قراءة في كتاب

أحمد محمود الجزار ومنهج الكشف عند صوفية الإسلام (1)

محمود محمد عليقليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، ولا ريب في أن الأستاذ الدكتور أحمد محمود إسماعيل الجزار (أستاذ التصوف الإسلامي بكلية الآداب – جامعة المنيا) من هؤلاء الرجال، فقد عرفته منذ أكثر من ربع قرن عندما كان أستاذي الدكتور عاطف العراقي مشرفاً عليَ في رسالتي للماجستير عن المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول، وساعتها قال لي الدكتور عاطف، إذا أردت أن تفهم المنطق عند السهروردي، فلا بد من أن تعي تصوفه، وخير من يكشف لك عن مفهوم التصوف لديه هو  الدكتور أحمد الجزار، وهنا بدأت أتعرف عليه وأُلازمه واستمع إلي توجيهاته ونصائحه.

لقد تعلمت علي يد الدكتور أحمد الجزار الكثير من قضايا المنهج العلمي، ومنها قوله لي بأن علة ضحالة وهشاشة معظم الكتابات الفلسفية في ثقافتنا العربية المعاصرة ترجع في المقام الأول إلي افتقار أصحابها المنهج –أي – ذلك الطريق الواضح والخطوات المنظمة التي يخطوها الكاتب في التصنيف والتأليف والترجمة والتحقيق. وتعلمت منه أيضا أن مثل هاتيك الكتابات غالبا ما تتسم بالغموض في الأسلوب والركاكة في الصياغة والاضطراب في عرض الأفكار، والتناقض في الاستنتاج، وذلك لأن صاحبها غير مؤهل للكتابة لكونه من أشباه الدارسين وأنصاف الباحثين الذين حرموا من ملكة الابداع والنزعة النقدية . والسمات الذاتية التي تميز أصحاب الأقلام عن دونهم من المقلدين ومنتحلي الأفكار والآراء .

ولا أنسي قوله لي كثيرا ومرارا بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه ولا يستطيع قراؤه التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب يجب أن يتوقف عن الكتابة لأنه من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ، فعليه أن ينتظر حتي تكتمل شخصيته وينفرد قلمه وينضج ذهنه.

ومن ناحية أخري وجدت في الدكتور الجزار وفاء الصديق وقلب الطفل، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل وغير ذلك من الخصال، الأمر الذي كان وراء  حيرتي وقلمي في اختيار أحد الجوانب لأتحدث عنه، فراق لي أن أتحدث عنه كسيناتور للتصوف الإسلامي .

والدكتور الجزار من مواليد 3/10/1948 من محافظة الدقهلية، حيث حصل علي جائزة جامعة المنيا في العلوم الإنسانية عام 2004، وجائزة الأستاذ المثالي لكلية الآداب عام 2005، وأشرف علي العديد رسائل الماجستير والدكتوراه، وقد تقلد منصب عميد كلية الآداب من عام 2005-2009، وعضو اللجنة العلمية الدائمة من أبريل 2018 وحتي الأن وعضو لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة من عام 2015 وحتي الأن وعضو الجمعية الفلسفية من أهم كتبة: الولاية بين الجيلاني وابن تيمية 1990، وقضايا وشخصيات صوفية 2000، وفخر الدين الرازي والتصوف 2000، والله والإنسان عند الأمير عبد القادر الجزائري 1999، والفناء والحب الإلهي عند ابن عربي 2008، والفكر المصري المعاصر والتصوف 2008، والمعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير 2009، ودراسات في التصوف".

كما أسهم بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي، وألقي العديد من البحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودولية، منها أبحاث نشرت في أوربا في مجلات متخصصة، كما حاضر عن الإسلام والحضارة الإسلامية،والإنسان وحقوقه في الإسلام في كثير من الجامعات المصرية والعربية.

بل قد لا أكون مبالغا إذا ذهبت إلي القول بأن الدكتور أحمد الجزار يمثل مكانة بارزة في ميدان الفلسفة الإسلامية عامة ؛ والتصوف الإسلامي خاصة بوصفه مفكرا مرموقا ترك بصمة واضحة المعالم في حياتنا الفكرية، وهو بالإضافة إلي ذلك نموذج للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أحسن ما يكون الأداء أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي.

ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه له بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة ..إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

نعم لقد كنا نري في الدكتور الجزار نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجا هاديا، عاليا كالمنار، وارفا كالظل، زاخرا كالنهر، عميقا كالبحر، رحبا كالأفق، خصيبا كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مددا يرفدها من سر الخلود .

والدكتور الجزار من المفكرين المصريين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي دارس للتصوف الإسلامي أن يتغافل عن الدور الرائد لهذا العالم الشامخ، ومن واجبنا أن نهتم كل الاهتمام بدراسة أفكاره وآرائه

والدكتور الجزار من المفكرين المصريين الذين صالوا وجالوا في دراسة التصوف الإسلامي، فهو صاحب كتابات كثيرة نذكر منها " الولاية بين الجيلاني وابن تيمية " , و" الفناء والحب الإلهي عند بن عربي "، والله والإنسان عند الأمير عبد القادر الجزائري و" المعرفة عند أبي سعيد الخراز "، و" فخر الدين الرازي والتصوف "، ودراسات في التصوف".

وأركز حديثي هنا عن حول نظره الجزار للتصوف من خلال  كتابه منهج الكشف عند صوفية الإسلام؛ حيث  ذهبت الصوفية إلى أن مصدر المعرفة أمر أخر غير الحس العقل . قد يكون الحدس، وقد يكون الذوق، وقد يكون البصيرة، وقد يكون الإلهام . ذلك أن الصوفية لم يهتدوا بعد إلى معرفة كنه هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع أو بالأحرى وصفوا مظاهرها، ووظائفها بصفات متقاربة، فهى نوعاً ما من التعقل تدرك وتعرف، ومع ذلك ليست هى العقل الذى نعرفه وهى تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه ؛ أى أن فيها عنصرى الإرادة والوجدان، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التى نعرفها ولا هى واحدة من العواطف التى لنا عهد بها . ففى حاسة عاملة مريدة وجدانية مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التى تدرك عملها في حياتنا الشاغرة .

وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية، اسم القلب والسر وعين البصيرة، وما إلى ذلك من الأسماء التى تعدو أن تكون رموزاً لحقيقة واحدة تفترض وجودها ولا ندرى من كنهها شيئاً .

المهم أن الصوفية لا يعترفون بالحس والعقل مصدراً للمعرفة البشرية الحقة، لأنهم يميزون بين ظاهر الشئ وحقيقته، وبين الشكل والمضمون، وهو في تميزهم هذا قد ذهبوا إلى أن المعرفة خاصة بالمحسوسات، وأن العقلية خاصة بالمعقولات الحاصلة عن المحسوسات، ولكن ثمة معقولات أخرى ليس مصدرها الحس أو العقل، وهذه المعقولات الموجودة والموجودات المعقولة لا يمكن إدراكها أو بلوغها لا بالحس ولا بالعقل الذى يعتمد أساساً على الحس وهذه المعقولات تدرك بالحس الصوفى .

إذن المتصوفة جميعاً يرون أن وراء طور الحس والعقل طوراً أخر ينبغى اللجوء إليه، والاعتماد عليه وهو الكشف أو الذوق .

ومن هذا المنطلق اخترت في هذه الدراسة لأعرض وأحلل وأنقد كتابه الشهير" منهج "الكشف عند صوفية الإسلام"، حيث يمثل هذا الكتاب في نظرنا درة العقد في سلسلة ابداعاته الفكرية ذات الطابع الفلسفي الأصيل والتي بدأها الدكتور أحمد الجزار منذ ما يزيد علي ربع قرن من الزمان لتصل إلي أكثر من عشرة مؤلفات، إلي جانب ماله من دراسات وبحوث ومقالات تضمها بطون المجلات والدوريات العلمية.

فعندما تم تعيين الدكتور الجزار معيداً بقسم الفلسفة بجامعة أسيوط – فرع المنيا، أراد أن يتخصص في مجال الفلسفة الإسلامية وبالأخص في التصوف الإسلامي، وقد سجل رسالته في الماجستير سنة 1980 في موضوع عنوانه " منهج الكشف عن صوفية الإسلام "، وهذه أول رساله تعالج إشكالية المنهج في التصوف، وهل هو ذاتي أم موضوعي، وما هي وسائله، وبالتالي جعل الإشكاليات متمثلة في فصول، مثل الكشف والوجود، والكشف والأخلاق، والكشف والسلوك، والكشف والمعرفة..الخ وفي مقدمته للرسالة قال إذا كان التصوف علم ذوقي بمعني أن أصحابه يسعون إلي ذوق لحقيقة وكشفها عيانا أو مشاهدة والحقيقة عند الصوفية هي معرفة الذات الإلهية، وإذا كان التصوف علما بهذا المعني، فإن ذلك يعني أن له موضوعا يعمد أصحابه إلي الكشف عنه، بل متي كان له موضوع فإنه لا بد من أن يكون له منهج ومن المحتمل أن ثمة نتائج معينة لا بد وأن يفضي إليها هذا المنهج "

ويستطرد فيقول " من هنا بدت لي دراسة التصوف من زاوية المنهج أمرا علي جانب كبير من الأهمية، إذ أن تحليل طبيعة المنهج عند الصوفية والإبانة في الوقت نفسه عن وسائل التحقق للمعرفة التي ينزع إليها أصحاب هذا المنهج . ومن هنا بدت لي دراسة التصوف من زاوية المنهج أمرا علي جانب من الأهمية، إذ أن تحليل طبيعة المنهج عند الصوفية والإبانة في الوقت نفسه عن وسائل التحقق للمعرفة التي ينزع إليها أصحاب هذا المنهج،هذه الناحية أري أنها تمثل زاوية علي جانب من الأهمية من زاوية علم التصوف كعلم للمعرفة" .

ويستطرد فيقول ولم يكن ذلك كله ما حفزني إلي دراسة هذا الموضوع بعينه دون غيره من الموضوعات داخلة في إطار علم التصوف، وسأشير بإيجاز إلي ما دفعني إلي دراسة هذا الموضوع :

أولا: بد لي أن دراسة منهج الكشف عند الصوفية يمثل أمرا هاما، إذ كل مكاشفاتهم أو تجلياتهم ترجع أساسا إلي هذا المنهج كوسيلة للمعرفة بالمقارنة بغيره من الوسائل كالعقل أو الحواس. فالصوفية لا يلقون إلينا بنتائج علومهم ومكاشفاتهم إلقاء دون ما طريقة أو منهج، ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه وسائل معينة يتفقون عليها في منهجهم لنيل المعرفة، أم أن الأمر عندهم لا يعدو أكثر من كونه وسائل فردية  لا رابطة فيما بينها ؟ لقد وجدت من الضروري الوقوف علي إجابة لهذا التساؤل، إذ أن ذلك ضرورة أساسية إذا أردنا أن نتعرف علي طبيعة النتائج التي ينتهي إليها الصوفية باتباعهم هذا المنهج، فمن المعروف سلفا أنها لا يمكن أن تفسر في ضوء مقولات العقل أو براهينه .

ثانياُ : بدا لي أنه إذا أمكن تحديد وسائل منهج الكشف عند الصوفية فإنه في هذه الحالة يمكن أن نحدد الخصائص التي تلزم عن هذا المنهج وفي ضوء تلك الخصائص يمكن أن أسهم في دحض دعاوي خصوم الصوفية ممن يقدحون في طريقتهم، وأعني بخصوم الصوفية هنا الفقهاء، إذ كثيرا ما اتهموا الصوفية، وأعني بخصوم الصوفية هنا الفقهاء، إذ كثيراً ما اتهموا الصوفية بأنهم قد اشتطوا في العقيدة، وأنهم قد تحللوا من العمل بأحكام الشريعة . ولذلك حاولت في هذا المقال الإبانة عن خطل هذا الرأي ليتضح حقيقة موقف الصوفية بالنسبة للشريعة، وضرورة العمل بها .

ثالثا: كذلك بدا لي أيضاً أن دراسة منهج الصوفية يمكن الإفادة من بعض جوانبه في حياتنا المعاصرة، إذ من المحقق أن التأمل الواعي لطريقة التصوف، وحياة المتحققين بمنهجه، قد يؤدي بنا إلي اكتشاف كثير من القيم والمبادئ الأخلاقي، التي تطلح ولا شك في تقويم بعض السلبيات في مجتمعنا .

وإذا كان مفهوم "المنهج " ما زال بعض الغموض ويثار حوله الجدل والنقاش فإن اقتران " الكشف" بالمنهج في عنوان هذا الكتاب يجعل مفهوم المنهج هنا أكثر تحديدا وأقل غموضاً من حيث يظهر المنهج الطريقة الإنسانية الفاعلة والخلاقة والتي لا تعلو عليها أية طريقة أخري في قدرتها وتوجهاتها نحو تطوير الحاضر وصنع المستقبل، كما يظهر لنا أيضاً كيف أن " الكشف" مسؤولية يتبناها أو يجب أن يتبناها المنهج في كل ما يمكن أن يكون هناك من مجالات علمية تمثل إن كانت متنوعة المحتوي فإنها أحادية الغاية والهدف، يقول الدكتور الجزار في مقدمة كتابه :" إذا كان التصوف علم ذوقي بمعني أن أصحابه يسعون إلي ذوق لحقيقة وكشفها عيانا أو مشاهدة والحقيقة عند الصوفية هي معرفة الذات الإلهية، وإذا كان التصوف علما بهذا المعني، فإن ذلك يعني أن له موضوعا يعمد أصحابه إلي الكشف عنه، بل متي كان له موضوع فإنه لا بد من أن يكون له منهج ومن المحتمل أن ثمة نتائج معينة لا بد وأن يفضي إليها هذا المنهج ".

ويستطرد فيقول " من هنا بدت لي دراسة التصوف من زاوية المنهج أمرا علي جانب كبير من الأهمية، إذ أن تحليل طبيعة المنهج عند الصوفية والإبانة في الوقت نفسه عن وسائل التحقق للمعرفة التي ينزع إليها أصحاب هذا المنهج . ومن هنا بدت لي دراسة التصوف من زاوية المنهج أمرا علي جانب من الأهمية، إذ أن تحليل طبيعة المنهج عند الصوفية والإبانة في الوقت نفسه عن وسائل التحقق للمعرفة التي ينزع إليها أصحاب هذا المنهج،هذه الناحية أري أنها تمثل زاوية علي جانب من الأهمية من زاوية علم التصوف كعلم للمعرفة".. وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم