تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

لأنك وحدك أنت العراق .. حروف من لحم ودم

siham-alshujeiriهكذا هي قصائده ومقالاته وما يكتب، تخضع لقانون السهل الممتنع الذي لا يجيده إلا ذو حظ عظيم، يمنح اللغة عيون وأجفان وأحلام، لا يوهم نفسه بالهواجس، بل يغسل أدران الماضي بشئ من أديم وجعه، في يوانه الشعري «لأنك وحدك أنت العراق» الصادر عن سطور للنشر والتوزيع / بغداد / العراق، يستعيد الإعلامي المبدع والشاعر عبدالكريم الحطاب عبر قصائده صور الموتى والأحياء، المعوزون، النافرون من وجع الحقيقة المغروسة في نفوس صابرة، مقهورة، قصائد يستشف فيها كاتبها، حالات مركبّة، يكسو عظامها لحماً، يصطاد المحنة بين حناياها ويلقم الوجع في تضاريسها، فلعبة الكتابة عنده مطر للبوح، ونداءات إستغاثة تشي برؤية حتمية حين يضعها القارئ تحت المجهر، وحين يتطلع إلى قدرتها على تكثيف الشعور، ومعادلته موضوعيا بإستعمال مجساته الخاصة، وهي كما وصفها فعلا الشاعر الجميل منذر عبدالحر في مقدمته للديوان (حين يكون الشعر ملاذا وطنيا) هنا نكتشف شغفه للكتابة بتجليات نرجس المفردة المستقاة من لغة السهل الممتنع، وهو يمنح قصيدته طينته العراقية ذات الصهيل على أكتاف الموت، منذ بدء الخليقة حتى أخر نرجس روحه الهائمة في وجع الوطن، مثلما يمنح حروفه بين أضلع أوراقه بعض من قلقه على وطن يحترق، يقضم ساعاته اللاهفة خلفه، يلوك بسوطه بين مسامات الترقب والحرمان من الحلم، منذ رأى أول مرة نعاس الوطن لا نحره، نحت قصيدة، والى أن طال لحاء أوجاعه، لاذ بمقصلته، فسقطت حروفه تحت ظل لسانه، هبط من رحم المحنة، منقوعة كلماته بتعب الناس، ناسه الذين يقمط وجعهم بالأمل، ويسير منحدرا من سلالات شتى، يتلمس حروفه في خاصرة أمواج تلك المعاناة، وهب ملامحه للهيب الكلمات، يتوالد الهم مع كلماته مثلما يتوالد الحلم، وهو يلفظ عتمات روحه من إنطفاء قنديل الوطن في كنائس روحه، وفي حجر عينيه التي تتلامظ مع قطرات كل نداء في نص موشوم بالوجع، شحذ من أزمنته ملذات العنف وأسترجع صور داستها أقدام الغرباء، وسعى وراء عبراته الذابلة في حنين القصيدة، أستحضر وجه الحبيبة، تلك سمة لاتفارق مفرداته، سمة الوجع، ووجه الحبيبة، سمة الحب، الحرمان، الأمان، الإنتظار، هي سمات إنسانية بلا شك: (كل الأحبة في الغربة .. يتساءلون .. عليك يا حبيبي .. هم .. قلقون .. هل نمت .. ؟ متى أستيقظت؟) كان يمكن ان تظـل هموم (عبد الكريم الحطاب) وأوجاعه طي اوراقها، ككل العراقيين الصامتين عن الأذى والحرائق، لكنها لفتة فارس في زمن غاب فيه فرسان يشبهون نحاة ومنقبون عما تؤول إليه أوجاعهم، وقد تظل هـذه الأوجاع والغصات صماء حبيسة الأدراج، مكتفيــة بـذاتهـا ربمـا، لكن يد عبد الكريم أمتدت إليها كمشرط جراح ماهر ومنحها الحياة والمعنى، كي تصل أوردة حروفه إلينا مثل مسرى شرايين الدم في الجسد! هذه هي رسالة الشعر الإنسانية، اما غير ذلك فهو من فوضى الحياة، لا رسالة تحملها أكتاف البشر لتوصلها لبشر مثلهم: (العراق يعني موطن العروبة .. الهوية .. الطفولة .. الشباب .. وموطن الأحبة .. فكلنا عراق .. ولاؤنا .. إنتماؤنا .. هوية خالدة تعانق الآفاق .. )

حتى لحظة القراءة الأولى لديوان الحطاب عبدالكريم، كانت قصائده تلوحان للقارئ صافيتين يملؤهما السكون مثل ماء العيون في أودية الشمال، تلوحان بالأسئلة، وحين تنظر إلى مفرداته تشعرك إنهما لطالما وشمت شمس تموز ظاهر معانيهما بالسمرة، مثل يد فلاح ينتظر ثمرة تعبه يحضن عبق رحيقها الذي لم يصله حتما!! كان نديف الثلج الذي يعتري صدره منهما مثل وخزات الشوق التي تشبه أعشاب أستحمت بمياه الغبش، يلوذ كالرعاة العائدين في شفق المساء في صيرورة الأزل متوحدين من التعب مع الغسق يتوحد في القصيدة من تعبه وحرمانه، لكن هاجس صوت الأسئلة مدافا بالأمل ما زال يغزل النرجس في روحه:(قد مرت السنين مذ عشش الإحتلال .. ونغمة إجتثاث بعضنا .. تطوف في الأذهان .. كأننا لم نكتف قتلا .. دمارا .. فتنة .. بالزور والبهتان!

تقوم قصائده على ذائقة شخصية ورؤية ذاتية لجماليات اللغة وشفافية مستخدمها، نجوس خبايا كل ذلك فيها، ولم يجرؤ الزمن في إيقاف قرع أجراس قصائده حتى وهو ينحر الملمات بين أصداغ شبابه الموشوم بدمع الكلمة بل حرف القصيدة، ولأن الدالة في ما يشكل الفجيعة، مثلبة قد تمتد ولا مجال لإحصاء خرائبها، فأن هذا الديوان يدون بعضا من الفجائع في الجسد العراقي، وهو يعانق مفرداته بحنو، ذلك أن مفرداته تنسمت في مداد قديس يبحث في ناقوسه عن لحظات وجود، وثورة حضارة، بل مصائر وشعوب وبنيان وأسس ونقوش أيادي سمراء أينما حطت أوراقها الخضر تنقش مسلات للإبداع وقوانين للعشق والعطاء، منذ أن أستل دواته في مداد الكتابة، لمس خيطان الألم ولاذ بشواطئ حرفه، حين ينفرط عقد حروفه الصادقة تلمظ مثل بريق عيون الحبيبة: (العراق .. يعني زمن الجمال .. وتسأليني عنه يا حبيبتي؟ الزمن الجميل .. وكيف كان حينها .. وكيف صار لا يطاق ..)

تنفرط لغته البسيطة من ذاكرته الحالمة بالنقاء، لكنه يحبس أنفاس الوقت لالتهامها، فقد جمع خزين جراحه مغموسا بجراح الوطن وغلفها حزنه ووشمها ببودقة إنتظاره، مشتعلا بالصدق، مستنهضا طعم البكاء والتعاويذ بزفرات عارية، ونثر أنينه في رحم الورق الابيض، حتى أسودت أضلاعه، ذواته المترددات عن قيمة دلالية إعتبارية ذات جدلية لا تنتهي ولا تتعارض مع ذاتية الشاعر وبراعته وتطور أدواته الشعرية التي نسجها وحولها إلى قيمة تعبيرية إنفعالية تستهدف الوعي باللغة كمنظور ورؤيا متنامية لتعرية الحدث والوقوف على علائمه التي توحي بالكثير، وتنبأ عن لظى يعتمل في صدره مستجيرا بلوعة دواته، نصوص كريم هنا تتوفر على إبتكار أسلوبي ولغوي أوجد تمازجا واضحا بين الشكل والمضمون، وظف في نصوصه مستويات بنائية عدة، فلكل نص بنيته اللفظية والشكلية والمضمونية، تلك الرهافة التي تشبه رهافة وجوه الاطفال، وتختلف إختيارات المفردات حسب الدلالات والمعاني المضمرة مما يجعلها تشتغل كشفرات قابلة للتأويل وإستخدامه للموسقة اللغوية في النص، والقيام بعملية تنغيم تتوالى حسب الحالات النفسية والشكلية والحركية في النص الذي يتمازج والهم الروحي بصياغات فكرية ولغوية وجمالية تنتمي لتجربة عبدالكريم الإنسانية ورؤاه الإعلامية، وهو يلتمسها، ويتوسلها المزيد من البياض الناصع لكن الجرح أعمق وتضميده أقسى، والإفصاح عن وجع القصيدة، يلهب مفرداته بالإعتذار للوطن، ويلف وجعه بغيوم القناديل وأهات أجراس الكنائس والكاتدرائيات النازفة بالبقاء:(عذرا سيدي العراق .. ومثلك يعذر مثلي .. فكلانا لبعضنا عشاق)

يلتمس في قصائده نبض الشوارع، مع نبض الحبيبة وهي تطالبه بمواسم للحب، يغطي وجع الحرمان بين أضلع المحرومين وينغرس بين أثداءها المتوثبة أنين عابر لا يسمعه أحد، كأنه بإنتظار سماء تمطر الحانا بيضاء فيها من سطوة أفكاره بعض لحن عابر، أخاله لمس أوردة الكلمات، بل أطراف أصابعها على جمرة قفطانه وروحه وهو ينقش الحرف وتتوالد الأسئلة: الانتقام، الطوائف، خدعة المصالحة الوهمية، صناديق الإقتراع، قاعات الدرس، الانتخابات، يوم الحساب قادم، التهجير، القتل، الخلافة، الزور والبهتان، إجتثاث الإنسان، أجندة الجوار، ولادة الأحزان، المتاجرة بدماءنا، أحلامنا دخان، الفساد والخيانة، إنتهاك الأمان،تلتف بقصائده، كل تلك المفردات يجيد الشوق والصمت، وما بينهما غفلة كاهن، ونور قنديل نضب من جرحه زيت التواصل، في هذا البناء هناك مفردات أخرى مادية محسوسة ترتبط فيما بينها بعلاقات تبدو منسجمة تجيب عن الواقع، تتضح تبوح، تهمس، تفرح، تبكي، تصرخ، تغضب، بكلمات رقراقة متدفقة يعجز الحطاب كريم عن إيقافها، بل يسكن حرائق دهشته، ويضيع بين كتل حطامها، ويتكئ على شريان قلبه النابض به، يبدد حروفه برعما برعما في أقراص مهدئة حين ينشره بين التواريخ المتناثرة في الذاكرة كي لا يسقط منها، يرسم في مجاهيل بوحه ويقطف وحشته من ذبول صوت الأيام وهي تنبهه لاختزال ومضات الحب التي تتأرجح في أوردته، منذ وجدها فيه، ويعيشه دون أن يدري!! كأن أصابعه لا تغمض عيونها، هل كان كريم يقود قصائده إلى منصة الإعتراف؟ أم كانت القصائد تقوده إلى البوح؟ كان كل معنى في قصائده موشوم بالأسئلة، بالأمل، رغم يقينه أن وجع الأسئلة ووجع إنتظار الأمل، يلامس شغاف مفرداته، لكنه يختبئ منها حين ينساق إلى الشعر رغما عنه، هل كان الشعر كذلك عند كريم؟ إذ طرز وشم أصابعه على الكلمات والجمل، وأفكاره متناثرة هنا وهناك، فهو أبن المحنة والوجع، تصاهر بأفكاره مع الجميع حين غرس أنين الناس في نبض الشوارع وهو يحاكي الفواجع والقحط، الوجع، الأسلاك الشائكة، أكياس الرمل، عوارض الكونكريت، غياب الخبز وقحط الفرص، الدخان، الرصاص، الحروب، مدن كأنها ثكنة عسكرية لا حياة فيها، وسط هذا الكم من الصراخ والزعيق السياسي، العبوات الضالة، الأصدقاء الوشاة، السياسيون، القتلة والرهبان، الأقلام المغتصبة، غربته بالوطن، يؤرشف المحنة، حتى حين جمع مقالاته المنشورة بالصحف العراقية وصدرت في كتاب تحت عنوان(فاشلون بلا حدود) ضم عديد المقالات التي تناغمت مع هموم العراقيين في ظل الإحتلال وفي ظل الفشل الإداري في مؤسسات الدولة، وفي ظل عمليات العنف والارهاب، وفي ظل الفقر والجوع والعوز والصراع السياسي على السلطة، وهموم أكلت لحم جسد الوطن، وعليه فإن تجربة عبد الكريم الحطاب الشعرية أحد التجارب الشعرية الحديثة التي تمزج الهم الإنساني الخاص بالهم السياسي العام، ولعل إنغماره الإعلامي هو الذي يضفي طابعه الإستطلاعي على النص بحيث أستطاع تحويل المعاناة الإنسانية في ظل ضياع الأمل والحلم إلى قصيدة في متناول اليد، وبما أن التاريخ لا يكتب بالأحاجي والألغاز، ولا يتداوى بالتعاويذ والحجب، فأن ما يكتنف عصب قصائد عبدالكريم الحطاب هي عضلة روحه وأنفاس جوانحه، التي تفرط ملح كلماته في وجيب القلب.

 

د.سهام الشجيري

 

في المثقف اليوم