قراءات نقدية

قراءة وإضاءة لرحلات: خرائط منتصف الليل لعلي بدر .. فضاء المدن يشذب شعرية يوتوبيا السرد

haidar abdullradaتوطئة: لا يمكننا فصل نشوة الولع (الرحلاتي) بأي حال من الأحوال عن منظومة مسار الجدل النصي التجنيسي الأدبي ونظمه التخييلي ومبانيه البلاغية وربما بات يشكل تقليدا سائدا في معاودة التفكير الكتابي اليوم في مقولات (انتاج المكان / الفضاء) المولدة لأنواع الصور السردية من قبيل البيان / التخييل والتصوير اللغوي والمحاكاتي .. كما أضحى أدب الرحلات من الشائع في زوايا وثيمات سياقية مقولات الانعكاس والتمثيل والانطباع التشخيصي..

المفضية بدورها الى مجمل مجليات شتى الظلال المعنوية لمقولة وخلفيات الصورة المكانية والزمانية والفضائية وتبقى أدبية نصوص الرحلات ولا شك تشكل من جهة ما لنفسها تلك الحاضنة المأربية الجليلة في التآتي لحد الصورة السفرية التي ليست على جهة السفر المكاني فحسب وأنما على جهة تشكلات تدليلية ما من شأنها صنع دلالاتها النظرية والقاعدية في مدار فهم أدوات ووجماليات الفن المكاني في رحم المرجع التراثي العالمي . ومن جهة أخرى يبدو أن أدب الرحلات بوصفه معيارا ملتبسا ومستعصيا على الضبط المخيالي المقايس لدى مخيلة الكاتب الروائي أو الكاتب الشعري ما لم يدعمه بحضورا ــ أي حكاية الرحلة ــ مولدا في السعي لغاية تقنين إدائه الكتابي في حدود صناعة الأنشائية التكميلية والتشكيلية ومقدار ديناميتها في الانجاز الفني لديه إجمالا . هكذا سنحاول في حدود رقعة دراسة مقالنا لفصول كتاب الرحلات للكاتب الروائي العراقي المغترب (علي بدر / خرائط منتصف الليل) لنعاين من خلال أسلوبية

رحلات هذا المنجز حجم كيفية عرض الكاتب لقيم أنتاج المكان / الفضاء وحجم انتاج ذلك التشكيل التقديري في عضوية الصورة السردية الرحلاتية في نقل خرائط مرجعيات كتابتها ونقلها وتحولاتها ضمن أسس خرائطية تقاويم العوامل والمكونات العمرانية والتأريخية والبشرية وتمظهراتها كعرض لمفهوم الصورة السفرية الناطقة بلسان حال الظرف الشعري الراهن في تحاورات السارد مع هوية الأمكنة والشخوص والأضواء والمناظر الطبيعية وعلاقته الشخصانية الانطباعية بمجال الأدباء و الكتاب في حاضنة مقاهي وليل تلك المدن اليوتوبية . من جهة أخرى يبقى رصيد تلك الرحلات ما يشكل خطابا تعبيريا دالا وكيانا رمزيا وجماليا ووظيفيا في مستقبل كتابات الكاتب الروائية.

 

الصورة الوصفية في موسيقى شعرية المدن

ونحن نقرأ تصديرات وعنوانات ودلالات وأيقونات أدب رحلات علي بدر ، تواجهنا قبل الدخول الى صلب زمن فصول رحلاته ثمة مقدمة تبويبية للمنجز نفسه يقول فيها الكاتب شتى من المفاصل الفقراتية التي تخص عوالم نصية وتنصيصات ثقافة الرحلات وعلى نحو اضحت وكأنها وجهة نظر الكاتب الاستقرائية والتوصيلية التي أتسمت بطابع الإقناع والتأثير والمؤانسة والمقبولية في محاولة منه أي الكاتب لتجميل وتحوير نمط صفاتية الرحلة بنوع من المغايرة والتعميمية التي من شأنها بالتالي منح محطة التلقي تلك القيمة التعريفية بتعدد الذات المتكلمة بلسان آحادية الضمير المتكلم في شتى تحولاته الظرفية والفضائية وعلى مستوى راح يتفاعل مع إجرائية محور الأشياء والحالات في تجربة الرحلة : (في الباخرة التي أقلتني الى بيروس ..

تذكرت المقطع الذي أجبر أرثور رامبو على الهجرة والرحيل الى أفريقيا .. أن السماء المخضبة بالبطولة تؤذن بالليل لا بالنهار..أن الحياة الحقة هناك .. في مكان آخر .. رامبو / من الذي يدفعنا اليوم الى الهجرات والرحيل الى المكان الآخر .. حلم اللاعودة ..أم الحلم بالوصول .. المنفى والمكان المستحيل أم الصورة الاستعارية للفردوس؟ / الفكرة التقديسية غير الهندسية للكون

ــ الكوزموس ــ أم الأصول الأولى لأدابنا الشرقية والتي تعني البحث عن العالم المكتنف بالغموض والمحاط بالجمال العصي على الوصف ؟ الأحلام غير المتبلورة عن الفردوس الأرضي أم المكان المجهول دون حدود ؟ . المقدمة) والحق أن نقول بشأن عوالم منجز علي بدر الرحلاتي أنه يشكل في حد ذاته ضمير التنصيص المرجعي التقويمي في نظرية ومحصلات أنساق الصورة الأفقية لقراءة أوليات مدد تراث المدن الأستدلالي وصولا منه الى محاولة توسيع مدار خلجات ومغامرات الأفكار والتخيلات وحلقات التأليف المونتاجي لديه . مما راح يجعل أوليات الأشكال التصويرية في علاقة مطلقة بثلاثية (الكاتب / المدينة / شعرية المتخيل) وهذه المحاور الثلاثية ما راح يفضي منها بدوره الى استقراء أهم المفاهيم والتصورات الثقافية في أتون سرديات ذهنية السؤال المركب والمتاح في تقديم طرحية أفتراضات الأنا الباحثة والمنقبة في متاريس المركزية الصورية الرحلاتية في وجه ومدار اطلاقية معنى الإجرائية الرحلاتية وكيفية معجمها التفصيلي الخصيب في دلالة (رؤيا / فكرة / مواءمة / هوية / استنتاج / دليل / مؤول) ويسفر مفهوم دليل ودال (الرحلة) لدى فصول منجز نصوص (خرائط منتصف الليل) نحو وثيقة من التحدد أو اللاتحديد في مختلف فضاءات نصوص الرحلات بطرق متباينة . فقد يكون هناك رحلة ما تشكل في ذاتها نقطة خصيصة (النص الداخلية) وهناك بالمقابل منها ثمة رحلة ما تشكل في حد ذاتها وحدة كلية ضمن خريطة علاقات المراحل الظرفية وتشعباتها في آفاق الوظيفة الدلالية المزدوجة للسائح نفسه، أن القارىء لكتاب (رحلات علي بدر) قد يتصور لنفسه بأنه يقرأ عملا روائيا حول هوية موضوعة روائية تخص انتاج المكان مع وجود أرضية أنساقه الفنية والأسلوبية في صناعة المروي السردي . كحال رحلة دلالة فصل (رحلة الى اسطنبول) حيث نجد الروائي علي بدر عبر ملامح هذه النصية الرحلية يسعى الى وصف عناصر المكان / الشخوص / الزمان / العلاقات / طبيعة الأشياء الساكنة وغير الساكنة وكأنها تمرر داخل فاعلية علاقة الأفق البنائي الروائي . ذلك لأن جميع تواصيف ومرويات ومشاهدات الروائي في حدود هذه الرحلة قد حلت في بنى مجالية واسعة من الحبك والشد والتعقيد والرسم والتحولات السردية الحركية المنجدلة في دائرة الإجرائية الروائية المتسللة هرميا وعلى نحو باتت الأنساق المتشكلة من خلالها تبدو وكأنها سيناريوهات لقطاتية قادمة من مسارية شريط سينمائي مضغوط بعناصر الفلملة السينمائية وفي كافة عناصرها الحقيقية الراسمة لدور لعبة وصناعة الرواية السينمائية المرتبة في البؤرة والتوظيف والمواقعة والتكوين . فالنص الروائي إذن في رحلات  منجز(خرائط منتصف الليل) قد جاءنا كعنصر فاعل تحت جنح النص الرحلاتي وكنوع متواضع من الأنتشار التأطيري في أفق أنتاج شفافية نص رواية الرحلات المروية بطريقة السارد العليم / المؤلف كإشارات متداعية من المنتوج الوصفي الداخل بنسق علامات سلطة المؤلف وضماناته في العودة الى النص المروي على نحو دلالة جوالة تعكس حقيقة تلك الرحلات السردية في فصول الكتاب .

 

(رحلة الى اسطنبول / في ظلال البازار الكبير

و في ساحة / فضاء آليات رحلة المؤلف الى بنى مدن اسطنبول نراه يستهل في بدء تصديرية كل رحلة فصل من فصول رحلاته بأبيات شعرية لشاعر كبير أو صغير من شعراء تلك المدن التي قام بزيارتها : (رويدا رويدا .. بتمهل وببطء .. وكمثل من يكتشف متحسسا بيديه جسد امرأة غريبة تعرفت عليك .. مع أنك موجودة دائما .. منذ أن اقتنع ــ المغاربون ــ بأقوال كاهن دلف وسكنوا في شبه الجزيرة المقابلة لشاطىء العميان .. بل وقبل ذلك بكثير .. منذ أن بنى الأنسان الأول ملاجىء القصب عند مصب نهر ــ كاغيت هانه ــ في الخليج لتحميه من الوحوش الكاسرة ..منذ ذلك الوقت موجودة كنت وحتى الآن / مقطع من كتاب حبيبتي اسطنبول للكاتب التركي نديم غورسيل) أن دقة وعناية مقولة العتبة الاستهلالية في مركز الحالة النصية المذكورة في أعلى الرحلة السردية الشعرية، هي ما يحدد فيما إذا كان المؤلف / المسافر / الراوي يكرر نفسه في نصوص رحلاته ــ بعد رحلة النص الأول ــ أم أن نصوص رحلاته اللاحقة تكون بمثابة ايقونة تنويعات على متن إيقاع مركب المغايرة في التجربة والرؤية . بيد أنها تبدو بالتالي ــ أي الرحلات ــ قادرة على ديمومة فكرة التوفر في أكثر من نص رحلة وفي هذه الحالة يتكون أكثر من نص رحلوي رئيس للراوي حيث يمكنه من خلاله أن يتشظى في محاور رحلات أخرى متقاربة في التوصيف والإحاطة: (حين وطئت قدماي اسطنبول أول مرة كنت أعرف جيدا أي أرض وطئت .. لا أتحدث هنا عن التأريخ وهو أمر لا يمكن إهماله بأي حال من الأحوال .. ذلك لأنها مدينة تجاوزت هذا الحس العادي الذي نطلق عليه مدينة التأريخ لأنها مدينة صنعت التأريخ ورشحته وعممته..بل شغلت الناس وشغلت التأريخ على مدار القرون الخمسة المنصرمة .) وهكذا يتمكن المؤلف / السارد / السائح من تحويل ذلك المحسوس ــ التأريخ ــ الى صور فنية حيث يعبر المؤلف من خلاله عن قدرته في تصعيد الواقع المعاش ويتمكن بالمقابل منه المتلقي في أن يستشعر حجم ومدى هذه المدينة الجميلة وما يدور حولها من أحساسات عميقة وخصيبة حيث مكنه من اكتشاف ما لهذه المدينة من جذور تأريخية معكوسة داخل روافد حيواتها اليومية من اتزان وانسجام وإيقاع وصور تحصيلية نابعة من النطق العادي لمدركاتها المعمارية والبشرية وقد جعل المؤلف لهذا النطق الأيقوني معنى جماليا يخلع عليه ضربا من الامتلاء في تعامله مع طبيعة الأشياء وما يجري فيها من شرائط احتمالية وخيالية وفنية : (كان السائق كبير السن يرتدي قميصا أزرق ويضع على رأسه بيرية حمراء قانية .. سار بي هادئا من مطار أتاتورك الواقع شمال شرق اسطنبول نحو فندق فيلا زويرخ في ضاحية بايوغلو / كنت أقلب دليل الرحلة الى اسطنبول الذي طبعته دار إيفير في باريس وقد أرسلته لي صديقة فرنسية كانت مولعة بالسفر الى تركيا وقد كتبت لي على غلافه الخارجي مقطعا من رحلة تيوفييل غوتييه الى اسطنبول غير أن هذا الدليل لم يكن يقدم سوى معلومات بسيطة ومبتذلة عن المدينة .. فالوقائع التي تحيط بي والتي كانت تزاحمني من نافذة السيارة كلما رفعت رأسي تكذب المعلومات التجريدية والسطحية المكتوبة بشكل مبتذل في الدليل .. وعلى رصيف البحر حيث انعطف السائق بي كانت البواخر التركية شبه المتداعية مزدحمة كما لو كانت بواخر لاجئين .. واسطنبول الصباحية تفوح برائحة الأحجار و الأزهار الموضوعة في الزهريات بعناية .) أن منظور الإدراك الجمالي الحسي لدى مخيلة علي بدر هو بوضعه لحظات حقائق المعاينات الوجدانية لعوالم تلك المدينة ومدركاتها الكونية ، في حدود أقرب الى المشاهدة الأنطباعية منها الى المشاهدة الأبداعية التي تمكنه من الأحساس بحقيقة الجمال الخالص . وهذه القدرة الأبداعية موجودة في الأنسان المبدع تحديدا حيث تكمن في داخله و في أعماقه الشعورية واللاشعورية ، وهذا الأمر كامن في العقل الباطن أختزنه الأنسان من جراء ما اكتسبه من خبرات جمالية سابقة . وفي هذا المختزن الجمالي تكمن حقيقة الصور والمعاني بشكل دقيق حيث تتداعى عند استدعاءها الأول .

 

دراما يومية في عدسة المشاهدة

أن التركيب في لغة المكون السردي كما في اللغة الشعرية: صيرورة الأداء الفني .. كيفية في الإنجاز وفعل البناء ..

أداء في الخلق والتعبير أو الشكل والتصوير المؤديين الى ابداع المعنى الإيحائي . فالمعطيات الرحلوية في فضاء رحلة تجوال السائح / المؤلف في شوارع وفنادق ومقاهي ومناظر اسطنبول تأخذ بالمعنى المشهدي المصور في لغة وعدسة دراما المؤلف في التقاط المناظر اليومية حيث ينفتح كلام السارد تدبرا وتأملا وتأويلا . وهي بمثابة الصور القادمة من عدسة كاميرا التلقي حيث تجيء على الضد من جنة الأحلام الوهمية أو التمنيات الفنتازيا المفقودة . إلا أننا كقراء وجدنا مجمل كلام ومشاهدات السارد كحالة من حالات مساحة الوصف الشعري المكثف في فضاء صميم مكونات التصويرية المشهدية وتوصيفها المؤثر (توقفت أما بوابة الفندق الزجاجية الكبيرة في شارع جيهان ..هبط مسرعا وترك باب سيارته مفتوحا .. أنزل الحقائب بسرعة فتلقفتها منه عمال الفندق / دخلت الفندق لم يكن مرتفعا كثيرا كان صغيرا متواضعا بثلاثة نجوم ولكنه محايد وحميمي جدا / دخلت الصالة وتوجهت نحو موظفة الأستعلامات .. توقفت أمامها وأخرجت أوراقي وجواز سفري .. ــ عراقي؟ ــ نعم؟ ــ أهلا وسهلا .. ابتسمت .. أكدت لي الحجز أعطتني ورقة قدمت لي المفتاح .. قلت لها بالتركية بأني أريد حجرتي مقابلة للبحر ..

ابتسمت كأنها لم تفهم ما قلته لها .. ألتفتت الى الشاب الذي يجلس الى جانبها وقد فهمني مباشرة .. ابتسم لي وقال لها بأني أتحدث التركمانية العراقية ثم ألتفت نحوي وقال : هنا لا يفهمون إلا التركية الحديثة .. / ساحل البسفور / .. كنت أنظر الى الأسوار الى صفوف الأزهار الشفافة الى التلال العالية العصية على التسلق /هذا المشهد البسيط والمحايد يلح على ذاكرتي كلما سمعت هذه الكلمة السحر التي تنتهي الى عالم الخيال أكثر مما تنتهي الى عالم الواقع .. اسطنبول)

 

تعليق القراءة

أن قراءة نصوص رحلات (خرائط منتصف الليل) ومنذ بدء حلقات رحلة (رحلة الى اسطنبول) وحتى آخر حلقات رحلة (رحلة طهران) نعاين بأن الذات الساردة تتعرض بحكم تفاعلها الحسي مع الأشياء في تجربة الأكتشاف الى خطية من التحولات المشهدية النوعية وتقابلاتها التوصيلية الى غاية جميلة من المغايرة والإطلاق والبنيانية الإختزالية المعبرة . وعبر ما يمكن أن نقوله حول ثيمة تجربة نصوص الرحلات السردية لعلي بدر في فحوى منجزه الرائع (خرائط منتصف الليل) بأنها جملة وقائع نصوصية تستلهم الأجواء المكانية الى مدركات تسجيلية مخيالية خصيبة راح يتمخض عنها بطريقة المحمول الذهني الأنطباعي فضاء المدن وهو يشذب شعرية يوتوبيا السرد . إن الكلام حول دلالات رحلة علي بدر ما هو إلا ذلك الفضاء الذي راح يبني الأحداث الرحلوية لأفعالها وهي تقترن بمنتوجها المونتاجي واللقطاتي التوصيفي الساحر للروائي الذي أخذ من رصيد رحلاته لتلك المدن الكبيرة مع شخوصها المارة وعرباتها ومبانيها ونساءها وشعراءها وأزهارها وأساطيرها وآلهة شعوبها الخرافية بمثابة تلك المخطوطة الذاكراتية لخرائط نصوص منتصف الليل الروائية.

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم