قراءة في كتاب

محمود محمد علي: كيف نواجه التطرف؟ (2)

محمود محمد عليقراءة  في كتاب: "نحو تأسيس عصر ديني جديد" للدكتور محمد عثمان الخشت

نعود ونكمل حديثنا عن مواجهة التطرف من خلال قراءتنا النقدية كتاب" نحو تأسيس عصر ديني جديد " للدكتور محمد عثمان الخشت فنقول:" يشغل الدكتور الخشت حاليًا منصب رئيس جامعة القاهرة، كرمته جامعة القاهرة في عيد العلم 2013 نظرًا لإسهاماته الأكاديمية والإدارية في الدراسات العليا والبحوث والمشروعات الثقافية، وحصد مئات شهادات التقدير والدروع من جامعات ومُؤسسات دولية وإقليمية ومحلية عبر أربعة عقود".

ومحمد الخشت هو صاحب نظرية جديدة في تطور الأديان قدمها في كتابه تطور الأديان، وفيه تمكن الخشت من تقديم أول مُقارنة شاملة بين الأديان والفلسفات من منظور نظريات التطور، تجمع بين الوصف العلمي والتحليل الفلسفي والنقد العقلي المُلتزم بمعايير المنطق، ونجح في توظيف تلك المعايير في أشكالها الأكثر تطورًا في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

تتميز كتاباته بالوسطية والعقلانية، وتكشف هذه الكتابات عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية. وهو مستشار جامعة القاهرة الثقافي.

وقدم الخشت مشروعًا جديدًا لتجديد الفكر الديني قائم على العقلانية النقدية، حيث يرى ضرورة تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين القديمة. ودعا الخشت إلى صياغة خطاب ديني جديد بدلًا من تجديد الخطاب الديني القديم، وأعاد الخشت كتابة علوم الحديث في صيغة عصرية، كما أعاد تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة منذ ثمانينات القرن العشرين.

3- التعريف بالكتاب:

كتاب " نحو تأسيس عصر ديني جديد" للدكتور محمد عثمان الخشت، صدر في عام 2017 عن دار "نيو بوك للنشر والتوزيع"، وعدد صفحاته (246 ورقة)، وهذا الكتاب في الأصل كان يمثل كان مجموعة من المقالات الفكرية للدكتور محمد الخشت، والتي تم نشرها في جريدة الوطن في الفترة من 2013 إلى 2015، وتمت استعادتها وفق تصنيف مختلف يتلاءم مع طبيعة مفهوم الكتاب.

في هذا الكتاب يشخص الخشت داء الأمة الذي أدي إلي تخلفها في كلمتين، هما "الانغلاق العقلي"؛ فإذا كانت الأمم الناهضة تسلك في حاضرها واضعة عيونها علي المستقبل، فإن أمتنا الإسلامية، هي الوحيدة بين الأمم، التي تسلك وعيناها علي الماضي، تراعيه وتهتدي به وتلتزم بخبراته !! لذلك يشبه الخشت العقل المغلق بالجنين في رحم أمه، لا يود أن يفارقه، ولا يعلم من عالم الأشياء شيئاً (8).

ثم يغوص الخشت إلى مستوي أعمق في تشخيص الداء، فُيرجع هذا الانغلاق العقلي إلي أسباب فلسفية وواقعية ونفسية، ويصف محصلة هذه الأسباب  بأن "المجتمع ينجب حفار قبره"، فيولد الإرهابيين الذي يسفكون الدماء ويمزقون الأشلاء، مثلما يولد الظلاميين الذين يئدون مستقبل الأمة (9) .

والكتاب يقع في سبعة فصول ضافية، يقدم لها " الخشت" بجوهر فلسفته، حيث يفتتح كتابه بالتأكيد علي أن الإسلام الذي نعيشه اليوم هو خارج التاريخ ومنفصل عن واقع حركة التقدم، ومن ثم بات من الضروري العودة إلي "الإسلام المنسي" لا الإسلام المزيف الذي نعيشه، ورأى أن ذلك لا يمكن أن يكون دون تخليص الإسلام من الموروثات الاجتماعية وقاع التراث، والرؤية الأحادية، فالنظرة إلى الإسلام من زاوية واحدة ضيقة تزيف الإسلام، ولذا من الفرائض الواجبة توجيه النقد الشامل لكل التيارات أحادية النظرة سواء كانت إرهابية أو غير إرهابية (10)

ورأي الخشت تكوين خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني، لأن تجديد الخطاب الديني عملية أشبه بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة وتهجينها بلغة ومفردات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة، ونشر وممارسة مفاهيم التنوع والتعددية وقبول الآخر، وإعداد كوادر واعية بصحيح لا فقط بدراسة العلوم الشرعية بل بدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية (11).

وعمل محمد الخشت في كتابه علي مجموعة من المهام العاجلة، شكلت رؤيته نحو الدخول إلى عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الديني، وتفكيك العقل المنغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الديني المتصلب (12).

ولذلك المسلمون – الآن- في حاجة إلي النقد والمراجعة والفقهاء والعلماء في حاجة إلى نبذ الجمود في فهم الإسلام وإلى التحرر الفكري علي أساس التمييز بين المقدس والبشري في الإسلام، وتغيير طرق التفكير، وتغيير رؤية العالم، وتطوير التعليم لبناء مجتمع قوى من كل النواحي الاجتماعية والثقافية والإنسانية والعودة إلي المنابع الصافية للإسلام، وللقرآن والسنة الصحيحة (13).

والفصل الأول من الكتاب وعنوانه " الشك المنهجي وتأسيس عصر ديني جديد"، وفي هذا الفصل اعتمد الدكتور الخشت على قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام فى الإيمان وطريقته فى البحث عن الله، وبناء عليه طالب الخشت أن نتبنى "الذات المفكرة" التي تتبنى فكرة الشك المنهجي واستشهد بما فعله الفيلسوف الشهير ديكارت للوصول إلى الحقيقة، مؤكد أننا في عالمنا الإسلامي نحتاج بشدة إلى الشك المنهجي للخروج من دوامة التضليل لا من أجل فوضى الأفكار، يقول الخشت :" هنا رفض إبراهيم عليه السلام إسكات العقل وهناك رفض ديكارت ورفاقه إسكات عقولهم، مع إبراهيم بدأ دين جديد يرفض التقليد، ومع ديكارت ورفاق عصره تم الشروع في تأسيس عصر جديد وخطاب ديني جديد تراجع فيه لاهوت العصور الوسطى الذي كان يحتكر فيه رجال الدين في أوروبا الحقيقة الواحدة والنهائية" (14).

ورأى الخشت أن إبراهيم استخدم عقله فمرّ بمرحلة شك ضرورية امتدحها القرآن الكريم، ومنها وصل إلى رفض القديم، فالشك المنهجي ضروري للإيمان المنضبط، والشك المنهجي ضروري للعلم، والشك المنهجي ضروري لتأسيس خطاب ديني جديد في كل العصور. وليست وظيفة الفكر الخروج من الشك إلى اليقين فقط، ولكن أسمى وظائفه هي التفكير والتدبّر وإخضاع كل شيء للفحص (15).

وقال :"تحرير الإيمان من الشك يستلزم رفض الوسطاء، وهنا يكمن أحد أهم مداخل تكوين خطاب ديني جديد، فلقد رفض إبراهيم سلطة الكهنة والمتحدثين باسم الألوهية، وهنا وجد الحقيقة الإلهية وجها لوجه، بعد أن وصل إلى حقيقة وجود الله عن طريق التفكير المنهجي والهداية الإلهية" (16).

أما عنوان الفصل الثاني من هذا الكتاب فهو تفكيك الخطاب الديني التقليدي  بمعنى تطوير علوم الدين لا إحيائها، وإن كان (الخشت) قد غلبته رغبة التناص مع الكتاب الفذ للغزالي، وهو كتاب إحياء علوم الدين فغمط المفهوم الأصيل للإحياء من حيث هو عملية ضرورية للنقد المنهجي بغرض تجديد الخطاب الديني، إذ الإحياء -هنا – استعارة تنتقى من الخطاب الديني القديم ما يتوافق مع الواقع الجديد، ولا يعنى الإحياء – بالضرورة- التقليد أو الاتباع في غير طائل (17)  .

وفي هذا الفصل ناقش الخشت  "تفكيك الخطاب الديني التقليدي"، ورأى أن الهدف من هذا التفكيك "تطوير" علوم الدين لا "إحياء" علوم الدين، موضحًا أن الدين نفسه لا يتجمد لكن الذى يتجمد هو عقول فسرت النصوص القرآنية والنبوية الواضحة والمباشرة بأيديولوجيات عقيمة تجمدت معها المنومة العقائدية والتشريعية فى كهنوت بشرى يتخفى في ثوب إلهى، ومن هنا يطالب الخشت بتفكيك ينقد البشرى ولا يتنكر للإلهي، ويكون هدفه الوصول إلى الدين في حالته الطبيعية الأولى، كما يشير إلى أن الأزمة أكبر مما تبدو فإن ضياع المعنى والعقل يكون في التيارات الدينية المغلقة ويكون في حركات ما بعد الحداثة أيضًا  (18).

ويبلور الخشت منهجه في تفكيك الخطاب الديني التقليدي، وإحلال الجديد مكانه في هذا النص المهم: فعملية التفكيك لابد أن تسبق عملية إعادة البناء، لكنه ... ليس تفكيكاً على شاكلة المشككين الذين يساهمون في استمرار عملية السيولة التي تهدد الأوطان... التفكيك الذى ندعو إليه هو النقد والتحليل العقلاني... ولا ينكر الحقيقة الموضوعية... ولا ينكر وجود قيم مطلقة، بل يتحرى في الوصول إليها بمعايير علمية صارمة. ولا يتنكر للإلهي، بل يقصد إليه شعوريا في عملية توحيد خالية من الشرك.. ومن ثم تمييز الإلهي عن البشرى في الفكر والعلوم، ونزع القداسة الإلهية عن المرجعيات البشرية التي تنتحل الصوت الإلهي، وتتحدث باسم الحقيقة المطلقة، ومن دون هذه العملية لن يمكن فتح باب الاجتهاد والتجديد الحقيقيين (19).

وعنوان الفصل الثالث من الكتاب "العقل المنغلق" وصف الخشت فيه الانغلاق الفكري المؤدى إلى العنف والتطرف"، حيث تحدث الخشت عن آفة  أصبحت مستشرية، وهي ذيوع ما يسميه بـ"العقل المغلق" الذي يشبهه بالحجرة المظلمة التي لا نوافذ لها ولا ترى النور قط، ومن بداخلها لا يرى شيئا، لا في الداخل أو الخارج، ولا يتنفس إلا القديم والفاسد من الهواء. وقد قدم لنا الخشت وصفاً لهذا العقل المغلق فهو «يستأثر بالحقيقة ولا يرغب في فتح قنوات الحوار إلا إذا كان مضطرا، ولكن دون تقديم تنازلات، كما أنه لا يدخل عهداً إلا إذا كان ضعيفاً ما يلبث أن ينقضه حالما يقوى، فالتقية سلاحه الذهبي في خداع الآخرين، وهو ينغلق على نظام قيم معينة بتجمد، ولا يبحث عن الأرضية المشتركة مع التيارات الأخرى، متشبعاً بثقافة السلطة، يسعى إلى نفي المختلف ويسمه بنعوت قدحية، يرى أن الله ليس رب العالمين بل ربه هو فقط، يؤمن أن الحق يُعرف بالرجال وليس لأنه حق... وكما يبدو بأن العقل المغلق ليس حكراً على الأصولية الدينية بل هي طابع يوجد حتى عند الأيديولوجيات المتطرفة (20)... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.

........................

الهوامش

8- د. عمرو شريف (تصدير) : تجديد العقل الديني في مشروع الخشت الفكري، تحرير د. غيضان السيد علي ن مراجعة د. هشام زغلول، روابط للنشر وتقنية المعلومات، ص 16

9- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

10-د. محمد عثمان الخشت : نحو تأسيس عصر ديني جديد، نيو بوك للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2017، ص 11.

11- محمد الحمامصي: ضرورة صياغة خطاب ديني جديد، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، ع366، 2018، ص 109.

12- المرجع نفسه، ص 110.

13- عوض الغبارى: نحو تأسيس عصر دينى جديد، بحث منشور ضمن كتاب تجديد العقل الديني في مشروع الخشت الفكري، تصدير، د. عمرو شريف، تحرير د. غيضان السيد علي ن مراجعة د. هشام زغلول، روابط للنشر وتقنية المعلومات، ص 356

14- د. محمد عثمان الخشت : المصدر نفسه، ص 14.

15- المصدر نفسه، ص 15.

16- المصدر نفسه، ص 16.

17- عوض الغباري: المرجع نفسه، ص 358.

18- د. محمد عثمان الخشت : المصدر نفسه، ص 32.

19-عوض الغبارى: المرجع نفسه،  ص 386.

20- محسن المحمدي: المطلوب تفكيك «العقل المغلق- نحو تأسيس عصر ديني جديد» لمحمد الخشت، الشرق الأوسط، الخميس - 23 شهر ربيع الثاني 1439 هـ - 11 يناير

 

في المثقف اليوم