قضايا

عُرف طه حسين في بعض الأوساط الدينية وبين أبناء “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين” بأنّه المؤلف الذي أهان الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل في كتابه “الشعر الجاهلي”، فتناقلوا ما سمعوا عنه دون أن يقرءوا ما كتبه هو.. حفظوا الاتهام عن ظهر قلب، ونسوا أو تجاهلوا قرار النائب العام بعدم صحة هذه الاتهام، ففي أمّة تسمع ولا تقرأ يُسوّد الطرف الأعلى صوتا والأكثر استحواذا على وسائل التواصل الشفهي، فتقوم الثقافة على التلقين والترديد، واختزالِ ما يُسمع في كلمة، وتصنيفِ الناس وفق هذا الاختزال بين ملاك وشيطان، ثمّ تلوك الألسنة شائعات مكذوبة؛ تُؤكد ملائكية هذا أو شيطانية ذاك، فيحيا إفك مفترى، من قبيل أن طه حسين قال: “أعطوني قلمًا أحمرَ لأُصحّح لكم أخطاء القرآن”! وتموت الحقائق المسطورة في كتبه، من قبيل قوله: “القرآن الكريم المعجزة الكبرى التي أتاها الله رسوله الكريم، آية على صدقه فيما يُبلّغ عن ربّه.. والقول في إعجاز القرآن يكثر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضا.. فللقرآن وجه من وجوه الإعجاز، لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي، ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن، أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تؤدى إلى النّاس، لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا، كما قدمنا، ولم يؤدها إليهم نثرًا أيضا، إنما أدّاها على مذهب مقصور عليه، وفي أسلوب خاص به لم يُسبَق إليه، ولم يلحَق فيه”.

لم يكن صاحب هذه الكلمات ذاك الرجل الذي يُمثّل تفكيره تهديدًا، وهل يُعقل أن يُمثّل التفكير خطرا! وهل يُعقل أن يُعرّض الدين للخطر رجلٌ كائنا من كان! لاشكّ أنّ منهجية طه حسين ومن حذا حذوه في تمسّكها بضرورة المعرفة من أجل الفهم، وضرورة الشكّ من أجل اليقين، وضرورة البحث عن الحقيقة في تجردٍ من الهوي؛ حتى يسطعَ نُور العقل من خلف أسوار الخرافة والقهر تُمثل خطرا على دوغمائية/ جزْمية “جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين”، فروّجت الشائعات حول نتاجه الفكري مما حرم العقلَ المسلم من فرصة التعاطي المبكر معها والبناء عليها بعد نقدها نقدا علميا، فلم ننتبه إلى دعوته لمنهج التفسير الأدبي للقرآن الكريم، الذي استوقف عددا من الباحثين الألمان، فأشار إليه شتيفان فيلد في مقدمة كتابه “القرآن كنص” The Quran as Text، وجعلت السيدة فيلاند بداية الفكرة عند طه حسين، وأولية التنظير والتقعيد عند تلميذه أمين الخولي.

ففي كتاب “في الصيف” الذي يُمثّل مجموعة من خواطر طه حسين أثناء رحلته إلى فرنسا عام ١٩٣٣، لقضاء عطلته الصيفية من التدريس في الجامعة، توقّف أمام علاقتنا بالكتب المقدسة، مُقرّرا ثلاث منطلقات لدراستها.

أولها: إمكانية استقلال الجانب الفني/ الجمالي للقرآن الكريم عمّا فيه من مظاهر الدين والإيمان، والحاجة إلى دراسة هذا الجانب مستقلا عن الجانب التشريعيّ والتعبديّ مُؤكدًا على أهمية مثل تلك الدارسات في تذوق الإعجاز القرآني.

ثانيها: أحقية النّاس جميعا أن يقرءوا الكتب الدينية، ويدرسوها، ويتذوقوا جمالها الفني، “فليس من الضروري ولا من المحتوم، أن تكون حَبرًا، أو قسيسا، أو شيخا من شيوخ الأزهر؛ لتقرأ في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وإنّما يكفي أن تكون إنسانا مثقفا له حظّ من “الفهم” والذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة، ولتجد في هذه القراءة لذّة ومتعة وجمالا، بل ليس من الضروري، ولا من المحتوم أن تقرأ في هذه الكتب المقدسة، مدفوعا إلى القراءة فيها بهذا الشعور الديني، الذي يملأ قلب المؤمن، فيُحبّب إليه درس آيات الله، ويُرغّبه في تدبرها والإمعان فيها، بل تستطيع أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة؛ وإن لم تكن مؤمنًا ولا ديّانا”.

يُؤكد طه حسين على أنّ قراءة طُلّاب الفنّ والجمال الأدبي للكتب المقدّسة يُنتج للإنسانية نتائج لا ينتجها عكوفُ الأحبار والرهبان والشيوخ على قراءة التوراة والإنجيل والقرآن! فهؤلاء يقرءون متعبدين يلتمسون الدين والإيمان، فيقرءون ويفسرون ويقربون هذه الكتب إلى الناس من ناحيتها الدينية، وقلّما يعنون بالناحية الفنية، وقلّما يدركون دقائق هذه الناحية إنْ هم عنوا بها أو التفتوا إليها، بينما طُلّاب الفنّ والجمال الأدبي يمكنهم أن يفتحوا للناس أبوابا لحياة فنية قوية الأثر، بعيدة المدى، على غرار الآثار الفنية المختلفة التي نشأت من تأثّرِ أصحاب الذوق والفن بما قرءوا، أو ما أُلقيَّ إليهم من العهدين القديم والجديد، وهي آثار فنية لا تحصى منتشرة شرقا وغربا، فالكتب الدينية، والعمارات الدينية، ليست وقفا على أصحابها وحدهم، وإنما هي خطاب للإنسانية كلّها كغيرها من الآثار الفنية التي كان لها حظّ عظيم في تكوين نفسية الأمم والأجيال.

ثالثها: الإعلان عن نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ما دام هذا الإعلان لا يمسّ مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث كونها مقدسة؛ فلا يُنقص من مكانتها، ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد، وبعبارة أوضح: لمَ لا يكون من حق النّاس أن يُعلنوا آراءهم الفنية والعلمية دون أنْ ينالوا من مكانة تلك الكتب الدينية؟

“فالغربيون، كسبوا لأنفسهم هذا الحق، فهم يدرسون الكتب الدينية السماوية وغير السماوية، ثمّ يعلنون نتائج درسهم في حرية وصراحة، منهم الغلاة في التّعصب لها، والغلاة في التّعصب عليها، والمقتصدون بين أولئك وهؤلاء. أما الشرقيون، فقد كانوا أيام الأمويين والعباسيين آخذين في أسباب هذه الحرية والصراحة، يدرسون ويُعلنون نتائج درسهم دون أن يتعرّضوا لكثير من الخطر أو الأذى، ولكنهم لم يكادوا يفقدون سلطان السياسة العربية؛ حتى تورّطوا في شيء من الجهل والجمود حرمهم هذه الحرية والصراحة، وجعل حسّهم فيما يمسّ الدين يُصبح حادًا رقيقًا شديد التأثر، سريع الانفعال”.([1])

ويُتابع قائلا: “ثمّ كان هذا العصر الحديث، ونهضت شعوب الشرق العربي؛ وطلبت حرية الرأي، كما طلبت الحرية السياسية والاقتصادية، في ذلك كلّه، ووصل بعضها إلى حظّ لا بأس به، ولكنّ الحسّ الديني ما زال في الشرق العربي رقيقًا حادًا كما كان، ولعلّه قد أصبح في هذه الأيام أشدّ رقّةً وحدّةً، وأسرع تأثرا وانفعالا؛ لأنّ الأهواء السياسية الناشئة قد أخذتْ تستغلّ الدين طلبًا للغلب والفوز.

فاستغلال السياسة للدين في الشرق حال لا بد أن تَحول، ولا بد من أن يشعر الساسة غدا أو بعد غد بأنّ استغلال العواطف الدينية لمصلحة الأهواء السياسية شرّ يضرّ كثيرا ولا يُغني شيئا”.

مضى ثمانون عاما على هذه الكلمات؛ وما زال الحسّ الدينيّ أكثر حدّةً واستثارةً باستغلال جميع الأطراف له في معاركهم السياسية، فحرمنا أنفسنا لذّة البحث والدرس، لذّة التفكير بصوت مسموع، وأضعنا فرص الاستفادة من منهجيات يُمكنها إيجاد تصورات جديدة قادرة على مواجهة أفكار التطرف.

***

أ. د. عبد الباسط سلامة هيكل

....................

([1]) في الصيف، ص١١.

(الفرنكوفونية هي تلك النزعة الإنسانية الكاملة التي تنسج نفسها حول العالم: ذلك التكافل بين "طاقات نائمة" لجميع القارات، لجميع الأعراق، التي تنهض بفضل حرارتها المُكَّملة...اللغة الفرنسية هي الشمس الساطعة خارج فرنسا القاريّة).  ليوبولد سيدار سينغور

* لطالما دقت الفرنكوفونية وأذيالها نواقيس الخطر، منافحة على توجهاتها الكلاسيكية، عن طريق تقديم سياستها الأخطبوطية بديلاً للعولمة الجامحة التي تهدد هويات كل الشعوب الحرة، بالإضافة إلى طرح نظرياتها الهشة، القائلة بكونها تولد توحيدًا ثقافيًا متماسكا من خلال تشميل السلوكيات وأنماط الحياة، مع مدافعتها المتواصلة عن التنوع الثقافي وأشكاله التعبيرية الأخرى.

ويبدو أن هذه الهواجس القاتلة، صارت مجالا للبوليميك الاتصالي اليومي، الذي يسيطر على الأشكال الجديدة للثقافات المعولمة، وبنيات الاتصال السيبراني المهيمن، كما هو الحال بالنسبة لما يسمى راهنا بتشكل التيار الكوني الجديد للثقافة " الأنجلو-أمريكية"، التي يدعي خدام الفرانكوفونية الجدد أنها تهاجم تيارهم من الداخل، ساعية بالمفهوم الغامض "للأدب العالمي"، والذي تم تجاهله من قبل وسائل الإعلام والرأي العام الفرنسي، إلى إعادة تنشيط حوافزه وآثاره العميقة في منظومة التلقي للنخب والهيئات المؤثرة، متسائلة:

هل يجب اعتبار ذلك تحريك ثقافي مسيس أم مجرد انتقال مرحلي، إلى عولمة مقنعة وغير متطابقة؟.

الجميع يعلم، أن فكرة الفرانكوفونية هي في الأصل مشروع سياسي، كانت مدبرة بأيادي استخباراتية فرنسية، وبتوجيه لازم أحد أقطابها ليوبولد سيدار سنغور (أول رئيس للسينغال العام 1960)، بمعية التونسي الحبيب بورقيبة وحماني ديوري من النيجر، جاءت بهدف الترويج لفكرة "المجتمع العضوي" الناطق بالفرنسية. ثم احتدم الإطار المرجعي للفكرة، فصارت تفصيلا مواكبا لتوجيه سياسة المنظمة المدعومة من قبل دولة استعمارية سابقة، حيث تم تحويلها إلى مشروع لبناء "كومنولث" على الطريقة الفرنسية، بين الدول التي تستخدم الفرنسية كلغة وطنية أو لغة رسمية أو لغة ثقافية . وهو ما يرسخ مبدئية التبعية وتقويض أساسات المطالبة بالتوطين الهوياتي للغة والثقافة، ومن تمة للسياسة والاقتصاد .. وهلم جرا.

وكان الشاعر السينغالي سنغور يذهب عبر جنوحاته المتناقضة، إلى القول بأن بناء "الكومنولث" على الطريقة الفرنسية، يجب أن يجعل من الممكن تجنب التجزئة التي هددت أفريقيا المستقلة حديثًا والناطقة بالفرنسية، مع الحفاظ على روابط مميزة مع القوة الاستعمارية السابقة. مقتنعا بما يناسب مشروعه الغامض الذي أطلق عليه مفهوم "الجالية الفرنكوفونية"، وهو نفس المعطى الذي ساقه في قمة تاناناريف في يونيو 1966.

ومع تراكمات أخطاء قطعان ساسة فرنسا ووكلائها في أفريقيا على وجه الخصوص، وبعد أربعين عامًا من الخواء الأيديولوجي والسياسي المخالف لتطلعات الشعوب واستيقاظها متأخرا في ظل العتمات الحضارية ونذوبها الزائغة، ظلت الفرانكوفونية هشة للغاية، ممزقة بين رغبة البعض في تحويلها إلى أداة سياسية، ورغبة الآخرين في حصرها في دور تعليمي أو اجتماعي أو ثقافي بحت. ونمت صروف ومنافذ ثاوية جديدة، تجافي نظرات المتحفزين للتفوق الحضاري الفرنكوفوني، ما عزز انخرام قطائع التواصل والاندماج الثقافي إلى ما يشبه التنجيم الضاغط على "التدافع الحضاري" و"الرؤية المستقلة" و"الاحتواء الهوياتي " و"الوجودي" للمنخرطين في منظمة تزعم انحيازها لمفهومية "الحوار بين الثقافات" كقوة دافعة للتطور الإيجابي وانكسار ذلك كله، تحت وقع "طريقة معارضة الفرضية المؤلمة المتناغمة مع نظريات "الصدام بين الحضارات" "أو حرب الأديان"، وهي فرضيات تشبه بشكل غريب، تذويب خاصيات وهويات بلدان الجنوب وتباعدها الشاسع مع بلدان الشمال، في التوظيفات والمؤشرات التنموية والمجالية القاسية، حيث تبدو الفرانكوفونية، التي تحترم اختلافات وخصوصيات كل منها، بمثابة ثقل موازي للعولمة، المعتمدة على لغة واحدة لفرض فكر واحد .

أصبح من الأكيد، أن العقلاء الراشدون من أتباع الحلقة الفرانكوفونية الغاشمة، متقنعون بعد كل هذه الدورة الزمنية الطويلة، أنه لا يمكن فصل السياسة الفرنكوفونية، عن التعليم والثقافة والاقتصاد والتنمية، وأن أي نهج في هذه المجالات يخضع بالضرورة لفلسفة سياسية وإدارية شديدة التعقيد، تتبعها اجتزاءات وتجذرات دقيقة في باراديجم السياسات الدولية وفواعلها الأساسية، مع العلم أن كل القرارات المتخذة في هذا الإطار تقع أوتوماتيكيا تحت مسؤولية قادة الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرانكوفونية، الذين يجتمعون بانتظام منذ عام 1986 في إطار قمة الفرانكوفونية أو من خلال المؤتمرات الوزارية.

وما يؤكد هذا التوجه، ما تضمنته كلمة نادرة للرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا خلال كلمة له بالمناسبة، يوم 20 (مارس) 2010 في الإليزيه أن "المنظمة الدولية للفرانكفونية هي دول من الشمال والجنوب، دول من الشرق والغرب .. ما فائدة وجود قيم مشتركة إذا لم نحول هذا التمسك بالقيم المشتركة إلى مواقف سياسية؟ ... لا تتعلق الفرانكوفونية بالمثقفين وعشاق الأدب واللغة فحسب، بل يجب أن يترجم هذا أيضًا إلى معركة سياسية؟".

إنه منطق الاعتراف البدهي، عندما تصير القوة المهيمنة نمطا مرجعيا للهوية الثقافية واللغوية، وإطارا سياسيا وأيديولوجيا مكرسا للسلطة القاطعة والمجسدة ل"لجماعة الدولية الحامية و"المخنوع إليها" و"السابح تحت عالمها"؟.

يرى قطاع كبير من المهتمين بحقل الفرانكوفونية، أنه منذ إعلان باماكو في 14 يناير 2017، الذي يعتبر  حسب رأيهم  أنه أول نص معياري للفرانكوفونية، يتعلق بممارسات الديمقراطية والحقوق والحريات، تمت الإغارة أفقيا على تضمين روح البيان للغات القومية المنفتحة على محيطها المحلي والتاريخي، بما يجسد حمولة طاقية عظيمة، لما يدعى بمفهوم "اللغة ابنة تاريخها"، كما يزعم خدام الفرانكوفونية، أو ما يطلق عليه " الفرنسية أساس الإنسانية"، حيث "تحمل القيم الجمهورية للحرية والمساواة والأخوة"، مثلما هو الادعاء القائم على أن الفرنكوفونية "تساهم في تحسين الحياة اليومية للسكان المحليين"، و"تكافح العنصرية"، و"تبدد التوترات وسوء التفاهم مع دول الشمال"، وهو ما يشرعن اعتبارية "احترام قيم راعية الاستعمار السابقة لا غير"؟، مع ما يبرر للمتواطئين والمغالين في هذا الاتجاه، إبقاء الحال كما هو عليه، وتكريس لغة التفوق والاستقطاع من فكر وتاريخ "الاستقلال" و"التحرر"، ومحاربة كل ما يرتبط ب"الذات الثورية" والمستجيرة بأمجادها وأنوارها البائدة؟.

إنه على الرغم من استعادة جذوة الحريات الثقافية والهوياتية، ضمن منظومة ارتدادات جيواستراتيجية وسياسية شهدها العالم، فإن حدودا قصوى لتلك التقاطعات والعوامل المتعددة، الواقعة تحت نفوذ الهيمنات الاقتصادية والمالية والعسكرية المتفاوتة، لا زالت تكرس نوعا من الانسداد والتعتيم، حيث تتحول الوضعيات إلى مجرد أرقام وحسابات في خرائط تقسيم العالم وتكسيره تحت صيرورة الحسم في الأشكال الجديدة "للحكم والسلطة الدولية"، كما يراد لها أن تكون؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

من المؤكد أن العلاقة التي يعيشها أهل المذاهب الإسلامية اليوم، من أصعب وأعقد اللحظات. وذلك لبروز الغرائز المذهبية والطائفية، وسعي كل طرف للغلبة على الطرف الآخر. صحيح أن الخلافات الفقهية والمذهبية بين  المسلمين ليست جديدة، وإنما هي ذات عمق تاريخي يمتد إلى مئات السنين. ولكن الأكيد أنها لم تشهد في كل تلك الحقب التاريخية الماضية من توتر واشتعال وتوجس الجميع من الجميع. 

فالعلاقة المذهبية بين المسلمين اليوم، تعيش أصعب مراحلها، وتنذر إذا استمرت هذه الحالة على حالها، كوارث هائلة تصيب البلاد الإسلامية على أكثر الصعد والمستويات. وذلك لأن الاحتقان وصل أقصاه، وازدادت المجموعات العنفية والإرهابية، التي تتبنى خيار الحرب والاستئصال للمختلف المذهبي، ودخلت بعض المجتمعات العربية والإسلامية في أتون الاحتراب المذهبي المفتوح على كل الاحتمالات الكارثية. 

ولا ريب أن صمت حكماء الأمة عن هذا الخطر، سيفاقمه، وسيدخله مرحلة جديدة من الاحتراب الصريح، الذي لن يبقي حجرا على حجر. كما أن اشتراك بعض الفعاليات الدينية العليا في تغذية حالة الاحتراب وبعض الجماعات الإسلامية ذات التأثير في مجتمعاتنا، يعني استمرار الغطاء الديني الذي يغذي حالة التوتر والاحتراب، ويبرر للجميع الانخراط في هذا المشروع الخطر والذي يهدد الأمة جمعاء في أمنها واستقرارها، وفي راهنها ومستقبلها. 

وكلنا يعلم أنه في هكذا أجواء، يرتفع الصوت الأحمق والممارسة المجنونة وغير المحسوبة من جميع الأطراف والأطياف. 

لذلك نتمكن من القول اليوم وللأسف الشديد أنه ثمة حالة من الاحتراب الأهلي الصريح والكامن بين المسلمين. 

وبفعل هذه الحالة يسفك يوميا الدم الحرام، ويتم تخريب الكثير من البنى التحتية للبلاد الإسلامية، ويتم إنهاك النسيج الاجتماعي وتفجير التناقضات البينية والفرعية في كل الاجتماع الإسلامي المعاصر. وتحول الإسلام بفعل هذه التوجهات المذهبية الحادة والمتطرفة، من مصدر لبناء الوحدة وتوحيد المجتمعات وخلق حالة من الطمأنينة والثقة بين مختلف تعبيرات ومكونات الأمة. إلى مصدر للحرب والقتل وخلق حواجز العداوة والكراهية بين المسلمين. وبدل أن يعمل الجميع على تحييد تاريخهم المليء بالإحن والأحقاد، تم استدعاء التاريخ بكل حمولته من قبل الجميع، وأصبح (أي التاريخ) هو أحد الروافد الأساسية لإدامة الفرقة والنزاع بين المسلمين. وكأننا كمسلمين معاصرين، نتحمل عبء التاريخ وأحداثه وحروبه. 

كل الأمم الحية اليوم، تتجاوز حقب التاريخ السوداء لها، إلا الأمة الإسلامية اليوم، فهي تجتهد لاستدعاء التاريخ وإعادة إحياء حروبه ونزاعاته. 

وبدل أن يلتفت الجميع إلى تجارب الأمة في تجاوز حروبها وانقساماتها التاريخية، نحن نبدع كمسلمين في اجترار التاريخ والإضافة على حروبه ونزاعاته المزيد من الحروب والنزاعات التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الدماء  والأشلاء. 

وإن استمرار المجتمعات الإسلامية في هذا السياق والمسلك، يعني استمرار حالة التدمير الممنهج للذات الإسلامية بكل عناصرها الإيمانية والإنسانية. 

لهذا آن الأوان أن يرتفع الصوت عاليا ومن جميع الفعاليات والأطراف لا للاحتراب المذهبي، نعم للمصالحة التاريخية التي تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين بعيدا عن احن التاريخ وإكراهات الواقع. 

فمهما أوتي أي طرف من أسباب القوة والمنعة، واستخدام كل أدوات القتل والإرهاب، إلا أنه  لن يتمكن من إنهاء الوجود الإسلامي الأخر. فليس بمقدور أي طرف من إلغاء الطرف الآخر، واستمرار حالة الاحتراب المذهبي، تضر الجميع وتفقدهم عناصر قوتهم، كما أنه يساهم في تقديم صورة الإسلام للعالم، وكأنه دين القتل والتصفية الجسدية وصناعة الحروب الأهلية. 

آن الأوان أن يلتفت حكماء وعلماء الأمة من السنة والشيعة، إلى ضرورة إطلاق مشروع متكامل للمصالحة الإسلامية الحقيقية، التي تنهي كل أسباب الاحتراب المعاصر بين المسلمين. 

لأن كل حروب المسلمين الداخلية، بلا أفق حقيقي، وإن استمرارها سيخرج  الأمة جمعاء من حركة التاريخ، وسيجعلها في سجل الأمم الفاشلة التي لم تتمكن من منع المسلمين من الاقتتال الداخلي. 

ونرى أن أهم أسس المصالحة بين المسلمين التي ننشدها وندعو إليها هي العناصر التالية : 

1. وقف حملات التشويه وحروب الأوراق الصفراء من قبل جميع الأطراف الإسلامية. لأن هذه الحروب لا تقدم المسلم الآخر على نحو حقيقي أو إيجابي، وإنما تقدمه وكأنه متعطش لدم المسلم الآخر. 

وجميع المؤسسات الإسلامية والفعاليات الدينية، تتحمل مسؤولية مباشرة في مشروع وقف حروب الشائعات والتشويه التي يتعرض إليها المسلمون من بعضهم البعض. ولو ن صتنا قليلا إلى ما يبثه الإرهابيون، لوجدنا أن أحد أهم الأسباب التي دفعتهم إلى الإرهاب وقتل المسلم الآخر، هو طبيعة الثقافة المشوهة المبثوثة، القائمة على تشويه سمعة المسلم الآخر، واتهامه بأقذع  التهم. مما يجعل المسلم يعيش حالة الاحتقان والحقد على الطرف المسلم الآخر. 

وقد يتحول هذا الحقد والاحتقان، إلى ممارسة عنفية ضد المسلم الآخر.لهذا لا يمكن أن ننجز مشروع المصالحة بين المسلمين اليوم، إلا بوقف حقيقي من جميع الأطراف لحملات  التشويه وحروب الشائعات، التي تقدم الطرف المسلم الآخر على النقيض من حقيقته الإسلامية والاجتماعية. لأن الكثير مما يبث في زمن الاحتراب المذهبي، ليس صحيحا أو مشوها أو مجتزأ. 

2.  التمسك بخيار التعايش، المبني على ضمان حق الاختلاف وضرورة المساواة، بحيث لا يكون الانتماء المذهبي في كل المجتمعات الإسلامية حائلا دون تمتعه بحقوقه الوطنية. 

كما أن التعايش لا يعني أن يغادر أحد الأطراف موقعه الأيدلوجي لصالح الطرف الآخر. فالمسلم السني يعتز بإسلامه وفق فهم السلف، ك م ا أن المسلم الشيعي يعتز بإسلامه وفق فهم أئمة أهل البيت. والمطلوب من الجميع احترام كل هذه القناعات، حتى لو لم يكن معتقدا بها. فالاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف ممارسة الظلم وانتهاك حقوقه من الطرف الآخر. ومقتضى المصالحة الفعلية بين المسلمين هو التزام الجميع بمقتضيات التعايش، بحيث لا نسيء إلى بعضنا البعض، ونرفض جميعا كل أشكال الانتهاك التي يتعرض إليها الإنسان المسلم سواء كان سنيا أو شيعيا. 

3 تعلمنا تجارب الأمم التي ابتليت بحروب مذهبية بين مكوناتها، أنه لا خروج فعليا وحقيقيا  من هذه الحروب، إلا ببناء دولة جامعة، غير منحازة لأي طرف مذهبي، وتعمل بكل قدراتها إلى  الإعلاء من مبدأ المواطنة كبديل عن مبادئ الانتماء المذهبي. فكل مواطن بصرف النظر عن مذهبه، له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات. 

وإن الدولة معنية بتنفيذ كل مواد القانون والدستور التي تجرم التفريق بين المواطنين لأسباب مذهبية. 

فالدولة الجامعة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هي القادرة على  معالجة كل أسباب الاحتراب المذهبي، وإرساء أسس المصالحة الحقيقية بين المسلمين. 

لهذا فإننا نرفض أي شكل من أشكال المحاصصة الطائفية في بناء ال دول، وندعو إلى جعل المواطنة المتساوية هي مصدر الحقوق والواجبات.

***

أ. محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

يتصور كثيرٌ من الأزواج أنَّ الحياةَ الزّوجِيَّةَ ينبغي أنْ تكونَ خالِيَةً من المشكلاتِ وَالمُنَغِّصاتِ، وهذا لايمكن أنْ يقع مادمنا بشَراً، ولنا نوازعُ البشر، وَأَهواءُ البشر. هذا الافتراضُ يمكنُ تَصَوُّرُهُ في عالمِ المَلائكَةِ . المُشكلاتُ موجودةٌ حتى في بُيُوتِ الانبياء، فالنبيُّ نوحٌ (ع) لَدَيه مشكلة مع زوجه ومع ابنه اللذين كانا في الخط المعارض لرسالته عليه السلام . وكذلك لدى النبي لوط عليه السلام مشكلة مع زوجته، وفي بيت يعقوب مع أولادهِ الذين اغاضهم تعلق يعقوب بابنهِ يُوسُف، فكادوا بيوسف وخطّطوا لقتله ولكن اخاهم لاوي اقترح عليهم فكرةَ البئر، وكان الامرُ كذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآلِهِ وسلَّم مع بعض أزواجه وقد تحدث القرآنُ عن ذلك.

 هذا أوَّلاً، وَثانياً، أنَّ كثيراً من الازواج لايفهمونَ سيكولوجِيَّةَ المرأةِ ولاطريقةِ تفكيرِها . قد تجد الرجل ناجحاً في علاقاتهِ مع الرجال،  ناجحٌ في ادارة علاقاتِهِ مع امثالهِ من الرجال، ولكنَّهُ فاشِلٌ في ادارة علاقاتِهِ في بيته ومع اولاده. المرأةٌ كائنٌ عاطِفِيٌّ وكائنٌ تعبيريٌّ يعبّرُ عمّا في داخلِهِ. قد تطالب المرأةُ الزوجَ بالطلاقِ-في لحظة انفعال، وهي لاتريدهُ، قد تثورُ وتغضب في وجه زوجها، ولكنَّها تنسى كلَّ شيءٍ بكلمة طيبةٍ من زوجها او بلمسةٍ حانيّة.

 أكثرُ المشكلات الزَّوجيَّةِ ناشِئَةٌ من عدم فهم سيكولوجية المرأة وطريقتها في التفكير، ولو تعاملنا مع المرأةِ وفق فهمنا لطبيعتها ومزاجها وانفعالاتها لتجنبنا الكثير من خراب البيوت وهدم الاسر.

النقطة الثالثة التي احب اثارتَها هي ان الرجل باعباره قَوّاماً على اسرتهِ، والقوامة هي الرعاية وتحمّل المسؤوليّة، وليست كما يفهما العابثون استبداداً وطغياناً وقهراً للمرأة . الرجل عليه ان يستوعبَ المرأة، ويتجازو عن بعض هناتها وهفواتها، ولايدقق ويتوقف عند كل شيء فيحيل حياتَهُ الاسريَّة الى جحيمٍ لايطاق.

 وعلى المراة كذلك أنْ تفهمَ عقليَّةَ الرَّجل وطريقةَ تفكيرهِ وفهمِ مزاجِهِ، حتى تسير الحياةُ بشكلٍ هادئ وطبيعيٍّ .

 أكتبُ هذا المقالَ، وانا ارى حالات الطلاق الكثيرة في جاليتنا العربية المسلمة وتمزق الاسر وضياع الاولاد، واسبابها هو هذا الذي اشرت اليه، المشكلات تبدأ بسيطة وتتراكم وتنفجر والاسباب بسيطة وتافهة، وهذه المشكلات لم تحدث لو كان الزوجان على درايَةٍ تامَّةٍ وفهم كامل لطبيعةِ كلٍ منهما.  نسأل الله تعالى العافيةَ وان يحل الوئام والتفاهم بين الازواج لينعم الابناءُ بالهدوء والاستقرار في ظلِّ أُسَرٍ يسودُها التفاهُمُ والاستقرارُ.

***

زعيم الخيرالله

منذ ان طاف الانسان في الارض، سعى ليجد مكانه في الكون. من دولة المدينة في أثينا القديمة الى معالم القبور الأنيقة للأهرامات المصرية، وعبر الصحاري المترامية الاطراف والجبال الشاهقة للصين القديمة نزولا الى السهول المنبسطة لأمريكا الوسطى، حاول الانسان فهم الكيفية التي يعمل بها الكون. هو طوّر الرياضيات لتعقّب حركة الكواكب، وقام بتقدير محيط الأرض عبر السير من مدينة الى اخرى، فخلق قائمة بالنجوم ومخطوطات لضبط الوقت، وحتى قام بتسجيل الأحداث الفلكية مثل مذنب هالي والسوبرنوفا والخسوف.

وبمرور الزمن، قام الانسان بصقل وتطوير النماذج المتوفرة لديه عن الكون.، كيبلر أعاد ترتيب حركات الاجرام السماوية . غاليلو غيّر جذريا نموذج مركزية الشمس للنظام الشمسي مكتشفا ان الشمس وليس الارض هي التي تدور حول كل عناصر النظام الشمسي. اسحق نيوتن طوّر نظرية الجاذبية التي حلّت محلها لاحقا النظرية النسبية لاينشتاين.

اكتشاف وراء اكتشاف، فيها نسعى لسد الفجوات في صورة الكون، ولكن مع ذلك، وفي كل عملية،تتغير الصورة لتتحول الى شيء جديد دائم التغيير يصعب فهمه. الكون الذي فهمه كبلر وغاليلو وكوبرنيكوس ونيوتن وحتى اينشتاين يختلف عن الكون الذي نعرفه اليوم.

الفهم الحالي للكون غير مستقر. ليس من النوع الذي يناسب صندوق صغير مرتّب ذو خطوط أنيقة وغطاء مثالي. كوننا الحالي محيّر ومعقد جدا. انه يتحدى التوقعات.

بالنسبة للمبتدئين، الكون ليس ثابتا، كيان مغلق. يتوسع باستمرار. نسيج الزمكان يتمدد من كل مكان فجأة وبعيدا عن أي مكان آخر مثل بالون منتفخ، يحمل معه المجرات. الفوتونات تسافر في مسارات الكون ممتدة على طول الزمكان، أطوال موجاتها تزداد طولا، وتصبح أكثر احمرارا، وهكذا يحصل التمدد الأحمر red shifting مع توسع الفضاء.

كوننا لايتمدد الى أي شيء. لا وجود هناك لبُعد إضافي حول الكون، بل ان الفضاء ذاته يتمدد، جاعلا من الفضاء الذي بين مجموعة المجرات يصبح أكبر وأكبر بمرور الزمن. وهذا يقودنا للاستنتاج التالي غير المستقر: لا وجود هناك لمركز للكون. في كل مكان هناك "مركز" لأن كل شيء وفي كل مكان يتحرك بعيدا عن أي شيء آخر، فجأة ودفعة واحدة.

لكن الكون لا يتمدد فقط . انه يتسارع. مع مرور كل لحظة، هناك قوة مستمرة يُطلق عليها "الطاقة المظلمة" تمدد نسيج الكون. الطاقة المظلمة هي خاصية اساسية للفضاء ذاته، غير مرئية، سلسة، وثابتة – ومع ذلك نحن في الحقيقة غير متأكدين منها كليا .

وهناك ايضا المادة المظلمة – مادة ثقيلة وسميكة غير مرئية تشد المجرات الى بعضها. في عدة طرق، المادة المظلمة هي نتيجة مباشرة للطاقة المظلمة: حينما تقوم الطاقة المظلمة بتمديد الفضاء بعيدا، تقوم المادة المظلمة بحياكة المادة وشدها الى بعضها. هما كلاهما غير مرئيين – لا تتفاعلان مع الاشعاع او الضوء – ومع هذا هما حاضرتان دائما، المادة المظلمة تعمل كلاصق كوني لتكوين بناء بنطاق واسع، والطاقة المظلمة مكوّن رئيسي في تطور الكون.

 شفق الانفجار الكبير Big Bang، المعروف بخلفيات المايكروويف الكونية، منحوت في نسيج الزمكان، هو بقايا اشعاع من الفترة التي كان فيها الكون ساخنا جدا وكثيفا وسلسا. ومن خلال رسم خرائط المطبات واللاانتظام والمقارنة مع استطلاع المجرات، وجد العلماء ان 70% من الكون صُنع من طاقة مظلمة. بينما 25% من الكون صُنع من مادة مظلمة. فقط 5% من الكون مادة عادية.

تلك المادة العادية في كل يوم من حياتنا هي الشعر، الملابس، الذرات والأعضاء، الطعام الذي نأكله والكلاب التي معنا، الهواء والبحر والشمس والقمر. كل شيء نعرفه – كل شيء نراه – هو فقط 5% من كل شيء في الكون. المتبقي 95% من الكون هو شيء لا نستطيع رؤيته ولم نتمكن بعد من فهمه. جزء هائل من الكون لايزال غير معروف. وبالرغم من التقدم التكنلوجي في القرن الماضي، حتى بوجود الكومبيوتر وشبكة الانترنيت العالمية واستعمال المراصد الفضائية في رسم خرائط لأبعاد الكون البعيدة، لايزال هناك الكثير لم نعرفه.

لقد حقق العلم قفزات كبيرة منذ أيام الاغريق القديمة والمصريين، و منذ كوبرنيكوس و كبلر. ولكن بالمحصلة، نحن لا نزال مبتدئين في لعبة بسيطة نسعى فيها لفهم النجوم. وفي نهاية اليوم، نحن في كوكب وحيد يتدلّى في الفضاء، يدور حول الشمس وسط ملايين النجوم الاخرى في زاوية صغيرة من مجرة معلّقة في كون يتوسّع الى ما لانهاية .

من طبيعتنا كبشر البحث عن معنى في النجوم. ولكن أحيانا نجد جوابا ليس هو الذي كنا نبحث عنه.

***

حاتم حميد محسن

.....................

Big Think, June21, 2023

 

الإشكالية الكبرى والمعضلة الحقيقية التي حَلّت بأبناء الديانة الإيزيدية هو حجم التشويه الذي تعرضوا لهُ في بلاد الرافدين، من خلال حجم الصراعات الدولية والإقليمية وحتى المحلية ذات الأبعاد العرقية والإثنية والطائفية التي سخرَّت لنيل مآرب اصحابها ومصالحهم ومطامعهم في المنطقة، من خلال مختلف العصور المتعاقبة على بلاد الرافدين وآخرها ما تعرضوا لهُ من عناصر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من قتل وسبي واغتصاب وانتهاك للأعراض وتدمير مناطق سكناهم منتصف عام 2016م.

لو سلطنا الضوء على معتقدات المكون الإيزيدي لوجدنا أنهم لا يقدسون بشراً ولا ابليس بل يعبدون الله الواحد الأحد بطريقة مغايرة، ولا يرغبون التخلي عن عقائدهم، ويحترمون الديانات الأخرى. أما تسميتهم بـ(الإيزيديين) فتعني من خلقني وليس يزيدي نسبة إلى يزيد بن معاوية، وهي تسمية مضللة ألصقت بهم لتشويه هويتهم وحقيقة معتقداتهم، وكان لسوء الفهم المترسب في وعي الناس عن هذا المكون المغلق على نفسه. والإيزيدية موحدين لله كسائر الديانات التوحيدية في العالم، وهم يعتقدون إن الله سبحانهُ وتعالى قد خلق العالم من العدم، وخلق الملائكة والكون والبشر. ويعتقدون من خلال ديانتهم بتناسخ الأرواح وانتقالها بين الأجيال، وهي ديانة غير تبشيرية كالمسيحية والإسلامية؛ فأنها ديانة مغلقة. وفيما يتعلق بطقوسهم الدينية، فلديهم الصلاة والصوم والأدعية والحج إلى ضريح الشيخ عدي بن مسافر الهكاري في معبد لالش، والتطهير والختان، ويوم العبادة عندهم هو يوم الأربعاء الذي يستوجب فيه التعطيل عن الاشغال. والإيزيديون كغيرهم لهم مراكز تواجد بعضها قرب مزاراتهم المقدسة؛ في سنجار والشيخان وبعض قرى نواحي تلكيف وبعشيقة وزاخو في محافظة دهوك. مع كل هذا الإيمان بالله فقد اتهموا بالكفر والزندقة وعبدة الشيطان التي اطلقها عليهم وزير العراقي العثماني سليمان باشا، فاستبيحت دمائهم.

بل نالوا من الحكومات المتعاقبة؛ منذُ الاحتلال العثماني ومن ثم البريطاني من تشويه اسم الإيزيدية وانتماءهم العرقي، وجوهر عقيدتهم، وموروثهم الاجتماعي والثقافي والديني، واستمر ذلك على مدى قرون طويلة، وحتى فترة قريبة من الآن. لقد طال هذا التشويه وساهم به بعض الكُتّاب والمؤرخين، لسرية عقيدتهم وانغلاقهم على الأجانب والغرباء وفقدان الثقة، لخوفهم من الحروب والمجازر التي تعرضوا لها، وعدم تمكنهم من التعبير عن مكنوناتهم بسبب جهلهم في العصور السابقة بالقراءة والكتابة المحرمة عليهم دينياً، أما اليوم فقد تصدى لذلك من ابنائهم ممن نالوا الشهادات والدراسات العليا وتعلموا في المدارس الحديثة.

وقد تناول تأريخهم بعض الكُتّاب غير الملمين بأحوالهم ومعتقداتهم معتمدين على الحكايات والمرويات من القصص التي تتحدث عنهم، والتي لا تخلو من الدَسّ لأسباب معروفة للجميع، كما أن أبناء الإيزيدية أنفسهم تأخروا كثيراً لتوضيح حقيقتهم؛ دينياً وعرقياً وثقافياً، وما انبروا في كتابته تركز على جوهر العقيدة الإيزيدية، والرد على بعض الاشكاليات التي طالت ديانتهم وكتبهم المقدسة، ومجدد ديانتهم الشيخ عبدي بن مسافر الهكاري، وأنهم ديانة سماوية قائمة بذاتها مثلها مثل اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأنهم ليسوا فرقة إسلامية مرقت عن الديانة والتي بسببها عدوا مرتدين عن الإسلام ولاقوا صنوف العذاب والإبادة والقتل والتهجير على يد الكثير من الحكام المسلمين في أيام الدولة العثمانية بسبب فتاوى بعض رجال الدين المسلمين.

أما المؤرخين العراقيين فكانوا السباقين في هذا التشويه أمثال: السيد عبد الرزاق الحسني والأستاذ صديق الدملوجي والأستاذ سعيد الديوه جي والأستاذ عباس العزاوي والدكتور سامي سعيد الأحمد، الذين افردوا كتباً خاصة حول الإيزيدية وعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بالرغم من أن بعضهم كان على تماس وتعايش مباشر معهم وعن قرب، وربما يمكن السبب إلى انغلاق الإيزيدية وجهل غالبية رجال دينها بالإجابة عن اسئلة الباحثين الحرجة وقتذاك، فضلاً عن ملازمة الخوف لهم والذي لا زال يلازمهم حتى يومنا هذا؛ لعدم تخلصهم من صور عذابات ومآسي فرمانات العثمانيين وحملاتهم التي كانت تجلب القتل والدمار إلى جميع مناطق سكناهم، وقيام رجال الدين الإيزيدي بالاجابات التي ترضي فضول السائلين عنهم، مما دفع الإيزيديون ثمناً باهضاً جداً من خلال عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من المهجّرين قسرياً إلى مناطق مختلفة من العالم، أو التحول قسرياً إلى الدين الإسلامي، عدا الأتاوات وتدمير القرى والبلدان.

لقد تعرض اتباع الديانة الإيزيدية في العراق إلى ما يقارب (73) حملة عسكرية من قبل المسلمين، مما اسفرت عن عمليات قتل الأفراد وسبي النساء، ومحاولة القيام بعملية تطهير عرقي عبر عمليات القتل الجماعي والقضاء على إدامة النسل.

لم ينصف الإيزيديون إلا على يد قلّة من الباحثين أمثال الدكتور كاظم حبيب والدكتور خليل جندي والباحث زهير كاظم عبود والأستاذ خدر سليمان والباحث عدنان فرحان زيان وآخرين، الذين قدموا دراسات ومحاولات جادة حول بعض الاشكاليات التي لم يتم الحسم فيها أو في كليتها حول العقيدة الإيزيدية وجوانب أخرى من حياتهم وتقاليدهم الاجتماعية.

كما انصف أبناء الديانة الإيزيدية بعد تعرضهم من قبل عناصر تنظيم داعش الإرهابي عام 2016م في مجال القصة والرواية، بعد ما شهدت الأقليات في محافظة الموصل الاضطهاد والقتل والتهجير، إذ عانت الإيزيدية من موجة الإبادة الجماعية، حيث اقترنت قضيتهم بسبي النساء وبيعهن، الأمر الذي جعلها قضية تأخذ بعداً عالمياً، فلم يقف الأدب صامتاً أزاء ما حصل لهذا المكون العراقي، إذ استجابت النصوص الأدبية لهذا الحدث ونقلته بتفاصيله الدقيقة، حيث وصلت تلك الروايات إلى أكثر من سبع روايات افتتحها الروائي علي بدر وسنان انطوان في مدة ثمان سنوات، فأسست لأدب القضية الإيزيدية، وجعلت مفهوم الهوية ذات بعد ديني عرقي، ثم ابتدأت د. وفاء عبد الرزاق بروايتها (رقصة الجديلة والنهر) 2015م، ووارد بدر سالم برواية (عذراء سنجار) 2016م، وعامر حميو برواية (بهار) 2016م، وراسم قاسم برواية (شمدين) 2017م، ونوزت شمدين برواية (شظايا فيروز) 2017م، وعبد الرضا صالح محمد برواية (سبايا دولة الخرافة) 2016م، ونزار عبد الستار برواية (يوليانا) 2016م، وغادة صديق رسول برواية (مراثي المدينة القديمة) 2018م، ومن الروايات العربية التي كتبت عن القضية؛ رواية سليم بركات (سبايا سنجار) 2016م، ورواية زهراء عبد الله (على مائدة داعش) 2016م، ورواية سمير فرحات (بنات خودا) 2017م، ورواية إبراهيم اليوسف (شنكالنامة) 2018م، ورواية دنيا ميخائيل (في سوق السبايا). فضلاً عن ديوان شعر كتب باللغة الإيزيدية الكرمانجية، وترجمها للعربية الأستاذ عيدان برير.

نحنُ اليوم بحاجة للتوقف عند جدلية الصراع بين الثقافة والدين، وسيادة احتكار الدين الإسلامي لمعظم المرافق الحياتية والصراع بين الثقافة الحديثة والتقليدية. نحنُ بحاجة إلى تجديد الدين ليسمو بالإنسان ويحفظ كرامته ويقرّب البشر بعضهم من البعض. نحن بحاجة إلى التنوع الثقافي وليست سيادة ثقافة واحدة. نحن بحاجة إلى خلق مساحات من الحوار لخلق ذهنية صحيحة عن الآخر ومحاولة تصحيحها من قبل بعض المسلمين، فضلاً عن المصالحة مع الذات ومع الآخر المختلف لبناء السلم المجتمعي.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

الأم مدرسة إذ أعددتها

أعدت شعبا طيب الاعراق

*

الأم روض إن تعهده الحيا

بالري أورق أنما ايراق

*

الأم أستاذ الأساتذة الآلى

شغلت ماثرهم مدى الأفاق

***

حافظ ابراهيم

يقال ان المرأة هي نصف المجتمع والصحيح انها هي التي تبني المجتمع من خلال الإنجاب وكذلك تربية الأطفال، أضافة لكونها تمارس دورها في بناء الوطن حيث تعمل بختصاصها، أن كانت طبيبة او مهندسة او محامية أو معلمة وغيرها من المهن، أضافة لكونها زاولت العمل السياسي كما روزا لكسمبورك والمناضلة كلارا زيتكنا لعبن أدوار نضالية مشهودا في حركة الطبقة العاملة العالمية وتركنا بصماتهن في الحركة النسائية العالمية التي ظهرت بعد الحرب الوطنية العظمى متمثلة في اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، في الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة وضد التميز العنصري، في طروحاتهن حول النظام الرأسمالي وجشعه واستغلاله وحتمية انتهائه والوصول الى الاشتراكية ودفاعهن عن حقوق الطبقة العاملة في العمل والعيش الكريم، ويجب أن نتذكر دور المرأة السوفيتية في الحرب الوطنية العظمى ما قدمته في الدفاع عن الوطن السوفيتي ضد النازية الهتلرية والفاشية في الجبهة وفي المستشفيات، ولا ننسسى دور الشخصية الفرنسية المناضلة سيمون ديبفوار زوجة المفكر الفرنسي جان بول سارتر الماركسي وكانت كاتبة ومفكرة وفيلسوفه وجودية وناشطة سياسية ونسوية.

و في العالم العربي وأثناء احتلال الجزائر من قبل الاستيطان الفرنسي، ظهرت المقاومة الجزائرية متمثلة بحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في قتالها ضد المستوطنين الفرنسين، لعبت المرأة الجزائرية دورا نضالية مشهودا مع مشاركتها للرجل في النضال والمقاومة المسلحة والسلمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، جميلة بو عزة وجميلة بو حيرد ووريدة لوصيف، وزهرة ظريف حسين، وباية حسين ومريم بو عتورة، ووريدة مداد، وفضيلة سعدان، وفاطمة نسومر،  وغيرهن، وقمنا بنشاطات سرية استهدف حتى جنرالات الجيش الفرنسي في البارات، حيث وضعن المتفجرات وكبدن الفرنسين خسائر جما. هكذا انتصر الشعب الجزائري في تحرير بلاده وبمشاركة المرأة.

و اما المقاومة الفلسطينية ودور المرأة في النضال من تحرير الأرض من رجس الصهاينة محتلين الأرض، فكان للمرأة الفلسطنية دورا مهما في المشاركة الفعلية في حركة المقاومة الفلسطينية الباسلة، ومنهن المناضلة الباسلة ليلى خالد والتي انضمت لحركة القوميين العرب ومن ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حيث شاركت بخطف الطائرات ومن خلال عملها البطولي من أجل ان تعلن للعالم أن قضية الشعب الفلسطيني لا يمكن نسيانها وانها حركة تحرر وطني، لعودة الشعب الفلسطيني من مخيمات الجوء إلى وطنهم وإقامة دولتهم الفلسطينية على ارض فلسطين.

و لايمكن أن ننسى الشهيدات الفلسطينيات من أمثال لينا النابلسي وكذلك شادية ابوغزالة وغيرهن من قدمن ارواحهن من أجل تحرير بلدهم فلسطين العربية من رجس الصهاينة المستوطنين.

اما المرأة السودانية المناضلة فاطمة ابراهيم وهي زوجة الشهيد القائد العمالي الشفيع أحمد الشيخ، فقد لعبت دورا مهما في أكبر منظمة عالمية الا وهي اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، فقد قامت بالدفاع عن حقوق النساء في العالم وفي العالم العربي، ضد الاضطهاد والاعتقال والتعنيف وضد التقاليد القديمة البالية ومنها التي كانت سائدة في المجتمعات الأفريقية ومنها (ختام المرأة) لما كان يحدث بعدها من وفيات بسبب النزف.

اما المعمارية العراقية المولد والبريطانية الجنسية زها حديد، ابنت محمد حديد الشخصية الوطنية واحد مؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي والذي أصبح وزيرا للمالية في حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة عام 1958، فقد أبدعت زها حديد في فن العمارة المدنية واقدمت على تصاميم جميلة تتناسب وتتناغم مع سمة العصر وجمالها، في بلدان عديدة عربية كاالامارات العربية المتحدة والعراق في تصميم بناية البنك المركزي العراقي وبلدان عالمية ومنها اليابان، حيث قلدة ميداليات من قادة الدول في العالم ومنها ملكة بريطانية.

المرأة في العراق بين الأمس واليوم

بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية على يد الحلفاء جرى احتلال العراق الذي كان تحت سيطرة الدولة العثمانية من قبل البريطانيين، وفي الثلاثين من حزيران عام 1920 انتفض العراقيين في ما سمي ما بعد بثورة العشرين شاركت فيها عشائر العراق في الفرات الأوسط والمنطقة الغربية وكذلك رجال الدين من الوطنيين، واندلعت معارك طاحنة بين جيش المحتل البريطاني والثوار العراقيين، على الرغم من عدم تكافؤ القوى في السلاح والمعدات بين الطوب (المدفع) المستخدم من قبل الانكليز، والفالة والمكوار وهو عصى فيها كتلة اسفلتية. ومن هنا جاءت ردة الثوار الشهيرة (الطوب احسن لو مكواري). ولعبت المرأة العراقية دورا كبيرا في تشجيع الثوار على المقاومة ومدهم بالطعام والاهازيج الحمساسية، وبعد تنصيب الملك فيصل الأول من الحجاز وجاء به من سوريا ملك على العراق، تشكلت الدولة العراقية بجهازيها التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (مجلس الوزراء) وبعد ذلك تم تشكيل (القضاء)، وبدء العمل من أجل التعليم العالي، الاعداد لتأسيس كلية الحقوق وكان للمرأة نصيب في دخول الكلية حيث أن أول امرأة تخرجت منها هي أمينة الرحال اول حقوقية تخرجت من هذه الكلية، وهي من عائلة تقدمية التوجه أضافة لدورها في تشكيل الحلقات الماركسية والتي أصبحت في ما بعد نواة لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي. وكانت أمينة الرحال اول امرأة تقود سيارة في العراق. وبعدها اختيرت اول امرأة أصبحت قاضية في العراق هي صبيحة الشيخ داود وأصبحت الكليات العراقية يدخلها الجنس الانثوي وتخرجن منها حقوقيات ومن كليات أخرى طبيبات ومعلمات ومهندسات.

و بعد ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة عام 1958 ظهرت قوانين ومنها قانون الأحوال المدنية، هو من أهم القوانين في انصاف المرأة في الوطن العربي، لما جاء به من بنود لمساوات المرأة في الحقوق في الإرث والزواج والعمل ومشاركة الرجل في مهن متعددة وخير مثال استأزار نزيهة الدليمي وهي شيوعية وطبيبة، أصبحت وزيرة البلديات في حكومة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.و انطلقت المرأة بالحصول على التعليم حتى بدء لجان مكافحة الأمية إجراء ممنهج لتعليم المرأة وحتى اخذت الجامعة والمدارس والوظائف تعج بالمرأة واستمرت الحكومات اللاحقة العسكرية والدكتاتورية تسير في هذا المنوال.

و اليوم وبعد الاحتلال عام 2003 الذي اقدمت الولايات المتحدة الامريكية والمملكة البريطانية ودول حلف الناتو على تدمير كيان الدولة التي مضى على انشاءها قرن من الزمن، دمرت المدارس والمستشفيات وجرى تحويل المنهاج في الدروس ليس لمتابعة النهج الذي يقوم على تطوير العلم والأحاق بالدول الاخرى بل هيمنة على التربية والتعليم الأحزاب الدينية وأصحاب الشهادات المزورة. وبالنسبة للمرأة أصبحت ربة بيت فقط لم يجري دفعها إلى أن تشارك الرجل في كل المجالات واهتمت الأسرة بشكل عام بتوفير لقمة العيش وتربية الأطفال ولكن للأسف حتى لم تكون هناك توعية في مجال الإبتعاد عن القتل والسرقة وبشكل مركز حول تعاطي المخدرات، التي دخلت على العراق لتدمير الأسرة اولا والمجتمع بشكل عام  (القتل والانتحار) حيث أن ايران لعبت هذا الدور وشجعت بفتح حدودها مع العراق للحصول على العملة الصعبة (الدولار ااامريكي) وأصبح العراق ليس فقط دولة عبور وإنما دولة مستهلكة لكل انواع المخدرات، وظهرت وانتشرت الجريمة كنتيجة حتمية لانتصار المخدرات وتفكك الأسرة. وللأسف لاتوجد قوى وطنية تأخذ على عاتقها مهمة التوعية للجيل الناشئ بمخاطر المخدرات صحيا، والعمل من أجل كبح جماح البطالة والبطالة المقنعة، وإيجاد فرص عمل وذلك بالضغط على الحكومة بفتح المعامل والمصانع.

ستبقى المرأة العراقية اصيلة وهي الأم والأخت والزوجة، في النضال لفتح الباب أمامها وعلى مصراعيها في التعليم والعمل والتوظيف.

***

محمد جواد فارس

طبيب وكاتب

الحقيقة في النفس يعرفها الإنسان ولا يريد أن يدركها.

نحن نعرف الحقيقة في دواخلنا ولكننا لا نريد أن نعرفها، وفي كل نفس حقيقة حتى ذلك الجانب المظلم وهو ليل النفس الذي يضمها لا نريد الاعتراف به، الحقيقة مؤلمة لنا جميعًا وكشفها يجعلنا نختل في إتزاننا النفسي في داخلنا أولًا، وفي ما يصدر عنا من تعامل وسلوك مع الأخرين ثانيًا. وإن بُعد الحقيقة غامض وغير قابل للتفسير ولا شيء يُمَكن من ضبط ضرورته لأن الإنسان يتعايش تمامًا مع عدم الحقيقة كما قالها فرويد في كتابه موسى والتوحيد وَدونها "جاك لاكان" في كتابه الذهانات ص245 ويرى "لاكان" أن التحليل النفسي لا ينفصل بتاتًا عن السؤال المركزي حول كيفية دخول الحقيقة في حياة الإنسان.

كل البشر يحملون في دواخلهم حقيقة ما في لاشعورهم – لا وعيهم كبتت واستبعدت في مرحلة الطفولة وهي طائفة من الذكريات الصادقة، أو الكاذبة، تافهة المضمون، مجردة عن الانفعال، معاصرة لأحداث مهمة أخرى وهي ذكريات تحل محل في الواقع محل ذكرى مؤلمة أصيلة كما يقول فرويد، هي من الطفولة أي منذ الولادة حتى سن السادسة أو السابعة وربما الثامنة، شيء بقي يحمل ما يمكن أن يكون قد حدد مسار سلوكه في حياته اللاحقة، لأن دواخلنا تحدد مسار سلوكنا الحالي، ويقول جاك لاكان " الحقيقة دائمًا جديدة "، نعم هي متجددة في دواخلنا، دينامية متفردة في كل شخص، مختلفه عن الأخر، لا بل مختلفة بشدتها وأعتدالها وضعفها تارة أخرى. الحقيقة نعرفها ولكن نحاول تجاهلها، تم تثبيتها في اللاشعور "اللاوعي " تركت الأثر فينا، كان الأب هو الأساس فيها، أو ربما الأم، أو أيٌ من كان يمثل الأخ الكبير، فهي " تمثل " Representation  ويشير مفهوم التمثل إلى تصور أو مجموعة من التصورات التي تتثبت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وَتدون في النفس بواسطتها، إذن هي حقيقة يعرفها أي منا، ومتى تم تمثلها؟

لا نريد الكشف عنها، يتلذذ البعض في بقائها تجول في عالمه الداخلي مستأنسًا بوجودها كما هو حال الوسواسي، يعرف أنها أفكار لا صحة لها ولكنه ينقلها إلى الواقع المعاش كسلوك ويمارسها ولا يستطيع التخلص منها، يشتكي منها ولكنه يفعل نفس الحركات والأفعال ويعيد تكرارها، حتى وإن حاول أن يُجبر نفسه على ابعادها أو طردها فتعود مرة أخرى وهذا ما نلاحظه في مبدأ إجبار التكرار وهو الميل إلى تكرار الخبرات القوية، أيًا كانت النتائج المفيدة أو الضارة لهذا التكرار كما عبر عنه "دانييل لاجاش".

يعيش الإنسان الصراع طيلة حياته يجاهد من أجل اخفاء شيء، يصارع نفسه وينقل صراعه من داخله إلى عالمه الخارجي فتارة يسقطه على شيء مادي مثل الشخص الأضعف منه، وتارة يُحور في الفاظه فيقلب المعنى بشكل تكوين عكسي، ومرة يعمل كناية لما يريد بإزاحه نادره في العلن والوعي فتكون في لاوعيه ربما نلقاها بشيءٍ قض مضجعه في حلم خلق لديه أرق شديد وصاح وهو لا يدري ماذا حدث له، أو في استعارة جميلة كثف من خلالها مجموعة صور وأفعال أفضل من أي مخرج سينمائي أو تلفزيوني محترف فكانت الصورة مشوشة، هل يحق لنا أن نقول أنه مازال يهرب من معرفة الحقيقة وإدراكها، نتساءل: لماذا يخاف الاعتراف بها وهي موجودة فينا، أقصد الحقيقة التي يزوغ كمحترف من أن يعترف بوجودها فيه، لا بل ربما تجعله يمرض ويشقى ويلف ويدور على نفسه داخل نفسه، ومن نفسه في نفسه، وأستعير من الدكتور أحمد عكاشة قوله: إن ما أقامه فرويد من برهان على أهمية الصراع الدفين بما فيه من تعارض دينامي بين النزعات ( في) مصطفى زيور في النفس ص 17، أنه ديالكتيك الهروب من معرفة الشيء الموجود في نفسه.. أنه هروب من المواجهة، هروب من معرفة المعرفة التي تؤدي إلى كشف أعماق النفس وما غرس في ثناياها وظل يتجول بلا رقيب كما هو الذهاني، أعتزل عالمنا المعاش ووجد في عالمه الخاص عالمًا به كل حواراته بلا رقيب.. يعتقد أنه أريح له وأسلم وأجمل.. ولكن هذاءاته تدلنا على الشيء الذي حاول أخفاءه، وهذا الهذيان في نهاية الأمر يحمل معنى ودلالة، رغم معاناته ممن يخاف منهم ويأتوه في أوقات غير محددة ويهددون كيانه " أقصد على المستوى المتخيل، لكنه يخاف ويرتعب من تهديدهم له"، ويرتجف منهم هلعًا.. هل كل ذلك من أجل أن لا يعرف الحقيقة، وهو يعرفها تماما، يعرفها حقًا، ولكنه لا يريد أن يعرفها، ويمكننا أن نقول أن الحقيقة في النفس، في الإنسان، يعرفها ولا يريد أن يدركها، وقول سيجموند فرويد بأن اللاشعور " اللاوعي" ليس له وجود واقعي بالمعنى العلمي، وما هو إلا مجرد قول نتخلص به من مأزق حرج، أعرضنا عنه نهز أكتافنا وأغضينا عن هذا الاعتراض غير المفهوم : أيصح في الأذهان أن يتمخض شيء غير واقعي عن شيء واقعي ملموس كالفعل الحوازي "الوساوس" "محاضرات تمهيدية ص308" وما زلنا في صدد البحث عن الحقيقة في النفس وندور في فلكها داخل النفس البشرية فهي في اللاشعور "اللاوعي". يؤكد لنا فرويد أيضًا أن معنى العرض لا يكون على الدوام لاشعوريًا "لا واعيًا" فحسب، بل إن بين اللاشعور وبين إمكان وجود العرض صلة استبدال أيضًا، ويضيف "فرويد" فالعرض العصابي إذن نتيجة لعمليات نفسية قاطعها، أو تدخل في انسيابها سبب بكيفية ما، فقضى عليها بذلك أن تبقى لاشعورية" لاواعية" ص310. ويعرض لنا " جاك لاكان" جملة تحدثت بها المريضة التي كانت تخوض عملية التحليل يستدل بها داموريت وبيشون – في كتابه عن النحو قول المريضة " لقد أصبحت أتطابق مع نفسي أكثر" قالت السيدة، وذلك من دون شك لأنها أصبحت راضية لما تحقق من تقدم في علاجها، وتضيف السيدة وتقول : " في السابق كنت نفسًا مناقضة لأناي بحيث كنت أعتقد.." الذهانات، ص 306. ونعود لكلامنا عن الحقيقة في النفس فإذا أدركها الإنسان وعرفها حل اللغز، وربما شفى ولو مؤقتًا، وقول العلامة مصطفى زيور إذا عرفت أستطعت. وقول فرويد معرفةُ بمعرفة.. تفضي إلى الشفاء. وقولنا في الأخير أن الاستمرار في الجهل عن معرفة الحقيقة في النفس يظل شقاء النفس مستمر.

***

د. اسعد الامارة

مع بداية كل حرب تخوضها الدول الكبيرة، اقتصادياً وعسكرياً، يجري الحديث عن نهاية التأريخ أو أن تكون، تلك الحرب، الرصاصة الأخيرة في جيب التاريخ التي ستوقف عجلته، أي عجلة الحياة التي يسجل حركتها وأوجه تطورها التاريخ.

نظرة سريعة واقعية لمسيرة الحياة على هذا الكوكب المظلوم (بنا وبتاريخنا)، ومسيرة تطورها من عصور الكهوف والحياة البدائية، تخبرنا أن لا الحياة ولا مسيرة التأريخ قد بدأت بأمر جميل، من مثل اكتشاف العجلة أو البنسلين أو علم الجراحة، بل تخبرنا أن ما نطلق عليه التاريخ، كفاعل حركي، سياسي وتطوري، رسم مصير البشرية وأوجه تطورها المدني والحضاري، إنما قد بدأ بحرب، ولدت حروباً، تتابعت، وعلى ما يبدو فإنها لا تريد أن تتوقف إلا بتوقف الانسان (عن الحياة) أو نهايته بصورة نهائية، وبالتالي نهاية تاريخه.

يفترض، ومن الناحية الحضارية والمعرفية/ الثقافية، أن الحربين الكونيتين، واللتين جرتا على أرض القارة الأكثر تحضراً وتطوراً، معرفياً وعلمياً، أن لا تحدثا أبداً، ولكنهما حدثتا، وحدثت الحرب الكونية بالذات بعد اكتشاف البنسلين وغيره من المنجزات العلمية الكثيرة.

هل أعدد للقارئ عدد الحروب التي قامت بها دول العالم المتقدم بالذات، التي تلت نهاية الحرب الكونية الثانية، وصولاً إلى يومنا هذا من نهاية الربع الأول من الألفية الثالثة، والتي بدأت آخرها بحرب روسيا الاتحادية على جمهورية أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شهر فبراير من عام 2022، أي والبشرية في قمة تطورها الحضاري والمعرفي والعلمي والتكنولوجي والثقافي؟

ما الدوافع لشن الولايات المتحدة الأمريكية لحربين لاحتلال بلدين (أفغانستان والعراق) في مطلع الألفية الثالثة؟ هل كانت كلا الحربين كحتمية لمسيرة التاريخ ومتطلبات سيرورته، أم كانتا حربين لتناحر ومتطلبات صيرورة بين ايديولوجيتين، تحاول كل منهما إزاحة الأخرى وفرض فكرها ومسيرتها، كونه الأصح والأكثر تطوراً وتحضراً، وبالتالي كونها الأحق في قيادة عجلة التاريخ وحتمية مسيرته؟

الحقيقة لا هذا ولا ذاك، رغم أن الكثير من التنظيرات التي أنتجتها دوائر ومراكز دراسات وبحوث الولايات المتحدة، قد سعت لصبغ أحداث 11 سبتمبر من عام 2001 بصبغة أيديولوجية، ببساطة وفي حساب منطق التاريخ ومتطلباته وشروطه، لأن تلك الهجمات لم تصدر عن تخطيط دولة لها دور يكافئ الفعل التاريخي (السياسي) للولايات المتحدة، بل صدرت عن مجموعة هامشية لا قيمة لها، لا في ميزان حركة التاريخ ولا أمام التطور العلمي والتكنلوجي والحضاري الذي تتوفر عليه الولايات المتحدة، بل ولا مجال للمقارنة الأيديولوجية وهيمنتهما فيما بينهما وفي أثرها التاريخي؛ وعليه يمكننا أن نقول أن سبب احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق لم يزد في حجمه (في الحساب السياسي والايديولوجي) على سبب اندلاع الحرب الكونية الأولى، وهو، في وزنه التاريخي، اغتيال ولي عهد النمسا.

هل كان من الضروري لمسيرة التاريخ وحتمية تطوره أن تدمر قارة أوربا نفسها وتخسر أكثر من عشرة ملايين من رجالها من أجل ولي عهد النمسا، علماً أن النمسا تخلت عن كل النظام الملكي وعرش ذلك الولي فيما بعد؟ بقيت وتطورت النمسا، على مختلف الصعد، بعد اغتيال ولي عهدها، وبطريقة ربما لم تكن لتتاح لها تحت حكم ولي عهدها، فيما لو بقي على قيد الحياة وحكمها بنفسه.

حرب يجب أن تكون أيديولوجية:

الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو بشع بكل المقاييس والصور، لم يفسره الغرب الاوربي – الأمريكي إلا في الإطار الأيديولوجي: دولة شرقية (رغم أن جمهورية روسيا الاتحادية تغطي كامل القارة الأوربية من الأعلى) متخلفة حضارياً وثقافياً وايديولوجياً، تغزو المدنية والتحضر والانفتاح الليبرالي واقتصاد السوق الغربي. فروسيا، وبعد ثلاثة عقود من انهيار الحكم الشيوعي، مازالت في عيون الغرب دولة شيوعية مغلقة على ايديولوجيتها المعادية لليبرالية والانفتاح والديمقراطية وحقوق الانسان الغربية. روسيا ورغم تمدد مساحتها على كامل مساحة قارة أوربا من الأعلى، فالغرب لا يعتبرها أوربية، وروسيا (وهذا أحد جوانب التمييز الأيديولوجي الذي لا يرفع الغرب صوته في ترديده لكنه معروف ومفهوم ضمناً) ورغم أنها مسيحية، فهي ليست مسيحية الرؤية الغربية المتسامحة والمتمدنة والعصرية والمتحضرة، لأن مسيحية روسيا أرثوذوكسية متشددة ولها كنيستها المتمردة والمعادية للكنيسة الكاثوليكية، كنيسة الغرب الأوربي والأمريكي.

فلاديمير بوتين دكتاتور شيوعي، وعليه فكل ما يصدر عنه هو متخلف ومعادي ويسعى لهدم المدنية والرفاه والحرية والديمقراطية الغربية، فكيف إذا ما شن حرباً عدوانية على أحد أطراف جنة الوداعة والسلم الأوربية؟ فبالتأكيد هي حرب حقد وضغائن تاريخية – أيديولوجية تستهدف العقيدة الليبرالية واقتصاد السوق ونظام الحكم الديمقراطي، في أول ما تستهدف في الغرب الذي يعاديه.

بتفكك الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد المنظومة الشيوعية، وكان انفراطاً ونبذاً ايديولوجياً بالدرجة الأولى، كان من المفترض أن تتجاوز المنظومة الغربية نظرتها القديمة لروسيا كند وغازي أيديولوجي، وخاصة أن الدولة الروسية وغالبية الشعب الروسي قد تخلت ونبذت الأيديولوجيا الشيوعية وتحولت إلى نموذج ليبرالي (مُعَدل) عن الليبرالية الغربية، لكن هذا لم يحصل وأصر الغرب على التعامل مع روسيا، شعباً ومنظومة سلطة، على إنهم شيوعيون بالفطرة أو أن الشيوعية هي بمثابة بلازما الدم للإنسان الروسي. لماذا؟ عندما ننظر لهذا الأمر من وجهة تحليلية، في إعادة الأمر إلى عناصره الأولية، نجد أن كارل ماركس، صاحب الفكر والأيديولوجية الشيوعية كان ألمانيا استورد رؤيته وايديولوجيته لينين ورفاقه، في قيادة الثورة الشيوعية التي حكمت روسيا – شيوعياً – من عام 1917 فقط، نخلص إلى أن نظرة التوجس وعدم الاطمئنان الغربية من روسيا إنما مردها ديني – مذهبي هو العقيدة الارثوذوكسية الأصولية التي تمثلها الكنيسة الشرقية الروسية والتي يتبعها غالبية الشعب الروسي طبعاً.

إذن ووفق هذه الرؤية، لا يمكن أن ترى المنظومة الغربية في الهجوم الروسي على أوكرانيا إلا من خلال مرجعيته الأيديولوجية – الدينية، قبل النظر إليه وحسابه عبر الحسابات السياسية والاستراتيجية العسكرية والأمنية.

نهاية التاريخ خارج رؤية فوكوياما:

ليس فوكاوياما وحده الذي عد انهيار المنظومة الشيوعية انتصاراً للولايات المتحدة وللايديولوجيا الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، بل هذه كانت رؤية جميع رجال السياسية ومراكز الدراسات والبحوث والتحليل الأمريكية. وانتصرت الولايات المتحدة لتتحول إلى قطب أوحد يتحكم في مصير العالم، ولكنها بدل أن تتحول إلى إشاعة السلام واحلال الديمقراطية في العالم، كما افترض فوكوياما، فإنها استغلت أول حدث عدواني عابر تعرضت له، (اعتداء 11 سبتمبر 2001 ) لتخوض واحدة من أبشع حروبها الأيديولوجية – الدينية ضد الشعب الافغاني، ولتلحقها بحرب صليبية (كما دعاها رئيسها حينها، جورج دبليو بوش) ضد العراق. وكلا الحربين الوحشيتين لم تثمرا لا سلاماً ولا ديمقراطية، بل تفليش بلدين وإخراج لشعبين من مسيرة التاريخ الحضاري للبشرية وإعادتهما إلى عصر ما قبل الحضارة.

إذن حصيلة العالم من ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية ومعسكرها هي تفرد الولايات المتحدة في قرار ومصير العالم والمزيد من حروبها الأيديولوجية – الدينية المجانية، وليس نشر الديمقراطية والسلام والعدالة وحقوق الانسان، كما روجت تنظيرات تلك الفترة وتنظيرات فوكوياما وما تلاها. والخسارة الأكبر للعالم تمثلت في الجانب العدائي للولايات المتحدة، الذي توفرت لها ممارسته بسبب غياب القطب الرادع لها في السياسة الدولية، والذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، كقوة سياسية – عسكرية وليس كقوة أو عدو أيديولوجي.

إذن نهاية التاريخ أو العيش في مرحلة ما بعد التاريخ، التي تلت مرحلة انهيار القطب الشرقي (الاتحاد السوفياتي)، بكل امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الانسان والديمقراطية، لم تعشها سوى المنظومة الغربية، أما باقي العالم، وخاصة دول العالم الثالث، فعاش في ظل الحروب العسكرية والاقتصادية والتدخلات واملاءات المواقف السياسية.

هنا، في مرحلة تفرد الولايات المتحدة في صناعة مصير العالم، كان التاريخ بالفعل قد انتهى أو توقف، لأن أغلب أنظمة دول العالم (دول العالم الثالث على وجه الخصوص) كانت قد تحولت إلى توابع للرؤية الأيديولوجية والسياسية الأمريكية وتوقفت عن انتاج (الأيديولوجيات) والرؤى السياسية المستقلة التي تناسب ثقافات ومصالح شعوبها، الفكرية والثقافية والسياسية، وأصبح أغلبها رهينة للإملاءات الإعلامية والسياسية التي ينتجها صانع القرار الأمريكي، بسبب خوف زعماء هذه الدول من الإزاحة عن كراسي السلطة.

لقد انصب جهد دول الغرب، خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، على أن لا يصل حاكم في العالم إلى السلطة وتكون له رؤية فكرية وسياسية غير الرؤية الأمريكية، الرأسمالية كنظام اقتصادي، والليبرالية الديمقراطية، كنظام أيديولوجي – سياسي، رغم أن تجربتيّ الولايات المتحدة في فرض هذه الرؤية على أفغانستان والعراق، وبقوة السلاح (وعلى فرض صدق النوايا)، قد باءت بالفشل الذريع، ولم تكن حصيلتها الواقعية غير خسارة هذين البلدين وخروجهما من عجلة التاريخ وعلى كافة الصعد.

وإذا ما أضفنا إلى هذه الحصيلة المأساوية، نهج إدارة الولايات المتحدة الحالية في صناعة عدم الاستقرار أو تأسيس بؤر الصراع في المواقع الاستراتيجية من خارطة العالم، كما هو حاصل الآن في منطقة حوض الخليج العربي (بتمكين إيران من القبض والتحكم باستقرار هذا الجزء الحيوي من الجيوبولتك العالمي عن طريق توقيع الاتفاق النووي معها) نخلص إلى الصورة المأساوية التي أفرزتها عملية انهيار المعسكر الشرقي الذي كان يمثل دور المعادل والرادع لطغيان المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن حصيلة انهيار الاتحاد السوفيتي، كقوة ردع سياسي، لم تكن نتيجتها الأمريكية، كما رسمت تنظيرات فوكوياما أو هنغتون، بل انحصرت نتائجها بالصلف وتغول القوة الأمريكي والمزيد من حروبها المجانية، وقبل هذا تعطيل دور دول العالم (الثالث على وجه الخصوص) في انتاج رؤاها الايديولوجية والسياسية، بل وحتى الفكرية والثقافية المستقلة، وخاصة على صعيد صناعة القرار السياسي المستقل، وهذا ما تنبهت له دول الخليج العربية مؤخراً، وهي الدول الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، منذ خمسينيات القرن الماضي، بتجاهل الولايات المتحدة لمصالحها الأمنية والسياسية، في مسيرة عقدها للاتفاق النووي مع إيران، من دون أخذ تهديدات ايران السياسية والأيديولوجية والأمنية لهذه الدول بعين الاعتبار، بل وإمعانها في تجاهل مطالبات هذه الدول بأخذ تهديدات الأسلحة، غير النووية المتطورة، التي توفرت لإيران وميلشياتها الطائفية المسلحة، والتي صارت تطوق دول الخليج من أغلب جهاتها، بعين الاعتبار.

إطلاقة الحرب ما قبل الأخيرة:

الحروب التدميرية المجانية والتدخلات في شؤون الدول، وإملاءات المواقف السياسية على الحكومات، وتسويق الأيديولوجيا الأمريكية وفرضها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، هذه هي كانت حصيلة تفرد الولايات المتحدة بالعالم، كقطب أوحد، والأهم قبل كل هذا هو التصرف من موقع أن مصالح الولايات المتحدة قبل كل شيء، هذا ما تنبهت له بعض الدول مؤخراً، وخاصة الدول التي نكثت الولايات المتحدة بعهودها معها، كالمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية، بل وحتى أوكرانيا ذاتها، والتي اكتشفت مؤخراً جداً أن الولايات المتحدة ليست عند مستوى وعودها، بل ولا تحترم تعهداتها لحلفائها، بل ويمكنها التطويح بهم من باب التكبر عليهم والاستصغار لهم فقط، لأنها تثق ثقة عمياء بأنها قادرة على أن تفرض عليهم ما يحقق مصالحها ويصونها متى ما أرادت. وهذا ما دفع هذه الدول لرفع أصوات احتجاجها، بل ورفضها مؤخراً، لهذا التغطرس والعنجهية غير المبررين، وبالتالي ما دفعها للبحث عن حلفاء استراتيجيين بديلين، في إسرائيل والصين وروسيا، التي تحاول استعادة موقعها كقطب مساوي للولايات المتحدة، عبر حربها الأخيرة في أوكرانيا، التي اختارتها أو هيأتها الظروف السياسية الدولية لتكون موقع أو حاضنة لحربها مع الغرب وقيادته الأمريكية.

وفي التحليل السياسي، على الأقل، تبدو عملية حرب القيصر الروسي على أوكرانيا بمثابة الإطلاقة ما قبل الأخيرة في جيب الاستحقاق السياسي الدولي/التاريخي، أمام تغول وتنمر الولايات المتحدة وتفردها في رسم سياسة وصورة العالم الأيديولوجية، رغم أن هذا لا يسقط عن هذه الحرب عدوانيتها ووحشيتها وقسوة نتائجها الكارثية على الشعب الأوكراني طبعاً.

وفي سياق هذه السطور والمعيار التاريخي الذي تصدت للكشف عنه، يعد تهديد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالسلاح النووي بمثابة التهديد الدرس، ومفاده لقد وعينا درس وأهداف تفردك، أيها العالم الغربي، في رسم النهج الأيديولوجي والسياسي والأمني للعالم، وآن للوضع الدولي أن يعود إلى نصابه، بعودة روسيا كقطب دولي موازٍ في القوة وفي تصحيح مسار التاريخ، وبغض النظر عما يخفي القيصر الروسي من توجه أيديولوجي وتصور استراتيجي وسياسي لمصير العالم، الذي لم تكن هيمنة الرؤية الرأسمالية عليه، طوال العقود الماضية، بأحسن من حاله خلال سنوات وجود الاتحاد السوفيتي، كقطب دولي لا يمكن تجاوزه، وسنوات الحرب الباردة التي مثلت عامل الكبح للتغول الأمريكي، الذي كانت تنبه له وتتصدى له المنظومة الشيوعية، وبغض النظر عن أهدافها الأيديولوجية في تلك المرحلة من التاريخ.

ومما لا شك فيه فإن الحركة الروسية الأخيرة، في المعيار الاستراتيجي – السياسي، تلاقي قبولاً من قبل الكثير من دول العالم، كعملية تصحيحية لمسار التاريخ السياسي والأمني الدولي، رغم أن ثمنه حرباً وحشية يدفع ثمنها الشعب الأوكراني. ولكن وفي الحساب التطوري لعمر البشرية، متى مر ذلك العصر أو الحقبة الذهبية التي لم تكن فيها حرباً وحروب، وبمختلف الأهداف والنوايا؟ وتحت سقف نفس هذا الحساب، فإن فروض العملية التاريخية الإنسانية تدلل على إن الحروب، بكافة أهدافها وأغراضها وتوجهاتها، لن تتوقف، وليس بيننا من يستطيع أن يجزم في جيب من تستقر اطلاقة التاريخ الأخيرة ولأي هدف سيطلقها، أيديولوجي أم سياسي أم أمني أم اقتصادي؟ 

***

دكتور سامي البدري

هنالك إشكاليات حقيقية في المجتمع بصورة عامة والإسلامي بصورة خاصة. منها الخلط بين الحرية والفوضى فهي أعظم مآسي عصرنا، والحل في الخلاص من هذه الإشكالية هو الارتقاء بالعلوم الانسانية* من خلال تنشيط العقل بالفكر، وتوسيع الذكاء الاجتماعي، والنمط الثقافي، حيث "لا شيء يتأبد في الحياة الاجتماعية، ليمنع العقل من بناء المعرفة الجديدة؛ إذ شحذ العقل باستخدامه الحر العام – بوصفه أداة الانتصار الإنساني- يشكل إدراكًا معرفيًا عماده القراءة، يحرر المجتمع من عطالته، ويفتح نوافذ التأمل التي تدفع المجتمع إلى رؤية أشد تحولًا، وتؤسس لتفعيل إرادته وتحرير مصيره (1)".

أولا: القيادة والعلوم المتعددة في وقتنا الحاضر.

من أبرز ما تعانيه القيادات السياسية والدينية في البلد، على اختلاف مسمياتها، هو فقدان الدراية الكافية بل غيابها عن العلوم الانسانية المتنوعة كالتاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري والنفسي للمجتمعات المختلفة، ومعرفتها بفنون الإدارة العامة والاقتصاد، وأصول القانون، وهذا ما ينعكس على قدرتها على استيعاب المفارقات التي تعيشها مجتمعاتها. فتكون في مورد التحديات الكبيرة، والتساؤلات الحرجة شهوانية غرائزية. بعبارة أخرى: تكون اجاباتها ومواقفها حسب الحالة النفسية التي تمر بها، فالحدة والتعنت في مواطن الغضب، والتراخي والانكفاء في مواطن السكون والبرود العصبي. كل ذلك لأن هذه القيادات غير خبيرة بعلوم متعددة ترفدها بالمعطيات الصحيحة في اتخاذ القرار. وعليه، ان الحل هو اتسام القيادات الدينية والسياسية بتنوع مشارب العلوم والآداب والفنون لتوسعة الفكر. وعدم الاقتصار على علم واحد. فإن ذلك يضيق زاوية الرؤية.

ثانياً : "أمة تسير إلى الأمام وراسها للخلف"

عندما ننظر في السلوك المجتمعي ندرك أنه مرتبط بالتاريخ السياسي الإسلامي. وهذا التاريخ مشدود بثلاث أنواع من الأفكار، فهناك الفكر القاتل، وهناك الفكر الميت، وهناك الفكر النشط. والغريب أن روافد السلوك المجتمعي يُغذى بالفكر القاتل والميت على طول الخط، فاغلب المنابر الدينية والإعلامية وحتى الجامعية تعكس هذه الحقيقية بخطابها، فبين التشجيع على الاحتراب الطائفي وبين الحقن الفكري الميت تترنح الأمة لنجد المجتمع يدور في حلقة التشدد والخرافة. ومن أبرز الحلول المناسبة التي أشار بعض العلماء على تشخيصها هو تفكيك التاريخ الإسلامي الذي احتضن العقائد والتشريع الديني الذي يرسم محددات العقل المعرفية الإسلامي، لعزل الأفكار القاتلة والميتة واستحضار النشطة فقط.

***

سُميَّة إبراهيم الجنابيِّ

دكتوراه علوم قرآن، جامعة بابل

.......................

* بوصفها الحلقة الأهم التي تؤثر على استمرارية المجتمع وتطوره واستقراره.

( 1) محمد عثمان الخشت، نحو تأسيس عصر ديني جديد، القاهرة: الهيئة المصرية ااكتاب،2019، طبعة خاصة تصدرها نيو بوك ضمن مشروع مكتبة الاسرة، 5.

(إنّا نحنُ نَزلنا الذكر وإنّا لهُ لحافظونَ)

(لايغرنكَ تقلب الذين كفروا في البلادِ.متاعٌ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).. ال عمران 196

إزدراء الاديان أو التجديف هو إساءة أو استخفاف يصدره شخص أو هيئة ما بشأن معتقدات وأفكار ديانة ما.

و مفهوم التجديف في مختلف الاوساط الدينية والفكرية والحقوقية العالمية، يقصد به الحد من السلوكيات التي تنال من الاديان بصورة خاصة أو عامة الهدف منها الاتي:

- تعمد الاساءة الى دين محدد أو مذهب أو طائفة.

- الاساءة الى الذات الالهية أو الانبياء والرسل أو الكتب السماوية أو الكل مجتمعة لاشاعة الافكار السلبية النمطية المسيئة.

- تبني مواقف متعصبة أو تميزية الهدف منها اثاة النعرات الطائفية وازدراء الاديان لزرع الفرقة والكراهية والعنصرية واثارة الفتن لازهاق المبادئ وتمزيق المعتقدات.

والحقيقة ان سن قوانين منع ازدراء الاديان الهدف منه (حماية المقدسات الدينية) وتحديد او تطويق مشاعر الكراهية للاديان لان انتشارها يهدد التعايش السلمي بين المجتمعات والامم ويدق ناقوس الخطر الى الاخلال بالسلم المجتمعي و الدولي ويشكل مساسا خطيرا بالكرامة الانسانية التي تتبنى دينا محددا ومعتقدا خاصا واختراق الخصوصية العقائدية للانسان.

ومن الجدير بالذكر ان سن قانون التجديف جاء بعد سلسلة انتهاكات وخروقات اساءت بصورة مباشرة للاديان والكتب السماوية والانبياء والرسل من خلال حرق الكتب السماوية والاساءة الى الذات الالهية والرسل والانبياء والرموز الدينية بقصد اثارة الفتنة.

وقد ظهرت بالاونة الاخيرة خروقات وتجاوزات على الدين الاسلامي من خلال الرسوم المسيئة للرسول وانتهاك حرمة الدين من خلال الاساءة للذات الالهية وتمزيق وحرق كتاب الله بمحاولة للاساءة وتشويه صورة الاسلام واثارة الفتنة وتعزيز النمطية العنصرية بالتعامل التي تبنى عليها اعتبارات كثيرة منها :

- عدم احترام مشاعر المسلمين والذين يشكلون نسبة كبيرة في ارجاء المعمورة.

- انتهاك الخصوصية الفكرية والعقائدية من اجل زرع الفتنة وازدراء الخصوصية الدينية ومايترتب على ذلك من انتهاكات.

لقد دعانا الله في كتابه العزيز الى احترام الاديان والكتب السماوية والرسل والانبياء وعدم الاساءة لاحد (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه كل آمن بكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربي واليك المصير)285 البقرة

هذه الروحية لاحترام الاخر التي جاءت لتعزيز الاخاء بين ابناء الامم والشعوب والتي تدعوا الى التعايش السلمي الذي يبنى على تقبل الاخر ومؤاخاته، وقد كفل الله لعباده حرية الدين (لا إكراه في الدين) ولم يدعوا الى التعصب الاعمى واثارة الاحقاد التي تمزق الامم وتجعل الضغينة الهدف الاسمى لبث روح التعصب والعنصرية.

ان المسلمين في كل أرجاء المعمورة يجمعهم كتاب واحد قائم على احترام الخصوصية الدينية لكل امة من الامم والايمان بجميع الكتب المنزلة على الرسل والانبياء وتكاد لاتخلو سورة من القرآن من ذكرالانبياء والرسل وتذكيرنا للايمان بهم كشرط اساس للايمان بالله .

فهل نتبادل هذه القيم السماوية الرفيعة أم نتجاهلها لتعم الفوضى والبغضاء وتنتشر الحروب والانتهاكات وتعاني الشعوب بسبب استهتار نفر ضال يدعوا الى الفناء!

إن مبدأ التعايش السلمي الذي يدعوا اليه جميع مسلمي العالم واضح المعالم وهو احد شروط الايمان بالله جل وعلا، و التعايش بين مختلف الشعوب والاعراق والجماعات الدينية والعشائر والقبائل وطيف كبير من الهويات هو التحدي الكبير للقرن، فقد دعانا الاسلام الى ان نتشارك الطعام ونتبادل الزيارات ونبارك الاعياد ونحسن الى جيراننا حتى نعيش بسلام . (قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وماإنزل الى إبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وماأوتي موسى وعيسى وماأوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة

ان اللجنة الاوربية لمناهضة للعنصرية والتعصب تدين بشدة التحريض على العنف او الكراهية او التمييز ضد الافراد والجماعات، ومجلس حقوق الانسان يدعوالى اهمية احترام وتفهم التنوع الديني والثقافي واعرب عن قلقه ازاء النظرة النمطية السلبية الى جميع الاديان وازاء مظاهر التعصب والتميز ضدها وحث على اتخاذ اجراءات تمنع نشر افكار ومواد تنطوي على عنصرية وعلى كره اي دين من الاديان مما يشكل تحريضا على العنصرية والكراهية الدينية والعداوة والعنف والارهاب الفكري والديني.

ان ماحدث في اول ايام عيد الاضحى من استهتار سافر لمشاعر المسلمين في جميع ارجاء المعمورة وهم يؤدون الشعائر الخاصة بالعيد حينما أقبل احد كاملي النقص ممن بصق في الاناء الذي اطعمه والبئر الذي ارتوى منه والحضن الذي آواه وخرق كل قوانين الانسان باعتباره مسخ أراد ان يلفت الانظار الى الكم الهائل من الحقد والضغينة واللوثة الفكرية التي دعته الى حرق الكتاب الكريم ناسيا ومتناسيا قوله جل وعلا (انّا نحنُ نزلنا الذكرَ وانّا لهُ لحافظون) فجنة المؤمن في صدره وعقله وجوارحه ومافعله لم يسئ الى الدين والكتاب بل اساء الى انحطاط الفكر وفجور النفس الامارة بالسوء، فهو عندما اقدم على فعله القبيح هذا انما أحرق اوراقا ولم يحرق ذكرا وحرق سمعته وادميته وعائلته التي انحدر منها وان عاش فهو ملعون شأنه شأن اي مرتد عاش حقيرا ومات خالدا في جهنم (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون) البقرة 171

وحقيقة فان إقدام اي ضال على هذه الخطوة الكسيحة للنيل من كرامة المسلمين وايمانهم بالله لن تزعزع الثقة أو تزرع الفرقة لكنها ستزيد من قبح من قام بهذا الفعل الشنيع وهي ليست بالمرة الاولى فقد حدث وان أحرق اليميني المتطرف رامسوس بلودان نسخة من المصحف في ستوكهولم وسط حماية من الشرطة، فهل تحمي الشرطة المسئ وتباركه !!مما أثار حفيظة كل انسان غيور على دينه، لكن كل هذه الاساليب لن تكون سوى ورقة يابسة زفرتها احد اشجار الخريف (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)البقرة28- 29.

***

مريم لطفي

من أين لنا بمعرفة خير ما يصلح للمجتمعات الإنسانية ممّا يفسدها إذا لم نكن على علم باللغة التي جاء بها النفع والصلاح؛ فإذا هي مُوجِّهة الإنسانية قاطبة إلى خير ما ينفع، زاجرة لها ناهية عمّا يضر ويفسد؟ وليس من شك في أن الأمر والنهي الإلهيين إنما هما في الأصل لغة قائمة، مجرد نصوص من كلمات جامدة تتحول مع الممارسة في أجواف القارئين إلى حياة؛ فاللغة هنا رموز وإشارات لا قيمة لها بغير الفاعلية التطبيقية.

وتلك هي بالحقيقة لغة القرآن في بساطتها وخلوّها من التعقيد الخاوي والتكلف الممقوت. ونحن لا نعلم في لغة من اللغات مدى عنايتها بالسلوك والتهذيب وإثراء الجانب الأخلاقي على الجملة فضلاً عن التفصيل كما عنيت لغة القرآن بضوابط الحركة والسلوك : انتقال الفكرة فيها إلى دائرة العمل المشروع؛ فإذا لم يتح للمتلقي أن يعمل بما وَصَل إليه من فكر في هاته الأداة المبينة، أو في اللغة التي عرفها؛ فعرف من أسرارها الشيء الكثير أو القليل على قدر استعداده؛ إذا لم يتح له في ميدان العمل أن يعمل بما عرف من فكر مؤدَّى بلغة مُبينة، كان ما عَرَفَه أنقص ممّا جهله على المستوى التطبيقي؛ لأن السلوك هنا هو بمثابة اكتمال دائرة لا تكتمل الحركة إلا به؛ فحركةُ في الذهن يصحبها عمل، وعملُ نتاج حركة ذهنية، وكلما أحكم وضبط، أحكمت مراحل التوجيه وضبطت لكي تؤدي الغرض الساري منها قصداً؛ فدائرة الأخلاق ناقصة إنْ لم تكن اللغة فيها فكرة عملية قابلة للممارسة التطبيقية، وكل كمال على هذا النحو ناقص ما لم يكن الفكر فيه لغة مُوحية بالعمل مُوجبة لإرادة التنفيذ .

فما كنَّا لنستطيع أن نعرف مجمل الخصائص العقائديّة والأخلاقية، ولا سائر العبادات والآداب الإسلامية، ونحن بمعزل عن لغة القرآن. وما كنا لندرك شيئاً عن هذه اللغة، ونحن بمعزل أيضاً عن العمل بفكرتها التأسيسية، تؤديها على أكمل ما تكون تأدية الأفكار وتوصيلها إلى المؤيدين والمنكرين سواء .

ولو لم تكن اللغة في أدائها موصّلاً جيداً لما فيها من أفكار ومعان وإيحاءات وتعاليم (أغراض كما في خصائص ابن جني حيث حدّ اللغة فقال إنها : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (الجزء الأول من تحقيق محمد على النجار ص 33) ما كان يقرّها منكر قبل مؤيد، وما صارت قط موضع لغط كبير أو ضئيل من قبيل نفر يجيدون اللغط حتى على الثوابت الرواسخ، ولا ينفرون من إجادة اللغظ؛ فيريدون أن يجعلوه قاعدة التجديد المبتكر والتحديث من بعد التحديث من بعد التحديث إلى غير انتهاء في مثل هذه “التحديثية” الغريبة والمنفّرة، بدعوى مسايرة العصر وحداثته الفجة الكسحاء، وهو عصر كم اللغط المنفر والدردشة الفارغة فيه، أعمُّ وأشمل من كم الصدق والعمل النافع والاستقامة الخالصة.

وليس أغرب من أن تجئ هذه الدعوات على ألسنة وأقلام لأناس يمتلكون في الغالب الإحساس باللغة، ورهافة الذوق، والقدرة على التعبير، والتوظيف بكلمات ذات مساقات أصيلة، ومع ذلك يريدون أن يتقدّموا ولشعوبهم أن تكون مستنفرة تجاه اللغة على حساب التأخر والخسارة، وأن يرتفعوا على فريضة الإهمال، غاية ما هنالك أنهم يضربون اتجاه فكري باتجاه آخر حتى إذا ما أهملوا هذا أخذوا بذاك، وفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، فإذا الإنسان معه يسير كما الأكتع بغير استقامة، إذ لم يكن عقلاً كله ولا علماً كله؛ بل له من العلم والعقل جوانب تمتلئ بها مناطق ولا تزال فيه مناطق لا يملأها العلم التجريبي ولا العقل المحدود، جوانب أخرى وجودية تحتاج إلى امتلاء. وما كان التقدّم ومسايرة العصر أبداً ضرباً من خسارة القيم الروحيّة التي شكلت حضارات وقوّمت أمثلة نادرة في التاريخ الثقافي الإسلامي وغير الإسلامي على حدٍ سواء.

وما كان الارتفاع قط مطلوباً من جرّاء فريضة الإهمال لمقوم الهُويّة النشطة والفعال في حياة الفرد أو في حياة المجموع، أعني هُوية العقيدة واللغة والأخلاق.

وعندي أن أخصّ ما يكون مكنون فيها هو اللغة المُعبرة عن وجود الإنسان الحق، الإنسان الإنسان لا الإنسان الحيوان، ولو شئت لقلت الإنسان الكامل. هذه اللغة، ولا ريب، أسهل مأخذاً وأبلغ قناة إنْ في ألفاظها وإنْ في معانيها أو في مساقاتها من كثير من اللغات العصرية تلك التي لا تعرف لها مؤدّى ولا مرفأ أميناً ترسو عليه. 

نعم! هي لغة، ولكنها تجري على ألسنة المحجوبين، وتعوج بهم بمقدار ما ينسدل عليهم حجاب الغفلة والاعوجاج، هي اللغة المفككة عن الضوابط والأحكام، المنحلة عن القواعد والأصول التي تربطها بالقيم الداخلية وأخلاق الكمال في مطمح كل إنسان شريف.

هذه اللغة ـ من تلك الجهة ـ تمثل عائقاً معرفيّاً كما يمثل الاعتماد فيها على العلم أو العقل هذا العائق الذي يسير فيه المرء بمقتضاه كما لو كان أكتعاً يشعر بالنقص والاعوجاج، لأنه ملأ جانباً في وجوده على حساب جانب آخر، حتى أن الفراغ المتروك يطالبه دائماً بتغذية وجوده فيه، الأمر الذي تحدث معه هزّة باطنة هى المقصودة عندنا بالعوائق المعرفيّة.

وكما تكون اللغة من تلك الجهة مدعاة للعوائق المعرفية، تكون سبباً لإزالتها فيما لو صدق صاحبها في استخدامها، واستعمال أنشتطها في تغذية وجوده الروحي؛ فالتجرد والصفاء من علامات حسن الاستخدام للغة وإزالة العوائق المعرفية، وهما من علامات الترقي المعرفي ومن موجباته كذلك.

فليس علماً على التحقيق ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ ولتلحظ أن أقوال الغير هذه، إنْ هي إلا مجرد لغة؛ لأن أقوال الغير ليست إلا أحوالهم، فالذي يحكي عنها هو لا محالة يصف حال صاحبه وقت أن صدر عنه هذا القول أو ذاك، والأحوال تتبدل ولا تستنسخ كما تستنسخ الآلات آلاف آلاف النسخ المكررة فيما تريد استنساخه؛ فأحوال هذا ليست كأحوال ذاك، وأقوال هذا لا يمكن تبعاً لذلك أن تكون هي نفسها أقوال ذاك. فليس علماً ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ إذْ العلم بداية المعراج المعرفي، ما فوقه أسمى منه وأرقى.

أمّا العلم في ذاته، فليس أسمى منه في الحياة، ولكنه مع ذلك ليس هو كل ما في الحياة، لأن في الحياة ما هو أعلى من العلم وأسمى، إذْ من شرط العلم النافع أن يقود إلى المعرفة، وأن يؤدي إليها بالتحقيق لا بالاستشراف. ومن شرط المعرفة أن تقود إلى شهود الفضل الإلهي ومعاينته كما يُعاين المحسوس.

وليس هناك أفرح للقلب ولا أدعى للرحمة من ذلك الشهود على التحقيق :” قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون” (يونس: ٥٨). وعليه؛ يصبح العلم الذي لا يؤدي بدوره إلى مثل هذا الشهود، شهود الفضل الإلهي، ليس بنافع ولا هو أهل لأن ترقى معه حياة صاحبه إلى منازل المحققين. إنه ليمثل عائقاً معرفيّاً في ذاته، كما تمثل اللغة فيه نوعاً من التحجير والتضييق؛ لتصبح هي الأخرى نفسها عائقاً معرفياً يؤخر ولا يقدّم، يحصر المرء في منطقة محدودة بحدود الأفق الذي يتحرك فيه العلم المحدود والعقل المحدود .

وفي المقابل؛ لاحظ اللغة في الآية الكريمة، ولاحظ المعراج الدلالي فيها، فإنّ فضل الله مدعاة للفرح، وأن فضل الله هذا مقرون بالرحمة، وهما معاً أفرح ما يُفرح قلب السائر مع الشهود، فليس من فرح أسمى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وبرحمته. فاللغة هنا معراج، تجربة، والمعراج باللغة ليس لفظاً يكرر، ولكنه حقيقة واقعة وحياة تعاش مع أن اللغة في عين هذا الشهود لا أثر لها على الإطلاق.

اللغة هنا في هذه الحالة العليا ليست عائقاً معرفيّاً؛ بل نقلة إلى ما بعد العلم والمعرفة، إلى الحقيقة مباشرة. أجواء الآية بفضل رهافة الإحساس باللغة فيها، تقضى بمثل هذا العروج إلى منازل الشهود حيث لا لغة هنالك ولا واصف ولا موصوف.

***

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في الحديث عن السلطة في العالم العربي والإسلامي تواجهنا إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تلك الإشكالية التي بدأت مع انتقال المجتمع الإسلامي من مرحلة الوحي الى مرحلة الوعي بإنتقال النبي الخاتم الى الحياة الآخرة، تاركاً أمته على مقربة من يوم الغدير الذي إتفق المسلمون عليه كحدث تاريخي بكل ما تضمنه من تفاصيل، واختلفوا فيما بعد على تأويلات تلك المضامين، واخذت هذه الإشكالية تفرض نفسها بإلحاح على الفكر العربي والإسلامي المعاصر في ضوء معطيات الثورة الصناعية الغربية في مراحلها المتقدمة، وما نتج عنها من تقنيات متطورة ارتبطت بشكل مباشر بعصب الحياة اليومية للناس، الأمر الذي أثار في أذهان الأجيال المعاصرة استفهامات كثيرة حول فاعلية علاقة الدين بثنائية السلطة والمجتمع خصوصاً وإننا صرنا مرتبطين بنظام عالمي تتحكم فيه مشاريع الإقتصاد الصناعي بمجالات الحياة السياسية والإقتصادية، واتسعت اكثر في الآونة الأخيرة لتشمل مجالات ثقافية وإجتماعية، ونفذت من خلال واقع الناس وظروفهم الى معتقداتهم وطقوسهم الدينية فظهرت طروحات وافكار تطال بعض الثوابت الصحيحة المتفق عليها في التاريخ بدعوى التجديد وحرية التفكير وحرية التعبير وإعادة قراءة التاريخ ونقد احداثه، يحدث كل ذلك كنتائج لفشل السلطة في مجتمعاتنا في تقديم انموذج يرقى الى مستوى تلك الحضارة الإسلامية التي أسس لها نبي الرحمة في إطار أخلاقي انساني تتحرك فيه روح العقيدة في منظومة المجتمع النابض بحب الحياة التي اخبرهم نبيهم انها " حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون"، لكنهم وبعد اكثر من الف عام على ذلك الربيع الإنساني وجدوا انهم يعيشون إحباطاً واضطراباً متواصلين في علاقتهم بسلطة تقر بالدين منهجاً دستورياً، في الوقت الذي تمكن فيه العلم بعيداً عن الدين في الغرب من إنتاج سلطة مضت بالناس الى التحضر والتقدم ..

يمثل يوم الغدير بما تضمنه من حدث البيعة مرتكز انطلاق المجتمع نحو مرحلة الوعي حين أبلغ النبي الخاتم الناس بقرب إنتهاء مرحلة الوحي في حجة الوداع " اني قد يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون .."  وبدأ إعداد المسلمين لهذه المرحلة الجدية بالإستفهام: "ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ..؟" في وقت كان المسلمون فيه على مقربة من أجواء الروح وهي تطوف حول الكعبة في طقوس الحج بحضور نبي الرحمة، وما ادّته هذه الأجواء من دور مهم في الوصول بالمنظومة الآدمية للفرد المسلم الى حالة من التوازن والطمأنينة فجاء جوابهم " بلى" إيذاناً بإستعدادهم للإنتقال الى مرحلة ما بعد إنقطاع الوحي إنتقالاً ضرورياً يمليه عليهم وعيهم بمصيرهم ..

يعنى علم الانثروبولوجيا (علم الانسان) بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية ويشتمل على علم الإنسان الثقافي المعني بدراسة ثقافة المجتمعات وتنوعها وإختلافها على وفق التجارب التي يمر بها كل مجتمع في مكانه وظروفه المحيطة ويراه أمراً طبيعياً لا يدعو الى التفريق بناء على وحدة الفكر الإنساني .. وعلم الإنسان الإجتماعي المعني بدراسة القضايا الإجتماعية التي تعترض مسار الحياة اليومية للفرد وللأسرة وللمجتمع والوقوف عندها من أجل الوصول الى حلول تضمن سلامة النسيج الإجتماعي وتحفظ بناءه وتحمي بنيته التحتية من أي أضرار تلحقها به الظروف المرحلية التي يتعرض لها الناس .. وعلم إنسان اللغة المعني بدراسة تأثير اللغة في الفرد والمجتمع .. وعلم الإنسان الحياتي المعني بدراسة منظومة جسم الإنسان وتأثير وضعها الصحي في شخصية الفرد في مجالاتها النفسية والسلوكية والأخلاقية والعقلية.

يدرس علم الإنثروبولوجيا واقع المجتمعات البعيدة، ويدرس علم التاريخ ماضي المجتمعات المعاصرة، لذا نحاول من خلال هذه المحاور أن نقف على ذلك الحدث التاريخي الذي مرّ عليه أكثر من الف عام، وقفة معاصرة يقتضيها واقعنا كأمة مسلمة تحمل شعار " محمد يجمعنا " ونحاول من خلالها أن نعاير صحّة مسار واقعنا اليوم باستحضار أجواء يوم الثامن عشر من ذي الحجة حيث بيعة الغدير، للبحث في التشابهات والإختلافات في الأفكار والميول والإعتقادات من أجل الوقوف على المشترك الإنساني في جميع المراحل التاريخية، يقول الفيلسوف الألماني فالتر كولد "ان الحضارات متعددة مع ان الإنسان واحد"، إن إختلاف الثقافات ضرورة تفرضها ظروف الإدراك وتباين مستويات الوعي والجو العام والبيئة التي تتدخل كثيراً في صياغة تعبير الناس عن مواقفهم وعواطفهم، وبعيداً عن الآراء المتباينة التي مضت بكلمة "أولى" و"مولاه" في فضاءات التحليل النفسي والقلبي والعقلي للمسلمين، قريباً من مفهوم السلطة اليوم على وفق البعد الإجتماعي والإداري والثقافي للخط الرسالي السماوي الذي اختطه بنجاح كبير سيد الخلق وخاتم النبيين وأسس عليه حضارة إنسانية إسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة جديدة من حيث الأدوات المستخدمة التي جاءت مع الثورات الصناعية والعلمية والتكنلوجية والمعلوماتية وبرامج الذكاء الإصطناعي ورأس المال والشركات العابرة للقوميات والنظام العالمي الجديد الذي يراد له أن يسود العالم ويحكمه عبر برامج الكترونية عالية الدقة فائقة السرعة وشبكة إتصالات تربط الناس فيما بينهم بكبسة زر وتفتح أمامهم نوافذ لم يكن ممكناً فتحها من قبل، وهي في الوقت ذاته تهددهم بمشاكل كثيرة ترتبط بمصيرهم ووجودهم في هذه الحياة، فعلى الرغم من وفرة المعلومات هناك فقر ثقافي، وعلى الرغم من سرعة الحصول على المعلومة هناك بطؤ شديد في إدراك الواقع ووعي المصير ..

من اهم المشتركات التي توافر عليها يوم الغدير هو حضور المجتمع الإسلامي حضوراً واعياً لما حدث في ذلك اليوم، وكان النبي الخاتم والإمام علي محوري ذلك الحدث، فبإستخدام لغة الإنسانية نحاول أن نقرأ أحداث يوم الغدير بعيداً عن الذهنية الغالبة على المناخ التفكيري لمساحات كبيرة من مجتمعات تعيش المذهبية والعصبية وتستخدمها في صناعة مواقفها والتعبير عن عواطفها بمعزل عن الموضوعية في كثير من الأحيان، نحاول أن نصنع وعياً ينهض بمجتمعاتنا اليوم الى ما ينبغي أن تكون عليه، لا البقاء على ما هي عليه، والإستفهام من أهم ادوات صناعة الوعي، استخدمه النبي الخاتم في ذلك اليوم والناس يعيشون ثلاثية النفس والقلب والعقل في أجواء الحج الروحية التي ينتج عنها إستقرار يهيء إتصالات هادئة هادفة بين النفس والقلب والعقل ليكون جواب أحدهم حراً بالمعنى الذي يتجاوز فيه حريته الشخصية الى الحرية المسؤولة وطاعته العمياء الى طاعة واعية فكانت كلمة " بلى "

وبصرف النظر عن ملابسات ما حدث من مواقف كثير من المسلمين بعد وفاة النبي الخاتم، فإننا بحاجة الى أن نرجع الى يوم الغدير لننطلق بواقعنا اليوم الى ما نتجاوز به ملابسات الأمس ..

ذكر النبي الخاتم في سياق حديث الغدير ما جاء في سورة الأحزاب الآية 6 " النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم .."، وبعيداً عن أسباب النزول وعن تنوع الآراء بخصوص معنى " أولى " فإن سورة الأحزاب مدنية نزلت حيث أسست دولة الإنسان الجديد على يد النبي الخاتم، يضاف الى ذلك ذكر المسؤولية في قوله صلى الله عليه واله وسلم " اني مسؤول وانكم مسؤولون " في سياق الإستفهام " الستم " الذي يوفر مساحة كافية للحرية كي تتحرك بوعي الإجابة، وهذا ما نحتاجه اليوم حيث يأخذ مفهوم الحرية مديات اكبر في أذهان الناس تصل عند بعضهم الى تعريض وجودهم واستقرارهم الى الخطر، ومع تطور أدوات التقنية الصناعية وشبكات الإتصال ومواقع التواصل الإجتماعي وجد الشباب العربي أنه أمام إستفهامات خطيرة تلح عليه في موضوعة تأثير الدين في الحياة المدنية للمجتمع في ضوء هذا التسارع الملفت للثورات العلمية والتقنية والذكاء الإصطناعي، ووجد ان حريته منقوصة في هكذا جو وهو ما دفع بكثير من الشباب العربي المسلم الى التغريب الثقافي مع إحتفاظ كثير منهم بإنتمائه لبيئته الإجتماعية بمنظوماتها الدينية والإخلاقية والقيم والعادات، لكن المشكلة تبدو اكبر من مجرد تشخيص، انها بحاجة ماسة الى علاج قبل أن يتحول المجتمع الى تجمعات بشرية أو كتل بشرية فاقدة لمعنى البناء الإجتماعي الذي عمل عليه الإسلام المحمدي منذ خطواته الأولى والذي يتوافق مع الصفة الإجتماعية  لطبيعة الشخصية العربية، ولعل مجتمعنا العربي يمرّ اليوم بالمحنة ذاتها التي مرّ بها المجتمع الغربي بعد الثورة الفرنسية والثورة الصناعية مع الفارق بين طبيعتي المجتمعين وإختلاف الدوافع، فقد وجد الإنسان الغربي ان بمقدور العلم معالجة جميع المشكلات التي تواجه الجنس البشري ووجه إنتقاداته للكنيسة حينما بدت له غير قادرة على مواكبة التطور العلمي وتقديم حلول ورؤى تناسب أدوات المجتمع الجديدة خصوصاً ما يتعلق منها بالشباب وتحديداً النساء في مجالات الحرية والمساواة وتحديد النسل لمواجهة النمو المطرد في السكان ومراعاة الوضع المعيشي في ظل التطور الصناعي الذي يستوجب نفقات اكثر مما كانت عليه الحياة قبل ذلك، ومع ان محنة الغرب لم تمر بسهولة فقد أخذت نصف قرن تقريباً حتى إنتقل المجتمع من العاطفة والخيال الى المادة والواقع، يبدو ان مجتمعنا العربي اليوم يواجه ما يشبه أجواء محنة المجتمع الغربي، لا من حيث إنه مجتمع علمي منتج صناعي، ولكن من حيث هو مجتمع إستهلاكي موجود على خط مباشر مع الغرب بحكم مشاريع الإقتصاد الصناعي العابرة للحدود الجغرافية والمتخذة من المصالح لغة تعامل مشتركة ومن المال وسيلة إدامة تلك المصالح، وأسهمت أنظمة الحكم في العالم العربي في دفع الناس بهذا الإتجاه جرّاء إخفاقاتها المتراكمة في إيجاد حلول لمشاكل الناس، لذلك اتسعت الفجوة بين المجتمع والسلطة، ثم بدأ المجتمع يوجه إنتقاداته لواقعه والبحث عن حلول فكان من نتائج تلك الإنتقادات أن ظهرت دعوات لفصل الدين عن الدولة، ودعوات تهميش الدين في حياة المجتمع وإقصاره على الفرد كحرية شخصية يعيشها بينه وبين معبوده ولا يحملها معه خارج البيت حيث توجد قوانين وضعية تحكم العلاقات بين الناس وبين المجتمع والدولة  أسوة بما يحدث في الشارع الأوربي الذي قد لا تفرق فيه أحياناً بين بناية المطعم وبناية المول والكنيسة إلا من خلال عنوان اللافتة، وحيث ان المجتمع الشرقي لا يزال على الرغم من محنه المستمرة يعيش حضور البعد الروحي في تفاصيل حياة الناس، بل لعل اكثر الناس يحرصون على تفعيل تلك الروح وكثيراً ما يبدون إنتقاداتهم لحكوماتهم من خلال هذا الدافع، لأنهم لا يزالون يتصورون في السلطة قدرتها على إدارة جميع شؤون البلاد بما فيها الثقافية والإجتماعية، وهو بإعتقادي خطأ وقع فيه الناس منذ زمن بعيد عندما صوّرت لهم السلطة ان الحاكم هو خليفة الله على الارض وان عليهم طاعته والإمتثال لأوامره التي هي بالنتيجة سبب سعادتهم، وكان على المجتمع أن يدرك إن ذلك لم يعد كما كان على عهد النبي الخاتم بعد أن إختط بعضهم للمجتمع خطاً جديداً لمسار العلاقة بين السلطة والناس، ولعل في قول الإمام علي " لقد علمتم إني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين .."  إشارة واضحة الى الخلل الحاصل في ثنائية العلاقة بين السلطة والمجتمع بعد النبي ..

 إذا اخذنا مفردة الحرية إنموذجاً، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م وقارنا معناها  التطبيقي العملي اليوم بما ورد في قاموس سلطة الإمام علي عنها، سنجد ان في إختيار شخص الإمام يوم الغدير من قبل النبي القائد ومنحه درجة "الولاية" على الفرد والمجتمع بصرف النظر عن الأبعاد التأملية والتأويلية التي اعطيت لهذه المفردة من قبل العلماء والباحثين والنقاد، فإننا سنجد ان وراء " من كنت مولاه فهذا علي مولاه " بعداً ثقافياً لأنسنة الوجود البشري، عابراً للظرف الزمكاني في ذلك الوقت بكل أبعاده الدينية والسياسية والجغرافية والقومية ..

تنص المادة الأولى في الميثاق على " يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء"، بهذا المضمون تتحرّك كثير من الفعاليات والأنشطة الفردية والجماعية حول العالم بصفة خاصة وبصفة مسؤولة .. يشتمل البحث الإنثروبولوجي على مرحلة الوصف ومرحلة التحليل، يتم في الأولى وصف وتدوين الأحداث كما هي، تعقبها مرحلة التأمل في ذلك الوصف من أجل تكوين رؤية واضحة للقضية أو المشكلة موضوع الدراسة، لتقديم الحلول الأنسب التي لا تتقاطع مع طبيعة المجتمع، كان من ضمن الأحداث المهمة التي اثارت عندي فكرة إعادة قراءة مفهوم الحرية الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو التصريح الرسمي للسلطات الفرنسية الذي جاء رداً على تزايد حالات الإحتجاج والغضب في الشارع الإسلامي حول العالم على إثر الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها إحدى الصحف في 2020م، فقد رأت الحكومة الفرنسية ان ما حدث يندرج ضمن حريات التعبير والنشر التي كفلتها المادة التاسعة عشر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"، ثم تلتها تصريحات لمسؤولين في دول كبرى اعتبروا فيها ان لكل شخص الحق في حرية تحديد ميوله الجنسية، وان المثليين أشخاص شجعان لأنهم واجهوا مجتمعاتهم بالإعلان عن رغباتهم الجنسية دون خوف، ودعا بعضهم الى توفير أجواء حرة لأولئك المثليين حول العالم وحمايتهم طالما انهم يمارسون تلك الحريات دون ان يلحقوا ضرراً بغيرهم، هكذا أخذ مفهوم الحرية يتسع دون ضوابط ليكون اقرب الى الرغبة المادية للإنسان منها الى الرغبة الوجودية التكوينية .. بمقارنة هذا المفهوم مع ما جاء في نهج علي السلطة عن الحرية تبرز أهمية إستحضار ذكرى بيعة الغدير من حيث هي رسالة تاريخية عمرها أكثر من الف عام، تدعونا مستجدات الواقع الإنساني العالمي اليوم الى إعادة قراءتها للوقوف على عمق البعد الثقافي لإعلان ولاية الإمام علي الذي يقول في مفهوم الحرية "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً " ..

بين أن يعرف الشخص إنه حر بحكم وجوده البيولوجي، اي ان حريته مرتبطة بولادته، كما في المادة الاولى " يولد جميع الناس أحراراً .."، وبين أن يعرف انه حر من خلال وعيه بالحرية كما في قول الإمام "وقد جعلك الله حراً" و"جعل" عمل وهيأ وخلق، وجعله: صيّره، كما في لسان العرب لابن منظور، وقوله تعالى "وجعلني نبياً" و " جعلناه قرآنا عربياً " " وجعلنا من الماء كل شيء حي " " وجعلوا لله شركاء " ..

عن الدكتور فاضل صالح السامرائي: (الجعل) هو إخبار عن ملابسة مفعولة بشيء آخر بأن يكون له أو منه أو فيه أو حالة من الحالات، في الغالب الجعل يتعلق بشيء آخر وليس فقط جعل أي خلق هكذا لكن هناك شيء آخر في المفعول يتعلق به، جعل تقتضي اكثر من شيء واكثر من ان تذكر المفعول وحده وهذا ما نص عليه اهل اللغة..

ان تعريف الحرية في إطار فطري من شأنه ان يحددها عملياً في النشاط المادي لحياة الشخص، لكن تعريفها في إطار فكري من شأنه ان يفضي الى تحركها عملياً في النشاط التكويني لوجود الشخص، ففي " جعلك الله حراً " دعوة الى إدراك الذات وتنمية وعي النهضة في الفرد والمجتمع والسلطة، وفي " يولد جميع الناس أحراراً " دعوة الى تلبية إحتياجات المنظومة الجسمية للشخص في الجانب المادي للتفكير، لذا جاء تبرير الإساءات التي صدرت عن أشخاص ومؤسسات بحق شخصية النبي الخاتم على الرغم من الأذى الكبير الذي الحقته بمساحات كبيرة من الناس الذين صنفهم الإمام علي (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو التصنيف القائم على أساس وحدة الإنسان وتعدد الإتجاهات وتنوع الأفكار، فلو أضيفت عبارة " دون مساس أو دون إساءة الى ثقافات الآخرين) في آخر المادة التاسعة عشر لحقوق الإنسان لربما تجنب العالم الآثار الجانبية للأذى المعنوي الذي لحق بملايين المسلمين بسبب تلك الإساءات ..

يذهب علم النفس الى ان كل شخص أياً كان وضعه وموقعه ولونه وميوله ومعارفه إلا وله رسالة في حياته، لكن أكثر الناس يخطئون إدراك رسائلهم لجهلهم بأنفسهم وعدم إحاطتهم بما يكفي بذواتهم، ويتحقق هذا الإدراك وتلك الإحاطة عندما تمر الشخصية بحالة توازن في جوانبها النفسية والعقلية والأخلاقية، واذا كانت النبوة بحضور الوحي دافعاً لتعريف الناس بأنفسهم وإحاطتهم بذواتهم، فإنه بعد إنقطاع الوحي يظهر الوعي الذي كانت الرسالة المحمدية في جانبها الإجتماعي تعدّه في شخصية علي عليه السلام حتى اذا ما جاء التوقيت الملائم لإظهار ذلك نادى النبي القائد بالناس "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، تلك الولاية التي ترى في حرية التعبير والنشر وإعتناق الآراء والأفكار، حرية مرهونة بعدم تجاوزها على المشترك الإنساني لجميع الناس على إختلاف السنتهم والوانهم وتوجهاتهم ..

***

د. عدي عدنان البلداوي

البعيد عن العين، أبعيد أو قريب عن القلب؟

 القرن الحادي والعشرين جاء بتغيرات جوهرية من الدرجة الأولى في حياة البشر وأسلوب المعيشة. بدأت تلك التغيرات مع الثورة الصناعية والاكتشافات الكبيرة والتطور العلمي مع نهايات القرن التاسع عشر. كل ذلك اثرت على العلاقات بين ابناء المجتمع وداخل العائلة الواحدة. جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى لديهم من الذكريات التي لا تشبه أبدا بذكريات جيل اليوم. التطور التقني الكبير في عالم الاتصالات  واختراع التلفون الارضي ومن ثم الجوال ووسائل الاتصالات عبر الانترنت وسهولة السفر بين البلدان البعيدة و مع تطور أدواتها أدى إلى سهولة التواصل بين البشر وصولا إلى ما يسمى اليوم بالقرية الكونية.

 كانت أيام زمان العلاقات الأسرية وروابط القرابة محكمة وحتى حين يكون خصام بين شخصين أو طرفين كانت هناك دوما حلول يرضي الطرفين. كانت هناك كذلك دوما طرفا ثالثا في حل النزاع. ففي العلاقات البشرية تكون الخصام خالة طبيعية في عدم توافق الآراء ونتيجة مباشرة للجدال والنقاشات بين البشر. قد يكون الخصام ضمن أبناء العائلة أو الأقربون ومن ثم بين العشيرة الواحدة وقل تنتقل لتكون بين عدد من العشائر وحتى بين القوميات المختلفة داخل الدولة أو مع الدول المجاورة. لكن في الماضي كانت هناك منظومة اجتماعية تدير الحوارات وفي النتيجة يتم الصلح. بين القبائل المتنازعة أو بين الأشخاص. كان لديوان القوم والعشيرة مكانة مهمة في تمتين عرى الصداقة ونشر المحبة بين الناس. كان لشيخ القبيلة دورا مهما في تمتين أواصر العلاقات بين أبناء العشيرة. كانت المؤسسة الدينية أيضا تقوم بدور النشاطات بين المتنازعين بالإضافة إلى وجود المحاكم المدنية والشرعية.ز كانت الجوامع ملتقى لأداء الشعائر الدينية ولها دورا اجتماعيا كذلك. إما المقهى فكان بالإضافة إلى دوره كأماكن للترفيه عن كاهل المواطن له دور مهم في الجمع بين الناس والتصاهر وحتى إجراء العقود التجارية وفك المنازعات.3430 توفيق التونجي

الدور الحضاري لجميع تلك المؤسسات خرجت إلى الوجود مع سقوط الدولة العراقية اثر الاحتلال دول التحالف وأسقط النظام فيها عام ٢٠٠٣. أي أن تلك المؤسسات عادت إلى أداء نفس أدوارها السابقة وقد كان الإنكليز في احتلالهم وانتدابهم للعراق إبان وبعد الحرب العالمية الأولى قد ذكروا تلك التركيبة العشائرية للمجتمع العراقي الذي أبدع  د. على الوردي في وصفها في لمحاته الاجتماعية. الغريب أن في الاحتلال الأخير أي في عام ٢٠٠٣ كان نفس ذلك التركيب العشائري لا يزال حيا وأعيد إليه النشاط خاصة التركيب الديني ورجال الدين بعد أن كانوا لفترة وجيزة من تاريخ العراق بعيدون من الساحة السياسية الفعلية ويؤدون دورهم الطبيعي في المجتمع ويؤدون دورا محددا اجتماعيا و دينيا.

إما على مستوى العائلة فقد كانت التواصل قويا بين أبنائها من ناحية ومع الأقرباء وأبناء العشيرة كذلك وكان العديد من الأجيال يسكنون ويعيشون طول حياتهم في بيت واحد. صعوبة المواصلات كانت تؤدي أحيانا كثيرة في صعوبة التواصل بين أبناء العائلة خاصة لموظفي الدولة المعتقلين بين المدن جراء متطلبات عملهم. كانت الحالة أسوء القرويين اللذين يعيشون في مناطق نائية والتي لا تربطها مع المدن حتى الطرق المبلطة. كان القروي يعيش طول حياته في قريته دون أن يرى المدينة.

 إما المدينة فلم تكن كبيرة إلا قياسا بالنسبة للقرية خذ مثلا مدينة طوز خورماتو كانت تعتبر مدينة كبيرة بالنسبة إلى أبناء قرى منطقة افتخار المحيطة والقريبة منها، مثلا. لذا كان العديد من أبناء القرى المحيطة لمدينة كركوك لم يشاهدوا حتى كركوك نفسها طول حياتهم. إما العاصمة بغداد فكانت حلما وربما كنا نجد أحدهم قد حج إلى الحجاز يتجمع الناس حوله التبرك وسماع الروايات عن تلك السفرة المتعبة والشاقة إلى مدينة النبي صلوات الله عليه وسلامه وموطن هبوط الوحي وللعلم كان الحاج يتوجه أولا إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف قبل أن ينعطف ويتجه جنوبا إلى الحجاز.

العالم الجديد الذي نعيش فيه اليوم اثر على تكوين العائلة. في الثقافة الغربية نجد ثقافة الأنا إي إن الشخص فقط مسئول عن أعماله ولا ينعكس تلك الأعمال على العائلة. المجرم في العائلة مسئول عن أفعاله بنفسه ولا يجلب العار للعائلة. إما في ثقافة الشرق " ثقافة نحن" فان الفرد جزء من الكل إي كل اعمله من خير أو شر ينعكس مباشرة على العائلة.

هذا الخلاف الجوهري ينعكس على مجمل العلاقات الإنسانية. صلة الرحم ونقصد به طبعا بين أبناء العائلة من المقربين وممن تربطهم رابطة الدم والانتماء. هذه الرابطة مختلفة كذلك هنا في الغرب. نحن لسنا هنا بصدد التقييم وإصدار الأحكام على الصحيح من تلك العلاقات والخطأ منها. لأنني كما أسلفت لا يمكن التقاء ثقافتين متناقضتين من حيث المبدأ. الجدير بالذكر إن هناك اختلافا واضحا بين الجنسين. بناتنا أكثر التصاقا بالعائلة من الذكور مثلا. تحاول جاهدا الزواج من نفس ثقافتها طبعا إذا أمكن ذلك. بالإضافة إلى ذلك تبقى على صلة وارتباط مع عائلتها. الذكور أكثر ثورية ويحبذون الانتقال وهجر العائلة وهناك دوما استثناء لكل قاعدة.

المهاجرين من العراقيين والقادمين من دول الشرق عامة يحتارون في انتمائهم الثقافي فهم ذو ثقافة شرقية في مجتمعاتهم في الغرب ولكنهم حين يزورون وطن أجدادهم ينظر إليهم بعيون ملئها الشك ويراقب كل حركة وكلمة ينطقون بتا وأخيرا يقولون لهم:

 انتم تغيرتم بعد الهجرة وترك اوطانكم والعيش في الخارج.

لكن طبعا هذا صحيح فهم يفكرون بالعلوم التربية التي حصلوا عليها في مدارسهم ومنذ أيام الحضانة في الغرب. وتأثروا بتلك التربية والتعليم التي حصلوا عليها ومختلفون مع أبناء البلد  لأنهم  تربوا ضمن العائلة الشرقية التي تسود فيها الأعراف ومبادئ الدين ورموز الثقافة الشرقية. لا ريب إن الانتماء والتربية الدينية أؤثر في سلوكهم كذلك خاصة ن يخص العبادات والشعائر. لعدم إلمامهم الكامل باللغة العربية. من ناحية ومن ناحية أخرى اختلاطهم مع العديد من الثقافات لمواطني الدول الأخرى من المهاجرين. هذا الاحتكاك يؤدي إلى تغيرات عديدة في تحليلهم و رؤيتهم إلى الأمور. إشكالية الانتماء الثقافي يولد حاجزا بينهم وبين اقرأنهم من أقربائهم في وطن إلام وهنا اقصد العراق. ختاما قد يتسائل المرء هل يمكن العودة الى ما كانت عليها اواصر المحبة والتضامن في العلاقات الاسرية وبين الإخوان والأقرباء ام انها تبقى كموروث ثقافي للامم. الجواب على هذا التسائل ومع الاسف سيكون بالنفي ليس فقط لان سلم التطور الانساني والتقني في الكون ياخذ مسارا صاعدا الى الاعلى ولا نرى وجود أي نقطة رجوع في الافق خاصة في المجال التقني العلمي والتطورات الحديثة في عالم السفر الى الفضاء واكتشاف المجهول. ليس هذه الإجابة من باب الياس بالمستقبل لكنه من الناحية العلمية لا عودة الى مجتمعات الماضي (الجميل) الابايقاف التطور العلمي والتقني في المستقبل. فكيف لنا في عالم يعيش جزء منه في مجرات بعيدة ويفصلها مع الارض سنوات ضوئبة ان نتصور العلاقات الأسرية الحميمة مثلا. واليوم  كيف نقنع الشاب وحتى الطفل الذي بيده احدث تلفون خلوي بان الجلوس حول صوبة (مدفئة) علاء الدين

والتمتع بمشاهدة فلم اسود ابيض في التلفزيون افضل من عالم الانترنت و وسائل التواصل الاجتماعي.

يبقى ان نعلم بان استمرارية الموروث الثقافي الديني في المستقبل خاصة في دول الشرق ستبقي على حميمة بعض العلاقات الأسرية خاصة في المناسبات الدينية والأعياد.

***

د. توفيق رفيق آلتونجي

...................

* الصورة لأحفادي - الأندلس

كثير من المتخصصين في علم النفس والأمراض النفسية، لا يهتموا كثيرا بظاهرة الرهاب الاجتماعي. من الطبيعي أن يشعر المرء ببعض التوتر والقلق في حياته، وهذا أمر طبيعي. ولكن قد يزداد هذا الشعور عن حده بحيث يؤثر حتى على تفاعلاتنا اليومية مع الآخرين، وهذا ما يسمى \"بالرهاب الاجتماعي\"...

الرهاب الاجتماعي هو خوف وقلق من التعرض لبعض المواقف الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي. وغالبا ما يجري تجنب هذه المواقف أو تحملها على حساب الكثير من الضيق والإزعاج...

هو عبارة عن اضطراب مزمن يتميز بخوف مفرط وغير مبرر من الإحراج والهوان في المواقف الاجتماعية مما يؤدي إلى ضيق شديد وعدم القدرة على أداء الوظائف اليومية...

يعتبر الرهاب الاجتماعي من أسوأ أنواع السلوك التي من الممكن أن تسيطر على الإنسان، وذلك لما له من تأثير سلبي على صاحبه، فهو يعبر عن ضعف الشخصية، وعدم مقدرة الشخص على القيام ببعض الوظائف الحياتية، وهذه الصفة قد تسبب له مشاكل ومتاعب كثيرة، داخل محيطة البيئي إذ إنه من الصعب العيش في عزلة عن الآخرين، والخوف والقلق المستمرين، وضياع الكثير من فرص الحياة، وخسارة أصدقاء ومقربين، وكل ذلك يتسبب به الرهاب الاجتماعي...،

لذا يجب على كل شخص يعاني من هذه المشكلة أن يعمل بجدية للتخلص منه، فالرهاب الاجتماعي يختلف عن الخجل، فالخجل عادة طبيعية وليس لها أي تأثير سلبي على حياة الأشخاص، بل يعتبر من الصفات المحمودة.: الحياء"

أعراض الرهاب الاجتماعي

ومن الأعراض التي تظهر على الشخص والتي من خلالها نستطيع أن نؤكد إصابته بالرهاب الاجتماعي-- فتتمثل في ما يلي:

1- الخوف الواضح من المواقف الاجتماعية، حيث يتجنب التصرف أمام الآخرين خوفا من أن يظنوا أنه شخص غبي وغير مدرك للأمور.

2- الخوف من أي مناسبة اجتماعية، ويكون ذلك في التجمعات وبين الحضور الكبير والقلق من الظهور أمام الجميع، وفي بعض الحالات يمنعه هذا الخوف والقلق من حضور مثل هذه المناسبات. أفراح أو مؤتمرات أو عزاء خوف أن يتصرف بتصرف عفوي يجعله في تصرفا محرجا...

إن الشخص نفسه يستطيع تقييم حالته ومعرفة مدى إصابته بالرهاب الاجتماعي أكثر من أي شخصا آخر.

هل يوجد علاج للرهاب الاجتماعي...؟

1- انتباه الشخص لنفسه: أي عليه ملاحظة كل تصرفاته، وعند القيام بعمل ما عليه الفصل بين التفكير الشخصي والتفكير الناتج عن الرهاب الاجتماعي، فإذا قام بعملية الفصل، سيكون في المسار الصحيح للعلاج.،

2- تحكم الشخص في أفكاره: فهي خطوة أخرى للتخلص من الرهاب الاجتماعي عن طريق التحكم في تسلسل الأفكار، والتخلص من الأفكار السلبية التي تقود إلى الخوف والقلق، ومحاولة التفكير بطريقة إيجابية.

3- التخلص من الخوف عن طريق مواجهة المخاوف: وهذه الخطوة من أصعب خطوات العلاج، وتتطلب قوة وجرأة، إلا أنها أكثر الطرق فاعلية ونتائجها مضمونة وسريعة.

4- العلاج عن طريق الأصدقاء: فهذه خطوة مهمة لعلاج الرهاب الاجتماعي عن طريق كسب أصدقاء جدد، والتقرب من الأصدقاء القدامى، ومحاولة التقرب من أشخاص يعززون التفكير الإيجابي والدعم النفسي.

5- قيام الشخص بإشغال نفسه وشغل وقته بالمفيد: وذلك لتجنب التفكير السلبي، ومن هذه الوسائل منها: العبادات والتقرب إلى الله بالصلاة وقراءة القرآن، ممارسة التمارين الرياضية، قضاء أكثر وقتا ممكنا مع العائلة والأصدقاء... وللأسف في مجتمعنا الريفي الذي أعيش فيه. مع هذه الحالات وحالات الأمراض النفسية نعاملهم على أنهم ؛ مجانين " ونتجنب الاقتراب منهم على أنهم مجانيين... ونعاملهم بقسوة وفي غياب دور كبير للاهتمام بهم من قبل الدولة... تركوا جارنا وهو في العقد الخامس بعد أن رفضت كل المستشفيات قبوله يصارع المرض وحيدا حتى مات من البرد والإهمال...؟!\"

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري متخصص في الجغرافيا السياسية

ليف تولستوي [ت 1910م] مصلح وأديب مسيحي روسي، أنهى مقالته الطّويلة: ما الدّين؟ وأين يكمن جوهره؟ عام 1902م، والّتي طبعت ضمن نصّ في كتاب: في الدّين والعقل والفلسفة، وتولستوي لم يخرج من الإطار اللّاهوتي، ولكنّه لم يفصل الجانب الإنساني عن هذه العلاقة الّتي يسميها بين الإنسان واللّامتناهي من جهة، وبين الإنسان والعالم من جهة ثانية، إلا أنّه يرى ضرورة حضور العقل في هذه العلاقة، وحضوره يجمع بين تفعيل الدّين في خدمة البشريّة جميعا في ضوء مبدأ المساوة من جهة، وفي تطوير هذا الدّين ذاته بما توصل إليه العلم من جهة ثانيّة بما يحقق مبدأ المساواة والوحدة بين البشريّة.

فيرى تولستوي أنّ "العقل هو القوّة الّتي تمكّن البشر من تحديد علاقتهم بالعالم، وكما أنّ البشر جميعهم في مصاف واحد من ناحية وجود علاقة تربطهم بالعالم، فكذلك الدّين الّذي يؤسس لهذه العلاقة يوحّد البشر، وتؤدي هذه الوحدة إلى رخاء البشر روحيّا وماديّا"، لهذا "إذا حاد العقل عن دوره الطّبيعيّ في تأسيس العلاقة مع الله، والنّشاط الّذي يتلاءم مع هذه العلاقة، لا يوجه البشر فقط لخدمة أهوائهم، ولا حتّى حرب شريرة بين البشر بعضهم وبعض، بل يبرر هذه الحياة الشّريرة المتناقضة لسمات ودور الإنسان، فتحدث هذه المجاعات المريعة الّتي يعاني منها الآن معظم البشر، وتصبح العودة إلى هذه الحياة العاقلة والصّالحة مستحيلة تقريبا".

فالدّين عنده "هو الّذي توافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدّد علاقته بالحياة اللّانهائيّة من حوله"، وبالتّالي التّطور ملازم لأيّ دين، "فليس الدّين إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصّلوات والطّقوس العبثيّة الشّهيرة .... بل يشكل الدّين علاقة الإنسان بالله القابلة للتّطوير بشكل يتّفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانيّة للأمام ....".

لهذا يرى أنّ فكرة التّطور في الأديان يلزم منها تعدد الأديان، وهو شكل طبيعيّ جدّا، ويعلل ذلك "لأنّ التّعبير عن طبيعة العلاقة الّتي تربط بين الإنسان واللّانهائي – الله أو الآلهة – مختلفة من زمان لآخر، وحسب درجة تطوّر الشّعوب المختلفة"، وهنا يضرب مثلا أنّ "في الدّين البرهمي العميق .... بمجرد أن شاخ وبدأ في الذّبول مبتعدا عن فكرته الرّئيسة، متحوّلا إلى عقائد متحجرة، ظهرت من إحدى الجوانب حركة إعادة بعث للبرهميّة، ومن ناحية أخرى تعاليم البوذيّة الّتي عملت على تقدّم فهم الإنسانيّة في علاقتها باللّانهائيّ، نفس الانحطاط حدث مع الأديان اليونانيّة والرّومانيّة، والّذي تلاه ظهور المسيحيّة، الأمر ذاته مع المسيحيّة الكنسيّة والّتي انحطت في بيزنطة إلى مستوى الوثنيّة وتعدد الآلهة، بينما على الجانب الآخر من هذه المسيحيّة المشوهة ظهرت من جانب الحركة البولسيّة، ومن جانب آخر ظهر الإسلام بعقيدته التّوحيديّة الصّارمة ردّا على عقيدة التّثليث وعبادة العذراء، الأمر ذاته مع مسيحيّة القرون الوسطى البابويّة، وردّا عليها ظهرت تعاليم الإصلاح الدّيني".

بيد أنّ دخول السّلطة، والمصالح النّفعيّة كما يرى تولستوي أحدثت انحرافا في الدّين، وبالتّالي تولدت تحريفات داخليّة مضافة إلى النّص الديني نفسه، فكل دين يولد بسيطا ثم يتضخم تأريخيّا، وهذا التّضخم يتزاوج مع المصالح النّفعيّة لفئة من النّاس [سياسيّا، دينيّا، اجتماعيّا]، فيكون العقل خادما في تفعيل هذه النّفعيّة باسم العلم الدّيني، لا أن يكون خادما للدّين الحقيقي لا التّأريخي، وهذا لا يكمن إلا بالعودة من خلال العلاقة بين الإنسان واللّامتناهي شريطة أن لا يخرج إلا من خلال الوحدة بين البشر جميعا، فكلّ دين "يؤسس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي، وهي علاقة واحدة لكلّ البشر .... لذا يحوي كلّ دين مفهوم مساواة جميع البشر أمام من يدعونه إلها"، فلهذا يرى تولستوي أنّه لا يمكن فصل هذه العلاقة عن مبدأ المساواة، وهي الّتي جاءت الأديان لتقريرها.

ومن خلال هذا المبدأ يظهر مدى التّحريف الّذي أضيف إلى هذه الأديان والابتعاد عن جوهره، فهي في الابتداء جاءت مؤكدة أنّ "مفهوم مساواة البشر يشكّل سمة رئيسة في كلّ دين"، بيد أنّه يطرح تساؤلا تعجبيّا من خلال القراءة التّأريخيّة لكلّ دين، فيخلص "في الواقع لم تحدث في أيّ وقت، وفي أيّ مكان مساواة حقيقيّة بين البشر، وهي ليست موجودة الآن أيضا"، فهل الأديان فشلت في تحقيق هذه المساواة، أو انحراف حدث في ذاتها؟ فالأديان أفقيّا من مبادئها الواضحة المساواة، وجاءت لتحقيقها بين البشر، إلا أنّ هذه القيمة انحرفت لسببين، الأول: تّأثير النّفعية البرجماتيّة على الدّين نفسه لكن ليس باسم المجموعة، وإنّما باسم فئة منتفعة من هذا الدّين ذاته: " فكلما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم .... ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء ... وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة".

والسّبب الثّاني أنّ هذه القيمة تغيّب مقابل طقوس وخرافات فتغيب  أدبيات القيمة ذاتها "مثل: عامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك .... لا تستغل احتياجات إخوتك من أجل تلبية رغباتك أو رغبات آخرين، أن تكون موحية بقوّة وملزمة للبشر، مثل الإيمان بقداسة القربان، والأيقونات عند النّاس ...".

ولكون تولستوي مسيحيّا، ويناقش المجتمع المسيحيّ، نجده يناقش مبدأ المساواة في المسيحيّة، وكيف استطاعوا تحريفه في الدّين المسيحيّ ذاته منذ فترة مبكرة جدّا، حيث يرى أنّ "المسيحيّة قد أعلنت أنّ مساواة البشر لا تنتج فقط عن علاقة البشر بالله اللّانهائي، بل إنّها تعليم رئيس عن أخوّة البشر جميعا، كما أنّ البشر جميعا أبناء الله، لذلك يبدو من المستحيل تحريف المسيحيّة كي نزيل حالة مساواة البشر بينهم وبين أنفسهم"، وهذا من قراءته لأصل النّص المسيحيّ، إلا أنّ التّأريخ كما يقول أثبت العكس، فيدرك أنّ "العقل الإنساني مراوغ، وبلا وعي أو بنصف وعي تمّ ابتكار طريقة جديد للمراوغة ... كي تجعل من التّحذيرات الإنجيليّة، والتّصريحات الواضحة عن مساواة كافّة البشر غير حقيقيّة، هذا العمل البارع بتأسيس [العصمة] ليس فط لكتابات معينة، بل لبشر معينيين أيضا، تعيّنهم الكنيسة، ولديهم الحق في نقل هذه العصمة لأناس آخرين يقومون بدورهم ...]، وهكذا عن طريق هذا الكهنوت انتقلت العصمة من النّص إلى بشر مثلنا، وبهم غلبت النّفعيّة والتّحريف في صرف هذه المساواة الّتي جاء بها حقيقة الدّين المسيحيّ.

ومع بداية عصر التّنوير، وظهور العلمويّة في الغرب، التفت الفلاسفة والعلمويون إلى مبدأ المساوة من جديد في ظلّه النّاسوتي الشّامل عند الفلاسفة الشّموليين، أو النّاسوتي الخاضع للعلمويّة عند التّجريبيين والعلمويين، وهؤلاء أدركوا أن الدّين بالكليّة ضدّ المساواة، وقسّموا العصور – كما يرى تولستوي – إلى ثلاثة عصور: العصر الدّيني، والعصر الميتافيزيقي، وعصر العلم القطعيّ، ونحن نعيش العصر الثّالث، لهذا رأى العلمويون "أنّ احتياجنا إلى الإيمان بالدّين قد انهار"، وأنّ الدّين "صار عنصرا ضارا بحياة المجتمع"، لهذا يرى تولستوي أنّ سبب هذه الرّؤية ليس الدّين ذاته، بل أنّ السّبب الحقيقي أنّه "في كافة المجتمعات الإنسانيّة وفي فترات معينة من حياة تلك المجتمعات دائما ما حلّت بعض الأوقات انحرف فيها الدّين عن معناه الحقيقي، ثمّ أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتّى فقد الدّين معناه الرّئيس، وحين تحوّل إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة النّاس يضعف أكثر فأكثر"، وقد قدّم فلسفته في هذه من خلال العلاقة بالإنسان مع اللّامتناهي في ضوء فلسفة الدّين والأخلاق والعلم، ويصعب هنا بيانه والإسهاب فيه لضيق المقالة.

إلا أنّه جملة يرى أنّ الانحراف في تحقيق مبدأ المساوة لم يقتصر عند الدّين نفسه؛ بل حتّى في ضوء الدّول المبنيّة على دساتير الأصل حافظة لقيمة هذه المساواة، فيجد التّناقض في التّطبيق ليس تحت مظلّة الدّين؛ بل حتّى تحت مظلّة الدّولة ذاتها، فأمّا عن الأول فيرى تولستوي "كما أنّ كافّة البشر إخوة ومتساوون؛ فعلى كلّ منهم أن يتصرف مع الآخرين كما يريد الآخرون أن يتصرفوا معه، لذا فالأمر كلّه يعتمد على ترك القانون الدّيني الكاذب، ولكن الأمر لا يقتصر على أنّ مثقفي العالم المسيحي لم يفعلوا ذلك؛ بل على النّقيض من ذلك، يحاولون أيضا إخفاء إمكانيّة هذا الحل عن النّاس، ومن أجل القيم بذلك يقومون بكلّ هذه الجهود العقليّة البطّالة الّتي يطلقون عليها اسم علم" أي العلم الدّيني.

وأمّا عن الدّولة فيرى أنّهم "يكتبون مئات الكتب عن المبادئ المختلفة: المدنيّة، والجنائيّة، الشّرطيّة، والكنسيّة، والماليّة، الخ، ويتحدّثون ويتجادلون وهم على ثقة كاملة أنّ ما يفعلونه مفيد ... ولكن التّساؤل عن سبب إمكانيّة إدانة وإجبار بشر متساويين بالطّبيعة، وسلبهم وإعدامهم، لا يجيبون عنه أبدا ... هذا العنف لا يقوم به النّاس، بل كائن مجرد يدعى الدّولة".

هذه المقاربة الّتي قدّمها تولستوي قبل مائة سنة ينطلق من خلاصة الفكر الإنساني أنّ فهم الأديان وتحليلها لا ينطلق من الدّين التّأريخي، بل من القيم الكبرى المطلقة بين البشر جميعا والمرتبطة بالإنسان، والمحددة علاقتها باللّامتناهي، وهي الّتي جاءت الأديان الحقيقيّة في بساطتها لتفعيلها، فكلما اقتربنا منها لن نجد فارقا كبيرا بينها وبين العلم والفلسفة، بل تساهم بشكل كبير في رقي المجتمع الإنسانيّ أخلاقيّا وروحيّا.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل والعدالة.. قال تعالى [فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير]. إذ هو(العدل) يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي أم القيم وتجلياتها جميعا. وفي هذا السياق أيضا تأتي مفردات (العفو – الإحسان – دفع السيئة بالحسنة – الإعراض عن الجاهلين). إذ يقول تبارك وتعالى [والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار]. ويقول عز من قائل [وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما]. وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.

وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق. وإننا من الضروري أن لا نستعجل النتائج. قال تعالى [سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين]. ونحن مأمورون دائما بإتباع الأحسن. إذ قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم ال وأولئك هم أولوا الألباب]. فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا استنادا على هدى القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان من إتباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجا واضحا في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ أننا مطالبون من الاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة [فليأخذوا أحسنه] و" إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد من يصادروا العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك – حسبما نعيه – هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها ".

والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.

والعدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحتوي ويتضمن كل الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ أن الظلم وهو نقيض العدالة، حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرية وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن [العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان].

ولو تأملنا قليلا في مضامين الحرية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق.

من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها وجوانبها.

وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية خاصة أو عامة بدون عدالة في حقول الحياة المختلفة.

والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا حتى لو تجلبب بكل شعارات الديمقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.

فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات.

فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية بعيدا من لغة الحذر والتوجس والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية إلى التشريع للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.

وعلى هذا فإننا لا بد أن " نميز بين الحرية كحق اجتماعي والحرية كخطوة وجودية. كحق، لا تشمل الحرية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبينا. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.

وأخيرا، لا بد أن نتذكر أن ما هو جائز يظل أمرا خاضعا لتفاسير مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.

المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حق قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة ".

فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة ومتطلباتها توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكلما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنه يفضي إلى تكريس قيم الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية مثلا أن المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعا يلوث البيئة والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي أن يكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.

ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والإضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان) هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة..

وإن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.

- انتهى –

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

صار حرق المصحف الشريف ظاهرة ببلد عريق في حرياته وديمقراطيته مثل مملكة السُّويد؛ مملكة قصدها اللاجئون مِن مختلف بقاع العالم، حيث يوجد التَّوتر، أو انهيار الاقتصاد، وحصة المسلمين بينهم الأكبر. فسمحت السُّويد بتشييد المساجد والمعابد، بعرضها وطولها، ولكلّ عقيدة دينية حقها في ممارسة طقوسها، مثل بقية بلدان القارة الأوروبيَّة، غير أنَّ الوجود الدّينيَ المختلط، وبهذه الكثافة، بحاجة إلى ضمان قانونيّ لحمايته، والحول دون تحوله مِن نعمة التَّعايش والتّساكن إلى نقمة الكراهيَّة، بإثارة الغرائز المتطرفة، التي طالما توجعت منها السُّويد والعالم بأسره.

أخذ كتاب المسلمين، وهو تاج مقدساتهم، يُهان بالحرق بين فترة وأخرى، مارسه متشدد، لا يقل عن متشددينا إيذاءً، يدعى راسموس بالودان، ومارسه اليوم سويدي بالتجنيس يدعى داس سلوان موميكا، ولأن السُّويد بلد قانون وشريعة مدنيّة، لا يمارس التّظاهر فيها إلا بإجازة مِن شرطتها، وبالتّالي يكون الحرق قد تم بموافقة رسمية، وهذا ما نفهمه، وليس لنا بالتفاصيل.

بيد أنّ الأغرب والأعجب أن يحصل هذا التصعيد بالكراهيَّة ضد المسلمين، وقد كان ملكها في القرن التَّاسع عشر خصص جائزتين لأعمال بحثيّة وثقافيّة تخص الشرق الإسلاميّ، خصصهما الملك أوسكار الثَّاني (توفي عام 1907) ملك السُّويد - كانت والنّرويج مملكة واحدة - جائزة تمنح لمَن يؤلف كتاباً في تاريخ تمدن العرب قبل الإسلام، ففاز العلامة محمود شكري الألوسي (توفي عام 1924) بكتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب».

قدمت عدة أعمال، لكن الجائزة ذهبت إلى الألوسيّ، وقد أرخ تلميذه محمَّد بهجة الأثري للجائزة التي حصل عليها أستاذه. كُلفت قنصلية السُّويد بالقاهرة بالمراسلات والتنسيق. وصلت رسالة موقعة مِن قِبل القنصل بالقاهرة، الكونت كرلو دي لندبرغ، إلى الألوسي، مؤرخة في الرَّابع مِن يوليو (تموز) 1882، وبعدها بحين استلم البشارة بنيله الجائزة في رسالة أخرى مِن القنصل نفسه المؤرخة في الخامس مِن نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1889 (أعلام العِراق سيرة الإمام الألوسي الكبير).

كان الوسام أو الجائزة ممهورة باسم الملك أوسكار الثَّاني، وقد أشارت مجلة «الهلال» المصريَّة إلى اهتمام الملك بالآداب الشّرقيَّة، وزينت الجزء السَّادس منها، بصورة الملك، في عددها 15 نوفمبر (تشرين الثَّاني) 1897 موشحة بعبارة «نصير العلم والأدب وخصوصاً الآداب الشَّرقية».

حضر وفد مصري للمشاركة في المؤتمر العلمي للمستشرقين (1889)، المقام باستوكهولم، الذي أعلن فيه الفائزون، فيرصد أحد مرافقي الوفد يوميات رحلته إلى أوروبا، ويُصنف فيها كتاب «إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبا» (مطبعة المقتطف 1892). كان ضمناً قد رصد ندوات المؤتمر وجلساته، تعذر على الألوسي الحضور، فتلي أمر الملك: «منح مؤلف (بلوغ الأرب) الميدالية الذَّهبية المعدة للفنون والعلوم، ليحملها على صدره معلقة في شريط واز (هكذا وردت)، وسترسل تلك الميدالية إلى الشَّيخ الألوسي بواسطة سفير مملكة السُّويد والنَّرويج (بالقاهرة)» (إرشاد الألبَّا، ص 626).

أنجز الألوسي كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، حسب خاتمته في نهاية الجزء الثَّالث منه عام 1304هـ/1887م، أي عمل فيه عاماً كاملاً مِن تاريخ تكليفه، ثم نُشرت طبعته الأولى عام 1314هـ/1896م، وذلك حسب مقدمة الكتاب للأثري، طُبع بثلاثة أجزاء. بعد إنجاز الكتاب أُرسلت مخطوطته، وفاز بالجائزة. مِن فحوى الرسالة الأولى يغلب على الظَّن أن الألوسي كان قد عمل في مثل هذا الكتاب قبل التكليف، أو كان لديه مخططٌ أرسله، فجاءت الموافقة على العمل فيه، أو أن رسالة التكليف لم يعثر عليها الأثري وينشرها، كلُّ هذا وارد.

تسلم الألوسي رسالة من القنصل العام لمملكة السُّويد بالقاهرة؛ يبلغه فيها بفوز كتابه في المسابقة والجائزة الملكية، جاء فيها:

«حضرة العالِم الفاضل السَّيد محمود شكري أفندي أعزه الله. أيد الله الأستاذ وشرح بالمعارف صدره، ورفع بالكمالات قدره، ولا زالت تُحييه المعالي، وتخدمه بأبيضها وأسودها الأيام والليالي. نكتب إليه وفضله لدينا أظهر مِن الظُّهور، وأشهر مِن كلِّ مشهور، معتقدين أن يسرّ بما نتلوه عليه، إذا ألقى بمقاليد سمعه إليه، وذلك أن كتابه بلوغ الأرب جليل في بابه، وقد استحق التقدم على أضرابه، فإن جميع الكتب التي وصلتنا، في هذا الصَّدد، مع ما بلغت إليه مِن كثرة العدد، واختلاف مصادرها شرقاً وغرباً، وبُعداً وقُرباً، مِن أوروبا ومصر والشَّام والعِراق، وغيرها مِن الآفاق، لم يحصل سواك في أربابها أحد، على تلك الجائزة، التي سبق بها الوعد، لأن الموضوع واديه عميق، بعيد الطَّريق، غير أن كتاب الأُستاذ أجمع الكلَّ مادةً، وأوسعها جادةً، فلذلك أنعم عليه صاحب الجلالة مولانا ملك السُّويد والنَّرويج بنيشان مِن ذهب، أخضر العلاقة لا أخضر الجلدة مِن بينت العرب، وهذا النّيشان لا يناله إلا عالم فاضل، وقد خُصص به الأستاذ دون سواه على كثرة الآمل. فيجعل صدره له حلية، وليفخر به على نظرائه، فإنما يُحسن الفخر على العلية. وليعلم أننا قد عزمنا على طبع ذلك الكتاب، تخليداً لمآثر صاحبه في خزائن الأدب، فلينشط لمثله همته، وليُجرد على أعناق الخمول عزمته، والسَّلام عليه ورحمة الله» (القاهرة 12 ربيع الأول 1307هـ المصادف 5 نوفمبر/ تشرين الثَّاني 1889م).

تمعنوا في فقرات رسالة القنصل ووكيل مملكة السّويد أعلاه، وما بها مِن اهتمام وموضوعيَّة، ومحاولة اقتراب مِن الشّرق الإسلاميّ، وانظروا إلى ما يمارس على أرض تلك المملكة مِن تهييج للمشاعر، واتجار بالكراهيات، والدولة السُّويدية قادرة على لجم مثل هذا التَّهور بالحريات، فما حصل سيترجم وبطرفة عين إلى دماء وأشلاء.

أقول أين سويد الأمس عن سويد اليوم؟! سيقول قائل: إنها الحرية والتعبير عنها، ولكن على ما يبدو أنّ ضرر التَّضييق على الحريّة، الذي تدافع عنه السّويد، كبلد حريات، لا يختلف بشيء عن فوضى التَّعبير عنها، وبإجازة رسميَّة. يوم منحت الجائزة، التي وصلت إلى محمود شكري الألوسيّ، مِن السّويد عبر القاهرة إلى بغداد، لم يعرف عنها إلا قلة مِن النَّاس، قد لا تتعدى الحاضرين في احتفال إعلانها، لكن «حرق المصحف» اليوم علم به العالم بأجمعه، وبالصورة والصّوت، فأقطاب الأرض واتجاهاتها الأربعة طويت كأنها الخاتم. فكيف يكون حرق كتاب يقدسه أكثر مِن مليار إنسان حرية تعبير؟! إن مثل هذا الفعل، الذي أضاع ما سعى إليه ملوك السّويد الأوائل، سيوّلد كراهيات، ويؤسس لجماعات متطرفة، تنتظر استفزازاً يستفزها، كي تعود التفجيرات والكارثيّة، وكأن هناك مَن خسر وجودها مِن ساسة الغرب!

***

د. رشيد الخيون

جيوما پولينييه Guillaume Apollinaire (1880 – 1918) شاعر وكاتب وناقد فني يعتبر من اهم الادباء في جيل الرواد الطليعيين Avant-Garde، وابرز من أسسوا للثقافة الفرنسية الجديدة التي تبلورت في مطلع القرن العشرين. وهو أول من بدأ التنظير في الفن الحديث فكتب عن التكعيبية وهي ما تزال في المهد.

فيما يلي مقتطفات مختارة من اهم ثلاثة نصوص كتبها پولينييه عن الفن الحديث والتكعيبية بين 1911 و1913. وهي النصوص التي تضمنها كتاب Art in Theory: An Anthology of Changing Ideas 1900-2000 الذي حرره چارلس هاريسن و پول وود والمنشور من قبل مؤسسة بلاكويل عام 2003.

ولابد لي في البدء أن اقول بأنه كان صعبا علي ان ارى بأن ما كتبه پولينييه يعتبر من قبيل النظرية، كما اشيع خلال اكثر من قرن من الزمن! إذ ان تصريحاته الوصفية المنطوية على العاطفة واللغة الشعرية لم تتح المجال لتأسيس اي قواعد نظرية، ولم تحتو على أي تحليل علمي، في اعتقادي. ولكن يبدو لي ان المقصود بالـ "نظرية" هو "الرأي"! وهذا هو الاستعمال الشائع للكلمة، فنقول مثلا "ماهي نظرية فلان في هذا الحادث" أو كما يسأل الحاكم "ماهي نظريتك في الدفاع عن نفسك". بهذا المعنى، نعم، اقول ان هذه هي آراء پولينييه، وليس نظرياته. فالاكاديميون الذين يبحثون فيما كتبه الاوائل عن نظرية بمعناها العلمي، لا يجدونها.

النص الاول هنا هو مقالة پولينييه الموسومة "التكعيبيون" المنشورة في : L’Intransigentالباريسية في العاشر من اكتوبرعام 1911.

كان تركيزه في هذا النص على التمييز بين الخصائص النوعية للتكعيبية بالمقارنة بمدارس فنية معاصرة كالانطباعية والوحشية. يرى پولينييه ان التكعيبية ليست صرعة فنية طارئة، انما مدرسة رصينة لم تتخل عن المبادئ الفنية الاولى المستندة على الخط والكتلة والفراغ واللون والانشاء. ولو انها كانت برغم تمسكها بتلك الجذور صدمة للمتلقي الذي تعود ان يرى الاعمال الانطباعية بهارمونيتها الساحرة ودقة وانسجام تفاصيلها. فها هو الآن امام تناوب السطوح بين الظل والنور حيث يفرض خيال الفنان حضوره المتميز من دون حشر اللوحة بالتفاصيل الفوتوغرافية ولا بخزعبلات الفن المفرط بحداثته الثورية. ان هذه المدرسة الجديدة ستمثل تيارا جادا ونبيلا ومؤهلا لطرح الاعمال المذهلة التي لم يخطر على بال الانطباعيين او الوحشيين اعتبارها. ويضيف: سأذهب ابعد من ذلك لأقول ان هذه التكعيبية هي اكثرالمدارس الفنية فخامة وتهذيبا في مسيرة الفن الفرنسي.

النص الثاني هو مقالته الموسومة "حول الموضوع في الفن الحديث" المنشورة في Les Soirees de Paris في شباط عام 1912.

يعتقد پولينييه انه طالما بدت التكعيبية وكأنها بداية الطريق للتجريدية، فان ذلك أجاز لموضوع اللوحة ان يحضر أو يغيب. وحتى في حضوره المحدد فان عنوان العمل قد يصف الموضوع او لا يصفه، وقد لاينطبق بالضرورة على مانراه في سطح اللوحة. ومن هذا المدخل نستطيع ان نتبين نزوع بعض الفنانين لاستخدام عناوين شعرية مثيرة لا علاقة لها بالمحتوى، أو عناوين عامة بديهية كأن يكون عنوان اللوحة "كرسي" أو "كتاب على منضدة" من دون ان يرى المتلقي اي اشارة بصرية للكرسي او الكتاب والمنضدة.

يفخر پولينييه بالتكعيبية بانها المدرسة التي تقدم لنا فنا، تماما غير الذي كان، خاصة بمعنى الاقلاع عن ما يحاكي الواقع الفيزياوي. وبذلك فلم تعد متعة المتلقي، كما كانت تجاه اعمال الفنانين الاوائل، مقرونة بطبيعة خلابة قد تكون ازهى واجمل من الواقع، أو نساء عاريات تقترب اجسادهن الى كمال الملائكة، أو تفاصيل مدروزة ومصقولة باعلى درجات الحرفة. فالفن الحديث بهذا المعنى وخصوصا التكعيبية معنية بان تقدم للمتلقي فنا اجردا متقشفا منزوعا من التزويق وخال من الزينة. ويعتقد بأن مثل هذا التجرد والغموض هو سبب تصاعد شعبية التكعيبية بين طبقات المجتمع الراقية، ذلك ان واقعية الفن بمواضيعه الواضحة ومعانيه المدروسة المؤثرة اصبحت في عداد الماضي وبقيت تثير الجمهور الذي لايتطلع الى التغيير. ويضيف بانه اذا كان المتلقي اليوم يبحث عن امتاع عينه واشباع جوارحه بما يتوقع ان يوفره الفن، فان عليه ان يبحث مليا الآن عن منابع اخرى للامتاع ليجد ضالته في التكوينات التكعيبية الساحرة. وهذه هي مهمته الجديدة، ولا خوف على الطبيعة والواقع الذي يعكسها لانها ستبقى مشرعة الابواب كمصدر اولي للامتاع.3421 نظرية الفن

التكعيبية فن نقي نبيل! يعيد هذه العبارة مرارا وتكرارا ويقصد انه فن خال من الزوائد والشوائب والمتعلقات، ويشبهه بالموسيقى باعتبارها الفن عالي المقام الذي يثير حواسنا ويهيج عواطفنا دون ان نشعر بالحاجة لوجود موضوع او معنى او اي شئ يحاكي الطبيعة ويعيد صورة الواقع. ويتوقع ان ينتشر هذا الفن الجديد ويطغي على الحيا ة الثقافية لكنه سوف لن ينبذ الطبيعة واستلهام الواقع ولا يتسبب باندثار الفن التقليدي. ذلك انه مجرد طعم جديد لمتعة الفن مثل طعم التدخين بعد الاكل بالنسبة للمدخن.

ويعرج على استحدام التكوينات الهندسية التي تميز التكعيبية والتي كانت موضوع انتقاد من قبل الجمهور الاول. يؤكد ان التكعيبيين، بالرغم من عملهم الدقيق كعمل خبراء الرياضيات، لايطمحون ان ينافسوا او يغيروا من هندسة اقليدس Euclidean Geometry لكنهم يوظفونها كما يوظف الكتاب والشعراء قواعد النحو في نتاجاتهم. انهم يستخدمونها للتعامل مع فضاء اللوحة من اجل تنغيم انشائها. وهم في ذلك يتحلون بالعناية والدقة والحذر كما يعمل الطبيب في تشريح الجثة. ويذهب ابعد من ذلك فيقول ما معناه ان التكعيبية في توظيفها للتكوينات الهندسية تتسامى الى عالم لا نهاية له. انها تتخطى استخدام الابعاد الثلاثة وتسمو الى بعد رابع فتصبح تناسبات الاجسام في الانشاء الفني غير ما هي عليه في الواقع الفيزياوي. بعبارة اخرى يصبح التناسب مركّزا وعقليا بدلا من كونه حسيا وعاطفيا كما نحسه في الرسم التقليدي. أي الانتقال بنسب الاشكال من التصوير الحرفي الى عالم آخر مفترض! وبهذا يتسع التعبير عن الاشياء الى ما لا نهاية له من تجسيدات تشكيلية. ويكرر بان الفنانين المجددين لايحصرون تصوراتهم في صندوق الابعاد الفيزياوية الثلاثة الضيق، بل لابد لهم من التحليق عاليا والامساك بالبعد الرابع.

المنشور الثالث هو كتاب پولينييه الشامل الموسومCubistes Meditations Esthetiques: Les Pentres المنشور عام 1913.

في هذا الكتاب يعود پولينييه لموضوعة الواقع فيؤكد اولا ان التكعيبية تختلف عن بقية المدارس بانها ترفض تصوير الواقع كما هو بل تميل ان تكون نتاجاتها مفاهيمية خلاقة. فحين يقوم الرسام بتكعيب قسمات المشهد، سوف لن يكون بالضرورة ان يظهر المشهد كما هو عليه! وهنا يكمن فعل الخلق والابداع. أي ان الرسام يقدم المشهد بمفهومه الخاص الذي يختلف ظاهريا عن المشهد كما نراه.

ويواصل ليميز بين انواع مختلفة من التكعيبية:

التكعيبية العلمية Scientific Cubism

التي يصفها بانها انقى صنوف هذه المدرسة التي تتلخص برسم المشهد ببناء جديد ولكن باستخدام عناصر مأخوذة من المشهد، ليس بواقعيتها، انما بالهيئة التي يتصورها الرسام ذاتيا. وهذه العناصر التي يستعيرها الرسام كمواد ضرورية لتشكيل البناء الجديد هي التي تسهم في تمثيل جوهر ذلك المشهد. وما نرى من تشكيلات هندسية ماهي الا اشارة لذلك الجوهر.

التكعيبية الفيزياوية Physical Cubism

هي التي تبقى مخلصة للطبيعة الفيزياوية للمشهد فتستعير العناصر التي تحتاجها من الواقع البصري للاشياء. وهنا يعتقد پولينييه ان هذا الصنف لا يحقق النقاء الكافي الذي تسعى اليه التكعيبية العلمية.

التكعيبية الأورفية Orphic Cubism

نسبة الى الاله الاغريقي أورفيوس Orpheus وهي التي يعمد فيها الفنان لصنع تلك العناصر بدلا من استعارتها من الواقع البصري او المفاهيمي. وهي بذلك، حسب مذهب پولينييه، فن نقي صافي كما تهدف اليه التكعيبية الاصيلة. وهذا الصنف له القدرة على ان يمنح المتلقي متعة فنية مباشرة وعظيمة.

التكعيبية الحدسية Instinctive Cubism

هنا لايميل الفنان الى استعارة عناصر بناء المشهد التكعيبي، لا من الواقع الظاهري ولا المتخيل، انما يعتمد الفنان على حدسه وبديهته وامكاناته الغريزية لهضم المشهد وتحليله لعناصره الاولية واعادة تشكيله بما يراه الفنان مناسبا. قد يفتقر هذا الصنف الى المذهب الجمالي الذي يربطه ببناء التكعيبية الاصيل.

وينتهز پولينييه هذه الفرصة ليقول : التكعيبية تتطلب النظرة الجمالية المثالية التي تقدم نفسها بجرأة وهي تقطع وشائج الصلة بالواقع الفيزياوي للاشياء. ويؤكد مرة اخرى بانها فن نبيل مفعم بطاقة الفنان الشجاع الخلاقة، ويصفها بانها فن النور المتوهج. يدرج پولينييه الرسامين الذين يراهم أعمدة التكعيبية الاساسيين. فيما يلي الرعيل الاول كما يراه پولينييه:

- پابلو پيكاسو Pablo Picasso

يصف پولينييه بيكاسو مرة اخرى بالطبيب الذي يدرس تضاريس الجسم قبل تشريحه. ويقول انه رغم ميله لتسطيح الاشياء فانه يبني تلك السطوح المستوية بطريقة شاملة لتظهر وكأنها اشياء مجسمة ذات احجام مختلفة.

- جورج براك Georges Braque

يقول عنه ان هذا الفنان الملائكي الشجاع هو أول من استخدم الطابع الهندسي Geometrical للاشياء عام 1908، والذي كان متناغما مع حالة المجتمع آنذاك، فكان فنه معبرا عن الرقة والهدوء، جميل ومشع كاللؤلؤ.

- جان متزنگر Jean Metzinger

يصفه پولينييه بأنه التكعيبي الثالث بعد بيكاسو وبراك. ويقول انه فنان رائع لم يعطه الجمهور حقه المستحق. يمتاز بتصميمه الساحر وانشائه المتقن وتميزه بتضاد الظل والنور.انه ثمرة المنطق الدقيق الذي اعطانا فنا نقيا خال من كل غموض او تشويش ومفعم بالضوء والوضوح.

- ألبرت گليسز Albert Gleizes

يصف پولينييه هذا الرسام بأنه فنان الانسجام الجبار ذي السطوة الآسرة الذي يرسم بعقل وتبصر في فنه الجديد الذي يريد له ان يعود الى المبادئ الاولية بتكوين ساحر ذي جلال دراماتيكي.

- هوان كرس Juan Gris

وهذا هو فنان التكوينات العلمية الذكية التي تجسد ذلك الصفاء والنقاء الذي تنشده وتتميز به هذه المدرسة الجديدة.

- فرناند ليجيه Fernand Leger

يقول پولينييه "احب هذا الفنان الموهوب" الذي يقدم اعمالا جدية لاتستكين للتأثيرات الهابطة ولاتعتذر عن جرأتها وشجاعتها.

- فرانسز پيكابيا Francis Pikabia

تشكل اعمال هذا الفنان انتقالة منيرة وهي لاتنشد الترميز للموضوعات ولا تأبه بمعانيها ودلالاتها، بل تعتبر اللون هو البعد المثالي للتشكيل.

- مارسيل دوشامپ Marcel DuChamp

هذا هو الفنان المصر على قطع الوشائج مع الفن التقليدي لكنه يستخدم الفورم واللون، ليس لمحاكا ة أي شكل في الواقع، انما لاختراق جوهر الاشياء من أجل ان يضعه على الكانفس مع تجرده الكامل عن المفاهيم التي سبق ان ترسخت في ملكة عقله.

***

ا. د. مصدق الحبيب

(يا واد يا يويو يا مهلبية

فوق الصواني

سايحه وطريه

فى كل جلسه تلبس قضيه

وتخيل عليها

يا مشخصاتي

حسب الوظيفة .. ) أحمد نجم فؤاد

ليعذرني شاعر مصر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، وأنا أتماهى بافتتان وخجل مع عنوان قصيدته الباذخة ( ياواد يا يويو)، حيث ينتقل بنا عبر خيال تصويري شفيف، من وصف ذيل السلطة، المائل المتلون، الخفيف العجيني، الساخر المتذلل، إلى الأدوار السخيفة التي يؤمر بأدائها تحت الطلب، بكل أبعاد العبودية والتبعية والامتثال. فالمثقف "اليويو " هو هو كائن سيروري متغفل لا يتغير، مطبوع على السمع والطاعة، أعمى الرؤية والبصيرة، لا يجد مانعا من تدوير علاقته بالقابض على السلطة، متقمصا أعنة الهش، حتى يصير خوَّارًا ضعيفًا، يقايض ويناقض، يحاذر ويمتهن، بكل إيقاعات التخفي والتقنع بأشكال الكمون والاستعلام...

وهو على هذا النحو من البشاعة، يقارب عين حجة الاعلامي، ربيبه في العته، وناقله في الطريق والطريقة. وإن كان المفهوم الصحيح للاعلامي مخالف لما هو رائج اليوم، وما ينتبد من تشوهات الممارسة الإعلامية وأخلاقياتها الحذيرة.

وإذا كان المثقف يجتز قطائعه المعرفية وأبنية تصريف هذه الملاذات، من واجهة موقعه كفاعل إصلاحي ومجتمعي عضوي، فإن الاعلامي يترجم هذه الفعالية على مبضعين متنظمين، واحدتهما المعرفة بالأخلاق وفهمها وتأسيسها، وثانيثهما نشرها ومراقبة تنفيذها ورصد تأثيراتها على المجتمع والإنسان. وهو على هذا، فإنه الأقرب إلى الفعل العضوي منه إلى العمل المحدود.

فمن يرتضي قلب منظومته إلى مجرد لعبة أطفال، تستعاد نقرتها على المساحة فور انتهاء مهمتها في التحرك والمراوغة، ثم الالتفاف والتخفي؟ هل هو الاعلامي "اليويو" أم لعبة التحفيز على رهن المجتمع والحرية والمساواة والعدالة؟.

عندنا في تاريخ لعبة "اليويو" التي يطلق عليها باللهجة المغربية الشعبية "الطرمبيا"، يقتضي أن يستأثر اللاعب بها، بكل ماجريات الميدان. من واقع الأرضية ومحيطها وزمنها وشخوصها المحتملين.

وإذا انزلقت إحدى ورقاته عن تضمين روح هذه الخريطة، يصبح النفاذ لقاعدة اللعبة منذورا للتشوه والابتذال، والنقص والتقصير في تشكيل المنتوج وتحقيق أهدافه.

فالمثقف الذي لا يستحضر بدائله الإصلاحية، ولا يرتقي بمواقفه وقناعاته لمراتب التأثير وإحداث التغيير والتحول الديمقراطي، هو في مرتبة الاعلامي "اليويو"، المتصنع، الواجهة المدلسة للسلطة الآمرة، يستطيع أن يبيع أصوله الأخلاقية، ويعرض خدماته المحضية لمن يدفع الثمن؟!.

ولا يبقى لمثل النموذجين قائمة، فالتاريخ لا يرحم المدلسين، ولا يفتدي معدومي الضمير وبائعيه.

فانظر كيف رفع شأن الأصفياء القابضين على الجمر، ممن سجلوا مواقف الفخر والعزة والحرية الشامخة، كما هو الشأن بالنسبة لمواقف وآراء لازالت محفورة في ذاكرة التاريخ، نذكر من بينها مثالا لا حصرا، موقف الفيلسوف الفرنسي الفرنسي جون بول سارتر الذي أبدى النظر بكل تجرد من مسألة استعمار بلاده للجزائر، رغم صعوبة وضعه كمثقف مقرب من محيط الحكم، وهو ما اعتبر التزاما حقيقيا، بمحافظته على مبادئه حتى وإن اقتضى منه ذلك الوقوف ضد سياسة الدولة التي تحتضنه.

"إن قول الحقيقة وتصرفها بثبات ودقة يكاد يكون صعبًا، وربما يكون جادًا، مثل التحدث عنه تحت الترهيب أو العقوبة" كما يذهب إلى ذلك جون روسكين، لكن الافق الصعب غالبا ما يخرج من الآلام المبرحة، تلك التي ينتظرها الضمير الجمعي لتصير سلوكا بارا وقدوة يحتذى بها، كبذور الغموض عند لاوزي، بذور "تكمن في المياه الموحلة". يسائلها "كيف يمكنني إدراك هذا اللغز؟ يصبح الماء صافياً من خلال السكون. كيف يمكنني أن أصبح ساكنا؟ عن طريق التدفق مع التيار".

هذا المسار الطاعن في الحكمة هو السبيل الوحيد لضبط بوصلة النخب الثقافية والسياسية والاعلامية، حتى نتمكن من تصفية مياهنا السخيمة بقليل من السكون الذي يتدفق فينا مع تيار لا يرحم ؟!.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

"الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدىً ورحمةً للمحسنين".. لقمان4

مدخل الى كنه الحرف..

يعرف الحرف لغة على إنه الطرف والجانب ومنه قوله تعالى (ومن يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه).. الحج11 اي على طرف وجانب من الدين، ومثله حرف السيف وحرف الجبل وحروف الهجاء (اطراف الكلمة).

ويعرف الحرف اصطلاحا بأنه لفظ يدل على معنى من خلال كلام.

وإذا أردنا أن نجد تعريفا منصفا للحرف فنقول إنه أصغر وحدة لتكوين الكلمة. وقد أختلف العلماء في عدد الحروف الهجائية، فذهب بعضهم إلى انها 28 حرفا على اعتبار إن الالف والهمزة حرفا واحدا، وذلك لأن الالف يسمى همزة وتنطق نطقها وهذا مادعا إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي وطائفة أخرى من علماء اللغة، والحروف نوعان:

- حروف مبانٍ: هي التي تبنى منها الكلمة ويطلق عليها (حروف التهجي)

- حروف معانٍ وهي الحروف التي لها معنى مع غيرها مثل (حروف الجر).

وقد اختص علم الصرف بأبنية الكلام (اسم، فعل، حرف) واشتقاقاته، والميزان الصرفي هو المعيار الذي تقاس به الكلمة لضبط بنيتها ومعرفة حروفها من حيث اصالتها وزيادتها والمحذوف منها وهيأتها وضبطها بالحركات ومايعتريها من تغييرات.

وقد تناول علم الصرف الكلمات (الاسم الاصلي، والاسم المعرب) فوجد انها غالبا ماتكون على ثلاثة أحرف أصلية لذلك جعلوا ميزان الكلمة على ثلاثة أحرف هي (الفاء والعين واللام) وقد أختيرت كلمة (فعل) للفعل الثلاثي و (فعلل) للرباعي، وان سبب اختيار هذه الاحرف (ف، ع، ل) جاء للاسباب التالية:

- إن الفعل هو أعم الاحداث، وكل مايصدر عن الجوارح هو فعل مثل: قرأ كتب، سمع، قال، وهكذا.

- إنها تمثل مخارج الحروف وهي الشفة والحلق واللسان، فالفاء تمثل الشفة والعين تمثل الحلق، واللام تمثل اللسان.

وأما الفرق بين الحروف الاصلية والزائدة فهي كما يأتي:

- الحروف الأصلية: هي الحروف التي لاتحذف من الكلمة وإذا حذفت اختل معناها.

- الحروف الزائدة: هي الحروف الغير أصلية في الكلمة واذا حذفت لايحدث خلل في المعنى.

وتكمن أهمية الميزان الصرفي بما يأتي:

- معرفة الحروف الاصلية وتمييزها عن الزائدة وهي (س، أ، ل، ت، م، و، ن، ي، ه، ا) والتي تتجسد في عبارة (اليوم تنساه)-مع وجود عبارات اخرى- وهي على سبيل المثال لاالحصر

- الاهتداء الى مكان الكلمة في المعجم، فالمعجم مبني على الحروف الأصلية.

- معرفة الحركات والسكنات وطريقة نطقها ومعرفة مايزيد على الكلمة وماحذف منها، أو ماطرأعليها من تغيير في حروفها كالتقديم والتأخير.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن كنه الحرف وماهيته نأتي الى موضوع البحث وهو الحرف في القران الكريم.

والحقيقة يتناول موضوع البحث الحروف المقطعة أو النورانية في القران الكريم والتي حيرت العلماء والباحثين بتفسيرها، وقد خاض غمار هذا الموضوع الكثير من العلماء وتوصلوا الى نتائج شتى فهل أنصفوا الحرف باعتباره حرفا لذاته أو ضمن كلمة!

لنتأمل عدد الحروف العربية والتي عددها ثمانٍ وعشرون حرفا سنجد إن نصفها بالضبط، أي أربعة عشر حرفا وهو عدد الحروف المقطعة ولنطلق عليها في القرآن الكريم وهذا بحد ذاته إعجازلان الوسطية هي سمة من السمات التي دعا اليها الله في كتابه العزيز (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة 143، والحروف المقطعة-من الظلم ان نطلق عليها مقطعة لان كل منها آية والايات لاتقطع- والحروف بدون تكرار هي (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي) والتي تتجسد بعبارة (نص حكيم قاطع له سر)، ومهما اختلف المفسرون في طريقة جمع هذه الحروف لتكوين عبارة مناسبة مع إن الله جل وعلا لم يشأ وضعها في كلمة أوجملة بل أنزلها كما هي.

فلنتأمل هذه العبارة التي ربما تكون الاقرب-وهذا لاينفي استقلالية الحروف- بشئ من التفصيل فقد وردت كلمة نص ورغم إن القران يتكون من الكثير من النصوص التي تتناول مجمل تفاصيل الحياة على شكل سور قرانية محكمة جاءت لتوضيح وتفسير كل أمر على حدة كالزواج والطلاق والميراث وغيرها من المواضيع التي تتصل اتصالا مباشرا بالحياة وأغلب القوانين المدنية استندت واعتمدت بشكل أوبآخر على هذه النصوص لكن ورود كلمة نص تدل على إن القران كل واحد لايتجزأ.

ثم نأتي الى كلمة (حكيم) وهي اشارة واضحة الى الحكمة الالهية التي وضعها الله في القرأن باعتباره كتابا مقدسا يدعوا الى الحكمة والموعظة، والحكيم من اسماء الله الحسنى.

ويلي الحكيم كلمة (قاطع) للدلالة على قطعية الحكم الصادر من الله جل وعلا، تليه (له) فاللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم.

أما كلمة (سر) فهي المفتاح الذي يدعونافيها الله جل وعلا لتدبر كتابه (أفلا يتبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).. النساء82

 والحقيقة فعندما نخوض في أي موضوع فأننا نبدأ بالأصغر ثم الأكبر، وهو أمر منطقي للولوج الى أي موضوع، ونحن نبحر في عالم الحرف والذي يعتبر السر والمفتاح الذي ندخل منه الى عالم اللغة نجد إن الحرف الذي خصه الله بقسمه إنما هو سر من أسرار اللغة التي خص الله بها الأمة العربية وميزها على غيرها من الأمم (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ال عمران 110 وهذا التميز يقابله تميز آخر وهو اللغة التي جعلها بلسان القرأن (وهذا لسان عربي مبين). النحل103

وإذا ماعدنا الى الحرف أو مجموعة الحروف المقطعة التي وردت في تسعٍ وعشرون سورة من سور القرآن والبالغ عددها أربعة عشرا حرفا كما ذكرنا والتي أطلق عليها العلماء اسم (الحروف النورانية) والتي اختلف العلماء في تفسيرها سنجد ان كل حرف من هذه الحروف هو آية قائمة بذاتها ولو شاء الله لجعلها ضمن كلمة لكنه جل وعلا خصّها بالقدسية وابتدأ بها اوائل السور فهل توجد حروف مقدسة وأخرى اعتيادية؟

في الحقيقة وبما إن كتاب الله كله مقدس وإنه جاء بلسان عربي مبين مايعني إن الحروف كلها مقدسة لكن الله جل وعلا قد جعل نصف حروف اللغة أكثر قدسية من الاخرى (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).. الاسراء 21 وهذا التفاوت إنما لحكمة خص الله بها مايشاء من خلقه، ومادام الحرف آية فهو شأنه شأن المخلوقات الاخرى بحسب قوله جل وعلا (الم. تلك آيات الكتاب الحكيم).. 1 لقمان

وهذه الايات تشمل جميع الحروف المقطعة مثل (الم، المص، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن)

ومما تجدر الاشارة اليه ان حرف (ن) جاء على صورتين في القران الاولى بشكله المستقل (ن) في سورة القلم والذي يعتبر من الحروف المقطعة أو النورانية حيث قال جل وعلا (ن والقلم ومايسطرون).. القلم1 وهنا ذكر المفسرون ان (ن) يعني الحوت استنادا الى قوله جل وعلا (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لاإله إلا إنت سبحانك إني كنت من الظالمين).. الانبياء 87

ومن المعروف إن ذا النون هو النبي يونس بن متى الذي بعثه الله لهداية قومه والقصة المعروفة عن ابتلاع الحوت له.

لكن في الحقيقة ان (ن) ليست هي نفسها (النون) والتي تعني الحوت كما ذكر العلماء، إنما جاءت بمعنى مختلف واختصت بشأنها لتكون آية مستقلة من آيات الله جل وعلا وسرا من أسرار اللغة العربية المقدسة والتي اكتسبت قداستها من قداسة القرآن (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل).. النحل101

هذه الايات وحروفها أنما تدعم بحثنا السابق عن اللغة والتي كما ذكرها القرآن هي أيضا آية خصنا الله بها لنحمده كثيرا ونسبحه كثيرا.

 هذه القداسة التي خصنا الله بها حين سخر آياته لتكون لنا قبسا لكي نحسن ضيافتها ونخصها بالشكر والثناء ونحمد الله علي جميل هباته وعظيم خلقه، فكم آية أنزلها الله لنا ليكرمنا بها وكم آية نزلت لهدايتنا سبيل الصراط، وكم آية نزلت لترينا الخيط الابيض من الاسود، وكم آية نزلت لبر الوالدين والاحسان لهما ولذي القربى، وكم آية نزلت وهي تحثنا حثا على احترام الاخر والعطف والمحبة ونشر السلام قال تعالى (وجعلنا آية الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شئ فصلناه تفصيلا).. الاسراء12

***

مريم لطفي

يصعب أن تستقيم الحياة الإنسانية وتستوي موازينها دون فعل التعويض؛ ذلك أن الإنسان يعوض الغياب بالحضور، والفراغ بالامتلاء، والثبات بالحركة.. لدرجة أن كل شيء في حياتنا قابل للتعويض. لكن، كيف تعوض النفس غياب الأشخاص والأمكنة؟ هل ينتهي الاغتراب الروحي والوجودي بتعويض أشخاص بآخرين وأمكنة بأخرى؟ هل فعلا موطن النفس هو كل مكان أو فضاء، مادي أو معنوي، وجدت فيه نفسها الهائمة؟ هل يمكن للأشخاص أن يخلقوا اللحظة في الآن والهنا التي خلقها أشخاص آخرون في الماضي والهناك؟

يبدو هذا التعويض ممكنا نظريا، ولكنه مستحيل واقعيا؛ لأن اللحظة لا تكرر نفسها بالصيغة والكيفية نفسيهما، وإنما هناك لحظة مشابهة وليست اللحظة المفتقدة عينها. قد تبتعد عن الأشخاص والأمكنة التي يوجدون فيها، ولكن وجود أشخاص آخرين في الأمكنة والأزمنة نفسيهما لا يعوض ما افتقده المرء.. لذلك يبقى التعويض إيهاما للنفس أنها تكرر اللحظات نفسها، وأنها تعيش الأجواء عينها، وهي، إذ تفعل ذلك، فإنها لا تبرح دائرة ما اصطلح عليه فرويد "قهر التكرار". لكن هل الإنسان، فعلا، مجبور على السعي خلف التكرار: تكرار التجارب نفسها، والعلاقات الإنسانية والوجودية عينها؟ أليس للتكرار سبب وجودي يترك هوة ساحقة في النفس البشرية التائهة؟ ألا يعد التكرار سعي متواصل للوجود مرة أخرى في لحظة مختلفة ومع أناس مختلفين؟

فلئن نحن أخذنا العائلة مثالا، فإننا نلفي أنفسنا عاجزين عن تعويض أفرادها، والأجواء التي تخلقها.. صحيح أن للإنسان قابلية التأقلم والتعويض، والتأسي بالحضور تعويضا للغياب، ولكنه يبقى مع ذلك في حال ظمأ روحي ووجودي للعائلة وأجوائها حتى وإن كان بين أحضان عائلته الثانية، فإنه يظل مشدودا إلى العائلة. بيد أن هذا الفراغ والغياب اللذين يدخلان النفس البشرية في حال اغتراب روحي ووجودي لا يمكنهما أن يتبددا دون فعل التعويض النفسي والروحي. ولعل هذا ما يجعلنا كلما فقدنا شيئا سعينا إلى تعويضه بشيء آخر، والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على الأشخاص والأمكنة والأزمنة. يفقد المرء أباه فيجد تعويضا مؤقتا له في أمه، ولكن هل الأم تملأ فراغ الأب؟ هل وجود الأم معناه نسيان الأب؟

إن الأمر ليس بهذه السهولة، كما أن الغياب والفراغ اللذين يتركهما الأشخاص لا يمكن أن يعوضا إلا تعويضا كاذبا؛ لأننا، ونحن نزعم أننا شفينا من جرح الغياب، لا نقوم إلا بإيهام النفس أنها في حال توازن، وأن الغياب لم يعد موجودا، وأنه مجرد لحظة خلخلة لأركان النفس سرعان ما تتخطاه بالتعويض.

ويبقى الأمل في عيش التجربة الأولى بكل تفاصيلها وجزئياتها، والانصهار فيها والتماهي معها، أي عيشه في أصالتها ونقائها حتى تترسخ في أعماق النفس، ولا يزعزعها الغياب والفراغ والفقد، لأنها تكون نفسا ممتلئة باللحظة والتجربة الوجوديتين الأصيلتين.

***

محمد الورداشي

جريمة حرق القرآن الكريم وتشويه صورة الآخر المسلم هي من مرتكزات الحضارة الغربية

إنَّ ما يحصل اليوم من أعمال مسيئة للقرآن الكريم وتتبعها هجمات تشويهية ضد الرسول محمد (ص) هي ليست نتاج فرد في دولة مثل السويد، أو مجموعة من الأشخاص، أو الجمعيات المناهضة للإسلام في الغرب، بل إنَّ القضية هي أبعد من ذلك بكثير، وهي أفعال مرتبطة بالسياسة الغربية عامة وبالعقل الغربي الذي تبني هذه المسألة منذ قرون عديدة مضت، وهي مبنية على دلالات قصدية هدفها ليس فقط أثارة ملياري مسلم في الوقت الحاضر، بل غرضها الإستمرار بنفس المخطط القديم الذي يتجدد في كل عصر بوصف معين وبصفات ونعوت مختلقة يتبناها الفكر الغربي تجاه الآخر العربي المسلم ونبيه الكريم وكتاب الإسلام المقدس (القرآن الكريم)

إنَّ تعاقب الحقب الزمنية على مجموعة من الدلالات القصدية تجاه ظاهرة تبناها العقل الغربي في تشويه الآخر المسلم،  وجعلها من أساسيات الحضور لديه في وصف هذه الظاهرة، التي أصبحت من المرتكزات المهمة في هذا الحضور الميتافيزيقي الغربي، في توصيف صورة الآخر المسلم، وهذه الظاهرة التي قامت عليها عملية تقييم الأنا الغربي تجاه الآخر في كل أبعاده ومسمياته، وأخذت حجم مهم في الحقول المعرفية والثقافية الغربية،  كون هذا الآخر من كان يخالف ويغاير النظرة الكونية الغربية في صياغة العالم ثقافياً ومعرفياً، وكانت لهذا الآخر دلالات يّعرف بها في الذهنية الغربية على مستوى الحضور في ذهنية الجمهور الغربي، ولكل طبقة أو شريحة يكون فيها الآخر ممثل بوصف معين، أو طريقة يحاكيها أبناء الحضارة الغربية، مثلاً كان الآخر وخاصة المسلم الشرقي، وأكثر تحديداً القريب الى الحدود الجغرافية الأوربية، يعرف في الديانات الغربية ومنها المسيحية، بأنه كافر وقاتل لأبناء الديانة المسيحية في الشرق، وما الحروب الصليبية التي أطلقها الغرب الأوربي بممالكه وحكوماته إلا صورة من صور التعبير عن هذا الآخر الكافر الخارج عن السياق الديني في الغرب، وليس المغاير الذي يشكل حلقة تكاملية مع الديانة الأخرى .

