قراءة في كتاب

النص الثالث.. ملامسة لكتابة نسائية مضعفة

من خلال كتاب "السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي"1 للدكتورة سعاد الناصر

يعرف الدرس النقدي، النص النقدي بكونه حالة وسطى، بين الأدب والعلم، نظرا للصرامة والجدية اللتين يتطلبهما. كما أنه يكتب بلغة مختلفة عن لغة الإبداع. فيها الكثير من أدوات النقد . فهي ذات خصوصية، بصفتها لغة تكتب عن لغة أخرى. ويفصل الدكتور شوقي ضيف، النصوص التي تتكون انطلاقا من النص الإبداعي: لتتفرع قراءات متعددة له، إلى:

ـ النص الأول: وهو النص الإبداعي،

ـ النص الثاني: وهو نص منجز حول قراءة في النص الأول . أي نص ينبني عبر استنتاجات أفرزتها قراءة الناقد للعمل الإبداعي الذي

يمثله النص الأول.

ـ النص الثالث: وهو منتوج قراءة في النص الثاني، أي كتابة نقدية أخرى، حول النص النقدي الأول، أو ما يصطلح عليه لدى أصحاب النقد الحديث وعلى رأسهم " تودوروف " ب " نقد النقد .

كما يضيف الدكتور شوقي ضيف: أن هناك نص رابع لنقد النقد، يولد عبر قراءة رابعة، للكتابات النقدية المتعددة حول الأثر الأدبي . وتعرف الناقدة يمنى العيد، مفهوم القراءة النقدية أنها " نقد ينتج معرفة بالنص.. تمكن من يمارسها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع. أي من أن يكون معنيا بالحياة التي تنمو وتتغير حوله، فيساهم ه ـ من موقعه في المجتمع ـ في تطويرها".

وكتاب " السرد النسائي العربي، بين قلق السؤال وغواية الحكي"، هو نتاج قراءة ونقد، أفرزت نصا ثانيا حول النص الأول الإبداعي، الذي هو في الحقيقة، ليس نصا واحدا، بقدر ما هو ستون نصا . الكتاب من تأليف الدكتورة سعاد الناصر ـ أم سلمى ـ، ويقع في مائتي وعشر صفحات"210". تقودك صورة واجهة غلافه، نحو وجود أنثوي، تجسده نظرات فاحصة . متراوحة بين السماء والأرض. وهذا ما يجعلك تدرك كقارئ ـ عند آخر صفحة منه ـ أن صورة الغلاف هذه، لها دلالتها بين دفتي الكتاب، غير أنها تشبه جبل جليد، يخفي أكثر مما يبدي.

تنتمي الدكتورة سعاد الناصر إلى فئة النقاد الكتاب.حيث لها عدة مصنفات.كتاباتها تحكمها فلسفتها الخاصة في الفعل الأدبي، وفي الحياة. كتبت الشعر، والقصص والرحلات، ومجالات مختلفة أخرى. وقد أقر تودوروف أن: " الأدب متصل بالوجود الإنساني، وأنه خطاب موجه نحو الحقيقة والأخلاق."2. والكاتبة، بمرجعيتها العلمية ومنهجها الفكري، تقدم للقارئ، من خلال مؤلفها هذا، نموذجا من النقد المعرفي. وذلك بتقصيها مكونات نصوص إبداعية، من جنس السرد الأدبي،كتبت بأقلام نسائية، وكذا موضوعاتها وآليات اشتغالها وتشكيلها. وهي نصوص متصلة بوجود نسائي/إنساني، مبحر في البحث عن سؤالي "الحقيقة والأخلاق".

وظفت الناقدة مجموعة من المواضيع المعرفية، الخاصة بالحضور النسائي، كوجود فعلي، تاريخيا وحضاريا وفكريا، سواء في "المدخل" الذي يمثل أولى وحدات مؤلفها، بعد "التوطئة"، التي سخرتها المؤلفة لبصم كتابها بالهوية النقدية، مصرحة بهذا الخصوص قائلة: "... أراهن على إثارة مجالات متعددة، تفسح الحضن للمساءلة والتأويل في إطار الدرس النقدي"3. وهذا فعلا، ما سنكتشفه في ثنايا نصوصها الاستقرائية، حيث سنجدها قد تسلحت بجملة من المصطلحات النقدية كمفاتيح لقراءتها، منها السرد، والحكي، والجمالية، وبلاغة الزمن السردي، وتجليات الوصف، والوعي والفكر الجمالي...

وفي إطار رهانها هذا، تناولت الكاتبة عينات من الإبداعات السردية النسوية، من زاوية كونها أعمالا تجمع بين المتعة الأدبية والرسالة الأخلاقية. فقدمت لنا عملا عن " تجربة نقدية"، تسردها أنثى أخرى، لها رصيدها من الإلمام بشؤون الإبداع والنقد الأدبيين من جهة، وبالتاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للمرأة، بكل مراحله وقضاياه ومؤثراته. قبل أن تقف عند مرحلة أخرى عنوتها الكاتبة ب: " مرحلة انعتاق الذات الأنثوية "، وفيها التقطت بعين الباحثة/الناقدة حالة " أنثى تكتب عن ذاتها". وهي قراءة تتشابك سياقاتها بين الذاتي من حيث تجربة الكتابة النقدية، ونسبة الوعي بقضايا المرأة، وزاوية النظر التي تقف عندها الكاتبة، والموضوعي من حيث المخزون المعرفي، وامتلاك أدوات القراءة النقدية.

نحتت الدكتورة سعاد الناصر، آليات بحثها الفنية،و شيدت هيكلة قراءتها، ابتداء من اختيارها لنقطة انطلاقها الأولى، في عملية قراءتها للنصوص المختارة. حين بدأت تطبيقاتها المفاهيمية، على مجموعة سردية نسائية، ذات حمولة أنثوية تاريخية، راسخة في الذهنية النسائية والرجالية على حد سواء وهي مجموعة " شهرزاد تبوح بشجونها " . وهو اختيار ينم عن توجه في القراءة، يروم البحث عن المشتركن بين أديبات عربيات، من جنسيات عربية متنوعة، هن كاتبات المجموعة.و عن رأي الكاتبة في هذا الاختيار:" شخصية شهرزاد التي حققت طموح انعتاق الذات الأنثوية في التراث العربي."4 ص 55

قدمت الدكتورة سعاد الناصر، في الفصل الأول من كتابها، عرضا كرونولوجيا لتموقعات المرأة، الاجتماعية والثقافية والسياسية، عبر أزمنة التاريخ العربي . وبطرحها ـ في الفصل الثاني ـ لمحور " فتنة المصطلح"، المتعلق بما يسمى لدى البعض من الأدباء ب " الكتابة النسائية " ـ وهو مصطلح تتحفظ منه الأديبات العربيات ـ تصر الكاتبة على تصنيف مؤلفها في خانة المؤلفات النقدية، التي تجيب على السؤال الأساس للنقد . وتثير في نفس الوقت، مسألة نقدية، لا زالت مصدر جدل في الأوساط الثقافية والأدبية والنقدية، منذ الخمسينات من القرن الماضي. والحقيقة أن الكاتبة، تمكنت من ملامسة النصوص السردية النسائية المختارة، من موقع أكثر قربا، وفرته لها صفتها الأنثوية، التي مكنتها من التقاط إيحاءات السرديات المقروءة، الخاصة بخبايا الأنثى الدفينة . وقد أوردت في هذا الشأن، شهادات لأديبات وآراؤهن حوله،كالناقدة يمنى العيد، والأديبة السورية غادة السمان والقاصة المغربية خناثة بنونة.5، وجميعهن يرفضن التسمية.

الكتاب يعد قراءة في المنجز السردي لستين كاتبة عربية، من بينهن مغربيات . انطلقن في مسارهن الإبداعي من العام إلى الخاص، من قضايا الوطن والطبقية، والقضية الفلسطينية الى القلق النفسي الفردي، وإثبات الذات. يؤطرها التزام منهجي، لا يمكن تجاهله، في شقيه التنظيري والتطبيقي. وبوحداتها ومنطقيتها النسقية. استدلت المؤلفة لكل محور من محاور قراءتها، بالاستدلالات التي تناسبه. وثقت استنتاجاتها بمقاطع من النصوص المقروءة، لتؤكد رؤيتها الأدبية والأخلاقية. ضمنت كتابها، حقيقة كل يجسد تجربة نسائية في الكتابة عن ذات الأنثى.كما توحي لنا مضامين قراءتها للتجارب المعتمدة، أن ملامح منهجها تمتح من المنهج الاستدلالي، الذي من أسسه أن " الانسان يفعل وفقا لما يرى فيه الأنفع" . وهو منهج يعمل به في الرياضيات والقياس، وأيضا في العلوم الانسانية والاجتماعية، ومن ركائزه الأخلاقية أيضا:" أن كل إنسان يبحث عن السعادة".

مكنها هذا المنهج ـ الذي يبدو أن المؤلفة قد سلكته، من تفكيك البنيات الشكلية والفكرية، التي تنبني عبرها تلك النصوص، فقسمتها إلى مفصلين: الأول مفصل اختارت له عنوان: التشاكل الأنثوي في السرد النسائي، وقد فككته ـ هو الآخر ـ إلى محاور ثلاث هي:

ـ المستوى الطيني: وتعرفه الكاتبة:" أنه المستوى الذي تختزل فيه أنثوية المرأة في جسدها... إلى أن تقول:.. فتتكرر وتتشابه المعاني الدالة على كل ما يحوم حول اعتبار المرأة متعة جسدية لا ينظر اليها الا عبر جسدها"6 ص 88

ـ المستوى الروحي: ومما تسوقه المؤلفة في شانه: " ...و تضع المتلقي ازاء محكي ينتشل المراة من وظيفتها الجسدية الى وظيفة روحية محضة...7" ص 100

ـ المستوى المتوازن: ونورد مقولة للكاتبة بصدده:" من الصعب بمكان الحفاظ على توازن الذات الإنسانية دون التشبث بالقيم . فلا إنسانية دون قيم . ولا حضور جسدي في ظل غياب روحي، إلا عند الانغماس في الطين اللزج . ولا حضور روحي في ظل تغييب رغبات الجسد، ومتعه المادية المشروعة."8 ص 107

تقصت المؤلفة في مفصل "التشاكل الأنثوي في السرد النسائي " قضية " الحقيقة والأخلاق"، التي أشرنا إليها في البداية بنص تودوروف . وهي قراءة اهتمت بسلم القيم لدى إبداع سردي نسائي، خاص بعينات من الأديبات العربيات من مختلف المشارب والتوجهات.

المفصل الثاني، اختارت له عنوان التشكلات الجمالية في السرد النسائي. وفككته إلى أربعة محاور هي:

ـ جمالية العنوان: وتحته تدرج المؤلفة قراءتها في عتبة عناوين الأعمال السردية موضوع كتابها، ملخصة استنتاجاتها قائلة:" ويمكن القول من خلال هذه العينة من عناوين السرد النسائي، أنها تحمل في أغلبها طاقات تخييلية وانزياحات دلالية .. وتأويلات متعددة تشد القارئ وتحثه على المتابعة والتأمل." 9 ص 129

ـ بلاغة الزمن السردي: وتتحرى المؤلفة،عن هذا العنصر البنائي في التشكيل السردي في الأعمال موضوع القراءة، نأخذ عينة رواية "عزوزة" للأديبة المغربية الزهرة الرميج، حيث تقول المؤلفة:".... فالأحداث ترتد إلى البداية لتسم زمنها بالدائرة المؤطرة للرواية والحاملة للكثير من المعاني.......فرغم دورة الزمن ووصوله إلى النهاية فهي ما زالت تفرض حضورها الآسر."9 ص 146

ـ تجليات الوصف: بعد تعريفها لمصطلح الوصف قديما وحديثا، وإشارتها إلى وظائفه الجمالية والتقنية في النصوص، قدمت في نهاية المحور الخاص به، صورة عن استعمالاته في النماذج، نقدم هنا مقتطفا عنها " فتح ـ وتعني الوصف ـ آفاقا متخيلة لتقريب الأحداث وإضاءة أعماق بعض الشخصيات، من أجل التأثير على المتلقي، وإقناعه، وإمتاعه أيضا، لأنه يتصل بذاكرة المبدعات، ورؤيتهن ومواقفهن، بشكل لا يمكن الاستغناء عنه." ص 158

ـ الوعي الفكري والجمالي: وقد اختارت المؤلفة ان تتناوله من باب "النقد الأدبي" . وهو الباب الذي منه ولجت إلى قراءة نصوصها. تقول بهذا الخصوص: " والذي يهمنا في هذا المجال، هو الاستفادة من مفهوم" تيار الوعي في النقد الأدبي"، وأشارت في هذا السياق إلى تاريخ ظهور مصطلح " تيار الوعي في النقد الأدبي"، أسفل الصفحة. ومن تطبيقاتها لهذا المصطلح، ما أوردته الكاتبة عن استقراء الوعي الفكري الجمالي في " حواريات الإنسان والبحر" لنافدة الحنبلي من الأردن، في قولها:" نجد أن النص نوع من الاستجابة الواعية للدعوة إلى النظر في ملكوت الله سبحانه وتعالى، وسعي إلى كشف التناقضات التي يعيش فيها واقعنا والغربة التي يعانيها الإنسان المتمسك بدينه في عالم يسوده القهر، والظلم، والفساد، وتفسخ العلاقات." 9 ص 162

علقت الأديبات العربيات في شراك " غواية الحكي"، بعد أن حيرهن قلق السؤال، واختلفت بهن سبل البحث عن ينابيع الأجوبة . منهن من هرولت . ومنهن من مشت بتؤدة في مسلك روحاني وحيد الاتجاه . ومنهن من أمسكت بأسرار الكتابة المتوازنة، " المتصلة بالوجود الإنساني، الموجهة نحو الحقيقة والأخلاق." فجاء كتاب "السرد النسائي العربي، بين قلق السؤال وغواية الحكي"، تخطيطا لخرائط خطوهن. حيث صاغت مؤلفته ـ من خلالها ـ نصها النقدي الممتلك لشروط وجوده كاملا، من مصطلحات نقدية، ومفاهيم تحليلية وتأويلية، ووحدات متوالية ممنهجة. وثقته بفقرات من النصوص السردية المقروءة. كما لم يفتها أن توثق استنتاجاتها، بشهادات بعض النقاد والأدباء، التي تؤيد مواقفها من النصوص المقروءة، ووجهة نظرها، سواء تعلق الأمر بأشكالها البنائية، أو بمضامينها وبإيحاءاتها التأويلية .

 

بقلم: الزهرة حمودان

  

في المثقف اليوم