قراءات نقدية

رضة الحضارة: لورنس وبات باركير .. سمات الحرب العالمية تحت عدسة فرويد / مارينا راغاشيفيسكايا

saleh alrazukتحتوي مجموعة القصص القصيرة (إنكلترا، إنكلترا التي لي وقصص أخرى - ١٩٢٢) لدي إتش لورنس D H Lawrence على العمود الفقري لتجربة الآلام في الخيال الفني والتي يفرضها العالم الخارجي على حياة الأفراد. وهكذا إن الحرب العالمية في شخصيات نصوص لورنس تبدو بشكل سلطة مفروضة على البنية النفسية وليس موضوعا يؤثر ويقلق النظام الاجتماعي. وحاليا تسير على نفس الدرب مقاربة جديدة تهتم بثيمة الحروب أيضا. والإشارة للكاتبة الروائية بات باركير (المولودة عام ١٩٤٣)، مؤلفة ثلاثية (الأجيال) ولا سيما بجزئها الأول (١٩٩١) الذي يحمل نفس العنوان وثم الجزء المسمى طريق الأشباح (١٩٩٥)، وبهما حققت إضافة حقيقية للأساليب التي سأخاطر وأسميها "التحليل النفس/ قصصي".

تقريبا يفصل ما بين الكاتبين سبعون عاما، وحسب عدة دراسات نقدية (لمايكيل روس وكارول سيغيل وبيتر بريستون) (١) كلاهما يرتبط بنفس العلاقة التي ربطت ما بين لورنس وفرويد، فقد شخصا أمراض الحضارة نفسها، ولكن قدما علاجا مختلفا. فطريقتهما في تحليل موضوعة الحرب العالمية الأولى، والتي تتضمن حمولة نفسية عميقة، تجمعهما مع فرويد، وتقودهما إلى "حوار خطابي" مثمر.

لقد ركز لورنس وباركير على رضة الحرب، وعلى الأثر الضار للغرائب والانحرافات التي تلحق بالحضارة من تراكم المحن بعد المذابح الجماعية. وكان تأثير ذلك على اللاوعي، كما يقول فرويد، هو نفسه ويشبه القوى الهدامة التي تثور في سيكلوجيا الأفراد. وكما بيّن فرويد"تحرم الدولة على الأفراد ممارسة الأفعال الشائنة، ليس لأنها ترغب بمنعها، ولكن لأنها تود تعديلها" (فرويد/ الأعمال الكاملة).

والآن لنترك روايات لورنس. حيث شبح الحرب يرخي سدوله. ولنحاول اكتشاف الاهتمامات الإيديولوجية، ومتابعة الملاحظات التي قدمها لنا بيتر بريستون كدليل ومعيار على أن (أبناء و عشاق) هي النص الداخلي الذي يملأ الحيز في ثلاثية باركير (بريستون/٣٢). وسأنتقل من هذه الفكرة لأربط قصص (إنكلترا، إنكلترا التي لي) مع روايتي باركير. واسمحوا لي أن أشير إلى التماثل البلاغي بين لورنس وباركير: أسلوب تبادل وتعاقب الشخصيات، والأسلوب الذي لعب به الرواة بوجهات النظر الداخلية، باستعمال صوت تحليلي جهوري ومؤثر.

يربط لورنس قصصه بعضها ببعض وكأنها دراسة لحالة. وبعكس الروايات، إن الأحداث الجارية في هذه القصص ليست مقيدة بأي حبكة مفصلة وواسعة. وبلا شك، وكما لاحظ كيث كوشمان،"هذه القصص هي أكثر من مجرد تجميع متفرقات" (كوشمان/٢٧)، فهي كلها استجابة وردة فعل من لورنس للحرب.

حينما تستعمل باركير شكل الرواية، لا تتواصل مع حياة الشخصيات التي عاشت في وقت الحرب بعقدة واحدة. إنها توزعهم مثل جزئيات في موزاييك، مع خطاياهم الشخصية، وحنقهم، والقمع الذي يتعرضون له ... وكانت استراتيجية السرد تتوازى مع افتراضات تحليل نفسية حيث أن "التعرية النفسية والإجهاد البدني يتسببان بتشظي الذاكرة"(جيكيريسكي/٩٤٧).

هنا يمكن تطبيق عدسة فرويد على أعمال لورنس وباركير ولا سيما على صور الشخصيات التي تنتمي لفترة الحرب والتي هي من الطبقة المتوسطة ومن بين أفراد الطبقة العاملة سواء الرجال والنساء والذين يعانون من حالة الشقاء الناجمة عن عقدة الدينامو النفسي. إن اختيار كل من الكاتبين لشخصيات الصف الأول مع ما ينطوون عليه من وعي طبقي مأزوم يمكن شرحه موضوعيا بالعودة لسيرة حياة كل واحد منهما. فقد شق لورنس طريقه إلى الطبقة المتوسطة، بحثا عن تأييد ودفء وتواؤم طبيعي لخلق حالة ارتباط مع الناس العاديين (٢). ولكن باركير ولدت في عائلة من طبقة عاملة كانت بلا أب (يعني رب العائلة غير موجود)، وشقت طريقها الشائك إلى الطبقة المتوسطة دون أن تهجر تماما موضوعة أصولها الطبقية.

وهكذا تخصص كلا الكاتبين في رواياته بالمشاكل الناجمة عن التبدل في بنية الطبقات داخل المجتمع الإنكليزي. وقد كانت الحرب العالمية، على الرغم أو بسبب أثر الرضة التي فرضته، عبارة عن عامل تكافؤ هام. وهذه الفكرة تجدها في (الكانغر) والتي في بعض اللحظات تعتمد على وصف لورنس "للعمال" الأستراليين: فقد رسمهم بشكل رجال من كل الطبقات وعادوا للتو من الحرب.

وتجد صدى ذلك في رواية (أجيال) لباركير حيث يقول الدكتور ريفيرز:

"ستكون الأحوال أكثر انفتاحا بعد الحرب. لو أن مئات الألوف من الشباب تُركوا لمصيرهم بين أفراد الطبقة العاملة بطريقة لم يعرفوها من قبل. هذا سيكون له بعض التأثير" (١٣٥).

غير أن هذا يختلف مع فرويد. فهو يرى أن الطبقة العاملة هي السبب في نشر الأمراض. وبهذا الخصوص كلا الكاتبين يهتمان ويستنتجان النظريات العلمية المجردة من الذخيرة النفسية.

وتتابع باركير، وتقول عن ذلك بلغة تحليلية:

واحدة من مفارقات الحرب- من بين عدة مفارقات-أن هذه الأزمات القاسية- تضع الأسس للعلاقة بين الضباط والرجال .. بحيث تكون منزلية. ودية. أو كما قال لايارد بلا شك، أمومية (١٠٧).

وفي قصته "الأحمق" يؤكد لورنس على هذه الصفة الإشكالية، حيث أن العلاقات بين الرقيب وجو الجندي الأصغر كانت دافئة وعاطفية: "ألبيرت صاحب مقبول حقا، ولا يمكن للحياة أن تكون أفضل من ذلك! بعد فلانديرز أصبحت جنة بذاتها"(٦٤).

وكما نرى، كانت استراتيجية باركير ولورنس في دراسة رضة الحرب تتطلب من الشخصيات الاهتمام بتنشيط الذكريات عن أكثر أنواع القمع الذي تسببه الحضارة.. شروطها وممنوعاتها (التابو)، بينما هي تحاول أن توازن بحثها عن السعادة الفردية بالانتقاص من دور سعادة المجتمع ككل. وكان فرويد قد عبّر عن هذه المشكلة بمصطلحات التحليل النفسي بقوله:

[...] إن تطور الفرد يبدو لنا ناجما عن التقاطع بين الدوافع، دافع السعادة، والذي نسميه بالعادة " أنوي"، ودافع التلاحم مع الآخرين في المجتمع، وهو ما نسميه "آخٓرنا"[...]. وخلال سيرورة التطور الفردي، كما ذكرنا، تركز الفكرة غالبا على الدافع الأنوي (أو الدافع نحو السعادة)؛ بينما الدافع الآخر، الذي يمكننا تسميته بـ"الثقافي"، فهو حافل بفرض الحدود والممنوعات. ولكن في غمار الحضارة تختلف الصورة.

 

هوامش الكاتبة:

١- مايكيل روس" دور التدقيق والمراجعة: لورنس كنص داخلي في روايات بات باركير".

٢- هذه الفكرة من عندياتي .

 

ماريانا راغاشيفسكايا Marina Ragachewskaya: أستاذ مساعد في النظرية الأدبية والنقد الأدبي. من روسيا البيضاء. لها كتاب (الرغبة بالحب: الحنين السري لقلب الإنسان في أعمال دي إتش لورنس).

 

الترجمة: عن مجلة دراسات في لورنس الفرنسية Études Lawrenciennes، عدد ٤٥، ٢٠١٤. ص- ص ١٨٤-١٦١.

 

ترجمة: صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم