قراءات نقدية

الهولوكوست ومصائر ربعي المدهون

تقديـم: أقرّر في البدء بدهية يجب أن يأخذ بها الناقد الذي يتصدى للأدب الفسطيني وهي أن هذا الأدب له خصوصيّة خاصّة ينبغي مراعاتها والسّير وفقها والالتزام بها في أي ناحية من النواحي التي يكتب فيها، هذه الخصوصيّة تكمن في أن الأدب الفلسطيني مرتبط وملتزم بقضيّة تخص الأمّـتين العربية والإسلامية – شاء من شاء أو أبى من أبى - من ناحية وتخص فلسطين من ناحية أخرى وعليه فالشمولية ما تميّزه – أي الأدب الفلسطيني – والواقع المر الذي يكابده يومياً هذا الشعب الذي أبى أن ينخرط في واقع ليس له ولا يمكن أن يقدّم لمشاكله وهمومه التي يفرضها عليه المحتل والغاصب الصهيوني . إن من يتناول أي عمل فلسطيني عليه أن يكون حذراً ودقيقاً جداً في نفس الوقت وإلاّ فليقعد جانباً ويتفرّج .

هذه المقدمة أسوقها قبل البدء في تناول رواية فلسطينية مهمة صدرت قبل فترة ورُرشحت قبل أيام لجائزة البوكر العربية للرواية وأعني بها رواية الكاتب القدير ربعي المدهون " مصائر : كونشرتو الهولوكوست والنكبة "، وهي رواية ليست فلسطينية لأن الراوي فلسطيني الجنسية بل لأن ثيمتها الأساسية فلسطين ومصيرها ومصائر شعبها الذين عانوا الأمرين ولا يزالوا يعانون .

  وللروائي ربعي الدهون رواية سابقة تدور في نفس فلك القضية الفسطينية هي " السيدة من تل أبيب "وقد كتبت عنها حين صدورها ولعل خيطٍ – رفيع أو سميك – يربط الروايتين ببعضهما البعض، أجل ان القارىء للروايتين يلاحظ بوضوح أن الشخصية الرئيسة وليد دهمان يتكرّر في الروايتين والمكان هو أرض فلسطين فوليد يعود في الرواية الأولى لفلسطين بعد طول غياب وفي الرواية الثانية يعود وليد مع زوجته جولي – ابنة إيفانا – الى فلسطين ويتجوّل في مدنها العديدة في حيفا ويافا والقدس وغيرها ولكن موضوع العودة يختلف شكلاً في الروايتين، في " السيدة من تل أبيب " يعود وليد الى غزّة تحديداً بعد غربة طويلة ليرى ماذا حلّ بأهله وبلده وفي " مصائر : كونشرتو الهولوكوست والنكبة " يعود مع زوجته الى مدينة، إيفانا " ودارها وماذا حلّ بهما . هي نفس العودة وإن كانت بشكل جديد فذلك لأن وليد لم يعد هو البطل إنّما شخصيات أخرى . وفي حوار مع الكاتب فقد أكّد لي أن وليد ربما يعود في روايته الثالثة وربما الرابعة ذلك بأن الكاتب يريدها ثلاثية أو رباعية تتناول القضية الفلسطينية بكل مأساتها الشاملة تماماً كما فعل غيره من الروائيين ابراهيم نصر الله مثلاً، وأنا لست أذيع سرّاً هنا بل أُحيي ربعي المدهون على هذه المهمة الصعبة وأدعو له بالتوفيق في مسعاه الخيّر .

 

من ناحية الشكل:

  1- وحقيقة لا أريد في هذه المقالة – القرائية وليست النقدية – أن أسرد وقائع الرواية وأحداثها فهذا يعرفه قارىء الرواة وكذلك فهي ليست مهمّتي لذا أبدأ بتناول الشكل والمضمون فمن ناحية الشكل يلجأ ربعي المدهون الى الموسيقى فيقسّم الرواية الى أربع حركات فنيّة – أو لنقل أربعة أنغام موسيقية مختلفة – تقوم عليها أحداث ووقائع الرواية الجديدة وهو هنا ليس أول واحد يلجأ لهذا التقسيم الموسيقي فقد سبقه الياس مقدسي الياس من قبل ولكن ينفرد المدهون هنا في الربط المميّز بين الحركات بتداخل ونهاية محكمة فتلتقي الشخصيات في الحركة الأخيرة وتنتهي الرواية . هذا التقسيم والاستعارة من الموسيقى شكل فني أبرع من تقسيم الرواية لأجزاء وفصول تقليدية وهو يحسب للكاتب الذي أراد التغيير وإضافة التشويق والإثارة لقارىء روايته .

2- الشكل الآخر الذي نراه في الرواية – كذلك فهو ليس بجديد – تداخل روايتين مع بعضهما البعض فالقارىء يقرأ رواية يكتبها المدهون وفي نفس الوقت يجد نفسه مندغماً – بقصد طبعاً – في رواية أخرى لشخصية روائية يكتب عنها الراوي ألا وهي جنين وروايتها " باقي هناك" وبطلها محمود المدهون وهنا تظهر مقدرة الكاتب ربعي المدهون وتميّزه في تقديم شخصيته وشخصيات احدى شخصياته في الرواية، عالم من المتخيّلات والافتراض ما بين واقع روائي وافتراض موازٍ لواقعه المكتوب وهذه ليست عملية سهلة يستطيع أي كاتب يقوم بها، هي عملية صعبة تتطلّب الدراية والملاحقة المستمرة والدقّة والحذر اللامتناهي . والى جانب ذلك لجوء ربعي المدهون لتقنية حديثة أخرى ومنها الفلاش باك بحيث يجعل القارىء يتابع بحرص شديد وحذر من أن ينسى شيئاً ويقع في الحيرة أو الغموض . إن هذه التقنية عملية صعبة في السينما والتلفاز فما بالك باستخدامها في الرواية الحديثة ! كذلك توالد الحكايات والأحداث من بعضها البعض هو ما يلجأ اليه ربعي المدهون كتقنية أخرى جديدة وبتميّز واضح .

 

من ناحية المضمون:

 ولعل الجديد في المضمون في الرواية موضوعها الرئيس وهو تناول الكاتب لموضوع الهجرة من جزء من الوطن الى جزء آخر وترسم الحدود وتنقطع الصلات كما حدث مع محمود والد جنين والعائلة عندما يهاجر من غزة الى عسقلان خلال النكبة 1948 ثم الهجرة من الوطن الى خارجه وقضاء سنين طويلة بعيدة عنه ثم العودة اليه بشخصيات وحيوات أخرى حتى يكاد الفلسطيني أن يظهر وكأنه خارج الإطار أي غير فلسطيني مثل وليد دهمان وجولي ابنة إيفانا – وهذه تعتبر بريطانية لأن أبيها انجليزي .

 إن مصائر الفلسطينين في النكبة وبعدها تختلف وتتمايز ولكنها أبداً لا تشبه الهولوكوست الصهيوني المزعوم فهؤلاء جاءوا الى بلاد وشرّدوا أهلها، أجل هم ليسوا شعباً وإنما شتات من هنا وهناك وإن نجحوا في استلاب أرض فلسطين فلهذا النجاح عوامل وأسباب عديدة إن شاء الله ستزول يوماً ويعود الحق ويعود الأهل الى أرضهم فلسطين . مصائرنا تختلف وهجراتنا تتمايز داخل الأرض الفلسطينية وخارجها الى العالم العربي أو البلدان الأجنبية الأخرى وذلك توالي النكبة الكارثية .

أبداً ليست المصائر واحدة فالهولوكوست الصهيوني والمحرقة كذب وافتراء كما يقول الكثيرون مع أن الصهيونية استغلّتها بشكل كبير من أجل كسب الدعم الرأفة واستغلتها أيضاً لابتزاز ألمانيا وأوروبا لكسب المال والقوّة .

وأخيراً – في هذا المجال – نجح الكاتب ربعي المدهون في تسليط الأضواء على نوعية هجرات الفلسطينيين وبالذات من هاجر الى أوروبا وحين يقرر العودة يحتاج الى الفيزا بل الجنسية من العدو الذي استلب أرضه وهنا تكمن الفاجعة .

 

عن الشخصيات:

 تحفل الرواية كذلك بالعديد من الشخصيات المختلفة ولكن أبرز الشخصيات – الغائبة والفاعلة معاً – إيفانا والدة جولي وهي التي كانت تعاني ونرى مواقفها الانسانينة وتركيز الكاتب على هذه المعاناة الانسانية فهي تغادر فلسطين مع زوجها وكأنها كانت مكرهة ( لكننا هنا نتساءل وبحرقة كيف أحبّت من مستعمر بلادها الانجليزي ! ) ثم تحت له ويظهر ذلك عندما توصي ابنتها أن تدفن هنا وهناك أي يوزع رمادها في فلسطين ولندن . شخصية أخرى انسانية جنين ومعاناتها مع حبيبها ثم زوجها باسم ثم والدها محمود وكيف تعاطف مع جارته اليهودية التي كابدت كثيراً من المحرقة كما تقول . إن شخصيات الرواية تزخر بالانسانية والمعاناة الشديدة حتى وليد نفسه وجولي وشاهد مواقفهما حين يزوران عكا ثم القدس ومتحف المحرقة فيها .

 

اللّغة وكلمة أخيرة:

نقطة أخرى أريد الخوض فيها وهي استخدام الكاتب ربعي المدهون للغة الشعبية المحكية في الحوار وهي ما تتميّز به الرواية – بنظري – مع أنه يكثر من ذلك في بعض الأحيان .

وعموماً فالرواية تضيف للمكتبة العربية موضوعاً جديداً وغنى فكري جيد هذا من جهة ومن جهة أخرى تعلي  قدم الأدب الفلسطيني وتدفعه قدماً الى الأمام وأتمنّى للكاتب ربعي المدهون أن تجيء روايته القادمة على نفس النسق بل أكثر منه بكثير حتى يستفيد القراء من تجربته الثرّة .

 

منذر رشراش

 

في المثقف اليوم