قراءة في كتاب

قراءة في كتاب: تأصيل الجذور الساميّة وأثره في بناء معجم عربي حديث

بتول الربيعيللدكتور حسام قدوري عبد الجبوري/ جامعة بغداد

مَنْ يطالع اللغات الساميّة ويمخر عباب بحرها الزاخر، يجد نفسه غارقا في خضمِّ بحر لجّي، مأسورا بين أمواجه المتلاطمة، محاولًا الإبحار في رحلة البحث اللُّغويّ، والغوص في متاهات اكتشاف المجهول، ويأتي كتاب (تأصيل الجذور الساميّة وأثره في بناء معجم عربي حديث) للدكتور حسام قدوري عبد الجبوري أستاذ اللغة والمعجم والدراسات المقارنة في جامعة بغداد، في طليعة هذا التبحر الذي يُعنَى بتأثيل الجذور في اللغات الساميّة، وفي أثنائه أمثلة كافية من الرواسب اللغويّة التي ورد ذكرها في الموروث العربي وتأثيلها في اللغات الساميّة.

 وهو ثمين المحتوى؛ إذ يقع الكتاب في (200) صفحة من القطع الكبير، وهو من إصدار دار الكتب العلمية في لبنان عام 2007م، ويشتمل على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول.

نبّه الكاتب في المقدّمة على أنًّ الدرس المقارن ليس هو الدرس الأوحد الذي يحقق الغاية في تأثيل الجذور الساميّة للوصول إلى الطريق الصحيح، والأفضل لكتابة المعجم العربي الحديث، وإنَّما هو الأساس المتين لها آخذين بالحسبان سائر العلوم والمناهج التي تُسهِّل عملية قيام هذا المشروع.

وفي التمهيد ركّز الكاتب على أوجه التشابه بين اللغات الساميّة، فذكر أنَّ (الساميّة) التسمية التي اقترحها (شولتزر) أول مرّة في بحث نشره سنة 1781م، لم تَرق للقوميين؛ لأنَّها جعلت العيلاميين أخوة لهم بحسب ألواح الأنساب العبرية، وهو أمر لا يرتضونه، فما كان منهم إلاّ أن أسموها باللغات الجزريّة؛ فوقعوا في محذور أشد حين جعلوا لليهود نصيبا تاريخيا في الجزيرة نفسها، وهذا الأمر جعل الدراسات المقارنة تسير على وفق نزعات متطرفة، ولا تخدم العلم نفسه، بل أخذت تسير نحو الجمود والتضاؤل، وكان من المفترض أن تسير الدراسات المقارنة في اتجاه موضوعي يخدم الدرس اللّغوي أولاً، ثم تتوسع الفائدة لتخدم العلوم الأخرى. ثم تطرّق إلى الدرس المعجمي المقارن في الدرس اللغوي العربي القديم، وبيَّن أهمَّ مواطن الضعف التي تعتور الدرس المقارن العربي القديم.

وتتبَّع الدكتور الجبوري في دراسته بناء المعجم العربي الحديث، وما يحتاج إليه من أدوات ليواكب تطورات العصر العلميّة المتعددة، مبيّنًا أنَّ البحث المقارن يتقصّى الشبه بين اللغات المتقاربة في الأُسرة الواحدة، مع مراعاة الظروف المتكاملة في حياة المفردات، كالظروف الدينية والسياسية والاجتماعية، وأنَّ التغافل عن السمة التأريخية المقارنة في صياغة المعجم العربي الحديث أمر لا يعود على المعجميّة العربية بالنفع، بل ستدور في فلك ما هو موجود من مواد لا تغني في مواكبة العلوم اللغويّة المتطورة، وعرّج الكاتب على المحاولة الجادة والرصينة للمستشرق (أوغست فيشر) في صنع المعجم، وعدّه خطوة مهمة في سبيل التأثيل للجذور، وإن تغافل عن نعت معجمه بالمقارن، فإنّه لم يغفل عن تطبيقها في صناعة معجمه.

