المجتمعات أنه كلما انتشر الفقر والعوز وضعف الأمن فإن المطالبة بالحريات والحقوق السياسية تتراجع، وتصبح الأولوية لمتطلبات الحياة الأساسية. وقد لاحظنا ذلك من شعارات انتفاضة تشرين 2019، التي ركزت في مضمونها على العدالة الاجتماعية ولم تركز على تعزيز الديمقراطية كنظام. بل هناك من يبحث عن منقذ حتى لو كان مستبدا عندما تتردى الأوضاع، وتجربة تونس شاهد على ذلك، إذ مهد ضعف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية إلى عودة الاستبداد.

من جانب آخر، بات الريع النفطي عائدا مباشرا للدولة العراقية يمثّل المفترق الأساس في الفلسفة الاقتصادية-السياسية، وهو أما السير في طريق التنمية والتحديث والتحول من المجتمعات ما قبل الرأسمالية إلى حالة اجتماعية-اقتصادية جديدة تتمثل بآفاق دولة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ونشوء الدولة الديمقراطية الحديثة أو الغاء الهياكل المؤسسية والتمحور حول نمط انتاج يعتمد الريع النفطي أداة لمركزة السلطة الذي يزيد من استبدادها(30). وهذا هو المتحقق في الواقع في مجرى التراجع في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير وقمع الحريات.

وعلى الرغم من كثرة الحديث عن إعادة الإعمار في العراق، إلا أن ما تحقق حتى الآن محدود ومتواضع بكل المقاييس. ومن أسباب ذلك أن هناك مشكلات ارتبطت بعملية إعادة الإعمار ذاتها، وخصوصا في ما يتعلق بخطط إعادة الإعمار، وعمليات تميلها وإدارتها، ناهيك عن حجم الفساد المرتبط بهذه العملية. وهذه الأوضاع خلقت مشكلات وتحديات تُعقد بكل تأكيد عملية بناء مؤسسات ديمقراطية(31). وقد ثبت أن نهج المحاصصة الطائفية - الاثنية هو الحاضنة الأهم لتوليد الفساد الإداري والمالي وانتشاره في مفاصل الدولة والمجتمع، وأن مكافحته سوف لن يكتب لها النجاح  - بل الحديث عنها مجرد للاستهلاك – في ظل هذا النهج وباستخدام أدواته نفسها.

***

د. هاشم نعمة

.....................

الهوامش

(1) European Parliamentarians with Africa, Democracy: Cornerstone for Development, Amsterdam: 2012, p. 15.

(2) Bert Koenders, Democracy Meets Development in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 104.

(3)Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston: Brill, 2017, p. 112.

(4) Adam Przeworski et all., Democracy  and Development, Cambridge University Press, 2000, pp.78-79.

5)) Ibid., p. 78.

6)) Georg Sorensen, Democracy, Dictatorship and Development: Economic Development in Selected Regimes of the Third Word (Hampshire/ London: Macmillan, 1990(, p. 177.

7)) Przeworski et all., p. 97.

(8) Ibid., p. 137.

(9) صالح ياسر حسن، الريوع النفطية وبناء الديمقراطية الثنائية المستحيلة في اقتصاد ريعي، بغداد، مركز المعلومة للبحث والتطوير، 2013، ص 173.

(10) المرجع نفسه، ص 174.

(11) Przeworski et all., p. 137.

(12)Ibid., p. 88.

(13) لمقارنة مفهوم الدولة الفاشلة ومقررات فشلها، راجع: هاشم نعمة فياض، دراسات في الدين والدولة، بغداد، المركز العراقي للدراسات والبحوث المتخصصة، 2018، ص 101-106.

(14) Koenders, p. 117.

15)) Bert Koenders & Cor Beuningen, "Democracy, Nation Building and Development", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 82.

)16) Paul Collier, "Fragile States", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 93.

(17) Przeworski et all., p. 94.

18)) Ibid., p. 87.

)19) Cristina Recendez Guerrero, Economic Growth, Democracy and the Construction of Citizenship in South Korea, in Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston, Brill, 2017, pp. 109-110.

(20) (20) Koenders, p. 103.

(21) Sorensen, p. 166.

(22) Ibid., p. 181.

(23) Koenders, pp. 109-110.

(24) حسين توفيق إبراهيم، العوامل الخارجية وتأثيراتها في التطور الديمقراطي في الوطن العربي، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص147 - 148.

(25) Koenders, p. 112.

(26) Koenders & Beuningen, p. 73.

(27) Koenders, p. 113.

(28) Przeworski et all, p. 117.

(29) Koenders, p. 115.

(30) حسن، ص 182.

(31) إبراهيم، ص 155.

إن المشاكل الأسرية عرضة لجهات عدة في الاستشارة:

- مراكز الاستشارات؛ والتي أغلبها لا تنطبق عليها المعايير والضوابط المطلوبة، والتي تتناسب والأسس العلمية والشرعية في هذا المجال؛

- مؤسسات المجتمع المدني، التي تتذرع بالثغرات الموجودة في المحاكم الشرعية، وتستغلها لتدخل على خط الأسرة وخاصة المرأة، لتجد ضالتها فيها، فتستغل مظلومية بعضهن، للترويج لأفكارهم، وقناعاتهم العلمانية والنسوية المتعلقة بالمرأة، وتجدها فرصة لمواجهة الدين بحجة عدم عدالته مع المرأة، وتعلي مطالبها في تحرير المرأة بذريعة ظلم الدين والمجتمع بعاداته وتقاليده للمرأة؛

- المحاكم الشرعية، والتي أغلبها بات يفتقر للتجديد والمراجعة بما يتناسب وفاعلية الدين والشّريعة، وتحقيق العدالة المتعلقة بالأسرة والمجتمع.

فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن كثيرا من المتصديين في الساحات الاجتماعية للاستشارات الأسرية غير مؤهلين بما يكفي في هذا المجال، بل بعض هؤلاء يكون سببا في دمار الأسرة بدل أن يكون سببا في تذليل العقبات بين الطرفين. وفتح الساحة بهذا الشكل دون رقيب ومتابعة من قبل الجهات المعنية، لكفاءة هؤلاء في حل مشكلات الأسرة، يجعل الساحة فوضوية، ويزيد من تعقيد المشهد الأسري والاجتماعي.

خاصة أولئك الذين يسطحون المشكلة بتشخيصات ما أنزل الله بها من سلطان، ووفق فهمهم المحدود للنصوص الدينية والأخلاقية من جهة، أو للحقوق والواجبات من جهة أخرى، دون بذل جهد واقعي في فهم التشابكات بينهما، وفهم آليات التشخيص والتطبيق، وغلبة العاطفة في التشخيص على العقلانية والرشد والحكمة والإنصاف والعدالة النفسية.

إن المؤسسة الأسرية من المؤسسات المهمة جدا، وحينما نرى حجم اهتمام الإسلام بها، يوجب ذلك علينا إيلاء اهتمام مضاعف للأسرة، ولتأهيل المقبلين على الزواج، ولتصدي الكفاءات العلمية المحيطة بالأسس الدينية الشرعية وبالنظريات المتعلقة بالأسرة والزواج، فلا يكفي أن تكون رجل دين لتصبح مؤهلا للاستشارات الأسرية، وحل مشاكلها، ولا يكفي أن تكون أكاديميا في مجالات علم النفس والأسرة لتصبح مؤهلا في ذلك.

إن الكفاءة تعني جامعية الشخص لفهم الدين وفق مقتضيات ومتطلبات العصر، وفهم إشكاليات الواقع المعاصر وتحدياته، وقدرته على تحليلها وتشخيصها، وتمكنه من آخر النظريات المتعلقة بالأسرة ومتطلباتها كافة، و قدرته على تطبيق العدالة إجرائيا في المجال الأسري، دون قراءة تجزيئية للأحكام الشرعية من جهة، ودون تبسيط وتسطيح للمشكلة من جهة أخرى، ودون بخس لطرف لحساب طرف آخر من جهة ثالثة، بل يمتلك قدرة على إدراك موارد التزاحم، والترجيحات، والقدرة على إدراك مصلحة كل حالة ومعالجتها وفق ما يقتضي حالها. أي قدرة تشخيصية في فهم المشكلة وأبعادها، ومن ثم تشخيص العلاج من حيث الأدوات، هل هي أدوات حقوقية، أو أخلاقية، أو مزيج منهما، وقدرته على التطبيق الإجرائي للعدالة في هذا الصدد.

فالملاحظ في بعض من يتصدى للاستشارات الأسرية تعميمه للمشكلات، وبالتالي تعميمه للحلول، وهو ما يعقد المشهد، إذ إن الأصل هو دراسة كل حالة على حدة، وقدرة على تحليل وتشخيص الحالة نفسها، وفهم تعقيداتها والبناء على الشيء مقتضاه.

وهذا ينطبق أيضا على كثير من مؤسسات المجتمع المدني، والتي تستغل الثغرات المفتوحة في جروح المشاكل الأسرية، التي لا تجد لها حلا وعلاجا عند من يجب أن يعالجها، فيلجأ كثيرين وخاصة النساء إلى هذه المؤسسات التي لديها أجندة تستهدف هوية المجتمع وثوابته وهويته، وتستهدف المؤسسة الأسرية برمتها تحت شعار حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهي تشكل أيضا خطرا آخرا يضاف إلى الأخطار التي تواجه الأسرة، وبدل أن تقدم حلولا في الأعم الأغلب، تعقد المسألة وتكرس مسار تفتيت الأسرة والدعوة لما يسمى تحرير المرأة وفق فهمهم للتحرير.

كذلك الحال ينطبق على محاكم الأحوال الشخصية، حيث يزداد تعقيد المشهد الأسري داخل أروقتها، وعدم فعالية القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي يعود جلها كتقنين إلى عام ١٩٢٣م، دون تَجَشّم العناء في إعادة النظر بهذه القوانين وتطويرها، أو حتى الوقوف على الإشكاليّات والتحديّات المعاصرة التي تواجه الأسرة.

بل نجد أغلب هذه المحاكم تزيد من الظلم بدل أن تحقق العدالة، وتعقد المشهد الأسري بدل أن تحل عقده، وتحولت إلى معول هدم للأسرة لا بناء غالبا. وتتعرض المرأة في هذه المحاكم للظلم أكثر من الرجل، دون أن يكون هناك وقفة حقيقية لقوانين الأحوال الشخصية وإعادة النظر فيها لتحقيق العدالة، ثم حينما تلجأ المرأة لمؤسسات المجتمع المدني، وخاصة المؤسسات النسوية منها، يتم رميها بكل التهم، ويتحول المجتمع إلى سبع ضار ينهش بها، فقط لأنها لم تجد العدالة عند من يفترض به أن يحققها، ولجأت نتيجة التقصير والقصور في هذه المحاكم، إلى من يقدم لها حلولا وإن كانت للأسف حلولا غير عادلة، ولا تتوافق ومبادئ التشريع الديني، وبدل أن تتصدى نخب المجتمع لمواجهة هذه الإشكاليات ومعالجتها، والضغط على المعنيين لحل تعقيدات المشهد، فإن أغلب هذه النخب في المجتمع والمجتمع بذاته، تكونان معولا من معاول الهدم الأسري.

والأنكى من ذلك نجد بعض العاملين في هذه المحاكم من الذين يتصدرون المشهد الاجتماعي، سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو المنصات الإعلامية كالتلفاز والإذاعة والصحف، ليوزعوا النصائح الأسرية، رغم أنهم أحد أهم أسباب هدمها بمعول القضاء.

بل جلّهم يصيح ليله ونهاره عن اختراق المجتمع وقيمه، واختراق الأسرة وتهديد وجودها، دون أن يتجشّم عناء تشخيص الأسباب ورسم صورة ومنهج لمعالجة الثغرات وردمها، لمنع هذا الاختراق، بل دون حتى أن يعترف بأن أغلب هذه المحاكم هي أحد أهم هذه الثغرات التي تسبب توسيع الاختراق، وتؤدي إلى هذا التسريب القاتل للوجود الأسري، والمفاقم للمشكلة.

فحينما لا يتم مواجهة المشكلة وتشخيص العلل بشكل صريح وجريء ومنصف، والاقتناع الوهمي بما هو موجود من قوانين وحلول ترقيعية سطحية، فإن الاختراق والتسرب سيكون البديل للمجتمع وللمقبلين على الزواج، ولأفراد الأسرة، لأنهم سيجدون في الثقافة البديلة المخترِقة حلول بديلة، وهو ما فقدوه عند من يفترض أن يكونوا مرجعية تحقيق العدل، والرشد، وتقوية مرتكزات الأسرة، وإن كانت هذه الحلول وهمية تعمل عمل مسكن الآلام، لا هي العلاج الناجع للمرض، الذي يجتزه من جذوره.

فعند فقدان العلاج عند أهله، فإن المريض سيذهب إلى البدائل التي غالبا ما تكون ترقيعية ووهمية ومسكنة لآلامه لا معالجة لها.

إن مواجهة المشكلة تكون أولا بالاعتراف بوجودها وبحجمها، وبتشخيصها وفق مقتضيات الواقع وتحدياته، ووضع الحلول المناسبة لها، لا المناسبة للعادات والتقاليد والأعراف، وأمزجة القائمين على حلها.

