قراءة في كتاب

كيف نقرأ كتاب العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار لعبد الستار الراوي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن قراءاتنا لكتاب العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار لعبد الستار الراوي، فنقول : وأما النزعة الثانية فتتبدي لنا بجلاء في الإشكالية التي قام علي أساسها الكتاب والتي تكمن في أن الكتاب حدد موضوعه من قبل المؤلف، العقل والحرية في فكر القاضي عبد الجبار. ومثل هذا الطرح يستوجب دراسة معمقة ومفصلة للعقل الجباري أو المعتزلي كأداة معرفية، أو أداة نقدية، فالعقل كما هو معروف عند المعتزلة لا بل عند القاضي عبد الجبار، وهو الحد التام، أو الجامع المانع، بل هو الحجة. فالمؤلف لم يعالج العقل كوسيلة (ابستمية) أي آلة معرفية، بل اكتفي الباحث بطرح الاتجاه العقلي عند القاضي وعماده التأويل. والجدير بالذكر أن المؤلف من رجال الإعتزال. وطالما أن المعتزلة تحتكم للعقل، فمن الطبيعي أن يستغرق فكر المعتزلة العام فكر عبد الجبار. وهكذا بقي الموضوع ضمن الطرح الكلاسيكي المعروف ومفاده أن المعتزلة اعتمدت العقل وفضلته علي النقل، أو (إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع). والغريب أن المؤلف لم يذكر لنا أي تعريف جباري للعقل الذي هو " عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة متي حصلت في المكلف منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلف ".. وبمعني آخر أن المؤلف لم يحلل لنا ماهية العقل أي معناه ومكنونه وعملياته المعرفية التي تتطلب الإحاطة بالمصطلحات المعرفية الإعتزالية الأخرى التي تناولها عبد الجبار والتي لم يشر إليها المؤلف بتاتاً، كالنظر والاستدلال، والتقليد، والاعتقاد والظن، والحد . وهذه المصطلحات التي وردت في " المغني" الجزء الثاني عشر المخصص للنظر والمعارف، كان من شأنها في حال تناولها المؤلف أن تساعده في استنباط صورة كاملة لوسيلة معرفية معتزلية تسمي العقل (1).

أما النزعة الثالثة فتتمثل في موقفنا هذا من العقل كما تناوله المؤلف، حيث يستغرق أيضا موقفنا من الحرية كما تناولها أيضا. حيث لم يتطرق إلي المنحي الفردي للحرية كاتجاه، ولا دينامياتها الميتافيزيقية ولا أساسياتها النفسية، هذا من الوجهة العامة للكتاب. أما بصدد الطروحات التي وردت في الفصول، منها ما لا يتفق والمنهج التاريخي ومنها ما يحتاج إلي المنهج التحليلي (2).

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

يرتكز الكتاب الذي بين أيدينا علي خمسة أبواب توزعت إلي اثني عشر فصلا، واستدعت ضرروه المنهجية التاريخية والموضوعية أن وطد لفكر القاضي بمقدمة عامة استغرقت المراحل التاريخية التي مرت بها الحركة الإعتزالية، تمهيداً للعصر الذي تولي فيه معلم الإعتزال قيادة المذهب في القرن الرابع وعلاقاته الشخصية والوظيفية بالاحتلال البويهي، وسلطته السياسية، وتتبع الراوي بالبحث ترجمته الذاتية والمذهبية مع دراسة أعماله الفكرية وأطروحاته الكلامية، في مجال الثقافة الإسلامية، وعرض بالبحث مدرسته، وتأريخها وانفتاحها العلمي علي مثقفي عصره ومفكريه باختلاف انتماءاتهم العقائدية (3).

واشتملت مباحث الباب الأول فكر القاضي الإسلامي، في العلوم القرآنية خصصت الفصل الأول لموضوع التفسير ابتدأته بمقدمتين، الأولي في مجال التفسير الاتباعي فيما حاول الراوي إبراز ملامح التفسير العقلي في المقدمة الثانية مع رصد مؤلفات الحركة الإعتزالية في هذا المجال، فخصص لها ملحقاً في نهاية البحث، وتبدت أهمية في هذا الفصل في تحديد قسمات نظرية التفسير التي طرحها القاضي عبر دائرة الأصول الخمسة، واستقصاء تأثيرات القاضي المنهجية والموضوعية في أعمال المفسرين من المعتزلة والزيدية والامامية والأشعرية، وفي نهاية الفصل وضع الراوي ثبتاً لأهم نتائج هذا المبحث وانجازاته، واتصالاً، بالعلوم القرآنية، طرحت أفكار القاضي في الإعجاز، ومحاولة صياغة نظريته في موضوعات الاعجاز القرآني (4).

وحاول الراوي في الفصل الثالث أن يبرهن علي اسقاط حجة السلفية بابتعاد المعتزلة عن العلوم الشرعية، فأثبت أن القاضي كان فقيهاً ومحدثاً من الطراز الأول، بما حاول تقعيده من أصول وما أسهم به من مراجعات نقدية لموقف المعارضة الاعتزالية وغيرها من المدارس الفكرية الكلامية والفقهية (5).

ويجيئ الباب الثاني مكملاً لموقف المفكر المعتزلي المبدئي ويقظته الدينية في مواجهة خصوم الإسلام ومعارضيه من أصحاب العقائد والأديان؛ فأرخ الفصل الأول العقائد الأولي وملاحظات القاضي النقدية علي موقف الصنمية والصابئة واصحاب النجوم في التوحيد وحلل الفصل الثاني عقيدة اليهودية في مبدأ جواز النسخ، وتفنيد دعواها بقومية الرسالة المحمدية، فيما نقد عقيدة التشبيه المسيحية من خلال " الاتحاد والتثليث"(6).

وفي الفصل الثالث تأصلت فكريات القاضي وثقافته في مواجهة الثنائية مروراً بأصولها التاريخية ومنظماتها المتنوعة علي أن أهم منجزات هذا الفصل هو ملاحظات القاضي في تحليه لفلسفة الثنائية ورصد تأثيراتها علي تشكيل فرق الغلاة التي ناهضت العقيدة الإسلامية وتعمدت إلي اسقاطها، وعن طريق فكر القاضي الإسلامي جعلت الباب الثالث موضوعا للبحث في الله والعالم من خلال فصلين (7).

ناقش الأول طريقة معرفة الله، ونظرية الصفات، وبراهين القاضي وحججه في الرؤية وخلق القرآن، والخلاف بينه وبين الأشعرية في أطروحة الصفات بوجه عام؛ واقتضي الفصل الثاني البحث في قضية العالم باعتبارها الجانب الاخر لمبدا التوحيد فعرضت للاتجاهات الفلسفية – المادية والمثالية، والانتقائية الإسلامية التي ترددت بين القول بالحدوث وحججه علي حدوثه، وإثبات قدم الله والمبرهنات علي وجوده (8).

وفي نفس هذا الاتجاه تناولت آراءه في الطبيعة واعتراضاته علي النظريات الاعتزالية في الكمون والظهور والطفرة والمعدوم؛ ومن واقع ولاء قاضي القضاة الديني والمذهبي، عرضت في الباب الرابع : لموضعات قضية العلاقة بين الله والإنسان، فترتب البحث في النبوة الفصل الأول، ودفاع القاضي عنها من واقع عقيدته الإسلامية، فأثبت معجزات النبي جميعها ووافق أهل السنة بمعظم تفاصيلها،وهاجم عموم الفرق المعترضة والحركات الارتيابية. وإذا كانت النبوة احدي شروط التكليف الإلهي للإنسان، فإن الفصل الثاني عني بالإنسان المكلف فبحث في ماهيته وقدرته وفعله الإرادي والبراهين علي حرية اختياره، وتحديد موقف القاضي عبد الجبار من قضايا اتهم بها الاعتزال تتصل بالعالم الآخر وتفصيلاته، كان فيها متواصلاً مع منهجه الانتقائي في محاولة توفيق عقيدته الاعتزالية، بالاتجاهات الاتباعية، ولعل مباحثه هذه تؤشر (تراجعه) عن العقلانية التي كانت محصلة خبرات المنهجية الاعتزالية ومن أبرز قسماتها التقليدية (9).

ففي الفصل الأول تناولت الإمامة ونظرية الحكم من وجهة نظر القاضي مع محاولة مقارنتها بالأشعرية من ناحية والفرق الأخرى من ناحية أخري وبيان مدي التوافق والاختلاف مع الموقف الاعتزالي الخاص والإسلامي بشكل عام (10).

وحاول الراوي في الفصل الثاني بحث الأصل الخامس " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " من خلال وحداته النظرية وتطبيقاته العملية والسياسية ومدي تلازم هذا المبدأ مع المبادئ الأخري. ومن ثم تصورات القاضي في كيفية تنفيذ هذا المبدأ، وموقفه في أبرز مسائل الخلاف في القضية السياسية؛ ولما كان القاضي يمثل مرحلة تاريخية قائمة بذاتها، وجد الراوي أنه من الأنسب رصد بعض الظواهر التاريخية والموضوعية التي ببحثنا فخصصت لها ملحقاً في نهاية الرسالة (11).

يبقي أن نشير أن الكتاب بمجمله غني بالمعلومات التي توفرت لدي الباحث نتيجة استعماله ببلوغرافيا، وإن كانت تشكو نسبيا من قلة في الاعتماد علي موسوعة " المغني"، وهي معين لا ينضب بالنسبة للبحث (12).

ومما لا شك فيه أن الكتاب يسد ثغرة في المكتبات العربية التي تعالج موضوع التراث، والتي لا تزال تفتقر إلي مثل هذه الدراسات المعمقة، التي تتطلب بذل الجهد والمراس، والذي من أجلهما استحق الدكتور الراوي كل شكر وتقدير(13).

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت في عنوان الكتاب بأن عبد الستار الراوي - مؤلف الكتاب يعد بالفعل في مرحلتنا الراهنة "أيقونة الروحانيات في زمن الماديات".

وأخيراً وليس آخرا فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور عبد الستار الراوي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

فتحية طيبة للدكتور عبد الستار الراوي التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

......................

المراجع

1- الدكتور عبد الستار الراوي: العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص5-6.

2- نفس المصدر، ص 6.

3- نفس المصدر، ص 122-123.

4- نفس المصدر، ص 198.

5- نفس المصدر، ص 222.

6- نفس المصدر، ص 299.

7- نفس المصدر، ص 301.

8- نفس المصدر، ص 355.

9- نفس المصدر، ص 388.

10- نفس المصدر، ص 411.

11- نفس المصدر، ص 457.

12- محمد محمود :العقل والحرية عند القاضي عبدالجبار – مجلة الفكر العربي – ١٩٨٦، 10/07/2015 0، ص 342.

13- نفس المرجع، ص 343.

 

في المثقف اليوم