قراءة في كتاب

الانحدار نحو المجهول

1236 نجاة نايف سلطانصدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة كتاب (الانحدار نحو المجهول) لمؤلفته الأديبة الرائدة نجاة نايف سلطان، وهو القسم الثاني من مسيرة حياتها بدءاً من الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط النظام الصدامي البائد وحتى وصولها إلى بلاد المهجر عقب اندلاع الاقتتال الطائفي وانتشار جرائم الإرهاب في بغداد وبقية المدن العراقية الأخرى .

افتتحت المؤلفة صفحات كتابها الجديد بكلمة إهداء مؤثرة قالت فيها :

(إليكِ أيتها الحياة المهزلة الهازلة , أهدي هذه الصور القاتمة، فقد كنتِ ترسمين لنا خطواتنا، وتسخرين من أحلامنا (التي لم يتحقق منها شيء) لتشعرينا بالحسرة والألم، وتضحكين عالياً من (خيباتنا) فيما تحقق منها .. كنا نسير تلك الخطوات بكبرياء،  ونظن بغباء وغرور فارغين إننا نملك حقاً خياراتنا، والحقيقة إننا لم نكن إلا طوعك في كل تلك الدروب، وأعترف الآن.. إنك الأقوى).

وبدأت كتابها بالحديث بلغة أدبية شفيفة عن الحياة العجيبة والغريبة والمدهشة، عندما تحدقُ في السماء وترى الشمس ما زالت بين شروق وغروب دائمين، وبقاء الصراعات ما بين الموت والحياة، ففي رفّة جفن نفقد الأحبة والأعداء، وتبقى الحياة سائرة في نظامها الأزلي، وتنتقل إلى الحديث عن زوجها الذي دخل حياتها فعاشت معه ضعف السنوات التي عاشتها بين أسرتها، ولم يكن دربهما مفروشا بالورد دائماً، بل كانت هناك ساعات يأس قاتلة تخللت ساعات حبّ وصفاء ورغد عيش، فالحياة كانت تسير وهو معها، يغضبان ويثوران ويتخاصمان ويتفاهمان، ويشعران بتماسكهما ووحدتهما معاً، لم يلعنا أبداً القدر الذي وضعهما معاً، أو مَن اختار لهما الدرب المشترك، بل اعتبرا وجودهما معاً قدراً رضيا به، وقاربت سنواتهما الأربعين، وهي تستذكرها بحبّ وحنان في لحظات، ليس من أجل الزوج لأنه ذهب فقط , بل من أجل نفسها أيضاً لمعرفتها بأنها ذاهبة كبقية الناس.

كان زوجها الراحل حاضراً بكثافة صامتة إلا من أصوات تسمعُها بوضوح تترددُ في داخلها، (هذا ركنه وهذه كتبه ونظاراته، وهذه الحاجات الصغيرة في درج مكتبه الصغير قرب وسادته)، ومرّت (على الكتب مؤشرة بقصاصات، ما كان ليسمح لأحد بالاقتراب منها حتى لو كان ذلك من أجل إعادة ترتيبها، هنا زجاجات عطره المفضل، وفي الدولاب الكبير ملابسه التي ما زالت تحتفظ  برائحته المميزة)، هذه النافذة التي كانت تحبُّ (أن ترى الشمس من خلالها، وتلك كان يغضبه فتحها)، وتتساءل (ترى هل تحفظ هذه الجدران صوته القوي؟! إلا يقولون إن الصوت طاقة، وان الطاقة لا تفنى)؟! كانت تسمع كلماته بوضوح، وستظلُّ معها إلى آخر عمرها، ونظرت من النافذة وعبر زجاجها السميك إلى شجيرات البرتقال والليمون، وإلى شجرة المانوليا العالية، وخيّل إليّها أنها تسخر منها، و(تقولُ (أنا أقوى منكِ ومنه) كما كان يقولُ دائماً إنها الأقوى) منهما وستبقى بعدهما، وأسدلتُ الستارة بعنف وكأنها تسدلها على عمر مضى.

وانتقلت المؤلفة إلى وقائع حياتها العامة، فقد افتتحت روضة للأطفال في القسم القديم من بيتها، ودبت الحياة فيه بعد شهور الحزن التي غلفته بعد وفاة زوجها، وسعدت بكلمات الشكر والثناء التي انهالت عليها من الأهالي، وروت بعض مفارقات العمل وآراءها التربوية .

وتوقفت عند إطلاق سراح نزلاء السجون بما فيهم القتلة والمجرمون واللصوص، وازدياد الخوف في النفوس لما في ذلك من تأثير سيء على المجتمع، وبدء مسلسل القتل والجرائم في المناطق المحيطة بمنطقة سكنها، وكان هذا المسلسل قد بدأ فعلا بعد حرب الكويت وما تبعها من حصار، وسردت وقائع مجموعة من الجرائم التي وقعت، ثم صورت آلام العراقيين وهم يرزحون تحت قسوة سنوات الحصار التي سحقت البنى التحتية والطبقة المتوسطة من الشعب، بينما لم تؤثر على رموز النظام ومرتزقته وزبانيته وعشيرته، وأتت على ذكر مجموعة من الأدباء والكتاب الذين دبجوا المقالات المنافقة في مديح الطاغية صدام، وجمعوا له ألقابا زادت على أسماء الله الحسنى !! وهناك من (رتب له شجرة نسب تصله بآل بيت رسول الله عليه وعلى آله السلام )!! ثم أراد الطاغية أن يطلق عليه لقب الكاتب والشاعر !! فأصدروا له كتب (زبيبة والملك، والقلعة الحصينة، ومدينة ورجال) ونسبت لكاتبها وهو معروف،  وفرض بيعها في معارض الكتب!!

وروت معاناتها عندما رغبت في طبع روايتها حتى انتهى بها المطاف إلى من يرشدها إلى دار الشؤون الثقافية، وهناك طلب منها (أن تحذف بعض السطور التي تمجد زمن الجدات ففيها تجاهل لما قدمته الثورة للمرأة من امتيازات)!!

وعندما بدأت التهديدات بضرب العراق تحاصر الناس على مدار الساعة تناقص عدد الأطفال في الروضة لسفرهم مع أهاليهم خارج العراق، ففكرت حينها بالسفر مع أسرتها إلى اسبانيا، وعندما لم تحصل على التأشيرة، قررت السفر إلى سوريا كي يتمكن ولداها الهاربان من ظلم صدام من المجيء إلى دمشق لتلتقي بهما، ومن هناك شاهدت بدأ الهجوم على العراق في 19 آذار 2003، وبكت لما أصاب البلاد من دمار وخراب وما ألحق بالجيش العراقي البطل من هزيمة بسبب عنجهية صدام !!

وعادت إلى العراق بعد توقف العمليات الحربية لتعيش فصولاً مرعبة من الاقتتال الطائفي والمداهمات، وقد روت الكثير من الجرائم المروعة التي حصلت في منطقة اليرموك التي كانت تسكنها وفي غيرها من المناطق، مما اضطرها للسفر ثانية مع أسرتها إلى تركيا والبقاء فيها مدة على أمل انتهاء مسلسل العنف المتزايد في العراق، وعندما لم تجد نهاية قريبة لما يحدث قررت العودة إلى بغداد، وفتح أبواب الروضة من جديد، غير أن الأمور كانت تزداد سوءاً، وجرائم الإرهاب تتصاعد، وازدادت الإنفجارات القريبة من بيتهم، و(صارت غرفة المكتبة أكثر غرف البيت خطراً، فقد انهار زجاج نوافذها المظلل السميك مراراً، وكانت السيارات المفخخة توضع أحياناً بجانب سياج البيت)، وتزرع القنابل والعبوات الناسفة في الجزرة الوسطية مقابل بيتهم !! فكان لابد من التفكير ثانية بالسفر والابتعاد عن منطقة الخطر، وكانت العاصمة الأوردنية عَمان هي الوجهة هذه المرة، وكان أهم ما حملته معها أوراقها التي تضمنت كتاباتها وقصائدها، ولأجلها تركت الكثير من المقتنيات التي كانت تعتز بها.

في عمان عاشت وأسرتها مرارة لا توصف، فقد رأت كما غيرها من العراقيين الجشع والتعالي والمعاملة السيئة حتى من سماسرة العقار الذين كانوا ينظرون للعراقيين من فوق أنوفهم، وكأنهم يقولون (أشربوا ماء البحر)!! وجميع المقيمين يتحدثون بألم عن معاناتهم مع الشرطة الأردنية التي تترصدهم لانتهاء مدة إقاماتهم !! بينما كانوا يشاهدون بأعينهم كيف يتم استقبال السياح الإسرائيليين في جرش بكل حفاوة وترحيب !!

ولما ضاقت السبل بها وبأسرتها في عَمان، وأوشكت إقامتها وإقامة أفراد أسرتها على الانتهاء قرروا البحث عن مكان بديل والهجرة إليه، وهكذا اضطروا للذهاب إلى أحد مقرات الأمم المتحدة وتقديم طلب للجوء إلى إحدى الدول، وهم على أمل أن تتحسن الأوضاع في العراق، ويعودوا إليه ثانية !!

وعندما أنجزوا معاملاتهم ولم تكن هينة، وحصلت الموافقة على قبول لجوئهم إلى الولايات المتحدة، غادروا عمان إليها في رحلة طويلة مرورا بفرنكفورت في ألمانيا، ومنها إلى ميامي بولاية فلوريدا، وبعدها نقلتهم طائرة أخرى إلى مدينة دالس حيث توقفت لعدة ساعات قبل أن يصلوا إلى محطتهم الأخيرة في سولا ليك عاصمة ولاية يوتا ليستقروا فيها، ويبدؤوا حياتهم الجديدة، ولكن حنين ظل يعصف بالكاتبة وهي تردد في أعماقها (حييت سفحك بعد فحييني ... يا دجلة الخير يا أم البساتين)، وهي تبكي (تلك السفوح البعيدة جداً عنها بعد السماء عن الأرض) !!

وعن اختيار المؤلفة (الانحدار نحو المجهول) عنواناً لكتابها، تقول (أفكر بألم وحيرة ما الذي كنت أعنيه يوم اخترته عنواناً لكتابي)؟! وتستعرض مجموعة من الأسباب، ثم تعود لتقول (أي انحدار كنت أعني غير هذا الذي يلف العراق والعراقيين أينما كانوا لغد لا يعرفه أحد ؟! أنا مثل كثيرين لا أعرف تماماً ماذا يحصل وكيف حصل؟! ومتى سينتهي الإعصار بعد هذا الطوفان؟! ترى هل ستجد سفينة العراق يوماً تل جودي فترسو عليه بسلام)؟؟

ومما يلفت النظر في هذا الكتاب المميز ويثير الإعجاب شجاعة القول وموضوعية الرأي وتفاصيل الوصف للأماكن التي زارتها أو مرت بها المؤلفة مثل دمشق واسطنبول وعمان وفرانكفورت ودالس وميامي وسالت ليك وغيرها، والحوادث التي شهدتها وهي كثيرة، فقد وصفتها بدقة متناهية وعبارة أدبية رصينة وجميلة تبعث على الثقة والدهشة .

ومن الجدير بالذكر أن للمؤلفة وهي تربوية وكاتبة وأديبة شاعرة وروائية ومترجمة خمسة إصدارات سابقة هي :

1- نجوى والنهر (شعر) – بغداد 1988م .

2- سلاما يا وفاء (رواية) – بغداد 2002م .

3- ما قبل العصور (شعر) – كاليفورنيا 2010م .

4- ذكريات امرأة عراقية – بيروت 2012م .

5- أوراق مغتربة – الحلة 2019م .

ولديها مؤلفات مخطوطة، من أهمها كتاب كبير مترجم عن الانكليزية بعنوان (قبضة الله) لمؤلفه فردريك سينث، وهو انكليزي الجنسية .

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم