قراءة في كتاب

ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي (4)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الرابع عن ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي؛ حيث نكمل حديثنا عن أركان الدولة لديه، وفي هذا يمكن القول: من خلال النصوص السابقة التي أوردناها بصدد الملك، فتجدر الإشارة إلى أن رئيس المدينة عند ابن أبي الريع الذي يصلح لرئاسة المدينة هو الملك الفاضل. فهو لم يطالب بالملك الفيلسوف كما ذهب فلاسفة من قبله، فأفلاطون مثلا اشترط أن يكون ملك المدينة فيلسوفًا وكذلك الفارابي من فلاسفة الإسلام. نلاحظ هنا أن ابن أبي الربيع يشابه يحيى بن عدي الذي اكتفى بأن يكون الملك فاضلًا فحسب. والملك – كما يقول مضطر إلى ست آلات، وهي الأبوة والهمة الكبيرة والرأي المتين والصبر على الشدائد والمال الجم والأعوان الصادقين. ولعل أغرب ما ذكره في هذه الفقرة الآلة الأولى  - كما يسميها – وهي الأبوة حيث قال في تفسيرها نصًا: " وهو أن يكون من أهل بيت الملك قريب النسب ممن ملك قبله، وذلك سبب الاتفاق عليه"، فيظهر أنه يريد أن يقرر إجماع الأمة أو مبايعة الأمة الإسلامية، ولكنه يرى أنه يعيش تحت ظل دولة وراثية يتناوب الملك الأولاد أو الأقارب وأن التسمية تأتي أولًا سواء من الملك أو الخليفة السابق، أو عن طريق تدخل الحاشية والقواد ثم بعدها تؤخذ المبايعة من الأخرين ولهذا مزج بين القول بالوراثة والاتفاق. ويوجب ابن أبي الربيع بأن يسوس نفسه بذكر الله تعالى  وشكره وأن يجعل العدل نصب عينيه. وأن يسوس بدنه بالاعتدال في اللذات وأن يكون كامل الأعضاء لا يأتي قبيحًا. وفي سياسة خاصته كالوزير والعامل والكاتب والطبيب ينبغي أن يضع عليهم العيون سرًا وأن يرفع من يثبت إخلاصه وأن يقرب منه حكماء القوم وعقلائهم. وفي سياسة الرعية ينبغي عليه أن يستميل قلوبهم ويتلطف عليهم وينفق عليهم ويطمعهم في الرفعة إليه وقرب المنزلة منه. وفي سياسة الحروب عليه أن يعلم حال عدوه، وبنفس الوقت يخفي أخباره عن عدوه، بالإضافة إلى تقوية جيشه وحماية الثغور. كما يحذر ابن أبي الربيع الملك من خصال ذميمة كالحرص والعجب وإتباع الهوى. ويجب على الملك كذلك ألا يغضب، ولا يبخل، ولا يحقد، ولا يحسد، ولا يخاف. ثم لا يلبث أن ينصح الملك بالعفة، والعدل، والعفو، وأن يتبع طريق العدل والجود والحزم وأن يبعد من بطانته الشر، والحريص والذي لا دين له والشرير المتظاهر بالخير.

وفي إشارته: إن على الملك (الحاكم) أن يعمل على إشغال رعيته لكي لا يجدوا وقتاً للتفكير في مفسدة، وتوجه فيها ابن أبي الربيع إلى مرتبة فلاسفة السياسة، لما بعد ميكافيلي، فهو يجعل السياسة أداة بيد الحاكم. ولا غرو، فمفكرنا يستشهد بالآيات القرآنية بأسلوبه الخاص، وآثار الفلاسفة الإغريق، أفلاطون وأرسطو تبدو واضحة، وكذلك أعمال فلاسفة عرب ومسلمين، بالإضافة إلى الإبداع الذاتي في طرقهم الحثيث لآفاق الفلسفة السياسية. فنحن إذن أمام ثلاثة مصادر رئيسة لمفكر مثل ابن أبي الربيع وربما آخرون غيره من هذا المستوى أو ما يقاربه، وهي:

1/ الشريعة (الكتاب والسنة والاجتهاد).

2/منجزات الفلسفة. 3/ الإبداع الذاتي.

ثم نقرأ لابن أبي الربيع ملاحظة واضحة ومهمة تزيد من قيمة مصنفه على المستوى العلمي وبها يكتسب ثقة ومصداقية في إشارته الواضحة إلى اقتباسه من أعمال وكتب علماء أخرين، وتلك لا تنقص من أهمية كتابه، بل تزيد من درجة علميته ورصانته.

ومثله مثل الفارابي تقريباً، يركز ابن أبي الربيع على ضرورة أن يكون الملك أو الرئيس حكيماً عالماً، ويضع ذلك في المرتبة الأولى من صفات الملك، إذ يقول:" أن يكون له قدرة على جودة التخيل " ولكنه من جهة أخرى يؤكد على قدسية مكانة الملك بقوله " إن الله هو ينصب الحكام " ثم يقول في مكان ثالث وبوضوح " أكبر " إن الله جل جلاله لما خص الملوك بكرامته ومكن لهم في بلاده ودخولهم عبادة أوجب على علمائهم تبجيلهم وتعظيمهم وتوقيرهم، كما أوجب عليهم طاعتهم".

فهو إذن يقبل النظام الملكي الوراثي، إذ يشترط في الملك أن يكون من أهل البيت المالك، قريب النسب ممن ملك قبله، وحسب الاتفاق(ولي العهد) ولكن ابن أبي الربيع يبقى السؤال حائراً، ماذا وكيف مع الملك أو السلطان الجائر؟. وأقصى ما يقبله ابن أبي الربيع، هو أن يتجه العلماء إلى الملك بالنصح والإرشاد و " تزين العدل وتقبيح الجور واستهجانه" ولكن على الرعية الطاعة في جميع الأحوال.

الركن الثاني: الرعي

وهي الركن الرئيس الثاني من أركان الدولة ويقسم ابن أبي الربيع الرعية إلى الأقسام السبعة التالية:

أ- متأهلون: هم الذين اقتصروا على العبادة والزهد، يوعظ العالم بترهيبهم وترغيبهم.

ب- حكماء: هم العارفون بالعلوم الحكيمة، كالطب، والنجوم، والحساب، والهندسة، وأشباه ذلك.

جـ- علماء: هم حملة الآثار وخلفاء الأنبياء، إليهم يرجع فى التحريم، والتحليل، والتفسير، والتأويل.

د- ذوو أنساب: هم أهل الشرف، والجاه، والقدر، كلما كثروا فى المملكة كانوا أنبل، وهم عدة الملك.

هـ- أرباب الحروف: هم حرسة المملكة، بهم تدفع الأعداء وتؤمن غوائلهم، وبهم تفتح المدن والممالك.

و- عمار الأسواق: هم صناع وأتباع بهم تتم أمور الناس، وينالون حوائجهم من قرب.

ز- سكان القرى: هم مثمرو الحرث، والنسل، والزرع، والنسل، وباقى الناس محتاج إليهم. وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1- أخيار أفاضل: هم محبو الخير، مبغضو الشر، يأتمرون وينتهون طوعًا، يؤثرون ما عدا بصلاح الملك والرعية ويختارونه. وحقهم الإكرام، والبر، والتقديم، ورفع المنزلة باختيارهم للمهمات.

2- أشرار أراذل: هم أضداد الأخيار، لأنه ليس للتأديب فيهم نفع، فهم كالسباع المؤذية طبعًا.

3- وحقهم إذا يئس من إصلاحهم، ولم تنجح العقوبة فيهم أن يُبعدهم إلى الأماكن النائية ليأمن شرهم.

4- متوسطون: وهم أرباب المكاسب، يتكافأ قولهم من محمود ومذموم، يميلون فى الصلاح مرة وإلى الفساد أخرى. وحقهم إصلاح فسادهم، ورد مائلهم، وفطمهم عن العادات الرديئة، بإغفال مرة وعقوبة أخرى، كتدبير الطبيب للعليل.

ولا يتم إصلاح الأقسام السابق ذكرها إلا بالوسائل التالية:

1- باستعمالهم في صناعتهم، حتى  لا يجدوا فراغًا لفكر في مفسدة.

2- بالتقدم إليه في كل وقت، باجتناب الخوض في أسباب السلطان.

3- بالأخذ للضعفاء من الأقوياء، ويساوي الأقربين، والأبعدين في السياسة.

4- وترك التعرض للمظلوم، وتسهيل الحجاب له، وإنصافه من الظالم.

5- وأن يجلس لهم في كل وقت لشكوي أو وصف حال، أو مسألة حاجة.

6- وأن يؤمنوا من الأعداء الخارجين عنهم بسد الثغور وأحكامها.

7- وليحرسهم من قطاع الطريق، لئلا ينقطع معاشهم بانقطاع ميرتهم.

8-  وليؤمنهم من اللصوص في منازلهم لتكون الثغور مصونة، والطرق آمنة، وأيدي الأشرار مقبوضة.

وهذه النقاط الثماني تتعلق بحقوق الرعية على الحاكم. أما واجبات الرعية فيحددها ابن أبي الربيع في النقاط الثماني التالية:-

1- ألا يشرعوا في شيء من تعنت السلطان وتتبع أسراره.

2- وأن لا يدعوا النصيحة في الله تعالى، إذا أراد الإقدام على أمر غير جميل.

3- وليجتهدوا في تحسين العدل عنده وتزيينه، وتقبيح الجوار.

4- وذلك إنما يجب على خواصهم وعلمائهم، أما غير هؤلاء فليس لهم ذلك.

5- وإذا عرض لهم مكروه من بعض خواصه، فلا يتعرضوا له دون التألم إلى سلطانهم.

6- وإذا اتفق له سرور أو فرح، أظهروا الاستبشار بقدر ما في طاقتهم.

7- وإذا عرضت بلية أو حزن، فليشاركوه في حزنه ويساعدوه على ما هو فيه.

8- وليجيبوه إذا دعا في ليل أو نهار، ولا يخالفوا له أمرًا، وليعتقدوا ذلك دينا.

مما سبق  يتضح لنا أن الرعية فمنهم الزهاد الذين انقطعوا للعبادة ومنهم الحكماء الذين اتجهوا للعلوم؛ كالطب، والحساب، والهندسة، ومنهم العلماء وهم ورثة الأنبياء أصحاب التحليل، والتفسير، والتأويل. ثم هناك سكان القرى أهل الزرع، والحرث، والنسل  وينقسمون إلى ثلاثة أقسام: أخيار أفاضل وهم محبو الخير وحقهم الإكرام والتقدم. أو أشرار أراذل وهم السباع المؤذية ليس للتأديب فيهم نفع، والمتوسطون وهم يميلون إلى الصلاح مرة، وإلى الفساد مرة أخرى. ويسوق ابن أبي الربيع رأيا غريبًا مفاده أنه ينبغي على الملك تجاه الرعية أن يشغلهم في صناعتهم حتى لا يجدوا فراغًا للتدخل في أمور السلطان (تدعيمًا لحكمه المطلق) فالتدخل في شيء والحكم ليس من اختصاصهم، كما يرى أن الملك بالنسبة للرعية أشبه بالطبيب بالنسبة للمريض، فالطبيب غرضه شفاء المريض، كما أن هدف الحاكم المطلق مصلحة الرعية .

الركن الثالث: العدل:

وهو الركن الثالث من أركان الدولة أو المملكة  وهو حكم الله تعالى  في أرضه والدليل على شرف منزلته اتفاق الأمم وأطيافهم عليه مع اختلاف مذاهبهم، فليس منهم إلا من يوصي به ويعرف فضله، وهو على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقوم به العباد من حق الله تعالى عليهم: كالفرائض وما يتعلق بها، والقرابين والضحايا، وعمارة الجوامع والمساجد، والقيام بالنوافل، واستعمال ما أمر الله ورسوله.

الثاني: ما يقومون به من حق بعضهم على بعض: كإقراض بعضهم بعضًا، وتأدية الأمانات، ورد الودائع، والشهادة بالحق، وفعل الخير.

الثالث: ما يقومون به من حقوق أسلافهم: كتكفين موتاهم، وعمارة مقابرهم، وقضاء ديونهم، وتربية أيتامهم،والصدقة عنهم.

ومن أعمال العدل: أن يقسم المرء كل شيء على حقه وفي موضعه، وأن لا يخالف السنن الموضوعة له، وأن يكون صدوقًا في كل ما ينبغي، وأن يكون حفوظاً لمواعيده منجزًا لها، وأن يكون رحيمًا بريئًا من الدنس، وأن يجتمع فيه الوفاء والأمانة وبعض المساوئ .

من كل ما سبق يتضح لنا أن ابن أبي الربيع حين عرف العدل أكد بأنه حكم الله تعالى  في أرضه، ثم يستدل على شرف العدل بإجماع الأمم مع اختلاف مذاهبهم، فليس منهم إلا من يوصي به، ويعرف فضله، ومن أعمال العدل أن يقسم المرء كل شيء على حقه، وفي موضعه، وألا يخالف السنن الموضوعة له، وأن يكون صدوقًا حفوظاً للمواعيد، رحيمًا بريئًا من الدنس، وأن يجتمع فيه الوفاء والأمانة...الخ .

الركن الرابع: التدبير

وهو الركن الرابع والأخير من أركان الدولة أو المملكة، ولقد اهتم به ابن أبي الربيع اهتمامًا بالغًا باعتباره رباطًا وواسطة قوية بين الحاكم والمحكوم أو بين الملك والرعية. والملك لا يمكن أن يقوم بتدبير شؤون مملكته بمفرده، ولهذا فإنه محتاج دائمًا إلى من يعاونه في تدبير هذه الشؤون، فإذا لم يكونوا صالحين فسدت الدولة، وساء تدبيرها. ومن ثم فإننا نجد ابن أبي الربيع يحذر الملك من ستة أشياء، ويدعوه إلى ضرورة تجنبها حتى يصلح حكمه وتدبيره، وهذه الأمور الستة التي يجب على الحاكم أو الملك تجنبها كالتالي: من استوزر غير كاف، وخاطر يملكه،ومن استشار غير أمين، أعان على ملكه، ومن أسر إلى غير ثقة، ضيع سره، ومن استعان بغير مستقل أفسد أمره، ومن ضيع عاملًا دل على ضعف عقله، ومن اصطنع جاهلًا أعرب عن جهله.

والملك لا يمكن أن يستغني عن الأعوان والأتباع في تدبير شؤون نفسه وشؤون حكمه وشؤون رعيته فهو محتاج إلي: وزير عالم، وكاتب عارف، وحاجب عاقل، وقاض ورع، وحاكم عادل، وعامل جلد، ومال متوفر، ورب شرطة، وجند أقوياء، وحكيم مجرب، وجلي... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم