قراءات نقدية

لورنس ورحلة الحاج لبونيان / بيتير بريستون

saleh alrazukلم يحب لورنس رواية "رحلة الحاج" لبونيان1. وفي ١٧ شباط من عام ١٩١٦، كتب رسالة مطولة إلى كاترين مانسفيلد وجون ميديلتون موري، ناقش فيها دستويفسكي، وكان موري خلالها يكتب دراسة نقدية. ووصل لورنس إلى النتيجة التالية:

هذه حكايات خرافية مدهشة، إنها روايات، ولكنها فن مزيف. إنها مجرد خرافات فقط. أنت تفهم منها أن كل الناس ملائكة وقعت بالخطأ- وهم نفايات قذرة. وهذا لا أستطيع أن أهضمه. الناس ليسوا ملائكة لوثوا أنفسهم بالأخطاء، إنهم مجرد أشخاص. ولكن دستويفسكي يوظفهم كوحدات ومعايير دينية وأخلاقية، إنهم مقياس للألوهيات، مثل " اليسوعـ [ـي] " زراع يتقدم ليزرع"، أما رحلة الحاج لبونيان فن رديء، وحقيقة مزيفة".

كان على لورنس، عند نقطة خلافية من النقاش حول دستويفسكي، أن ينعطف ليتكلم عن بونيان لأغراض المقارنة وهذا وحده موضوع يلفت الانتباه. برأيه بونيان بطل عظيم لديه اتجاه ديني إصلاحي ومستقل. ومع أنه من الصعب أن تصنفه في عداد طائفة بالمصطلحات الحديثة، فقد جاء من بين صفوف الحركة البيوريتانية واعتبر نفسه ممثلا للفقراء والمساكين ضد الأثرياء والأقوياء. وقد كتب أشهر كتبه في سجن بيدفورد.  

تتابع رحلة الحاج، كما أوضح سبورجيون، لتكون عملا يتمتع تقريبا بوضع قانوني وشرعي بين المسيحيين الإصلاحيين، كعمل تخييلي له صيغة ثقافة دينية تهيمن عليها شبهات إيديولوجيا الخيال الروائي. وعليك أن تتوقع من لورنس احترام بروتستانتية بونيان وعزمه على متابعة مشروعه الأدبي بالرغم من العوائق. ولكن الصعوبة التي واجهها في بونيان كان مصدرها "عقدة تثبيت الغيبوبة والاستغراق" التي تهيمن على رحلة الحاج، وفيها لكل شخصية وموقف دلالة أو معنى دقيق، أو رموزي، تدعمه مرجعيات هامشية لاستيعاب وهضم النصوص الإنجيلية.

إنه على الرغم من استغراق لورنس في الإنجيل كان غريزيا ضد تلك الممارسات، على مستوى الكتابة وبنية النص المادية، وبرأيه، إن تحميل الشخصيات والمشاهد والفقرات لرموز لها معنى إشارة للـ " معنى"، تنتهك الإمكانية التخييلية للكتاب المقدس ولحكايته وتخونها. ولا تترك مجالا أمام القراء لتحريك وتجريب قدراتهم التخيلية الخاصة، والنظر إلى نص الإنجيل كنقطة بداية وانطلاق وليس كهدف يجب الوصول إليه.

وبمصطلحات هارولد بلوم، يستسلم بونيان للكتاب المقدس باعتبار أنه تمهيد قوي يحرضه ذهنيا، بينما يواصل لورنس صراعه معه.

(وربما يجب على القارئ أن يتوقف هنا قليلا ليفكر بما يبدو أن لورنس لم يكتشفه في بونيان، والذي على الأرجح كان له دور مؤثر في أعماله - ولا سيما حالة "رحلة الحاج" كنموذج يدل على النص البنائي والنفسي الذي تميزت به معظم روايات القرن التاسع عشر. إن الموضوعة المستمرة في الرحلة، والتي تجد مصدرها جزئيا في روايات البيكاريسك، تميل لحالة دنيوية غايتها البحث والطلب وهدفها أورشليم الجديدة التي تجتذب الفرد الناضج الذي حقق نفسه، والذي يرتحل إليها بغاية إنجاز - ذاته بالرغم من سلسلة المخاطر على الطريق، إلى جانب المغويات والخيارات المفتوحة.

مثل هذا الأسلوب يميز أحداث وتفاصيل جين إير (١٨٤٧) لشارلوت برونتي والطاحونة على نهر فلوس (١٨٦١) لجورج إليوت وهما رواياتان بدأ لورنس بالإعجاب بهما ولكنه كان يشك بهما أيضا. إن رحلته تنطلق باتجاه مدينة مقدسة مختلفة وفي النهاية يصل إلى هدف مختلف فعلا. والأخوات برانغوين، وجيلبيرت نون، وألفينا هاوتون، وأهارون سيسون، في الرواية التي تحمل بوضوح شديد آثار وعلامات بنية مماثلة لرواية بونيان، كل هذه الشخصيات، مثل كريستيان، تنطلق برحلات تقوم بها الروح، وترتحل في مشاهد ومناظر هي تفسير حي وبليغ للعالم المعاصر - إن واقعية بونيان ذات مواصفات مختلفة يتصف بها عمله وبها لا يحوز لورنس على تقدير مناسب، وإنما على قدر يسير من الانتباه كما يبدو).

وفي النهاية، بالنسبة للورنس إن مشكلة بونيان هي المشكلة التي تعاني منها كل الأعمال الأدبية التي تستعمل المجاز: الحساسية التي تسبق الخلق والحساسية التي تلقي بشخصيات وظروف أو حالات بونيان في الوجود ومعها المعاني المسبقة والمحددة سلفا. كتب لورنس في القيامة يقول:"كرهت المجاز حتى وأنا في مرحلة الطفولة، كرهت أن يكون للناس أسماء لها صفات مجردة... الإنسان هو أعمق من أن يكون كريستيان.. وأن يكون الناس مجرد شخصنة لبعض الخصال يعني بنظري أن يتوقفوا عن أن يكونوا أناسا". ومثل خالقهم إن شخصيات بونيان، بمصطلحات سبورجيون، هم إنجيليون. وكنصيحة لرجل دين، يحذر سبورجيون من قراءة كتب كثيرة العدد، ويدافع عن قراءة الكتاب المقدس فقط، فالإنسان الذي " يكون الكتاب المقدس بمتناول يده ورأس أنملته على الورقة ليقلبها، وفي نفس الوقت يكون الإنجيل في داخل قلبه، هو بطل في إسرائيل"، هو " بطل مقلق ومخيف". وفي مقالة كتبها قبل عشرين عاما، يربط توم بولين قصيدة لورنس " أزهار البابونج والحناء" مع "أسلوب شاهد يعرفه كل من يصغي إلى واعظ في الشارع أو أنه يحضر الصلاة في كنيسة إفانجيلية".

إن تصوير القصيدة لفكرة الإكسودوس تبدو كما يراها لورنس شيئا " ينطلق بشكل طبيعي من إرثه البروتستانتي البيوريتاني " ويضمّن عدة أمثلة من رواية باميلا لريتشاردسون وصلاة جماعية من الدكتور إيان بيزلي.

في النهاية، يقول بولين، إن قصيدة لورنس هي دراسة في الإغواء والمخاطر والجاذبية.. عن استسلام الذاتية الشخصانية لحركة الجموع العريضة". وبذلك النشاط للذاتانية البيوريتانية القاسية كان بمقدور لورنس أن يقاوم الإغراء. وهذا لا يتضمن، على أية حال، أنه تم استيعابه كله في مصطلحات تلك التقاليد المتزمتة. فكلمات الاختلاف والإصلاح والاستقلال هي الكلمات التي يمكننا بسهولة أن نجد لها تطبيقات في أعمال لورنس.

ثم إن تلك الهيمنة، والغمر بالكتاب المقدس، والتشرب حتى يصل إلى الضمير ليصبح مصدرا للمفردات والصور والإيقاعات، قد رافقه تفسير عدائي نشيط يعمل على الوعاظ ومعلمي مدارس يوم الأحد، إنها أفعال ونشاطات يجب مقاومتها:"ليس الإنجيل وحده الذي دخل إلى الوعي، وكأنه بصمات أقدام لا تحصى تطرق على السطح بصلابة وعزم وتصميم، ولكن بصمات الأقدام كانت متشابهة ميكانيكيا، فالتفسير متكرر، ولا يوجد تشويق يدعو إلى الاهتمام".

ومع ذلك إن اهتمام ولهفة لورنس لم تذهب تماما. لقد ترعرع وعاش بين شعب أهل الكتاب، وذلك الكتاب شكل طبقة عميقة في وعيه. ومقاومته الدائمة والواعية للتأثير القمعي بالإمكانية وليس الفعل. والمعاني المتكررة قد أكدت أنها مثمرة على نحو واضح في نصوصه، كما بين لنا تيري رايت. والشريحة الإنجيلية، قد تعمقت فيه، ولكنها تركت فضاء لمفردات غيرها - لخطاب من نوع مختلف- فازدهر خياله وتغذى على غذاء آخر. ربما إن جزءا من دماء لورنس إنجيلية، ولكنها لم تكن تهدر في أعماقه بحرفية الإنجيل وبنصه.

1جون بونيان: كاتب بريطاني من القرن السابع عشر. وظهر الجزء الأول من أهم أعماله وهو (رحلة الحاج) عام 1678. وهي رواية ملحمية تقوم على تفاصيل حلم يبدأ برحلة من مدينة الخراب إلى السماء. ويواجه بطل الرواية الصعاب قبل أن يصل إلى بوابة السماء.

*معاون مدير مركز بحوث لورنس في جامعة نوتنغهام. والمقالة جزء من محاضرة حصل المترجم على نسخة منها من المؤلف قبل وفاته.

 

ترجمة: صالح الرزوق

في المثقف اليوم