قراءة في كتاب

تَنْبيهات (5): السّكاكي في "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" لمحمد العمري

البشير النحلي"والنّظر العدلُ المُنزِّل للأشياء منازلَها، والمُوَفّيها حقوقَها، موجِبٌ ألّا يُشاحّ في التّغيير والأسامي أصلًا ولا بِوَجهٍ من الوجوه مع قيام المعاني وتصوّر جوهريّاتِها وطبائعِها، فقِدْماً جرت العادة في الصّناعة النّظرية: الوصيّةُ للناظر وتحذيرُه أن يلهجَ بالألفاظ ويقفَ تصورَه عليها ويجعلَها نفسَ الأمرِ المنظور فيه.."[1].

فاتحة:

قبلَ مناقشة ما كتبه محمد العمري عن "مفتاح العلوم" في كتابه "المحاضرة والمناظرة"، أدعو القارئ إلى وقفة وجيزة عند ما قاله عنه في كتابه" البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها " لعلّ ذلك يُقرّبنا من الأساس الّذي بنى عليه أحكامه في كتاب "المحاضرة" الّذي خصّصه، كما لا يخفى، لمناجزة زميله في التّخصّص. ومعلومٌ أنّ العمري يعلن في كتاب "البلاغة العربية.." أنّه ينطلق، من بين شعارات أخرى، من همّ شمولي نسقيّ[2]. ونحن وإنْ كنّا لا نقصد إلى تتبّع مدى وفائه لهذا المنطلق، فإنّ الواجب يفرض أن ننظر في ضوئه لما قاله عن المفتاح. وسنلتزم في ما سنناقشه من ذلك بالاحتكام إلى ما يرتبط بمنطلقاته التّصوّريّة وبمبادئه ومقاصده نفسها؛ وسنعمل على تحرير المفتاح من قبضة الأحكام غير المبرّرة علميّا، بمنهج يقوم على الاختلاف ولا يسعى إلى حشر المفتاح وغيره في تصوّر ضيّق بمنطق التّوحيد القسري الّذي يضاد العلم ويصادمه. وليس بخافٍ، على مَنْ لهُ فضل تمييز، أن التّصوّرات الضّيّقة  إنّما تنتج، في الغالب، عن قبليّات تَفْلت من حيّز الرّؤية والنّظر.

1 . تغيير انتماء الكتاب:

وَأوّل ما يَجْبَه به العمري القارئ في المبحث الأوّل من الفصل الرّابع من القسم الثّاني هذا العنوان: "من علم الأدب إلى البلاغة". وهو عنوان يُعْلِن بوضوح ما ستدور عليه الفقرات المسطّرة تحته ممّا يمكن أنْ نختصره في كون المفتاح انطلق من البحث عن علم للأدب وانتهى إلى أنّ ذلك العلم هو البلاغة. وفي هذه الدّعوى المغسولة من الحقّ تنصّل مما قرّره هو نفسه في مكان آخر:  ففي سياق الدّفاع عن انتماء "منهاج" حازم إلى البلاغة يقول العمري إنّ  «صاحبه أصر على الاسم، وعرف البلاغة تعريفا يعطيها القيمة التي يريدها لعمله: العلم الكلي؛ أي أنها ليست بلاغة جزئية مما هو معروف، فلا يحق لغيره أن يغير انتماء الكتاب[3]«. أمّا في ما يتعلّق به هو، فإنّه لا يكتفي بتغيير انتماء المفتاح فحسب، بل إنّه يتصرّف في مقدّمته وفي بنيته ويعتبر العنوان نفسه أوّل شاهد على أنّ صاحبه لم يقصد، في البداية، إلى التّأليف في البلاغة؛ ويبتدع قصّة تكوُّن المفتاح، مشدّدا على ما يزعم أنّه تردّد وعدم احتراز وانتباه متأخّر إلى أنّ العلم الّذي كان يبحث عنه إنّما هو البلاغة بعينها. ونحن لا نقول إنّ العمري بدّل انتماء المفتاح لأنّ صاحبه ألّفه في "علم الأدب" وأصرّ على ذلك وأنّ العمري اعتبر "علم الأدب" مساويا للبلاغة -وهو ما يفهم من بعض السيّاقات كما سنظهره في حينه- فلا مشاحّة في الأسماء؛ بل نقوله لأنّ العمري يدّعي أنّ السّكاكي قام برحلة بحث عن علمٍ للأدب، فجاس خلال علوم كثيرة ولم يصل إلى أرض البلاغة إلّا في النّهاية! وهذا قولٌ لا صلةَ له ببنية كتاب المفتاح وبمقاصد صاحبه وبسيّاق تأليفه.

2 . تَمْويهات:

2 .1. بناء  "المفتاح" على تقسيم ثنائيّ في البداية والعدول عنه إلى تقسيم ثلاثيّ:

يورد العمري من المفتاح هذا الكلام المبتور: «وَقد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللّغة، ما رأيته لا بد منه. وهي عدة أنواع متآخذة. فأودعته علم الصرف بتمامه..وأوردت علم النّحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان [4]«.ثم يعلّق قائلا: «هذا النص صريح في بناء الأدب على أساسين:

1_ الصرف بتمامه، وتمامه بعلم الاشتقاق.

2_ والنّحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان. [5]«

وَمَن قرأ المفتاح يعرف أنّ هذا الكلام ليس في تقسيمه تقسيما ثنائيّا على نحو ما يحاول أنْ يُقنِع به العمري، ويعرف أنّه واردٌ في سيّاق توضيحٍ دقيق لكيفيّة استثمار أنواع من الأدب متباينة ومتفاوتة ومتنافية الأصول في بعض الحالات، وذلك بتعيين ما لا بدّ منه من ذلك وفرزه وتقديمه على نحو مترابط ومتراتب في نسق تحليليّ يفتقر إليه أصحاب المطالب العلميّة في مجال الأدب. والفقرة الّتي يقتطع منها العمري ليستدلّ بها على أنّ السّكاكي قسّم في البداية  كتابه تقسيما ثنائيّا هي التّالية: «وَقد ضمّنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللّغة، ما رأيته لا بدّ منه. وهي عدّة أنواع متآخذة. فأودعته علم الصّرف بتمامه، وأنّه لا يتمّ إلا بعلم الاشتقاق المتنوّع إلى أنواعه الثّلاثة، وقد كشفتُ عنها القناع. وأوردت علم النّحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان. ولقد قضيت بتوفيق الله منهما الوطر. ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحدّ والاستدلال، لم أر بدّا من التّسمّح بهما، وحين كان التّدرّب في علمي المعاني والبيان موقوفا على ممارسة باب النّظم وباب النّثر، ورأيت صاحب النّظم يفتقر إلى علمي العروض والقوافي، ثنيت عنان القلم إلى إيرادهما. [6]« وهي فقرة صريحة لا تتحدث البتّة عن تقسيم الكتاب وتبويبه، بل هي فقرة تختصر اختصار دالا تصوّر صاحب المفتاح للطّريقة الّتي يسعى من خلالها إلى التّوليف بين العلوم الضّرورية الّتي يفتقر إليها "علم الأدب". ومقصوده منها ظاهر في صيغتها المحكمة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفقرة السّابقة عليها، والّتي شدّد فيها على تعدّد وتعقّد وتشعّب وتفاوت وتنافي ما يفتقر إليه مَنْ يُعْنى بالأدب. وهو في هذه الفقرة يعيّن ما لا بد منه من ذلك، فيعمل على فرزه وتنظيمه وترتيبه وفقا لأصول يُرْجَع إليها، ويبيّن كيف يجب أن تترابط مكوناته في نسق يضمن أن يكون مفيداً للمهتمين بشأن الأدب. ونحن إنّما نقول إنّ عبارة العمري: "هذا النص صريح في بناء الأدب على أساسين" عبارة لا مُسْتند لها، ولا مبرّر سوى غاية العمري المتمثّلة في الإقناع بأنّ السّكاكي قسّم ، في مرحلة أولى، كتابه المفتاح على أساس ثنائيّ، ليتمكن بعد ذلك من طرح ادعاء آخر أغرب مفاده أن صاحب المفتاح «سرعان ما رأى أن علمي المعاني والبيان المتممان –في تصوره الأولي- لعلم النّحو جديران بأن يفردا بمبحث خاص مستقل إلى جانب الصرف والنّحو، فانزاح عن التقسيم الثنائي إلى تقسيم ثلاثي بانيا كتابه من ثلاثة أقسام[7]«، والاستشهاد بالكلام الوحيد والفعليّ الّذي يُمْحِضُهُ السّكاكي للتّقسيم الّذي ارتضاه واعتمده في كتابه، وهو «وجعلت هذا الكتاب ثلاثة أقسام:

