قراءات نقدية

يوميات مجنون .. غوغول بين القصة والمسرحية

يعرف القارئ العربي قصة غوغول الشهيرة – (مذكرات مجنون) او (يوميات مجنون) كما جاءت في بعض المصادر و الترجمات العربية، وترتبط هذه القصة في العراق باسم الدكتور سعدي يونس، الفنان المسرحي العراقي، والذي قدمها تمثيلا واخراجا (وبترجمتي عن الروسية) في مسارح بغداد ونواديها وحتى مقاهيها بعد ان حوٌرها الى مسرحية ذات فصل واحد و ممثل واحد في سبعينيات القرن الماضي، وذلك بعد ان اطلع عليها في مسارح باريس باللغة الفرنسية (انظر مقالتنا بعنوان غوغول في العراق)، وترتبط قصة غوغول هذه ايضا بالكاتب المسرحي السوري الكبير سعد الله ونوس (1941 – 1997)، والذي أعدٌ هذه القصة مسرحيا و قدمها للجمهور العربي، ويعرفون هذه المسرحية ايضا في مصر و الجزائر والاردن وبعض البلدان العربية الاخرى نتيجة لتقديمها – مسرحية وليس قصة - في فرنسا وبعض البلدان الاوربية الاخرى، بل ان بعض المسرحيين العرب قد استخدموا مضمونها في مسرحيات اخرى مستوحاة من تلك القصة ومحاكاة لها.

بدأ غوغول (1809 – 1852) بالتخطيط لكتابة قصته هذه في الثلاثينات من القرن التاسع عشر و ذكر ذلك في مراسلاته الخاصة مع الاخرين ، و انجزها فعلا عام 1834 عندما كان عمره 25 سنة ليس الا، ونشرها عام 1835 في كتابه بعنوان – (ارابيسك)، ثم أعاد نشرها عام 1843 في كتابه بعنوان – (قصص بطرسبورغية) .

تتمحور هذه القصة حول شخصية واحدة فقط و بصيغة مذكرات يومية يكتبها موظف من موظفي الدرجات الدنيا في دائرة حكومية بمدينة بطرسبورغ، وهو انسان مسحوق وبائس و مريض نفسيا ومصاب بانفصام الشخصية (الشيزفرينيا)، حيث يعلن في نهاية المطاف انه (ملك اسبانيا !!). كانت الصيغة التي جاء بها غوغول في هذه القصة جديدة بكل معنى الكلمة بالنسبة لابداعه، اذ لم يسبق له الكتابة بهذا الشكل الادبي، اي بصيغة ضمير المتكلم ومن قبل بطل واحد فقط في القصة، واستطاع غوغول بهذه الصيغة الفنية ان يعبرعن كل افكاره حول الانسان و المجتمع والعلاقات الانسانية بحرية مطلقة، وبدون الخضوع الى تسلسل منطقي لربط الاحداث من بدايتها وتطورها وحبكها ونهايتها و مراعاة زمانها ومكانها ...الخ، وذلك في ثنايا ومذكرات و كلمات هذا الموظف، والتي جاءت – بالطبع – في اطار سخرية غوغول وضحكه المرير واسلوبه المتميز الأخٌاذ، ولهذا، فان قصة غوغول هذه تعد الاكثر عالمية وشمولية - بشكل او بآخر – بين نتاجاته الادبية الاخرى، لانها لا تعكس الروح الروسية البحتة فقط وانما تتناول الانسان بشكل عام وهمومه واحزانه وافراحه ورغباته واحلامه وشعوره بالحب والكراهية ...الخ ..الخ، الانسان في كل مكان بغض النظر عن المجتمع المحدد الذي يرتبط به .

استقبلت الاوساط الادبية الروسية هذه القصة آنذاك بترحاب وتقدير واعتبرتها حيوية جدا ومبتكرة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، وكتب عنها النقاد بشكل ايجابي وأشاروا الى انها ستجد مكانتها اللائقة بها في مسيرة الادب الروسي، وهذا ما حدث فعلا، حتى ان الناقد المعروف بيلينسكي أشارالى هذه القصة في مقالته المشهورة بعنوان (عن القصة الروسية وقصص غوغول) قائلا انها (.. جديرة بريشة شكسبير..)، ولم يوضح بيلينسكي فحوى هذه الجملة الضخمة والتي تحمل روح المبالغة طبعا، الا انها – مع ذلك – تعني ما تعنيه بلا شك، و رغم كل شئ، في مقالة يكتبها ناقد أدبي مثل بيلينسكي، والذي عاد عام 1843 الى الكتابة عن مذكرات مجنون غوغول مرة اخرى واعتبرها (واحدة من أعمق النتاجات الادبية) . تحدث عن القصة ايضا الاطباء والمتخصصون بعلم النفس وأشاروا الى ان الوصف الذي كتبه غوغول حول مرض انفصام الشخصية جاء دقيقا وساطعا وواقعيا وصحيحا جدا، وباختصار، فان هذه القصة انتشرت سريعا وتم ترجمتها الى لغات اخرى (صدرت بالفرنسية،مثلا، عام 1845 اي بعد سنتين ليس الا من صدورها في كتاب(قصص بطرسبورغية) بروسيا، الذي أشرنا اليه أعلاه .

برز اسم غوغول في المسرح الروسي (والمسرح العالمي) لاحقا بعد صدور مسرحيته الشهيرة – (المفتش او المفتش العام) عام 1836 (انظر مقالتنا بعنوان – حول عنوان مسرحية غوغول المفتش العام ام المفتش ؟) لكن (مذكرات مجنون) لم تدخل ضمن قائمة مسرحياته ابدا، وبقيت ضمن سلسلة قصصه ليس الا، وان الاوساط الثقافية الروسية لم تتعامل مع هذه القصة مسرحيا طوال حياة غوغول ولا حتى بعد رحيله عام 1852، بل ولا حتى طوال القرن التاسع عشر باكمله، الا ان مسرحة هذه القصة في روسيا بدأت في القرن العشرين ليس الا، اي بعد اكثر من قرن على نشرها، وجاء ذلك بتأثير من الغرب بشكل عام، اي ان هذه القصة تحولت الى مسرحية في الغرب وعادت الى روسيا مرة اخرى بشكلها الفني الجديد (اي ليست قصة بل مسرحية)، وهي ظاهرة طريفة جدا وغريبة و تستحق التأمل بلا شك، اذ ان هذه الظاهرة تؤكد (من جملة ما تؤكد) على عالمية الادب الروسي ومساهمة الشعوب الاخرى بتوسيع اطاره واهدافه واكتشاف كوامنه الخفية . لقد حاولنا ان نتابع تاريخ بداية تقديم هذه القصة ممسرحة على خشبة المسرح الروسي فوجدنا انه تم تقديمها عام 1985 ليس الا، اي بعد تقديمها حتى على المسرح العراقي والعربي عموما، ولا نستطيع الجزم بشأن هذه المعلومة الطريفة بالطبع (واؤكد على هذه النقطة، اي عدم الجزم هذا)، اذ ان ذلك يقتضي التقصي الدقيق و الموضوعي والشامل لريبورتوار المسارح الروسية في القرن العشرين باكمله، وهي مهمة ليست بسيطة ابدا وتتطلب جهودا اكاديمية جماعية بلا شك، ولكن يمكن القول - على ما يبدو - ان باريس سبقت موسكو بتقديم هذه القصة على مسارحها، اذ اننا لم نجد عروضا لها على المسارح الروسية قبل عام 1985 بشكل عام، على الرغم من انه تم تقديم هذه القصة الممسرحة منذ عام 1985 ولحد عام 2014 على خشبة اكثر من 14 مسرحا من المسارح الروسية المختلفة في العديد من المدن الروسية، وعلى الرغم ايضا من انها تحولت في روسيا عام 1963 الى مونواوبرا، وتحولت في عام 1968 الى فلم سينمائي سوفيتي، و يمكن اعتبار هاتين المحاولتين دليلا ماديا لا يقبل الشك ابدا، في ان الفنان الروسي عموما كان ينظر الى قصة غوغول هذه باعتبارها مادة صالحة لتطويعها والتعامل معها في مجالات فنية اخرى .

في المثقف اليوم