قراءة في كتاب

جمرات «مهى خير بك ناصر» الثلجية تنقر برفق على أبواب الفكر والروح

نبيل عرابيحين تحتضن يداكَ نتاجاً أدبياً ما، ينقر برفق على أبواب فكرك وروحك وذاتك، ليسلك بعدها ما استطاع من الدهاليز التي تفضي اليها، جامعاً ما أمكن من رماد وجعها، ومعيداً لمرايا الواقع المحيط بها أكبر نسبة ممكنة من وضوح الرؤيا، في حضور ما تبقى من شعاع ضوء في هذه الحياة، فإنك بلا أدنى شك ستشعر بأن كمّاً هائلاً من الصراخ داخلك، قد وجد المسافة المطلوبة بين جبلين كادا يسحقان صدرك، فيختار أعلى طبقة صوتية تؤديها حنجرتك، ويطلق لها العنان.

وحين تنبت بين أصابعك، وهي تعانق ثمرة إبداعية أدبية ما، براعم الألفة، وتشعر أنها تنمو بهدوء وروية مع كل التفاف مهما كان بسيطاً في هذا العناق الودّي، فإنك ستصل بعدها الى مرحلة تجد فيها أناملك قد استعانت براحَتَي كفّيْك، ثم بأوسع دائرة يمكن ان تصنعها ذراعاك، لتطوّق شجيرة ترعرعت دون ان تستأذن منك، وأوْليْتها من صبرك ما لم تكن تتوقّعه عن طيب خاطر.

حين يصل بك الأمر الى حال كهذه، فإن الفضل بالتأكيد هو لـ«جمرات من ثلج» صاغت كُتَلها الأدبية مها خير بك ناصر في روايتها الصادرة عن دار ومكتبة الهلال، وراحت تقذفها عليك بأسلوب يَلقى الاستحسان لديك، من مواقع لا تراها أنت، وكأنك وسط دائرة اذا حاولتَ التهرّب او التغاضي عن حقيقة ما، مهما قلّ شأنها، نالَكَ نصيب من هذه الكُتَل الحارقة الباردة في آن معاً. 

2002 مها خير بك ناصركُتَل مجبولة بـ«صهيل وجع الثلج»1 وأخرى بـ«تأوّهات دموع الجمر»2، تُقذَف عليك، فإن أصابتك، أيقظت في داخلك شيئاً مما ظنَنْتَ أنه قد غار الى عمق يصعب، لا، بل يستحيل سبره، وإن أخطأتكَ، حرّكت «همهمات ثلج الذاكرة»3 في تشعّبات رأسك، وأنت الذي لطالما اعتبرتَ أن ضجيج اليوم تلو الآخر سيخرسها، ولن تقوم لها قائمة بعد ذلك، فتجد نفسكَ أمام جردة حساب لم تكن مدرجة في موازنة حياتك، لذلك فأنت ما زلت حتى اللحظة تكتشف الخطأ تلو الخطأ، فتسعى لدمجه بأمر واقع، او تفتح له حساباً جانبياً، تُدَوِّر رصيده من عام الى عام، دون ان تحسم أمره...

عند الأديبة مهى، هناك «وجه آخر لثلج العواطف»4، فهي تدفعك بأسلوبها السردي المميز لأن تطأ مساحات من امتداد صراعك مع ظروف الحياة، ربما لا عهد لك بها من قبل، مفسحة المجال لكل شهيق ان يأخذ كامل وقته وقدرته، ليحقق امتلاء قوامه الصبر والعزيمة والثبات، ولكل زفير ان ينفث معه أكبر شحنة من ثاني أوكسيد الغضب، والملل وفقدان الأمل، متخطية كل حسابات رباطة الجأش والتعالي على الجراح والتأنّي، نحو التجمّد الكلّي للتفاعل الانساني المطلوب، ممسكة بيدك باتجاه هذه الحال، وأنت تحمل بقناعة لم يسبق لك ان تحلَّيت بها، شمعة احتمال إيجابي قد تتوهّج شعلتها في نهاية المطاف، لتخوض برفقتها «رحلة بين الجمر والثلج»5 وحواسك تحسن الإصغاء والتواصل مع «همسات الجمر والثلج»6 لتصل في نهاية المطاف الى «رشح جمرات الصبر»7 وأنت تقرأ الصفحات الأخيرة.. الأسطر الأخيرة.. الكلمات الأخيرة.. فإذا ما توقف الرّشق بتلك الجمرات الثلجية من حولك، معلناً انتهاء خلوة لا إرادية، قُمتَ الى نافذة غرفتك، لتنظر من خلالها الى العالم الخارجي، وأنت لا تدري كم مرة دارت وتعانقت عقارب الساعة، وكم ورقة مُزّقت من التقويم...!..

 

نبيل عرابي

...................

هوامش:

مها خير بك ناصر - جمرات من ثلج / رواية/   دار ومكتبة الهلال - بيروت 2009

1- عنوان الفصل الأول من الرواية.

2- عنوان الفصل السادس .

3- عنوان الفصل السابع .

4- عنوان الفصل الثامن .

5- عنوان الفصل التاسع .

6- عنوان الفصل العاشر .

7- عنوان الفصل الأخير .

 

في المثقف اليوم