قراءات نقدية

الشاعر حبيب السامر يصنع الجمال في لحظاته الشعرية

wejdan abdulazizحين قراءة قصيدة (هذا العام نريده مختلفاً) للشاعر حبيب السامر، احالتني الى تعريفات علم الجمال، فالجمال هو" العلم الذي يبحث في الجمال والذوق والفنون الجميلة، ويختص بتوضيح فكرة الجمال كسمة مميزة للأعمال الفنية كما يضع المبادئ السليمة التي تكمن وراء الأحكام الجمالية.ومجال البحث فيه ينصب على الجمال والذوق لا على الجمال وحده إذ لا قيمة للجمال إن لم نتذوقه. ويتجه نحو الفنون الجميلة التي تزخر بالجمال وليس نحو جمال الطبيعة إلا إذا تمثلها الفنان بأعماله والبسها زخارف إبداعاته وبثها اشراقاته. وكذا فالجمال لا يختص بتوضيح فكرة الجمال فحسب، بل باعتبارها سمة مميزة للأعمال الفنية التي بدونها يعد العمل الفني غير ذي قيمة. وكذلك لا يضع مبادئ فحسب، بل يشترط فيها أن تكون سليمة حتى يصدر عنها أحكام صحيحة ونؤكد ثانية أن هذا التعريف هو اشمل تعريف للجمال وعلمه ومنهجه. وهكذا جعلتنا هذه القصيدة نبحث في مجالات علم الجمال، كون الشاعر تعامل مع لحظاته الشعرية بما يكتنف عوالمه المحيطة بالجمال، فاقترح بادي ذي بدء على حبيبته الشجر والضوء والعطر ومزج هذا ببياض القلب الذي لايعرف سوى الحب .. فهو عاش مفردات الجمال الافتراضية خروجا من دائرة الوجع بقوله: (أحاول أن أرمم التأريخ الميلادي بيننا، بقليل من الموسيقى/أعدك ان قيثارتي ستسكب الحان موزارت هادئة هذه المرة، تراقص النوارس/ لن ادخر حبا لقدومك)، وارتكز على هذا الاستدعاء الجمال على ما حمله من رؤية ثقافية لعلاقة وحياة جديدتين تتخلقان في مختبره الشعري .. يقول أ.د عبدالله الفيفي: (وإذ نتحدَّث هنا عن الجَمال، فنحن عن جَمال الفنّ نتحدّث، لا عن جَمال الطبيعة. وجَمال الفنّ أسمَى من جَمال الطبيعة؛ لأنه نتاج الرُّوح، والرُّوح أرقَى من الطبيعة؛ فالرُّوح الإنسانيّة، حتى وَفق المنطق الدِّيني، هي من رُوح الله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين». إضافة إلى ما يُضفيه الفنّ على الجَمال الشكليّ من مُثُلٍ عُليا، لا وجود لها في جَمال الطبيعة. ثم ما يمنحه إيَّاه من خلودٍ إنسانيٍّ، لا يفنَى كفناء الجَمال في الطبيعة. لتلك الفوارق بين جَمال الفنّ وجَمال الطبيعة، قلَّما يختلف الناسُ حول جَمال الطبيعة اختلافهم حول جَمال الفنّ. إنّ جَمال الفنّ جَمال تحوُّليّ، مَوَّار في ذاته، مباغِت لخارجه، وباستمرار. ومن ثَمَّ تُولَد هُويَّته، التي لا تَنْفَد دهشتها. وبما أنه كذلك، لا يُمكن تعريفُه تعريفًا جامعًا مانعًا، أو عَلْمَنَتُه، بحالٍ من الأحوال. وفي هذا السياق يجب التفريق بين ثلاثة مصطلحات، متداخلة في فهم أكثر الناس لمعنى الجَمال الفنِّي، هي: الجَمال، الحُسن، اللَّذة. إن الجميل بمفهوم الفَنّ، ليس الحَسَن، وليس اللذيذ، بالضرورة. فقد يُعَدّ القبيح جميلًا فنّيًّا؛ للمهارة الجماليّة في التعبير عنه، وللمعنى الروحي المتوخَّى في ذلك التعبير. وقد يكون غير اللذيذ، أو حتى المقزِّز، جميلًا فنّيًّا؛ للمهارة الجماليَّة في التعبير عنه، وللمعنى الروحي المتوخَّى في ذلك. من حيث إن المادة التي يشتغل فيها الفنّ، كما يذهب (هيجل)، وهنا نجد ان الشاعر السامر وبمهارة شعرية صنع جمالا واستدعى الذائقة المتلقية له، لهذا حاول ترميم التاريخ الذي نعرفه سلفا بموسيقى هادئة اولا وتراقص اللون الابيض من خلال النوارس وحتى الابتسامة غير مألوفة، لرسم لوحة من الحب مثالية لقدوم حبيبته .. أي ان الشاعر انفلت من عالمه الضيق الى عالم افتراضي كوني عولمي بدليل قوله الاخر في المقطع الثاني : (لا أريد ليومنا أن يتكرر/دعينا نبتكر تقويم لحظاتنا/ ونكتبه برحيق الكلمات)، .. اذن لايروم التكرار ويستهدف الابتكار، لتكون الكلمات حاملة لرحيق ونكهة خاصة ..و الحقيقة الشاعر الحديث في ظني يمتلك طاقة تخيلية كبيرة على خلاف شاعر الاسطورة قديما، نتيجة ما حققه الإنسان من تقدم مذهل في الميادين كافة. وكلنا يعلم أن الخيال وظيفة من وظائف العقل.. وأن العقل يوظف التراكم المعرفي والفني والتقني... ويوظف الذاكرة المفعمة بالإنجازات، في قيامه بوظائفه.‏ ومن ارسطو فصاعدا بدأ الفكر يفترق عن الشعر لانصراف الانسان عن عالمه الداخلي "ذاته" الى العالم الخارجي بغية معرفة المزيد عنه والتحكم فيه .. بدءاً من هذا الفهم بدأ يفترق الشعر عن الفكر، وبدأ يتميز النص الشعري من النص الفكري، الذي اصطلح على تسميته بالنص العلمي، مع أن مضمونهما واحد في كثير من الحالات.. فكلاهما منشغل بالقضايا ذاتها، وكلاهما يبحث عن الحقيقة... لكن أصبح لكل منهما طريقته واستراتيجيته في التعبير، وفي تناول الأمور... ففي حين نجد أن النص الشعري منذ القدم، قد احتفظ باستراتيجية التعبير الأسطوري، المتمثلة بالغنى الدلالي، وبالنداوة الروحية، وبالدفء العاطفي، وبالحضور الإنساني (الذاتي والعام)، وقبل ذلك كله احتفظ بالتعبير بواسطة الصور.... نجد النص العلمي قد نحا منحى آخر هدفه الانضباط الدلالي، والتحديد المعرفي الدقيق، والموضوعية، والحياد، والاستقلال عن ذاتية منتجه قدر الامكان .. ونركز على اللغة في الشعر، فاللغة أداة توصيل، تحمل المفاهيم بأمانة وحياد... ومنتج النص يحرص أشد الحرص على التحديد والدقة والوضوح، وتكافؤ الدال والمدلول، وفق ما تواطأت عليه المعاجم واستقر في الذاكرة، نتيجة التداول المستمر والمتواتر للكلمات وللأساليب النمطية.‏ أما في النص الشعري، فاللغة طرف أساس، وهي المادة الخام التي تصنع منها النصوص الشعرية، وهي لا تقل... أهمية عن المضمون الذي تتصدى لحمله. بل إن الشاعر يهتم بالتشكيل اللغوي بالدرجة الأولى، فالشعر يكتب بالكلمات لا بالأفكار .. وفي التشكيل اللغوي، أي في البنية الفنية التي اختارها، أو صنعها، الشاعر، أي في القصيدة، لا عبرة للألفاظ فرادى، العبرة للألفاظ، وقد انتظمت في سياق فني معين، لتعطي معاني وإيقاعات، حرص الشاعر عليها، لذلك نجد كيف أن تبديل الكلمات بمرادفها الدلالي كفيل بالقضاء على شعرية النص قضاء مبرماً. والمأساة التي يعاني منها الشاعر، والتي تغيب عن أذهان كثيرين، أن هذه المادة الخام التي يصنع منها الشعر، أعني اللغة، مادة مقاومة، بل شديدة المقاومة... فالرخام، مثلاً، الذي يتعامل معه النحات، لم يكن انسانا... أو حيوانا... قبل أن يحولـه النحات إلى ذلك، لقد كان حجراً غشيماً فحسب.‏ أما الكلمة، التي يتعامل معها الشاعر، فقد حملت معنى ما لقرون طويلة، بحيث لا يستطيع الشاعر أن يفلت من ذلك المعنى المتداول، الذي تلوّث اللفظ به إلا بمهارة الشغل الشعري.‏ والشاعر لا يستطيع أن ينتج نصاً أصلياً وأصيلاً إلا حين يتمكن من استخدام الألفاظ استخداماً شخصياً، فيسمح لبعض معاني تلك الألفاظ بالدخول إلى حدائق آلهة الشعر، ويحرم المعاني الأخرى من ذلك النعيم. أي حين يعلّم تلك الألفاظ أن تقول ما لم تتعود أن تقوله، أو أكثر مما تعودت أن تقوله (حسب أدونيس).. وحين يجبرها على الانزياح الدلالي، بحيث يكون أي معنى معجمي لها إما عرضي، أو زائد، أو الأمرين معاً.‏ والنص العلمي، بحرصه على معادلة تكافؤ الدال والمدلول، يهدف إلى إنتاج نص واضح ووحيد المعنى، وهذا هو النص العلمي الجيد، الذي ينطبق عليه حد النص الذي لا اجتهاد معه.‏ أي المعنى في النص الفكري يمتلك معنى واحد ممكن الفوز بامساكه من خلال التفسير والشرح، اما المعنى في النص الشعري يبقى مفتوحاً باستمرار، ولا يمكن أن يمنح نفسه للمتلقي أبداً، لأن النص يعلن عن موته في اللحظة ذاتها التي يتم فيها امتلاكه.. وهذا ما يحدث مع النص العلمي (الفكري)، إذ يختفي في اللحظة التي يتم فيها استيعابه وفهمه، ويبقى المعنى، الذي من حق المتلقي أن يعبر عنه كيف شاء، بأسلوبه الشخصي... بل إن هذا التعبير الشخصي الخاص هو الدليل على امتلاك النص، وامتلاك المفاهيم التي يعبر عنها.... وهذا مالا يسمح به النص الشعري أبداً، الذي يحصّن ذاته بالشغل الفني وبالصفة التي تنتج بنية تستعصي على القارئ الكسول، لأنها تمانع، وتماطل بالمعنى، ولا تهب، إن هي وهبت، إلا طيفاً من أطياف المعنى، للقارئ المستحق، فتملأ نفسه غبطة ومتعة، بعد أن امتلك مهارة التعامل مع النصوص الشعرية، أي مهارة القراءة والتلقي، التي لا تكتفي بقراءة كلمات النص وفق مسطرة المعجم، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما يمنحه من صور، وما يفيض به من علاقات مدهشة بين هذه الصور الحسية التي ينبني منها النص، لأن تزاوج الصور هو الذي ينتج المعنى، فالمعنى ليس في هذه الصورة أو تلك، إنما في العلاقة بين هذه الصور.... علماً بأن المعنى المقصود هنا هو معنى شخصي خاص بالمتلقي، يتناسب مع تكوينه الثقافي والمعرفي والاجتماعي والسياسي والأيديولوجي... وهذا ما لا يحدث، وما يجب ألا يحدث، مع النص (العلمي/ الفكري)، الذي يبقى المتلقي إزاءه مجرد زبون يستهلك ما يقدم له بسلبية شبه تامة.‏ ونلاحظ انفصال الشاعر عن لحظاته السابقة ومحاولة الالتصاق بلحظاته الحالية التي صنعتها اللحظة الشعرية الان وبقصدية واضحة من خلال قوله :

 

(لا علاقة لنا بما يحصل الآن

خارج هذي الغرفة

هنا تتقافز الفراشات

وهناك

تتطاير الشظايا

ما حدث

أن اختلطت ألوان الفراشات بشفرات الشظايا

وحزت الموسيقى

لكن اللحن ظل ينساب حزينا

حتى آخر الحاضرين

وهو يكرر : أحبك !)

 

فبعيدا عن الحروب المختلفة وشظاياها اللعينة الحسية والاخرى المعنوية برز اللون الذي غطى على هذه الالوان القاتمة .. وكان الحب هو ذلك اللون الفاتح الذي يصنع تلك الحظات ويحلق باجواء الميلاد الافتراضي الجديد

 

ملاحظة:

القصيدة نشر ت الاربعاء 21 كانون الثاني 2015 في ملحق ادب وثقافة جريدة الصباح

 

وجدان عبدالعزيز

 

في المثقف اليوم