قراءة في كتاب

ميخائيل نعيمة وقضية فلسطين

سوف عبيدأصدرت الدكتورة فـــوزيـــة الصــّفار الـــزاوق كتابا حول السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث من خلال كتاب ميخائيل نعيمة (سبعون) تناولت فيه بالدراسة والتحليل منهجية الكتاب وأساليبه الفنية وقضاياه الفكرية والفلسفية بالإضافة إلى مدى الصدق والتذكر وإلى حدود الإخفاء والتصريح فيه. فالكتاب من هذه الناحية يمثل إضافة في مجال دراسات الترجمة الذاتية كجنس أدبي مستقل.و قد أوردت الدكتورة فوزية الصفار الزاوق في الفصل الأخير من كتابها الصادر في تونس نصا لميخائيل نعيمة تحت عنوان (فلسطين مملكة يهودية) كان في الأصل ضمن كتاب (سبعون) لكنه لم يثبت فيه وانتزع منه ونشر لاحقا في أعماله الكاملة والنص يعود إلي سنة 1915 وقد نشره ميخائيل نعيمة بصحيفة (مرآة الغرب) في الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان لا يتجاوز السادسة والعشرين من عمره ويقوم هدا النص الوثيقة على اعتقاد انكلترا في إمكان تأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين لحراسة مصالحها في إفريقيا وأسيا وينبري ميخائيل نعيمة مرافعاعن الحق بكل قوة حاثا الرأي العام العالمي والعربي والفلسطيني على التحرك بسرعة ونجاعة قبل فوات الأوان ونحن عندما نقرا هذا النص من جديد بعد أكثر من قرن على نشره في أمريكا لا بد أن ندرك مدى وعي ميخائيل نعيمة بخطر القضية الفلسطينية من ناحية ونتبين مساهمة الأدباء العرب مند مطلع القرن في الدفاع عن قضايا الأمة العربية من ناحية أخري.

في مقال نعيمة نقرأ وثيقة تاريخية نقلها عن جريدة (البستاندرد الصبرانية) جاء فيها خاصة (أن اعتقاد الأمة الانكليزية يزداد من يوم إلى يوم ،هـﺫا ولا شك فيه أمر مهم للغاية وإذا خرج إلي حيز العمل فسيأتي أبناء امتنا وإخواننا في الدين لا سيما المضطهدين منهم في روسيا بنفع لا يقدر وكيفما كان الأمر فدخول تركيا في الحرب واقتسام أملاكها الذي لا بد أن يأتي عاجلا أو آجلا كما نوهنا في ما سبق، لا بد أن يحدث تغييرا حيويا في حالة الأمة اليهودية في الأرض المقدسة فليس لنا الآن إلا أن نصلي ونترجي بان هﺬا الانقلاب المنتظر سيضع أساسا جديدا لمستقبل مجيد لنا.

هذه الفقرة التي أوردها ميخائيل نعيمة تدل بوضوح على الاستشراف الخطير لدي الإستراتيجية ّالصهيونية في الاستفادة من موازين القوي في العالم وتهيئة التناقضات لصالحها ويسرد ميخائيل نعيمة بعد ﺬلك مواقف الأطراف الأخرى خاصة يهود أوروبا وأمريكا في إنشاء المملكة اليهودية ثم يتعرض إلي موقف المسيحيين ويتهجم على موقف انكلترا بعد ذلك قائلا انه من الغرابة أنها تدعي الدفاع عن الحرية وحقوق الضعيف ثم تقدم علي بيع مليون من الشعب الفلسطيني بأموالهم وأرزاقهم عبيدا لقبضة من شعب آخر غريب عنه جنسا ودينا ولسانا لأن دلك يوافق مراميها السياسية وينبه نعيمة إلى هﺬا الخطر عندما يري أن اليهودي سيشتري الأرض من الفلاح الفلسطيني ثم يملك أعنة التجارة والسياسة فيلعب بالفلاح المسكين الذي لا يقدر على مباراة اليهودي إذ كان في الصناعة أو في الزراعة أو في العلم أو السياسة. ويختم نعيمة مقاله كما يلي :

و الله لتلك أكبر جريمة ترتكبها انكلترا بل العالم كله إذا باعوا فلسطين وسكانها لليهود لمطامع سياسية أو ترهات دينية.و إذا أحبت انكلترا أن تجعل فلسطين مستقلة لغايات دولية فلماﺬا لا تجعلها كﺫلك تحت إدارة أهلها ولا خوف عليها من عصيان اليهود وتمردهم. هـﺬا ـ نص وثيقة ـ يجدر التوقف عنده.

فلسطين ممـلكة يهودية

” إن اعتقاد الأمة الانكليزية بإمكان تأسيس مملكة يهودية مستقلة في فلسطين تحت حماية انكليزية يزداد من يوم إلي يوم. هﺫا ولا شك أمر مهم للغاية وإذا خرج إلي حيز العمل فسيأتي أبناء امتنا وإخواننا في الدين – لا سيما المضطهدين منهم في روسيا- بنفع لا يقدر…..و كيفما كان الأمر فدخول تركيا في الحرب واقتسام أملاكها الذي لا بد أن يأتي عاجلا أو آجلا كما نوهنا في ما سبق لا بد أن يحدث تغييرا حيويا في حالة الأمة اليهودية في الأرض المقدسة. فليس لنا الآن إلا أن نصلي ونترجى بأن هﺬا الانقلاب المنتظر سيضع أساسا جديدا لمستقبل مجيد لنا

هذه فقرة من جريدة “البستاندرد العبرانية” وخذ لك ألف فقرة كهذه الفقرة ظهرت في الصحافة العبرانية وغير العبرانية في جميع أقطار العالم.

في دماغ من ترى هذا الفكر ونما ونضج ثم طار بالبرق من شرق الأرض إلي غربها ومن شمالها إلى جنوبها- لا ادري ولا يهمني أن أدري. هذه الحرب قد ملأت الأرض أنبياء ومفسري أحلام ، لكن نبي استقلال بني إسرائيل وعودتهم إلى أرض أجدادهم قد وجد لنفسه في الحال ألوفا بل ملايين من التباع بين العبرانيين وغيرهم لأن نبوءاته تحرك في بعضهم شعورا دينيا وتأتي الآخرين بمنافع سياسية واقتصادية.

بعض العبرانيين ينظرون إلى هذا الأمر من جهة دينية فيُسمعون أشعيا وارميا وحزقيال ودانيال يكلمونهم من وراء حجاب ثلاثة آلاف سنة أو أكثر يبشرونهم “بمسيا” المنتظر الذي سيقود شعب يهوﺬا المختار إلى أرض الميعاد ويجدد صهيون. وأنهم يرون في هذه الويلات التي تصبها السماء علي العالم في هذه الأيام يد الله تسطر على شواطئ الحياة كلمات لا يفهمها سواهم. ومعناها “إلي خيامك يا إسرائيل”. وإسرائيل يعد العدد ويسهل الطرق بكل ما وهبه اله إبراهيم واسحق ويعقوب من قوة الدهاء وما أعطاه من موهبة جمع المال ليلبي دعوة أنبيائه. وهو يري الآن صهيون ترتفع من بين أشلاء الجنود وخنادق الموت تزينها عظمة الأجيال ويكللها مجد داود وسليمان وتخفرها ملائكة العلي فيخر خاشعا ويمتلئ قلبه أملا وسرورا.

هذا ما يراه ويقوله بعض العبرانيين. فماذا يقول المسيحيون؟

من بلاء المسيحيين وسوء حظ المسيحية انك تجد ألوفا بين تباع الناصري من الذين ينكرون تعاليمه وينكرونه إذ فصلت إنجيله عن أسفار موسي وإذا قلت لهم انه جاء ليس ليتمم نبوءة ﺬاك أو حلم هذا بل ليضع خمرا جديدا في وعاء جديد وليريح المستعين والثقيلي الأحمال. هولاء لا يرون في التوراة سوي حرفها الميت..لذاك يجهدون أنفسهم ليطبقوا كل حادثة جرت أو تجري أو سوف تجري على نبوءة ما من نبوءة من نبوءات أشعيا وإخوانه في الفن. ولو سألتهم رأيهم في الحرب الحاضرة لدلوك على العدد الفلاني من الكتاب الفلاني حيث تجد تفاصيل الحرب كلها بأسماء قوادها وحصونها وعدد جيوشها ومعاركها وأسبابها الخ. فهل تعجب إذ ا رأيت هولاء القوم قد تمسكوا بكل شرايين قلوبهم وفقرات أدمغتهم بهذا الفكر عن تجديد المملكة الإسرائيلية ويتولي شعورهم الديني ويبرهن لهم عن عظمة الله الذي يعبدونه.

أما بقية اليهود فبينهم من يقولون”صهيوننا واشنطون”.فيفضلون البقاء حيث هم.لكن أكثرهم يرون في نشر المملكة اليهودية حلا لمشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن يتصور ما لاقاه وما سيلاقيه اليهودي بين بقية شعوب الأرض من الهزء والاحتقار والاضطهاد لا يلومه إذ سعى بكل ما لديه من الوسائط ليعيش في بلاد يكون سلطانها ولا يخجل أن يتجاهر فيها بدينه وجنسه دون أن يعرض نفسه لمقت القوم أو ازدرائهم.

أما الأمم التي يساكنها اليهودي- لا سيما روسيا- فتعده بنيل هذه الأمنية تخلصا منه لا حبا به لأنه ضيف ثقيل في أرضها وعلى شعبها. وعدا ﺫلك فلانكلترا على الأخص غاية سياسية ذ كرتها الجرائد غير مرة وهي أن تبقي فلسطين المجاورة لأملاكها الاسوية والإفريقية تحت سلطتها فعلا إنما في يد شعب مستقل اسما لا خوف عليها منه لأنها تعرفه شعا تجاريا لا حربيا. ومهما عظمت سلطته المالية تبقي قوته الحربية صفرا بالنسبة لقوتها.

هكﺫا اتفق أقوياء هدا العالم ومديرو دفة سياسة الأرض، وهكذا سمعنا وسمعت جرائدنا. وهكذا.. سكتت جرائدنا وسكتنا. ربما تتم هﺬه النبوءة بعد الحرب وربما لا تتم. لكن الأمر الذي تم الآن هو أن العالم سيتناقل هذه النبوءة ويستحسنها. والظاهر أنه يسعى لتحقيقها ونحن صم لا نسمع وبكم لا نتكلم كأن هذا الأمر لا يعنينا على الإطلاق أو كأن هذا الأمر لا يعنينا على الإطلاق أو كان فلسطين قطعة من بلاد المغول أو جزيرة من جزائر الفيليبين لا جزء من البلاد التي ننتمي إليها. فلا أهلها أهلنا ولا بيت لنا فيها ولا مرقد عنزة.

أفمن خمول بعد هذا الخمول؟ أمن موت بعد هذا الموت؟

رأت بعض ممالك الأرض أن من صالحها أن تجعل فلسطين أرض قفراء لا عمار فيها ولا حياة. وكلما يجب لجعلها مملكو مستقلة أن تضع فيها بضعة آلاف من اليهود وتقيم عليهم ملكا وتقول لهم: “أحرثوا هذه الأرض وتنعموا بأثمارها وتكاثروا كرمل البحر”. لكن في فلسطين مليونا من البشر الذين ولدوا وشبوا فيها ودفنوا أجدادهم وأجداد أجدادهم. هم يدعونها وطنهم وليس لهم في العالم كله حيث يلقون رؤوسهم سوى في تلك البقعة من ارض الله. فيها رأوا النور وفيها يفارقون الحياة. تحت سمائها يحلمون أحلامهم وفوق تربتها يسيرون بهمومهم وأفراحهم وأشجانهم. أيديهم وأيدي أسلافهم من قبلهم بقرت وتبقر تربتها.عظامهم تغذي نبتها وعرق جباههم يسقي زرعها.فبأي شرع أو دين أو حق يجوز للانكليزي أو سواه أن يأتي بيهودي إلي ساكن فلسطين ويقول له : “أجداد هذا الرجل كانوا يقطنون في هذه البلاد من ألفي سنة. وهكذا فالأرض أرضه لأنه ورثها عن أجداده. أما أنت ففتش لك عن ارض غير هذه الأرض فقد تعديت على حقوق هذا الإنسان تعديا”- فهل قطن أجداد الانكليزي في كندا أو في استراليا أو الترنسفال أو مصر أو الهند أو غيرها؟ ومن أوحى له بحق الوراثة في تلك البلدان؟

أليس من الغرابة أن انكلترا التي تدعي أنها جردت سيفها في هذه الحرب دفاعا عن الحرية وحقوق الضعيف تقدم الآن فترتكب إثما كهذا الإثم بأن تبيع مليونا من الشعب بأموالهم وأرزاقهم عبيدا لقبضة من شعب آخر غريب عنه جنسا ولسانا لأن ذلك يوافق مراميها السياسية أو لاعتقادها بأن لليهودي حقا في فلسطين ورثه عن أجداده؟ وهذا في الحقيقة ما يحل بنا إذا تمكنت انكلترا من الجري بهذه الخطة- اليهودي سيشتري الأرض من الفلاح الفلسطيني ثم يملك أعنة التجارة والسياسة وهناك يلعب بالفلاح المسكين على هواه. وذلك شر من العبودية. وهل فلاح فلسطين قادر على مباراة اليهودي إذ كان في الصناعة أو في الزراعة أو في العلم أو السياسة؟ والله لتلك أكبر جريمة ترتكبها انكلترا بل العالم كله إذا باعوا فلسطين وسكانها لليهود لمطامح سياسية أو ترهات دينية. وإذا أحبت انكلترا أن تجعل فلسطين مستقلة لغايات دولية فلماذا لا تجعلها كذلك تحت إدارة أهلها ولا خوف عليها من سطوة الفلاح الفلسطيني أكثر مما عليها من عصيان اليهود وتمردهم.

أقول ذلك ثم أسال نفسي: ” ولماذا نلوم انكلترا إذا شاءت أن تبيع فلسطين وهي للان لم تسمع كلمة شكوى أو تذمر من الشعب الذي يدعو فلسطين وطنه وبيته؟”.

نعم. ولماذا نلوم انكلترا؟

هل من أخ فلسطيني يجيبني على هذا السؤال؟ ـ انتهى نص نعيمة ـ

و بعد: لكأن قلم صاحب المقا ل لم يجف بعد…فهل مازلنا نراوح الخطى في نفس المكان؟

 

سُوف عبيد

 

في المثقف اليوم