ويكفينا كشاهد على إخفاق أغلب هذه المحاكم، مشكلة المعلّقات من النساء، والتي قد تبقى معلّقة دون زواج ودون طلاق لعقد أو أكثر من الزمن، وهي مشكلة بدأت تزداد وتتفاقم مع الأيام، دون تصدي حقيقي من المعنيين لحل هذه القضية، وما يترتب عليها من مفسدة كبيرة على المجتمع. فيكتفي أكثرهم بالمشاهدة، أو مواجهة من تحاول منهن تخليص نفسها من هذا الوضع السّاكن، والمعيق لحركتها كإنسان نحو الله، فيصبح هؤلاء حوائط صد عن الله، بدل أن يكونوا جسورا يعبرها الإنسان نحو الله تعالى بسبب فهم أغلبهم التوقيفي للدين، لا العابر بتطبيق الدين إلى كل العصور والأزمان.

وهذا الموضوع (موضوع الاستشارات الأسرية والمحاكم الأسرية) يحتاج إفراد بحث مستقل له، لحجم إشكالياته، ولدوره في تعقيد المشهد الأسري، بدل أن يكون الأقدر على تفكيك العُقَد، وحلها وفق العدالة والإنصاف.

***

أ.إيمان شمس الدين

كاتبة و أكاديمية من الكويت

(كثيرا ما تخدع المظاهر البراقة الشعب فيسعى الى حتفه بظلفه. وكثيرا ما يسهل التأثير عليه بالآمال الكاذبة والوعود المتسرعة بسهولة)... ميكيافللي

(الحمار قد يختار التبن على الذهب)... هيراقليطس

مدخل عام

تشتغل الأخلاق كمبحث فلسفي على بيان ما هو أخلاقي، وتبحث في الأسس والمعايير التي تبنى عليها القيمة الخلقية ويفكر رجل الاخلاق في الراهن وكيفية ترجمة المبادئ الأخلاقية الى معاملات في الحياة اليومية. بينما تتساءل الفلسفة السياسية عن معنى السلطة والحقوق والعدالة والملكية وتتحدث عن الالتزام السياسي.. فالسياسة في معجم روبير هي: " فن حكم المجتمعات الإنسانية "، وتاريخيا لم تكن السياسة في علاقة متوترة مع الاخلاق دائما - كما هو واقع في عصرنا هذا مع تزايد معدلات الجريمة والفساد السياسي وعودة الأنظمة الاستبدادية ومع بروز مشكلات الموت الرحيم، والإجهاض، وحقوق المثليين، وأبحاث الخلايا الجذعية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء مما ولد حالة من السخط الشعبي وعدم الثقة في اخلاق الطبقة السياسية- بل عرفت اشكالا من التوافق والانسجام لاسيما في العصور القديمة سواء في الفلسفة اليونانية او الفلسفة الإسلامية والمسيحية. حيث كان ينظر الى الأخلاق والسياسة على انهما من مظاهر الحكمة والقيم العملية ورمزا للفضيلة. هذا التوتر في العلاقة بين السياسة والأخلاق انفصالا واتصالا يدفعنا الى التساؤل:

هل نجاح الممارسة السياسية يقتضي التضحية بالأخلاق؟

هل يمكن للسياسة أن تقوم دون بعيدا عن الفضيلة؟

هل من الممكن ممارسة السياسة دون التضحية بالمعايير والقيم الأخلاقية؟

يمكن ان نميز هنا بين اطروحتين: أطروحة منطوقها يدور حول فكرة ان السياسة والاخلاق متصلان وهم ينطلقون من مسلمة مفادها ان غاية الدولة اخلاقية وهذه الغاية تتمثل في تحقيق العدل ومن ثمة سعادة الانسان. ففي كتابه الاخلاق الى نيقوماخوس وضع ارسطو السياسة فوق علم الاخلاق وهي عنده علم العمران الذي تقوم عليه مطالب الانسان كلها وكتب قائلا: ” نقطة أولى يظهر انها بديهية، وهي ان الخير يتبع العلم الأعلى بل العلم الأساسي أكثر من جميع العلوم. وهذا هو على التحقيق علم السياسة.. انه في الواقع هو الذي يعين ماهي العلوم الضرورية لحياة الممالك، وماهي التي يجب على اهل الوطن ان يتعلموه، والى أي حد ينبغي ان يتعلموه، ويمكن ان ينبه فوق ذلك الى ان العلوم الأعلى مكانة في الشرف هي تابعة للسياسة، أعنى العلم الحربي والعلم الإداري والبيان " [1] وهكذا في السياسة اليونانية، يتم التعرف على المواطن على هذا النحو فقط من خلال اندماجه في المجتمع السياسي والسبب العملي الذي يوجه عمل المواطن اليوناني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأخلاقيات "[...] التي تُفهم على أنها مجموعة من التقاليد والعادات وقيم الحياة في البوليس او ما يسمى المدينة.

أما في الفلسفة الإسلامية تطرق ابن رشد الى مشكلة التغيير السياسي وبناء الدولة وفق فلسفة تنويرية واسس قانونية أخلاقية حيث انطلق ابن رشد من مقاربة وصفية تحليلية فتحدث اولا عن أنظمة الحكم المختلفة ومنها: التيموقراطية (مدينة الكرامة) وتقوم على حكومة النبلاء وأصحاب الطموح الباحثين عن الشهرة وهي تنتج عن حب السيطرة والعنف، وحكومة الخسة والخساسة، وحكومة الطغيان (التغلب).. وهو يتحدث عن حكومة الطغيان وصف ابن رشد الطاغية بالسكران وبان نفسه مليئة بالعبودية والجور لايقدر على ضبط نفسه ومراقبة رغباته، هو بالمحصلة مريض نصب نفسه طبيبا لمعالجة الاخرين، ووفق مقاربة سيكولوجية حلل ابن رشد نفسية الشعوب الواقعة تحت حكم الطغيان ولاحظ انها شعوب تشعر بالحزن والقلق وتعيش محطمة في مهاوي الياس والفقر، وانهم تحت ضربات الطغيان وسياط الاستبداد يتجهون الى البحث عن قوت يومهم ومن ثمة ينزل سقف تفكيرهم فلا يتجاوز البحث عن الخبز.

لذلك تبنى ابن رشد الديمقراطية (السياسة الجماعية) كمنهج في الحكم ديمقراطية أسسها على مبدأين: هما الارتقاء بالحرية في أوسع معانيها والالتزام بالقانون والمبادئ الأخلاقية وجاء من بعده ابن خلدون: " حسن التصرف في الحكم يعود إلى الرفق، فإن الملك إذا كان قاهرا باطشا شمل الناس الخوف والذل وإذا كان متخلقا اشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه " و نجد الماوردي يقول: " السياسة العادلة هي التي تجمع بين الاقوال والافعال وتدفع الحاكم الى عدم المعاقبة الا على ذنب "

ونفس الموقف نجده عند سانتهلير في مقدمة كتابه الذي ترجمه عن أرسطو المسمى « الأخلاق عند نيقوماخوس» عندما بين صلة السياسة بعلم الأخلاق فقال: "إن السياسة ليس لها مبدأ واحد لم تستمده من الأخلاق، فماذا عسى أن يكون التشريع في الممالك إذا كان لا يستند إلى علم الأخلاق؟ وما عسى أن يكون حال الحكومة وقد خلت من العدل؟ وما مصير الجمعيات الإنسانية بلا أخلاق؟ ولاحظ الفيلسوف البريطاني راسل أن العلاقات الدولية عندما ابتعدت عن الاخلاق اصبح أساسها الصراع والتنافس والسبب في ذلك الانفعالات السلبية مثل الحقد والكراهية وعلى السياسة أن تخرج من دائرة العاطفة وتعود إلى زاوية العقل وذلك من خلال الالتزام بالمبادئ الاخلاقية ومن هنا جاءت مقولة راسل: " الشيء الوحيد الذي يحرر البشر هو التعاون وان يتمنى المرء الخير لنفسه وللآخرين " وجاء في ميثاق الأمم المتحدة ما نصه: " نحن شعوب العالم القينا على أنفسنا أن نحمي الأجيال المقبلة من ويلات الحرب وان ندافع عن الرقي الاجتماعي في جو من الحرية" وهذه الاحكام مستمدة في الاصل من فلسفة كانط في كتابه " مشروع دائم السلام الدائم " * والذي وضع فيه ست مواد أساسية تبين الشروط السلبية للسلم أولها: " ان أي معاهدة للسلام لاتعتبر كذلك اذا انعقدت نية وضعها على امر من شانه اثارة حرب من جديد " وثلاثة مواد تضع الشروط النهائية والايجابية للسلم ولذلك يعتبر كانط من أنصار هذه الأطروحة والذي استعمل مصطلح الواجب الأخلاقي أي طاعة القانون الأخلاقي احتراما له وليس للمنفعة أو خوفا من المجتمع , والأخلاق عند كانط تتأسس على ثلاث شروط: "شرط الشمولية " وهذا واضح في قوله: " تصرف بحيث يكون عملك قانون كلية " و شرط احترام الإنسانية أي معاملة الناس كغاية وليس كوسيلة , وأخيرا ضرورة أن يتصرف الإنسان وكأنه هو مشروع الأخلاق.