1_ القسم الأوّل: في علم الصّرف.

2_ والقسم الثّاني: في علم النّحو.

3_ القسم الثّالث: في علمي المعاني والبيان  [8]«

والخلاصة الّتي يجب التّشديد عليها في نهاية هذه الفقرة أنّ صاحب المفتاح لا يصرّح بأيِّ تقسيم ثنائيّ لكتابه، وأنْ ليس في كلامه ما يمكن أنْ يُسْتَنْبَط منه سعيُه في البداية إلى بناء كتابه على قسمين اثنين. ومن الغريب أن يُتَقَوّلَ عليه ذلك ويُعْتَمد فيه على مقدّمة المفتاح الّتي لا تتجاوز ستّ صفحات، والّتي يظهر، من صيغتها، أنّها كُتِبت بعد الانتهاء من تأليف الكتاب، دون أن يتساءل المتَقوّل إنْ كان من المعقول ألّا يتصرّف السّكاكي، وهو من هو، في تلك المقدّمة لكي يخلّصها من الاضطراب والتّفاوت المتمثّل في القول بتقسيمين اثنين، أو يشير، على الأقلّ، إلى ذلك ويقدّم مبرّرات التّعديل!

2 .2. تحوّل  "علم المعاني والبيان" بعد التّقسيم الثّلاثيّ إلى شريك للنّحو قائم الذّات:

بالانتقال من التّقسم الثّنائي إلى التّقسيم الثّلاثي يتحوّل علم المعاني والبيان من وضعية المكمّل للنّحو إلى وضعية الشّريك القائم الذّات وفقا لفهم العمري. وقد رأينا في ما سبق أنّ بناء الكتاب على قسمين تَقَوّل صريح. وهذا يعني أنّ صاحب المفتاح جعل كتابه منذ البداية ثلاثةَ أقسام. فَلا تحوّل ولا ترقيّة. وَنعم، لَقد خصّص لعلم المعاني والبيان القسم الثّالث من كتابه؛ دون أنْ يعنيَ ذلك أنّه فكّ ارتباطه بالنّحو وجعله مستقلّا. وعندما يقول السّكاكي إنّ "تمام النّحو بعلمي المعاني والبيان" لا يصحّ أن يُفْهمَ مِنه أنّ علم المعاني والبيان مجرّد تابع قليلِ الإفادة كما يفهم من كلام العمري الّذي يعتقد أنّ إفراد قِسْمٍ له تحوّل في التّصوّر الأوّليّ للسّكاكي. إنّ تمام النّحو بعلم المعاني، يعني ببساطة أنّه به يَكْمُلُ،  فَهو شعبةٌ منه تنفصل عنه بزيادة اعتبارٍ وتجري منه مجرى المركّب من المفرد، وهذه العلاقة هي الّتي تربط أيضا بين علم المعاني وعلم البيان، وبين علم البيان والمعاني وعلم الحدّ والاستدلال. فأن يُتِمّ شيء شيئا وأن يَتِمّ هو به ويَكمُل لا يعني أنه فضلةٌ يُسْتغنى عنها. وأمّا تأخير علم المعاني والبيان على النّحو فلأنّه كالمركب بالقياس إليه، ذلك أنّ «طباق المؤلَّف للمعنى متأخّر عن نفس التّأليف[9]«. فيتبيّن أنْ لا وجود لأيّ أساس يمكن أنْ يستند إليه توقّع العمري بـ«أن يكون النّحو هو المصب الّذي تصب فيه المعاني وتوابعها[10]«؛. ولقد انتقد السّكاكي، في مقدّمة الكتاب نفسها، الموقف المسبق لمن ليس معه من أنواع الأدب سوى النّحو واللّغة، وطلب منه أن يطّلع على الكتاب ويتأمّله قبل الحكم على ما صمّنه إيّاه، حتّى لا يسبق إلى وهمه أنّ ما زاد على اللّغة والنّحو هو ممّا «افترعته عصبيّة الصّناعة[11]«،!

فيظهر، مما سبق،  أنّ الرّبط الّذي يقوم به السّكاكي بين مكونات علم الأدب يقع بعيدا عن التّبسيط الّذي يجعل تمام النّحو إمّا تابعا لا شأن له، أو شريكا قائم الذّات يستقلّ بقسم من المفتاح وبالبلاغة جميعها، «فالبلاغة، في نظر السّكاكي، هي المعاني والبيان[12]«،! وليس يخفى أنّ للقبليّات التّصورية الّتي تتجلّى من خلال ألفاظ من قبيل الامبراطورية والإمارة والمنطقة والاقتتال والتمنع والاقتسام والشّريك.. دورُها البارز في حجب مراد صاحب المفتاح والعبث بنصّه بظنون فاسدة شتّى، منها –وفي هذا كفاية-  الزّعم بأنّ تخصيص قسم مستقلّ لعلم المعاني دليلٌ على أنّ السّكاكي بدّل موقفه من هذا العلم وغير مرتبته وجعله  مصبّا للنّحو بعد أنْ لم يكن! ..والحال أنّ علم المعاني، في "مشروع" السّكاكي و"منجزه" شعبةٌ من علم النّحو بزيادة اعتبار، وعلم البيان شعبةٌ من علم المعاني، وعلم الحدّ والاستدلال شعبةٌ من علم المعاني والبيان بالمعنى الّذي توقفنا عنده أعلاه. وإنَّه لَمن الحجج البالغة في هذا المقام أنْ يُقال إنّ صاحب المفتاح يبتدئ، عند تحليله للآية 44 من سورة هود، بالنّظر فيها من جهة علم البيان قبل جهة علم المعاني، والأوّل شعبة من الثّاني؛ فَلْيُتأمّل.

2 .3. انتباه السّكاكي، في نهاية رحلة البحث، إلى أنّ علم المعاني والبيان هما البلاغة بعينها:

يقول العمري إنّ صاحب المفتاح انشغل في بداية عمله بالبحث عن علم كلّيّ اصطلح عليه بـ "علم الأدب"،  إلّا أنّه "اكتشف في الأخير"[13] أنّ ذلك العلم الكّليّ ما هو إلّا «تركيب بين علوم اللّغة والمنطق، في خلاصة سمّاها علم المعاني والبيان، قبل أن ينتبه، في نهاية الرحلة إلى أن هذين العلمين هما البلاغة بعينها [14] «؛ فكلمة بلاغة تظهر عندما يُصيب تصوّر السّكاكي تحوّلٌ يصير بموجبه علم المعاني والبيان مَصَبّاً لكلٍ من النّحو والمنطق[15] ، حينها «نلتقي لأول مرة مع تعريف البلاغة في نهاية الحديث عن علمي المعاني والبيان: "هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها". إن هذا التعريف هو تعريف لعلمي المعاني ("خواص التراكيب") والبيان("أنواع التشبيه..") معا. فالبلاغة في نظر السّكاكي، هي المعاني والبيان..  [16] «. لهذا «نُسي مشروعه الّذي أعلن عنه في الصفحات الأولى من الكتاب: "علم الأدب"، وحفظ منجزه الّذي لم يأخذ اسم البلاغة إلا بعد الانتهاء منه، كما تقدم [17] «.

قُلتُ: هذا قولٌ يُزَيِّفُ نسقَ  المفتاح دفْعَةً، ويتضمّن وجوهاً من التّعسّف؛ (1) أمّا الأوّل، فإنّ بحثَ الباحثِ، أيّاً كان، عن علم كليّ واكتشافه في النّهاية أنّ ذلك العلم هو البلاغة بعينها يُلْزِمهُ بأنْ يعلن ذلك ويغيّر عنوان كتابه، أو يوضّحه ويبرّره في أثنائه وفي خاتمته، وإلّا كان ذلك من باب الإخلال بما لا يقوم للبحث العلمي من دونه قائمة: شرط النّزاهة والوضوح. ودعكَ من "تفادى" "فرار من.. "[18]، فهي مما لا يليق بأيّ باحث، فكيف يُقال عن مؤلّف المفتاح الّذي لم يألُ فيهِ تهذيبا وتنقيحا؟  يقول وكأنّه يردّ مسبقا على هذا النّوع من الدّعاوى الباطلة: « وما ضمّنت جميع ذلك كتابي هذا إلا بعدما ميّزت البعض عن البعض، التّمييز المناسب، ولخّصت الكلام على حسب مقتضى المقام هنالك، ومهّدت لكلٍّ من ذلك أصولا لائقة، وأوردت حججا مناسبة، وقرّرت ما صادفت من آراء السّلف، قدّس الله أرواحهم، بقدر ما احتملت من التّقرير، مع الإرشاد إلى ضروب مباحث قلّت عناية السّلف بها، وإيراد لطائف مفتنّة ما فتق أحدٌ بها رتق أذن..[19] «(2) وأمّا الثّاني، فهو ادّعاء العمري بأنّ كلمة بلاغة تظهر لأوّل مرّة في المفتاح بعد أن وقع "الانقلاب"[20]  والتّحوّل من التّركيز على النّحو إلى التّركيز على علم المعاني والبيان. وهذا الادّعاء ملتبس؛ فإذا كان المقصود بكلمة "البلاغة" تلك القدرة على استعمال اللّغة استعمالا لطيفاً يوفّي مقامات الكلام حقّها ويطابق تمام المراد منه من قِبَل متكلّمين لهم فضل تمييز ومعرفة، فإنّ الكلمة تظهر منذ السّطور الأولى من المقدّمة ويستمرّ حضورها وظهورها إلى أنْ يختم السّكاكي كتابه حامدا لله ومصليا على الأخيار؛ أمّا إذا تعلّق الأمرُ بالبلاغة باعتبارها علما من العلوم، فلا وجود لها في كتاب المفتاح البتّة؛ وإنّه لمن التّمحّل أنْ يحرِّف العمري ويتقوّل للإقناع بتولّد البلاغة في نهاية الحديث عن علمي المعاني والبيان ، على غير انتظار، لتحلّ محل "علم الأدب "، وبأنّ البلاغة، في نظر السّكاكي، هي المعاني والبيان!  والمفتاح متاحٌ يكذّبه بالدّلائل والقرائن: إنّ علم البيان وعلم المعاني هما مرجعا البلاغة، أي أنّنا نرجع في شأن البلاغة، باعتبارها قدرة خاصّة تُمكِّن من تأديّة المعاني بتراكيب تطابق المقامات والمقاصد وتتفاوت مراتبها تفاوتا يكاد يفوت الحصر، إلى علمين اثنين مترابطين، هما علم المعاني وعلم البيان، و«لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول، أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه..[21] «. فتعريف السّكاكي للبلاغة الّذي يورده العمري، هو بالفعل حجّة، ولكن عليه! (3) وأمّا الثّالث، فإنّ القول بأنّ السّكاكي انتهى من خلال تركيبه بين علوم اللّغة والمنطق إلى خلاصة سمّاها علم المعاني والبيان، قبل أن ينتبه، في نهاية الرّحلة، إلى أنّ هذين العلمين هما البلاغة بعينها يوهم أنه تَرَك، بعد الانتباه المزعوم، استعمال علم المعاني والبيان وعلم الأدب، وأحلّ البلاغة محل كلّ ذلك؛ وهو تزييفٌ بيِّنٌ يعرفه كل متصفّح للمفتاح.  فقد استمرّ ورود البلاغة صفة للبلغاء ولما يصدر عنهم من كلام، واستمرّ الحديث عن علم المعاني والبيان وعن علم الأدب إلى خاتمة كتاب المفتاح، فَلْيُتَصَفّح![22]

3 . المُطابقة بين الأحكام المتناقضة!:

من المفارقات الّتي طبعت كتاب"البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" في الكلام الّذي خصّصه صاحبه للسّكاكي الجمع بين حكمين متنافيّين، هما (1) إشادته بمفتاح العلوم وإلحاقه بالبلاغة المعضودة وإعلانه عن اقتناعه أنّه لم يوله ما يستحقّ من العناية والدّراسة من جهة، (2) والانطلاق في تقديم خطاطته ممّا سمّاه هو نفسه بالبلاغة المختزلة، متّبِعاً في ذلك الملخّصين والشّرّاح والمحشّين الّذين يسعى، وفقاً لشِعاره، إلى الخروج من الإطار الضّيّق الّذي حشروا فيه علم البلاغة من جهة أخرى. لنتتبّع ذلك أوّلا بأوّل:

3 .1. "علم الأدب" شيءٌ مماثل لبلاغة حازم باعتبارها علما كليًّا:

يَصِفُ العمري بلاغة السّكاكي بالمعضودة بالنّحو والمنطق، ويقول عن "المفتاح" و"المنهاج" إنهما مشروعان ضخمان وحاسمان «في قراءة البلاغة العربية القديمة، أو بلاغة السلف، كما صار بالإمكان تسميتها في عصر السّكاكي وما بعده [23]«. ويضيف:« لقد أحسست، بل اقتنعت، بأن هذه المرحلة الّتي يمثلها كل من السّكاكي وحازم تستحق أن تكون قسما مستقلا من هذه الدراسة، قسما ثالثا بحجم القسمين السابقين: الأول والثاني. نعم أحسست بذلك ورغبت فيه، ولكن ها هي عشر سنوات قد تصرمت في إعداد الجزأين الأولين بعناء شديد، في ظروف أقل ما يقال عنها أنها ضد كل طموح، ينحت المرء من نفسه إلى حد التلاشي. ولا أريد لما أنجز أن يظل معلقا. لنكتف الآن بالخطة العامة للمشروعين فعسى تسمح الظروف مستقبلا باستئناف المسيرة، فننجز قسما ثالثا موسعا مؤصلا، يمتد إلى ما بعد حازم والسّكاكي  [24] «.

