قراءة في كتاب

مراجعة لكتاب المصطلحية في فكرعلي القاسمي للأستاذة مرية الشوياخ

بتول الربيعيشغلت قضية المصطلح اهتمام المفكرين على اختلاف معارفهم ومشاربهم، وكان للعرب قديما وحديثا جهود جبارة في وضع المصطلحات، وإيجاد المكافئ الدقيق للمفاهيم المتنوعة. وفي العصر الحديث كان لازدهار العلوم المختلفة والتطور التكنلوجي، فضلاً عن الشابكة (الانترنت) التي عززت التواصل والتعارف بين الشعوب المختلفة، الأثر البيِّن في ظهور مصطلحات كثيرة تزاحمت للتعبير عن مفاهيم عدة أو مفهوم واحد، وأصبحت قضية المصطلح من القضايا الشائكة التي تعاني منها العلوم المختلفة، لغياب منهجية موحدة لتنسيق المصطلحات وتقييسها وتنميطها ومن ثَمَّ توحيدها. وقد تنبّه على هذا الأمر علماء مبرزين في علم المصطلح لهم باع طويل في أصول المصطلح وتحولاته ،  ومن أبرزهم العلامة الدكتور علي القاسمي في كتابه القيّم (علم المصطلح أسسه النظرية وتطبيقاته العملية) الذي مثل جهده المصطلحي، وهو معني بالفهم المتكامل لقضايا المصطلح وأصول مفرداته واشتقاقاته .

ولأهمية هذا الكتاب فقد حظي بعناية الباحثين والدارسين، وهو يُدرَّس في معظم الجامعات العربية. وقد أُجريَت فيه دراستان لنيل شهادة الماجستير هما:

1- المصطلحية في فكر الدكتور علي القاسمي،  للدكتور كمال العناني الذي يعمل في مجمع اللغة العربية في الجزائر.

2- المصطلحية في فكر علي القاسمي للأستاذة مرية الشوياخ،  وقد طبعت هذه الرسالة في كتاب في (110) صفحات، وهو من إصدار مركز الكتاب الأكاديمي في الأردن عام 2019م، وقد استهلت الباحثة كتابها بمقدمة بيّنت فيها أهمية المصطلح في العصر الحديث، وأنَّ الهدف المرجو من الكتاب العمل على تأسيس مصطلحية عربية حديثة تعنى بتصحيح ما هو موجود وتأصيل ما يجب أن يوجد، ولكون الباحثة تعمل في مكتب تنسيق التعريب بالرباط،  فإنَّ أهمَّ المصادر التي استعانت بها هي الأبحاث المنشورة في مجلة اللسان العربي, التي يصدرها سنويًا مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

وقد قُسِّمَ الكتاب على فصلين،  تناولت الباحثة في الفصل الأول ثلاثة محاور:

المحور الأول : المصطلح والاصطلاح،  بيّنت فيه الباحثة أصل المادة اللغوية (ص ل ح) إذ تأتي هذه المادة للدلالة على أمرين :

1- ما هو ضد الفساد، أي: الإصلاح، ومنه قولهم : صلح الشيء يصلح صلاحًا.

2- الاتفاق ومنه قولهم : اصطلح وتصالح القوم.

وقد أكدت أنَّ لفظي (مصطلح واصطلاح) استعملا مترادفين في اللغة العربية, وساقت أمثلة كثيرة بشأن ورود لفظ مصطلح في مؤلفات القدماء، وأنَّ علماء الحديث هم أوّل مَن استعمل لفظ (معجم ومصطلح) في مؤلفاتهم مثل منظومة (أحمد بن فرج الاشبيلي ت 699هـ) في مصطلح الحديث.

وفي المحور الثاني درست الباحثة تفريق القاسمي بين (علم المصطلح، terminology-terminologie )، و(صناعة المصطلح terminographie-terminographie).

إذ نقلت الباحثة تعريف د. علي القاسمي لعلم المصطلح بأنّه «علم حديث يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والألفاظ اللغوية التي تُعبِّر عنها وهو علم مشترك بين علوم عدة أبرزها علم اللغة والمنطق والمعلوميات وعلم الوجود وعلم المعرفة، وحقول التخصّص العلمي». فالمصطلح على هذا الأساس يشتمل على عناصر لسانية (كالمجاز, والاشتقاق، والاقتراض اللغوي, والتركيب، والإبدال, والنحت). وعناصر غير لسانية متمثلة بعلم المنطق، وعلم الوجود, والمعلوميات، وعلم المعرفة.

أمّا صناعة المصطلح فهي الجانب التطبيقي لعلم المصطلح، وقد حصرها القاسمي «في العمل الذي ينصب على توثيق المصطلحات والتوثيق للمصادر والمعلومات المتعلقة بها ونشرها في معاجم مختصة ورقية أو ألكترونية».

وبناءً على ما توصل إليه في الميدان المعجمي يقول: «إذا كان هذا التفريق ضروريا فإنــَّنا نفضل أن يكون المصطلحية اسما شاملا لنوعين من النشاط هما علم المصطلح الذي يُعنَى بالجانب النظري، وصناعة المصطلح التي تُعنَى بالجانب العملي».

المحور الثالث :إشكاليات المصطلح : وقد حصرت الباحثة هذه الإشكاليات في أمرين :

(أ) إشكاليات تنظيمية: عرّجت الباحثة على قضية مهمة في علم المصطلح الحديث, وهي وجود اضطراب وتشتت في استعمال المصطلح العربي بسبب غياب التنسيق بين المترجمين بصورة عامة والمشتغلين بالمصطلح بصورة خاصة، وقد ركزت الباحثة على الصعوبات التي يواجهها المصطلح العربي كما ذكرها د. علي القاسمي في وضع المصطلحات وهي:

1- النقص في المصطلحات العلمية العربية .

2- اضطراب الجهات الواضعة للمصطلحات وعدم التنسيق بينها وتفرقها بين الجماعات (مجامع،  جامعات, وزارات)، والأفراد (كُتَّاب، مترجمين, معجميين).

3- اضطراب المنهج المتبع في الوضع.فضلا عن إشكالات أُخَر أشارت إليها الباحثة تتمثل بضعف القبول الجماهيري للمصطلحات الموضوعة على مستوى الاستعمال والتداول .

(ب) إشكاليات لغوية كالازدواجية اللغوية، وتعدُّد اللهجات في الفصحى، وظاهرة الترادف والمشترك اللفظي.

وفي الفصل الثاني من الكتاب درست الباحثة أسس الصناعة المصطلحية .

وقد قُسِّمَ على ستة محاور تناولت الباحثة بالمحور الأول علم المفهوم والعناصر المنطقية والوجودية في علم المصطلح, وأنّ المفاهيم وُجِدَت وتشكّلت قبل المصطلحات, وأنَّ أي عمل مصطلحي يجب أن يقوم على المفاهيم ويستند إليها،  وأنَّ علم المنطق هو الآلة التي تضبط المصطلح؛لأنَّه يتكفل ببيان الطرائق العامة الصحيحة التي يتوصل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة،  فقواعد علم المنطق تُعلِّم المصطلحي كيف يُعرِّف المصطلحات العلمية تعريفًا مانعًا جامعًا بعيدًا عن الخطأ والغموض واللبس.

وفي المحور الثاني تطرّقت الباحثة إلى علاقة علم اللغة بالمفهوم،  إذ إنّ اللغة تُعبِّر عن المفاهيم، فإنّ الحديث عن المفاهيم يستوجب الحديث عن اللغة، وبذلك ينشأ المصطلح، فالمفهوم بالنسبة للمصطلح كالروح والجسد فهما متلازمان لا يمكن فصلهما عن بعضهما.

وبيّنت في المحور الثالث أهمية الترجمة والتعريب في علم المصطلح؛ لأنَّ المصطلح قد ينتقل من لغة إلى أخرى من طريق الترجمة والتعريب،  وقد لحظ الباحثون أنّ هناك تناسبًا بين التقدم الحضاري والترجمة،  إذ إنَّ البلدان التي تترجم أكثر تحقِّق تقدُّمًا أكبر، فالترجمة هي حوار بين لغتين قبل أن تكون حوارًا بين حضارتين،  وأنَّ الترجمة هي الطريقة المثلى لنقل المصطلح من اللغات الأجنبية، سواء أكان موجودًا مسبقًا أو تمَّ ابتكاره بطرائق التوليد، وإذا تعذّرت الترجمة لجأ المصطلحي إلى التعريب فيخضع المصطلح الأجنبي لشيء من التعديل أو التغيير في بنيته وأصوله ليوافق نظام العربية.

وخصّصت المحور الرابع لدراسة علم العلامات،  وركّزت على التفريق بين الرمز والعلامة والإشارة،  فالرمز هو نوع من العلامات يشير إلى شيء بوساطة قوة أحد القوانين، كشأن الإعراب مثلا لكلمات اللغة وعلامات تتلاقى بنفسها بالتجاور صحبة الموضوع المشار إليه، والعلامة هي الحامل المادي للدلالة الإعلامية مثل نبضات التيار الكهربائي، أمّا الإشارة فهي ضرب من العلامات إلاّ أنّها تختلف عنها في أنَّ الإشارات تكون اصطلاحية يتواضع عليها الناس.

وفي المحورين الخامس والسادس درست الباحثة أهمية المدونة الحاسوبية وتوثيق المصطلحات،  وذكرت الباحثة أن أبرز مسوغات الحاسوب في العمل المصطلحي تتجلّى في ما يأتي:

1- استحالة إلمام المختص بمجموع الاصطلاحات المرتبطة بشقٍّ معرفي واحد, فكيف إذا تعلّق الأمر بمنظومة من المفاهيم!.

2- إمكانية تسريع عملية الترجمة اليدوية، إذ يوافر الحاسوب مقابلات المصطلح ودلالاته وسياقاته, وخصائصه اللغويّة.

3- إمكانية تحسين عملية الترجمة بما يوافره الحاسوب من دقائق المعاني لكل مصطلح بحسب المجال المعرفي الذي ينتمي إليه.

4- إمكانية تحسين منظومة المصطلحات المخزنة في ذاكرة الحاسوب بالإضافة والإنقاص والتعديل وإعادة الترتيب دونما حاجة إلى إعادة طبع المنتوج.

5- إمكانية التنسيق بين المكافئات الموضوعة لمفهوم واحد مزودة بالمعلومات الضرورية.

ثمّ عرضت الباحثة لبنوك المصطلحات في العالم وفصّلت القول في الحديث عن بنك المصطلحات في مكتب تنسيق التعريب بالرباط الذي أنشأته الجامعة العربية بالتنسيق مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،  والغاية منه تنسيق المصطلحات العلمية والتقنية في الوطن العربي, ويوافر حاليًّا جميع المصطلحات الموحّدة مع مقابلاتها باللغتين الانجليزية والفرنسية عبر موقعه على الشابكة :            www.Arabization.org.ma

وفي المرحلة الأخيرة يتم توثيق تلك المصطلحات ويشتمل التوثيق على (ثوثيق مصادر المصطلحات، وتوثيق المصطلحات، وتوثيق المعلومات عن المؤسسات المعجمية والمصطلحية).

وقد أبدعت الباحثة وأجادت في عرض المادة العلمية وترتيب الموضوعات بطريقة متناسقة بأسلوب تقويمي تحليلي واضح ودقيق،  وحسن تنقلها بين المصادر المتنوعة، ويمكنني القول: إنّ هذا الكتاب هو محاكاة للإبداع من جهة،  ومقاربة للإبداع من جهة أخرى, إذ كيف يمكن مقاربة ما في الذهنية معرفيًّا ما لم نكن نمتلك أدوات القراءة المبنيّة على أسس استكشاف مجهولات النص العلمي ؛ لأنّ الخوض في فعل المقاربة، والقراءات المتعدّدة للوصول إلى كشف مساحات العمل الذي قام به الدكتور علي القاسمي يحتاج إلى ملكة الوعي،  والاستيعاب لرؤاه في هذا التخصص.

فهل يمكننا الإجابة على هذا التساؤل الكبير،  لماذا الكتابة عن الدكتور علي القاسمي؟

ولأنني خضت التجربة من قبل، فإنّ حدود هذه التساؤلات معروفة لديّ، فالكتابة عن الدكتور علي القاسمي ترتبط وثيقا بهيكلية المنظومة المعرفية التي ينتمي إليها، ولأنّه يأتي أولا في الكتابة،  وهو نتاج معرفي رصين ربط بين الماضي والحاضر، واستطاع أن يمسك العصا من الوسط، ولا أغالي إذا قلت: إنّ أستاذنا العلامة د علي القاسمي قد تجاوز حدود الانتماءات الشكلية، فهو شخصية علمية لا تكتفي بالتبنّي العلمي لرأي، سواء أكان قديمًا أم حديثًا، بل هو مجتهد يمسك بناصية الآراء يدقِّق فيها،  ويعلم مقدار ما ينفع منها، حتى اكتملت رؤيته اللُّغويّة الكاشفة عنه.

ومن هنا تتضح قيمة السؤال المطروح، وجدية الجواب، فالقاسمي نسيج خاصٌّ صنعه هو، وعلى مَن يبحث في هذا النسيج أن يكون بهذا المستوى العالي من التفكير العلمي عند الدكتور القاسمي، وفهمه، وهذا ما نلمسه في كتاب الباحثة الكريمة الأستاذة مرية الشوياخ.

 

د. بتول الربيعي

 

في المثقف اليوم