كما نجد جون راولز يتساءل في كتابه العدالة كإنصاف: عندما ننظر الى المجتمع الديمقراطي نظرة تعتبره نظاما منصفا من التعاون الاجتماعي بين مواطنين معتبرين أحرارا وتساوين نسال ما المبادئ التي تلائمه اكثر من سواها ؟ ويقتضي هذا التساؤل التفكير في تطبيق العدالة الاجتماعية بطريقة عملية وهذا الامر مشروط بتقاطع وتوافق المؤسسات السياسية مع المؤسسات الاجتماعية وكيف تجتمع وتتناسق وتتكامل انطلاقا من منظومة أخلاقية، صحيح ان السلطة السياسية هي دائما سلطة اكراهية الا انها سلطة مواطنين يفرضونها على انفسهم مواطنين احرارا ومتساوين وقد أشار الى ذلك جون جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي قائلا: " ان القابضين على السلطة التنفيذية ليسوا اسياد الشعب بل هم موظفوه او خدامه..ان الشعب يقدر ان يعينهم وان يقيلهم كما يشاء " وهكذا المجتمع الحسن التنظيم هو المجتمع الذي ينظمه وبكفاءة مفهوم سياسي للعدالة وذلك بوجود قضاء مستقل وتحديد قانوني للملكية وبناء الاسرة للوصول الى العدالة الأخلاقية من خلال قوتين أخلاقتين هما الشعور بالعدالة كالتزام والزام أخلاقي والقدرة على الارتقاء الى الخيرية وهنا يظهر البيان الأولي لمبادئ راولز للعدالة كما يلي[3]:

وهناك أطروحة معاكسة يدور مضمونها حول فكرة أن السياسة والاخلاق منفصلان وهم ينطلقون من مسلمة انه من الضروري استبعاد القيم الأخلاقية عن مجال السياسة وان ماهية الاخلاق تختلف عن الممارسة السياسية. ومن ابرز ممثلي هذا الاتجاه ميكافللي ففي كتابه الأمير كتب قائلا: " كلنا نعرف مدى الثَّناء الذي يناله الأمير الذي يحفظ عَهْدَهُ ويحيا حياة مستقيمة دون مَكْرٍ، لكن تجارب عصرنا هذا تدل على أنّ أولئك الأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة هم من لم يصن العهد إلا قليلاً وهم من استطاعوا أن يؤثروا على العقل بما لَهُ من مَكْرٍ، كما استطاعوا التغلب على من جعلوا الأمانة هادياً لهم" وتصب بقية النصوص في كتاب الأمير في نفس الاتجاه حيث تبتعد السياسة عن النظرة المعيارية وتتغذى من الواقعية في الطرح لذلك في مستهل مقال السياسة والأخلاق علاقة متوترة أشار أليساندرو بينزاني الى اننا نتعامل مع مفهوم شخصاني للسلطة السياسية، حدده ميكيافللي بالقدرة على قيادة السكان المتجمعين في منطقة معينة والقدرة على الدفاع عن حدود هذه الأخيرة. مثل الأشكال الأخرى للسلطة مستدلا بان شواهد

التاريخ بينت لنا أن الامراء الذ ين لم يلتزموا بالأخلاق حققوا انتصارات ودام حكمهم طويلا ومن هنا جاءت مقولته (الغاية تبرر الوسيلة والضرورة لا تعترف بالقانون) يمكن العودة هنا الى كتاب مطارحات ميكافللي والذي تحدث فيه ضمن احد ابوابه عن ما يسهل اقناع الشعب به وما يصعب " اذا كنت تبغي اقناع الشعب بشيء ما تحتم عليك ان يبدو هذا الشيء في احدى صورتين، صورة المضمون وقوعه، أو صورة القضية التي لا أمل فيها، وصورة الشيء الذي يحمل طابع الجرأة أو صورة الشيء الذي يحمل طابع الجبن " على اعتبار انه عندما تكون الاقتراحات المعروضة على الشعب من النوع الذي يبدو مضموناً حتى ولو انطوى على الكوارث مختفية فيه، أو من النوع الذي يحمل طابع الجرأة حتى ولو كان خراب الجمهورية كامناً فيه، يكون من السهل دائماً اقناع الشعب بها ويكون من الصعب دائماً وبنفس الطريقة اقناع الجماهير باتباع سبيل يبدو لها منطوياً على الجبن أو اليأس حتى ولو كانت السلامة والامن قائمين فيه وهناك شواهد عدة، من رومانية وغير رومانية، ومن قديمة وحديثة تقيم الدليل على صحة ما قلت، فمثلاً ساءت نظرة الشعب في رومة الى فابيوس مكسيموس، عندما فشل هذا في اقناعه بأن من خير الجمهورية، ان تمضي ببطء في حربها مع هانيبال، وان تلجأ الى الدفاع بدل الهجوم، فلقد رأى الشعب في نصيحته جبناً لا ينطوي على أيه فائدة ملموسة، ولم تكن لدى فابيوس الحجج الكافية لحملهم على تبين وجهة نظره. وتكون الشعوب عادة على درجة كبيرة من العمى وعدم الادراك في القضايا التي تتعلق بسلامتها، فعلى الرغم من ان الشعب الروماني قد اقترف الخطيئة بتخويله قائد الفرسان عند فابيوس، بالهجوم على هانيبال، على الرغم من ارادة فابيوس نفسه، وعلى الرغم من ان هذا العمل، الذي تم السماح به رسمياً، كان من المحتوم ان يقضي على الجيش الروماني حتماً ويصيبه بالهزيمة، لو لم يسارع فابيوس بما امتاز به من حسن ادراك الى انقاذ الوضع، الا ان هذا الشعب لم يفد كثيراً من هذه التجربة.. والآن دعوني اقدم مثلاً آخر على هذا السلوك من تاريخ رومة. كان هانيبال قد قضى ثماني سنوات او عشراً في ايطاليا، وكان قد أعمل في الرومان تقتيلاً وذبحاً ذات اليمين وذات الشمال، في طول البلاد وعرضها، عندما جاء ماركوس سنيتونيوس بنيولا وهو انسان وغد على الرغم من انه سبق له ان اشغل منصباً في القوات المسلحة الى مجلس الشيوخ، وعرض عليه، اذا سمح له المجلس بتأليف جيش من المتطوعين يجمعه من أي مكان في ايطاليا، ان يقدم له هانيبال في وقت قصير، حيا او ميتاً. وبدا طلب هذا الوغد في عيني اعضاء مجلس الشيوخ شيئاً ينطوي على الحمق والجنون، ولكن لما كانت الحقيقة تشير الى انهم اذا رفضوا العرض، وعرف الشعب برفضهم، فستنشب في المدينة اضطرابات وستحل الكراهية على اولئك الذين ينتمون الى عضوية المجلس، ولذا فقد اجابوه الى طلبه مؤثرين تعريض كل من يلحق بالرجل الى الخطر، على ان يثيروا سخطاً جديداً عليهم بين جماهير الشعب، وذلك ادراكاً منهم لما يلقاه مثل هذا العرض من ترحيب عند العامة، ولما سيجدونه من صعوبة في اقناعهم لو حاولوا ذلك. وهكذا مضى الوغد على رأس جماعة من الدهماء يفتقرون الى النظام والانضباط باحثاً عن هانيبال، فهزمه هذا وقتله مع كل من كان بسیر تحت قيادته في أول معركة التقى بها معهم. وفي بلاد اليونان، لم يستطع نيكياس، وهو رجل عرف في اثينا، بسعة حكمته وثقل وزنه، اقناع شعب المدينة بحماقه ما ينوونه من غزو صقلية، مما أدى الى اتخاذهم قراراً خالفوا فيه مشورة كل من يقدر

ويؤكد جوليان فروند في كتابه ماهية السياسة على انفصال السياسة عن الاخلاق قائلا " إن الأخلاق والسياسة لا سبيل الى تماثلهما قط" وتبرير ذلك في نظره ان السياسة هي فن الممكن وترتبط بضرورة من ضرورات الحياة وهي تنظيم المجتمع وحماية الدولة وتقوم على الحيلة والصراع فطابعها واقعي اما الاخلاق فهي تهتم بما يجب ان يكون وبكمال الفرد فطابعها مثالي.وتاريخيا نجد أنظمة سياسية أسست مشروعها على القوة ونبذت كل القيم المرتبطة بالأخلاق وعلى رأسها السلام والتسامح يقول موسوليني: "إن السلام الدائم لا هو بالممكن ولا هو بالمفيد، إن الحرب وحدها بما تحدثه من توتر هي التي تبعث أقصى نشاطات الإنسان وهي التي تضع وسام النبل على صدور أولئك الذين لديهم الشجاعة لمواجهتها" ومن الأمثلة التي توضح ابتعاد الساسية عن دائرة الاخلاق مقولة قوبلز وزير اعلام هتلر الذي كان يقول: " الكذبة كلما كبرت سهل تصديقها " وهناك مقولة مشهورة للسياسي البريطاني الشهير تشرشل: "لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة"

ولكن هل يمكن للحكم القائم على القوة والمكر والحيلة والخداع أن يدوم؟ ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة بين الحاكم والمحكوم وبالتالي انهيار الدولة؟ الا يمكن القول ان السلطة التي تبتعد عن الاخلاق سلطة مطلقة وهي بالضرورة مفسدة مطلقة

من الناحية الواقعية يمكن القول ان تدهور العلاقات السياسية في العالم في عصرنا هذا كان بسبب الابتعاد عن القيم الاخلاقية والبحث فقط عن المصالح الضيقة وهذا سلوك يقضي على كل أشكال التعايش الديني، العرقي، الفكري واللغوي ومثال ذلك حرب روسيا على أوكرانيا او الحرب في السودان... ويمكننا أن نعرض هنا موقف الُمفكر الجزائري مالك بن نبي من باب الاستئناس ففي كتابه شروط النهضة قال: " إذا كان العلم بلا ضمير خراب الروح فان السياسة بلا أخلاق خراب الأمة ". وشريعة الإسلام ترفض الصراع بين السلطة الروحية والسلطة السياسية ويعتبر الأساس في الحكم هو الأخلاق قال رسولنا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وهذه النظرة تجسدت في اول خطبة للخليفة ابي بكر الصديق رضي الله عنه.

وفي مقابلة مع هنري هود هل الحرب محفورة في الإنسان وهل هي بهذا المعنى حتمية؟ بعبارة أخرى، هل السلام الدائم بالمعنى الكانطي خيالي؟ أجاب ان الحرب ظاهرة تبدو عالمية في المكان والزمان. إنها متجذرة في الإنسان كما هو الإنسان. لذلك هناك بالتأكيد شيء ما في الإنسان يدفعه إلى الحرب. إن فكرة هوبز القائلة بأن "حالة الطبيعة" للإنسان تؤدي إلى "حرب الكل ضد الجميع"، على الرغم من التناقض، صحيحة تمامًا. يفسر ذلك حقيقة أن الإنسان يعرف قانونه الطبيعي، لكن حالته الطبيعية غالبًا ما تكون حالة ناتجة عن عدم تطبيق هذا القانون الطبيعي. هذا ما يخبرنا به القديس توما: "غالبًا ما يتصرف الحيوان العقلاني بطريقة غير معقولة". وبالتالي، إذا أردنا السلام، فسيتعين علينا تغيير سلوكنا بشكل جذري، وعلينا أن نجبر أنفسنا على أن نكون حكماء وأتقياء ومقدسين، لكن الكثيرين لا يريدون أن يكونوا كذلك.

كتخريج عام

يمكن القول ان الأخلاق والسياسة من المشكلات الكلاسيكية في الفكر الفلسفي ومع ذلك لا تزال مطروحة للنقاش والجدال والبحث والتقصي وعليه يجب اخلقة العمل السياسي يتعلق الامر بضرورة اداء الافراد لواجباتهم الاخلاقية والقانونية في الوظائف العامة، والتزام رجل السياسة واحتكامه الى صوت الضمير واداء واجباتهم التي تم انتخابهم من أجلها في مجتمع سئم افراده من كثرة الأخبار المتعلقة بفضائح الفساد.

***

الأستاذ عمرون علي أستاذ مادة الفلسفة

..........................

المراجع المعتمدة

[1]- علم الاخلاق الى نيقوماخوس، ارسطو، تعريب احمد لطفي السيد، مكتبة دار الكتب المصرية، ص: 171. 

[2]- مطارحات ميكافللي، نيقلو ميكافلي، تعريب خيري حماد، منشورات دار الافاق الجديدة، بيروت لبنان، ص: 390-392.

* يمكن العودة الى كتاب مشروع للسلام الدائم لكانط ترجمة عثمان امين.

[3] العدالة كإنصاف، جون رولز ترجمة، حيدر حاج إسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية.

في المثقف اليوم