قراءة في كتاب

ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثالث عن ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي؛ حيث نتحدث أركان الدولة لدية ، وفي هذا يمكن يقول أبي الربيع: " يقول ابن أبي الربيع: "إن أركان الدولة هي أربعة، ويودعها المهام القضائية، والتنفيذية، والأجهزة التي تشكل كيان الدولة فيما يبقى الخليفة والشريعة مصدراً وحيداً للتشريع". وهي على النحو التالي:

1 - الملك (الرئيس).

2 - الرعية (الشعب).

3 - العدل (مبدأ العدل وأجهزة العدالة).

4 - التدبير (السلطات التنفيذية).

وسوف نذكر كل ركن من هؤلاء بالتفصيل.

الركن الأول: الملك.

ذكرنا من قبل أن ابن أبى الربيع " إن الله خص الملوك بكرامته، ومكن لهم فى بلاده، وخولهم عباده، وحينئذ أوجب على علمائهم تبجيلهم، وتعظيمهم، وتوقيرهم، كما أوجب عليهم طاعتهم، فقال تعالى: "وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات". وقال تعالى:"وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ". ويظهر من هذا النص أن ابن أبى الربيع يؤمن بنظرية التفويض الإلهى للحكام من حيث إنه تعالى هو الذى يخصهم بكرامته، ويمكن لهم فى البلاد، ويعطيهم حق حكم العباد، كما أنه يأمر العباد على اختلاف طبقاتهم بوجوب طاعتهم وتبجيلهم لأن هذا سعادة لهم، وهاهنا يختلف ذلك الفكر السياسي الإسلامي عن الفكر السياسي الإغريقي القديم.

ويرى ابن أبى الربيع أن الملك يجب أن تتوافر له ستة عناصر هي:

1- الأبوة: وهو أن يكون من أهل بيت الملك، قريب النسب ممن ملك قبله، وذلك بسبب الإنفاق عليه.

2- الهمة الكبيرة: وحصول ذلك بتهذيب الأخلاق النفسانية وتعديل القوة الغضبية، وذلك لا يكاد الملك إلا به.

3- الرأي المتين: وحصول ذلك بالبحث والنظر فى تدابير السلف وأخبارهم وتجاربهم. وذلك لأن ما من أمر إلا وهو معرض لمكيدة.

4- المثابرة على الشدائد: وحصول ذلك له وتمكنه منه بإظهار الشجاعة والقوة واستعمالها، وبذلك يستقيم له أمر الملك وقهر الأعداء.

5- المال الجم: وحصول ذلك له باستعمال العدل فى الرعية ودوام العمارة، وبه قوام المملكة ودوامها.

6- الأعوان الصادقون: وحصول ذلك بالتلطف بهم ودوام الالتفات وبالإكرام، وبهم يشتد عضد الملك ويقوى قلبه .

ثم يذكر ابن أبي الربيع بأن ما يخص الملك من السياسات هو:

1- سياسة نفسه:

الأول: ينبغى أن يقيم نهاره أقساما: فأوله لذكر الله تعالى وشكره، وصدره للنظر فى أمر الرعية، ووسطه لأكله ومنامه، وطرفه للذاته ولهواته. الثاني: ينبغي أن يكون حكيماً ملتمسًا الحكمة، ويستشهد هنا بقول القائل للإسكندر بمن يصلح للملك ؟ فقال له: إما بملك حكيم أو ملك يلتمس الحكمة. الثالث: ينيغي أن يكون قدوة للرعية، حيث إن قلوب الرعية خزائن ملوكها. الرابع: ينبغي أن لا يفرح إذا مدح بما ليس فيه، ولا يحزن إذا عيب بما ليس فيه. الخامس: ولا يجزعن مما لا بد منه، ولا يأتي الأمر في غير حينه. السادس: ويجب أن يحافظ على الشكر ويحرص على الإحسان. السابع: وينبغي أن يكون جيد الحدس والتخمين، ولا يغيب عنه حال من أحواله. الثامن: وليجعل الحق والعدل إمامه، ويمتثل ما يأمرانه به. التاسع: وليقابل الخطأ من الناس بالصواب الذي في جوهره.

2- سياسة بدنه:

الأول: ينبغي أن يقهر شهوته. الثاني: ينبغي ألا يطلق لنفسه اللذات إلا ما كان جميلًا. الثالث: ويجب أن يكون معدي عن الشر، عن شراسة الأخلاق ولينها. الرابع: وينبغي أن لا يكون كسولًا ولا بطيء الحركة ولا متغافلًا. الخامس: و ينبغي ألا يعرف أحدًا مبيته ومنامه. السادس: و ينبغي أن يكون شديد القوة عالمًا بالفروسية. السابع: ويحسن أن يكون حسن الصورة، مقبول الشكل. الثامن: و ينبغي أن يكون كامل الأعضاء تامها، متمكنًا من الحركة. التاسع: و ينبغي أن يترك الملك لمن يأتي بعده أعمر مما تسلمه. العاشر: وألا يركبن قبيحًا ولا إثمًا، ولا يتكلف ما لا يضره تركه. الحادي عشر: وأن يتصفح في ليله أعمال نهاره, فإن الليل أجمع للمخاطر. الثاني عشر: وأن يقدم مصالح ما يقلده على مصالح نفسه ليعود صلاحه إليه .

3- سياسة خاصته:

الأول: سائسو المملكة؛ كالوزير والكاتب والعامل. الثاني: سائسو بدن الملك؛ كالطبيب والمنجم وصاحب الطعام. الثالث: ينبغي أن يدل العيون عليهم سرًا وجهرًا، ليعرف أخبارهم وأسرارهم. الرابع: ويجب أن يرفق بهم ويحميهم كما يحمي نفسه، ولا يؤاخذهم بتقصير ما لم يضر. الخامس: ومن تأكدت حرمته منهم، رفع منزلته ورعي حقه، حاضرًا وغائبًا. السادس: ولا يقبل فيهم قول ساع، إلا بعد التحقق واليقين. السابع: وليراع مراتبهم، ولا يقدم أحدًا منهم، إلا بقدر حاله، لئلا يسخط الباقون. الثامن: ويجب أن يحسن إلى الطبيب إحسانًا كثيرًا، فإنه أمينه على نفسه. التاسع: وينبغي أن يتخذ جلساء من أعمل الناس وأعلمهم، ويقوم بمصالحهم، ليتنفع في خلوته. العاشر: ندماء، وهم أصحاب خلوته .

4- سياسة جمهور الرعية:

الأول: يجتهد في استمالة قلوبهم، وجعل طاعتهم رغبة لا رهبة. الثاني: وليبتدئ بالنفقة عليهم، ثم بأطماعهم في الرفعة لديه وقرب المنزلة. الثالث: وينبغي ألا يغفل عن البحث عنهم بلطيف الأخبار حتى يقف على أسرارهم. الرابع: وليجعل محبتهم له اعتقادًا دينيًا لا طمعًا في أغراض الدنيا. الخامس: وينبغي أن يعرف أكثر أخلاق رعيته ليؤهل كلا لما يصلح له من الولايات. السادس: ويجب أن يعرف أخبار محاوريه من الملوك، وأن يشحن ثغوره بالرجال. السابع: ويجب أن يتعهد جنده بجوائزهم، ولا يحوجهم إلى رفع قصة أو شكوى. الثامن: وينبغي أن يسمع قول القائل والمقول فيه، ثم يعاقب الباغي. التاسع: وينبغي أن يخلع من أدخل عليه سرورًا، لينشر عنه الذكر الجميل. العاشر: ويجب أن يتفقد عمارات بلده، وإسعاد أهله، وأحوال أقواتهم. الحادي عشر: ويجب ألا يخلي الرعية من وعد ووعيد وإيقاع وإنجاز ورجاء وخوف. الثاني عشر: ويجب أن يكون أثر الأشياء عنده بسط الخير للناس، وأن يعمهم بفضله. الثالث عشر: وينبغي ألا يجمع المحسن والمُسيء بمنزلة واحدة، فيزهد أهل الإحسان. الرابع عشر: وليحسم أسباب التنازع، ولا يسهل لهم التحرز لقبت الكلمة. الخامس عشر: ولينه عن اعتقاد رياسة غير رياسته، ليرجع الأمر بأسره إليه. السادس عشر: وينبغي أن تعم سياسته سائر أهل مملكته، وليعاقب على الصغير من الذنب ويعفو عن الكثير.

5- سياسة الحروب:

الأول: ينبغي أن يعلم حال العدو في كل ساعة بالجواسيس ولا يغفل أمره. الثاني: ينبغي أن يخفي أخباره عن عدوه بكل ممكن، ويسترها عمن يخاف سريرته. الثالث: وينبغي أن يبدل المال العظيم في مخادعته، ومخادعة أصحابه واستمالتهم. الرابع: وينبغي ألا يثق بمستأمن جهة العدو، إلا بعد خبرة حاله وصفاء نيته.

الخامس: وإذا قوى عدوه واستظهر، فالصواب أن يستكثر ويلقاه بنفسه، بعد إحكام أمره. السادس: وإن كان دونه، فليخرج إليه من يثق ببأسه وشجاعته ونجدته ونجابته. السابع: وينبغي أن يجعل في مقدم عسكره من الأمور المزعجة ما يذهل أصحاب العدو. الثامن: وليحتل في إيقاع العذاب بهم، إما بقطع المياه عنهم أو القناطر أو النار. التاسع: ويجب أن يجعل على كل عدة معلومة من عسكره رئيسًا من شجعانهم ومجربيهم.

العاشر: وينبغي أن يتخذ كمينًا ولا يهمل خبره، ويحذر مع ذلك كمين الأعداء. الحادي عشر: ويجب أن لا يستصغر عدوه، ويقابله بما يقابل الأمر العظيم، إذ لا معول على ريب الزمان. الثاني عشر: وليجعل المحاربة آخر حيلة فإن النفقة فيها من النفوس وفي غيرها من المال. الثالث عشر: فإن أفادت الحيلة، ربح ماله وحقن دماء جيشه، وإن أعيت حارب بعد ذلك. الرابع عشر: وإذا تمكن من العدو، فليناد في الناس بنشر العدل والأمان من القتل. الخامس عشر: وليقسم الغنائم على أصحابه ويرضيهم بقدر الإمكان، ويقدم من يجب تقديمه. السادس عشر: وليتبع بعد ذلك الأراجيف، حتى تنتهي إلى منتهاها، فيعاقب مخترعها.

ثم يذكر ابن أبي الربيع الصفات التي يجب أن يتحلى بها الملك فيذكرها على النحو التالي:

1- أن لا يغضب: لأن القدرة من وراء حاجته.

2- ولا يحلف: لأنه لا يقدر أحد على استكراهه.

3- ولا يبخل: لأنه لا يخاف الفقر.

4- ولا يحقد: لأن حضرته تحل عن المجازاة.

5- ولا يلعب: لأن اللعب من الفراغ ولا فراغ له.

6- ولا يخاف: لأن الخوف من عمل الجهال.

7- ولا يحسد: إلا على حسن التدبير.

8- ولا يثق بالدنيا: فإنه لا عهد له.

كما يذكر ابن أبي الربيع أن هناك أمورا لا يكاد يستغني عنها الملك وهي:

1- آخرة تحرسه: بخشية الله تعالى والامتثال لأمره.

2- ودنيا تلذه: بأن يقتصد في استعمال اللذات.

3- وخاصة تعينه: بأن يودع قلوبهم محبته.

4- وعامة ترفده: بأن يودع قلبهم هيبته.

ثم يذكر أن هذه الأمور الأربعة أن تقوم على:

1- العدل: به تكثر العمارة ويدوم الملك.

2- العفة: هي سبب ظهور الهيبة.

3- العفو: به يظهر شرف القدرة.

4- العقوبة: بها تحرس الرياسة.

ويري ابن أبي الربيع أن تدبير الملك لا يخلو تدبير الملك من أمور أربعة، وهي:

1- إما من طريق العقل:

الأول: لطاعة الله وتصديق رسله. الثاني: ومجاهدة النفس على مكارم الأخلاق. الثالث: وأن يجعل بينه وبين هؤلاء حاجزًا منيعًا.

2- أو من طريق الجود:

الأول: كالتعطف على أهل المسكنة. الثاني: وإكرام ذوى البلاء. الثالث: واستفتاء طالب الحاجة بحاجته.

3- وإما من طريق السياسة:

الأول: كالعطاء الكثير عن السبب اليسير. الثاني: والعفو عن كثير الجرائم. الثالث: والعفو عن يسير الذنب.

الرابع: واستعمال المكايد على الأعداء.

4- أو من طريق الحزم

الاول: كترك حسن الظن بكل أحد. الثاني: وكتمان السر وصونه. الثالث: ومعاجلة ما يخشى قوته... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم