قراءة في كتاب

إيمان الحرية وإيمان الاستعباد في كتاب الدين والاغتراب الميتافيزيقي

احمد الديباويفي كتابه الأخير: "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" يكشف عبدالجبار الرفاعي عن جدل الايمان والاعتقاد وصلته العضوية بالحرية والعبودية في الحياة، بعيدًا عن متاهات المتكلمين، فينسج نسيجه الشاعري ذا البُعد الروحي حول الإيمان، وينثر أفكاره وتأمُّلاته الدينية والأخلاقية قبل أن يتوحّد معرفيا ووجدانيا مع مفهوم الإيمان وحقيقته، مستلهِمًا مباهجه الرُّوحية التي ما إن تستقرّ في القلب، وتأوي إلى الروح، فإنها تختزن فيهما، وتنطلق كنور يكشف للإنسان معنى وجوده، لذلك لم يجد الرفاعي مناصًا من وصف الإيمان بأنه "حالة ديناميكية حية"؛ فهو ليس فكرة أو معرفة أو معلومة، لكنه حالة روحية يتذوقها الوجدان، أو هو جذوة متوهجة، كأنها طاقة مُشعّة.

معنى الإيمان وعلاقته بالحُب

الجذر اللغوي للإيمان هو الفعل الماضي (أمِن)، والأمن نقيض الخوف، والرعب، والرّوْع، والفزَع، والرجل الأمين هو الرجل الثقة، الحافظ، والإيمان لغة هو التصديق القلبي، بخلاف الإسلام الذي هو إذعان واستسلام من دون تصديق بالقلب، ما يعني أنّ الجِذر اللغوي (أمِن) إنما يدور حول معاني: الأمان والطمأنينة والسكينة والراحة النفسية والسكون القلبي، وهو ما أدركه الدكتور الرفاعي عندما تناول، باختصار، مبحث الإيمان والاعتقاد، كأحد مباحث كتابه الأخير: (الدين والاغتراب الميتافيزيقي)، رابطا بين الإيمان والروح من جهة، وبين الإيمان والحب من جهة أخرى؛ فالروح لأنها وديعة الله وسرّه عند الإنسان، فإن الإيمان يفيض عليها طاقةً ملهِمة، فيتبادلان السكن والارتواء؛ "ذلك أن الإيمان عودة الروح إلى أصلها الإلهي، أودَع الله لدى كل إنسان روحا منه"، وهذه الروح/ الوديعة تغيب متى غاب الإنسان عن الله، ولا يستردها إلا الإيمان.

وأما الربط بين الإيمان والحب، فيفسره انبثاق كليهما من أصل واحد، فلا إيمانَ دون حُب ولا حُبَّ دون إيمان، فكلاهما في "صيرورة، وتفاعُل، وفوَران"، وكلاهما مؤثر في الآخر؛ فالإيمان عندما يقوَى فإن الحب يقوى كذلك تبعا له، والعكس صحيح، فالإيمان – إذن – جذوة حُب متوهجة، لذلك كان منبعه القلب، ومن لوازمه: الأمن، والثقة، والطمأنينة، والسلام، وكل معاني الراحة والسكون والسلام.

يبدو عبد الجبار الرفاعي، وهو يناقش معنى الإيمان، شاعرًا أو متصوفا حالمًا، لكنه مع ذلك يستطيع أن يجعل  من كلماته وتحليلاته اللغوية والنفسية لمعنى الإيمان ،ذات قيمة علمية ونفسية عظيمة، بل ذات قيمة فلسفية تغترف اغترافا من الدين، بوصفه حالة رُوحية أخلاقية، قبل أن يكون حالة جامدة من الأحكام والأوامر والنواهي، واللاهوت المغرِق في الميتافيزيقا واللاعقل، فالرفاعي يجعل الإيمان  – وَفق فهمه ووعيه الذاتي – مفتاح السلام بين الأديان، وبوابة العبور إلى فضاءات الحرية والحب والخير والجمال، وتجلياتها في كلمات الله التدوينية (القرآن والكتب السماوية)، والتكوينية (الكون ومظاهره)، فالإيمان عنده "هو الحضور في حضرة الله، والإصغاء لنداء القلب، والإحساس بوجوده، مثلما يحس الإنسان بالبهجة في داخله".

الاعتقاد مفهوم ساكن والايمان حالة تنبض بالحياة

وإذا كان الإيمان مفهوم ديناميكي يتطوّر وينمو ويتفاعل، فإن الاعتقاد مفهوم ميكانيكي جامد، ثاو في الذهن، مفرَّغ من كلّ نبض وحياة؛ لذلك لا يتحول الاعتقادُ إلى حب، كما أن الحب لا يتحول إلى اعتقاد، ولا أدل على ذلك من متابعة معاني الاعتقاد ومرادفاته المستقاة من الفعل (عقَد)، فأظهَر ما تحيل إليه: الإبرام والحبك والتعقيد والغلق، وغير ذلك من معانٍ تجعل مدلول الاعتقاد جامدا، ومؤطَّرا بحدود، حتى ليبدو كأنه سجنٌ ذو أسوار بناها المتكلمون والمفسرون والمحدّثون، فجعلت لله تعالى صورة نمطية لا ينفكّ عنها، صورة ليست في سياق رحماني أخلاقي، بل في إطار القيم الأبوية ومفردات الرِّقّ والاستعباد والتسلط؛ لذلك لا غرو في أن نجد كثيرين، إنْ من أتباع الأديان الوحيانية (السماوية)، وإنْ من أتباع الأديان الوضعية (الأرضية)، يتشبّثون دون تفكير وإنعام نظر، بمعتقدات وأيديولوجيات، ربما يموتون من أجلها، بل في بعض الأحيان يقتلون غيرهم إن هم خالَفوهم ولم يتّبعوهم، لذلك فإن جماعات الإسلام السياسي تستغلّ تلك النقطة، فتتكئ على البُعد العقائدي، لتتحكّم في العناصر التي رضيت بالانقياد لهم واتباع أفكارهم وأنساقهم الاعتقادية، التي يشبّهها الدكتور الرفاعي بـ "الأسوار التي بناها الميراث الديني"، مؤكدا أنّ بداية هدم تلك الأسوار يكون بالتفكير العقلاني، والنقد الجذري، وإثارة الأسئلة العميقة، وهذا هو نمط الإيمان المحرِّر لا نمط الاعتقاد المغلَق، فشتان بينهما!

إيمان الحرية وإيمان الاستعباد

إن الإيمان المحرر هو نمط حضور للإله الروحي الأخلاقي في قلب الإنسان وضميره وحياته كلها، فالإنسان لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا كان إنسانا قبل كل شيء، بحيث يهتدي في إيمانه بالأخلاق والقيم الإنسانية الكونية، فالإنسانية هي هُويّته، عندئذٍ سيتحرر العالَم ممّن اغتصبوا حق الله في الجزاء، واستباحوا كل محرّم، وكرّسوا صورة الإله الذي يقف لكل كبيرة وصغيرة، ويشيع الخوف في كلماته وأوامره ونواهيه، وهذا هو إيمان الاستعباد الذي يولَد في فضاء الاعتقاد المغلَق؛ فكما أشرنا آنفا إلى أن العلاقة بين الإيمان والاعتقاد علاقة تبادلية تفاعلية، فإن الاعتقاد الحر يولد إيمانا حرا، والعكس صحيح. ويضرب الرفاعي أمثلة لأصحاب الاعتقاد الحر، وجُلّهم من المتصوفة كالبسطامي وابن عربي والرومي، أما أصحاب الاعتقاد المغلَق، اعتقاد الاستعباد فهُم أهل التنازع بين الأديان والمذاهب، وعناصر التكفير والإرهاب والتشدد، وهم صنيعة علمي الكلام والفقه، من أجل ذلك يشدّد الرفاعي على أن الفقه الإسلامي لن يتحرر من نزعات التكفير والتشدد ما دام متمسكا بـ "الولاء والبراء"، وغيرها من المعتقدات والأحكام التي ولدت في سياقات تاريخية لم تعرف منطق الحقوق والحريات، ويرى أن السبيل إلى الانعتاق من ذلك لن يكون إلا ببناء علم كلام جديد، فهو الأساس الذي يجعل تفكيرنا الديني يبلغ آفاق الإيمان الرحبة، وَفق رؤية لا تنفي حقوق الإنسان باسم حقوق الله، ولا تنفي الحرية باسم التكليف، ولا تنفي الضمير باسم الغيرة على الله، ولا تنفي الأخلاق باسم الولاء والبراء.

 

أحمد رمضان الديباوي، كاتب مصري.

 

في المثقف اليوم