وفي الفصل الأوّل الذي حمل عنوان (دراسة في آليّات تطور أشكال الجذور) تحدّث الكاتب عن التطورين الصوتي والصرفي، وأثرهما في تغيير هيأة الجذر، سواء أكان في مادته أم في وزنه.

 وقد سلّط الكاتب الضوء على ظاهرة صوتية أطلق عليها (ظاهرة التسامي في الإبدال الصوتي)، ونبّه على أنَّ هذه الظاهرة مهمة في دراسة الإبدال الصوتي، وهي انتقال الصوت في مرحلة ما من التغيّر من دون المرور بالمرحلة الوسطى منها؛ لذا أطلق عليها (ظاهرة تسامي الإبدال)؛ لأنَّها شبيهة بظاهرة تسامي المواد الكيميائية، وهي انتقال من حالة إلى حالة من دون المرور بالحالة الوسطى التي بينهما.

 ومن ذلك مثلا إبدال الطاء كافًا في (نبط) السبئية بمعنى حفر بئرًا؛ إذ وردت في الأوجاريتية (نبك) بالكاف، وقد رجّح الكاتب قدمها بالكاف لقدم الأوجاريتية.

ومما يلفت النظر في هذا الفصل أنَّ الكاتب تحدّث عن الافتراض الصرفي وأثره في معرفة أصول الجذور الساميّة، وفكرة هذا البحث تقوم على دراسة ما افترضه الصرفيون القدامى من أُصول، وإن لم تنطق بها العرب على حد زعم بعضهم، وكان عمادهم في ما افترضوه عللاً وحججًا منطقية تؤيد ما ذهبوا إليه من آراء، ومقابلة هذه الآراء التي ذكروها باللغات الساميّة الأخرى، كالأكدية والعبرية وغيرهما.

وقد توصل الكاتب إلى مدى نجاح اللُّغويين القدامى في تفكيرهم، وطرائق استدلالهم، واستنتاجاتهم، وإصابة فرضياتهم، على الرغم من عدم اطلاعهم على تلك اللغات، وبيّن أثر الفلسفة والمنطق ونجاح الصرفيين الأوائل في إصابة (الأصل الأوّل) بطريق الافتراض أو التخمين المنطقيين.

ومن مثال ذلك ما ذكره في تأثيل كلمة (خنزير)

خنزير: وهم على مذهبين فيه:

الأوّل: مذهب سيبويه أنَّه على وزن (فعليل)، والنون فيه أصلية، وهو من مادة (خنز).

الثاني: مذهب ثعلب فيما نقل عنه ابن عصفور أنَّه على وزن (فنعيل) والنون فيه زائدة، وهو مادة (خزر)، وهو بمعنى صغر العين، واستدل بقول الشاعر:

اَ تَفْخَــرَنَّ، فــإنَّ اللــهَ أنْـزَلكُمْ     يَــا خُـزْرَ تَغْلِـبَ دَارَ الـذُّلِّ والهَون

وردَّ ابن عصفور هذا الرأي بأنَّ خزراً فيه جمع أخزر، إذ إنَّ كل خنزير أخزر، والدرس المقارن يؤيد رأي ثعلب؛ ذلك أنَّ الجذر (خزر) من دون النون هو الذي ورد في أقدم الساميّات تدوينًا، وهي الأكدية، فهو(خُزريم) بضم الخاء، والأنثى منه (خزرت)، وهو في الآرامية (حزيرا)، وكذا في السريانية، وفي المندائية (هيزورا)، ولم تظهر النون إلاّ في الأوغاريتية والحبشية (خنزر)، ويفسّر وجود النون قانون المخالفة؛ إذ المظنون أنَّ الزاي كان يلفظ بالتشديد، ثم فك وأُبدِلَ أحد الزايين بالنون.

وفي الفصل الثاني بحث الكاتب مظاهر التطور الدلالي في جذور اللغات الساميّة، وكأنَّه ينتقل بين الأحاجي والطلاسم ويفكُّ رموزها في اللغات الساميّة، ونحو ذلك قراءته لمادة (ع ج ل ):

تحدث ابن فارس عن أصلين مختلفين في الجذر (عجل) لا رابط بينهما في المعنى، قال "(عَجَلَ) الْعَيْنُ وَالْجِيمُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْإِسْرَاعِ، وَالْآخَرُ عَلَى بَعْضِ الْحَيَوَانِ" وجعل من الأوّل العجلة في الأمر،" وَالْعُجَالَةُ: مَا تُعُجِّلُ مِنْ شَيْءٍ. وَيُقَالُ: " عُجَالَةُ الرَّاكِبِ تَمْرٌ وَسَوِيقٌ ". وَذُكِرَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ الْعَجَلَ: مَا اسْتُعْجِلَ بِهِ طَعَامٌ فَقُدِّمَ قَبْلَ إِدْرَاكِ الْغِذَاءِ". "وَالْأَصْلُ الْآخَرُ الْعِجْلُ: وَلَدُ الْبَقَرَةِ; وَفِي لُغَةٍ عِجَّوْلُ، وَالْجُمَعُ عَجَاجِيلُ، وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ وَعِجْوَلَةٌ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الرَّجُلُ عِجْلًا".

ولم يلحظ ابن فارس – بحسب ما يرى الكاتب -الصلة الدلاليّة بين الأصلين، وهي التطور من المعنى الحسي إلى المعنى المجرّد في الذهن، فقد انتقلت دلالة (عِجل) من الحيوان المعروف إلى معنى الإسراع.

ومراجعة دلالة مادة (ع ج ل) في اللغات الساميّة يدلّ على هذا المقصد، بيد أنَّ الجذر أصابه انزياح في الدلالة فقد أصبح يدلّ على المدوّر من الأشياء، فما السبب في ذلك؟

وردت مادة (ع ج ل) في " الأوجاريتية ع ج ل: بمعنى عِجل، وفي العبرية ع ا ج ول: مدوّر، ع ج ل: عِجل، عَ جَ لَ ا: عجلة مركبة، الآرامية: ع ج ل: استدار، عِ ج ل ا: عِجل، السريانية: عِ ج ل ا: عِجل، ع ا جِ ل ت ا: عجلة، المندائية: ل ي ج ا ل: عجلة، الحبشية: عَ جَ لَ: صف، كوّم، سيّج"

ويجيب الدكتور الجبوري عن ذلك بانتقال الذهن من معنى العجلة إلى الشكل المدوّر فيها، فقد انتقلت الدلالة إلى الحيوان المعروف لما يجر من آلة، سمّيت بالعجلة، وقد يُلحَظ تطور دلالي آخر في لمح مادة الخشب في العجلة فأطلقت في العربية على (خشبة معترضة على نعامتي البئر والغرب معلّق بها). ثم انتقلت بدلالة الجزئية إلى جزء منها – أي العجلة التي تُركَب -، هذا الجزء لمح فيه الشكل المستدير، فانتقلت دلالة العجلة إليه؛ فأصبحت مادة (ع ج ل) تدلّ على الاستدارة، بسبب هذا الانزياح الدلالي، وقد تطورت دلالة هذا الانزياح في الحبشية فأصبحت تدل على الصفِّ، والتكويم، والتسييج.

ولعلّ أبرز ما ينماز به هذا الكتاب أنَّ مؤلفه يمضي في تأثيل الجذور إلى اللغتين السومريّة والأكديّة، ففي الفصل الثالث المعنون بـ(توليد الجذور الساميّة ونموها)، درس الباحث فكرة صياغة بعض الجذور من لغة غير ساميّة، هي اللغة السومرية التي ترتبط بصلة الجوار بلغة قديمة هي اللغة الأكديّة، ومن ثَمَّ دخلت تلك الجذور في لغة ساميّة أخرى هي العربيّة، وتحدّث عن النظرية الثنائيّة التي تحاول تفسير توليد الجذور ونموها، ودرس الأشكال والآليّات التي تتوالد فيها الجذور وتنمو.

