قراءة في كتاب

محمود محمد علي: عاطف العراقي والمنطق الإشراقى عند شهاب الدين السهروردى

محمود محمد عليمرت تسعة أعوام علي رحيل أستاذنا الدكتور عاطف العراقي -طيَّب الله ثراه- ونحن اليوم نذكره، فنذكر القيم الأصيلة والمتمثلة في جهاده على مدى أربعین عاما لتأصیل النزعة العقلیة وفكرة التنویر فى ثقافتنا العربیة، یتجلى هذا في شروحه الكثیرة وتوضیحه لأفكار ابن رشد- هذا الفلیسوف العربى المسلم الذي انتفع به الأوروبیون وأنكره العرب المسلمون، إنها مغامرة فكریة عظیمة ورحلة شاقة قام بها فى مجال البحث والتنقیب عن تراث فیلسوف القرن الثانى عشر الذى عاش فى قرطبة من بلاد الأندلس. وهذه الرحلة تشبه في أحد جوانبها رحلة "رفاعة الطهطاوى" التي استمرت عدة سنوات فى فرنسا، رغم أن عاطف العرقى لم یبرح أرض الوطن إلا في زیارات عابرة لحضور بعض المؤتمرات وذلك حسب قول نسيم مجلي في ورقته التي كتبها عن أستاذنا بعنوان "عاطف العراقى وتراث ابن رشد الفلسفى" والتي نشرت بمجلة أوراق فلسفية.

وهذا المقال ليس استهلالا للكتابة عن الدكتور عاطف العراقي ولا توصيفا مجملا لإنتاجه الفكري المتعدد، ولكنه يمثل عرضا لما كتبه أستاذنا في تصديره لرسالتي للماجستير والتي كانت بعنوان: "المنطق الإشراقى عند شهاب الدين السهروردى في ضوء المنطق الحديث"، والتي نشرت للمرة الأولي سنة 1997 ضمن منشورات مكتبة مصر العربية والتي يرأسها الأستاذ صلاح الملا (رحمه الله)، وقد افتتح أستاذنا الدكتور عاطف العراقي هذا التصدير قائلاً:" الإشراقى عند شهاب الدين السهروردى هو موضوع لا أتردد في القول بأنه من الموضوعات الحيوية الهامة في مجال التراث الفلسفى العربى . هذا الموضوع قضى في دراسته " الدكتور محمود محمد على "،  وقتاً طويلاً، وكان مجالاً لدراسته لدرجة الماجستير من كلية الآداب بسوهاج جامعة أسيوط (سابقاً).

وتتمثل أهمية هذا الموضوع كما يقول أستاذنا الدكتور عاطف العراقي: في أنه يركز على دراسة تراثنا، ولا خير فينا إذا أهملنا تراثنا . إن التراث يشكل جزءً من شخصية الإنسان ومن يهمل دراسة ماضيه، فلا حاضر له ولا مستقبل .. صحيح أننا نختلف مع السهروردى في بعض الآراء في مجال التصوف بصفة عامة والمنطق الإشراقى بصفة خاصة، كما نختلف مع المؤلف حول بعض الآراء التي ذهب إليه، ولكن هذا لا ينفي أهمية دراسة فكر السهروردى في مجال المنطق .

قسم الباحث الدكتور محمود علي دراسته كما يقول أستاذنا الدكتور عاطف العراقي: إلى مجموعة من الفصول، تحدث في الفصل الأول عن حياة وآثار السهروردى مقسماً هذا الفصل إلى الحديث عن مولده ورحلاته ومأساته وآثاره وحياته الفكرية بشكل عام، وحلل المؤلف الدكتور محمود محمد على في الفصل الثانى موضوع المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة عند السهروردى، وذلك حين درس مفهوم المنطق عنده وتقسيم السهروردى للمنطق وتقييم المنطق الإشراقى . كانت هذه العناصر موضوع الفصل الثانى من فصول كتاب المنطق الإشراقى والذى يقدمه مؤلفنا الدكتور محمود على للطبع والنشر وذلك بعد أن كان كما قلنا رسالة جامعية .. أما الفصل الثالث، فكان عن المنطق عند السهروردى وعلاقته بالمنطق الأرسطى القديم . وعناصر هذا الفصل تعد عناصر هامة، ومن بينها الحديث عن المصادر التى استفاد منها السهروردى منطقه الإشراقى وأوجه الاختلاف والأتفاق بين منطق السهروردى ومنطق كل من ابن سينا وابن تيمية، هذا بالإضافة إلى الإشارة إلى الإضافات التي أضافها السهروردى للمنطق الأرسطى ؛ هذا عن الفصل الثالث، أما الفصل الرابع فكان موضوعه نقد المنطق الأرسطى ومحاولة إصلاحه عند السهروردى والمناطقة المحدثين . وقد أدار المؤلف حديثه حول نقد السهروردى والمحدثين للمنطق الأرسطى والإصلاحات المنهجية التى أضافها السهروردى والمناطقة المحدثين للمنطق الأرسطى .أما الفصل الخامس والأخير من فصول كتاب الدكتور محمود على عن المنطق الإشراقى، فكان موضوعه منطق " السهروردى ومحاولة قراءة أفكاره في ضوء المنطق الحديث"، وقد جاء هذا الفصل مقسماً إلى مجموعة من العناصر التى تدخل بوجه عام في إطار الحديث عن منطق السهروردى، وهذا يدلنا على التزام الباحث بالدقة وعدم حشر موضوعات قد تبدو بعيدة عن المحور أو الفصل الرئيسى الذى قام بتحليله ودراسته .

موضوع هذا الكتاب إذا كما يقول أستاذنا الدكتور عاطف العراقي : يعد موضوعاً حيوياً كما سبق أن أشرنا وهو موضوع لا يعد من الموضوعات السهلة – وخاصة أنه يبحث في مجال به مصطلحات عديدة، وباحثنا قد بذل جهده في تحليل وصياغة العديد من الآراء التى قام بها السهروردى، كما أن من مزايا هذه الدراسة أن الباحث لم يكن مقتصراً على مجرد العرض الموضوعى لفصول دراسته، بل إنه حاول جهده نقد هذه الرأى أو ذاك من الآراء التى قال بها السهروردى . ومعنى هذا أن البحث يتضمن الرؤية الموضوعية والرؤية الذاتية النقدية، وإن كنا نجد عند المؤلف نوعا من المبالغة فى إثبات فكرة التأثر والتأثير – تأثر السهروردى بمن سبقوه ومدى تأثيره فى الذين عاشوا بعده – وهذه المسألة كان ينبغى معالجتها بحذر حتى نبتعد عن الأساليب الخطابية الإنشائية، والتى تعتمد على المبالغة بوجه عام.

الموضوع إذن الذى اختاره الباحث كما يري أستاذنا الدكتور عاطف العراقي  يعد كما قلنا موضوعاً هاماً والكتاب به معلومات كثيرة يمكن أن يفتح المجال لكثير من طلاب البحث والدراسة – أى أن الهدف الذى سعى إليه المؤلف يعد هدفاً نبيلاً ؛ إذ يسعى إلى التعرف على حقيقة الأشياء، ونرجو للمؤلف استكمال دراساته في مجال المنطق عند فلاسفة العرب بوجه عام ؛ إذ أن العرب قد بذلوا جهداً كبيراً في سبر أغوار العديد من المشكلات المنطقية وعلاقتها بالمشكلات الفلسفية ؛ وحين نجد دراسة أكاديمية دراسة تكشف عن ثراء وإطلاع صاحبها، دراسة أمينة وموضوعية، فإن هذه كلها أمور تؤدى بنا إلى تقدير صاحب هذه الدراسة الدكتور محمود على، ونرجو له كل التوفيق في دراساته المقبلة – وخاصة أن المشكلات المنطقية والفلسفية تعد ثرية ومتنوعة، نرجو له التمسك بالبحث والدراسة طوال سنوات حياته العلمية .

هذه خلاصة التصدير الذي كتبه أستاذنا الدكتور عاطف العراقي عن كتابي " المنطق الإشراقى عند شهاب الدين السهروردى"، وهنا أقول هنا: رحم الله أستاذنا الدكتور عاطف العراقي كان شعلة من النشاط ؛ حيث كان لا يكل ولا يمل، لقد دخل تاريخنا الفكري والثقافي المعاصر من أوسع الأبواب وأرحبها لقد شق طريقه وسط الأشواك والصخور (كما أكد هو مراراً وتكراراً)، وترك لنا ثروة فلسفية غاية في العمق، ولن يستطيع مفكر أن يغفل أو يتغافل عن هذه الثروة التي تعد كنزاً فكرياً أبدعه عقل مفكر جبار، إبداع قلم يعلم تماماً أثر الكلمة المكتوبة وخطرها . نعم إنه يعد عظيماً من العظماء . عملاقاً، والعمالقة تبدد كلماتهم وأقوالهم ظلام الجهل سعيا إلي نور المعرفة، نور العقل، نور الضياء الذي يهدينا في حياتنا، وإذا اختلف البعض حول فكره وآرائه فإن هذا الاختلاف في حد ذاته يدلنا على أن أفكاره تعد حية وليست أفكاراً ميتة، إن الأفكار الحية دون غيرها هي التي توجب الصراع حولها لأنها أفكار المسافة بينها وبين التقليد والمتابعة أكبر المسافة . إنه رائدنا ومفكرنا العظيم إنه عاطف العراقي الذي تعد كتاباته دعوة إلي التمسك بتيار العصر والحضارة تيار التجديد تيار العقلانية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم