قراءة في كتاب

ماجد فخري ورحلته من الفلسفة الإسلامية إلي الفكر العربي الحديث (3)

محمود محمد عليفي مطلع السبعينات، صدر كتاب «دراسات جديدة في الفكر العربي» للدكتور ماجد فخري عن «دار النهار» في بيروت ولاقى الاستحسان في الأوساط الفكرية، وهو اليوم في طبعته الثالثة، ما زال من مراجع الدراسة الجامعية في ميدان الفلسفة.

ويستهل الدكتور فخري هذا الكتاب بمقدمة مقتضبة "تبرر" الكتاب باعتباره انتقاء لدراسات عن عدد من القضايا التي اهتم الكاتب بنقاشها في غير مطبوعة عامة، إضافة إلى تلك التي حضرت في كتابه دراسات في الفكر العربيـ وتمتد تلك الدراسات زمنيا بين سنتي 1975 و2007ـفتشغل مساحة 32  سنة.

يتناول ماجد فخري في كتابه "دراسات في الفكر العربي" حيثيات التفكير الفلسفي والديني عبر اللغة العربية في تطوراته وفرقة وتوجهاته الأبرز منذ القرن التاسع عشر حتي منتصف القرن العشرين . ويركز في المقام الأول علي المؤثرات الهيلينية الإغريقية في تكون المسارات التاريخية للفلسفة المكتوبة باللغة العربية في السياق الثقافي المطبع علي سمات تمت إلي الفكر الديني في الحضارات الإسلاميةـ والمتفاعل في حيثياته معها . ويتناول كذلك في هذا المقام طبائع التيارات الفكرية البارزة في المشرق العربي في أبعادها الحديثة والمعاصرةـ وعلاقتها الدفينة والجدلية مع ظاهرة تأويل التراث الفلسفي: "إن الكتابة في تاريخ الفلسفةـ خلافا لسرد الأخبار والروايات الفلسفيةـ لا بد أن تشمل مقداراً كبيراً من التأويل والتقييم، إلي جانب سرد الأحداثـ وعرض القضاياـ وتعداد المؤلفينـ وإلا تعذر استيعاب حيوية العقل الدائمة في سعيه لتفهم كنه العالم علي نحو شامل ومنسجم". ويستهل ماجد فخري مباحثه بالنظر إلي الإرث الفلسفي الأرسطي كمدخل للتدبر في مسارات الفكر العربي ومعايير العلوم فيه حتي عصر ما سُمي بالنهضة العربية الحديثةـ وعبر ما كان لها من امتدادات معرفية حتي حقبتنا الراهنة  . وحاول من خلال ذلك تسليط الضوء علي التفاعلات الحضارية التاريخية بين الثقافات الإسلامية والمسيحيةـ مع التفكر بماهية العلاقات التي تربط مداورة الفلسفة السياسية وبالدين وبأحوال الجماعة.

وهنا يقسم فخري كتابه، موضوع المراجعة، إلى فصلين، فيخصص أولهما لتسع دراسات في الفكر المقارن، ويقدم فيه متابعة مدققة لأثر الفكر اليوناني في عقول أبرز مفكري الإمبراطورية العربية -الإسلامية. ويغرد ثانيهما لخمس مسائل فكرية معاصرة، خصوصا مسألة حوار الحضارات والعلاقة بين فكر الإسلام راهنا والغرب.

كما تقسم الدراسات الجديدة في الفكر العربي التي جمعها المؤلف إلى قسمين: محور القسم الأول الفكر المقارن، يتضمن: أثر أرسطو ومنطقه لدى الفلاسفة العرب القدامى؛ فلسفة الفارابي الخلقية وصلتها بالأخلاق النيقوماخية لأرسطو؛ قدم العالم بين ابن رشد وتوما الأكويني؛ أثر ابن رشد في الفكر الأوروبي الحديث؛ السهروردي ومآخذه على المشائين العرب؛ التفاعل بين علم الكلام العربي واللاهوت المسيحي وغيرها من المواضيع.

يدور القسم الثاني حول قضايا حديثة ومعاصرة هي اليوم في صلب اهتماماتنا الثقافية والسياسية، يتضمن: تطوّر الفكر السياسي في عصر النهضة؛ الإنسان أمام تحديات العصر الحديث؛ مقومات التقارب بين الإسلام والمسيحية والغرب؛ حوار الحضارات في أفقه التاريخي.

يرى الكاتب أن الفكر الفلسفي العربي القديم له خمس خصائص رئيسة: الأولى هي إقبال الفلاسفة العرب الأصلاء من دون تحفظ على التراث الفلسفي والعلمي العالمي، خصوصاً التراث اليوناني، ولا يكاد يشذ عن هذا النهج أي واحد من هؤلاء. والثانية، تجرد الفلاسفة العرب جميعاً ومن دون استثناء للخوض في الإشكالات الدينية والسياسية والخلقية التي شغلت العلماء والجمهور على السواء، منذ أن تسربت الفلسفة إلى العالم العربي في القرن الثامن، فاتصفت الحركة الفلسفية بهذا المعنى بصفة الالتزام. الخاصية الثالثة التي يدرجها الكاتب هي أن الفلسفة لم تفتح أمام العرب والمسلمين كوة شكلية وحسب، من حيث ألزمتهم بالأخذ بمناهج البحث أو أساليبه الصحيحة في الأبواب الدينية والفكرية المختلفة، بل فتحت أمامهم كوى موضوعية شتى لم يكن لهم عهد بها من قبل كالعدالة والخير والشر والتبعة الخلقية. الرابعة، لم يتنكب الفلاسفة العرب في الخوض كلياً في الجانب الآخر من الفلسفة العملية، أي السياسة، ويشير الكاتب إلى أن جولات الفلاسفة في مواضيع الفكر السياسي خصوصاً بقيت ضحلة جداً. أخيراً، كان من النتائج التي أسفر عنها دخول الفلسفة إلى العالم العربي في القرن التاسع، تحرير العقل العربي من نير التقليد من جهة، ومن الإطناب اللغوي والأدبي من جهة أخرى.يستخلص فخري في محور التجديد الفكري بعض العبر من خلال التمعن في خصائص التراث العربي، كذلك أسباب التعثر الذي منيت به الحركة الفلسفية في زماننا هذا.

وفي هذا السياق والمعني، يشدد فخري على دور الفكر الإسلامي في ظهور تيار العلمانية والعقل غربا، كما يظهر في كثير من أعمال دانتي، الذي حاكمته الكنيسة بتهمة ولائه لابن رشد، وتوما الإكويني، الذي كان أثر ابن رشد فيه مضمرا وسجاليا. ويستحضر أيضا بصمات كثيرة تركها الفكر الإسلامي على أعمال اللاهوت المسيحي. ويشير أيضا إلى ترجمة المستشرقين لفكر عربي يصعب إيجاد مواز يوناني مباشر له، كترجمة مقدمة ابن خلدون على يد فرانتزروزنتال، وترجمة الدراسات الصوفية على يد لويس ماسينيون و آن مارى شيمل. وبذا، يرذل فخري مقولة "صراع الحضارات"، بإظهاره ضيق أفقها لأنها لا تتناول سوى القرون الخمسة الأخري من علاقة الغرب بالعرب والإسلام، مغفلة الاتصال تاريخيا بني الأطراف..

وفي السياق عينه، ينظر فخري إلى أعمال المستشرقين، بداية من كتاب وصف مصر الذي وضعه علماء محلة نابليون بونابرت على مصر، بوصفها جسورا للاتصال بين الشرق والغرب أيضا. ويزيد في تدليله على ضيق أفق مفهوم "صراع الحضارات"، بإظهاره أن كثير من مفكري العرب عادوا إلى الفكر الغريب في عصر النهضة وما تلاه، وصولا إلى العصر الحديث، وتشربوا منه، وحاوروه، وتبنوا الكثير من مقولاته. ويضرب أمثلة على ذلك، منها التفاعل في أعمال الشيخ رفاعة الطهطاوي عن الاستبداد، وفقه الشيخ محمد عبده عن الدولة وأسباب التقدم، وقد تابعه الشيخ علي عبد الرازق ثم خالد محمد خالد وغيرهم ويلاحظ استمرار ذلك التفاعل إيجابيا في أعمال مفكرين حديثين تواصلوا مع أعصاب أساسية في الثقافة الغربية، مثل القومية والماركسية والفابية والدارونية الاجتماعية والعلمانية والوجودية والوضعية المنطقية وما بعد الحداثوية، كما يظهر في أعمال شبلي مشيل وفرح أنطون وسلامه موسى وعبد الرحمن بدوي وعبد العزيز الحبابي ورينه حبشي وزكي محمود وفؤاد زكريا وصادق جلال العظم وحسني مروة وعبد الله العروي ومحمد أركون وحسن حنفي وغيرهم. ويضيف فخري إليهم المفكرين الإسلاميين والعرب الذين ساجلوا ضد مشارب أساسية في الثقافة الأوروبية، لأن سجالهم ضدها يعين اطلاعهم عليها وتفاعلهم معها وإن سلبيا، خصوصا أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.

ويظهر شيء من التفاؤل المتعجل في تحليل فخري لضعف التبادل الفلسفي بين الغرب والعرب المعاصرين؛ إذ يرده إلى عدم ترجمة أعمال فلاسفة أساسيين في الغرب، مثل رينه ديكارت وعمانوئيل كانط وجورج فيلهلم هيجل ومارتن هيدغر وبرتراند راسل وغيرهم. وقد اطلعت النخب العربية على تلك الأعمال، وتكاثرت ترجمتها. فهـل قوي التفاعل بني الفكر العربي المعاصر والغرب؟ سؤال يحتاج إلى تدقيق كبري.

يتساءل الكاتب عن احتمالات السلام أو التقارب بين الإسلام والغرب، فيجد أنها مرهونة بثلاثة أمور: التطورات الاقتصادية والسياسية في كل من الشرق والغرب، مستقبل العلمنة في العالم، كذلك مستقبل الديمقراطية والعصرنة في العالم الإسلامي وفي الشرق عامة. يرى الكاتب أن إدراك الإنسان يبدأ بالوقوف على حقيقته الجوهرية التي تختلف كل الاختلاف عن حقيقته العرضية وأحواله الطارئة والوضع الذي ارتضاه له المجتمع اتفاقاً وعرضاً، وفي الإدراك العرضي للإنسان، وهو الإدراك الذي ما زال سائداً في معظم المجتمعات العربية اليوم، يبدو الإنسان كذات مسخّرة أو ككائن مضاف، لا يكتسب وجوده معنى أو قيمة إلا بالإضافة إلى عشيرة أو قبيلة أو سلالة أو مذهب ديني أو حزب سياسي ما، أو بالإضافة إلى ما يملكه من المال أو العقار أو المتاع، الذي كثيراً ما يقيس به قدره وقدر غيره من الناس، فيفقد بذلك الإنسان قيمته الجوهرية، وعوضاً عن أن يكون غاية بحد ذاته يصبح وسيلة أو أداة أو سلعة تباع وتشترى. يتابع فخري أنه عوضاً عن أن ينظر إليه أقرانه في المجتمع ككائن قائم بحد ذاته، ينظرون إليه كجزء من طائفة أو طبقة أو عشيرة ما.

وثمة نقطة مهمة يشير إليه الدكتور فخري وهو توقفه عند مواقف بعض المفكرين المحافظين أمثال المودودي وسيد قطب الذي يعتبر أن الغرب يشكو من أزمة روحية لا يستطيع إخراجه منها إلا الإسلام، ويلقي قطب تبعة الأزمة على المسيحية التي التزمت بالمثال الروحي الفارغ الذي لم تجن منه أوروبا، في العصور الوسطى، سوى ثمار الرهبة العجفاء، ويتابع قطب قوله: «نحن أصحاب المذهب الحنيف فنملك للبشرية ما لا يملكه أحد على ظهر هذا الكوكب من الترحيب بالعلم والخروج بالدين عن الإطار الروحي الضيق الذي زجته المسيحية به، والانفتاح على العقل والصناعة والاقتصاد والصلاة والدعاء».

يلاحظ الدكتور فخري أن المودودي يبز سيد قطب في موضوع النقد للحضارة الغربية والعقيدة المستحبة التي تبناها الغرب، فهذه الحضارة عند المودودي ممنية بعلل ثلاث، هي العلمانية والقومية والديمقراطية. علة العلمانية هي أنها تفضي إلى إقصاء الدين عن سائر جوانب الحياة وتنظر إلى الدين على غرار المسيحية، كما لو كان عبارة عن علاقة شخصية بحتة بين الإنسان والله، أما القومية التي ظهرت أصلاً كثورة على الإقطاعية في العصور الوسطى، فأصبحت في العصور الوسطى عبارة عن عبادة القوم، بدلاً من عبادة الله. كذلك الديمقراطية التي تهدف أصلاً إلى تحرير الجماهير من سلطة أسيادهم الإقطاعيين، تحولت في العصور الحديثة إلى عبارة عن طغيان الجماعة.

ينبه فخري إلى أن النظرة الأصولية التي نحا دعاتها نحو العداوة للغرب لن تنج من المناوئين، لا سيما في الأوساط الفكرية والجامعية، من أمثال زكي نجيب وفؤاد زكريا من الفلاسفة الوضعيين، الذين حاولوا أن يبرزوا في مؤلفاتهم مقومات ما يمكن دعوته العصرنة والعقلنة في الفكر العربي، اللتين تتنافيان مع التقليدية والسلفية التي تتمسك بما يعتبره نجيب عبادة الألفاظ. كذلك ظهر فريق آخر من الماركسيين أمثال صادق العظم وعبدالله العروي، ذهب العظم إلى التمسك بالمذهب الماركسي الذي يعتبر البنية الكاملة للفكر الديني الموحى به عبارة عن أسطورة، بينما ذهب العروي إلى أن مأساة المفكر أنه وقع تحت سطوة الاستعمار الأوروبي بما فيه من تسخير فكري واستعباد سياسي، وبناءً عليه أصبح خارجاً على ثقافته الوطنية ومجرداً من هويته القومية، ولا أمل له بالتحرر من هذه العبودية إلا باللجوء إلى المادية الجدلية أو الماركسية والأخذ بتراثه العربي الإسلامي الذي تنكر له بحكم الاستعمار والاستعباد الغربيين.

ثم يتساءل الكاتب عن احتمالات السلام أو التقارب بين الإسلام والغرب، فيجد أنها مرهونة بثلاثة أمور: التطورات الاقتصادية والسياسية في كل من الشرق والغرب، مستقبل العلمنة في العالم، كذلك مستقبل الديمقراطية والعصرنة في العالم الإسلامي وفي الشرق عامة. يرى الكاتب أن إدراك الإنسان يبدأ بالوقوف على حقيقته الجوهرية التي تختلف كل الاختلاف عن حقيقته العرضية وأحواله الطارئة والوضع الذي ارتضاه له المجتمع اتفاقاً وعرضاً، وفي الإدراك العرضي للإنسان، وهو الإدراك الذي ما زال سائداً في معظم المجتمعات العربية اليوم، يبدو الإنسان كذات مسخّرة أو ككائن مضاف، لا يكتسب وجوده معنى أو قيمة إلا بالإضافة إلى عشيرة أو قبيلة أو سلالة أو مذهب ديني أو حزب سياسي ما، أو بالإضافة إلى ما يملكه من المال أو العقار أو المتاع، الذي كثيراً ما يقيس به قدره وقدر غيره من الناس، فيفقد بذلك الإنسان قيمته الجوهرية، وعوضاً عن أن يكون غاية بحد ذاته يصبح وسيلة أو أداة أو سلعة تباع وتشترى. يتابع فخري أنه عوضاً عن أن ينظر إليه أقرانه في المجتمع ككائن قائم بحد ذاته، ينظرون إليه كجزء من طائفة أو طبقة أو عشيرة ما.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

....................

المراجع

1- ماجد فخري: دراسات جديدة في الفكر العربي .. من أرسطو الى هنتجنتونـ بيروت: دار النهار للنشر، 2005.

2- مغربي، أحمد : دراسات جديدة في الفكر العربي، المستقبل العربى، مركز دراسات الوحدة العربية، مج33 ,ع385، 2011، ص 205-208.

3- جورج جحا منبيروت: ماجد فخري .. دراسات جديدة في الفكر العربي .. من ارسطو الى هنتجنتون، مثال منشور في إيلاف، لندن، 2020.

 

في المثقف اليوم