إنَّ (الأنا الغربية) وفي إحدى تمظهراتها وهي في حقبة القرون الوسطى وما بعدها وخصوصاً في أوج سيطرة الديانة المسيحية على أركنا القارة الأوربية، وما بعدها الأمريكية الشمالية كانت تعطي للآخر المسلم، الذي هو ند لها بحسب اعتقاد السلطات الدينية في الغرب المسيحي، أوصاف خاصة، إذ ظهر وفق توصيفاته، للشرقي، والعربي، والتركي، والفارسي، صورة للشهواني القاسي، أو صورة البربري الفظ يجمع بين هذه الصور دين بسيط وبدائي ومتعصب وعدواني هو الإسلام، وكانت مسيحية القرون الوسطى قد بنت هذه الصورة، ونسجتها مخيلة تمركزها اللاهوتي الذي دفع الى حدوث أكبر مواجهة دينية بين الإسلام والمسيحية خلال الحروب الصليبية التي دامت أكثر من خمسة قرون راح ضحيتها الآلاف من المسلمين والمسيحيين ودمرت مدن ودويلات، لسبب تبني العقل الغربي في هذه الحقبة أوصاف الآخر المسلم، وهي لم تكن وليدة لحظتها، أي أن هذه النظرة ودلالاتها التشويهية، هي كانت من ارتدادات أفكار سابقة جعلت من السابق بين الشرق المتمثل بالحضارات القديمة الى حين قدوم الإسلام في مقابل الإمبراطوريات الغربية في حوض المتوسط وما وضعوه من أوصاف مختلفة، ومنها البربري والهمجي الذي كان ينافس باعتقاد التفكير الغربي في تلك الحقب، بلاد اليونان وبعدها الرومان، وما الحروب التي شهدتها هذه المنطقة، أي منطقة التماس بين قارتي أسيا وأوربا، ما هي الا مشاهد لهذا التنافس، الذي كان يغلب عليه انتقال الغلبة بين الطرفين كلما كانت استعدادات أحد الطرفين أقوى من الآخر، لكن مع هذا التنافس الشديد، كانت هناك صفات وأوصاف ساقها الإغريقي ومن بعده الروماني ضد الآخر الشرقي سواء كان في بلاد وادي الرافدين، أو بلاد فارس، أو في مصر القديمة وحضارتها الفرعونية وما قبلها كان أسلوبهم في إخضاع الآخر اولاً، تم تثبيت أوصافهم على وفق ما يريدون، وخصوصاً ما فعل الرومان بالشعوب الأسيوية والأفريقية بعدما اجتاحوهم وأخضعوهم لسلطتهم، وهذه الطريقة في الإخضاع والتشويه يشير اليها (مونتسكيو) في كتابه(تأملات في تاريخ الرومان) إذ يقول عنهم : طريقتهم نوع من الغزو التدريجي، بعد فوزهم على عدو يكتفون بإضعافه، يملون عليه شروطاً توهنه من دون أن يشعر بالأمر، إنَّ انتعش عادوا وأهانوه إهانة أكبر حتى يصبح خانعاً خاضعاً وهو لا يعلم متى حدث ذلك بالضبط، فإن الخضوع والخنوع وما يرافقها من عمليات تركيع للشعوب الأخرى تضفي على هذه الشعوب مجموعة من الأفعال والتصرفات التي تصبح جزء من حياته دون أن يعرف من وضعها فيه ومن عمل عليها، لكن في الحقيقة هي يتم الاشتغال عليها بشكل مستمر على وفق تخطيط واستراتيجيات معينه، تصبح بمرور الزمان آليات عمل ممنهجة تجاه الشعوب المعارضة لهذه السياسات، وتصبح آليات التعامل والصفات التي ترافقها والتي وصمت بها الآخر ثابتة في هذا العقل، الذي مثله في بدايات الصراع، لا نقول الأولى، بل هي التي تؤسس للخلاف الثقافي عند اليونان الذين كانت لديهم نظرة استعلاء ضد الشعوب الأخرى التي يصفونها بأوصاف مشوهة لأبناء هذه الشعوب التي تقع خارج ما يسمى بالحضارة الغربية، ويسوق لنا (ول وايريل ديورانت) في (قصة الحضارة) جزءاً من هذه الحالة التي يوصف بها الشعوب الأخرى لديهم، أي أن مفكري الحضارة اليونانية قسموا الشعوب الى شعوب عقلية ومنهم (اليونان) وشعوب شهوانية (الشعوب الشرقية) لذلك كان رأيهم بأن كل شعب من هذه الشعوب يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه الى الخرافات والأوهام ولا يعرف الا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية، وهذا السبب الذي حدا باليونان أن يطلقوا عليهم بلا تمييز أسم (Barbaroi ) أي الهمجي، والذي حاولوا تثبيته في ميتافيزيقياهم وتدوينه في مؤلفاتهم كصفات ثابتة لكل فعل بشري يقع خارج عقليتهم وحضارتهم، والتي أنتقلت الى من تبنى هذه الصفات وجعلها مركزية في تصوراتهم وفي مخططاتهم الأخرى. ومن ثم فإن دراسة الشعوب لا تقتصر فقط على الدراسة المباشرة دون سابق معلومات عن هذه البلدان والشعوب التي تقع خارج أرضهم، بل أن هذه الدراسات قائمة على اعتناق ما جاءت به كتب أسلافهم حول الحضارات الأخرى المنافسة، لذا فإن الأفعال الممنهجة التي نلاحظها حتى في الوقت الحالي في الحضارة الغربية جاءت منذ زمن بعيد وعقل ثابت وحضور ميتافيزيقي لكن البعض ومع الأسف، وخصوصاً في عصرنا الحالي يعتقد إنَّ كل الصفات الدونية التي تطبع بها حاليا بعض من أجيالنا توارثوها من الأجداد، على الرغم من أن ماضينا ورغم بعض الإخفاقات التي شابته، فإنه يروي لنا عن السابقين الكثير من الأعمال الجيدة التي قد لا تنطبق مع توصيفات الغربيين علينا، لكن في الوقت الحالي وجدنا أجيالنا والأجيال الأخرى المعاصرة لنا، تعترف بما يسوقه الغربي عن العربي المسلم، بل دائماً نرى أنفسنا أقل مكانه من الشعوب الغربية، حتى بدأ البعض من أبناء الشعوب العربية المسلمة يعتنق الأفكار الغربية عن الصفات المجعولة للمسلم العربي، لذا بدأت التراتبية تأخذ مأخذها من نظرتنا لأنفسنا وكأن مقوله (مونتسكيو)السابقة تنطبق على ما وصلنا اليه اليوم، كيف أصبحنا نوصف هكذا؟ ومتى بدأت هذه الأوصاف تأخذ مكانها في عقولنا ؟، فهل هي فعلاً من صفاتنا؟ أم إنَّ العالم الغربي بعد أن قسم العالم الى أول وثاني وثالث، أصبحنا نسمى بالعالم الثالث واقتنعنا بهذا المركز، وهو الأخير في التصنيف العالمي، حتى أن بعض مفكرينا عندما يتكلم عن مصطلح التقسيم يصف الشعوب العربية والمسلمة بهذا الوصف وهو منهم، بأنه من أبناء العالم الثالث، الذي يتخلف ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحتى أخلاقيا عن الشعوب الغربية، ومن ثم فإن الدين الإسلامي هذه الرسالة العظيمة هي لأبناء العالم الثالث، وحتى نبينا محمد (ص) على وفق هذا التصنيف لا يصبح مرسل لكافة البشر، لأن الديانات الأخرى في أغلبها لا تعترف بالإسلام ولا بنبي الإسلام، وهو ما وصفوه بأوصاف غير لائقة حتى أصبح نبينا الكريم (ص) صاحب الخلق العظيم وهو أفضل البشر بحسب الوصف الإلهي، أصبح نبياً للعالم الثالث الذي أكثر شعوبه من المسلمين، أو بعبارة أدق أن كل شعوب العالم الإسلامي تقريباً تقع ضمن دائرة العالم الثالث.

إنَّ المثالين السابقين عن اليونان والرومان، وما تبعهما من تشويه ذات دلالات مختلفة كانت هي الأساس في صنع عقل ميتافيزيقي غربي حافل بأنواع الدلالات الأخرى، هي دلالة بسيطة على ما حفل ويحفل به الفكر الغربي من أشارات كثيرة لهذا التشويه، الذي تحول فيما بعد وخصوصاً في عصور أخرى لاحقة الى قاعدة أساسية يقيّم بها المسلم /العربي / الشرقي، كما في حقبه عصر التنوير وما تلاها وصولاً الى الوقت الحالي، ففي حقبة عصر التنوير تغير التوصيف من صراع بين (كافر، ومؤمن) الى (متخلف، ومتنور)، المسلم متخلف يسعى وراء السحر والشعوذة والغيبيات التي يعتقد بأن الدين هو أساس فيها وهو من أسهم في صنعها في المجتمعات الشرقية وخصوصاً (العربية) منها بعد أن كانت في أساسها تعيش في الحضارات الأولى في ظل أنظمة استبدادية كما يعتقده (أفلاطون وأرسطو) في تنظيراتهم الفكرية عن الشرق القديم، والتي يكون فيها الحاكم هو من يمتلك أرواح شعبه في الشرق ويضحي فيها للأفكار المبنية على الخرافة والأوهام، لذلك كانت العقول مغيبة وتسمح بانتشار مثل هكذا أفكار في العالم الشرقي وفيما بعد العالم الإسلامي، مما جعل الحملات الاستعمارية تأخذ دورها في سلسلة الإجراءات العملية التي جعلت من الشعوب العربية والمسلمة ترزح تحت حقب جديدة من التخلف، وتعمل هذه الحركات الاستعمارية كما هو في وصف (مونتسكيو) للرومان، تعمل هذه الحركات على جعل الشعوب خانعة وخاضعة وما أن تستيقظ من سباتها في ظل الاحتلالات، حتى تجد هذه الأوصاف قد ثبتت وبات المواطن العادي في الشرق وإفريقيا يقتنع بهذه الأوصاف الدونية، وأصبحت عملية تثبيت هذه المعاني في الذهنيات الشرقية أسهل على الحضور الغربي من أن يسهم بصنع أوصاف أخرى خارج السياقات الثقافية، فأن الخرافات والأوهام والسحر والغيبيات هي من تملأ الذهنية الشرقية، بالشهوانية وغيرها، وهي من تجعل الإنسان الشرقي العربي خاصة يبحث عن الجسد وملذاته، وأصبحت عدد الزيجات التي شرعها (الله جل جلاله) في القرآن من ضمن الأوصاف السلبية للإنسان العربي الذي أصبح يصور في الإعلام الغربي بأنه يشبه الإنسان البدائي عندما يجهز على الفريسة، بينما يقابله الإنسان الغربي الذي أصبح يبحث عن حقوق الحيوان الذي يضطهد في الشرق بعدما تقدم كثيراً حسب زعم مؤسساتهم في حقوق الإنسان، وهذه الأوصاف جعلت من (ماركس) يؤيد ويعلق بإيجابية ويناصر الاستعمار البريطاني للشرق عامة والهند خاصة لإن هذا الاستعمار حولها من دولة راكدة وشعوب منغلقة على نفسها الى أمة منتجة وقادرة على النهوض من بين الأمم الشرقية الراكدة فكرياً وعقلياً في سباتها ولهذا السبب أيضاً أعتبر أن (الدين أفيون الشعوب) وهذا الوصف يوافق وصف الشرق الغارق بالخرافات والغيبيات وغيرها.

إنَّ هذه الدلالات التي توجه الاتهام باللوم بشكل مباشر وغير مباشر الى الدين الإسلامي والى رسوله الكريم(ص) والذي اعُتبر بأنه هو من أسس مجتمع قائم على أسس منهجية تحمل في داخلها بذور التطرف والإرهاب وما هذه الحركات التي تدعي الإسلام من أمثال (داعش) ومثيلاتها ما هي الا سياق طبيعي ذات دلالات ثقافية وأخلاقية كبيرة عن المجتمعات الأولى للإسلام التي كان النبي محمد (ص) قد أسس لها، وهذه الادعاءات والتشويهات لصورة الرسول الكريم ساهمت في تثبيت هذه الدلالات المشوهة التي تسيء للرسول بقصيدتها وطريقة سوقها في الذهنية الغربية لدى المواطن الغربي البسيط، الذي بدأ ينظر للمسلم وخصوصاً بعد أحداث (11 سبتمبر2011) بأنه إرهابي حتى وإنَّ كان هذا المسلم ملتزم بالتعليمات والقوانين الغربية، وحتى لو كان متعايشاً منذ عشرات السنين مع الأمريكي الذي ينتمي للحضارة البيضاء والديانة المسيحية، بل ما كان من المسلمين في أمريكا أن يحاولوا إثبات حسن نواياهم للغربيين في كونهم ليسوا إرهابيين، وأن من يقتل بأسم الدين الإسلامي لا يمثل كل المسلمين، ولو أمنا بهذه النظرية بأن كل مسلم إرهابي، لكان الآن الغرب يغرق في بحر من الدماء، وذلك لكثرة الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب منذ أزمان طويلة جداً.

لكن التحول الذي حصل في الغرب بعد أحداث (2011) أعاد الى الذهن الغربي وحفزته صورة الإسلام المشوه الذي كانت هذه الأحداث جرعة منشطة لإخراجه من عالم اللاوعي الى عالم الوعي الحضوري، ومن ثم فإن تحفيز الحضور الميتافيزيقي الغربي بصوره المشوهة عن الآخر المسلم كان لابد لها من أعادة ظهور في أوقات معينة تحت قضية أن الشعوب الأخرى يجب أن تبقى في وضعها وخانتها وخضوعها التي رُسمت لها منذ مئات السنين ولا تسعى مرة أخرى لعصيان النظام العالمي الجديد الذي بدأ بتشييد خارطته الهندسية على ارض الواقع مع اتفاقية (سايكس بيكو) وغيرها من الاتفاقيات التي دونت لعالم جديد، هو لنا وليس لهم، فإن عالمهم مبني على أسس مستقرة ومندفعة بطريقة سليمة الى الأمام لكن عالمنا الجديد يجب ان يظهر بحلة جديدة، ولكن بأوصافه القديمة، حتى إنَّ الرسم المعني للحدود سيجعل التنافس بين أبناء المرتسم الواحد يتنافسون في مبدأ التفضيل بينهم ومن هو مؤيد من قبل المرجعيات الغربية، وكأن مفكريهم يقولون : يتخاصمون العرب فيما بينهم، ونحن الذين نحكم من هو صاحب الحق، حتى يكون اشتغالهم ذاتي بأنفسهم دون الالتفات الى ما يُخطط لهم مستقبلاً، وهذا ما نعيشه اليوم، ويدفع ثمنه معنا الرسول الكريم (ص) الذي بدأنا نحمّله بعض سلوكياتنا بوعي أو بلاوعي منا، إذ أن الكثير من التصرفات التي نسبناها له وهو برئ منها، فنحن من صدقنا الغرب ونحن من صفقنا لهم ونحن من ثبتنا تعاليمهم علينا بحجة التفوق الثقافي، ونحن من أمددنا الغرب بثرواتنا وهو يتصدق علينا ونحن نتسابق على إرضائه، حتى وإنَّ كان ذلك على حساب الشعوب العربية والإسلامية، نحن من تركنا سيرة الرسول الكريم (ص) وتوجهنا لتصديق ما يقوله العالم الفلاني الغربي، من جمل وعبارات هي مكرر في أقوال رسولنا (ص)، بل أصبحنا نتعجب من أن المفكر الغربي قد مدح الرسول الكريم (ص) وكأنه يعطيه مصداقية في نفوسنا بدلاً من أن نقول بعبارة العالم الغربي بأن الرسول (ص) هو من يجب أن تقيم على شخصيته وكلامه وأخلاقه صور الآخرين، وليس هو من يقيم على لسان العالم الغربي الفلاني، ونحن نصدق بالمفكر الغربي ونندهش لوصف الرسول (ص) بهذا المعنى أو ذاك . ومن ثم فإن التشويه وقصديه الإساءة في الثقافة الغربية بحق الرسول (ص) كان لها وقعها في الواقع الثقافي الغربي على الرغم من قلة المدافعين عن الرسول (ص) من الغربيين الذين لا ننكر وجودهم في هذا المجال .

ومن ثم فإن كل ما يحصل من صورة التشويه وجريمة تدنيس القرآن الكريم وحرقه، وتشويه صورة الرسول الكريم من خلال الرسوم المسيئة وغيرها من الأفعال السيئة، أنها أفعال ليست بجديدة ولا هي قضية عابرة، بل هي من مرتكزات نظرة ثقافية مبنية على أساس التفوق العرقي للغربي الذي يرى العالم الذي يقع خارج الحضارة الغربية هو عالم يقع في المراتب الدنيا، وهذه الأفعال ستستمر لإن الآخر المسلم العربي خاضع لسياسة التهميش والأقصاء الحضاري .

***

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تعاني منها جميع الكائنات الحية. تتميز بتدهور تدريجي لا رجعة فيه في الوظائف الفسيولوجية وزيادة التعرض للأمراض المختلفة مع مرور الوقت. يتأثر معدل ومدى الشيخوخة بالعوامل الوراثية والبيئية، مثل النظام الغذائي ونمط الحياة والتوتر والتعرض للمواد الكيميائية السامة والمضرة. على المستوى الجزيئي والخلوي، ترتبط الشيخوخة بالعديد من الآليات التي تسبب الضرر والخلل في الحامض النووي والبروتينات والعضيات والخلايا. تتضمن بعض هذه الآليات الاضطراب الجيني، وتقصير التيلومير، والتعديلات اللاجينية، وفقدان البروتين proteostasis) (وضعف الالتهام الذاتي autophagy) (واختلال وظائف الميتوكوندريا، والشيخوخة الخلوية، واستنفاد الخلايا الجذعية، والاتصالات بين الخلايا، واستشعار المغذيات. يمكن أن يساعد فهم كيفية مساهمة هذه الآليات في أمراض الشيخوخة والأمراض المرتبطة بالعمر في تطوير استراتيجيات لتعديلها وتحسين النتائج الصحية. على سبيل المثال، ثبت أن بعض الفعاليات مثل تقييد السعرات الحرارية، والتمارين الرياضية، ومضادات الأكسدة، والعوامل المضادة للالتهابات، ومزيلات الشيخوخة senolytics) (وعلاج الخلايا الجذعية، والعلاج الجيني، والعوامل الدوائية تؤثر على بعض هذه الآليات وتؤخر أو تمنع ظهور الأمراض مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض التنكس العصبي وهشاشة العظام. لذلك، فإن توضيح الآليات الجزيئية للشيخوخة يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة لبيولوجيا الشيخوخة ويقدم أهدافا محتملة لتمديد فترة الصحة والعمر.

على أية حال، الإنسان في الوقت الحاضر يعيش فترة لا تزيد عادة عن 100 عام اذا لم يقتله المرض او حادث سير او حرب او يد طاغية، بينما تعيش الفئران بضعة سنوات، والببغاوات فترة اطول من البشر، والسلاحف الى ما يصل لبضعة قرون، وفي النهاية يتثخن الجلد وتتوهن العضلات ويشيب شعر الرأس فيودع الانسان الحياة في نهاية المطاف، فكما يقول الشاعر:

كل ابن أنثى وان طالت سلامته

يوما على آلة الحدباء محمول

ابحاث الشيخوخة

أحد التحديات الرئيسية في أبحاث الشيخوخة هو التمييز بين التغيرات البيولوجية التي تسببها الشيخوخة وتلك التي تسببها الأمراض. الشيخوخة ليست مرضا بحد ذاته، لكنها عامل الخطر الرئيسي للعديد من الأمراض المزمنة، مثل مرض الزهايمر وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والسرطان. ومع ذلك، فإن بعض الأمراض تؤدي أيضا إلى تسريع عملية الشيخوخة، مما يؤدي إلى انخفاض الأداء الوظيفي ونوعية الحياة.

تتمثل إحدى طرق دراسة علم الوراثة لشيخوخة الإنسان في إجراء دراسات الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS)، والتي يمكن أن تحدد المتغيرات الموروثة المرتبطة بأنماط ظاهرية مختلفة ذات صلة بالشيخوخة، مثل العمر، والصحة، والضعف، والتدهور المعرفي، والأمراض المرتبطة بالعمر. كشفت GWAS عن العديد من المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة البشرية الرئيسية، وبعض هذه المواقع مشتركة بين العديد من الأمراض المرتبطة بالعمر، مما يشير إلى آليات الشيخوخة الشائعة. على سبيل المثال، ترتبط المتغيرات في جين APOE بكل من مرض الزهايمر وطول العمر. يمكن أن توفر GWAS أيضا رؤى بيولوجية حول المسارات والآليات التي تشارك في الشيخوخة والأمراض.

هناك طريقة أخرى لدراسة جينات الشيخوخة البشرية وهي فحص الطفرات التي تسبب الشيخوخة المتسارعة في المتلازمات syndromes النادرة، مثل الشيخوخة المبكرة. تتميز هذه المتلازمات بالظهور المبكر للسمات المرتبطة بقصر العمر. غالبا ما تؤثر الطفرات التي تسبب هذه المتلازمات على الجينات المشاركة في صيانة الجينوم واستقراره، مثل إصلاح الحامض النووي، وصيانة التيلوميرmaintenance) (telomere، والتنظيم اللاجيني epigenetic) regulation). هذه الجينات ضرورية للحفاظ على سلامة ووظيفة الخلايا والأنسجة، ويمكن أن يؤدي اختلالها الوظيفي إلى عدم الاستقرار الجيني، والشيخوخة الخلوية، والالتهابات، والامراض.

تتمثل الطريقة الثالثة لدراسة العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان في التحقيق في التدخلات التي يمكن أن تطيل العمر وصحة حيوانات التجارب المختبرية، مثل الديدان والذباب والفئران والقرود. تشمل هذه التدخلات تقييد السعرات الحرارية، والتلاعب الجيني (genetic manipulation)، والعوامل الدوائية، والتلاعب البيئي. تستهدف العديد من هذه التدخلات نفس المسارات الجزيئية المتورطة في شيخوخة الإنسان بواسطة GWAS أو متلازمات الشيخوخة المبكرة، مثل إشارات الأنسولين / IGF-1، وإشارات mTOR. يتم حفظ هذه المسارات عبر الأنواع فهي تنظم جوانب مختلفة من التمثيل الغذائي والاستجابة للتوتر والنمو والبقاء.

واحدة من أكثر التدخلات الواعدة التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات هي إزالة الخلايا الشائخة. الخلايا الشائخة هي خلايا فقدت القدرة على الانقسام والتكاثر، لكنها تستمر في إفراز الجزيئات التي تدمر الخلايا المجاورة وتسبب الالتهاب. تتراكم الخلايا الشائخة مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بأمراض الشيخوخة والضعف. اكتشف الباحثون مركبات يمكن أن تقتل بشكل انتقائي الخلايا الشائخة. لقد ثبت أن عقاقير(Senolytics ) تحسن الوظيفة البدنية والإدراك وعمر الفئران. دخلت أدوية Senolytics) (أيضا في تجارب بشرية في المراحل المبكرة للشيخوخة التي تمثلها مؤشرات مختلفة، مثل هشاشة العظام والتليف الرئوي مجهول السبب ومرض الكلى السكري.

من التدخلات الواعدة الأخرى التي يمكن أن تطيل العمر والفترة الصحية في الحيوانات تعديل التغيرات اللاجينية. التغيرات اللاجينية هي التغييرات التي تؤثر على التعبير الجيني دون تغيير تسلسل الحامض النووي، مثل مثيلة الحامض النووي (DNA methylation)، وتعديل الهيستون، وتنظيم الحامض النووي الريبي غير المشفر. تتأثر التغيرات فوق الجينية بالعوامل الجينية والبيئية، ويمكن أن تتوارث عبر الأجيال. يمكن أن تؤثر التغيرات اللاجينية (او فوق الجينية) على جوانب مختلفة من الشيخوخة، مثل التمايز الخلوي، ووظيفة الخلايا الجذعية، والالتهاب، وقابلية الإصابة بالأمراض. طور الباحثون طرقا لقياس العمر اللاجيني للخلايا والأنسجة بناءً على أنماط مثيلة الحامض النووي. يمكن استخدام العمر اللاجيني كمؤشر حيوي للشيخوخة البيولوجية والتنبؤ بمخاطر الوفاة. وجد الباحثون أيضا طرقا لعكس العمر اللاجيني في الخلايا والحيوانات عن طريق عوامل إعادة البرمجة أو العوامل الدوائية. يمكن لهذه التدخلات استعادة الوظيفة الخلوية وتجديد الأنسجة.

بالإضافة إلى هذه الأساليب، حدد الباحثون أيضا بعض الجينات التي ترتبط ارتباطا مباشرا بطول العمر عند البشر. تسمى هذه الجينات جينات طول العمر ويوجد حوالي 200 منها، منها 20 جينا بارزا جدا. ومن أبرز جينات طول العمر IGF-1 وFOXO3A وNF-kB وAMPK وCETP وSIRTUIN1. قد تساعد هذه الجينات في تنظيم الالتهاب والاستجابة المناعية وإزالة السموم والتمثيل الغذائي ووظيفة الخلية والالتهام الذاتي. ومع ذلك، فإن دور علم الوراثة في طول العمر لازال غير مفهوم جيدا، وليس كل الأفراد ذوي العمر الطويل الاستثنائي لديهم نفس الاختلافات الجينية. توجد بعض الاختلافات الجينية الشائعة التي قد تؤثر على طول العمر في جينات APOE وFOXO3 وCETP. جين CETP، على سبيل المثال، يشارك في تبادل الدهون وله تعدد الأشكال (polymorphism) يسمى (rs5882) الذي يرتبط بعمر أطول، وانخفاض خطر الإصابة بالخرف، وبمستويات HDL أعلى. قد تتفاعل جينات طول العمر أيضا مع خيارات نمط الحياة للتأثير على الشيخوخة.

ومن جانب اخر ظهرت حديثا دراسة أجريت عبر تعاون دولي لعلماء من 14 دولة اكدت بأنه لا يمكن إبطاء معدل التقدم في السن وذلك بسبب القيود البيولوجية. تم اختبار فرضية "المعدل الثابت للشيخوخة"، والتي تقول إن كل نوع لديه معدل ثابت نسبيا للشيخوخة من مرحلة البلوغ. تم مقارنة بيانات المواليد والوفيات من البشر والرئيسيات، ووجدوا أن النمط العام للوفيات كان هو نفسه لدى البشر وباقي الرئيسيات". وهذا يشير إلى أن العوامل البيولوجية، وليست العوامل البيئية، تتحكم في نهاية المطاف في طول العمر فمتوسط عمر الإنسان زاد بسبب التقدم الطبي والاجتماعي، وبات الناس يعيشون لفترة أطول، لكن المسار نحو الشيخوخة لم يتغير.

وفي المقابل اظهرت نتائج دراسة اجريت في جامعة اكستر الامريكية أن التخلص من الخلايا العجوزة في الجسم والحد من عددها يمكن أن يزيد من نشاط باقي الخلايا ويحسن من مقاومة الشيخوخة في الجسم. كانت هذه واحدة من الطرق التي استخدمها العلماء لمحاربة آثار الشيخوخة، بالإضافة إلى محاولتهم تحفيز الخلايا الأخرى لزيادة أدائها. وفقا للدراسة المنشورة، اكتشف الباحثون أن عامل كبريتيد الهيدروجين يؤثر على بعض عوامل التوصيل العصبي داخل الخلية، ويجعل الخلايا البشرية القديمة تستعيد نشاطها. لكن المشكلة التي تواجههم هي أن كبريتيد الهيدروجين بكميات كبيرة قد يكون ساما، لذلك يسعون إلى تحديد الجرعة المناسبة. كما وجد كاتب المقالة ان وجود السيرم في غذاء الخلايا المزروعة في الاطباق المختبرية ضروريا لالتصاقها في قعر الطبق وبذلك يحافظ على بقاءها ويزيد من عمرها.

مؤخرا نشرت مجلة الطبيعة بحثا لنتائج واعدة حول التغييرات المرتبطة بالشيخوخة. تشير الورقة البحثية إلى اكتشاف جديد مفاده أن سرعة الاستطالة النسخية (transcriptional elongation)، أو المعدل الذي يتحرك به RNA) polymerase II ( على طول قالب الحامض النووي، يزداد مع تقدم العمر في خمسة أنواع مختلفة: الديدان الخيطية، وفاكهة الفاكهة، والفئران، والجرذان، والبشر. يوضح الباحثون أن هذه الزيادة في سرعة الاستطالة تؤثر على تضفير الحامض النووي الريبي RNA splicing)) وتكوين الحامض النووي الريبي الدائري، والتي يمكن عكسها عن طريق تدخلات إطالة العمر مثل تقييد النظام الغذائي وتقليل إشارات الأنسولين وIGF. علاوة على ذلك، يوضح المؤلفون أن تقليل سرعة الاستطالة بوسائل وراثية أو دوائية يمكن أن يطيل العمر والفترة الصحية في الذباب والخلايا البشرية.

هذا الاكتشاف مهم لأنه يكشف عن آلية جزيئية أساسية تقوم على تنظيم الشيخوخة والعمر عبر الأنواع (across species). كما يشير إلى أن استطالة النسخ هي هدف محتمل للتدخلات المضادة للشيخوخة التي يمكن أن تحسن الوظيفة الخلوية وتمنع الاصابة بالأمراض المرتبطة بالعمر. توفر الورقة أيضا علامة بيولوجية جديدة للشيخوخة البيولوجية بناءً على سرعة الاستطالة، والتي يمكن قياسها من خلال تسلسل الحامض النووي الريبي. وهكذا فإن الورقة تزيد من فهمنا لعلم الوراثة وبيولوجيا الشيخوخة وتفتح آفاقا جديدة للبحث.

بعض الطرق الممكنة لمنع الشيخوخة:

1. تقييد السعرات الحرارية: يمكن أن يساعد الحد من تناول السعرات الحرارية في إبطاء عملية الشيخوخة.

2. التمارين: تحافظ التمارين البدنية المنتظمة على صحة الأنسجة ووظائفها ويعيد التوازن الأيضي.

3. مضادات الأكسدة: الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة يمكن أن تساعد في تقليل الإجهاد التأكسدي ومنع الشيخوخة.

4. العلاج بالهرمونات: قد تساعد الهرمونات مثل الإستروجين والتستوستيرون وDHEA في منع التدهور المرتبط بالعمر وتعزيز الصحة العامة.

5. العلاج الجيني: قد تسمح لنا تقنيات الهندسة الوراثية وتحرير الجينات بتصحيح العيوب المرتبطة بالعمر في الحامض النووي والهياكل الخلوية الأخرى.

6. العلاج بالخلايا الجذعية: قد يساعد استخدام الخلايا الجذعية لاستبدال أو إصلاح الأنسجة والأعضاء التالفة في مواجهة آثار الشيخوخة.

7. ادوية الشيخوخة (Senolytic drugs): تدمر هذه الادوية الخلايا الشائخة التي تتراكم مع تقدم العمر وتساهم في الإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة.

8. تنشيط التيلوميريز: قد يسمح لنا تنشيط انزيم التيلوميريز، وهو الإنزيم الذي يحافظ على التيلوميرات، بإطالة عمر الخلية ومنع تقصير التيلومير.

9. الميتفورمين: الميتفورمين دواء يستخدم حاليا لعلاج مرض السكري، ولكنه قد يطيل العمر ويمنع الشيخوخة.

10. المركبات المضادة للشيخوخة: هناك العديد من المركبات التي تم تحديدها كعوامل محتملة لمكافحة الشيخوخة، بما في ذلك ريسفيراترول، رابامايسين، ومعززات NAD.

11. منع الطفرات الوراثية في عضيات الميتوكوندريا وهي مصادر الطاقة: استنساخ جينات الميتوكوندريا وحشرها في النواة حيث تكون محمية من مصادر استحداث الطفرات.

12. ازالة الخلايا غير المرغوب فيها مثل الخلايا الدهنية (خلايا السمنة): تحفيز جهاز المناعة للقضاء عليها.

13. التخلص من المواد السمية: تتراكم هذه المواد مع شيخوخة الخلايا حيث يمكنها ان تؤدي الى امراض كالخرف. هذه المواد يمكن تحطيمها  بالانزيمات التي يمكن صناعتها من قبل الخلايا الصحيحة.

14. تلف الاعضاء: يمكن تبديل الاعضاء التالفة باعضاء جديدة تم تكوينها عن طريق زراعة خلايا الاعضاء او زراعة الخلايا الجذعية.

في الختام، الشيخوخة هي عملية بيولوجية معقدة تحددها عوامل وراثية وبيئية. يمكن أن توفر العوامل الوراثية لشيخوخة الإنسان نظرة ثاقبة للآليات والمسارات التي تكمن وراء الشيخوخة والمرض، وتحديد أهداف التدخلات التي يمكن أن تطيل الفترة الصحية والعمر. تتضمن بعض الاكتشافات الحديثة في علم الوراثة للشيخوخة البشرية تحديد المواقع التي تؤثر على سمات الشيخوخة الرئيسية، ودور صيانة الجينوم واستقراره في الشيخوخة ومتلازمات الشيخوخة المبكرة، وإمكانية إعادة البرمجة الوراثية للشيخوخة لتأخيرها أو عكسها، وتحديد جينات طول العمر في البشر. توفر هذه الاكتشافات إمكانيات لتحسين صحة الإنسان واطالة عمره.

***

أ. د. محمد الربيعي

بروفسور في جامعة دبلن

 

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري ، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2- علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية.

3- لقد مر التفسير بأربع مراحل

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري و استمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير و التاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في التص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل

4- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية

5- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي

6- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم اسمه (قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات

7- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص

8- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج

9- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

10- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه

11-  ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

كثر من الناس يستنفدون خياراتهم ويستسلمون لليأس. أكاد أقول، وعبر مراقبتي لحياة البشر والقراءة عنها في الكتب والمصنفات، أن غالبية البشر هم من هذا النوع.

ومن جهة ثانية فإن الإنسان، ومنذ أمد غير قصير، سعى ويسعى لأنسنة كل ما حوله إلا نفسه، رغم اعتراف الغالبية، وعلى رأسهم النخب الثقافية، بإن الإنسان يعيش حالة اغتراب مفزعة في عصره الحديث، وخاصة حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية.

قال أحد الكتاب عن هذه الحالة، في مقال له (إنها عملية اصطدام المرء بجدار الحياة غير المرئي، ذلك الجدار الذي يصادفه الجميع في كل مكان، رغم أنه بلا هيكل أو جسد وبلا أبعاد محددة)، وأنا، وعبر مراقباتي وقراءاتي التي أخبرتكم عنها، تفهمت هذا الوصف وكنت أحد المقتنعين بوجود هذا الجدار.

أين يقوم هذا الجدار وما هي أوصافه ومن يحميه ويديم بقاءه؟

حامل المطرقة (الفيلسوف، بحسب توصيف فريدريك نيتشه) يقول: الجميع وأولهم المؤسسات، وأول هذه المؤسسات هي المؤسسة السياسية، بعد أن تخلت عن المهمة التي تكونت من أجلها: صناعة الحياة.

من يصنع الحياة اليوم، بعد أن تفرغت المؤسسات، بقيادة المؤسسات السياسية، لصناعة الحروب ومصانع الأسلحة والأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية، التي تدمر الطبيعة، وقبل هذا وما هو أهم منه، ملاحقة الإنسان ومصادرة حريته والتنكيل به وقتله على رأيه وأفكاره وصوته إذا ما ارتفع محتجاً ومندداً؟

في زمن الثورة التكنلوجية، عندما صار مجرد هاتف، أصغر من حجم كف الإنسان، يقلب لك العالم ويأتيك بأخبار كل زواياه الضيقة، في هذا الوقت بالذات نجد أنفسنا في الزمن الأشد حماقة والأكثر التباساً وبؤساً: حروب مجانية تقتل مئات آلاف الأبرياء، مجاعات مخجلة، أوبئة، تدمير للبيئة، اضطرابات مناخية مرعبة، ارتفاع درجات حرارة الطبيعة من حولنا بصورة تحدث فيضانات وأعاصير مدمرة، وكل هذا موجه ضد الإنسان من دون المؤسسات التي ترتكب أفظع الحماقات وبكل ما تحوز من استهتار بالإنسان والقيم.. بل وكل هذا موجه إلى الإنسان الفرد وكينونته التي لا تريد أن تراها المؤسسات حرة مستقلة وتقول رأيها، المخالف لحماقات من يديرون المؤسسات، وأولها المؤسسات السياسية طبعاً.

لماذا؟ لماذا لا تستطيع المؤسسات التعايش مع الإنسان الفرد الحر وصاحب الرأي المستقل، وهنا لا نقصد الرأي السياسي المستقل بقدر ما نقصد الرأي الفكري العام وككل؟

لنعود إلى غرفة الفلسفة التي باتت باردة وشبه مهجورة، بعد أن فرضت عليها المؤسسات إقامة شبه اجبارية في أروقة الجامعات. هل مازالت ذات المطرقة، التي حملها سقراط وافلاطون ونيتشه وسبينوزا....، بيد أصحاب تلك الغرفة؟ هل مازال أولئك السكان قادرين على طرق صنج العقل البشري بذات الحدة، ومازالت ترددات طرقاتهم تسمع وتهاب بذات التقبل الذي كان لهم ذات يوم؟

كل شيء اليوم معجون في مرق (هل عليّ أن أقول في دم، كي أكون دقيقاً؟) السياسة ومصالح وعقد ولؤم محترفيها، من حبة البارستيمول إلى لقاح كوفيد 19 (بصفته آخر الأوبئة الخطرة المنتشرة حالياً على كوكب الأرض) وكل هذا على حساب الإنسان الفرد وحريته الشخصية، والأهم حريته في أن يصرح برأيه الخاص في مجريات حياته الخاصة ومجريات ما يدور من حوله، سياسية ودينية وثقافية واقتصادية وفكرية. لماذا؟ لأن الإنسان الفرد يرتكب الحماقات، كما تقول المؤسسات. ماذا ترتكب المؤسسات إذن عبر مراقبتها لرأي الإنسان وحرية ضميره ومعتقده وأفكاره... بل وحتى أحلامه وهلوساته عندما يغضب على ما تخيط له المؤسسات وتجبره على ارتدائه؟

ألا يحق للإنسان الغضب والصراخ عندما تمطره الطائرات القاصفة بالصواريخ والقنابل الذكية (التي لا تخطئه كهدف لها)، في حرب لا يعرف لم وقعت ولا يدري في أي جيب تصب مصالح وأهداف ونتائج انتصار أصحابها، من زعماء المؤسسة السياسية؟

ألا يحق للإنسان أن يتظاهر ويصرخ محتجاً وهو يرى أن النهر الذي يشرب منه ويسقي مزروعاته، يحول مجراه أو يقطع ماءه عنه لأسباب سياسية؟ ألا يحق له أن يغضب وهو يرى أن الحرارة ترتفع من حوله وتسبب له اضطرابات مناخية قاتلة ولم يعهدها، (بل ولم يقرأ عن مثيل لها في كل تاريخ البشرية السابق)، لأسباب سياسية تتعلق بما ينتج الساسة من حروب وأسلحة تنتج درجات حرارة وحرائق تدميرية، تكاد تقترب من درجة انفجارات الشمس؟

كل هذا يجري وعلى حامل المطرقة أن لا يقترب (وليس يهدم بمطرقته فقط) ما تبني مؤسسات السياسة، بل عليه فقط أن يجد مخرجات (فلسفية) مبررة لما ترتكب في حق الإنسان وحقه في الحياة والحرية، التي (على ما يبدو) أن لا حياة ولا يستقيم أمر ملاكها - المؤسسات السياسية – من دون مصادرتها وإذلاله وتحويله إلى إمعة. أليس هذا ما يفعله أغلب ساسة الأرض؟

ولنعود مرة أخرى إلى غرفة الفلسفة ونقلب بعض أدراجها، لنرى ماذا تملك مطارقها من توصيفات لهذا الوضع المختل. يقول نيتشه (حامل المطرقة الكبرى) في وصف الفلسفة بأنها السبيل إلى السخرية. السخرية مم غير الوضع المختل الذي فرض على الحياة، ممن نصبوا أنفسهم سادة وأوصياء على حياة ومصائر البشر؟ أما جيل ديلوز فيرى في الفلسفة وسيلة لمحاربة الغباء. هل هناك أكثر غباءً، مما يستحق محاربته، من إنتاج المؤسسات التي تفتك بالإنسان وتصادر حريته؟ أما فوكو فلا يرى بحامل المطرقة غير محارب، لا يهدأ، للحماقة. هل على الأرض أكثر حماقة من مصادرة حرية الإنسان وصناعة الأسلحة والحروب لإفنائه وافساد الطبيعة التي توفر له أسباب الحياة؟

نعم الثورة الصناعية، ومن بعدها الثورة التكنلوجية، قدمتا للإنسان الكثير؛ إلا أن نظرة متفحصة للجهة التي يحرف بها الساسة منجزات العلم والتكنلوجيا، والطرق التي يستخدمونها بها، تدفعنا للتساؤل: ماذا يفعل هؤلاء بهذا الكوكب وساكنه المسكين (الإنسان)؟ إنهم يفسدون عليه كل حياته وشؤونه؟ إلى أين يقود هؤلاء هذا الكوكب؟ إنهم يفسدون ترابه وهواءه وماءه بكل ما يتوفرون عليه من لؤم وبشاعة. لماذا؟ هل العالم بيد مجموعة من المنحرفين؟

يا للبشاعة قبل السخرية! إنهم يفرضون علينا (الوجود الزائف) بحسب توصيف الفيلسوف مارتن هيدجر؛ وهذا الوجود المصطنع يفرض علينا بقوة السلاح وأجهزة الشرطة والجندرمة والمخابرات والجيش والدرك ليصير هو وجودنا اليومي، والذي لا يجب أن نعرف سواه، ومن يرفضه أو يتمرد عليه فمصيره القتل أو التغييب في السجون. من منح الساسة حق تزييف وجودنا؟ القانون الذي وضعوه بأيديهم ووفق ما ترى مصالح هيمنتهم على السلطة.

ماذا بقي لحامل المطرقة ليفعله في عالم الحماقة والتفاهة هذا؟ كل منحى من مناحي الحياة من حوله تشيء أو في طريقه لذلك... بما فيها مطرقته (الفلسفة)، التي تسعى المؤسسات، بما فيها الأكاديميات للأسف، إلى تشيئها: تحويلها إلى ايديولوجيات سياسية تؤطر (فكرياً) لمشاريع الساسة أو إلى مجرد لذة نصوص (فخمة بغموضها) بعد أن كانت أداة التحرش بالغموض الكوني وطريقة الإحاطة به وتفسيره وفهمه.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن من بين أهم مشاريع الساسة وأكثرها عتمة، كانت دفع حامل المطرقة (الفيلسوف) إلى ركن مطرقته والانزواء في برجه العاجي (الأكاديمي) ودفعه لإنتاج غموض مركب وتهويمات لقراءة التاريخ أو انتاج لوغارتمات جديدة تسند تطلعات الساسة إلى المزيد من كبح الإنسان ومصادرة حريته واحكام السيطرة عليه. وأمر مؤسف أن نجد بعض حاملي المطارق قد انساقوا وراء اللعبة من دون التوقف للنظر إلى الجهة التي يسير إليها هذا الكوكب، أو حتى للتساؤل عما سيحدث لهذا العالم، بعد أن صار حتى دخول الحمام يخضع لاعتبارات وأغراض سياسية!

هل لنا أن نتساءل، في النهاية، عن صورة العالم، فيما لو اختفى جميع الساسة منه؟ ربما لن يكون أجمل، ولكنه على الأقل سيكون بلا حروب ولا روائح جثث المقابر الجماعية المدفونة على عجل... وبالتأكيد ستعاود مطرقة سقراط العظيم التلويح من سفوح الأولمب.

***

د. سامي البدري - روائي وباحث

لمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات

توطئة: أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في العام 1987 حددت فيه، بأن يكون السادس والعشرون من يونيو من كل عام، يوما عالميا لمكافحة المخدرات، تقديراً منها للخطورة العالمية لتداعيات المخدرات، لما لها من أضرار جسيمة على النواحي الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.ولم تعد انواعها مقتصرة على (الحشيش، الماريجوانا، الكوكايين، والمورفين...) بل ظهرت مركبات جديدة لها تأثير واضح على الجهاز العصبي والدماغ، بل ان المخدرات نعدها بوصفنا انها (قاتلة الأحبة ومرتكبة الزنا)!.

والمفارقة ان العراق كان في السبعينات في ذيل قائمة الدول، فيما اصبح بعد 2003 من بين الدول الأكثر تعاطيا للمخدرات، وقد رجحت احصائية اصادرة عن الامم المتحدة ان السنوات العشر القادمة ستفتك بالشاب العراقي في حال بقي الوضع على ما هو عليه.

المخدرات في العراق

كان العراق في السبعينيات وما قبلها يعدّ الأقل نسبة في تعاطي المخدرات، وبنشوب الحرب العراقية الايرانية، بدأت المخدرات تدخل اليه.بل انها بدأت تزرع ايضا بحسب تقارير الاستخبارات الامريكية التي عزتها الى ان انقطاع التمويل المالي للجماعات الارهابية ادى الى زراعة اشهر نبتة مخدرات تسمى (الداتواره) بمناطق في محافضة ديالى، فيما افادت تقارير حديثة لمكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة تقول بوجود ممرين رئيسين الأول عبر الحدود الشرقية التي تربط العراق مع إيران وافغانستان، والثاني يوصل إلى أوروبا الشرقية، إضافة الى ممرات بحرية على الخليج العربي تربط دول الخليج مع بعضها.. وثغرات واسعة تستخدمها العصابات الإيرانية والأفغانية.

الجديد أن العراق لم يعــد محطة ترانزيت للمخدرات فقط، وإنما تحوَّل إلى منطقة استهلاك بين اوساط الشباب تحديدا. والاكثر من ذلك، ان فلاحين في ميسان وديالى كانوا يزرعون الطماطة توجهوا الآن الى رزاعة الخشخاش والقنب والنباتات المخدرة الأخرى، ونجحت في تسويقها لان الربح فيها سريع ومغري.

والمفارقة ان التقارير الرسمية تفيد بأن مدنا عراقية ذات طابع ديني (كربلاء مثلا) جاءت في مقدمة المحافظات في نسبة تعاطي المخدرات، وان احصائية لمستشفى الرشاد المتخصص في الادمان افادت بان نسبة المراجعين زادت على 70%، وأن التعاطي الذي كان على صعيد الشباب والراشدين، صار الآن على صعيد المراهقين والاطفال ايضا!.وان مخدرات ما كانت معروفة في العراق صار الشباب يتعطونها بالآلاف. فوفقا لوكالة عراق برس اطلق قسم الصحة النفسية بمستشفى البصرة العام صرخة استغاثة لمساعدته بعد رواج تعاطي مادة (الكرستال) بين الشباب ابتداءا بالمراهقين ووصولا الى طلبة الجامعات. والكرستال هذا الذي يشبه زجاج السيارة المهشم وصل سعر الغرام الواحد منه مئة دولارا، يجعل متعاطيه ينسى واقعه ويحلق منتشيا في الخيال.

لم يدرك حكام الاسلام السياسي كارثة اضرار المخدرات بين اوساط الشباب، فهي على صعيد الشاب تؤدي الى: تلف الجهاز العصبي، تعطل الطاقة الانتاجية، ارتكاب جرائم سرقة، الموت المفاجيء، والانتحار. وعلى صعيد الاسرة يصبح فيها الشجار افتتاحية الصباح وختام المساء، العدوان، قتل احد افراد الاسرة، الخيانة الزوجية، ممارسة البغاء والدعارة والقوادة واكراه محارمه على الزنا!.. والزنا بالمحارم!!.فيما تؤدي على صعيد المجتمع الى تهرؤ النسيج الاجتماعي، انحرافات سلوكية واخلاقية وجنسية، زيادة معدلات الجريمة، وتراجع القيم الاخلاقية الاصيلة، فضلا عن انها تشغل الدولة بمعالجة المدمنين وملاحقة تجار المخدرات والمتعاطين واضعاف الطاقة الانتاجية وشلل التنمية.

في العاصمة بغداد، افادت التقارير بانتشار تعاطي المهلوسات بين الشباب.ومع تعدد انواعها (سوبيتاكس، اكستازي، باركيزول.. ) فان اكثرها شيوعا هي حبوب «ال سي دي».. وكلها تعمل على جعل متعاطيها يفقد صلته بالواقع، بمعنى ان الشاب العراقي المحبط، المخذول، المأزوم نفسيا.. وجد فيها فرصة للهرب من واقع الخيبات والفواجع الى التحليق في عالم من النشوة والانطلاق بلا حدود.

ومرة اخرى نقول، ان السلطة لا تدرك حجم مخاطر هذه الحبوب، يكفي ان نقول عنها ان متعاطيها يذبح الانسان كما يذبح دجاجة، والشاهد على ذلك ان داعش كانت تستخدمه مع مقاتليها الذين كانوا يفجرون انفسهم ويتلذذون بقتل الآخرين ذبحا او حرقا.

وثالث الكوارث الاخلاقية، هي انتشار (الأيدز) بين اوساط الشباب، فوفقا لتصريح مدير عام صحة الكرخ لفضائية الشرقية، فان الايدز عاد الى العراق بعد خلوه منه لثلاثين سنة، وان بغداد تشهد اصابات كثيرة بين الشباب والشابات، المتزوجين وغير المتزوجين.

نظرية سيكولوجية عراقية

اعتاد علماء النفس في العالم استخدام الحيوانات (الفئران عادة) لاجراء اختبارات عليها تساعد على فهم الانسان حين يتعرض للضغوط مثلا. وعلى مدى السنوات العشرين الأخيرة، كان العراق فيها مختبرا سيكولوجيا على ارض الواقع تعرض فيها العراقيون الى ضغوط لم تحصل في تاريخ الشعوب المعاصرة، وقدمت نظريات جديدة لعلماء النفس.. نجود عليهم بواحدة منها نوجزها في الآتي:

(هنالك علاقة طردية بين تزايد اقبال الشباب على تعاطي المخدرات والمهلوسات

وبين تزايد شعورهم بالاغتراب والاحساس بانعدام المعنى من الحياة،

اذا كان حكاّم ذلك الوطن يزدادون ثراءا ويتركون اهله يزدادون فقرا).

اقتراحان

الأول خاص بالسلطة:

لأن الأطباء النفسيين وعلماء النفس المختصين بالصحة النفسية هم الأقدر على التعامل مع هذه القضايا، فان لدينا استراتيجية للتعامل معها والحد منها، وكل ما نطلبه من السلطة هو توفير الفرصة لنا لأنقاذ جيل كامل من الشباب يتعرض الآن الى اخطر ثلاثة قاتلة: المخدرات والمهلوسات والأيدز.. ورابعها الانتحار.

والثاني خاص بوزارة الصحة:

مع ان على رأس الوزارة شخص معروف بكفائته ونزاهته، وتربطنا به علاقة صداقة، فان معالي الدكتور صالح الحسناوي لم يشرك الجمعية النفسية العراقية في نشاطاتها، بل اقتصرها على الأطباء النفسيين، سواء على صعيد المستشارين او على صعيد نشاطات الوزارة الخاصة بالصحة النفسية، مع اننا كنا وقعنا مع رئيس جمعية الأطباء النفسيين السابق الدكتور نصيف الحميري وثيقة تعاون مشترك حققنا فيه نشاطات بينها مؤتمرات وندوات، وانا على يقين ان معاليه يدرك ان التعاون بين الأطباء النفسيين وعلماء النفس سيسهل تحقيق مهمتنا الانسانية النبيلة في حماية شبابنا من آفة المخدرات.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

لعل من مزايا المنهج الجدلي انه يحض الفكر على رفض كل ما يعيق تطلعه إلى فضائل (التغيير) الاجتماعي ومزايا (التطوير) الثقافي من جهة، ويحثه على مجانبة كل ما يشده إلى رذائل (الثبات) ورزايا (السكون) في مواجهة دفق الوقائع وفيض الأحداث من جهة أخرى . هذا في حين لا تفتأ رواسب الأصول الانثروبولوجية من السعي لإعاقة أي تقدم في مضامير الوعي وإيقاف أي تطور في ميادين السلوك . وكلما كانت سياقات المجتمع التقليدي أميل الى التأثر بتلك الأصول والانصياع لتلك الخلفيات، كلما تقلصت مساحات الجدلية الاجتماعية وضعف دورها في إيجاد المخارج المناسبة لتجنب الوقوع في شباك الخوانق البنيوية والعوائق الوظيفية المسؤولة عن تواتر الأزمات في الواقع وتكاثر الإشكاليات في الوعي .

ولعل من أسباب إعاقة أواليات التفكير الجدلي من اختراق حواجز البنية الاجتماعية المتكلسة والمتحجرة، ومن ثم حمل عناصرها على التفاعل والتمفصل البيني بما يفضي الى حراكها الدائم وتقدمها المستمر، هو رجحان كفة الأصول الانثروبولوجية المضمرة بين ثنايا الوعي الجمعي والمتحكمة في سيكولوجية مثل هذه الأنماط الاجتماعية التقليدية، خصوصا"وأن تلك الخلفيات والمرجعيات هي بمثابة مناجم لا ينضب ثرائها في مجال التصورات الاجتماعية، ولا يشح غناها في مضمار التمثلات التاريخية، ولا ينفد عطائها في ميدان الانزياحات الحضارية . لاسيما وأن الكيانات والتكوينات الجماعاتية (الأقوام والطوائف والقبائل) التي طالما كانت - وستبقى - الحاضنة العضوية لتلك الأصول، والمحفز الطبيعي لاجتياف أعرافها وقيمها والتماهي مع رموزها ومخيالها، لا زالت تتمتع بوجود اجتماعي طاغ وحضور ثقافي مسيطر .

ومما هو جدير بالذكر، ان دور هذه الظاهرة النكوصية لا يقتصر فقط على الإسهام في تأجيج الأزمات السياسية وتعقيد الإشكاليات الاجتماعية كما تقدم ذكره فحسب، بل ان تأثيرها السلبي يطال سيرورات الجدلية الاجتماعية ذاتها، من خلال عكس مسار الديناميات الموكول إليها تحقيق التطور الحضاري المنشود، كما سبق وبيناه في دراسة لنا تحت عنوان (الجغرافيا العراقية ومفارقات الديالكتيك الحضاري) . عازين ذلك الى دور (العوامل الذاتية) الناشطة في هذا النمط من المجتمعات المأزونة سياسيا"والمتشظية اجتماعيا"، والتي غالبا"ما كانت معرقلا"أساسيا"ومعيقا"فعليا" لأواليات وديناميات (العوامل الموضوعية) المشارك الرئيسي في دفع تلك السيرورات لبلوغ مراحل النضج والاكتمال . بمعنى ان الخاصية الجدلية للوعي لا تني تعاكس الخاصية الجدلية للواقع، إذ كلما أمعنت عناصر هذا الأخير في انتهاج مسار التقدم الاجتماعي والاستجابة لضرورات التطور الحضاري، كلما عمدت أصول الكيانات والمكونات الانثروبولوجية الى تحريف سيرورات الوعي باتجاه تصورات وسرديات وسياقات سابقة، كان الواقع التاريخي قد أسقط شروطها وتجاوز معطياتها وتخطى علاقاتها، الأمر الذي يجعل من عمليات الانزياح عن القديم والانفتاح على الجديد صعبة وغير ممكنة، ان لم تكن باهظة التكاليف "سياسيا" و"اقتصاديا" و"اجتماعيا" و"ثقافيا" و"حضاريا".

وكحال الغالبية العظمى من المجتمعات التي لا زال ماضيها يقرر توجهات حاضرها ويؤطر توقعات مستقبلها، فان ما يعيق قدرة الجماعات والمكونات العراقية على التفكير بكيفية (عقلانية) ناضجة تتيح لها فهم ما يضطرم في رحم المجتمع من تقاطعات وتصادمات، واكتناه ما يشترطه الواقع الموضوعي من ضرورات واستجابات، والاندراج، من ثم، داخل سيرورات التقدم الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري وتفاعلات الترقي الإنساني، بما يجعلها تواكب تلك التحولات القيمية من شأنها تسهيل عمليات التحول والانتقال من طور (التبربر) الى طور (التحضر)، وتمكنها من مجاراة تلك الانتقالات الحضارية من حقبة (التبدون) الى حقبة (التمدن)، بأقل قدر ممكن من العوائق بنيوية، أو الانقطاعات التاريخية، أو الصدامات أصولية، أو الارتدادات القيمية .

ولعل ما يثير الأسى في النفس ان الأصول الانثروبولوجية المتحكمة بأواليات بنى الوعي وأنماط الثقافة لدى الجماعات العراقية المتذررة، لم تبرح تمتلك من مقومات القوة والصلابة ما يمكنها من مقاومة التغييرات الاجتماعية ومناهضة التحولات الحضارية فحسب، وإنما يجعلها مصدر لا يستهان بدوره في إثارة المشاكسات الذهنية وخلق الممانعات النفسية، إزاء كل محاولة يبديها الوعي التقليدي للتخلص من قيود الرتابة التي تكبل تطلعه، والخروج من شرانق العطالة التي تعيق تحرره .

***

ثامر عباس

يعد النهوض بتدريس مادة اللغة العربية في مناهجنا وممارساتنا الصفية هو نهوض بالعملية التعليمية التعلمية ككل، لأن اللغة العربية هي لغة التدريس بالمغرب في كثير من المواد، ولهذا فإن أي تقدم حاصل في درس العربية، وفي أي مكون من مكوناتها سينعكس بالإيجاب على المتعلم في كل المستويات التعلمية. ولا يمكن أن نجوّد ونطوّر من دروس اللغة العربية إلا بالوقوف على تجويد وتطوير الممارسات الصفية وكيفية التعامل مع هذه المكونات وإعادة النظر في البرامج التعليمية.

إن تطوير تدريس مكون النصوص ضمن مادة اللغة العربية  في السلك الثانوي التأهيلي يستوجب الوقوف أمام متطلبات تلاميذ هذه المرحلة وفهم حاجياتهم وتعثراتهم، بشيء من العمق والتحليل والتفسير، لهذا ارتأيت أن يكون موضوع مقالي هذه المرّة؛ حول تدريس النص النقدي، لمعرفة الطريقة التي يدرس بها هذا النص، ومعرفة أهم الصعوبات والعراقيل والتعثرات التي تواجه تلاميذ السلك الثانوي التأهيلي في دراسته بشكل عام، وتلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب بوجه خاص.

للنص النقدي  مكانة جد مهمة في منهاج اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي، إذ نجد نصوصا نظرية في بداية كل وحدة من الوحدات، يتم بها التمهيد للنصوص  الإبداعية، وقد اعتبرت نصوصا نظرية، بينما هي نصوص نقدية، تعرف بالخطابات الشعرية  وبأسسها ومقوماتها، وتمهد لها مثل نص انبعاث الشعر العربي لمحمد كتاني، ونص الشعر الرومانسي لعبد المحسن طه بدر، ثم نص قضايا الإطار الموسيقي للقصيدة لعز الدين إسماعيل، وأخيرا قصيدة الرؤيا لأحمد سعيد أدونيس. كما نجد في المجزوءة الأخيرة من  هذا المنهاج مناهج  نقدية حديثة في المجزوءة الرابعة وهما منهجين اثنين، "منهج اجتماعي وآخر بنيوي" ، كما نجد نوع آخر من النصوص وهي النصوص التطبيقية، التي تطبق آليات المناهج النقدية المدروسة في مقاربتها لنصوص الأدب. وبالموازاة مع مكون النصوص يدرس تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب النقد في مكون المؤلفات أيضا، من خلال مؤلف نقدي "ظاهرة الشعر الحديث "لأحمد المعداوي المجاطي.

ما يواجهونه تلاميذ السنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية من صعوبات وعراقيل في دراسة النص النقدي، قد يكون راجعا لعدم التعرف على مثل هذه النصوص في السنوات السابقة بالطريقة المرجوة، الشيء الذي يحول دون تفاعلهم وتواصلهم الفعال مع هذه النصوص وفهمها فهما جيدا. كما يواجه المدرس أيضا مجموعة  من الصعوبات في تدريس هذه النصوص.

لقد تم تقسيم منهاج السنة الأولى بكالوريا إلى أربع مجزوءات أساسية، حيث يشترط في النماذج المختارة أن تكون ممتثلة لخصائص الفنون النثرية، ومبلورة للقضايا النقدية والأدبية ومساعدة على استيعابها بكل وضوح وجلاء. فموضوع المجزوءة الأولى: الشعر العربي القديم بين التعبير عن الذات والتعبير عن الجماعة. أما المجزوءة الثانية: الشعر العربي القديم ومظاهر التحولت، ثم المجزوءة الثالثة:  بنية النص النثري القديم ووظيفته. وأخيرا المجزوءة الرابعة: قضايا أدبية ونقدية، وتشمل نصوصا تجسد القضايا التالية: (عمود الشعر العربي، أغراض الشعر العربي، التخييل الشعري، اللفظ والمعنى، الطبع والصنعة، الموازنة بين الشعراء).

وقد تم تصنيف قضايا عمود الشعر، وأغراض الشعر، والتخييل الشعري، ضمن قضايا أدبية . بينما تم تصنيف قضايا" اللفظ والمعنى، والطبع والصنعة، والموازنة بين الشعراء، ضمن قضايا نقدية".

وقد اختيرت مجموعة من النصوص لدراسة هذه القضايا في "كتاب الممتاز في اللغة العربية": نص " عمود الشعر" للمرزوقي، المقتطف من مقدمته، شرح ديوان الحماسة. ثم نص الأغراض الشعرية لحازم القرطجاني. إضافة إلى نص التخييل الشعري لابن سينا.أما في كتاب النجاح في اللغة العربية فنجد النصوص الآتية: نص " أبواب الشعر" للمرزوقي. ثم نص "أغراض القصيدة العربية "لأبي محمد عبد الله بن قتيبة ضمن كتابه "الشعر والشعراء". كذلك نص "الصدق و الكذب على التخييل"، لعبد القاهر الجرجاني،  المقتطف من كتابه أسرار البلاغة. بينما اختيرت للقضايا النقدية في كتاب النجاح في اللغة العربية، النصوص التالية: نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني، المقتطف من كتابه دلائل الإعجاز، ثم نص المطبوع والمصنوع، لابن رشيق القيراواني المقتطف من كتابه " العمدة في نقد الشعر". دون أن أنسى نص الموازنة بين الطائيين في الافتتاح بذكر الوقوف على الديار، من كتابه "الموازنة". أما في كتاب الممتاز في اللغة العربية، فنجد النصوص التالية:

نص اللفظ و المعنى، لعبد القاهر الجرجاني.، نص الطبعة والصنعة لابن قتيبة، نص الموازنة بين أبي تمام و البحتري، للأمدي. كما تم اعتماد مؤلف نقدي لعبد الفتاح كيليطو "الأدب والغرابة.

أما النص النقدي في كتاب الجذع المشترك لم تول له أهمية بالرغم من وجود نصوص نثرية وشعرية قديمة تناسب توظيفه للتعريف بها مثلا وبخصائصها، على الأقل توظيفه في نصوص قديمة نظرية، أو أقوال نظرية مثلا في التعبير والإنشاء، وبهذا يتم التمهيد لنصوص نقدية من بعد. فهذا المنهاج لم يهتم بالنص النقدي لا في نصوصه الأساسية، ولا في التقديم للنصوص الشعرية. فقد كانت هنالك إمكانية لإدراج النص النقدي في مجزوءة من مجزوءات هذا المنهاج، وهي مجزوءة الحجاج، خاصة أن نصوص هذه المجزوءة تعتمد على الحجاج والإقناع، وذلك باقتراح نص نقدي حجاجي حول قضية من القضايا التي اختلف بشأنها النقاد القدامى، مثل قضية اللفظ والمعنى، وذلك بشرط أن يكون النص مناسبا لمستوى المتعلم.

فمؤلفي هذا الكتاب لم يعملوا على إدراج المناهج النقدية داخل هذه السلسة، فقد اكتفوا بمجزوءة الحكي والحجاج والشعر العمودي، و ونعتبر هذا تقصيرا في حق هؤلاء التلاميذ.

بعد تكوين صورة عامة عن مسارات النقد وكيفية إدراجه في البرامج الدراسية  في السلك الثانوي التأهيلي، أتساءل عن ما مدى نجاعة توزيع النصوص المختارة التي ذكرناها سابقا؟.

للكتاب المدرسي أهمية كبيرة في العملية التعليمية التعلمية، وذلك بكونه "وسيلة ديداكتيكية منظمة لمحتوى مادة دراسية حددت موضوعاتها مسبقا انطلاقا من أغراض وأهداف معينة، حسب برنامج دراسي يلزم المدرس والمتعلم تطبيقه." فالكتاب المدرسي" ليس وسيلة فقط، بل هو جوهر العملية التعليمية التعلمية لكونه هو المحدد الأساسي للمعلومات التي ستدرس للتلاميذ كما وكيفا" .

أول ما سجلته من  ملاحظات في هذا الصدد تتعلق  بعدم إدراج النقد الأدبي في الجذع المشترك، أي السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، وهو ما ينتج في نهاية السنة متعلما غير قادر ولا يملك الاستعداد الكافي لتحليل نماذج النصوص النقدية في السنة الأولى بكالوريا، والتي كتبها نقاد بارزون في الساحة النقدية، فإذا كان هذا التغييب للنقد الأدبي في الجذع المشترك ،نظرا لأن مستوى التحصيل العلمي أو الاستعداد الإدراكي للمتعلم لا يسمح، فنصوص الأولى بكالوريا تضعف هذه الفرضية، لأن النصوص النقدية المختارة في السنة الأولى بكالوريا تتطلب متلقيا له دراية ومعرفة مسبقة بالنصوص النقدية العربية القديمة، وهذا الشرط للأسف لا يتوفر لا في التلميذ القادم من السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي، ولا في تلميذ السنة الأولى بكالوريا الذي تراكمت عليه المجزوءات الثلاث، وما احتوت عليه من قضايا. وكل هذه القضايا التي تم طرحها في هذا المنهاج لم تراعي الفئة المستهدفة لأن النقد القديم يحتاج أولا إلى وقت طويل في عملية تدريسه، فالمتعلم هنا عليه أن يعرف المراحل الكبرى التي قطعها النقد  الأدبي خلال عصوره المختلفة، ومن جهة أخرى فهذه المواضيع في حاجة لقدرة التلميذ على التفكير النقدي.

وهذا صعب لأنه يحد من فاعلية تلقيه لمثل هذه النصوص، فالتلميذ لم يصل بعد إلى الحد الذي يتوفر فيه على أدوات تساعده على فهم وسبر أغوار هذه النصوص.

والسبب الرئيسي هنا يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الموضوع النقدي من ناحية، وطبيعة النصوص المختارة الموجهة لهذه الفئة من التلاميذ من ناحية أخرى. كما أن التقسيم الذي تم اعتماده في هذا المنهاج لا يبدو مقنعا، لأن العناوين المدرجة ضمن ما اصطلح عليه ب"قضايا أدبية" وهي قضايا نقدية أيضا، بغض النظر عن ذلك فالمتأمل لهذه النصوص، يلاحظ أنه تم حذف فقرات مهمة من النصوص الأصلية، وتم التصرف فيها، ما يؤكد عدم مراعاة شروط النقل الديداكتيكي، وعدم المحافظة على وحدة النص النقدي وتماسكه، ومن زاوية أخرى فالطابع الطاغي في الكتاب المدرسي الخاص بالسنة الأولى بكالوريا هو طابع تكريس المعلومات، وشحن ذهن التلميذ بالمعارف الجاهزة، دون أن تترك له الفرصة لتنمية طاقاته وممارساته النقدية والتحليلية التي من الممكن أن تفتح أمامه فرصة للتفاعل مع النص الأدبي.

ولعل هذه الملاحظات المسجلة في مكون النصوص تنطبق على مكون المؤلفات أيضا، فيمكننا مناقشة كتاب "الأدب والغرابة" الموضوع في السنة أولى بكالوريا  الذي لم يكن اختياره صائبا، ولا متوافقا مع أفق انتظارات المتعلمين، ففي هذا المؤلف النقدي يشرح ويبسط عبد الفتاح كيليطو آراءه الدقيقة حول الأدب، والنوع الأدبي، وتصنيف الأنواع وشرحها وتوضيحها شرحا تاما، وبحث في تاريخ الشاعر وفي البلاغة، وغيرها من المفاهيم الإشكالية، إضافة إلى تقديمه تحليلات تأويلية طريفة لنصوص من التراث القديم.

والمؤكد أن الهدف من كتاب كيليطو هو تثبيت المعرفة النقدية، أما بالنسبة لقارئ هذا المؤلف فوجب أن تتوفر فيه مجموعة من الصفات لكي يفهم ما يرمي إليه المؤلف، منها توفره على ذاكرة معرفية غنية، لكي يكون قادرا على مواكبة ما يقدم له من معرفة نقدية. ولعل هذا الشرط لا يتوفر إلا في القارئ المتخصص، الذي له تجربة كبيرة في قراءة كتب النقد والأدب وغيرها من العلوم والمعارف الإنسانية العامة. لكن هل يجدر بنا إقراء هذا الكتاب لمتعلمين لم يسبق لهم أن اطلعوا على أي كتاب نقدي في تجربتهم القرائية؟ فالإجابة واضحة جدا. وهي أن هذا الاختيار كان غير صائب بحكم معارضته للمبادئ التربوية، التي تؤكد على مراعاة التوافق بين المعرفة وسياق التعلم ومستوى المتعلم.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الاختيارات غير الصائبة تحول دون تحفيز وتشجيع التلاميذ على القراءة والمطالعة التي يعاني سياقنا التعليمي من النقص فيها، ذلك أن المتعلم في حاجة ماسة إلى معرفة أفكار يفهمها وتتناسب مع قدرته الاستيعابية والمعرفية، وإذا فرضت عليه مثل هذه المؤلفات التي لا يفهمها يهجر قراءتها، ويستعين بالكتب الموازية لمجاراة أنشطة الفصل عبر التلخيصات والأعمال الجاهزة على الشبكة الإلكترونية.

وبخلاف ما يتوفر في برامج الأولى بكالوريا، تبدو الدروس النقدية المقررة بالسنة الثانية بكالوريا، ملائمة لسياق التعلم، وذلك عائد  حسب وجهة نظرنا إلى الارتباط الوثيق بين النصوص النقدية والإبداعية، فقبل أن يشرع المتعلم  في سبر أغوار خطاب من الخطابات الإبداعية، يطلع على نص نقدي /نظري يقدم ذلك الخطاب ويعرف به ويبين خصائصه ومقوماته. وهذا يتكرر مع ستة  خطابات  إبداعية في الكتاب المدرسي "الخطاب الشعري الإحيائي، الاتجاه العربي الرومانسي، تكسير البنية الشعرية، القصة القصيرة، المسرحية"، كما هو الحال في الخطابين النقديين الأخيرين "المنهج البنيوي والاجتماعي" يتعرف المتعلم على نصين نظريين يقدمان المنهجين المقررين قبل الانتقال إلى تطبيقهما على نصوص أدبية، ولعل النقطة الإيجابية في هذا الترابط بين النقد وموضوعه، تتحدد في تقييد النص النقدي بموضوعه الأساسي وتوضيح وظائفه في صورة عملية تطبيقية في المقام الأول. ناهيك عن التكامل بين محتويات المؤلف النقدي "ظاهرة الشعر الحديث" ومحتويات الدروس الشعرية في مكون النصوص، فمن خلال تظافرهما المعرفي والمنهجي، تتكون الصورة العامة للتحولات التي عرفها الشعر الحديث سواء على مستوى السياق أو البنية أو الموضوع. وأخيرا تم اختيار نصوص ملائمة في عمومها في مستويات اللغة والبناء وطريقة التقديم. لكن ما يؤاخذ على هذا المنهاج هو الحيز (داخل الكتاب/ المقرر) الذي وضعت فيه المناهج النقدية، باعتبارها مناهج جد مهمة وسيمتحن فيها تلاميذ السنة الثانية بكالوريا.

وما ينبغي التأكيد عليه في هذا المبحث أن اختيار نصوص النقد بما فيها المؤلفات وكيفية إدراجها وتوزيعها في الكتب المدرسية، هما عمليتان تخضعان لرؤية قائمة على مستوى المتعلمين وتحصيلهم الدراسي، واستعدادهم للتلقي المعرفي والمنهجي، هذا بالإضافة إلى ضرورة الانتباه إلى التكامل مع المكونات الدراسية داخل مادة اللغة العربية ككل من جهة أولى، ومن جهة ثانية ضرورة الانتباه إلى التناسق المرحلي المتدرج في المعرفة النقدية المقدمة إلى المتعلم من جهة ثانية.

إذن هذه من أهم الأسباب الكامنة وراء نفور التلاميذ من النصوص النقدية، فالنصوص النقدية لا تراعي أفق انتظار التلاميذ في عملية التلقي  والتقبل، فإن قمنا بوصف عام للمناهج النقدية، والوقوف على ما تم تقديمه في المنهاج الدراسي من قبل المؤلفين من نصوص نظرية وأخرى تطبيقية، فإنّ أول ما يمكن ملاحظته هو الحيز المكاني الذي وضعت فيه هذه المناهج، حيث ساهم هذا الحيز بطريقة غير مباشرة في عدم تفاعل التلاميذ معها، خاصة وأن تلاميذ السنة الثانية بكالوريا مطالبين بامتحان وطني، لذا فهم يغادرون المؤسسات التربوية قبل إنهاء المقررات الدراسية، نظرا لكثرة الدروس مقارنة مع عدد الحصص، وإن تم إنهاء المقرر يتم بسرعة دون فهم أغلب التلاميذ لهذه المناهج ودون الوقوف على تعثرات التلاميذ فيها. من الممكن أن نقترح هنا أن يعتمد المتعلم على نفسه في البيت ويتمم المقرر، لكنه لا يمتلك ما يكفي من الكفايات التواصلية التي ستساعده على فهم وشرح وتحليل هذه النصوص بشكل فردي.

أما بخصوص الطريقة التي قدمت بها هذه المناهج فكان من الأفضل تقديم المنهج البنيوي على المنهج الاجتماعي، خاصة وأن المتعلم يجد صعوبة في فهم هذه المناهج وخاصة المنهج البنيوي لأنه لا يكشف عن كل ما بداخله، بل وجب على المتعلم أن يقوم بالكشف عن أسراره.

أما بخصوص نصوص المنهج الاجتماعي كما هو معلوم، فهذا المنهج انبثق من رحم المنهج التاريخي فالسؤال المطروح هنا إلى مؤلفي الكتاب المدرسي، بما أن التعريف الذي تم تقديمه في الكتاب المدرسي للمنهج الاجتماعي يوضح العلاقة بين المنهجين فلماذا تم فصل المنهج التاريخي عن المنهج الاجتماعي، ولم يتم دمجهما معا، ففي الممتاز على سبيل المثال تم وضع عنوان عريض للمنهج الاجتماعي، ما يعني أن نجد نصوصا تجاوز بين الاثنين والتي تدل على عدم الاختيار الصحيح للنصوص.

أما فيما يخص التمهيد الذي وضع في الكتاب المدرسي بمثابة إطار عام للتعريف  بالمناهج، فلم يتم فيها شرح بعض المصطلحات النقدية التي سيجد التلميذ صعوبة في فهمها. فالتمهيد هو اللبنة الأولى التي سيبني فيها التلميذ معارفه بخصوص هذه المناهج، أي ليست لديه معرفة مسبقة بها، والتمهيد هو المنطلق الأساسي الذي سيستطيع التلميذ أن يبني من خلاله أرضية معرفية للتفاعل مع النصوص المقررة داخل المنهاج الدراسي.

من وجهة نظري فالنصوص المقررة في الكتاب الدراسي الخاص بالسنة الثانية بكالوريا، هي نصوص تدرس بطريقة سكونية تقدم المعارف الجاهزة للتلميذ، وذلك كله من خلال التعريف بالكاتب وحياته وبمؤلفاته، انتقالا إلى الشرح اللغوي أي شرح الكلمات الصعبة، وصولا إلى القراءة المنهجية بمختلف مراحلها، وهذه الطريقة وإن كانت تدل على شيء فهي تدل على تلك المعارف التي وجب على التلميذ أن يكون على دراية بها، ما يمكن التلميذ من الحصول على كل شيء دون أي مجهود وفي نفس الآن لا يحصل على شيء. في حين أن إشراك التلميذ في العملية التعليمية لبناء تعلماته مهم جدا، وأول ما يشترط في هذه العملية هو أن يقرأ التلميذ تلك النصوص الأدبية قراءة منهجية وتحليلها وفهمها، باعتباره هو محور أساسي وطرف رئيسي في العملية التعليمية التعلمية، وليس مجرد مستهلك ومتفرج سلبي.

أنسل من هذا المنعطف وأحاول اقتراح حلول تم استنتاجها مما سبق؛  فتطوير وتجويد الممارسة الصفية يرتبط بالمدرس، المدرس/ة له الدور الأكبر  في نجاح تدريس النص النقدي، فهو وحده الذي يستطيع بتجربته وخبرته وممارسته للمهنة، أن يعالج الثغرات والتعثرات الحاصلة في اختيار النصوص المقررة، وكذلك اختيار الطريقة والمنهجية المناسبة من أجل نقل ديداكتيكي فعال لهذه النصوص هذا من جهة، ومن جهة أخرى دور المدرّس/ة يتضح جليا في تحفيز المتعلمين وتشجيعهم على تلقي هذا النوع من النصوص، عن طريق تشويقهم إلى أهميتها ووظيفتها في إضاءة النصوص الإبداعية. كما أن دوره يتضح أيضا في قدرته الخاصة على الربط بين المجزوءات، ووضع المتعلمين  في سياق النص وربط هذا النص بعلاقاته مع النصوص الأخرى.

هذا دون أن أنسى التدرج في وضع النصوص النقدية في الكتاب المدرسي والتمهيد لها منذ السنة الأولى من السلك الثانوي التأهيلي. وذلك عن طريق إضاءة النصوص الشعرية والنثرية بنصوص نقدية في بداية كل مجزوءة تعرف بها، أو أقوال نقدية لبعض النقاد في مرحلة القراءة المنهجية، أو أنشطة التقويم. كما أشير إلى اختيار نصوص نقدية ملائمة للفئة المستهدفة ولمستوياتهم المعرفية، وعدم التصرف في النصوص المختارة بشكل يخل بتماسك أفكارها ووحدتها. وإن كان من الضروري التصرف فيها فينبغي أن يكون هذا الأخير لأهداف تربوية وبيداغوجية.

كما يجب الحرص على الربط بين النصوص النظرية النقدية والنصوص الإبداعية، حتى يدرك المتعلم أن الهدف من النصوص النقدية هو التعريف بالنصوص الإبداعية وتقويمها والكشف عن عناصرها الفنية ومقوماتها. ثم مراعاة الترابط والتكامل بين المجزوءات والوحدات، وذلك بأن تكون النصوص النقدية تعالج قضايا تنسجم مع النصوص الإبداعية في منهاج السنة الأولى بكالوريا من سلك الثانوي التأهيلي، كما هو الحال في منهاج السنة الثانية بكالوريا من شعب الآداب والعلوم الإنسانية. إضافة إلى  النقل الديداكتيكي للنصوص الذي يجب أن يكون  ملائما، وذلك بنقل النص من سياقه النقدي الأدبي، إلى سياقه التعليمي مسطرا في ذلك مجموعة من الأهداف الواضحة ومراعيا في ذلك المستوى المعرفي للمتعلمين، معتمدا طرقا ومنهجيات واضحة تمكن المتعلم من أن يتعلم ما ينبغي أن يتعلمه، من أجل بلوغ الأهداف المرجوة والوصول إلى الكفايات الموضوعة .

***

من إنجاز الأستاذ: لوطة فؤاد

تنهمك الدول النامية وغالبية دول العالم الثالث بوضع خطط للتنمية في بلدانها سواءً أكانت غنية أو فقيرة في مواردها، ورغم أن بعضها حقق نجاحات عمودية في مجالات التصنيع أو الزراعة إلا أن غالبيتها أغفلت جوانباً غاية في الأهمية تلك التي تتعلق بنوعية الإنسان وأدائه الإنتاجي والاجتماعي والسياسي ودوره في عملية التطور النوعي للبلاد في مختلف القطاعات. وباستثناء مراكز المدن المهمة التي تتكثف  فيها الأنشطة الثقافية والسياسية والجامعية، فإن غالبية ما حولها من بلدات وقرى وتجمعات بشرية تعاني من إشكاليات معقدة في نظامها ووضعها الاجتماعي والوطني وما تمتلكه من ثقافة وتعليم، ناهيك عن ارتفاع مخيف في نسبة الأمية الأبجدية والحضارية رغم التقدم الهائل في وسائل التواصل والإنترنت، إذ ما يزال إهمال الدولة والإرث الاجتماعي الثقيل متكلساً في السلوك والعادات والتقاليد المرتبطة منها بالأديان والمذاهب أو بالأعراف الاجتماعية، ناهيك عما تفعله الأميّة والبطالة والفقر المدقع في تشويه وإلغاء مفهوم جامع للمواطنة والانتماء الموحد للوطن، حيث يُذيب الفقر وتدني المستويات المعيشية وانعدام العدالة كل هذه المفاهيم في المواطنة والانتماء والولاء بل يلغيها لصالح مفاهيم وتركيبات أخرى لا علاقة لها بالوطن والأمة.

إن عملية التحول للنظام الديمقراطي ليست قراراً تتخذه هيئة عليا في البلاد أو يتضمنه دستور دائم، بقدر ما هي نهج تربوي وسلوك اجتماعي، وليست ممارسات سطحية لا علاقة لها البتة بالفكر والنظام الديمقراطي، بل إن ما نشهده اليوم في بلداننا لا يتجاوز كونه ديمقراطيات فوقية تحاول اختزال هذا الفكر والنظام بعملية تبادل مواقع السلطة عن طريق الانتخابات التي تخضع لذات الأدوات التي استخدمتها النظم الشمولية في الشرق الأوسط والعالم الثالث في مجتمعات تعاني من ضعف في التعليم وأميّة بأشكالها المتنوعة تسود قطاعات واسعة من الأهالي في المدن وبشكل أوسع في الأرياف، وهي التي تنتج حينما تجتمع جميعها أمية وطنية.

ولا شك بأن هناك عاملين مهمين يعملان على إضعاف واضمحلال الثقافة الوطنية التي هي القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي؛ هذين العاملين يستخدمان كأدوات وسلالم لتسلق السلطة، وهما الشحن الديني أو المذهبي أو التكثيف العشائري، وفي الحالتين يتم مسخ النظام الديمقراطي وإضاعة فرصة لبلورة مفهوم جامع للمواطنة خاصة في البلدان متعددة المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية، حيث تتلاشى فكرة المواطنة أمام الجهالة والضبابية في مفهومها الذي يُقزم البلاد ويختزلها في عرق أو قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة أو فرد، وهي برأيي واحدة من امتدادات البداوة وتراكم التخلف والتجهيل المتعمد من قبل معظم الأنظمة التي تسلّطت على البلاد، وذلك من خلال عمليات غسل الأدمغة وتسطيح العقول الذي تعرض له المواطن طيلة عشرات السنين خاصةً في العراق منذ قيام مملكته مطلع القرن الماضي وحتى تقزّيمها في حزب أو عرق أو دين أو مذهب؟

إن ما يواجه العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ومن ماثلهم في التكوين السياسي والاجتماعي اليوم ليس إرهاباً منظماً وتدخلات مخابراتية وسياسية أجنبية بقدر ما هو هذه الحاضنات الأمية والعقلية المسطحة التي أصبحت بيئة صالحة لانتشار الفساد والعصابات والميليشيات وأفواج من الإرهابيين والقتلة وتجار السياسة والمخدرات، تحت خيمة الولاء الديني والمذهبي والعنصري خارج أي مفهوم للانتماء الوطني الجامع خاصة في بلدان تعج فيها المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية.

بلداننا اليوم بأمس الحاجة إلى تنمية الإنسان وتأهيله وطنياً أكثر من حاجتها الى تنمية في مجالات أخرى، لأن تنميته وتأهيله هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كل تنمويات البلد، وبدونها لا يكتمل إعمار ولا تصنيع ولا إنتاج، إنها حقاً عملية إعادة تأهيل مجتمعاتنا بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً حتى البرلمان!

***

كفاح محمود

سُئل قائد الهند العظيم المهاتما غاندي ما هي أحسن لحظة عشتها في حياتك ؟ فأجاب هي اليوم، أما اذا سئلت العربي والمسلم نفس السؤال يقول لك: هي عصر الاسلام الذهبي، عصر الخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، فالماضي محفور في مخيلته حاجزا عنه صيرورة التاريخ، هكذا علمه منهج الدراسة. فحين يسود عصر الفقه الوهمي يختفي الوعي ليحل محله عصر الفوضى والجهل والتدمير، وهذا هو تاريخنا الاسلاي المكتوب.

وحين يسئلون عن عهد الخيانة للسياسيين الحاكمين عند المسلمين اليوم، نقول لهم منذ وفاة صاحب الدعوة، هذه حقائق التاريخ على المؤرخ ان يعترف بها امانة للتاريخ، فالوطن والانسان ينادي المؤرخ ضرورة الاعتراف بحقيقة فساد قلم المؤرخ والفقيه بعد ان دمرنا تاريخ السلطة ورجل الدين، وحولنا الى أكذوبة التاريخ، فالسلطة لهم والمال سائب لا مالك له في الوطن، انهبوه كيفما شئتم وهذا ما حصل ويحصل اليوم في وطن العراقيين دون قانون، أرث قديم حفره فكر التراثيين فينا وحسبناه دين.هنا يبرز دورالمنهج الأخلاقي في صحوة الوعي العقلي للتغيير، فأين المنهج الجديد، ؟

واليوم تظهر أول بادرة حضارية في عهد المسلمين حين ينبري الامير السعودي الشاب محمد بن سلمان ليقضي على اسطورة البخاري والتوجه نحو الاسلام الصحيح اسلام الحرية الحقيقية والدولة المدنية الدستورية، حاكم شاب يؤمن بالحداثة ويلغي من فكره التخلف والتخريف، لتنتهي الى الابد نظرية:"اعتزل الفتنة وصلي خلف الغالب" لأنهاء صحيح البخاري كذبة التاريخ، ونأمل ان يتوسع العمل لنكتب لنا تاريخ جديد قائم على الحق والعدل لا على باطل فقهاء الدين، فمتى نعرف خطي القوة والضعف عند المسلمين ونميز بينهما.

للضعف أصول، وللقوة أصول،

اصول الضعف ظهر مباشرة بعد وفاة صاحب الدعوة، وبدء التعامل مع الواقع الجديد حيث أصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، حين ظهرت العصبية التي تحيط بالحاكم، فبدء التزييف للتاريخ بما يناسب حاجة الحاكم المطاع، وبالتدريج اصبح الفقه خادم للسلطة فبدأ نظريات التبرير، حتى اصبح الحاكم الظالم وفق التنظير الجديد أفضل من انعدامه، فبدأت مظاهر هذا الاتجاه تبرز للعيان كقائد، فقلت جهة مابين الحياد وصاحب السلطة التي لجأ اليها كل متردد وضعيف.

والمظهر الثاني للضعف هوظهور تيار الارجاء، الذي كان نموذجا لخط الضعف وضياع الحق بالتقادم بعدان تم الوقوف مع صاحب الشوكة والاستسلام للمنتصر وان كان ظالماً.وظل النص يفسر لصالح صاحب السلطة، من هنا ولكي تستمر حالة الضعف أبتكروا نظرية أيقاف الاجتهاد وتقريب علماء الجبر وتشجيع فكرة القدر، اي ان ما حصل ويحصل مربوط بقضاء الله ولادخل للانسان فيه.:"وما تشاؤون الا ان يشاء الله، وهنا اصبح لا يصح انينسب الفعل الى فاعل غير مختار.

مثل هذا التوجه في العصر البويهي "334هج" الكليني صاحب كتاب الكافي والشيخ المفيد في كتابه الارشاد والطوسي في كتابه الاستبصاروكان تمهيدا لظهور علم الاصول ونمو حركة الاستنباط الفكري.بغيةالابتعاد عن عصر النصوص املا في الانفراج الذي اعتبروه تحديا علميا وفكريا لنظرية المذاهب وتشجيع علم الغيبة أملا بابعاد شرعية الخلافة العباسية واحلا التوجه العلوي.والهدف سياسي بحت لا ديني، وفي عهد كاظم اليزدي الذي مثل سلوك الضعف والطاعة للسلطة والتهاون مع الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918 وطرد العثمانيين من العراق.

وهكذا فشل الفقهاء من نقل المبادىء الدينية الى تشريعات مطبقة.

ثم جاء العصر السلجوقي "450هج"الذي مهد لعصر الاستبداد والطاعة متمثلا بالماوردي" 450هج" حين اسس لنظريةاهل الحل والعقد الذين يضعون على البيعة واجب الطاعة والنصرة، والغزالي"ت505هج" ونظريتهالاعتراف بالسلطة القائمة لأن البديل هي الفوضى حتى لو كانت الخلافة غير مستوفية لشروط العقد وعدم محاربة استقرار الظلم والباطل وجاء من بعدهم ابن تيمية "ت728 هج" الذي اجاز فصل الدين عن الدولة يعني الفوضى".هؤلاء كلهم اسسوا لنظرية الفقيه السلطوية الدكتاتورية دون الشرعية.

وهكذا فشل الفقه وسلطتهم الجائرة من تحويل المبادي الدينية الى تشريعات مطبقة حتى استبد الضعف بالشعب حين جعلوا من الغنيمة بديلا للسيف، ومن المداورة بديلا للسياسة , ومن التبعية بديلاعن المشاركة.

ان أخفاء الوثيقة النبوية الدستورية طَمس التشريع في عهد الامويين والعباسيين لتعارضه مع حكم الغاصبين."فجاء الحكم العضوض" الذي يتداوله الحالكم الدكتاتوركما اسلفنا، فلم يعد قانون الشورى له مكانة الاحترام و التثبيت، فقامت الدولة على السيف والغاصبين والمُغتصبين، فكيف نطلب من سلطة الباطل اليوم تغييرحقوق الاجيال القادمة وهم بالقانون لا يؤمنون وبرسالة محمد لا يعترفون، وعن عصر التيقن بعيدين،؟.

هكذا ظهرت سلطة الاسلام التي يتباهون بها الفقهاء اليوم، سلطة بلا دستور ولا قانون، ولا حتى اخلاقية الحكم، فعن اي اسلام يتحدثون اليوم، اسلام مرجعيات الشيعة ام السُنة المبتدعة من الفقهاء دون تأويل، أم الداعشيين.

من هنا توقفت الدعوة الدينية ولم يعد لها من تأثير مباشر في التغيير، بل ظلت كعقيدة دينية مقدسة يفتي فيها الفقيه دون تأصيل.؟ أدخلت المنهج الدراسي واصبحت عند الطالب حقيقة دون تأصيل.حتى مات فينا اي أمل في التغيير.وها كما ترون اليوم كيف يتحكم الجاهل والعدو في حياة العراقيين.

وبهذا التاريخ المظلم الذي بنيناه فقدنا العقلانية الاخلاقية والدستورية والعلمية، وحقوق الانسان، فسمينا عصرنا بالعصر الاسلامي الذهبي، وان الاسلام هو الحل، "ولا ندري أي حل يقصدون، حل فقدان القانون، أم حل جز الرقاب، أو وما ملكت أيمانكم بأهانة المرأة وبيعها سلعة في سوق الاربعاء وتقديمها هدايا بين المتنفذين.

فحلت صناعة المؤمن الجاهل، بدلامن صناعة المواطن المخلص (أنظر تخريب التعليم)، وصناعة السيف، بدلا من صناعة القانون (انظر صناعة قتل العلماء والمفكرين، حين ادركوا ان أمتزاج الدين بالسياسة ينتج عنهما الأستبداد الكبير وخضوع الشعب بالترهيب. وهذا هو هدفهم في تفريق الحقوق ولا غير، كما نراه اليوم في سلطة الحاليين الذين حولوا الدولة الى عملية سياسية لأماتة مفهوم الدولة دون قانون، ومن أمثالهم كثير، حتى اصبح المواطن يعامل على اللقب والاسم والقبيلة،

على الكتاب والمؤلفين ان يبحثوا لنا بجدية البحث العلمي الرصين لا ان يجتروا في كتاباتهم واطاريحهم الجامعية والقصص اليومية والشعر الحديث، التراث الميت القديم، اذن لماذا نحن متخلفون عن بقية العالم الى اليوم حتى في الحقوق والواجبات.لكننا شطار حين نرفع شعار، الأسلام هو الحل" ولا ندري أي اسلام يقصدون، ؟ اسلام قيادات الشيعة اوالسُنة الفاسدين، ام داعش الاجرام، أم قتلة العلماء والمفكرين، قللوا ايها المثقفون من كتابات واطاريح التراث واتجهوا نحو حقيقة التغيير.مسئولية وطنية تقع على عاتق اساتذة الجامعات اليوم بالذات بعد ان اصبحت قيادات التعليم العالي تحتلها اللاكفاءات في التنفيذ من اصحاب شهادات التزوير.

ليس امامنا اليوم الا ما جاءت به الوصايا العشرلكتب السماء في كل الديانات في العدل والحرية والحقوق، "الأمن والأمان والأطمئنان والكفاية والعدل " لترفع عنا: نظرية الخوف، والهزيمة امام التجربة الاسلامية الفاشلة، ويرفع عنا اليأس والحزن والضعف من الفشل الروحي الكبير،؟ ولا يتم هذا الا بتغيير الرأي الفقهي الخاطىء الى علم تقني صحيح.

نعم، نحن نمر اليوم بمرحلة الجهل المطبق الذي خلفته لنا مؤسسة الدين منذ البداية ودكتاتوريتها الباطلة في التنفيد، التي فرقت المجتمع الى فرق واحزاب متناحرة 73 فرقة في النار الا واحدة ولا ندري من اين جاءت بالغيب الواحدة، والغيب محدد برب العالمين، احاديث مزورة أخذتها من مسلم والبخاري وبحار الانوار (أفة الاسلام الصحيح) وابن ماجة والاخرين المزورين فاضعفت الرابطة الانسانية والاحتياجات الاجتماعية والمالية فحل التذمر بدلا من الاخوة والوئام، والظلم بدلا من العدل، والخوف الدائم بدلا من الأمان، والسيف بدلا من القانون، والتخلي عن المُثل والقيم بدلا من الصدق واستقامة الصادقين.؟

ايها الناكثون للزمن والتاريخ، كنا نامل من التغييرالجديد حياة حرة كريمة سعيدة لحياة المشردين لا ان تحكمنا زمر الخيانة والفساد وقتل المخلصين.

ايها الحاكمون الباطلون: ان اوجه النفاق عندكم تتفاوت اليوم من نفاق اجتماعي الى سياسي ال ديني الى اخلاقي.حتى تلاحمت الاوجه كلها عندكم فلم نعد نفرق بينها فيكم، اصبحتم مزيجا مأساويا من مثالب تنخرسمومها في مجتمعاتنا البائسة، فتحولت الدولة الى عملية سياسية لصيقة بالخائنين، تتباهون بالسرقة و نظريات التفليش"مع التافهين.فلم يعد الاصلاح ينفع معكم الا بأجتثاثكم كما يجتث الفساد من عروقه مع الفاسدين، فمثلكم تعايش مع الباطل لا يعرف حقوق القانون، فأبقوا في المظالم سادرين، فحسابكم غداً عسير،

خذوا الثراء لكم ايها الفاسدون، وأعطونا الوطن، نحن ثراؤنا بمحبة الوطن والاخلاص له رصين، بالحب الصادق مع الاخرين الذين يحبون انسانية الانسان مؤمنين، سيبقى الوطن ثراؤنا وستبقون انتم في مذلة التاريخ.

حتى الطيور اصبحت لا تغرد في بلادي من جراء الفساد، بل تتذمروتزغزغ باصواتها تنادي بأزاحة الغمة عنها وعن الناس اجمعين، حتى اصبحت قصص القرآن الكريم التي نرددها، كل يوم

قديمة، تحتاج، الى تجديد،

***

د.عبد الجبار العبيدي

قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

إنّ السُلوكَ الإنساني وما يُظهره من أفعالٍ، أو يُضمره من خَلَجات في نفسه، إنَّما هو في حقيقتهِ انعكاسٌ لطهارةِ النَّفسِ وَصَفائِها، أو إِتِّساخها وَتَكَدّرها. فالنَّفسُ إذا ما تَزَكّت وَصَلُحَت وَطَهُرت صَلَحَ بها السّلُوك وَسارَ بها الإنسان آمناً مُطمَئناً على المَحَجّة البَيضاء نَحوَ الخَير والصّلاح، وإنْ هِيَ تَشَبَّعت بالأوهام وفَسَدَت بالآثام وخضعت للغرائز الدنوية، كالأنا والغُرور وطَلَب الزّعامة والسلطة، فَإنَّ منسوبَ النّفاق والدَّجل حينها سيرتفع، وستتّسع معه الهُوَّة والتّناقض بين الظّاهر والباطن.

فالنّفاقُ أشدّ المصائب ضَراوة وأعظمها فتكاً بالإنسان، فحالَة الصّراع الداخلي التي يعيشها المُنافق هي خُلاصة الفراغ في مخزونه الرّوحي. والمنافقون هُم أهلُ الغِشّ والخِداع، مَنهَجُهُم قَلب الحَقّائق وتزييفها؛ يَسْتَميلون النّاس فَيَخدعونهم بِحَلاوة اللّسان وَلِباسَ الإيمان؛ يُظهِرُونَ خلافَ ما يضمرون؛ يُبعّدون القريب ويُقرّبون البعيد؛ يُطنطنون بكلمات الحَقّ ويكتمون الباطل؛ يستعينون بلباسِ الرّهبان وحلاوة البيان، ليخدعوا به الجهّال باسم الدين والقرآن. رويَ عن أميرِ المُؤمنين عَليّ (عَلَيهِ السّلامُ) أنَّه قال: " ولَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً ولاَ مُشْرِكاً أَمَّا اَلْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اَللَّهُ بِإِيمَانِهِ وأَمَّا اَلْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اَللَّهُ بِشِرْكِهِ ولَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ اَلْجَنَانِ عَالِمِ اَللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ويَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ ."1

فهؤلاء لا يفتأون يتجرَّؤون على اللهِ تعالى، وَمَا عَلِموا أنّه تَبارَك وتعالى خادِعُهُم، وأنَّهم لا مَحال سيسقطونَ في مستنقع مَكرِهِم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

إنَّهم لا يذكرون اللهَ تعالى إلا رياءً، ولا يَعبدوه إلا طَمَعًا؛ دَأْبهم التّضلِيل وَلأحكامِ الله وَشرعِه التّعطيل، فَكانَ جَزاءهم أنْ أعقَبَهُم اللهُ نفاقاً في قُلُوبِهِم، قال تعالى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]. فَهُم كالأنعام يَهيمُون، وفي حَيرَةٍ يترددون، هَمّهم عَلَفهم، وشغلهم شهواته، وغايتهم رغباتهم.

يكفرون بقارونَ في العَلَنِ وَيَسيرونَ على نَهجهِ في السرّ، يهرولون كالجياع نحو المكاسب الدنيويّة والمغانِمَ الشيطانيّة، وقد مُلئَت بطونهم من المالِ الحرام، حتى قَبَعوا أذلّاءَ خاسِئينَ خَلفَ قُضبانِ سِجنِ الهَوى والنَزوات الحيوانيّة، فانسَلَخوا عَن آدَمِيَّتهم لِيَعيشوا تَثاقلاً ونفوراً عَن كُلّ ما يُقَرّبهم إلى الله تعالى، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].

إنَّ التحرّرَ مِن عبوديّة الدُنيا، والخروج مِن مَحدوديّة الأَنا، والسَّير نَحو فضاء الصدق والاخلاص يستدعي إستنهاضاً كبيراً للنّفس لِكَي تُلامِس روحَ وَجَوهرَ العِبادة، وَتبتَعِدَ عَنِ النّفاق والخداع، فحينها فقط سَتَطهَر من جميع العلائق، وتَعبر مَجتازة جميع الحواجز والعوائق، وتسير بثبات واطمئنان لِتَصِل إلى محلّ التّطابق والتّكامل بَين الظاهر والباطن؛ حتى يختفي النفاق، وَتُحلّق الأرواح لتبلغ درجة من الكّمال والرقيّ، فَتَكون بذلك تجلياتٍ لأسماء الله تعالى وصفاته.

أن المُتابع الدقيق والقارئ للأحداث بِتَمعُّنٍ وإنْصاف يَجِدُ بين الفَيْنة والأخرى ظهور أفكارٍ ونظريات من رَحِمِ تَيّارات وأحزاب ثَبُتَ نفاقها وأنحرافها، فَقَد كانَت تَغْرُزُ أنْيابها لِتَشُلّ العُقُول بِشِعاراتٍ ظاهِرُها مُقَدّس وباطِنُه سُمٌّ زُعاف، وَلِتَسير بالأمّة نَحوَ المَزيد من التَشَظّي والانقسام والإبتعاد عَن جَوْهَر الدّين، وعَن حَقيقتة الإلهية كما أراده اللهُ تعالى وأمَرَ به، وَهذا لَعُمْري أعْظَم أنواع الفِتَن وأشَدُّه فَتْكاً بِجَسَدِ الأمّة.

أورَدَ الشيخ الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ عَنِ اَلسَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ : " سَيَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى مِنَ اَلْقُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ ومِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ اِسْمُهُ يُسَمَّوْنَ بِهِ وهُمْ أَبْعَدُ اَلنَّاسِ مِنْهُ مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وهِيَ خَرَابٌ مِنَ اَلْهُدَى فُقَهَاءُ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ شَرُّ فُقَهَاءَ تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّمَاءِ مِنْهُمْ خَرَجَتِ اَلْفِتْنَةُ وإِلَيْهِمْ تَعُودُ ."2

إنَّ مراتب الإيمان تستدعي حالة التلازم بين الظاهر والباطن، وتستلزم في القلوب التي مُلأت إيمانًا أن يكون لها أعمالًا ظاهريّة تطفح عن ذلك الإيمان، وأما إذا رأيت الإنسانَ يتصنّع في قوله ومشيته وحركاته وقد انغمس في الشهوات والملذّات الحيوانية، والحياة القارونية، فأعلَم أنّ النفاق قرينه، فالإيمان لا يُقيمه التصنّع في الشّكل والمَظهر، إنّما التدبّر في الأركان والإمعان في الجّوهر. فالمؤمنُ الصادق همّه طَيّ المَراتب نحو مقام القُرب؛ لِيَتّخذ من الدنيا ممراً نَحوَ الآخرة، يرتشف ماء الحياة من نَبع العالم الأُخروي ما يَرتوي به مِن عَطَشِ الدّنيا، ويَعيش الدنيا من أجل أن يبلغ بها القُرب من الكّمال المُطلق.

إنَّ الاندماجَ والتَّلاحُم بَين الرّوح والجّسد والمُتَمثّل بالتّوجّه القّلبي والخُشُوع الرّوحي الممزوج بأفعال جَسَديّة تَحمِل مِعانٍ صادقة، حيث يَتَوَحّد فيها الظّاهر والباطن، والسرّ والعَلَن، والشّكل والمَضمون، هو مسلك يَملأ القلوب بأنوار اليقين، والصدور بالإيمان؛ يُجسّد فيها العابد حقيقة العبوديّة، فَتَطمئنَ بها القلوب التي ما فتئت تَقتَبِسُ أنْوارها مِن فيوضات النُّور المُقدس، لِتَستَضيئ بِه، ولتُزيلَ به العَوائق والعَلائق، وَتَسير بأرواحِها وتَشْخَص بأبصارها نَحوَ مَصدَر الجّمال الحَق؛ تلك هيَ النفوس السليمة، والقلوب المُطمئنة، أدْرَكت كمالَ اللّطف الإلهي، فَوَعَت، وَعَلِمَتْ فَعَمِلَت، ثُمَّ أدْرَكَت وسارَت فَنالَت، فَرَضِيَت، واطْمَأنّت.

***

د. أكرم جلال كريم

............................

المصادر

1. نهج البلاغة، ج1، ص383. وبحار الأنوار، ج33، ص581.

2. الکافي، ج8، ص307. وثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ج1، ص253. وأعلام الدین، ج1، ص406. والوافي، ج26، ص459. وبحار الأنوار، ج2، ص109.

(تقام العلاقات مع النرجسيين على أمل أن تتحسن يوما مع قليل من الادلة التي تدعم ذلك).. راماني دورفاسولا

تعود تسمية النرجسية الى الاسطورة اليونانية، حيث ورد فيها ان نرسيسوس –نرجس- بالانكليزية والذي كان آية من الجمال وقد عشق نفسه حتى الموت عندما رآى صورته في الماء!

وتعرف النرجسية على انها حب النفس أو الانانية، وهو اضطراب في الشخصية حيث تتميز بالغطرسة والغرور الاعمى، التكبر، التعالي، الشعور بالاهمية ومحاولة الكسب بأي طريقة على حساب الاخرين.

والنرجسية حالة مرضية تؤثر على الصحة العقلية للمريض الذي ينتابه شعورمضخم للذات على اعلى درجات المبالغة من الاهتمام، وهذا الاهتمام يتطلب إدامة وديمومة لاتنضب من الاعجاب والاهتمام والاطراء من قبل الاخرين بشكل مبالغ فيه وزائد عن الحد، كما يصاحب هذه الشخصية شعور غير عادي بالعظمة، وانه شخص نادر الوجود، فريد من نوعه لايمكن ان يفهمه الا خاصة الناس، وهو بالحقيقة يتعامل مع نفر من الناس يخدعهم باكاذيبه لينال اعجابهم أو انه يتعامل مع من لايعرفه تمام المعرفة.

والمشكلة الحقيقة للنرجسي لاتكمن في حبه لنفسه بل انه يتغذى ويقتات من استغلال الاخرين وبابشع الطرق، هذا المرض الذي يؤدي الى انعدام الاحساس بالاخرين تماما، حيث يغالي المريض وتكون لديه حاجة مفرطة للاعجاب والتقديس وهي إحدى سمات الثالوث المظلم، ومن الجدير بالذكر ان النرجسية تختلف عن مفهوم مركزية الذات.

والغريب بالامر إن هذا الهيكل الفارغ الممتلئ بالهواء لحد التخمة والذي يرى نفسه بمرآة محدبة، قد يكون أول الكارهين لنفسه ويمكن ان ينهار كيانه وينفجر البالون الفارغ من شكة دبوس صغيرة!

فهل قابلت شخصا بهذه المواصفات في حياتك! مكان عملك! أو بيتك!ت

هل تعيش مع شريكا يعتاش من استغلالك!

هل عانيت من تسلط نرجسي لحد التخمة يعد عليك الانفاس!

هل سأمت الانتقادات المتوالية على طريقة كلامك او لبسك او سعيك لتحقيق هدف ما!

هل صودر رأيك وخنقت كلماتك لمجرد انك تعاشر نرجسيا في البيت او العمل او اي مكان آخر!

هل سأمت من العطاء بلا حدود وبلامقابل!

هل تسلل احد النرجسيين الى حلمك للقضاء عليه!

هذه التساؤلات وغيرها قد تكون أشد وأقسى تبعا لنوع الحالة ودرجة استفحالها سنتناولها بشئ من البحث ..

بالحقيقة إن لكل مرض سبب أو عدة أسباب أدى الى إنهيار جانبا معينا من النفس وأدى الى سلوكيات معتلّة وهذا ليس تبريرا لانحراف السلوك لكن التاريخ المرضي يحرث اولا في ماهية الاسباب والدوافع التي أدت لذلك وسنلقي الضوء على الاسباب التي انتجت مرضا عضالا بحجم النرجسية:

- الوراثة:يعتبر هذا المرض من الامراض الذي تتحكم فيه الجينات بامتياز حيث يكون أحد الاباء او كلاهما مصاب بهذا المرض الذي يقدمه مع الكثير من التوابل والاضافات الى الابن الذي يجتهد بدوره للاجتهاد واضافة بصمته الخاصة التي ينال بها رضا الممول اولا ثم رضا نفسه.

- البيئة:وهي الحاضنة الاولى التي تتجسد بالوالدين وعلاقتهم التربوية مع الابناء، وهذه تمثل البذرة الاولى التي سقيت بابشع الصفات لتزهر!

الافراط بالتعامل :وهذه تتمثل بالدلال الزائد حد الفساد، أوالاضطهاد والتعسف حد المسخ!

- عوامل بيولوجية:تتمثل بقابلية الشخص على استقباله لهذا النوع من المؤثرات المرضية والسلوكية وتتويجها بالاستجابة القصوى نتيجة لخلل واعتلال في المنظومة العصبية.

هذه العوامل وغيرها انتجت شخصا نرجسيا بامتيازيرى الكون كله مسخرا له ولتحقيق أهدافه بشتى الطرق وعلى حساب الاخر مهما كان هذا الاخر بعيدا أو تربطه به صلة قرابة من أي نوع.

وإذا توقفنا قليلا بل كثيرا عند شخصية النرجسي سنجد الاعراض الاتية:

- انه شخصا ساديا بامتياز يقوم على استغلال الاخرين والاستمتاع بايذائهم بل والتلذذ باهانتهم وتحقيرهم والتقليل من شأنهم والشخصية الضعيفة هي ضالته الاولى ومكافأته التي يسعى للنيل منها.

- النرجسي شخص ماسوخي لمن هو أقوى منه وقيام الاقوى بتحقيره واذلاله يعيده الى حجمه الاول ويحدده.

- النرجسي شخص ميكافيلي عنده الغاية تبرر الوسيلة، وبامكانه سلك جميع الطرق للحصول على مايريد، مع وجود الدافع والمبرر مسبقا لكل عمل مهما كانت قباحة العمل.

- يعاني النرجسي من الوسواس القهري الذي يجعل حياته أتونا مستعرا يتغذى على أحقاده وسوء ظنه بالاخرين الذي يؤرقه ويحرمه من أبسط متع الحياة ويكون طاحونا مفزعا يطحن نفسه والاخرين بلا رحمة وهذا يتمثل بحرمانه من النوم واصراره على وجود خطر دائم يهدده وفقدانه للكثير من العلاقات الانسانية والاصدقاء الذين سرعان مايكتشفون مرضه ليلوذوا بالفرار.

- الاجرام الفكري :والذي يتمثل باستغلال نقاط الضعف عند الاخرين والسعي لاستخدامها في ابتزازهم بشتى انواع الابتزاز المادي عن طريق التحايل والنصب واستخدام الطرق الملتوية كا لتهديد او الاستعطاف حتى ينال مبتغاه بكل دونية! والجسدي الذي يتمثل بالحرمان من كل الحقوق وانتهاك الحرية الشخصية والاغتصاب والتعنيف الجسدي الذي يصل الى حد القتل! والمعنوي الذي يتمثل باحتقار الاخر وازدراءه ومناداته باقبح الالقاب ثم التسلل الى عقله وتحطيم البنية التحتية لنفسه حتى يشعر الاخر –وغالبا مايكون الشريك- بانه اقبح مخلوق وانه بلافائدة ولايملك من حطام الدنيا الا هدفا واحدا وهو الخلاص من هذه الدوامة التي تنتهي اغلب الاحيان بالطلاق –في حال الزواج- او الانتحار.

عقدة الاضطهاد:وهذه تتمثل بنظرته الى النصف الفارغ من الكأس الذي غالبا مايذكره بطفولة معنفة وحرمان أبوي أو تفرقة بين الاخوة جعلته يشعر بالدونية والغيرة القاتلة من إخوته التي تؤدي الى الكراهية وربما الى الجريمة! وتبقى هذه السمة تلازمه وهو الشعور بانه مضطهدا ومنبوذا لترافقه مدى الحياة، فبعد أن يجد ضحيته المثلى- والتي يذبح لها القطة من اول ليلة – لتتحمل شذوذه وانحرافه واعتلاله النفسي تحت اي بند!و من ثم يكوّن اسرة واطفال ليشعر ثانية بنفس العقدة والدونية بانه ليس أبا أو أما إنما خادما عليه القيام بهذا الدور مرغما وهو ماينعكس على نفسية الابناء الذين يعانون بانهم حمل ثقيل على اب مريض يعاني شتى انواع الاعتلال، وهذا الطريق يؤدي الى نتيجتين: الاولى أن يعتمد الابناء على انفسهم في ادارة شؤون حياتهم من خلال العمل او التفوق وهذا بافضل الاحوال والثانية هي سلوك طريق الانحراف والجريمة لاثبات ذواتهم المعتلة! وهذا مايدفع ثمنه الاسرة اولا والمجتمع ثانيا.

وبالاضافة الى ماسبق فهناك الكثير من الاعتلالات التي يعاني منها النرجسي والتي يعتبرها هو سمات فريدة يتفرد بها عن الاخرين منها:

- التردد باتخاذ القرارات وتكون الخطوة الاولى بالنسبة له مرعبة وهي الولوج الى عالم مجهول يخيفه الى حد اللعنة.

- الانطواء والابتعاد عن الاخرين مهما كانت صلة قرابتهم.

- الاكتئاب والقلق فهو دائم الشكوى من اي شئ، متمارض، كسول، جزوع،

نكدي بامتياز، يبحث عن المرض والنكد ويدعي الفقر حتى لو كان مليارديرا، يتباهى بانه غير مهندم وغير مرتب ويعتبرها سمة فريدة يعنونها بالتواضع وهو أبعد مايكون عن التواضع، فوضوي ويتفنن ببث الفوضى باي مكان يرتاده مع رغبة شديدة بتدمير الممتلكات العامة والخاصة، أوإنه يهتم بمظهره لايهام الاخرين باناقته ونظافته والحقيقة غير ذلك.

- التنابز بالالقاب:وهذه تتمثل باختياره الفاظا واسماءا وعبارات لكي يحط من شأن الاخر بمحاولة منه لازدراءه واهانته والتقليل من شأنه خصوصا في التجمعات والاماكن العامة.

- المشاعر المتبلدة وفقدان القدرة على تكوين حياة زوجية سعيدة بسبب السلوكيات المريضة التي يغلب عليها السلوك الدرامي والانفعالي وغالبا مايكون الطلاق هو الحل.

- عدم القدرة على التعبير عن المشاعر لاعطاء انطباعا على القوة الوهمية.

- عدم تقبل الانتقادات السلبية واعتبارها هجوما مضادا لابد التصدي له.

- التعامل مع الاسرة والاهل بقلة تهذيب و عدم الاحترام واللامبالاة وخصوصا الاستهزاء بألام وعلل الاخرين واعتبارها عارا!

- السعي لجذب الانتباه بأي طريقة.

- الشعور الدائم بالنجاح رغم الفشل وادعاء المواهب الخارقة.

- الخوف المرضي والاعتقاد بنظرية المؤامرة حتى من اقرب المقربين.

- التعامل مع الشريك او الحبيب بمنهج فردي بمعنى ان النرجسي لايبادل الشريك العاطفة وان قدم له الشريك تلك العاطفة مجانا لانه يعتبرها حق مكتسب.

- ادمان الكحول والمخدرات لكي يؤجج المرض بداخله ويساعده على المواجهة لانه بالحقيقة وكما ذكرت مخلوقا ضعيفا .

- التلاعب بالالفاظ فقد يلجأ الى حفظ بعض العبارات التي تجعل منه مميزا لبقا في المواجهة، فالحياة بالنسبة له حلبة مصارعة ولابد ان يكون الفوز حليفه.

- الشهامة الزائفة والثقافة الوهمية التي يدعي بها، والقدرة على الاقناع مهما تطلب الامرللحصول على ضحيته .

سياسة التجويع وهي تشمل التجويع المادي وادعاء الفقر للاستحواذ على مقتنيات الشريك باي طريق فالنرجسي لايغمض له جفن وهو يعلم ان الشريك لديه مبلغا من المال او بعض المقتنيات الذهبية فهو لايدخر جهدا بالحصول عليها واعتبارها حقا شخصيا (انت وما تملك لي).

والتجويع الجسدي حيث ان النرجسي شخص متبلد المشاعر يشعر بن الشريك اقل منه لذا فهو دائم التلاعب بهذا الموضوع وهو حرمان الشريك من العلاقة الحميمة خصوصا اذا علم ان هناك ميلا لهذا الموضوع.

- النرجسي غالبا مايكون جمهوره من المعدمين فكريا ليستطيع التغلب عليهم ونيل اعجابهم

- جنون العظمة وهذه تتمثل بتأليه الذات وتضخيمها الى حد إنه يقارن نفسه بالفلاسفة والعظماء والاولياء..

- الابتعاد عن الله جوهريا بل ان النرجسي في اغلب الاحيان لايؤمن بالله لان رأس الحكمة مخافة الله وهذا ماينعكس على شخصيته المريضة التي تعاني اعتلالات ماانزل الله بها من سلطان وفي ذات الوقت هو يدعي بالايمان الظاهري لكي يجذب اكبر قدر من المغفلين!

- الايحاء المرضي وهذا يتمثل بقدرته الهائلة على اللعب بمقدرات الاخرين عن طريق دس السم في العسل!

- النرجسي يكره الانسان الناجح بل ويحاربه ويحاول بكل طاقته النيل منه وتدمير سمعته والاساءة اليه.

- الخزي والعار وهوالشعور الذي يعاني منه النرجسي وعدم القدرة على معالجته.

- الحسد:النرجسي شخص حسود ينظر الى ابسط الامور التي يمتلكها الاخرين ويتمنى زوال النعم مهما كان هذا الاخر.

وتصنف الشخصية النرجسية الى عدة اصناف:

- النرجسية المعلنة وفيها يركز النرجسي على المكانة والثروة والقوة ويعتقد انه ينال هذا الاستحقاق وبجدارة.

- النرجسيةالخفية: وهي اقل وضوحا وفيها يشعر النرجسي الى اهميته وتظهر عليه سلوكيات معادية مثل لوم الاخرين والتشهير والتلاعب بمقدرات الاخرين.

- النرجسية المعادية وهي استغلال الاخرين للوصول باي طريقة.

- النرجسية الخبيثة:وهي اكثر الانواع خطورة فهي بالاضافة لكل ماذكر فهو يعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع(سايكوباث) مثل جنون الارتياب وانعدام التعاطف واستفحال السادية.

والحقيقة ان الاعتلالات النفسية التي تؤدي الى تدمير المريض الذي يقوم بدوره بتدمير كل المحيطين به دونما رحمة بل وتزين له نفسه انه العاقل الوحيد في مجتمع مريض، ومع ان لكل مرض سبب ونتيجة وعلاج لكن النرجسي شخص عصي على الشفاء اذا اخذنا بالحسبان ان جميع الامراض النفسية والسلوكية وامراض الثالوث المظلم(ميكافيلية، سايكوباث، السادية) تجتمع وتنصهر في بودقة النرجسي.

وهناك بعض النصائح التي قد تساعد الاشخاص الذين تضطرهم ظروف الحياة الى معاشرة النرجسي منها:

- وضع حدود غير قابلة للتجاوز، ومثال على ذلك ان النرجسي شخص غير مهذب يلجأ الى السب واللعن واستخدام الشتائم اثناء الحديث، وعلى الاخر ان يرفض هذه الوقاحة وان لم يستطع فالانسحاب افضل الحلول ..

- عدم الاهتمام لمواضيع النرجسي أو الاصغاء لما يقول.

- محاولة الحصول على الدعم المعنوي والمادي المناسب من الاهل لان النرجسي يستغل غياب الاهل والاقارب ليقوم بكل ماتغذيه نفسه المريضة من اعمال كالحرمان مثلا وسياسة التجويع المادي والجسدي!

- التجاهل وهو السلاح السري والعلاج الناجع للنرجسي الذي يقلب الطاولة عليه غيضا ويجعله يشعر بانه صغير جدا.

- التحلي بالصبر خصوصا اذاكان هناك اطفال يجب مراعاتهم ومحاولة ابعادهم عن ساحة المعركة باي طريقة.

- تحقيق الاهداف من خلال ممارسة هواية ما أو عمل ما يعود بالانجاز والنفع.

- الرحيل في حال تعذرت الحياة واصبح من المستحيل استمرارها في ضوء الانتهاكات المستمرة والتعنيف والحرمان والتحقير والاذلال.

- الاستقلال ماديا ونفسيا يجعل الشريك اكثر راحة بادارة شؤون حياته بعيدا عن الذل والاحتقار.

ورغم ان التقدم بالطب النفسي اتخذ خطوات واسعة لكن بقي العلاج متواضعا لايتعدى مرحلة التخدير وليس الشفاء التام.

النرجسية في القرآن

"حب لاخيك ماتحب لنفسك"

إن طاقة الحب هذه العاطفة الجياشة التي تغمر الانسان بكل ماهو جميل فتكون كشجرة مثمرة تؤتي اآكلها كل حين وعاطفة الحب ينطوي تحت جناحها كل انواع الحب كحب الوالدين لابناءهم وحب الانسان لاخيه الانسان وحب الوطن والارض والمكان وحب الابناء للوالدين وبقية افراد الاسرة وحب الزوج لزوجته والعكس بالعكس، هذه العاطفة من شانها ان تجعل المجتمع مبنيا على اسس قوامها الحب والتضحية من اجل الاخر، ولكن اذا انحرفت هذه العاطفة وجنحت وتشرذمت اهدافها فهي تتحول الى سرطان خبيث ينهش بجسد الامة، والقران فيه الكثير من النرجسيين على مر العصور التي ظهر فيها انبياء الله الذين بعثهم لتحجيم هؤلاء الذين طغت عليهم صفة النرجسية امثال فرعون و وقارون وهامان الذين جمعهم الله في أية واحدة" وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا" والسامري وجالوت وابو لهب والنمرود"قال أنا أحيي واميت" وهؤلاء الطواغيت يشتركون بصفة واحدة وهي النرجسية العالية التي اعمتهم واضلتهم فتكبروا حتى على الله، ومابعث الله الانبياء والرسل الا لمحاربة الطغاة أو هدايتهم لكن الله لايهدي القوم الظالمين .

يعتبر التكبر والتعالي من صفات النرجسي وهي صفات مذمومة واخلاقيات وسلوكيات منبوذة قال تعالى "والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان"

والنرجسي هو شخص يشعر بالعظمة وقد تصل به الحال الى ان يتخيل نفسه إلها ويعلن ربوبيته كفرعون حينما قال"انا ربكم الاعلى"

واذا ماعدنا الى بدية الخلق سنجد إن النرجسية من صغات الشيطان الذي تكبر وتجبر وتمرد على الخالق جل وعلا"قال أأسجد لمن خلقت طينا" فهي العودة اذن الى طريق الخير والشر طريق الهدى والضلالة.

واخيرا علينا أن نقر بان الابتعاد عن الله يجعل الانسان عرضة لوساوس الشيطان الذي يجعل من الشخص مطية لاهواءه، فالروحانيات تطهر النفس من الدنس وتزرع قيم الفضيلة والمبادئ السامية من خلال جهاد النفس الذي يعتبر اعظم جهاد لانسان سليم من الامراض النفسية والاخلاقية، قال تعالى في كتابه العزيز"إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا" صدق الله العظيم.

***

مريم لطفي

لقد اشتغلت هذه الأحزاب براغماتيّا على مستوى الخطاب الديني عندما ربطت برؤية توفيقيّة/ تلفيقيّه ما بين العروبة والإسلام، لاعتقادها بأنها قادرة بهذا الربط أن تُكسب مشروعها السياسي مشروعيته أو مصداقيته عند الجماهير التي يغطي الخطاب الديني حيزاً كبيراً من وعيها أولاً، ولمنافسة الأحزاب الدينيّة، وبخاصة (الإخوان المسلمون) الذين ربطوا الدين بالسياسة أيضاً عبر طرحهم مشروع الحاكميّة لله ثانياً، ثم منافسة الأحزاب اليساريّة (الشيوعيّة) التي تشاركها الشعارات النهضويّة والتقدميّة وإظهارها معادية للدين أمام الجماهير ثالثاً. هذا دون أخذها بالاعتبار أنها بربطها بين العروبة والإسلام كانت تعمل على تعميق أزمة خطابها السياسي، كون الدين (الإسلامي) بشكل خاص بالنسبة هو في المحصلة أيديولوجيا ترفض الفكرة الوطنيّة والقوميّة، كما ترفض فكرة المواطنة وكل ما يتعلق بمفاهيم الحداثة والعلمانيّة التي تتبناها هذه الأحزاب في خطابها الأيديولوجي، فالأيديولوجيا الدينيّة غيبيّة لا تؤمن بوجود فكر وضعي قادر أن يتحكم بأليّة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، كما لا تؤمن أيضاً بوجود أي قوى اجتماعيّة قادرة على التشريع لحل قضايا الناس بعيدا عن التشريع الذي وضعه الله وأقره السلف الصالح. وهذه المسألة يقرها خطاب الإخوان وكل القوى السلفيّة المعاصرة في خطابهم السياسي الذي يكفر كل من يخرج عن فكرة الحاكميّة كما جاء في كتاب (الخلافة والملك) لأبي الأعلى المودودي، وكتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، أو في أدبيات القاعدة وفروعها مثل داعش والنصرة ومن يلتقي معها. وإن ما تقوم به هذه القوى الأصوليّة اليوم في ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.

إن مسألة الاشتغال على الخطاب الديني لتحقيق مصالح سياسيّة لقوى اجتماعيّة ذات توجهات دينيّة سياسيّة محددة، يبقى لها مخاطرها ومحاذيرها إذا ما اشتغلت عليه الأحزاب التقدميّة، وذلك كون الدين إذا ما تجذر ايديولوجيّا في عقل لإنسان، لم يعد من السهل بمكان توجيه عقل وتفكير هذا الإنسان خارج توجهات هذا الدين الذي امتلك عقله ورحه معاً، ففكرة الانتماء للمواطنة أو الوطن أو الانتماء القومي، تتنافى مع مسألة الانتماء الأممي للدين، وهذا ما أكده الكثير من رجال لدين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الإمام "محمد عبده" حيث يقول: (لأن جرثومة الدين متأهلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه... فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة (قصده الأمّة الإسلاميّة) إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح... ومن طلب إصلاح أمّة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب شططاً وجعل النهاية بداية.). (1). ثم يقول أيضاً: (إن الأجناس قامت على العصبيّة القوميّة. لأن أفرادها تلاحموا حفاظاً لحقوقهم من جور حاكم من جنس آخر، أما الوضع فيختلف بين المسلمين. وأضاف : وهذا هو السر في إعراض المسلمين إلى اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلاميّة. فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة.) (2). ثم أن الأحزاب التي تربط بين العروبة والإسلام سيؤدي هذا الربط بالضرورة إلى تجاهل وجود وتاريخ ومكانة مكونات دينيّة أخرى في مجتمعات هذه الأحزاب وستتحول بالضرورة إلى رعيّة، بل إن التجاهل سينال حتى بنية هذه الأحزاب التنظيميّة ذاتها، كالمكوّن المسيحي وغيره من المكونات الدينيّة التي لها انتماءاتها الدينية الخاصة بها من جهة، والتقليل من أهميّة انتماءاتها القوميّة والوطنيّة وإيمانها بدولة القانون واعتبار نفسها جزءاً أساسيّاً من نسيج الوطن لها حقوق وعليها واجبات، وأن المواطنة بالنسبة لها هي المخرج الوحيد لخروجها من مازق الأقليات أو أهل الذمّة الذي يتبناه دعاة المشروع الإسلامي السياسي الرافض للآخر. وما جرى ويجري اليوم تحت مظلة ما سمي بثورات الربيع العربي من ممارسة مشينة من قبل الإسلاميين المتزمتين (السلفيين) بحق الأقليات الدينيّة يثبت ذلك.

إن من يتابع كتابات عبد الرحمن الكواكبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، يجده أكثر قدرة على فهم مسألة الدين وخطورة اللعب على وتره، وخاصة في المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، من فهم بعض هذه الأحزاب التي تدعي القوميّة والعلمانيّة المطالبة بالربط ما بين العروبة والإسلام، متناسية مكوّن هام من مكونات المجتمع وهو الأقليات الدينيّة، حيث يقول عبد الرحمن الكواكبي عن خطورة اللعب على الدين، ومحاولة ربط الدين بالدولة (السياسة) في المجتمع السوري الذي ينتمي إليه:(دعونا يا هؤلاء ندبر شأننا بالفصحى ونتفاهم بالإخاء ونتواسى بالضراء ونتساوى في السراء، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي فلتحيا الأمّة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء.) .(3). أما ساطع الحصري المفكر القومي الأصيل الذي يعتبر المنظر الأكثر اهتماماً وعمقاً في الفكر القومي على الساحة العربيّة في القرن العشرين فيقول حول مسألة ربط العروبة بالإسلام: (إن الأبحاث التي نشرتها في مؤلفاتي المختلفة، أظهرت إلى العيان وبأجلى المظاهر وأجلها، الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الدين الإسلامي في تكوين الأمّة العربيّة وتوسيع نطاق العروبة، وترسيخ كيان بنيانها، وتشديد مقاومة التجزئة التي عصفت بها، ومع ذلك لم تر تلك الأبحاث مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسيّة للقوميّة العربيّةّ.). (4).هذا في الوقت الذي نجد فيه مفكراً إسلاميّاً مرموقاً في سورية وله حظوته ومكانته في دولة البعث، وهو الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"، يقف ضد العلمانيّة بعد مئة عام من مقولة الكواكبي السوري حول هذه العلمانيّة في كتابه (العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر)، وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول البوطي: (أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد، والأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها، فحجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته، ففي ذلك تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه... ). (5). ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانيّة ضمناً، ويتقربون إلى الإسلام قولاً، قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين - بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.) (6)، بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام وعن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان، (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام، وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.). هذا في الوقت الذي يُعتبر فيه حزب البعث الذي احتضنه حزبا عروبيّاً، وهو المنادي بالآمّة العربيّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.

نقول: إن الأحزاب القوميّة العربيّة (العلمانيّة) قد اشتغلت على تثبيت سلطتها في الحكم، بالتوازي مع الاشتغال على الدين، وربط العروبة بالإسلام في سياق عملها أكثر من اشتغالها على الفكر القومي ذاته، للأسباب التي أشرنا إليها سابقاً، بل أثبتت عجزها عن تحقيق أيّة قضيّة من قضايا مشروعها القومي، هذا العجز الذي غالباً ما يزيد الطين بلّة من حيث زيادة عمق التناقضات وحدّة الصراع ذاته بين القوى الوحدويّة ذاتها والقوى المناوئة لها عند سعيها لتطبيق أي مشروع قومي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، مشروع الوحدة بين مصر وسوريّة الذي خلق للدولتين وللأمّة العربيّة أزمات وصراعات وحسابات سياسيّة من قبل القوى التقدميّة والرجعيّة المناوئة للوحدة معاً لم تزل قائمة حتى الآن، الأمر الذي جعل القوتين تتمسك بورقة الدين أكثر، وذلك للحفاظ على السلطة من قبل القوى الوحدويّة التقدميّة أومن قبل القوى الرجعيّة المعاديّة لها.

وفي ختام عرضنا لهذه المسألة أحب أن أضيف هنا مسألة أخرى حول ربط هذه الأحزاب براغماتيّا بين العروبة والإسلام وهي: إن هذه الأحزاب تعني بالعروبة هنا المشروع القومي، والمشروع القومي في جوهره مشروع يعمل على تحقيق الوحدة العربيّة، وهذا العمل هو في المحصلة عمل سياسي، والسؤال هو: كيف تبرر هذه الأحزاب لنفسها هنا ربط السياسة بالدين، في الوقت الذي تحرم وتحارب الأحزاب السياسيّة الدينيّة التي تربط بين السياسة والدين؟!.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..........................

الهوامش:

1- (د. توما - أميل - الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي. بيروت- 1981.). ص154

2- (المرجع نفسه- ص154).

3-(المرجع نفسه- ص155).

4- (توفيق – زهير - أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت -2003 – ص153).

5- د. البوطي - محمد سعيد رمضان. (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر). وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق. ص 248

6- المرجع نفسه. 148

ـ في أهمية النقد التربوي:

يلعب النقد التربوي دورا هاما في مجال التربية والتعليم والتكوين؛ فهو يحسن الممارسات الصفية ويطورها إلى الأفضل بتصحيح أخطائها وتحدياتها، وبرفدها بالجديد من خلال الإبداع في مجالها، من واقع التجربة التعليمية نفسها أو من التفكير فيها، مقابل تطوير نظام التربية والتعليم والتكوين برمته. والنقد التربوي مكون من مكونات الفكر التربوي؛ لا تستقيم أية منظومة تربوية وتكوينية دونه، لأنها تتكئ عليه في استمرار تجددها وتطورها وتقدمها، فهو الدم الذي يدخ الأكسجين في عروقها الذي يبقيها حية تشتغل على أحسن وجه، ويبقيها فاعلة فعالة في المجتمع لأسباب عدة:

أ ـ النقد التربوي فرصة لا تعوض ولا تستدرك: إن فاتت هيئة التدريس والمهنيين والأطر التربوية في التفكير في الممارسات التربوية، من حيث التفكير في ديداكتيك التدريس والاستراتيجيات والأساليب التربوية والتعليمية، والبحث في بنياتها ووظائفها ونتائجها بما يقف على الإيجابيات للاستثمار، وعلى السلبيات والتحديات لتجاوزها. وفي ذلك تطوير لها وتجديد لبنياتها ووظائفها، وتجويد لنتائجها وعوائدها على التعليم والتعلم. والسؤال النقدي للممارسات الصفية سؤال   عن الاختيارات والتوجهات وتقويم الفعالية والأداء.

ب ـ النقد التربوي يبني ثقافة السؤال: وثقافة السؤال تبني ثقافة التجديد والتطور والتجويد والتحبير والتحسين المستمر؛ عبر تخليق بذرة البحث العلمي في الممارسات الصفية لأجل أن يصبح مكونا طبيعيا وعضويا في الفعل التعليمي التعلمي، لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن الإيجابيات والسلبيات معا؛ حيث تتوسل به في معرفة حيثياتها بشكل علمي وواقعي. فلا تستقيم أي منظومة تربوية وتكوينية دون النقد التربوي، لأنه موطن علامات الاستفهام الحرجة والمحرقة التي تتطلب الجرأة الأدبية للتعامل معها بروح رياضية ومرحة، لأنها ستتعرف على ما لا يعجبها خاصة عندما تكون الذات السائلة تهاب السؤال وتخاف منه كما في المنظومات التربوية والتكوينية المتخلفة، التي يعشش في عقلها التقليد والعادات ويعمر حاضرها الماضي ويستحوذ على كل شيء فيها حتى التفكير.

ج ـ الابتكار: النقد التربوي رديف مصطلحين في الفعل التربوي والتعليمي، وهما: التصحيح والابتكار، فهو عامل محفز على الابتكار في مجال التربية والتكوين والتعليم باقتحام مواطن الأساليب التقليدية وإزاحتها من المنظومات التربوية والتكوينية باستكشاف النظريات التعليمية والأفكار الجديدة فضلا عن التعليميات والتقنيات المبتكرة التي تفعل الدرس المدرسي وتطور نتائجه إزاء خلق متعلم/ة منهجي ومفكر وناقد ومبدع. فتظهر من خلال هذا الإبداع والابتكار ممارسات صفية ناجحة ومبتكرة، تبحث عن حلول إبداعية للتحديات والصعوبات والمشاكل التربوية والتعليمية والتكوينية التي تعترضها.

د ـ النقد التربوي يمنح أطر منظومة التربية والتكوين بما فيهم الممارس البيداغوجي والإدارة التربوية والإشراف التربوي فرصة معرفة ودراية أفكارهم ورؤاهم ومقترحاتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها، معرفة تامة تفصيلية تضعهم في مواجهتها مباشرة بالسؤال النقدي عما فعلوه وما أنتجوه؛ وتضعهم أمام ضمائرهم المهنية وأمام التاريخ والأمة وأجيالها، ليتحملوا المسؤولية عن اختياراتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها ضمن القبول بالمساءلة والمحاسبة خدمة للأجيال المقبلة، وبناء الالتزام والانضباط والشفافية تحسينا لجودة المنظومة التربوية. ولا تقدم ولا جودة للمنظومة التربوية والتكوينية دون وقوف أطرها أمام مرآتها مسلحين بالسؤال النقدي عما فعلوه لأجلها ولأجل روادها. وبدون السؤال النقدي تنتفي كل الممارسات الصفية الناجحة والفاعلة.

هـ ـ الحوار وتبادل المعرفة: النقد التربوي باب واسع للحوار وتبادل المعرفة وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، فهو يعزز ذلك في المجتمع المدرسي والمهني التربوي، خاصة بين جماعة الباحثين والدارسين، أي أولئك الأطر الحية في المنظومة التربوية والتكوينية التي تؤمن بالنقد التربوي مدخلا للتغيير. لإنه يخلق مساحات فكرية وثقافية شاسعة للمناقشة والحوار والتعاون والتكامل فضلا عن خلق الفكر العلمي الجمعي وفرق البحث الجماعية متعددة الاختصاصات، بل يمكنه أن يؤدي إلى خلق مراكز ومعاهد ومختبرات للبحث التربوي والعلمي في المؤسسات التعليمية. كما يؤدي إلى بناء مراجع تربوية لأصحاب القرارات السياسية والتربوية والتدبيرية.

وبناء على هذا المعطى، نجد النقد التربوي مطلبا ضروريا للمنظومة التربوية والتكوينية، لتطوير وتحبير الممارسات الصفية في ذاتها وناتجها، بجانب تعزيز التفكير الإبداعي الابتكاري مع تمكين أطر التربية والتعليم من تعزيز الحوار فيما بينهم، وتبادل المعرفة والمعلومات، وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، وبذلك يساهم بشكل كبير في تطوير النظام التربوي والتعليمي والتكويني إلى الأفضل، ويعمل على التحول الإيجابي للمنظومة وأطرها ومتعلميها.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية للممارسة الصفية:

في الواقع التعليمي والتربوي والتكويني؛ ليست الممارسات الصفية متطابقة أو متشابهة إلى درجة كبيرة وبنسبة عالية، فقد يعتقد البعض أن الأداء الصفي متطابق أو متشابه نتيجة امتياحه نظريا وعمليا وبيداغوجيا من رسميات وزارة التربية الوطنية والتعليم، واعتماده على نفس المناهج ومحتوياتها، وعلى نفس الديداكتيك والتقنيات والمعينات البيداغوجية. لكنه في الممارسة العملانية والميدانية ينحو نحو التفرد، ويتجه نحو الأسلوب التربوي الخاص بالممارس البيداغوجي، الذي يتضمن خصوصيات وتفردات ومفردات لا تشبه ما في الأساليب التربوية الأخرى لمعطيات عدة تخص جماعة القسم ومكوناتها، ومستواهم العلمي والتحصيلي، والبيئة التعليمية، والشروط والمتطلبات الخاصة بهم. ومن ثمة يصبح التنظير التربوي والتعليمي والتكويني ممارسات صفية متنوعة.

لذا؛ نجد مجموعة الأسئلة النقدية تختلف من ممارس البيداغوجي إلى آخر تبعا لمعطياته الواقعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والاجتماعي والثقافي، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، ومعتقداته الذاتية والخاصة وقيمه وأخلاقه وفلسفته في الحياة. ونتيجة معطيات جماعة القسم التي يدرسها، ونوعية         أسلوبه التربوي المتبع في تدريسهم المتن التعليمي. ونتيجة معطيات المجتمع الذي يؤدي رسالته التربوية فيه، ونتيجة علاقات الاجتماعية البينية خاصة في المؤسسة التعليمية. نتيجة ذلك وعوامل أخرى نجد كل ممارسة صفية هي تجربة ذاتية قد تتقاطع مع التجارب الأخرى وقد لا تتقاطع، لأن التقاطع حتمي بحكم الرسميات الوزارية التي يستقي منها الممارس البيداغوجي المتن التعليمي والديداكتيك أو التعليمية الخاصة به. وعدم التقاطع يحصل حتما عندما يخرج الممارس البيداغوجي عن الرسميات الوزارية التي يجد فيها تحديات للمتعلم/ة أو يلمس فيها انعدام الملاءمة والانسجام مع معطياته وحاجاته واحتياجاته.

ولهذا الاختلاف عائد إيجابي على العلمية التعليمية التعلمية من حيث تقاسم التجارب والخبرات وتلاقحها، والاستفادة منها في حل المشاكل والإشكاليات التي تعترضها، وتغني الخبرة الشخصية للمارس البيداغوجي بجديد الأفكار والرؤى والتقنيات والإجراءات. وتوسيع منظوره الذي يرى منه أداءه الصفي. وبالتي نجد الاختلاف بين الممارسات الصفية أمرا طبيعيا وإيجابيا، يمكن توظيفه في تطوير المنظومة التربوية والتكوينية نظريا وعمليا. ولكي تثرى وتنمى الممارسات الصفية لابد للمارس البيداغوجي طرح بعض الأسئلة النقدية الهامة والمحرقة في بعض الأحيان للتفكير في ممارسته الصفية، من قبيل:

ـ ما الأهداف التعليمية التي رصدتها للمتعلم/ة في ممارستي الصفية؟ هل تتلاءم وتتوافق مع منتظراته، ومع توقعات المناهج وحاجاته واحتياجاته؟

ـ هل ما قرر من متن تعليمي وتعليمية المواد الدراسية ومعينات بيداغوجية وشروط ومتطلبات تحقق أهدافها وأهدافي معا في انسجام مع معطيات المتعلم/ة؟

ـ ما كفاءتي في توليد الاستقلالية الفردية والحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عند المتعلم/ة نحو مسارهم التعلمي، والوعي بأهمية التفكير في التعلم الفردي لكل واحد منهم تحت سقف استحضار أهدافهم الشخصية؟

ـ ما الإشكاليات والمشاكل التي سيطرحها المتن التعليمي وتعليمية المواد والمعينات البيداغوجية وأساليب تديسي على المتعلم/ة؟ وسبل مقاربتها ومعالجتها؟

ـ ما خطة الطوارئ التي سأواجه بها تلك الإشكاليات والمشاكل والتحديات إن وقعت وحصلت في إطار إدارتي للأزمات؟

ـ ما الاستراتيجيات التعليمية وتقنيات التنشيط والأساليب التربوية التي يمكنني توظيفها من أجل تعزيز مشاركة المتعلم/ة في بناء درسه المدرسي؟

ـ ما كفايتي المهنية في ملاءمة أساليب التدريس المتنوعة مع مستويات المتعلمين/ات المهارية والتحصيلية، واهتماماتهم وانشغالاتهم ومنتظراتهم في تحقيق حاجاتهم واحتياجاتهم؟

ـ ما مهاراتي وقدراتي وكفاياتي الشخصية، وكفاءتي في خلق بيئة تربوية وتعليمية شاملة وعامة، يشعر فيها المتعلم/ة بالتقدير والاحترام، وباستقلالية التفكير وحريته، وبقيمته المضافة لجماعة القسم إنسانا؟

ـ ما التقويم الذي أجريه لقياس ناتج التعلم عند المتعلم/ة بشكل موضوعي ودقيق وعادل؟ وإلى أي حد فعلا أقيس معرفته وقدراته ومهاراته وكفاياته وناتج تعلمه في الاتجاه المستهدف؟ وما مدى مصداقية أداة القياس ومعاييرها وأسسها الإحصائية؟

ـ ما الموارد التربوية والتعليمية والتكنولوجية والتقنية والرقميات المتاحة والمتوفرة راهنيا، التي يمكنني توظيفها بنجاعة في إنجاح الدرس ودعم المتعلم/ة في تعلمه وأدائه؟

ـ ما كفايتي المهنية والاجتماعية في فتح دائرة العلاقات البينية مع الآخرين من ممارسين بيداغوجيين، وإدارة تربوية، وإشراف تربوي، وأسرة، ومتعلمين/ات، ومجتمع مدني... تعاونا وتكاملا من أجل تعزيز تربية وتعليم وتعلم المتعلمين/ات وتنميتهم في مجموع مناحي الشخصية، وتهيئتهم للاندماج الاجتماعي والمهني والثقافي والسياسي...؟

ـ ما مدى حضور ثقافة التكوين بكل أنواعه عندي وتشبعي بها، من أجل الانخراط الإيجابي والفاعل في تطوير مهاراتي وقدراتي وكفاياتي ومعطياتي الشخصية المختلفة باستمرار، وبوتيرة متدرجة تصاعدية لتحسين أدائي التدريسي والتعليمي والتربوي وتطويره بالجديد من معطيات متنوعة، وبمتابعة أحدث الأبحاث في مهنة التربية والتعليم وعلومها، وعلوم روافدها والاطلاع عليها، ومواكبة أجود وأحسن الممارسات الصفية؟ وما مدى قابليتي لاستنبات ثقافة التكوين في ذاتي المهنية والإنسانية؟

وتبقى منظومة علامات الاستفهام النقدية مفتوحة وفق معطيات كل ممارس بيداغوجي حسب سياق اشتغاله وأهداف التعلم المرصودة، والغاية من السؤال. وهي كما تفعل في الممارسة الصفية، تفعل في عملية التعلم.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية لعملية التعلم:

الأسئلة النقدية الذاتية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على ممارسته الصفية، لها وظيفة حيوية في تطوير عملية تعلم المتعلم/ة انعكاسا، من خلال خلق التفكير العميق، إن لم أقل التفكير الفلسفي عند المتعلم/ة، واستنبات التفكير النقدي لديه بما يديم يقظة الشك في تعلمه، من حيث يسائل شكا مجموع الأفكار والمعارف المسبقة لفحصها وتدقيق مصداقياتها من زيفها، فضلا عن تطوير التفكير الإبداعي عنده مع تحسين مجموع قدراته ومهاراته المختلفة من التحليل والتركيب والاستنتاج والتطبيق وغيرها. فهو يعزز آليات التفكير عند المتعلم، وينمي فضوله ويحفز مشاركته النشطة، من خلال طرح الأسئلة العميقة والمجدية التي تستوجب في الموضوع بكليته تفكيرا عميقا وتحليلا نقديا واستنتاجا علميا وموضوعيا وعقلانيا. كما تنقل المتعلم/ة من اكتساب المعرفة وترصيدها وتركيمها إلى اكتساب المهارات الأساسية المعرفية والعملية والأدائية لتنمية أبعاد شخصيته علميا ومعرفيا ومهنيا.

فالأسئلة النقدية تساهم وتساعد على تطوير وتعزيز ودعم عملية تعلم المتعلم/ة عبر:

ـ تحفيز التفكير: الأسئلة النقدية تدفع بالمتعلم/ة إلى التفكير العميق في المشكل أو الإشكالية والبحث فيها باستقلالية ذاتية من خارج الرؤى والأفكار المسبقة وربما المبيتة، وتحليل معطياتها المتنوعة بما فيها من معلومات ومعارف وطرق... بدقة وبشكل علمي وعقلاني والموضوعي، يتوخى الإمساك بمكوناتها وأدوارها ووظائفها داخل نسقها إزاء معرفة العلاقات القائمة بينها لتسهيل الملاحظة والاستنتاج. كما تعمل الأسئلة النقدية على إكساب المتعلم/ة مهارات وقدرات التفكير النقدي والإبداعي تجاوزا لحفظ الحقائق وتلقيها دون مساءلتها أو الشك فيها. فهي تنشئ عند المتعلم/ة ملكة التفكير بكل أنواعها بدل ملكة الحفظ فقط. كما تفعل داخل عملية التفكير العملية الأساسية لفعل المعرفة " الصورنة " التي تهيكل الموارد المعرفية وتعمل على بنائها وتخزينها لتوظيفها في سياقات مطلبية متنوعة بعد استدعائها واسترجاعها. وتكسبه القدرات اللسانية والاستدلالية والعملية أو الفعلية معنى آخر قدرات الفعل.

ـ تنمية ملكتي التحفيز والفضول: تنمي الأسئلة النقدية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على الممارسة الصفية التحفيز والفضول عند المتعلم/ة ارتباطا وتبعا، من خلال بعض المداخل من قبيل:

* في ظل السؤال عن البيئة التعليمية الحاضنة لعملية التعلم في مساحة فعل التعليم عند الممارس البيداغوجي، يمكن خلق وتشييد بيئة قابلة لممارسة الاستكشاف بطرح من الأسئلة استشفافا للأفكار الجديدة والمتطورة والتعبير عنها. كما تزيد من فضول المتعلم/ة في اقتحام المجهول لمعرفته والإلمام به.

* في إطار السؤال عن مناهج التدريس واستراتيجيات التدريس وتقنيات التنشيط يتعزز فضول المتعلم/ة، وتفعل ملكة الاستكشاف عبر المتن التعليمي وتعليميات المواد الدراسية ومشاريع البحث الجماعية والفردية، والمناقشات والحوارات البينية. كما تشجع انخراطهم وتفاعلهم في النشاطات التعليمية بكل جدية وحماس

* في إطار سؤال المتن التعليمي؛ بمعنى مضمون الدرس المدرسي قد ينبع من أكثر من مصدر ومرجع، فقد يستقيه الممارس البيداغوجي من تجارب واقعية تقدم للمتعلم/ة لاستكشافها وسبر غورها، عبر نماذج متنوعة من الطرق والاستراتيجيات والتقنيات مثل الرحلات والخرجات الميدانية والعملانية لزيارة المتاحف والمعارض وورش العمل التطبيقية كالمراسم أو المعامل ودور الطباعة وغيرها، فتغذي المتعلم/ة بحقائق ومعارف ومعلومات مستكشفة جديدة أو يستكشفها بطريقة محسوسة وملموسة وعميقة بنفسه مدفوعا من فضوله للمعرفة. فيكتسب بذلك ثقافة البحث وحل المشاكل؛ فيذهب في تعلمه إلى حل مسألة أو وضعية معينة لم يسبق له أن صادف محتواها أو مضمونها من خلال مكتسباته من التجارب الواقعية.

وفي إطار هذا السؤال يمكن استدعاء توظيف تكنولوجيا التعليم بشكل مبتكر وإبداعي في عرض التجارب والمواقف الواقعية على شكل مقاطع للفيديو أو برامج وثائقية أو أحداث اجتماعية للدراسة والبحث، ما يثير الفضول عند المتعلم/ة، ويحفزه على البحث والاستكشاف. كما يمكن توظيف منصات التعلم الإلكتروني والمحاكاة في تحليل ومناقشة تجارب تعليمية مستجدة ومبتكرة.

من خلال ما سبق وغيره يقف المتعلم/ة على جدوى الفضول والحافزية في التعلم بما فيه التعلم الذاتي، من حيث التعرف على مجموع الأسئلة المطروحة على الممارس البيداغوجي في نقده الذاتي، يؤدي إلى التعرف على مجموع الأسئلة الممكنة والقابلة للطرح على المتعلم/ة لاستكشاف رؤاه وأفكاره، وتلمس جهوده وتقديره لصالح فعل التعلم، ما يشيد لديه الدوافع الذاتية للتعلم والمعرفة والمشاركة والانخراط الإيجابي في بناء مستقبله، والاستمرار في عملية الاستكشاف حتى تصبح ثقافة عنده وسمة من سمات شخصيته.

ـ تشجيع المشاركة الفاعلة والنشطة: الأسئلة النقدية تدفع المتعلم إلى المشاركة الفاعلة والنشطة للمتعلم/ة اقتداء بالممارس البيداغوجي، خاصة عندما يكون السؤال يتعلق به؛ كأن يسأل الممارس البيداغوجي عن أسباب انخفاض نتائج جماعة القسم أو ضعف الحافزية لديهم اتجاه تيمة أو موضوع معين... ففي هذه المنطقة من الأسئلة النقدية تحث المتعلم/ة إلى التفكير والتحليل والاستنتاج فضلا عن التقويم وتركيب النتائج على الأسباب، فهو أمام القول المنطقي والموضوعي لا القول الإنشائي. ومن يشارك ممارسه البيداغوجي في الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة.

ـ تطوير الكفايات التحليلية وقدراتها ومهاراتها بشكل أساسي: تقود الأسئلة النقدية المتعلم/ة إلى تعميق البحث والتحليل ومساءلة تيمة الاشتغال إلى غير ذلك، حيث هذه القدرات والمهارات تخلق من المتعلم/ة متعلما معرفيا أو المتعلم الإبستيمي الذي ينتج الجديد ويبتكر المعرفة الجديدة، التي تنمي مختلف التخصصات العلمية والتقنية والاقتصاد والتطور الحضاري. وتزيح مفهوم المتعلم/ة من متعلم/ة مشحون الرأس بالمعلومات والمعارف والمعطيات، حافظ لها إلى متعلم/ة مفكر معرفي باحث ناقد مبتكر. يولد المعرفة من المعرفة ويوسع قاعدتها ويضخم تراكمها وترصيدها ويبتكر الجديد، يتجه نحو استقلاليته وحريته في التفكير والأداء والتعبير عن ذلك بوجهات نظره وقراراته.

فأهمية الأسئلة النقدية في العملية التعليمية التعلمية لا تكتفي بهذه الأدوار فحسب، وإنما تتعداها إلى البعد النفسي حين تجعل من المتعلم/ة إنسانا موضوعيا مع نفسه، يتقبل النقد البناء ويعتمده في تطوير ذاته وإمكاناتها المتنوعة، ويتقبل الحق ولو على نفسه باستقلالية تامة ويعترف بحقوق الآخرين قبل حقوقه، ويعمل على تحمل كامل المسؤولية عن نتائج قراراته وأفعاله. وصريح مع نفسه وغيره لا يعرف الالتواءات الحربائية ولا النفاق الاجتماعي القاتل للإنسان... هي دائما الأسئلة النقدية مطلوبة في الفعل التعليمي التعلمي لأنها معالم للطريق في تصحيح الاختلالات واستثمار الإيجابيات.

ـ سؤال برسم المستقبل:

مشهد واقعنا التربوي يفيد قلة السؤال النقدي في الممارسة الصفية للممارس البيداغوجي وباقي أطر المنظومة التربوية والتكوينية؛ تخوفا من مشرط جراحته المألم، الذي لا محالة سيعري عما تحت جلد منظومتنا التربوية والتكوينية من أورام وبؤر مرضية في أعضائها ووظائفها. فإبقاء مستور الجلد أسكن للواقع وتجميل له بدل إظهار شكله المتورم المقزز؛ لكن الطبيب الجراح الحكيم، والمحترف، والخبير، والعالم العارف، والإنساني؛ لا يكتفي بتوصيف الحالة المرضية، ولا بتسكينها بالمسكنات، بل يذهب إلى استئصال الورم من أساسه أو من جذوره، ليصح الجسم والجسد طلبا لصحة الإنسان. ولا صحة للإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والرقميات والعالم الافتراضي مع مرض عقله. فصحة الإنسان من صحة عقله، والإنسان يرقى بعقله لا بجسده؛ فهل من ارتقاء لنا دون نقد ذاتي؟

***

عبد العزيز قريش

كثيرة هي المؤثرات على تكوين شخصية الفرد والجماعة، وبالنتيجة الحتمية صياغة فكره وقناعاته وعقائده الدينية والفكرية؛ فعلم الاجتماع تحدث كثيرًا عن شخصيات كل بيئة وطرق وأساليب معيشتها وأنماط تفكيرها؛ سواء كانت شخصية مدنية أو جبلية وريفية أو بدوية صحراوية.

والبيئة بشكل عام وبمفرداتها المعروفة، لا يمكن أن تُنسب إليها كافة الصفات والطباع وأنماط التفكير والسلوك؛ فالاقتصاد له مفعول السحر كذلك في صياغة الشخصية وتوجيه سلوكها وتحديد أطر تفكيرها، ومن ضمن هذه الشخصيات، تأتي الشخصية الريعية والتي ينتجها عادة الاقتصاد الريعي (أحادي المصدر)، وكما هو الحال في أقطار الخليج العربية، فلو نظرنا اليوم حولنا لوجدنا أن أغلب الشخصيات والمجتمعات شكّلها الاقتصاد بطابعه ونوعه وثقافته المصاحبة له.

نحن في أقطار الخليج العربية، انتقلنا مع استخراج النفط من اقتصادات تقليدية تعتمد على الرعي والحرف اليدوية والصيد البحري والزراعة، إلى اقتصادات ريعية مصدرها الوحيد استخراج النفط وتدوير عوائده في مفردات التنمية، وهذا النوع من الاقتصاد أنتج لاحقًا عقلية الشريك النائم والتجارة المستترة وثقافة الثراء بامتياز؛ حيث رَكَنَ المواطن والتاجر والحكومة معًا إلى الدعة والراحة بانتظار عوائد الدخل الشهري، أيًا كان مصدره أو نوعه أو إدارته، أي عائد بلا جُهد.

الخطورة في عقلية الاقتصاد الريعي وثقافته تكمن في البقاء تحت رحمة المصدر الواحد للدخل وتذبذب أسعاره، مع التوسع التنموي غير المدروس، وبالنتيجة مضاعفة الإنفاق على حساب الدخل في كثير من الأحيان، والدخول في سقف المديونيات والقروض للحفاظ على معدل وتيرة الحياة، دون مراعاة عواقب ذلك.

كما إن عقلية الريع أنتجت أخطر وأسوأ أنواع الاقتصادات والتي تُعرف بالاقتصاد الطفيلي (عقارات، أسهم، تأسيس مصارف وشركات...إلخ)، وهذا الاقتصاد والذي لا يراعي شيئًا من قيم التجارة وثقافتها، ولا يحقق أي وزن للقيمة المضافة في مشروعاته واستثماراته؛ بل ولا يستفيد منه من هم أبعد من الحلقة الضيقة الأولى لأصحاب رأس المال، وهذه في مجملها من ظواهر ثقافة الثراء الخالية من قيم الاقتصاد وثقافة التجارة وقيمها.

يُمكن للشخص تمييز كل شخصية بتأثير اقتصادها وثقافته عليها؛ حيث تجد التجديد والتنوع والإبداع لدى أبناء الاقتصادات النوعية المتعددة المصادر، وتجد الانكماش التجاري والفكري لدى أبناء الاقتصادات الريعية.

لم يكن للعملاق الصيني أن يجتاح العالم بعقلية الفلاح التي أنتجتها ثورة الزعيم "ماوتسي تونج" الثقافية، لولا تطعيمها بعقلية الصناعة والإنتاجية، تلاها تطعيم الاشتراكية الصينية ببعض مفردات الرأسمالية المنضبطة، مثل: السماح بالملكية الفردية وحمايتها، وحرية تنقل رؤوس الأموال من وإلى الصين وفق المعايير المصرفية العالمية، كما إن ثقافة الاقتصاد الشامل التي غرسها الزعيم أحمد سوكارنو في شعبه الإندونيسي في الخمسينيات من القرن الماضي، حفّزت كل مواطن على إنتاج ما يجيده من موقعه بدءًا من منزله، وخلّقت عقلية إنتاجية تنافسية نقلت إندونيسيا إلى مصاف الاقتصادات العملاقة في العالم بخطى حثيثة.

الاقتصاد اليوم هو المؤشر القيمي والعلمي والأخلاقي للشعوب، ومن أراد التحكم في تلك القيم وتأطيرها، عليه تأطير قيم اقتصاده ورسم ملامحه أولًا وقبل كل شيء.

قبل اللقاء: لم تعد الحاجة أم الاختراع اليوم؛ بل الاختراع هو الحاجة بذاتها، فليس بالضرورة أن تخترع لحاجتك؛ بل ما يحتاجه غيرك كذلك.

وبالشكر تدوم النعم.

***

علي بن مسعود المعشني - كاتب عماني

بداية خلق الله سبحانه وتعالي المخلوقات وسخرها لبني الإنسان لتيسير أمور حياته ولقضاء حوائجه وإشباع لذاته ورغباته المشروعة، فهو المخلوق الوحيد علي سطح الأرض من سخرت له بعض المخلوقات حتي تكون تحت طوعهِ وإرادتهِ وتلبية رغباته سواء كانت من الحيوانات أو غيرها من المخلوقات التي يتحكم بها الإنسان في وجودها وبقاءها، ومن المعروف أن الأضحية في العيد الأكبر هي إحدى أهم شعائر الإسلام، والتي يتقرب بها المسلمون إلى الله سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء، بتقديم ذبح من الأنعام، وذلك من أول أيام عيد الأضحى المبارك، حتى آخر أيام التشريق الثلاثة، ولذلك فهي من أهم الشعائر المشروعة والمجمع عليها، فهي سنة مؤكدة لدى جميع مذاهب أهل السنة والجماعات الفقهية سواء عند الشافعية أو الحنابلة أو المالكية، ما عدا الحنفية.

وإيماناً منا لهذا الدين الحنيف بكل أصوله وفروعه التي شرعها الله سبحانه وتعالي، وبكل ما جاءت به الشريعة الغراء من فرائض وواجبات وسنن، كان لزاماً علينا الوقوف ضد الذين يبتدعون البدع، ولعل قائل بأن هناك بدعة حسنة وأخري سيئة! لا ليس هناك في الشرع تقسيم للبدعة إلي حسنة وسيئة، حيث أن جميع البدع سيئة كما أقر بذلك الإمام أحمد السرهندي(1)

فإذا نظرنا إلي أمثال هؤلاء من الحاقدين للإسلام نجد أنهم يحاولون أن يضعوا العسل في السم، ويخرجون إلينا أموراً وفتاوي مبتدعة لا أنزل بها من سلطان، إنما مقصدهم ومبغاهم الوحيد هو هدم شعائر الإسلام محو سننه التي جاءت به شريعتنا الغراء، لذا وقد كانت من الأسباب التي دعتني إلي كتابة هذه السطور هو أنني قرأت في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي المشهورة تعليقاً نصه كالآتي (ذبح الأضاحي يساهم في إهدار الثروة الحيوانية، ولا يفيد فقير ولا جائع، أنصحكم بالتبرع بثمن الأضحية لعائلة فقيرة فقد يسد رمقهم شهر كامل) هذا هو نص التعليق، ونلاحظ أن هذه الكلمات وإن كان ظاهره الشهد إلا أنه في الحقيقة يحمل في أحشاءه السم، فقد بدأ كلامه بأن ذبح الأضاحي ما هو إلا إهدار للثروة الحيوانية، وهو السبب الذي دفع به إلي إنكار ورفض هذه السنة، وتابع كلامه أن هذا الفعل من الذبح لا يفيد فقير ولا جائع، وهنا سأقوم بالرد علي تلك الشبهة بما قدر لي الله تعالي أن أرد علي هذه الخزعبلات التي يريدون من وراءها هدم سنة من السنن المؤكدة في الإسلام.

والرد على هذه الشبهة من عدة جوانب:

1-الحكم الشرعي

2-الناحية الاقتصادية

3-الناحية العقلية

أولاً: من ناحية الحكم الشرعي:

فالأضحية: سنة مؤكدة، وهذا ما ذهب إلية الجمهور: المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، ومذهب الظاهرية(2).

أما الدليل الشرعي من القرآن فنجد أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تناولت الحكم من مشروعية تلك الأضاحي.

قال تعالي: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر َفَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ)(3)

وقال تعالي (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلمَنَامِ أَنِّیۤ أَذبَحُكَ فَٱنظُر مَاذَا تَرَىٰ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ)(4)

وقال تعالي: (وَٱلبُدنَ جَعَلنَـٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰۤىِٕرِ ٱللَّهِ لَكُم فِیهَا خَیر فَٱذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَیهَا صَوَاۤفَّ فَإِذَا وَجَبَت جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا ٱلقَانِعَ وَٱلمُعتَرَّ كَذَ لِكَ سَخَّرنَـٰهَا لَكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)(5)

وقال تعالي أيضاً: (وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلنَا مَنسَكا لِّیَذكُرُوا ٱسمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ ٱلأَنعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُم إِلَـٰه واَ حِد فَلَهُۥ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ ٱلمُخبِتِینَ)(6)

قال ابنُ تيميَّة: إنَّها مِن أعظَمِ شعائِرِ الإسلامِ، وهي النُّسُك العامُّ في جميعِ الأمصارِ، والنُّسُكُ مقرون بالصَّلاةِ في قوله تعالى: (قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ)(7)، وهي مِن ملَّةِ إبراهيمَ الذي أُمِرْنا باتِّباعِ ملَّتِه، وبها يُذكَر قصَّة الذبيحِ، فكيف يجوز أنَّ المسلمينَ كُلَّهم يتركونَ هذا ولا يفعَلُه أحدٌ منهم، وترْكُ المسلمين كُلِّهم، هذا أعظَمُ مِن تَرْكِ الحجِّ في بعض السنين. وقد قالوا: إنَّ الحجَّ كلَّ عامٍ فَرْضٌ على الكفايةِ؛ لأنَّه من شعائِرِ الإسلامِ، والضحايا في عيدِ النَّحرِ كذلك، بل هذه تُفعَل في كلِّ بلدٍ هي والصَّلاةُ، فيَظْهَرُ بها عبادةُ اللهِ وذِكْرُه، والذَّبْحُ له والنُّسُك له ما لا يظهَرُ بالحجِّ، كما يظهَرُ ذكرُ الله بالتكبيرِ في الأعياد(8)

وقد جاء في السنة النبوية:

عن البراء بن عامر رضي الله عنه: قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نُسكُه وأصاب سُنة المُسلمين)((9)

وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِع النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَخطُبُ يومَ عِيدِ الأَضْحَى، فَبَيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هَدْيَه وسُنَّتَه في يومِ الأضحَى: أنْ يُبدَأَ أوَّلًا بصَلاةِ العِيدِ، ثمَّ يَأتيَ بعْدَ ذلك ذَبْحُ الأُضحيَّةِ، فمَن فعَل ذلك فقدْ أصابَ السُّنَّةَ، ووافَقَ طَريقتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَصَلَ له الأجرُ(10)

ثانياً: من الناحية الاقتصادية

والرد على الشبهة المذكورة من الناحية الاقتصادية فإنه إذا نظرنا إلى الأضحية وأهميتها نجد أن الأمر ليس به إهدار للثروة الحيوانية إطلاقاً، وذلك لأن الإهدار في معناه من وجهة نظري هو التبذير في الشيء بغير وجه حق أو هو معناه ما يقابل عدم الاستفادة من الشيء، وهنا في ذبح الأضاحي في الإسلام لا يدعوا إلى الإسراف أو الإهدار كما يزعم البعض من الرافضين للأضاحي، بل أننا نجد أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على ان تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، فنجد أن جميع الجلود التي تخرج من الأضاحي يتم استغلالها ودبغها في شتي الصناعات المتعلقة بالجلود.

ثالثاً: من الناحية العقلية

أما من الناحية العقلية فمن المعروف أن من شروط الأضحية أو من شروط صحتها سواء كانت من الأبل أو البقر أو الشاة هو أن تكون قد أتمت السن المُعتبر لها، فبالنسبة للإبل فإن العمر المُعتبر لها للذبح هو أن تكون قد أتمت خمس أعوام، وبالنسبة للبقر لا بد أن تكون قد اتمت أيضاً عامين، وفي الغن عام واحد على الأقل، أما في الضأن فقد رُخص ما أتم ستة أشهر فما فوق علي أن تكون قد أجدع، لذا فمن الناحية العقلية لا يمكن التسليم العقلي بأن ما يترتب علي كثرة الأضاحي يكون نتيجة حتمية لإهدار للثروة الحيوانية.

وذلك لأن:

- أن المُعتبر في الثروة الحيوانية هي كل الحيوانات فالحيوانات تشمل جميع الفصائل المختلفة منها، ويمكن القياس على ذلك أن الأُضحية المشروعة في الشريعة الإسلامية ليست غير الفصائل المذكورة آنفاً كـ (الإبل والبقر والأغنام والمعز)

- كما أن الإسلام قد وضع شروطاً محددة للأضحية من ضمنها أن تكون قد بلغت العمر المذكور لها، علماُ بأن الإسلام يمنع أيضاً ذبح الحوامل من هذه الحيوانات، فمن أين يأتي إذاً الإهدار في الثروة الحيوانية، والسؤال هنا لو الثروة الحيوانية تتأثر بتلك الأضاحي فلماذا لم تنقرض بعد فمن العقل أنه لو كان هناك إهدار للثروة الحيوانية لكانت قد انقرضت تلك الحيوانات ونحن جميعاً نعلم أن هذه الشعائر الإسلامية تُقام منذ بعيد.

وخلاصة القول

أن هناك الكثير من المقاصد النبيلة والسامية من وراء هذه الشعائر الإسلامية فكما ذكرنا من قبل أن الإسلام كان حريصاً كل الحرص على أن تكون تشريعاته متفقة مع منهج الإسلام العام وهو المنهج المعتدل الوسطي، ومن تلك المقاصد الإمتثال لأوامر الله تعالي والإذعان له، ومن أنكر سنة من السنن النبوية الشريفة فيكون بذلك قد أنكر شيء معلوماً من الدين بالضرورة، كما أن المتمثل لأمر الله تعالي يُحيي ذكري قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وتعلم الدروس المستفادة من تلك القصة، كما أن المسلم بإحيائه شعائر الأضحية فإنه بذلك يتخلص من الشُح والبخل والضغينة وتطهير قلبه من تلك الرذائل، وعندما يشتري المسلم الأضحية ويقوم بتوزيعها علي الفقراء والمساكين فهو بذلك يكون قد أحيا بقلبه معني العطاء.

هذا والله أعلم

***

كتب أركان حربي العوضي

ماجستير فلسفة إسلامية كلية الآداب جامعة المنيا

......................

(1) هو الإمام أحمد الفاروقي السرهندي من مدينة سرهند بالهند لقب بمجدد الألفية الثانية، حيث كان السبب من وراء ذلك اللقب هو أنه كان السبب الرئيسي لبقاء الإسلام في الهند وللوقوف علي تفاصيل أكثر عن سيرته الشريفة، يمكن الاطلاع علي مكتوباته الربانية في ثلاث أجزاء المسماة بالدرر المكنونة.

(2) الدرر السنية، الموسوعة الفقهية: ذبح الأضحية، إشراف عام: علوي بن عبد القادر السقاف الرابط:https://dorar.net/feqhia/3074/

(3) سورة: الكوثر.

(4) سورة: الصافات، الآية 37.

(5) سورة: الحج، الآية 36.

(6) سورة: الحج، الآية 34.

(7) سورة: الأنعام، الآية162.

(8) شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوي، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد، السعودية، بدون ط، 1425هـ- 2005م، المجلد الثالث والعشرون، صـ162-163.

(9) أخرجه البخاري رقم (968)، ومسلم رقم (1961).

(10) مرجع سابق: الدرر السنية، الشروح الحديثية. الرابط: https://dorar.net/hadith/sharh/6045

لم تكن العِمامة قديماً، عند العرب، تخص فئةً مِن النّاس، وليس لألوانها دلالاتٌ دينيَّةٌ، وأول مَن جعل السوداء منها زياً رسمياً أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ)، مع سواد الرَّاية أيضاً (العسكريّ، كتاب الأوائل). ثم انتقلت وصارت زياً لرجال الدِّين الشِّيعة الإماميَّة، المنتسبين لسلالة النُّبوة. بعدها صار لكلِّ مذهبٍ عمامتُه، حتَّى رأينا في إحدى ملتقيات الحوار الدِّيني رجل يعتمر عمامة خضراء، وفوقها مجسدٌ للقبةِ النَّبويَّة.

كثرت أخبار العمائم في كُتب الأدب العامة، وكُتب تشريفات الخلافة، ومَن أفرد لها كتاباً خاصاً: «دفع الملامة في استخراج أحكام العِمامة» لابن المُبرد(ت: 909هج)، جمع فيه أطرزة العمائم واختلافها. كذلك صدر كتابُ «العِمامة» أعده سعود الرُّومي (الرِّياض 2014)، لم يترك كبيرةً ولا صغيرةً في العمائم إلا ذَكرها. ولم أجد بينها طرازَ عمامةٍ رأيتها بهيئة مختلفة، ولحقتُ الرَّجل في أزقة سوق القلعة بأربيل، مِن زمن بعيد، وسألته عن شأن عمامتهِ؟! فقال: «يا ولدي، نحن في موسم الأمطار، لذا غلفتها بالنَّايلون كي لا تبتل». قالها بأريحيّة معهودة عند العديد مِن رجال الدِّين غير المتحزبين.

ظل السُّودانيون والعُمانيون واليمنيون متمسكين بها، دون شرطها الدِّينيّ. بقدر ما كثر معتمرو العمائم كثر خالعوها، وصلةٌ بخلعها أثير الجدل حول مقالتي عن الشَّاعر السُّعوديّ محمَّد العلي: «جِدَّة.. تُكرم العليّ زميل مروة بالنَّجف»(الاتحاد 21/12/2022)، مَن نفى صلته بحسين مروة (اغتيل: 1987) وَمن أنكر تعممه، لكنّ ما عرفته أنّ الرَّجل درس بالنَّجف وتعمم، ثم تخلى عن عمامته، وهذا شأن مروة أيضاً، وأخذتُ الزَّمالة في المجال العام، فكلاهما درسا بالنَّجف، وكلاهما لم تصمد العمامة فوق رأسهِ. خلعها مروة قُبيل نزوله بمحطة أور/النَّاصريَّة (بعد 1940)، ليستلم وظيفته مدرساً للأدب العربيّ بثانويتها (مروة، خبايا السّيرة)، ولم يعد لها، بعد أغراه الفكر الاشتراكيّ.

أمَّا معروف الرُّصافي (ت: 1945) فخلعها بإسطنبول مكرهاً، حين وصلها في الانقلاب الاتحاديّ(1908)، فحصل استبدال الطَّرابيش بالعمائم. دخل مقهى أحد السوريين فطرده، حتى وجد دكان ملابس، فارتدى بذلةً حديثةً واعتمر طربوشاً، تاركاً جبته وعمامته عند صاحب الدُّكان (الرُّصافيّ، يروي سيرته)، ثم عشق أبا العلاء(ت: 449هـ) حتَّى ناجاه «يا أبتِ»، وسمَّاه بشاعر البشر والمخلوقات (الرُّصافي، رسائل التعليقات)، ففارقها نهائياً. بينما ظل جميل صدقي الزَّهاويّ(ت: 1936) يناور بين الطَّربوش والبنطلون ليلاً، والعِمامة والجبة نهاراً، فهو ابن المفتي وأخو المفتي، حتّى اعتنق نظرية «أصل الأنواع»، وافتخر أنه أدخل دارون إلى العراق (الرُّشوديّ، الزّهاوي دراسات ونصوص)، فجفا العمامة إلى الأبد.

لم يقتفِ الرُّصافيّ ولا الزَّهاويّ أثر رجال الدِّين بتركيا ومصر والشَّام، لما سُمح لهم الاحتفاظ بعمائمهم بشرط يتوسطها الطَّربوش الأحمر، وظلوا هكذا إلى يومنا. أمَّا محمد مهدي الجواهريّ(ت: 1997)، فعمل مدرساً، وفي البلاط الملكيَّ، والعِمامة على رأسه، حتّى قال وتخلى: «قال ليّ صاحبي الظَّريف وفي/ الكفِّ ارتعاشٌ وفي اللِّسان إنحباسة/أين غادرت عِمةً واحتفاظا/ قُلتُ طرحتُها في الكُناسة»(النَّزعة: 1929).

وافقني أحد المعممين أنه قصد المحلة المعروفة بالكوفة، حيث صُلب زيد بن عليّ(122هج)، ولهذا قيل: «إنا وجدنا قفيراً في بلادكم/أهل الكُناسةِ لأهل اللؤم والعدمِ»(الحمويّ، معجم البلدان)، أو أنَّه ترك المعنى مشرعاً!

بسبب الإقامة الطَّويلة بطهران وقُمّ، والدّراسة في الحوزات الدِّينيَّة، تزايد عدد المتعممين بالعِراق، وبسبب الوضع الذي تتصدره الأحزاب الدِّينيَّة، والخطاب الهابط، والزيادة في الفساد، كثر أيضاُ خالعو العمائم، وبينهم مَن يتبوأ الآن الدَّعوة العاقلة إلى التَّنوير والتَّقدم، بالمقابل منهم مَن شطح وجهل «فوق جهل الجاهلينا». هذا، وبينهم مَن انقلب على شروط عمامته، لكنه ظل يعتمرها، سوداء أو بيضاء، سلاحاً في الجدل، متقلباً بين اعتمارها وخلعِها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

   

الدِّين هو قوة روحية تسمو على الرغبة والرهبة، وتملأ النفوس بفيض من الحب والجمال والكمال والقدسية الإلهية التي تضبط أفعال الإنسان وانفعالاته، وتكون شخصيته وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع غيره، وتجعل من ذاته رقيباً على ذاته، ومن ضميره وجداناً خالصاً لا يضل ولا يُخدع .

وإذا نحن أردنا التعرف على قيمة الدين، أي دين، في مجتمع ما، فلن يكون ذلك بالنظر إلى سلوكيات أتباعه بداخل مساجد وجوامع ومصليات وحسينيات المسلمين، ولا في كنائس وكاتيدرائيات المسيحيين، ولا في بيع اليهود، و لا في غردوارات السيخ، أو اواتات -ج وات- البوديين والهندوس، والتي يفرض التواجد بها جميعها، أنماطاً سلوكية استثنائية من التعامل الظاهري المليء بالمثالية غير الموجودة في الواقع، ويكون بالنظر لسلوكيات الناس في المجامع التي يرتادونها خارج تلك المعابد، كالشوارع والأسواق والمدارس والمعارض والملاعب الرياضية، حيث يخضع الناس فيها إلى جملة من التجاذبات والمؤثرات الخارجية المعقدة نفسيا وماديا، التي تشكل العامل الحاسم تكوين التصورات الخاطئة عن الدين والتعاطي السيئ مع تشريعاته وفرائضه ونواهيه، التي، ينصرف ممارسوها، وبلا حرج، للكذب والنفاق والرشوة وباقي أنواع الفساد المذمومة أخلاقيا، والمحتقرة اجتماعيا، والمحرمة دينيا، والتي غدت بعد أن تحولت في الحقب الأخيرة، إلى مجرد طقوس لا علاقة لها بالحق والعدل، وسمة وقاعدة عادية تؤثث المشهد الاجتماعي، وتمارس باحترافية، كهوية مفضلة لدى الأغلبية الساحقة، ضدا في الأخلاق الحميدة التي هي أساس قيام الحضارات، والوسيلة المثلى لتحقيق المساواة والعدالة الشاملة المفضية إلى تقدم الأمم ونجاحاتها، المؤدية إلى استتباب الأمن وشيوع الاستقرار في المجتمعات، التي تبحث عن البدائل الأنجع للقضاء على الفساد، أو ضمان الحد من تغوله، على الأقل، في حال العجز عن القضاء عليه نهائیا، كما هو حال العديد من الدول الغربية المتقدمة، التي تستخدم قوة إرادتها السياسية في تنفيذ ذلك بفعالية وصرامة في ظل القوانين والقيود والإجراءات العقابية والتربوية التي تعود إنسانها على تحمله لمسئولياته الذاتية، وعدم تعليق فشله على الأساب الغيبية البعيدة عن أدائه على الأرض، ودفعه لمحاسبة نفسه محاسبة تصفيها وتنقيها مما يمكن أن يبدرَ منها من أعمال، فيتابع ويكثرَ ما كان منها صالحا، ويتوب عما كان منها سيئا ويتعهد بعدم الرجوع إليه ثانيةً، بخلاف مجتمعاتنا المتخلفة التي لا يتورع أغلبية الناس فيها في استغلال أي فرصة تتاح لهم –وحتى التي لا تتاح - للسرقة والاختلاس، لما جبلوا عليه من الاستعداد الفطري لتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وتأهبهم لاقتراف كل التجاوزات حتى التي يمكن أن يسقط بسببها أبرياء- والتي تفضحها الكثير من السلوكيات التي تعتبر لد ى الغالبية العظمى، مع الأسف، أنها تصرفات عادية وبسيطة وربما تافهة، رغم أنها تكشف عما لدى أصحابها من بوادر الفساد وميولات اللصوصية والإستعداد للانقضاض على المال العام، وميلهم للتسلّق على أكتاف الغير لتحقيق لمصالحهم الشخصية، والتي من بينها على سبيل المثال، تلك التصرفات التي يعتبرها البعض شطارة و "قفوزية "بينما هي أنانية و قلة احترام "للاتيكيت " واستغلال للفرص: كعدم احترام إشارات المرور، وتجاوزها عنوة وضدا في كل قوانين السير، و قلة احترام الطوابير وتخطيها دون أي اعتبار للواقفين فيها، و كما يقوم به البعض عندما يكونون في ضيافة غيرهم، أو عند تواجدهم بالمطعم أو الاماكن العامة، فيتعمدون وضع كميات من السكر في الشاي أو القهوة أكثر مما يفعلون في منازلهم، أو كاستخدامهم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون أو العطور أكثر مما يستخدمونها في بيوتهم، أو كاستهلاكهم لكمية زائدة من الطعام أكثر مما يلتهمونه في بيوتهم، لمجرد أن غيرهم سيسدّد الفاتورة.

فمن يلتمس في نفسه بعض من هذه الخصال أو جميعها، فليعلم أن لديه ميولات غريزية للعنصرية والفساد واللصوصية والاختلاس وتبذير المال العام، ومن المُحتمل أن ترتكبها مجتمعة أو متفرقة، دون وعي منك إذا هي صبت في مصلحتك الشخصية، و تستسلم بسهولة لمغرياتها، حتى لو كانت ضد مصلحة وطنك ومصالح البشرية جمعاء، لأنك أناني ونرجسي ومغرور وتحب الكسب والربح لك وحدك، حتى لو كان على حساب الآخرين.

ملخص القول، على القيمين على شؤون الناس، إن هم أرادوا كسر هذه الحلقة المفرغة من السلوكيات المتخلفة، إلا إخراج دين الله من المساجد إلى الأماكن التي يرتادها عموم الناس، ليتشبع الجميع بتعاليم الدين الخالصة وقيمه النقية، وعندها سيبتسم الغد المشرف لهم وللبشرية جمعاء .

***

حميدطولست

التعدد العرقي واللغوي وأثره على ثقافة التعايش الحضاري والديني في المغرب

ما ان تطأ قدم أي مواطن عربي لأرض المغرب ويتجول في مناطقها المختلفة، حتى يستشعر الثراء الثقافي والحضاري، والجمال الأخاذ الذي يشع من جنبات البيوت،القصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق.

القادم لبلاد المغرب سرعان ما يتذوق جماليات فنونها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية والدينية المتنوعة، والذي تتميز به كل منطقة ومدينة وقرية عن الاخرى رغم الرابط الوطني الذي يجمعهم.

يظل للتعدد العرقي والديني واللغوي بالمغرب نكهته الخاصة في اصباغ الحياة الثقافية والاجتماعية والفكرية بطابع قبول الاخر والتفاعل معه ومعايشته على ارضية من التسامح والتعاون مع احتفاظ كل مكون عرقي بمكوناته الثقافية المتوارثة في نسيج يكمل بعضه بعضا وينصهر في فسيفساء بديع التكوين والجمال.

وكان للموقع الجغرافي للمغرب دور في اشاعة هذا التنوع الثقافي بمدلولاته العرقية والدينية واللغوية فالمغرب جغرافيا يعد معبرا لتلاقي الغرب والشرق معا، حيث يتقارب مكانيا مع شبه جزيرة ايبيريا ويتماس مع الصحراء الكبرى وأفريقيا ودول المشرق العربي.

ولذلك عبرت الى المغرب العديد من الحضارات واللغات والثقافات القديمة كالفينيقية واللاتينية واليهودية والمسيحية والعربية والإسلام، وايضا الفرنسية والإسبانية والبرتغالية.

وهذه الثقافات مع انحسار بعضها بفعل تقادم الازمنة، الا ان اثارها قد انصهرت بالثقافة المغربية وامتزجت بها لتشكل هويتها الخاصة، وهو ما يتجلى في العديد من المظاهر الحضارية، منها على ـ سبيل المثال لا الحصر ـ الاثر الاندلسي في الموسيقى والمعمار، خاصة مدينة تطوان وطرازها المعماري الغرناطي.

وتعكس فنون المعمار بالذات عبقرية التلاقح الثقافي والحضاري المغربي، وتبرز في روعة العمارة الفنون الإسلامية التقليدية، مثل الصوامع التي تحذب السياح صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط، وشبيهتهما “لاخيرالدا ” بمدينة إشبيلية بإسبانيا. والتي هي من بناء الموحّدين.

وايضا روعة الحصون، والأبواب الشامخة، والأضرحة، والمساجد المشهورة بالأسقف الخشبية المنقوشة والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن، الموزاييك ذي الرسوم والألوان والخطوط البديعة الزاهية.

ويتجلى التعايش اللغوي والعرقي من خلال اللغة العربية واللغة الامازيغية، والتلاقح بينهما قد لعب دورا في تشكيل الهوية الثقافية للمغرب، بجانب الثقافة الحسانية الشفهية والتي يمتزج فيها ثقافة عرب المغاربة بموريتانيا، ولا تزال تحافظ على ذاكرتها الجماعية عبر اللغة العربية العامية حتى اليوم عبر جلسات السمر واحتساء الشاي، بجانب حضور اللغات الأجنبية الفرنسية والإسبانية والإنجليزية.

والبصمة الافريقية لا يزال حضورها في المشهد الثقافي المغربي انطلاقا من دورها في نشر الدين الاسلامي بالمغرب والعلاقات القديمة مع الزنوج ومع السودان تجاريا وثقافيا واجتماعيا، قد ترك ارثه الثقافي بالمشهد المغربي وانعكس بالعديد من الطقوس المغربية التي تزال حية خاصة في مدينة مراكش وما تذخر به من فنون الحكايات والطرز المعمارية الافريقية.

وللثقافة العبرية حضورها بالمشهد الثقافي والاجتماعي المغربي كجزء أصيل من مكونات المجتمع عبر اليهود المغاربة، والتي تتجلى في العديد من الشواهد الحضارية كالمخطوطات المكتوبة بالعبرية على الطريقة المغربية، وصناعات الملابس، وأحياء الملاح السكنية التي يسكنون بها، والمعابد والمواقع الاثرية، كما ساهم اليهود المغاربة في تنشيط حركة الصناعة خاصة الحرف اليدوية وصناعات الذهب والفضة.

وألقى التنوع العرقي والحضاري بتأثيراته القوية على المطبخ فشهد تنوعا واسعا وابتكارات في أصنافه ارتباطا بانفتاح المغاربة منذ القدم بالحضارات المجاورة او التي هربت اليه واستوطنته، او التي حكمته.

فنجد ابداعات للمطبخ الامازيغي والاندلسي والتركي والمغاربي والشرق أوسطي والافريقي تتمازج فيما بينها لتقديم هوية خاصة للطبخ والذائقة المغربية.

الثراء والتنوع في الفلكلور المغربي يفتح شهية عشاق الفنون حيث تتعدد الايقاعات في الفنون الشعبية ارتباطا بتعدد البيئات بالقرى والبوادي، والمداشر، والأرباض، ونجد انعكاس الثقافات في الطرب الأندلسي، والغرناطي، والمدائح والفنون الأمازيغية، ورقصات اكناوة، ورقصات أحيدوس، والركادة، والدقّة المرّاكشية، والطقطوقة الجبليّة وغيرها

وللازياء خصوصية تاريخية بالمغرب وعلى رأسه " القفطان " الذي يرجعه المؤرخون الى عصر المرينييّن، فان للتبادل والتنوع الثقافي للمغرب أثره في نبوغ مبدعيه وفلاسفته مثل الفيلسوف والفقيه العلاّمة ابن طفيل صاحب ” حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، أبو الوليد محمّد بن رشد

هذا الغني الثقافي والحضاري التي يعيشه المغرب نتاج طبيعي لتعايش انساني بديع لكل المكونات الثقافية واللغوية والعرقية التي تحيا على هذه الارض الطيبة فهل كان هذا التمازج الثقافي الحضاري وقبول الآخر وعدم نبذ الثقافات والحضارات والديانات الاخرى و المختلقة سببا في التعايش السلمي السياسي والمجتمعي وهل كان عدم تصنيف وتوصيف المواطن بناء على دينه وعرقه سببا في الاستقرار السياسي ادامه الله عليهم ووهبه لجميع خلقه (آمين) وهل كان هذا التعايش والتبادل والانسجام سببا في تنوع مصادر التجارة والصناعة بل والسياحة في المغرب مما ادى لاستقرار اصحاب الثقافات المختلفة والديانات المتنوعة في وطنهم وحال دون هجرتهم وانقراض نوع معين او عدة انواع عن الساحة الوطنية؟ وهل كان لكل هذا دور في عدم تعرض المغرب لهجوم خارجي من قبل اصحاب المؤامرات او اصحاب اجندات الانتقام التاريخي؟ وهل المواطنة والانتماء مبني على عرق او لون او دين ام مبني على المساواة في الحقوق والواجبات واعطاء الفرص وهل سيأخذ باقي العرب المغرب نموذجا للاحتذاء به للمحافظة على مكوناته كل هذه اسئلة تطرح وربما اجوبة تستدعي النظر اليها ودراستها من قبل من يحب وطنه ويتمنى له الاستقرار والتقدم.

***

بقلم سارة طالب السهيل

في المثقف اليوم