قراءة في كتاب

الشيخِ والفلّاح في العراق ..لحنا بطاطو.. خطوة أولى نحو النضج

453 حنا بطاطوتُعد المسألة الزراعية في العراق من القضايا الرئيسة التي إهتمت بها الدراسات، ودار حولها النقاش بين ممثلي مختلف الطبقات والفئات الإجتماعية والسياسية، طيلة عقود من الزمن في تاريخ العراق الحديث، منذ تأسيس الدولة العراقية أوائل القرن العشرين، ونالت المسألة موقعاً إستثنائيا لما لها من أثر بالغ في مستقبل التحولات لتغييرات في التركيب الإجتماعي في الريف العراقي، وكانت ملكية الأرض والعلاقات الزراعية محوراً جوهرياً في النقاش، ولسنا نشك بأنه مازال قائماً ومستمراً .

وفق هذا السياق جاءت إطروحة حنا بطاطو (الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958) التي قدّمها لجامعة هارفرد الأمريكية لنيل شهادة الدكتوراه عام 1960، والتي صدرت مؤخراً في كتاب عن دار سطور البغدادية، بترجمة د. صادق عبد علي طريخم، وتقديم د.سلمان الهلالي .

إن القضية الجوهرية في البحث تتمثل في تتبع قضية حيازة الأرض في العراق، ودراسة الأسباب والقوانين التي حافظت على مصالح الأقطاعيين، وأصحاب النفوذ من الشيوخ في إقطاعيات واسعة جدا، فضلاً عن تثبيت سلطة الشيخ وما أعقبها من تطورات سياسية وإجتماعية وإقتصادية، وإعتُمد هذا المفهوم كقاعدة أساسية، عند الإشارة إلى العوامل التي أسهمت في تطور بنية إقطاعيات (الشيخ ) شبه الأقطاعية ومنها العامل الخارجي المتمثل بسياسة حكومة الإحتلال البريطاني منذ عام 1914، والتي تستمد قوتها من وجود مراكز قوى متعددة، ومحافظتها على توازن مناسب بينها . بإختصار شديد يمكن القول ان موضوعة الأرض (الملكية الخاصة)، هي أساس سلطة الشيخ، وهي مفتاح سلوكه السياسي والإجتماعي، ووظفت حيازة الأرض بأبشع ما يمكن من وسائل مادية للإبقاء على الواقع المتخلف .

حسناً فعل المترجم حين رفد المكتبة العربية بدراسة مضى عليها أكثر من خمسة عقود من الزمن، مركونة في مكتبات جامعة هارفرد، لم تتيسر للقارىء العربي قراءتها بلغته، سيما وان المنجز المهم لبطاطو (تاريخ الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) ماثل أمامنا بعلميته وموضوعيته الفائقتين، وبذل المترجم جهداً كبيراً في الشرح والتوضيح والتحقيق، معتمداً مصادر عديدة في ملء فجوات كثيرة تخللت الدراسة .ومعالجة بعض الإخفاقات فيها، وتقودنا هذه الملاحظة الى التنويه إليها، والتوقف عند بعض الإشكالات التي واجهت المؤلف والمترجم معاً .

إن أولى الإشكالات، تلك التي تتمثل في العنوان (الشيخ والفلاح في العراق)، الذي يوحي ضمناً، ان الدراسة ستعنى بعلاقة الشيخ والأرض في عموم العراق، وبإطاره الجيو- سياسي الذي تشكل بعد قيام الدولة العراقية أوائل القرن العشرين، إلا أن الإطروحة خلت من تقصي المسألة الزراعية في (شمال العراق)، سوى ملاحظات قصيرة وسريعة عن شيوخ الأراضي الجبلية، وإكتفى الباحث بالإشارة إلى بعض الأسماء التي أسهمت في المشهد السياسي لتاريخ العراق الحديث، كـ (محمود البرزنجي، وأحمد أغا البارزاني – ص 54)، فهذان الشيخان يمسكان بالقيادة السياسية والدينية لقبيلتيهما (ص35)، وركزت الدراسة على وسط وجنوب العراق، أو ما يعرف بمنطقة السهل الرسوبي، والأراضي الي تسقى سيحاً .

كما أن إختيار مفردة (الشيخ)، بما تحمل من رمزية، فإن لها أكثر من دلالة في البحث والمعنى، فإعتمد بطاطو المتداول في اللغة العامية، في إحالة منه لطبقة ملاكي الأرض من إقطاعيين، ورؤساء عشائر، وموالين للإنكليز، وللسلطة الملكية الجديدة .لذا نعتقد ان عنوان الإطروحة باللغة الإنكليزية، كان ضروريا أن يثبت في غلاف الكتاب الأخير، لنتجنب التأويل والوقوع في لبس تفسير المفهوم، وهو تقليد دأبت عليه البحوث الأكاديمية، وشرط تلتزم به الترجمات لإستشعارها بأهميته الحيوية .

وحصل كذلك مع تسمية الأراضي الأميرية بـ (الميرية)، المعروفة بالأراضي المملوكة للدولة، وأحسب ان هذه الملاحظة لاتفوت المترجم، في إستعمالها الصحيح الوارد في النص، رغم ما بذله من جهد متفحص في شرح العديد من المصطلحات، وتجدر الإشارة الى ان قانون تسوية الأراضي رقم 50 لسنة 1932، وما تلاه من قوانين، كانت خاتمة المطاف لنهب أراضي الدولة والفلاحين والمالكين ومتوسطيهم، ومنح هذا النهب الصفة القانونية الثابتة، بتنظيم سندات وسجلات الطابو على أساسه، بمعنى آخر هو تفويض الأراضي لمن تجاوز عليها بلا بدل، وبمساحات غير محدودة، وإنتزاع الأراضي المفوضة من المالكين الآخرين والزرّاع الفعليين، ومنحها لرؤساء العشائر .

كان يمكن للمترجم ان يقدم النص كما كتبه بطاطو دون تعليق أو شرح، إلا انه تلمس الطريق الصعب في الترجمة، فإنغمس فيها وإستعان بالمصادرللنفاذ إلى جوهر الدراسة، وتنفس إجوائها، وتأمل أبعادها، محاولاً الإضاءة والإستبصار، إلا ان محاولته تلك قادته الى التدخل في التوضيح والإضافة والتعديل،أو الإجتهاد بلسان الكاتب، وأحياناً يذهب إلى التأويل، كما ورد في (ص 181-182)، إذ يقول في هامش(2) : يريد حنا بطاطو أن يبين ان المهاجرين إلى بغداد لم يحصل عندهم ذلك التعاطف مع أتباع الحركة الوطنية والثورية ضد العهد الملكي بسبب الموروث السلبي الذي يحملونه ضد المدينة، والتي إرتبطت بذاكرتهم بالإبتزاز والسرقة والربا والإحتقار وغيرها . فتبدو المقاربة ضعيفة جداً بين ما توصل اليه بطاطو، وبين ما ذهب اليه المترجم هنا .لاحظ الفعل (يريد) !!!ولنا في هذا اللون من الترجمة أصول وتقاليد تستحق الصيانة والإثراء المستمر .

ولئن كان بمستطاع الدراسة أن تلتقط الصلات بين الشيخ والفلاح، ومحاولة الباحث النزوع الى التجديد في البحث بمناخه الخمسيني، غير انه تجاهل الكثير من المصادر العربية والعراقية تحديداً، وهي دراسات مهمة لأسماء معروفة في الإقتصاد الزراعي وتاريخ العراق، سيما بعد قيام الجمهورية الأولى عام 1958 .

وفي الدراسة خلط بين تسميات ومفاهيم، بين الشيخ والإقطاعي، وبين رجل العشيرة والفلاح، أو بين العشيرة والقبيلة، ومن التعسف أن يطلق بطاطو تسمية رجال العشائر على المهاجرين من الريف الى المدينة، وهم فقراء الريف من الفلاحين المعدمين، بما يحملونه من إرث تاريخي في التخلف والحرمان . الأمر الذي جعل من الهجرة ظاهرة إجتماعية خطيرة لنتائجها الكارثية على المجتمع المدني، والتي توّجت بخطوة إرتجالية وشعاراتية لبناء مدن كبيرة في أطراف العاصمة بغداد لمهاجري الريف، بدلاً عن تحسين الظروف المعاشية لهم، والنهوض بالواقع الزراعي على أسس علمية صحيحة ومتأنية .

وفي معرض وصفه لطبقة الشيوخ، يقول بطاطو: انها طبقة أمية إلى حد كبير (ص99 )، بينما يقول عن الشيخ موحان الخيرالله (من شيوخ الغراف) إنه كان مثقفاً، ولم يقدم لنا دليلاً على مستوى ثقافته، سوى انه ترأس المجلس العراقي للعشائر العراقية لدعم فلسطين (ص99)، وتؤكد الحقائق التي يدل عليها الواقع السياسي في العهد الملكي، على تمتع الشيوخ بإمتيازات كبيرة في مجلسي النواب والأعيان، وفي الحكومة، بغض النظر عن المؤهلات الدراسية والفكرية لهؤلاء .

إن إطروحة حنا بطاطو كانت الخطوة الأولى نحو التوسع والعمق، وحث الخطى إلى النضج المرتقب والأرحب، فإن تخللتها هنات هنا وهناك، فهي لا تشكل عامل إحباط وصمت، وقدر الناقد أن لايصنع سدودا تحرف التيار عن مساره الصحيح، فتجربة الكاتب والمترجم إضافة إلى الإبداع التاريخي المنجز.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم