قراءة في كتاب

محمود محمد علي: قراءة نقدية في كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته (6)

محمود محمد عليفي ضوء جائحة كورونا للأستاذ الدكتور علي وطفه.

نعود وننهي حديثنا عن القراءة النقدية التي قمنا بها تجاه كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا للأستاذ الدكتور علي وطفه وهنا نقول : ختاما، فإنّ هذه الدراسة، بما حملته من موضوعات زاخرة، وثقافة واسعة، وفكر مستنير، وتحليل عميق، ومنهجية علمية، قدمت إجابات موضوعية حول أزمة كورونا وتأثيرها في الأنظمة التعليمية والتربوية، كما ركّزت بشكل محوري على العلاقة بين الجائحة والتعليم الإلكتروني عن بعد، الأمر الذي استنفر الكاتب في أن يخوض عمار البحث في الحتميّات التي فرضتها الجائحة على التعليم الإلكتروني، وحثّه على التفاعل الحضاري مع معطيات الثورة الصناعية الرابعة ومنجزاتها الرقمية الهائلة، علاوة على  تمكنه من أن يقدم صورة بانورامية قائمة على التّحليل العميق لطبيعية هذه العلاقة الجدلية بين التعليم الإلكتروني والجائحة والثورة الصناعية الرابعة.. وبعد فصول مضنية من الترحال في تضاريس كورونا المثيرة للجدل تربويا واجتماعيا (64) ، وجدنا المؤلف يتساءل عن مصير الأنظمة التربوية العربية ضمن معادلة الأزمة والصدمة، ويجترح تساؤله ماهيته الإشكالية من عمق الصدمة الحيوية للفيروس التي اجتاحت مختلف مشاهد الحياة الإنسانية ومظاهرها الاجتماعية، ولاسيما في المشهد التربوي الذي شهد اهتزازا كبيرا تحت تأثير هذه الصدمة التي قدر لها أن تعجل في صيرورة التحول التربوي إلى فضاء الذكاء الاصطناعي الذي يفرض نفسه بقوة القوانين الحتمية للتطور (65).

كما شدّد المؤلف خلال مسيرته في الهضاب الصعبة والمنزلقات الخطرة لتأثير كورونا، على أنّ هذه الصّدمة قد لعبت دور الموقظ المنبّه على ضرورة الانخراط في الثورة الحضارية الرقمية، والإعراض عن واقع التخلّف الشّامل الذي يعيشه العالم العربي. وواجهتنا حقائق جديدة صادمة تتعلق بالحاجة الملحّة الى الإصلاح الاجتماعي والتربويّ (66).

لقد كشف لنا كورونا كما  يرى الدكتور علي وطفه  الإصلاح التربوي مفهوم قاصر ما لم يرتبط بالإصلاح الاجتماعي الشامل، وأنّ أيّ إصلاح تربوي سيبوء حتما بالفشل ما لم يرتبط فعليا بمشروع اجتماعيّ اقتصاديّ حضاريّ شامل. وقد عرفنا الآن لماذا أخفقت، وستخفق، كلّ المشاريع الإصلاحية التّربويّة التي لم ترتبط جوهريا وعمليا بالإصلاح الاجتماعي الشّامل (67).

والنّقطة الأكثر أهميّة التي وقف عليها الدكتور علي  وطفه، بفضل الصدمة، هي هذا الارتباط المصيري بين التربية والاقتصاد وحركة التّطوّر المعاصرة التي تنتشر بلا حدود على صورة ثورات علميّة رقميّة سيبرانيّة متدفّقة في إطاريْ الزمان والمكان (68) ، واتّضح للمؤلف أنّ التربية التي لا تتحرّك في هذا الفضاء سيُحكم عليها بالفشل والاندثار، فالعمل على مواكبة المدرسة للثورة الصناعية الرّابعة مصير حتميّ إذا أرادت التربية، ومن ورائها المجتمع، الاستمرار في الوجود وظيفيّا وحضاريّا. وهذا الأمر يؤسّس لنزعة ثوريّة في التربية والتّعليم تقوم على تحرير المدرسة من براثن الممارسات التقليديّة المتآكلة والمتهالكة في مختلف الأبعاد والتجلّيات (69) .

وهذا يعني كسر الجمود القائم بين المدرسة والعصر الجديد، بين المدرسة بوصفها ماضيا والمستقبل بوصفه ثورة علمية رقمية تستنفر العالم الذي نعيش فيه بلا حدود ولا قيود. كلّ هذا وغيرُه يعني أنّ الثورة التّربويّة والتّعليميّة أصبحت مطلبا وجوديا ملحّا لا يقبل التّهاون والتّأخير. فالمدرسة العربية مدرسة تقليديّة، تعيش على قيم الماضي ورؤاه وتصوّراته، ولا يمكنها، بحالتها الراهنة، أن تنسجم مع مقاصد العصر وثورته الرّقمية، ذلك أنّ الثّورة الرقميّة الصناعيّة في هذا العصر تتطلّب ثورة إبيستيمولوجية في قطاعي التّربية والاقتصاد، بل في الحياة برمّتها. وما لم تتحرّك المدرسة في هذا الاتّجاه فإنّ العواقب ستكون وخيمة على الأجيال، وضريبتها لا تحتمل على مستقبل الأطفال والناشئة. فالعالم يتغيّر، ولا يمكن للتّربية أن تظلّ في أبراجها العاجية في حالة انفصال عن حركة التّاريخ والحضارة (70) .

نعم لقد نبّهنا كورونا إلى ما يجري في العالم من إنجازات عظيمة مهولة فالعالم، في نظر المؤلف، يعيش منذ عدة عقود في مجتمع المعلوماتية الذي تلعب فيه تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات الدور الأكبر في عملية الإنتاج الحديث، والذي يتّسم بأنّه إنتاج كثيف للمعارف. ومع تضاعف المعرفة الإنسانيّة، تحوّل الاقتصاد العالميّ إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة العلمية، وفي هذا الاقتصاد المعرفيّ تحقّق المعرفة الجزء الأكبر من القيمة المضافة، ومفتاح هذه المعرفة، بلا منازع، هو الإبداع والتّكنولوجيا. فنحن نمرّ الآن بمرحلة من التطوّر تُعرف بتطوّر العلم التقني حيث لا يتمّ التّعامل مع مجموعة من العلوم التّطبيقيّة بالمفهوم القديم للعلوم، وإنّما يتمّ التعامل معها في مجـال التّطبيق التّكنولـوجيّ الذي يتفاعل مع منجزات كلّ العلوم الأساسيّة، ويجعل الفارق بين المعرفة المتولّدة عنها وتطبيقها الزّمني ضئيلا " (71).

وهنا يتساءل الدكتور علي وطفه بإلحاح، فيقول: أين نحن الآن من هذه الثورة؟ وما الذي أنجزناه حتى اليوم في غمار حركتها الإبداعية المتواصلة؟

وهنا يجيبنا الدكتور علي وطفه فيقول: " تفيد الوقائع أن مؤسّساتنا التّعليميّة ما زالت حتى اليوم تعيش في عالم المعلومات، في الوقت الذي تعيش فيه البلدان المتقدّمة في عصر المعرفة الإبداعية، وتبيّن بعض الدّراسات أنّ المسافة الزمنيّة الفاصلة اليوم بين البلدان النّامية والبلدان المتقدّمة في مجال التّصنيع والثّورة الرقمية بعيدة المدى واسعة البون. وهذا يعني أنّه لا بدّ للمجتمعات العربية بمؤسّساتها التّربويّة أن تخترق الزمن الفاصل، وأن تنتقل إلى مدارج الثّورة الإبداعية من خلال مضاعفة الجهود التّربويّة والحضاريّة بغية اللّحاق بالعصر وثوراته المتقدّمة. وهنا، ومن جديد، يوجد لدينا إحساس عميق بأنّ كورونا قد ضاعف قدرة المجتمعات النّامية على الاختراق ولاسيّما في المجال التربويّ (72) ، فالتّعليم الإلكتروني، الذي عرفناه كما يذكر المؤلف، والذي سنعرفه في السنوات القادمة، يشكّل فعلا المنصّة الحقيقيّة التي يتوجّب فيها على التّعليم العربي أنّ ينطلق في مساحات العالم الرقميّ وثوراته المعرفيّة (73) ، وهذا يعني أنّ التعليم الإلكتروني يحمل في ذاته بذور النّهضة العقليّة والنقديّة، وينقل المدرسة من حالة الكساد الذهنيّ القائم على الذّاكرة إلى فضاء ذهني جديد يتميّز بقدرته على توليد الذّكاء والتّساؤل والقدرات الابتكارية والعبقريّة. فالتعليم الإلكتروني لا يكون في جوهره إلاّ تعليما بنائيّا يركّز على أكثر نظريات التعلّم حداثة وتطوّرا في مجال تطوير القدرات العقلية والابتكارية للأطفال والمتعلّمين (74).

وهنا، وفي هذا السّياق، وفي معترك هذه المواجهة مع كورونا، يؤكد الدكتور وطفه بأنه لمن الواجب على الأنظمة التّربويّة في العالم أن تطوّر استراتيجيات جديدة لمواجهة مختلف التحدّيات الناجمة عن الثّورة الصناعيّة الرّابعة، ولاسيّما تحديات اختفاء الوظائف، والعمل على تأهيل الناشئة تأهيلا مستقبليا يعتمد على احتمالات الذّكاء الاصطناعي، وتمكين الناشئة من الخبرات والمهارات والمعارف التي يمكنها أن تواكب حركة التطوّر التّكنولوجي الهائل في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين. خاصّة أنّ الإنسان قد استطاع، حتى يومنا هذا، أن يجد لكلّ معضلة مخرجا عبر تاريخه الطّويل، وهو بطاقته اللاّمحدودة وإمكانياته المذهلة قادر على أن يحقّق المستحيل، وكلّنا أمل أن تجد الإنسانية طريقها المستنير في المحافظة على الكينونة الإنسانيّة في معركة البقاء والمصير (75).

وفي نهاية حديثنا عن قراءة كتاب" قراءة في كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا"، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الدكتور علي أسعد  وطفه، ذلك المفكر الموسوعي الناجح الذي عرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

64- المصدر نفسه، ص 372.

65- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

66- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

67- المصدر نفسه، 403.

68- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

69- المصدر نفسه، ص 405.

70- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

71- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

72- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

73- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

74- المصدر نفسه، ص 408.

75- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

 

في المثقف اليوم