قراءة في كتاب

الإيديويلوجيا (الأدلوجة) في منظور العروي والمسيري

علجية عيشدراسة مقارنة للدكتور محمد فتحي النادي

يطرح الدكتور محمد فتحي النادي إشكالية الترجمة في تشخيص مفهوم "الأيديولوجيا "، معتمدا في ذلك على آراء ومواقف فلاسفة عرب وغربيين، ومنهم عبد الله العروي والمسيري إذ يقول أن ترجمة هذا المصطلح قد يؤدي إلى تشويه المفردة حين تترجم إلى العربية وقد تؤدي إلى الإستغناء الكلمة العربية الصحيحة ومن ثم الدخول في الطريق المسدود!، وهذا العملية في رأيه ستحكم علينا بتبعية أزلية للغرب، وتقف سدًّا منيعًا ضد أي إبداع عربي حقيقي في مجال العلوم الإنسانية، والدكتورمحمد فتحي النادي باحث في الفكر الاسلامي ومحقق في التراث من مؤلفاته: الإيجابية في حياة الأفراد والمجتمعات، الدولة المدنية والدولة الدينية وصراع الهويات.

انطلق الباحث محمد فتحي النادي في تبسيط هذا المفهوم من الجذور التاريخية لهذا المصطلح، وهو كما ورد ينتمي للّغات الهندية الأوروبية، وهو مكون من مقطعين أصلهما إغريقي: (Ideo) وتعني: (فكرة) أو تصور (Idea)، و(logos) تعني حرفيًّا "كلمة"، ولكنها تعني دراسة أو علم، ومن هنا جاء معناها الذي هو علم الأفكار، أو (علم التصوّر)، أو (علم الآراء)، أو (علم العقيدة)، كما تعني "نسقًا يعكس الواقع" أو نسقا يزيّف الواقع للإنسان ويعميه عن رؤية للحقيقة ولذا فالأيديولوجيا تصلح أحيانًا كدليل للسلوك الإنساني، ومن هذه الفاهيم نجد أن النظريات الفاشية (الصهيونية والنازية)، نجحت عندما بسطت الواقع بدرجة مريحة فازدادت مقدرتها التعبوية (للجماهير السريعة الانقياد)، وكذا الأمر بالنسبة للنظريات التآمرية، ولذلك نجد بعض الإيديولوجيات تنبع من الماضي وتحنّ إليه، وفي البعض الآخر تعكس الحاضر والأمر الواقع، وفي معنى ثالث تبشّر بالمستقبل والمثل الأعلى، وفي معنى رابع تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل فيتحول الماضي إلى المستقبل أو العصر الذهبي أداة لتغيير الحاضر، وهكذا تعزل الإيديولوجيات الجماهير عن الواقع.

أول من استخدم تعبير "الأيديولوجيا" الفيلسوف الفرنسي أنطوان دستوت دو تراسي في كتابه "مشروع عناصر الأيديولوجيا» وهو فيلسوف ينتمي إلى المثقفين الفرنسيين ذوي النزعة الأنوارية، ثم استعمله بعد ذلك نابليون بطريقة سلبية للحطّ من شأن هؤلاء المثقفين الأحرار أصدقاء (دو تراسي)، أمثال الفيلسوف الحسي: كونديلاك (Condillac)، والطبيب كابانيس (1808) وكانوا أعضاء أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، وقد أطلق عليهم اسم: "الأيديولوجيين" كونهم كانوا اكثر ارتباطا بالثورة الفرنسية، وتأثروا بفلسفة الأنوار، ومن الداعين لإقامة نظام سياسي تربوي جديد، وقال دو تراسي أن الأفكار تشبه الكائن الحي من ناحية النشأة والنمو؛ فالفكرة لا تولد كبيرة وكاملة، ولكنها تمر بمراحل من حيث التولد والنمو، ثم التطور والرقي والكمال، ثم الانحدار والتلاشي، والأيديولوجيا ليست بدعًا في ذلك، فقد سبق أن ذكرنا أن تراسي أول من استخدم هذا التعبير، وقد عرّفه بأنه علم الأفكار، أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس، هذه الأفكار التي تبنى منها النظريات والفرضيات التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع.

وانطلاقا من شروحات الفلاسفة لمفهوم الإيديولوجيا، كظاهرة كلية تتعلق بمستويات (اجتماعية، سياسية، نفسية ومنطقية) يرى محمد فتحي النادي أن علماء الإجتماع والنفس والمنقطق وحدهم يحددون المفهوم الصحيح لهذا المصطلح، فعالم الاجتماع وحده يمكنه الكشف عن الوظيفة الإدماجية للأيديولوجيا، وعالِم السياسة بمقدوره أن يحلل الوظائف الأساسية للأيديولوجيا بوصفها مصدرًا للمشروعية وإطارًا مرجعيًّا للعمل السياسي، وعالِم النفس يمكنه أن يحلل وظائفها النفسية لدى الفرد وارتباطها باستعاراته النفسية الخاصة، أما المنطقي فبوسعه أن يحلل آليات التفكير الأيديولوجية في كل هذه المستويات الأساسية، فالإيديولوجيا هي نظام الأفكار المتداخلة مثل: المعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية، وتبررها في الوقت نفسه.

 أما إن استخدم مفكر يميني نفس المصطلح فلعله يعني بأنه فكر الغوغاء التي لا يمكنها إدراك التاريخ، وبالتالي تصدر أحكامًا مباشرة هوجاء نابعة من استجابتها المباشرة للواقع المادي، وتعبيرًا عن مصالحها المادية الضيقة فعليى سبيل المثال نجد عبارة مثل: "إن هذه النخبة الحاكمة تفتقد الرؤية الأيديولوجية" تعني أن هذه النخبة ليس عندها أيديولوجية متكاملة، أي أنها ليس عندها رؤية متكاملة للواقع، وفي عبارة مثل: "إن هذه مجرد رؤية أيديولوجية" تعني أنها رؤية مجتزئة للواقع تلوي عنقه حتى يمكن أن يتناسب الواقع مع الأيديولوجية لا العكس، المصطلح إذن مختلط الدلالة، لقد ذهب بعض الفلاسفة ومنهم كارل ماركس إلى القول أن الإيديولوجيا هي مجموعة منظمة من الأفكار تشكل رؤية شاملة أو تتعلق بمناحٍ فلسفية معينة سياسية بشكل خاص.

وقد تطور مفهوم الإيديولوجيا واتسعت دائرته، إلى أن أدخلته المجتمعات العربية في قاموسها عندما بدأت فئات في منتصف القرن العشرين، تبنت الفكر التنويري ودخلت في مواجهات فكرية، خاصة مع بداية ترجمة هذا المصطلح إلى اللغة العربية، حيث اختلف كثير من الباحثين في ترجمتها، لكون الكلمة دخيلة على الثقافة العربية بل على جميع اللغات الحية وهو ما ذهب إليه العروي ، فهي في أصلها الفرنسي كما قال تعني لغويًّا (علم الأفكار)، ثم استعارها الألمان وضمّنوها معنى آخر، ثم رجعت إلى الفرنسية فأصبحت دخيلة حتى في لغتها الأصلية، أما العروي عرَّبَ المصطلح فتحول إلى (أدلوجة) على وزن أفعولة، وقد استخدم عبد الله العروي وآخرون فعل "يؤدلج"، إلا أن الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقال: "في الأيديولوجيا والقول" كان على النقيض من ذلك، حيث اعتبر المصطلح غريب على اللغة العربية، ونظرًا لغرابته يصبح نحت فعل منه مسألة صعبة للغاية، وبالتالي يمكن الإستغناء عنه حتى لا تكبل العربية به.

و يدعم الدكتور محمد فتحي النادي مقترح عبد الوهاب المسيري حين دعا إلى إسقاط مصطلح "إيديولوجيا" والإهتمام بالقضايا الفلسفية التي تثار بخصوص علاقة الفكر بالواقع والوعي بالفكر، كونها قضايا أساسية لا يمكن إسقاطها، يقول المسيري:" نحن لا نريد أن نترجم عن الغرب، وإنما نود أن نفكر ونبدع من خلال حوارنا مع كل الحضارات"، ويعود مقترح المسيري إلى انتشار المصطلح ودخوله الجدل السياسي، اتخذ معنى جديدًا على يد ماركس، وأنجلز، وقد وصفها الأخير بالوعي الزائف، باعتبارها تشويهًا للفكر والحقيقة، لأن الطبقة الحاكمة تحجب الوعي والرؤية الصحيحة عن الطبقة المنتجة، وتدّعي الحقيقة المطلقة لتسويغ موقفها وتثبيت شرعيتها.

فالإيديولوجيا في مفهومها السياسي، من حيث النظر إليها من الجانب النفعي (البراغماتي)، فهي كما يقول محمد فتحي النادي بالنسبة إلى المتكلم تهدف إلى إقناع الناس واستمالتهم من أجل كسب أنصار له ومؤيدين، وذلك لتحقيق الغلبة في الميدان الاجتماعي، ومن هذا المنطلق ترتكز الإيديولوجيا السياسية على عناصر اجتماعية أهمها: الطبقة أو الفئات الاجتماعية المنتمية إلى المجتمع، أو العالم على مستوى العقائد الكبرى كالإسلام، أو الشيوعية أو العولمة، وقد تعتمد على أطر تقليدية ما قبل عصر الأيديولوجيا كالعشيرة، والعِرق، والنسب، أو على أشكال عصرية حديثة كالدولة والحزب، والقومية، أو منظمات دولية وإنسانية كالجمعيات المدنية ذات التوجه السياسي - الاجتماعي مثل: حقوق الإنسان، والناشطين السياسيين الممثلين لهيئات أو منظمات دولية، مبرزا اختلاف الفلاسفة العرب في تحديد المفهوم سياسيا، فالعروي ينظر إليها كقناع في مجال المناظرات السياسية، تكوّن تفكيرًا وهميًّا تتضمن أحكامًا وتقريرات حول المجتمع، وتعبّر عن مصلحة طبقة أو شريحة اجتماعية تنتمي إلى حزب أو أمة، وتهدف إلى تحقيق إنجازات أو خطة عمل مرسومة، وتقود إلى قيم نسبية من الناحية النظرية أو المنطلقات.

يختلف العروي مع فلاسفة عرب آخرين الذين يرون أن الحوار بين المؤدلجين في ميدان المناظرة، يجسّد الممارسة السياسية على الصعيد العملي في أبرز تجلياته، لأنه يفصح عن الأفكار والآراء والتصوّرات، فضلًا عن الأهداف والنوايا والتطلعات والبرامج السياسية التي يريد كل طرف أن يوصلها إلى الجمهور المستمع عبر شبكة الإبلاغ أو وسائل الإعلام، أما مضمون الخطاب الأيديولوجي ـ السياسي لدى الطرفين فهو يحتوي على نقيضه، ومن خلالها تفصح الأيديولوجيات عن مضمونها الجدالي، لأن الأيديولوجيات المتجادلة ليست على مستوى واحد من الطبيعة والتوجه، كما أنها ليست على مستوى واحد من حيث الواقع والتصوّر، فمنها: الطبقية كالماركسية، ومنها غير الطبقية كالقومية، والعقائد الدينية التي لا يمكن تحويلها إلى طبقة، ومثل هذه المناظرات السياسية باعتبارها فعاليات مهمة قد تظهر الأطراف المؤدلجة على حقيقتها أمام المجتمع حتى وإن لجأت إلى الأقنعة أو البراهين المنطقية الصورية والمعطيات المادية الملموسة.

يقدم محمد فتحي النادي أمثلة حية على التغيرات التي حصلت في روسيا والصين، إذ يقول أنها كانت إيديولوجية أولًا، واقتصادية ثانيًا، ووصول طبقة اجتماعية جديدة إلى الحكم لم يتم نتيجة للتغيرات الاقتصادية فقط، بل للتغيرات الأيديولوجية، و ويرى انه غالبا مت يكون تفاعل الدين مع السياسية أحيانًا أقوى من تأثير تفاعل السياسة مع الاقتصاد، وبالتالي لا وجود لأيديولوجيا محضة، ولا دولة علمانية مطلقة، وعندما تنفصل الدولة عن الكنيسة، فإنها تتحد مع كنيسة أخرى لكي تدعم السلطة السياسية بالسلطة الدينية، ومن هنا يتبين الفارق بين المفهوم السياسي والكوني للإيديولوجيا، بوصف الرؤية للعالم مجموعة من الطموحات والأحاسيس والأفكار التي تجمع بين أعضاء جماعة ما غالبًا ما تنتمي إلى النخبة المثقفة، والتي تتجرد من أية نزعة حزبية أو نفعية، وتعترف بالأيديولوجيات الأخرى وما فيها من مزايا.

نقد الأيديولوجيا

الإختلاف في الرؤية والمفاهيم عرّض مصطلح الأيديولوجيا لحملة عنيفة من النقد الإبستمولوجي (المعرفي)، من قبل مفكرين وباحثين أمثال هايديجر (Heidegger) و(لوي ألتوسير) خاصة وأن البعض ربطها بالدين، فمنهم من يرى أنها ظاهرة دينية، كما ذهب في ذلك لابيير، وهناك أشكال تاريخية أخرى تؤكد على أولوية السياسة على الدين وخضوع هذا لتلك، لكن الفصل القاطع بين الدين والسياسة لتجنب أي صراع بينهما فكرة غريبة عن الإسلام الذي لا يقبل تدجين الدين (أي: اختزاله إلى دائرة المجال الخاص)، والحالة الوحيدة التي قدمت فيها اقتراحات نظرية بهذا الصدد كانت موضع انتقادات لاذعة من طرف الاتجاهات الإسلامية الأصولية، وهذا الإختلاف قد يعرضها لمأزق أو أزمة، هذا المأزق قد يعصف بها ويدخل بها إلى مقبرة الأفكار، وهذا نتيجة سوء التطبيق وليس عيبًا في الفكر نفسه، وقد تكون الأزمة لأن هناك قصورًا حقيقيًّا في البنية الفكرية للأيديولوجية نفسها، وفي أسوأ الأحوال، تجد النظرية الأيديولوجية نفسها في طلاق كامل مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تكوّنت لأجله، فلا هو يفهم خطابها، ولا هي تفهم تطوره وأسباب ابتعاده عنها، إلا أن هناك إجماع بأن الأيديولوجيا ليست منظومة فكرية ومنهجًا فلسفيًّا فقط، وإنما هي عامل ارتقاء واستشراف لآفاق المستقبل لتشكيلة اجتماعية، بوصفها تساميًا لحياة واقعية عملية محددة لشريحة أو فئة اجتماعية، منظورًا إليها لا في مصالحها الآنية فحسب، بل في مطامحها وتطلعاتها البعيدة المدى، وبالتالي تظل أساسية لأي مجتمع، وبُعدًا من أبعاده، اجتماعية كانت أو تاريخية أو سياسية أو فكرية أو علمية أو دينية،  وأن إسقاطها أو نفيها يُعدّ خروجًا على الحقيقة والموضوعية، لأنه في داخل مجتمع محدد تاريخيًّا تظهر أيديولوجيات لا أيديولوجية واحدة، نتيجة لانقسام المجتمع إلى طبقات، وبروز أيديولوجيات ملموسة ومحددة.

ومع ذلك فإن الأيديولوجية تختلف عن الديانات الميثية، فهذه الأخيرة هي ديانات التعالي: الكلام المقدس (الميثوس) يتجاوز فيها الكلام المعقلن (اللوغوس)، والاعتقاد يتجاوز فيها حدود المعرفة، إن الأيديولوجيات هي ديانات المحايثات فهي تعقلن المقدس وتقدس العقل، وفي النهاية تكون النتيجة أنها تسير في الإتجاه المعاكس أي أنها تسري في اللاوعي الجمعي للجماهير وتؤخذ كمسلّمة، وأداة رئيسية من أدوات السلطة الحاكمة، وموجهًا من موجِّهات العلاقات بين الدول وهكذا لا يهتم العقل الأيديولوجي مباشرة بقضية إبداع القيم العليا الصالحة للجماعة التي يخدمها، بل يهتم بقضايا الدفاع عن هذه القيم باعتبارها صحيحة وصالحة، من مخاطر الإيديولوجيا هي أنها تقدم للمرء أسباب الحياة، كما تقدم له الأسباب التي تجعله يضحي بحياته من أجلها، وفي هذه الحالة قد تكون الأيديولوجيا قاتلة، خاصّة عندما تكون مهددة من طرف أيديولوجيات مضادة، والناس يتصارعون أكثر حول المصالح كلما كانت هذه المصالح مبررة بواسطة أفكار، وقد تكون غازية، فهي تدفع إلى الحرب الدينية، وخاصة عندما تكون القوى الاجتماعية التي تعبر الأيديولوجيا عن إرادة قوتها قوى جديدة.

 

قراءة علجية عيش بتصرف

 

 

في المثقف اليوم