ولا تثريب على الباحث، فمن الطّبيعي أن تنتشر ذاتُه في كلامه مُظهَرة ومُضمَرة. بيد أنّنا نُسجّل هنا أنّ العمري اقتنع بأهميّة إنجاز قراءة موسّعة مؤصّلة تمتدّ لا إلى السّكاكي وحازم فحسب، بل إلى ما بعدهما، لأنّ هذه المرحلة "تستحقّ"، يقول، أن تكون قسما ثالثا مستقلّا بحجم القسمين الآخرين من كتاب " البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها". ذلك أنّ مشروعي السّكاكي وحازم "كفيلان" بإخراج البلاغة من «وضعية البنية التاريخية الجامدة المرتبطة بعصرها إلى حلقة من دينامية الأسئلة الإنسانية الّتي يتصل أولها بآخرها تجاوزا وتعارضا وتقابلا، حيث نجد البلاغة في تجاذب مع الشعر والنّحو والمنطق: انزياح مستمر، ونزوع إلى الانبناء ككيان قائم الذّات[25] «. فيظهر بوضوح أنّ العمري يشيد بالمفتاح ويضعه جنباً إلى جنب مع "المنهاج" الّذي جعل فيه صاحبه البلاغة علما كليّا، بناءً على سعي السّكاكي إلى التّركيب بين "أنواع" من الأدب متطالبة لا بد منها لتشكيل "علم الأدب"

3 .2. بلاغة السّكاكي ضيّقة ومختزلة:

بيد أنّ العمري يحكم، في نفس الوقت، بضيق بلاغة السّكاكي واختزاليّتها. يقول في خطبة الكتاب، وفي الكلمة الموجّهة إلى القارئ: «..ويصل بنا البعد التأويلي التركيبي إلى الإقناع بأن البلاغة العربية أوسع بكثير من هذا اللباس الضيق الّذي حشرناها فيه حين حكمنا قراءة واحدة هي قراءة السّكاكي ثم المراغي[26] « ويضيف في "المدخل العام، مقدمات وخلاصات" أنّ من بين ما يمكن أنْ تقدّمه زاوية القراءة الّتي ينطلق منها«..مراجعة مفهوم البلاغة المهيمن. وتعيد إلى هذا العلم الأرض الّتي استُلبت منه فحولته من إمبراطورية مترامية الأطراف إلى مجرد امارة محصورة داخل أسوار منيعة متمنعة. إن التصور السائد حاليا ومنذ قرون هو  تصور السّكاكي، هو قراءة السّكاكي للتراث القديم، وهي قراءة مشروعة ولكنها مشروطة بظروف. وقد صار السّكاكي اليوم، ككل القدماء جزءا من التراث البلاغي، فينبغي أن يدمج فيه قبل القيام بقراءة جديدة. ومن يومها سيدرس (البيان، والمعاني، والبديع) كتصور لمدرسة لا كصورة كلية نهائية للبلاغة العربية.

ولا أقل من أن يقدم بجانبه مشروع حازم القرطاجني الّذي يفتح البلاغة على النقد الأدبي، وعلى المقومات الفلسفية واللسانية والشعرية الّتي تسنده[27] «

فيتّضح أنّ العمري ينطلق، هو نفسه، من تلخيص القزويني والشّراح الّذين اعتبروا القسم الثّالث من "مفتاح العلوم" أعظم ما صُنّف في علم البلاغة، دون أن يتعرّض لتحقيق ذلك؛ ويَتغافَل، بشكلٍ غير مفهوم، عن الأساس الّذي بنى عليه حكمه الأوّل. ولعلّ الإشارة واجبة هنا إلى أنّ مقاصد التّأليف تختلف، فتلخيص المفتاح  وشرح التّلخيص لأغراض تعليميّة غير التّأليف لتوسيع علم البلاغة واسترجاع "الأرض الّتي استُلبت منه فحولته من إمبراطورية مترامية الأطراف إلى مجرد امارة محصورة داخل أسوار منيعة متمنعة"! ثمّ إنّ ممّا ليس مسلّما أن تكون الشّروح قد تخلّت عن مسائل علوم المفتاح الرّاجعة إلى الصّرف والنّحو والحدّ والاستدلال وسوى ذلك؛ إذ يمكن القول إنّها طوتها وشغّلَتها متضافرة تضبطها جهات محصورة هي المعاني والبيان والبديع. وهذا قد يعني أنّ الأمر يتعلّق بالانتقال من تعيين واختصار وترتيب علوم لا بدّ منها تضمن لمن ينظر من خلال ترابطها أن تنفتح عليه المطالب العلمية المرتبطة بالأدب[28]  إلى توظيفها على نحو متلاحم في ما اصطلح عليه الملخّص والشّراح بـ "البلاغة". أمّا العمري السّاعي لاسترجاع أراضي البلاغة! فقد توزّع بين الاستناد إلى المفتاح ككلّ باعتباره كتابا في البلاغة العامّة وبين اعتبار القسم الثّالث منه هو وحده الجدير بأنْ يدخل في البلاغة. لهذا فإنّ السّكاكي، وفق قراءة العمري، فكّر في شيء مماثل للبلاغة الّتي فكّر فيها حازم باعتبارها علما كليّا بالنظر إلى أنه وفّق في اكتشاف "منطقة التقاطع بين النّحو والمنطق والشعر"، وهو مع ذلك صاحب تصوّر ضيّق اختصر علم البلاغة في المعاني والبيان والبديع!، وَ«ما قدمه السّكاكي في النّحو والمنطق والعروض والقافية لم يُحِلَّه أو لم يحقّق له أية مكانة بين أعلام تلك العلوم، لأن ما قدمه هناك لا يحمل بصماته بوضوح، وذلك بخلاف صياغته لعلمي المعاني والبيان. وبذلك نُسي مشروعه الّذي أعلن عنه في الصفحات الأولى من الكتاب: "علم الأدب" وحفظ منجزه الّذي لم يأخذ اسم البلاغة إلا بعد الانتهاء منه، كما تقدم.[29]«. هكذا ترجع قيمة  المفتاح حصريّاً إلى صياغتة لعلم البلاغة وتصنيفه مباحثها إلى معان وبيان وبديع، ذلك التّصنيف الّذي اشتهر به السّكاكي واستقر من خلال«الشروح القوية الّتي تناولت الجزء البلاغي من كتابه مفتاح العلوم.[30]« . فيتبيّنُ أنّ العمري ينتقد نفس الأساس الّذي بنى عليه الحكم باعتضاد بلاغة السّكاكي المتمثّل في تركيب الحدّ الأدنى ممّا يجب معرفته من أنواع الأدب مِن قِبَلِ كلِّ مَن تشغله المطالب العلميّة المرتبطة بالأدب، ويعتبر – مثل الملخّص والشّرّاح- أن قيمة المفتاح منحصرة في تصنيفه الثلاثيّ لعلوم البلاغة! وليس يخفى ما في القولين من التّنافي والتّهافت، وما في ادّعاء تصنيف السّكاكي لمباحث البلاغة إلى معان وبيان وبديع من تقوّل واختراع!

وقد رأينا في المقالات الّتي أنطناها باستعمال العمري لعبد القاهر الجرجاني كيف توزّع بين جعل بلاغته بلاغة عامة، وبين الحكم بأنّه أوّل من اختزل البلاغة. والحكمان في غاية التّنافي. وبيّنا هناك أنّ عمل الجرجاني يقع خارجهما معا. وها هو بخصوص السّكاكي يُكرّر ذلك على نحو يُفْصِح عن المآزق الّتي يقع فيها من لا يعتبر المسافة الّتي تفصل آراءه وتصوّراته عن آراء وتصوّرات غيره، خاصّة إذا كان في تلك المسافة من المتغيّرات التّاريخية ما يجعل عدم اعتبارها تحلّلا من ضوابط العلم والعقل دَفعةً.

3 .3. تبرير الحكم بضيق بلاغة السّكاكي:

يقول العمري عن السّكاكي وحازم «ومن سوء الحظ أن مسار الثقافة العربية لعصرهما كان أميل إلى التدحرج منه إلى التسلق والرقي، فكان أن لقي مشروع السّكاكي قبولا لأنه كان قابلا للتجزيء. بسبب عدم انصهار أجزائه، في حين تعذر ذلك بالنسبة لمشروع حازم، كما تعذرت قراءته قراءة نسقية تركيبية في عصره أو بعده لخفاء الروابط بين أجزائه[31] «.  ننشغل من هذا الكلام بما يتعلّق بالمفتاح. وفيه تصريح بأنّ أجزاءه غير منصهرة، وهو، لذلك، قابل للتّجزيء. وهو تصريح يطابق فيه بين موقفين، (1) نقد بنية المفتاح وتبرير قراءة الملّخص والشرّاح من ناحية، (2) والتّنبيه إلى خصوصيّة بنية المفتاح غير المتماسكة ونقد القراءات المتسرّعة المجزّئة من ناحية أخرى.  وجَمْعُ العمري المفتاح بالمنهاج في إطار البلاغة المعضودة، وتأسّفه على مصير المفتاح والمنهاج، وتوضيحه بأنّ الأوّل لم يُنْتَفَعْ به على الوجه المطلوب لأنّ العصر  كان "أميل للتدحرج" قيودٌ سيّاقيّة تحمل على الظّن أنّ العمري يضع المسافة بينه وبين الاجتزاء والبتر، وينتهض للتّصحيح. بيد أنّ العمري يقوم بالعكس تماما، ويطابق الموقفَ الرّافض للتّجزيء بتعضيد القراءات المجزّئة، فيتنكّب عن سُبُل التّحقيق؛ ويستمرّ في نسج "تأويلٍ" تحكمه مقاصد متنافرة لم يوفّها حقّها في الفرز والتّرتيب.

4 . معايير غير ملائمة لتقييم المفتاح:

4 .1. الاستناد إلى "ما قدّمه في النّحو والمنطق والعروض والقافيّة"!

يقول العمري إنّ «ما قدمه السّكاكي في النّحو والمنطق والعروض والقافية لم يُحِلَّه أو لم يحقّق له أية مكانة بين أعلام تلك العلوم، لأن ما قدمه هناك لا يحمل بصماته بوضوح، وذلك بخلاف صياغته لعلمي المعاني والبيان[32].« قلتُ: لا أدري لماذا جعل الباحث قيمة المفتاح في النّتائج الّتي كان يجب أن يتوصّل إليها وتحقّق له مكانة ما في هذه العلوم وحدها، كلاًّ على حدة. فمن المعروف لدى كلّ مُنصفٍ ممّن يتصفّح المفتاح أنّ «نوع الأدب نوعٌ يتفاوت كثرة شعب وقلّة[33].« . فيجب، وفقا لمنطق العمري وأمثاله من السّلف والخلف، أن نجزّئ المفتاح ونعيد المسائل الّتي استعملها إلى العلوم الكثيرة المختلفة الّتي استمدّها منها ونحاكمه في ضوء ما ابتدعه من جديد في كل علم علم! فهل يُعقل أن يحاكم السّكاكي وكأنّه كان قد قصد  في المفتاح إلى التّأليف الاجتهاديّ المبدع في كلّ علم على حدة؟ إن هذا لَحجّة على اضطراب فهم من يقول به؛ إذ من الواضح أنّ السّكاكي لم يسعَ إلى التّأليف في أيٍّ من العلوم المتباينة والمتفاوتة والمتنافية الأصول أحيانا؛ بل سعى، بوعي علميّ متَفَرّد، إلى أنْ يُدمِجها في نسقٍ مترابط نوعا من التّرابط لصيّاغة "منهج" تتآخذ فيه مسائل تلك العلوم مِن نحو ومعان ومنطق ونظم وما يرتبط بكلِّ ذلك ممّا هو واجب المعرفة على مَنْ له مطالب علميّة في مجال الأدب. وشتّان ما بين مقاصد صاحب المفتاح وهذه الأحكام المضطربة المتهافتة!

4 .2. الاستناد إلى مفهوم غير محدّد للبلاغة:

وَيقول العمري إنّ صاحب المفتاح لم يقصد في البداية إلى الكتابة في "البلاغة بمفهومها الخاص والمتداول". و"البلاغة بمفهومها الخاصّ والمتداول" عبارةٌ مردودةٌ  لا مُلتَفتَ إليها. فلا وجود لمفهوم خاصّ واحد متداول ومقبول من قِبَل المهتمّين والمختصّين في عهد السّكاكي وفي عهد العمري أو غيره. ولا حجّة لمن يَلْهَج به ويبني عليه؛ (1) فالموضوع العلميّ لا يتمتّع بالثّبات ولا بأيّ استقلال عن المنطلقات التّصورية وزاويا النّظر والمفاهيم وغير ذلك من مستلزمات المعالجة العلميّة(2) والمعطيات والمفاهيم والإجراءات لا بد أنْ تتباين تبعاً لكلّ معالجة جديدة؛ (3) والقوانين وعموم النّتائج لا تكون مطلقة البتّة، ولا تتفاضل إلا بِكفايَتِها التّفسيرية داخل إطار نظري محدّد. لهذا، فإنّ من الواجب التّنبيه إلى أنّ الاعتقاد بإمكان وجود أو تحقُّق "مفهوم للبلاغة خاص ومتداول"! هكذا بإطلاق، وخارج أيِّ إطار نظري معتبر لا يمكن أن يكون إلا عائقاً في هذا المجال من البحث. أمّا إذا نظرنا إلى هذه العبارة من زاوية فلسفية-مادام العمري لا يفوّت فرصةً لادعاء انفتاح البلاغة العربيّة كما يفهمها على الفلسفة- فإنّ بالإمكان اعتبارها مجرّد مزحة؛ أو عبارة ممتلئة وواثقة لا تصدر إلا عن بَلَهٍ مادامت تتأسّس على جهل بكون التّصورات والبناءات العلميّة والحقائق والآراء  .. منغرسةُ الجذور في تربة الّلاعقلانيّة وفي شبكات من القوى العمياء غير القابلة للْحَصر والتّحديد.

4 .3. المقارنة بالجرجاني الذي نظر إلى الحذف في مستوى استعاري واهتم بالقطع الموحي:

من الحجج الغريبة التي يعتمد عليها العمري في نقده لهيمنة النحو على الوظائف البلاغية في المفتاح بعض تلك الوظائف المتعلقة بالحذف لبلاغيين "منضوين تحت توجه السكاكي"، وهو ما سنعود إليه في الفقرة 4 .4. 2. 1.، وأغرب منها مقارنة تلك الوظائف نفسها بعمل  الجرجاني الذي نظر إلى الحذف «في مستوى استعاري ثم اهتم بالقطع الموحي[34].« وقد قلت إن هذه المقارنة أغرب من الحجة، لأن العمري أقامها عليها. وهي لا تعني السكاكي البتة. ولا توفّر أدنى شروط المقارنة العلمية؛  وتُغيِّب منهج المفتاح ومقاصده، كما تُغيِّب طبيعة عمل الجرجاني ومقاصده. إنّ مقصد السّكاكي الصّريح في المفتاح أن يجتهد في تصنيف مختصر يربط فيه يبن علوم متباينة يحدّدها ويرتّبها ويضبط معاقدها ويبيّن مسائلها وكيفيّات توظيفها في إطار علم عام سمّاه علم الأدب؛ وهو مختصر يمكن اعتباره، من زاوية القارئ المنتفع، مدخلا منهجيّا لتحليل الخطاب، والخطاب الأدبي بوجه خاص؛ وهو مقصد يباين مقصد صاحب الأسرار والدّلائل من وجوه عدّة، مما يفرغ المفاضلة وادّعاء تفوّق الجرجاني بناء على جزئيات منتقاة من سياقات متفاوتة من أيّ فائدة، حتّى على فرض قبول محاسبة السكاكي على أعمال من ينضوي تحت التوجه الذي استنه. والجرجاني كما هو معلوم انشغل، أساساً، بتفصيل القول في «الخصائص التي تعرضُ في نظم الكلم[35]«، قاصداً أن يقرّر  في نفس المحصّل والمتأمّل «كيف ينبغي أن يَحْكُم في تفاضل الأقوال، إذا أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدل القسمةَ بصائب القسطاس والميزان [36].« ولقد ألّف كتابيه "الأسرار" و"الدلائل" بدوافع كلامية مستثمرا عدته النّحوية وذوقه الأدبي.

4 .4. الاستناد إلى "نزعة أدبية" تجافي الضّبط العلمي:

يقول العمري: « برغم الانقلاب الّذي وقع داخل مفتاح العلوم بانتقال المركز من الصرف والنّحو إلى علمي المعاني والبيان، وظهور البلاغة لتعني ما عناه علم الأدب في المشروع الأول، فإن الانطلاق من النّحو ومن المفهوم الّذي أعطي لعلم الأدب: التحرز من الخطأ، قد جعلهما يبسطان ظلالهما على صياغة السّكاكي للبلاغة العربية. أضف إلى ذلك محاولة صياغة التحويلات الدلالية صياغة استدلالية منطقية [37].« وقد رأينا أنْ ليس في المفتاح انقلابٌ ولا إحلالٌ للبلاغة محلَّ علم الأدب؛ فلا نعيد هنا مناقشته، ولا مناقشة ما بني عليه. لذا سنخصِّص هذه الوقفة للحديث عن رأي العمري في علاقة النّحو  والمنطق بالوظائف البلاغيّة في المفتاح؛ فهو يقول إنّ النّحو والمنطق يهيمنان على الوظائف البلاغيّة، ويحكم على صنيع السّكاكي، بخصوص ذلك، بعدم  الملاءمة أو المناسبة المنهاجية[38]. ونحن لا نفصد إلى التّفصيل في بيان واقع تلك العلاقة، فهو يحتاج إلى مجال أوسع ممّا هو متاح في هذا المقام؛ لهذا سنكتفي بما يوضّح أنّ اعتراض العمري لا يتوجّه على السّكاكي، وأنّ حججه ضعيفة ومضطربة.

4 .4. 1. حول المفهوم الّذي أعطي لـ "علم الأدب":

قولُ العمري "المفهوم الّذي أعطي لعلم الأدب: التحرز من الخطأ" تخليط؛ والصواب أن يقول: الوظيفة التي أسندها السّكاكي لعلم الأدب. وهي، في المفتاح، وظيفة ذات مراتب تتفاوت تبعا لبواعث الخائضين في هذا العلم، كما أوضحه العمري نفسه في سياق آخر[39]. لكن، لنفرض أنّ السّكاكي عيّن لعلم الأدب وظيفة بسيطة وحصريّة هي  التّحرز عن الخطأ، وسلوك جادة الصّواب، فهل ذلك يعني أنّه يجعل الخطأ مقصورا على التّأليف وأصل المعنى، ويُرجِع الاحترازَ عنه إلى النحو وحده؟ لا، من غير شكّ. وَقد أجاب بنفسه عن ذلك، وقال إنّ العاقل المتفطِّن لا يرتكب الخطأ فيه «وإنّما مثار الخطأ هو الثّاني[40].« أي في التّأليف المفيد المستحسن المطابق لمقتضى الحال الّذي يُؤدّى بأزيد من الدّلالات الوضعيّة؛ وهو التّأليف الّذي يُسْنِد أمر النظر فيه إلى علم المعاني. فيتبيّن أن ليس هناك مبرّر لاختزال وظيفة علم الأدب، وربطها حصريّا بالنّحو، تمهيدا للقول بهيمنته وابتلاعه للوظائف البلاغية!

4 .4. 2. هيمنة النحو والمنطق على الوظائف البلاغية:

عملنا في الفقرة 2 .2. على توضيح الرّبط الّذي يقيمه صاحب المفتاح بين النّجو وعلم المعاني وانتهينا إلى أنّه بعيد عن  الصّورة الّتي قدّمه بها العمري؛ وبينا في الفقرة 4 .3. 1. أنّ اختصار وظيفة علم الأدب المتمثّلة في الاحتراز عن الخطأ وربطها بالنّحو بشكل حصريّ، هو من باب التّمهيد للحكم بهيمنة المنظور النّحوي على رؤية المفتاح. واستحضار ما قلناه في الفقرتين المشار إليهما أعلاه بتفاصيله بالغ الأهميّة في ما يلي، فليراجع.

4 .4. 2. 1. هيمنة النحو وتقديم مقولاته على الوظائف البلاغية:

يقول العمري: «لقد شغل السكاكي بطبيعة المحذوف أو المقدم والمؤخر عن الوظيفة البلاغية، ولذلك نجده ينشغل بالتفريق بين حذف المسند وحذف المسند إليه كما يميز بين حذف المسند إليه المبتدأ وحذف المسند إليه الفاعل..وهكذا، دون بيان الفرق بين أن يكون المحذوف من هذه الفئة او تلك. والحال أن التصنيف البلاغي يقتضي بيان وظيفة الحذف لا بيان اسم المحذوف. فالذي يشغل البلاغي أصلا هو لماذا حذف المحذوف، ولماذا قدم المقدم أو أخر المؤخر؟ وليس كونه مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا به أو غير ذلك من المقولات النحوية . وإذا كانت هناك مزية للتقديم أو غيره قائمة [على] تلك الاعتبارات فإن المؤلف لم يبرزها أو يبرهن عليها [41].«؛ والجواب نرتّبه مختصرا في مدخلين، الأوّل نخصّ به ما يرجع إلى قوله « التصنيف البلاغي يقتضي بيان وظيفة الحذف لا بيان اسم المحذوف «، والثاني نخصّ به ما يرجع  إلى قوله إنّ السكاكي انشغل بطبيعة المحذوف والمقدّم والمؤخّر عن الوظائف البلاغيّة ولم «يبرز أو يبرهن« على أيّة مزايا لتلك التّمييزات ذات الطّبيعة النّحوية:

فأمّا الأول،  فإننا نشدّد فيه على أنّ موقف صاحب المفتاح مباينٌ لهذا الموقف التّبسيطي النزّاع للانفلات من الضّبط العلميّ من كلّ وجه، ففي منظوره لا يستقيم الحديث عن أيّ وظيفة لأيّ مكوِّن ولأيّ إجراء خِطابي دون تحديده وبيان نوعه أوّلا وأساسا. نعم، إنّ النّحو في نسقه يختصّ بالدّلالات الوضعيّة، وبمجرّد التّأليف لأصل المعنى، فلا يمكن أن يَبْتَلِعَ "تمامَه" الّذي هو علم المعاني وأن يجعله بلا جدوى، لأنّ علم المعاني يختصّ بما هو أزيد، أيّ بـ«تتبّع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتّصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره [42].« لكنَّ ذلك لا يدلّ على أنّ علم المعاني يمكن أن يقومَ على أساسٍ غير أساس النّحو، لأنّ «التّعرض لخواصّ تراكيب الكلام موقوف على التّعرض لتراكيبه ضرورة [43].« وهذا رأيٌ متماسكٌ ومبرّر تبريرا كافيا مادامت المعاني الّتي يهتم بها علم المعاني تقوم، هي نفسها، على أصول المعاني الّتي ينظر فيها النّحو. وهل نحتاج، بعد هذا، إلى التّذكير بكون السّكاكي يعرف تماما أنّ علمي المعاني والبيان، هكذا بالإظهار، أو علم المعاني، بالاختصار والرجوع إلى الإضمار، هو نوع من النّحو المقاميّ التّداوليّ الّذي يسعى إلى وضع ما هو منتشر متشابك ومتعدّد الأبعاد تحت الضّبط بإرجاعه لأصول يراها سابقة في الاعتبار. لذلك يجتهد في ضبط عبارته، ويسعى لبنائها على أساسٍ من النّظر المنهجيّ المتعقِّل حتّى وهو يصرّح باستناد ما يتكلّم فيه من صناعة «إلى تحكّمات وضعيّة، واعتبارات إلفيّة[44] «؛ وَأمّا الثاني، فإنّ قوله إنّ السكاكي انشغل بطبيعة المحذوف والمقدّم والمؤخّر عن الوظائف البلاغيّة ولم «يبرز أو يبرهن« على أيّة مزايا لتلك التّمييزات ذات الطّبيعة النّحوية، فَيُضعِّفه أنّه ألقاه من غير دليل، ومثال التّقديم والتّأخير والحذف والذّكر في المفتاح يشهد بعكس ما يزعم؛ لهذا احتاج، لكي يوهم بوجاهته، أن يدّعيَ ظهور الأثر السّلبي لتوجّه السّكاكي عند شرّاحه من «ذوي الثقافة النحوية[45] «وأنْ يورد  من –هكذا بالتّبعيض!- «وظائف الحذف عند البلاغيين المنضوين تحت هذا التوجه [46]« ! فيحتجّ على صاحب المفتاح بغيره، ويترك ذلك الغير مجهولا لا يُعْرَف، ثمّ ينتقي من وظائف الحذف عندهم! ومع كلّ ذلك، فإنّ تلخيص الكلام من الحشو، ونجاعة الخطاب، ومراعاة الوزن هي وظائف بلاغيّة من غير شكّ.

4 .4. 2.2.  هيمنة المنطق ومحاولة صياغة التحويلات الدلالية صياغة استدلاليّة منطقيّة:

يقول العمري إنّ انطلاق السّكاكي من النّحو، ومن التّحرز عن الخطأ طبع عمل السّكاكي وبسط ظلاله على صياغة البلاغة العربية، ويزيد: «أضف إلى ذلك محاولة صياغة التحويلات الدلالية صياغة استدلالية منطقية[47].«؛ ولا يوضّح بدقّة لماذا  يعيب ذلك. وأمّا السّكاكي فلم يحاول شيئا يعاب عليه؛ ومقام الاستدلال، بالنّسبة إليه، جزءٌ من مقامات الكلام و«تتبّع تراكيب الكلام الاستدلالي، ومعرفة خواصها، مما يلزم صاحب علم المعاني  والبيان[48].« وهو يوظّف، على المستوى الإجرائي، المنطق والنّحو بشكل متضافر في سيّاقات شتّى، مثل بيانه لأسباب اختياره لقول الفرقة التي تُغْني الخبرَ والطلبَ عن التّعريف ومناقشته الدّقيقة للحدود الّتي تُذْكَر بخصوصهما، ومثل حديثه عن المستثنى منه[49]، وتقديمه للقضيّة الخبرية (الحمليّة) على الشرطيّة اعتبارا لما قرّره في علم المعاني من أنّ «الجملة الشرطيّة جملة خبريّة مخصوصة، والمخصوص مقدّم على المطلق[50] «، وغير ذلك كثير. فأمّا انتقاده لأنه حاول صياغة التّحويلات الدّلالية صياغة استدلاليّة منطقيّة فانتقاد مُلْتَبِسٌ، ليس له أساسٌ يُعَوَّلُ عليه؛ ذلك أنّ السّكاكي لم يحاول الصيّاغة الّتي يدّعيها العمري، بل انطلق من موقف مضاد مفاده «أنّ من أتقن أصلاً واحداً من علم البيان، كأصل التّشبيه أو الكناية أو الاستعارة، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به، أطلعه ذلك على كيفيّة نظم الدّليل [51] «. أمّا توقّفه عند الحدّ والاستدلال فقد اقتضاه تصوّره لعلم الأدب. وفي ظنّنا أنّ إبرازَه للتّشابه والتّكامل بين القيّاسات المنطقيّة وصوّرها الاستدلاليّة  والآليّات البيانيّة يجْعلهُ صاحبَ فضلٍ، ويُدرِجُهُ في زُمرةِ السّباقين إلى بيان ذلك واستثماره.

خاتمة:

وبعد؛ ماذا يتبقّى من رحلة البحث في المفتاح الّتي أوصلت السّكاكي إلى خلاصته الّتي سمّاها علمي المعاني والبيان قبل أن ينتبه، في النّهاية، إلى أنّ هذين العلمين هما البلاغة نفسها؟ يتبقّى، على ما يظهر، هذا السّرد الرّديء، والتّقوُّل الدّنيء[52]؛ فالعمري ينسج هذه الحكاية، الدّاخلة في التّخييل الّذي يتوجّب ألاّ يُلْتفتَ إليه؛ لأنّه واقع في غير موقعه، مما يجعله هذيانات مُلَوِّثة لصماخ طوائف القرّاء الّذين استهدفهم بكتابه "البلاغة العربية،.."[53]. وتصفّح المفتاح يُظْهِر بوضوح بُعْدُ صاحبه عن هذا التّهافت، ويُظْهِرُ توقّعَه لمثل هذه التقوّلات، وتحذيرَه منها ووصيّتَه القارئ بإنعام النّظر وبذل الوُسْع في التّأمل، لأنّه لم يُضَمِّن كتابَه تلك العلوم إلّا بعد تَنْقيرٍ وفَحْصٍ وَاسْتفراغ لِلْجهْدِ في التّمييز والتّرتيب والرّبط والتّدليل؛ بما يجعل كلامه نقضا قبليّا لمثل هذه الحكاية الّتي ينشئها مَنْ يرسل الكلام بدون خطام أو لجام!.

***

البشير النحلي

............................

المصادر والمراجع:

- أبو محمد القاسم السجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط. 1، 1980.

- أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي: مفتاح العلوم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 2000.

- عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط. 1،1991.

دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

-  محمد العمري: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.

المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.

الهوامش:

[1]- المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، ص.372-373.

[2]- البلاغة العربية، ص. 10.

[3]- نفسه، ص. 43.

[4]-  البلاغة العربية، ص. 480.

[5]- نفسه، ص. 480.

[6]- مفتاح العلوم، ص. 37.

[7]- البلاغة العربية، ص. 481.

[8]- البلاغة العربية، ص. 481. والنص الّذي يستشهد به العمري هنا وارد في الصفحة 39 من طبعة المفتاح الّتي نعتمدها، فلينظر هناك.

[9]- مفتاح العلوم، ص.40.

[10]- البلاغة العربية، ص. 483.

[11]- مفتاح العلوم، ص.39.

[12]- البلاغة العربية، ص.484.

[13]-نفسه، ص. 487.

[14]-نفسه، ص. 478.

[15]- نفسه، ص. 484.

[16]- نفسه، ص. 484.

[17]- نفسه، ص. 485.

[18]- نفسه، ص. 486.

[19]- نفسه، ص. 478.

[20]- نفسه، ص. 495.

[21]- مفتاح العلوم، ص. 478.

[22]- نكتفي في هذا الهامش بمثالين: يقول صاحب المفتاح في فصل(وجه الإعجاز في الاستدلال): «..وكأني بمقامي هذا أسمعه ينشدني:

فإيه أبا الشدّاد إنّ وراءنا   أحاديثَ تُروى بعدَنا في المعاشر

يدعوني بذلك إلى تتمة الغرض من علمي المعاني والبيان، في تحصيل ما قد اعترض مطلوبا، كما ترى، فها نحن لدعوته مجيبين، بإملاء ما يستمليه المقام في فنين، يذكر في أحدهما ما يتعلق بالنظم، توخيا لتكميل علم الأدب، وهو إتباع علم المنثور وعلم المنظوم، وتفصيلا لشبه يتمسك بها من جهته «؛ ويقول في خاتمة الكتاب (تحت عنوان: في إرشاد الضلال): «سبحان الحكيم، الّذي يسع حكمته أن يخلق في صورة الأناسي بهائم أمثال الطامعين أن يطعنوا في القرآن، ثم الّذي يقضي منه العجب، أنك إذا تأملت هؤلاء، وجدت أكثرهم لا في العير ولا في النفير، ولا يعرفون قبيلا من دبير، أين هم عن تصحيح نقل اللّغة؟ أين هم عن علم الاشتقاق؟ أين هم عن علم التصريف؟ أين هم عن علم النّحو؟ أين هم عن علم المعاني؟  أين هم عن علم البيان؟ أين هم عن باب النثر؟ أين هم عن باب النظم؟ ما عرفوا أن الشعر ما هو؟ ما عرفوا أن الوزن ما هو؟ ما عرفوا ما السجع؟ ما القافية؟ ما الفاصلة؟ أبعد شيء عن نقد الكلام جماعتهم، لا يدرون ما خطأ الكلام وما صوابه، وما فصيحه وما أفصحه، وما بليغه وما أبلغه، ما مقبوله وما مردوده، وأين هم عن سائر الأنواع؟ .

إذا جئتهم من علم الاستدلال، وجدت فضلاءهم غاغة، ما تعلك إلا أليفاظا! وإذا جئتهم من علم الأصول، وجدت علماءهم مقلدة، ما حظوا إلا بشم الروائح! وإذا جئتهم من نوع الحكمة، وجدت أئمتهم حيوانات، ما تلحس إلا فضلات الفلسفة! وهلم جرا، من آخر وآخر، لا إتقان لحجة، ولا تقرير لشبهة، ولا عثور على دقيقة، ولا اطلاع على شيء من الأسرار، ثم ها هم أولاء كم سودوا من صفحات القراطيس، بفنون هذيانات. «أنظر: مفتاح العلوم، ص.615- 616 بالنسبة للمقتطف الأول، وص. 708-709 بالنسبة للمقتطف الثاني.

[23]- البلاغة العربية، ص. 477.

[24]-  نفسه، ص. 478.

[25]- نفسه، ص. 12.

[26]- نفسه، ص. 6.

[27]- نفسه، ص. 12.

[28]-المفتاح، ص. 39.

[29]- نفسه، ص. 485.

[30]- نفسه، ص. 479.

[31]-نفسه، ص. 478.

[32]- نفسه، ص. 485.

[33]- مفتاح العلوم، ص. 36.

[34]-: البلاغة العربية، ص. 496.

[35]- دلائل الإعجاز، ص. 37.

[36]- أسرار البلاغة، ص. 4.

[37]- البلاغة العربية، ص. 495.

[38]- نفسه، ص. 496.

[39]- نفسه، ص. 481-482.

[40]- نفسه، ص. 250.

[41]- نفسه، ص. 496.

[42]- المفتاح، ص. 247.

[43]- نفسه، ص. 251.

[44]- نفسه، ص. 257.

[45]- البلاغة العربية، ص. 496

[46]- نفسه، ص. 496

[47]- البلاغة العربية، ص. 485.

[48]- المفتاح، ص. 543.

[49]- نفسه، ص. 610، وما بعدها.

[50]- نفسه، ص. 550.

[51]- نفسه، ص. 544.

[52]- ينسج العمري، هنا، خيوط حكاية شبيهة بالحكاية الّتي نسجها عندما تناول الجرجاني، فذهب إلى أنه بدأ في الأسرار بتصور انزياحي، "وعندما استكمل تصوره لبلاغة العدول والغرابة اكتشف أنها لا تغطي إلا قليلا من نصوص القرآن"، "فبدأ رحلةً أخرى مستثمرا رصيده النّحوي، فأضاف مفهوم النظم إلى مفهوم العدول، وأعطانا كتاب دلائل الإعجاز"! وقد توقفنا عند ذلك في المقالة الثانية من المقالات الّتي خصصناها لاستعماله للجرجاني.

[53]- ننبّه لذلك ونترك التركيب المضطرب لعبارته من وجوه مختلفة، من قبيل "فهناك إذن ثلاثة وظائف للمعاني" و" لقد صرح السكاكي هنا بما صار كامنا في منجز الجرجاني".. أنظر: البلاغة العربية، ص.492 و495.

في المثقف اليوم