إنَّ الفكرة التي قام عليها هذا الفصل هي إيجاد الأثر السومري في صناعة الجذور الساميّة التي دخلت إلى معاجم تلك اللغات ومنها على وجه الخصوص اللغة العربيّة، وكانت تلك الجذور في اللغة السومرية على شكل جمل مفيدة أو تركيب لغوي متكامل وهو مما يدعو إلى التأمل، وكيف انتقلت هذه الجذور إلى اللغة الأكدية ثم استقرت في الساميّات على شكل كلمات وجذور، ومن هذه الجذور:

(رقن): هذا الجذر بمعنى التلوين والنقش. قال ابن فارس «الرَّاءُ وَالقَافُ وَالنُّونُ بَابٌ يَقْرُبُ مِنَ البَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. يُقَالُ: رَقَّنْتُ الكِتَابَ: قَارَبْتُ بَيْنَ سُطُورِهِ. وَتَرَقَّنَتِ المَرْأَةُ: تَلَطَّخَتْ بِالزَّعْفَرَانِ. وَالرَّقُونُ وَالرِّقَّانِ: الزَّعْفَرَانُ. وَالمَرْقُونُ: المَنْقُوشُ».

وقد تطوَّر صوت النون فيه فأصبح ميمًا لما بين الصوتين من تشابه ظاهر في الغنّة وغيرها فأصبح (رقم). قال ابن فارس «الرَّاءُ وَالقَافُ وَالمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خَطٍّ وَكِتَابَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالرَّقْمُ: الخَطُّ. وَالرَّقِيمُ: الكِتَابُ. وَيُقَالُ لِلْحَاذِقِ فِي صِنَاعَتِهِ: هُوَ يَرْقُمُ فِي المَاء.... وَكُلُّ ثَوْبٍ وُشِيَ فَهُوَ رَقْمٌ. وَالأَرْقَمُ مِنَ الحَيَّاتِ: مَا عَلَى ظَهْرِهِ كَالنَّقْشِ».

ويمكن القول: إنّ الجذر (رقن ) مأخوذ من السومرية بالمعنى نفسه إذ ورد فيها (RA-GAN ) بمعنى ختم رقيما أو نقشاً، ووردَ فيها بالعلامة السومرية (GAN).

بمعنى تلّون وترقّش. ويرى الكاتب أنَّه هو الأصل ويقوّي هذا الأمر وروده بالمعنى نفسه في العلامة (GUN-A)، بمعنى مرقّط أو مرقّش إذ يرتبط التلّوين هنا بالماء الذي يُفهَم من العلامة السومريّة (A) التي ذكرت في تفسير الجذر السابق بالمعنى نفسه وهو الماء.

ويمكنُ عدّ الدكتور الجبوري مؤثلا من طراز خاص؛ فهو يناقش ما وَرَدَ في الموروث اللُّغويّ، وما وَرَدَ في اللغات الساميّة محاولا التقريب بينهما، وجعل الباب مشرعًا لمَنْ يأتي بعده، فكأنّك تنتقل من الأحاجي إلى جوهر اللغة ولبابها، فالبحث في اللغات الساميّة ليس بالأمر اليسير، فهو علم لا يجيده سوى المهرة المختصّين، والغوص في أعماقه لا يستقيم إلا لحذّاق الغوّاصين، ومَنْ كانت لديهم دراية واسعة وبصيرة ثاقبة، وهذا ما نجده في كتاب الأستاذ الجليل الدكتور حسام الجبوري، فهو محط رحال المثقفين بصورة عامة، والباحثين في اللغات الساميّة بصورة خاصة.

 

الدكتورة بتول الربيعي

 

في المثقف اليوم