قراءة في كتاب

كيف يري ستيفن تولمن العقلانية العلمية في كتابه البصيرة والفهم

محمود محمد عليالعقلانية Rationality  بوجه عام – مفهوم يقول بسلطان العقل، ويرد الأشياء إلى أسباب معقولة؛ والجذر الاشتقاقي الذي تشق منهRational هو الاسم اللاتيني ratio ، ومعناه العقل Reason. وهكذا يفهم من كلمة الإنسان العقلاني Rationalist عموماً الشخص الذي يؤكد قدرات الإنسان العقلية تأكيداً خاصاً ولديه إيمان غير عادى بقيمة العقل والحجة العقلية وأهميتها . والعقلانية أساساً هي الاتجاه التنويري الذي يثق في الإنسان وقدراته، فيرفع كل وصاية عليه ويتركه يبحث عن الحقيقة بلا سلطة تفرضها؛ حيث أن العقلانية ضد السلطة بكل أنواعها، فقد حررت العقلانية الإنسان من الأفكار الدجماطيقية واللاهوتية والأفكار التسلطية والآراء التعسفية وأفكار ذوى النفوذ والسلطان والأيديولوجيات السياسية التي تقف حجر عثرة في سبيل الانطلاق بعقله إلى أفاق الحرية التي هي تاج التجربة الإنسانية، ومن ثم دعوة نحو المذهب الإنساني الذي يقوم على دعامته الإنسانية ألا وهى الحرية الإنسانية .

وترتبط العقلانية في الفلسفة الغربية بالثورة على خضوع العصور الوسطى المسيحية الطويل لأرسطو والسلطة الدينية، واتخذت شكلين يمثلان العقلانية الكلاسيكية، هما الاتجاه التجريبي مع فرنسيس بيكون F.Bacon ( 1561- 1626 ) وأشياعه، الذين يرون أن التجربة هي الوسيلة التي تمكننا من قراءة الحقيقة فتثق في الطبيعة وفى حواس الإنسان ليعتمد عليها في الوصول بنفسه إلى الحقيقة . والاتجاه الثاني هو الاتجاه المثالي الذي افتتحه ديكارت Descartes  (1596- 1650) مؤكداً الثقة في العقل كوسيلة امتلكها الإنسان للوصول إلى الحقيقة .

ولكن مع العلم المعاصر وفلسفته تم إعادة النظر في التصور الكلاسيكي للعقلانية، حيث تلاشت فكرة إدراك الحقيقة من اتجاه واحد وزاوية نظر وحيدة، فما يطبعها هو تعدد اتجاهاتها في إدراك الحقيقة، مما يؤدى إلى استدعاء مواقف وحلول فلسفية متنوعة ووجهات نظر مختلفة تحت شعار " قيمة النقد وقابلية كل شئ للمراجعة Revisionable؛ فأضحت العقلانية بفضل تطور العلم المعاصر لا تعترف بالبحث عن المبادئ والحقائق القاطعة والمطلقة التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية سواء كانت عن طريق العقل أو الحواس، لأن هذه المبادئ قابلة للنقاش والمراجعة المستمرة على ضوء التطورات العلمية المعاصرة .

وفي هذا المقال سوف تكون عنايتا موجه نحو الكشف عن ابستمولوجيا ستيفن تولمن وبالذات مفهوم العقلانية العلمية لديه، ولا أخفي علي القارئ الكريم أن سبب اختياري لتولمن هو ندرة الدراسات الفلسفية عن هذه الشخصية في عالمنا العربي، مع العالم أن هذه الرجل كان يصول ويحول في محراب فلسفة العلم مثل كارل بوبر" Karl Popper ( 1902-1994)، كونThomas Khun (1922-1996)، وامري لاكاتوش Imre Lakatos (1922-1974)، وبول كارل فيبرآبند Paul Karl feyerabend (1924-1994)، وله صولات وجولات مع هؤلاء الفلاسفة . كما أنه يمتلك رصيد ضخم من الكتب والدراسات والأبحاث التي كتبها وما زال يكتبها حتي الآن .

بل لا أخفي علي القارئ أيضا أن هذا الرجل يستحق الدراسة وكنت أتعجب عن إهمال طلاب الماجستير والدكتوراه في الكتابة عنه مع العلم أنه كان ولا يزال واحدا من كبار فلاسفة العلم الإنجليز المعاصرين الذين دافعوا بقوة وحماس عن الفكر الاصطلاحي - اللاوضعي بعد " بيير دوهيم " Pierre Duhem (1861-1916) وهنري بوانكارية H.Poincare (1854-1912) ، مؤكدا التسليم بالفائدة العملية للنظريات والقوانين بغض النظر عن صدقها وكذبها، وليعلن ما سبق للاصطلاحية عرضه سواء كان علي مستوي المفاهيم والنظريات وكونها اصطلاحات متفق عليها أو كان الأمر يتعلق بالتجربة ودورها الاستشاري، كما جاء ليؤكد ذلك ويشكل فلسفة أداتية تجعل من القوانين العلمية والنظريات خرائط جغرافية يتفق معها من حيث الهدف والوظيفة.

ولم يكتف هذا الرجل بذلك بل رأيناه يبين أن الفهم الوظيفي للنظرية مثل القانون يرتكز بداية في التفسير، وليس الوصف شأنه شأن معظم المفكرين والفلاسفة الأداتيين الأمريكيين، فالعلم الفيزيائي في نظره لم يكن آلة حاسبة عقلية وإنما بالأحري نمط تشريحي أو تفسيري، ومن ثم يختلف عن التاريخ الطبيعي مثلا الذي يركز علي الوصف بدلا من التفسير . وهذا ما يجعل الفيزيائي يبحث في صيغة أو شكل القانون أو النظرية بدلا من أن يتتبع انتظاماً أو اطراداً لظاهرة ما أو أخري . إن كل العلوم الوصفية فيما يري تولمن هي في حقيقة الأمر علوم يصعب قبولها .

ومن جهة أخري رأينا تولمن يؤكد أنه ينبغي علي الفيزيائيين أن تكون لديهم ثقافة علمية تدعوهم إلي التفكير في نظرياتهم بطريقة تجعلهم لا يتجاهلون أن هذه النظريات ذات نجاحات تنبؤية في ضوء تاريخ العلم أو داخل إطار محاولات ثقافية تاريخية في المجتمع . والسبب في ذلك أن العلم كائن تاريخي ونشاط اجتماعي . إن تاريخ العلم يبدو في غاية الأهمية بالنسبة لنظريات العلم، فهو أولا يركز علي نمو الأفكار العلمية داخل العلم، كما يهتم بالتداخل بين العلم ككل والمجتمع الذي يقتني هذا العلم ويندرج تحت كل ذلك القوة الاقتصادية والاجتماعية وأثرهما الفعال في نمو وتطور العلم . ثانيا، أن تاريخ العلم يساعد علي فهم وتشكيل العلم وطبقا لذلك فإن تولمن يعتقد تاريخ العلم لم يكن فقط محتوي لتغيرات العلم في فترة، بل وفي أهدافه ومناهجه التي تتغير أيضا .

وهنا ينصح تولمن فيقول في كتابه " البصيرة والفهم " أن يكون العالم علي وعي شديد بمسالة تاريخ العلم وأنه من الأشياء الضرورية بالنسبة لعمله أو بالنسبة لما يقوم به من دراسة"(.

كما أمتد نشاط البحث العلمي عند تولمن إلي نظرية المعرفة، ففي كتابه العارف والفعل حين يدرس تولمن العلاقة بين العارف knower والفعل Acting نراه يلاحظ أن الفلاسفة كثيرا ما دأبوا علي اعتبار الموضوع والذات كائنين منفصلين وأن وجودهما معا ينطوي علي التناقض . ولكن هذا التناقض سرعان ما ينجلي حين ندرك أن المقصود بالموضوع هو القيمة العملية التي له في تجاربنا.

وقد أشاد بقيمة وأهمية ابستمولوجيا ستيفن تولمن الدكتورة " يمني طريف الخولي " حيث تقول : " وفي النصف الثاني من القرن العشرين يظل الإنجليزي ستيفن تولمن من أهم الفلاسفة المحترفين الذين أفادوا الأداتية وطوروها، وجعلوها تدفع فلسفة العلم إلي أفاق مستشرفة بأعماله الكثيرة، وأهمها فلسفة العلم والبصيرة والفهم الإنساني ويتميز تولمن بقدرته علي تجسيد وعي الأداتية الفريد بتاريخ العلم، والذي ناهضته الوضعية المنطقية . لذلك سوف يحتل موقعه بين فلاسفة الردح الأخير من القرن العشرين الواعدين بأفاق مستقبلية لفلسفة  العلم .

وفي فقرة أخري تقول " يجمع تولمن الخير من طرفيه، فهو أداتي بارز فيسهل عليه تأكيد أن صدق المعرفة العلمية في حد ذاته ليس موضع الاهتمام . ثم يلتقي مع بوبر بعد ذلك حين يؤكد أن الاهتمام فقط بنمو المعرفة وتطورها، ويلتقي معه أكثر وأكثر حين يري المعرفة تنمو في ضوء النقد الموجه لها، ولكنه أكثر من بوبر وعياً بتاريخ العلم، فهو يصغر بوبر بعشرين عاما تمثل مزيدا من تقدم فلسفة العلم نحو الوعي بتاريخه . رأي تولمن –بحكم أداتيته –أن تاريخ تطور معالجات المشكلة المطروحة للبحث، أهم بالنسبة للعالم الباحث من الانشغال بقضايا المحتوي المعرف وإشكالية الصدق.

ثم تستطرد الدكتورة الفاضلة فتقول " ... وتولمن شديد العناية بنقد الوضعية المنطقية وتوضيح قصوراتها، استند في هذا إلي ضرورة النظرة التاريخية للعلم، وأن الوضعية المنطقية في تناولها لفلسفة العلم ابتعدت عن تغير التصورات الذي هو التقدم الحقيقي للعلم، وحذفوا من الممارسات الفلسفية كل ما يتعلق بهذا وبعوامله .ويرفض تولمن تماماً النظرة للعلم من الداخل، إذا كانت مقتصرة علي علاقاته المنطقية وأسسه المنهجية، بحيث إن الجديد تنحصر جدته داخل الحدود والمصطلحات المطروحة . وفي مقابل هذا ينبغي علي العلماء أن يدركوا أفق تاريخ العلم، ولا يتجاهلون أن نظرياتهم أتت في سياق نظري أخري سابقة هي محاولات ناجحة تمثل معالم بارزة في تاريخ العقل وتاريخ الحضارة وتاريخ الثقافة .. إن العلم كما ينتهي تولمن – هو أولاً وأخيراً كيان تاريخي ونشاط     اجتماعي " .

وقد أخترت أن أقدم نموذجا لكتابات تولمن من خلال ترجمة أحد أعماله . وقد قمت بترجمة كتابه " البصيرة والفهم" وقد اخترت هذا الكتاب لأقوم بترجمته إلي اللغة العربية لأسباب عديدة أهمها منها أنه يعالج مواضيع عديدة في بؤرة الكثير من الحوارات حول العلم في هذه الأيام . فيعالج الخلط بين العلم والمعرفة أو العلم والعقلانية أو العلم والإدراك الحسي . ويوضح أن للعلم منهجا خاصا في التعامل مع الظواهر المحيطة يساعد علي تفهمها، ويعالج الكتاب الخلط بين العلم والتكنولوجيا ويرسم المؤلف خريطة مبسطة لتصوره عن ثورة الأفكار العلمية .

وفي الكتاب نلاحظ أن تولمن يسير علي نهج جون ديوي حين يري أن الهدف من العلم هو امتداد للتفكير التأملي الذي ينهض به الكائن البيولوجي حين تواجهه المشكلات الحيوية .وبالتالي يكون الغرض من العلم ليس فقط الكشف عن الحقائق الأبدية والتأمل فيها، بل هدفه الأول هو خدمة الإنسانية . إن العلم ناقص ولن يكتسب الطابع الموضوعي إلا إذا كانت غايته إرضاء حاجات البشر ومطالبهم . ويذهب تولمن كما ذهب ديوي إلي " القول بأن ما ندعوه علما تطبيقيا أخري أن يكون العلم علي الحقيقة من ذلك الذي تدعوه علما بحتا . ذلك لأن الأول متصل اتصالا مباشرا بالأدوات القائمة بالعمل، والتي تتوخي تعديل الوجود البشري وتبديل أحواله . فالعلم له أهداف وأهدافه كما يري تولمن عملية، وظيفية، أو نشاط . وليس العلم جماعا من المعارف أو محصولا من النتائج المخزونة . العلم نشاط يحفزنا للعلم علي حل المشاكل فهو قوة فعالة من أجل المعرفة وليس علما ثابتا مستكملا ولا يبدأ النشاط العلمي إلا إذا واجهنا مشكلة ولا ينقطع إلا حالما نصل إلي حل لهذه المشكلة أو عندما تغيب في زاوية النسيان " .

وشئ آخر حاول تولمن أن يثبته في هذا الكتاب، وهي أن العلم ليس مجرد نسق معرفي ابداعي ينتج معرفة جديدة دائما وأبداً والنشاط المعرفي وامكاناته ونجاحه وطابعه وتوجهاته يعتمد اعتماداً كبيرا علي ظروف نشأة المعرفة بما في ذلك ثقافة المجتمع المعني التي تحدد الأدراك الحسي العام للواقع المميز لعصر تاريخي بذاته . فالعلم لا يمكن أن يظهر في مجتمع أنجز مستوي معينا من التطور الاجتماعي – الاقتصادي تتولد عنه بحكم هذا التطور حاجة متجددة إلي المعرفة العلمية وينشأ كنف ثقافة من نوع محدد، ثقافة يكون الفكر العلمي والنهج العلمي في معالجته الواقع، ربيبا لها، أي تلده وتنميه ثقافة تهيئ الظروف للنشاط المعرفي .

و لهذا السبب عزمت علي نقل كتاب "البصيرة والفهم" إلي اللغة العربية وأنا علي علم بأن النقل من لغة إلي لغة تختلف عن اللغة الأصلية بالقواعد وبطريقة نظم الكلام ليس أمرا سهلا ولا يفي بالغرض دائما، إذ يكون علي الناقل أن يختار بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية، وقد تكون الترجمة الحرفية متيسرة إلي حد كبير بين اللغات ذات الأصل الواحد، لكنها تكون متعذرة إذا كانت من اللغة الإنجليزية ذات الأصول اللاتينية، إلي اللغة العربية التي لا نلتقي معها في أي شئ تقريبا، وخاصة في طريقة نظم الكلام ولهذا فضلت ترجمة المعاني بنقلها من مباني اللغة الإنجليزية إلي اللغة العربية مراعيا في ذلك أنسب الألفاظ وأفضل التراكيب التي تؤدي المعني المقصود في اللغة الأصلية.

إننا نهدف من هذا المقال إلي إلقاء الضوء علي مفهوم العقلانية عند ستيفن تولمن وتحليل عناصرها الأساسية عبر تطورها، ثم إعادة بنائها في ضوء المناقشات التي أحاطت بها والانتقادات التي تعرضت لها . وعلي هذا فإن هذا البحث يرمي إلي فهم وتأويل فلسفة تولمن، بالإضافة إلي تعديلها أحيانا أو الدفاع عنها أحيانا أخري . وقد اعتمدنا في هذه المهمة علي منهجين، هما المنهج التاريخي والمنهج النقدي . وقد استخدمنا المنهج التاريخي بمعنيين : أولا بمعني الرجوع للوقائع التاريخية التي يعتمد عليها تولمن، وثانيا بمعني تتبع تطور فكر كون عبر مراحله الزمنية. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنيين : قصدنا بالمعني الأول فحص وتحليل النتائج التي انتهي إليها تولمن علي أساس الأهداف التي حددها في فلسفته، وقصدنا بالمعني الثاني محاولة تقييم أفكار تولمن في ضوء الانتقادات الفلسفية التي تعرضت لها، وفي ضوء امكان تطوير هذه الأفكار وحدود هذا التطوير.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم