قراءة في كتاب

محمود محمد علي: (من هنا نبدأ) للأستاذ خالد محمد خالد.. قراءة فلسفية (3 )

محمود محمد عليأثار كتاب ” من هنا نبدأ” ضجة الأوساط الدينية، حتى أن لجنة الفتوى بالأزهر أصدرت قرارا بمصادرة الكتاب، وحظر توزيعه، باعتباره عملاً يهاجم الدين، بل وطالبت بمحاكمة كاتبه ؛ وكان ” خالد محمد خالد” عقب انتهائه من تأليف الكتاب قد اختار عنوانا آخر للكتاب وهو “بلاد من؟”، غير أن الكاتب السعودي “عبد الله القصيمي”، اقترح عنوانا آخر للكتاب، وهو العنوان الذى صدر به “من هنا نبدأ”، وفى الكتاب تساءل “خالد”: “بلادنا هذه لمن؟ وهى وطن من؟ أهي بلاد (الكهانة)، أم بلاد الإسلام الخالص والمستنير؟، أهي بلاد الأغنياء المترفين أم هي- أيضاً- بلاد الجياع المسحوقين؟ أهي بلاد التعصب ووطن الطائفية أم بلاد التسامح ووطن الجميع؟ أهي بلاد الرجال من دون النساء أم هي بلاد الفريقين؟” (23).

والكتاب في مجمله يتناول ثلاثة محاور رئيسة يمكن رصدها في كتاب “من هنا نبدأ”، وهي: الدولة الدينية، الفقر وقضية العدالة الاجتماعية، وأخيراً التمكين السياسي للنساء، والمحور الأول: يتجلى هذا المحور من خلال فصلين؛ فصل بعنوان “الدين لا الكهانة”، والآخر بعنوان “قومية الحكم”، ولا شك في أنّ المؤلف فتح على نفسه النيران الصديقة حين شبّه احتكار المشايخ لتفسير الدين الإسلام بالكهانة، لكن يبدو أنّ قلمه كان يخضع للرقابة الذاتية، فلم يرد على لسانه لفظ الكهانة الإسلامية، وإنما أسماها الكهانة المصرية؛ حيث انتقد خطاب المشايخ الذين دعوا العامة إلى الرضوخ للفقر بحجة الزهد والقناعة، وانتقد المشايخ الذين تمسكوا بجمود التفسيرات فأصبحوا سجناء الماضي (24). أما في فصل “قومية الحكم”؛ فيذهب ” خالد محمد خالد” إلى خطورة العلاقة بين الدين والدولة، فيتساءل: أنمزج الدين بالدولة؟ فنفقد الدين ونفقد الدولة؟ أم يعمل كل منهما في ميدانه فنربحهما معاً، ونربح أنفسنا ومستقبلنا؟”(25)، ورأى أنّ “الحكومة الدينية تمنح نفسها قداسة زائفة”(26).

المحور الثاني: تناول المؤلف الفقر وإشكالية العدالة الاجتماعية، في فصل بعنوان “الخبز هو السلام”، وقام من خلاله بنقد النظام الإقطاعي الذي يستغل العمالة، في منظومة مجحفة أسماها منظومة “رقيق الأرض”(27).

المحور الثالث: تبنّى “خالد محمد خالد”، مؤلف كتاب “من هنا نبدأ”، قضية حقوق المرأة السياسية، ووصف غياب النساء عن البرلمان بـ “الرئة المعطلة”، وفي وصف آخر قال: إنّ “الأمر أشبه بالتحرش بحقوق النساء”(28).

هكذا انتقد خالد محمد منظومة الدين والاقتصاد والتمييز ضدّ النساء في مطلع خمسينيات القرن الماضي، فتعرض كتابه للمصادرة، واستمعت النيابة إلى أقواله، ثم وجهت إليه ثلاثة اتهامات، ألا وهي: التعدي على الدين الإسلامي، التحريض على تغيير النظام الاجتماعي، وازدراء الرأسمالية مما يكدّر السلم العام (29).

أما اتهام مؤلف كتاب “من هنا نبدأ”؛ بأنه “يزدري الرأسمالية، ويكدر السلم العام”، فجاء بمقتضى المادة (176) من قانون العقوبات، وهذا الاتهام ينفي الصورة الذهنية بأنّ الاقتصاد الحرّ كان قائماً على الفكر الليبرالي الحرّ؛ لأنّ الليبرالية لا تتهم المختلف معها في الرؤية الاقتصادية بتكدير السلم العام، أو بازدراء الرأسمالية؛ فالاتهام بازدراء الرأسمالية في العهد الملكي لا يختلف عن الاتهامات التي وجهتها منظومة الحكم في العهد الناصري، فيما بعد، لمن ارتفع صوته معترضاً على الخطاب والتوجه الاشتراكي. إنّ التمعن في تفاصيل محاكمة كتاب “من هنا نبدأ”، العام 1950، من الأمثلة التي تكشف لنا أنّ القراءة الجزئية لبعض العناصر التاريخية دون غيرها، أو خارج سياقها، قد يؤدي إلى تصورات مبتورة (30).

كذلك كتاب من هنا نبدأ يعول علي أن الحرية هى القيمة المركزية فى مشروع خالد محمد خالد الفكري، كما أشرنا، لهذا نراه يؤكد أن “الاستبداد هو الأب الشرعى للمقاومة، وأن الرأى المكظوم يتحول داخل النفس إلى قذيفة خطرة، وأن أيسر الطرق لحضارة خصيبة هو فتح منافذ الملاحة الفكرية والقضاء على كل بواعث التهيب فى الشعب” ومن هذا المنظور يتعامل مع الدين بوصفه اختيارا قائما على الإرادة الحرة تطبيقا لقوله تعالى “لا إكراه فى الدين” وقوله “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وخطابه للرسول بقوله جل وعلا “لست عليهم بمسيطر” و”أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” وفى هذا تحرير للإنسان وللدين نفسه من سلطة الكهنوت. ففي الفصل الأول من كتابه “من هنا نبدأ” يقول: “ليس ثمة ما ينفر الناس من دينهم مثل إبرازه فى صورة قوة عائقة مناهضة لحقوقهم مخذلة لطموحهم» وهو تحديدا ما فعلته الكهانة حين جعلت من نفسها قوة متسلطة على الناس مفتشة في ضمائرهم. (31)

وقد لقي كتاب خالد محمد خالد نقداً شديداً من الأستاذ “محمد العزالي”، حيث ألف كتاباً يرد  فيه علي “خالد محمد خالد” بعنوان “من هنا نعلم” حيث رد عليه مخطئا ما ورد فيه بالأدلة والبراهين التي يملكها الغزالي، حيث عن إسلام الوحي والنبوة، فكل عيب أصاب التجربة السياسية الإسلامية ينبع جراء ابتعاد المسلمين عن الإسلام الحقيقي النقي، والإسلام كما يقول الشيخ الغزالي: مثل الشعوب موتور من صنيعهم به واستغلالهم لنصوصه، وأما أن نحمل الإسلام آثام هؤلاء، فذلك خطأ بعيد وكذلك الحدود التي أمر الإسلام بها؛ فالمشكلة تكمن في ملابسات التنفيذ وليست في قسوة ولا معقولية الحد ذاته (32).

ثم يري “محمد الغزالي” بأن الصراع بين إسلام التاريخ وإسلام الوحي والنبوة حَكم تاريخ العلاقة بين جناحي الأمة: أتباع المشروع الإسلامي وأنصار المشروع المدني، فكل فصيل ركز على إسلام بعينه بناء على خبراته الشخصية مع هذا الإسلام، فالإسلام عند قطاعات من الجناح المدني هو فقهاء السلاطين والكُتْاب ومحفظ القرآن والمقرعة والشيخ الأزهري الجاف الذي يكرر التراث، ويردد متن المتن بدون نقد أو تجديد وتجربة “طه حسين” دليل على ذلك، في حين الإسلام عند الجناح الديني هو الله والقرآن والنبي (33).

ولم يكتف “محمد العزالي” بذلك ، بل نراه يرد باستماته على فكرة دنيوية التجربة السياسية الإسلامية؛ حيث يري أن جميع تجارب التاريخ أكدت على أن الأزمة في الإنسان والدين يبرأ منها، وهو إذن بريء لا يتحمل مسئولية ما تجاه تأجيج العنف والدين الإسلامي ديمقراطية حرة في المجال السياسي واشتراكية معتدلة في المجال الاقتصادي وفقا لتعبيره ، بمعنى أن الإسلام جمع أفضل مميزات الأيدولوجيات الغربية في بناء واحد، ليرسل إلى القارئ رسالة أن الإسلام لا يحتاج إلى الشرق الملحد أو الغرب الصليبي؛ فهو مكتفي بذاته ليسحب البساط من تحت أقدام أتباع الأيدولوجية الشرقية والغربية؛ فالحلول موجودة ومتاحة بين دفتي القرآن وما على المسلم سوى التزام النهج القرآني والشيخ – برغم مواقفه الجادة والحادة من غلاة المتشددين – فإنه أحجم عن تحديد مجال مسئولية الدين عن الأزمة العميقة التي تضرب أركان الأمة الإسلامية بشكل مباشر (34).

و”محمد العزالي” حين يرد على “خالد محمد خالد” بشأن فصل الدين عن الدولة، يقدم مجموعة من الأسباب التي ترى استحالة ذلك، فالإسلام بدون دولة تؤسس دعائم الإسلام وتدافع عنه وترسخ مفاهيمه لدى جمهور المسلمين، وتجند المجاهدين دفاعا عن الإسلام والمسلمين لن يدوم، فالدولة مقدمة لصعود الإسلام وحركته في المجتمع وتجربة الدولة النبوية واضطلاع الرسول بمهام السياسي طاعة للوحي دليل على تلازم الديني والسياسي في التجربة الإسلامية ويرى كاتب السطور أن احتماء الغزالي بالدولة هو حل سهل لمسألة عويصة، فما أسهل أن يلقي المفكر أعباء وأزمات المجتمع على كاهل الدولة المحملة أصلا بالأعباء؛ فالدولة إن آمنت واعتمدت دستورا إسلاميا لا صَلُح الحال في تكرار لفكرة أن الإسلام يمثل عصا سحرية، لحل أزمات تاريخية معقدة وتجاهُل للمفارقة التاريخية التي جعلت الرسول قائدا للدولة، وهو ما لم يتكرر بعد وفاته (35).

ولا يخلو أسلوب “محمد العزالي” من خطابة لإثارة غضب القارئ واستيائه متحدثا عن هدم الإسلام وعملاء الغرب والحرب الصليبية ضد الإسلام ومبالغات أخرى، فيذكر على سبيل المثال أن أينشتين قد وجه رسالة إلى أخطر المؤتمرات العلمية يطالبهم فيها بمحاربة فكرة الألوهية لنفيها من الأذهان!(36).

لم يكتف “محمد العزالي” بذلك بل نراه يرفض الشيخ حرية المرأة المطلقة وأنصار حقوقها في المساواة، فيقتبس الشيخ فقرة لمحامية مصرية تشكو إرهاق المهنة وعنتها ومن محاربتهن للطبيعة كدليل على ضعف المرأة الفطري، دون نظر لواقع المرأة الجديد (37).

ونتيجة لتقدم الشديد الذي قدمه الشيخ “الغزالي” لكتاب خالد محمد خالد ” من هنا نبدأ ” ، رأينا يؤلف كتاباً في عام 1982 بعنوان (الدولة في الإسلام) وقد أعلن فيه بكل وضوح أنه أخطأ مرتين، مرة حين اعتبر الدولة الإسلامية دولة دينية كتلك الدولة الكهنوتية المسيحية التي ظهرت في أوروبا، ومرة حين عمم أخطاء الحكام المسلمين وبعض الذين أساءوا فهم الدين علي الإسلام. ثم أوضح في جلاء مبين أن علينا نحن المسلمين أن نعيد القرآن العظيم إلي مكانه السامي في قلوبنا وحياتنا، ونشد علي راية الإسلام بسواعد قوية متفانية، وأن نستفيد من كل فرص التقدم النظيف دون أن نسلم رقابنا للأغلال وديننا للضياع، وروحانيتنا للجفاف، وأن دورنا مع حركة التاريخ وصنع الحضارة لا يزال قائما، وأن الإسلام الذي نحمل لواءه لم ينته ولن ينتهي دوره في ترشيد الحياة، وهداية البشرية إليه، لأن عظمته الفريدة ماثلة في أنه يقدم مع حضارة المادة حضارة الروح، وأخيرا علينا أن نعمق إيماننا بأن الإسلام دين ودولة، حق وقوة، ثقافة وحضارة، عبادة وسياسة.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ التنويري حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ التنويري، فتحية طيبة للأستاذ “خالد محمد خالد” الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع التنويري الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الأستاذ “خالد محمد خالد” التنويري ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

الهوامش

23- ماهر حسن: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

24- خالد محمد خالد: المصدر نفسه، ص 36-37.

25- المصدر نفسه، ص 147.

26- المصدر نفسه، ص 172.

27- المصدر نفسه، ص 125.

28- المصدر نفسه، ص 184-185.

29- رباب كمال: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

30- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

31- خالد محمد خالد: المصدر نفسه، ص 42-43.

32- محمد الغزالي: من هنا نعلم، القاهرة ،دار نهضة مصر، 2013، الطبعة العاشرة، ص24

33- حاتم زكي: من هنا نعلم … دراسة نقدية لخطاب الإسلاميين: محمد الغزالي أنموذجا، ديسمبر 2020.

34- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

35- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

36- محمد الغزالي: المرجع نفسه، ص 123.

37- حاتم زكي: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم