قراءات نقدية

صالح الرزوق: ريادة السياب للشعر العربي

saleh alrazukيوجد إجماع أن السياب واحد من ثلاثة قادوا ثورة الشعر العربي الحديث. ولكن لا يمكنني أن أعتبر القصيدة الحرة ثورة في الحساسية الشعرية. فقد احتفظت بكل القيود التي أكد عليها الكلاسيكيون الجدد، وفي المقدمة الإيقاع ثم تركيب الجمل.

إن الانتقال من رؤية أفقية وخارجية للشعر إلى رؤية عمودية وباطنية هي التي وضعت الأساس لشعرية جديدة، ولو لا بد من مثال أذكر (أغاني القبة) للشيخ خير الدين الأسدي. حيث حاول في الإنشاد الشعري أن يصل إلى مستوى إبلاغ الذات أو ما يسمى بالاعترافات الذاتية. ولا أعتقد أن هناك أحدا سبقه بهذا المضمار غير (اعترافات القديس أوغسطين). فقد قدم رؤية تكوينية لعقل انفصالي.

ومثله أورخان ميسر الذي ابتعد ما أمكن عن خطوط الاستقرار ودخل في المناطق الهامشية للإجداب الشعري. بمعنى أنه بدل الترتيب، وضع الخيال في المركز والعقل في الهامش. ولذلك كانت قصائده انفصالية أيضا، تعيد صياغة التجربة الشعرية من منظور مفارق.

وللتوضيح لقد أسقط الخيال ورواسب اللاشعور على المنطق، ليبدو العقل موضوعيا، بلا قيمة عملية، أو مطلقا يمكن تعميمه.

وأستطيع أن أعزو هذه الفلسفة بشكل عام لظهور وتكوين الخوارج بعد أزمة الرئاسة في صدر الإسلام. فهم جهاديون ومعتزلة في نفس الوقت. وربما حملوا أعراض التصدع الذي لحق بالدولة بعد اغتيال رئيسها الثاني الخليفة عمر.

وهذه هي في الحقيقة فلسفتنا في الحداثة.

إنها رومنسية متأخرة تحمل علامات نظرية انفصال الأجزاء. وتشير لأزمة العقل العربي الضائع بين ذات تفشى بها الورم وواقع متخلف وبطيء واغترابي.

بالعودة إلى السياب لا أريد الإيحاء أنه ليس رائدا من رواد الحداثة لأنه تجرأ على  الظواهر الثابتة في الشعر العربي. واستطاع أن يدمج خيال الصورة مع الصوت ليكون الإنشاد الشعري مونولوجيا.

لكن كما أعتقد إن تجربته قصيرة بالعمر، وتعاني من شيء غير قليل من القلق وفوضى المشاعر، ويمكن أن ننظر إليها كمشروع لم يكتمل، كما هو حال أعمال كافكا وبودلير ورامبو.

ومن المناسب القول أنه غلبت عليها نزعات مادية وحساسية شعرية.

بالنسبة للطرف الأول كانت لديه عقدة المرأة. فشكل وجهه الدميم ونحوله المفرط وضعاه في خلاف دائم مع ذاته. ونفوره من الإيديولوجيا لم يدل على مبرر سياسي. بالعكس كانت وراءه مبررات أخلاقية، وتحديدا دواعي الاختلاط بين الجنسين.

ويمكن أن نفسر انقلابه المستمر على نفسه وفق مبدأ الثورة الدائمة ورهاب المرأة، وكأنه نسخة محلية معدلة من التروتسكيين. فهو قليل الثقة بالاندماج، يشعر بالغبن من المرأة، وصورة المومس واحدة من الرموز الثابتة في تجربته مع الشعر.

ولذلك  استخدم الرفض والعدمية كوسيلة للدفاع ضد الأعصبة، وهي وسيلة استباقية. حتى أن هجائيته المعروفة لباريس انطلقت من عدائه التقليدي مع الجنس الآخر. فقد نظر إلى هذه المدينة كامرأة متبرجة وبلا أخلاق وبائعة للهوى. بتعبير آخر تعامل مع باريس بمنطق المانحة للمتعة المأجورة وليس الواهبة للخصوبة والحياة.

وإذا رأت ريتا عوض أنه من أوائل من كتب القصيدة التموزية فشعره حول الميتروبول تعامل مع نصف الحقيقة فقط، مع موت وجمود العاطفة وضياع الصورة تحت طبقات من الرماد. حتى أنه أصبح بوسعنا النظر إلى السياب على أنه صوت عدة مستويات مقموعة من الذاكرة (بتعبير الدكتور عبد الحليم المدني). وهي ذاكرة انتقائية لا ترى غير الكآبة والعنف والسقوط في عالم كسيح و مريض. واعتمد في تهويل المفارقات والصدوع على الطباق والوصف، أو منطق الشيء وضده (بلغة الدكتور المدني أيضا)*.

لقد كان السياب إنكاريا في فترته الأوروبية. ولم يختم تلك القصائد المبتكرة بنهاية مفتوحة على المستقبل كما فعل في (الأسلحة والأطفال) والتي بدأت بقوله:

عصافير أم صبية تمرح؟

أم الماء من صخرة ينضح؟

وانتهت بقوله:

رصاص رصاص رصاص حديد

حديد عتيق

لكون جديد

وهذا برأيي لا يدل على مشاعر قومية أو مشاعر تدين لتوجهات النهضة في العصر الوسيط، كما برى المحافظون الجدد، فقد كان بوجدانه مع تحرير جوهر الإنسانية كأي شاعر أممي (انظر قصيدته: مرثية جيكور والتي حيا فيها برامج تحرير إفريقيا وآسيا السمراء والهند).

أيضا صب السياب لعناته على دول المركز، سواء التي هي جزء من بنية العقل الكلاسيكي أو العقل الليبرالي، وهذا شديد الوضوح في قصيدته (ليلة في باريس) وتوأمها (ليلة في لندن). ثم في رثائه لهيروشيما بـ  (قصيدة: من رؤيا فوكاي).

ويمكن لأي قارئ أن ينتبه من أول نظرة أن هجومه ليس سياسيا. ولا يحدوه التفكير الشوفيني. إنما هو يعبر عن تناقض حضاري. لذلك أكثر من استعمال مفردات القيامة والرؤيا وجرح تموز وربيع عشتار...

ولكن هذا التشابه العاطفي في المضمون أو المواقف لم يمنعه من توظيف أدوات مختلفة في كل قصيدة على حدة. فقد انتقد الاستيطان بهجائيات لاذعة لها حبكة قصصية. في حين تكلم عن الحرب المحدودة ببكائيات.

وبوجيز العبارة لم يستعمل السياب نفس الأسلوب في الحالتين.

لقد كان ساديا في الحالة الأولى ومازوشيا في الحالة الثانية.

وعلى ما أعتقد أن المازوشية في شعره تغطي إلى حد بعيد على توجهه التموزي الذي حاول القوميون التهويل من آثاره. حتى أن قصيدته عن صلب المسيح (المسيح بعد الصلب) والمفترض أنها تموزية ، بسبب قيامة أليعازر، كانت بلغة المونولوج الدرامي. فقد استعمل فيها ضمير المتكلم ، أي أنه استعار لسان السيد المسيح، كما في قوله: بعدما أنزلوني، وقوله: والصليب الذي سمروني عليه، أو قوله أيضا: فها أنا في قبري، فليأتوا أنا في قبري.

وهذا عندي يحتمل دلالتين: أن الموت ليس عدما. فهو لا يمكنه قهر النفس الخالدة التي وضعها أفلاطون فوق النفس المفكرة. وأن الشقاء الاختياري وسيلة من وسائل التعبير عن الأسف والندم، وبشكل غير مباشر طريقة لا غبار عليها لتحقيق مبدأ إشباع اللذة الفرويدي.  

وربما كانت هذه أقوى نقطة ضعف في بروباغاندا التسويق القومي لشعر السياب. فالعذاب الجسدي لغسيل أدران الخطايا البشرية فلسفة خاصة بالشيعة قبل أن تكون إيديولوجيا تبناها الإغريق في بواكير نشوء فن المسرح.

وإذا كان لا يسعنا إنكار تأثير الأفكار القومية على شعريته جملة وتفصيلا، على الأقل لأسباب كيدية، فإن تأثير رواسب الشعور الجمعي والأعصبة الاجتماعية لها مبررات أقوى.

لقد كان سلوك السياب ارتيابيا مثلما هي أخلاقه مبنية على الشك والإنكار.

ويكفي أنه ضاع طوال حياته الشعرية القصيرة بين قصيدة الشر الرومنسي الأسود كما نظّر لها رموز مجلة شعر وبين القصيدة الجدلية التي تبنّى تعليبها وتوزيعها في تلك الفترة رموز مجلة الآداب برئاسة المرحوم سهيل إدريس. وبرأيي إن هذه الوحدات الشعرية هي بنيويا ذات خلفيات أوديبية. ولكن تماهت في شعرية السياب مثالب أوديب مع المصير التراجيدي لعلاقة الأم بالأب.

وقد ساعده ذلك على إتمام مثاليات عالمه الشعري من الناحية النفسي، وتحويل الأثر التراكمي لقصائده إلى دراما.

أما بالنسبة لحساسيته الشعرية فقد اقترب في نهايات حياته من قصيدة النثر.

لا يوجد لدى السياب إحساس بالفكاهة أو الغبطة، وإيقاعه فردي وذاتي ويغلب عليه النشيج، كبكاء المطر ودوي وقصف السلاح وهزيم الرعود.

ولو قلبت صفحات أعماله الكاملة صفحة صفحة لن تجد غير ايقاعين: متمهل يغلب عليه التأني والتأمل، وموسيقا ابتهالات موجهة للذات العامة، أو ذات المطلق في تجلياته.

وتكاد هذه الإيقاعات أن تضعه في زمرة أكثر النماذج ترددا في تاريخ الظاهرة النفسية للشخصيات القلقة والملحدة (بتعبير عبد الرحمن بدوي).

فإيمان السياب كان لنفي الفكرة وليس لتثبيتها. ودواعيه أساسا سياسية ولا علاقة لها بالدين.

وقد مهدت هذه الصيغ لتحويل ظاهرة الاستماع والإلقاء من على المنابر إلى سلوك إنشاد فردي، بمعنى سلوك مخاطبة وتوجيه أو وجدان.

ومعظم قصائد طوره الأخير، وبالأخص حين كان على فراش المرض، تميل لنمط الكتابة المستمرة. فالقصائد تتركب من صور متتالية ليس بينها فواصل. والفراغات القليلة التي تعزل مكونات كل تركيب يغلب عليه سلوك التهيئة (التمهيد لانعطاف دلالي بلغة بارت(.

ولا يوجد بين رواد الحداثة من سبق السياب إلى هذه الصيغة، حتى محمود بريكان الذي أرى أنه أكثر راديكالية منه تجاه الحداثة وأكثر تعقلا في العواطف، بمعنى أنه أرق ويقف على الجانب الأنسي من العقل الشعري عند العرب، لم يتبع هذا الأسلوب.

وقد سجلت الحداثة أول تجربة ناضجة في القصيدة المستمرة في السبعينات مع أدونيس في قصيدته المذهلة (قبر من أجل نيويورك(.

لقد أنف البياتي من التورط في تفكيك عمود القصيدة الحديثة، ومثله نازك الملائكة، وظفت إمكانياتها في ضبط القفز من فرق التراكم التدريجي أو المتسلسل.

وانفرد السياب بقصيدة من سطور وليس شطرات أو تفعيلات، واكتفى من ظاهرة الإيقاع عند العرب بالفواصل فقط. كانت الأصوات لا تخاطب ذات الشاعر ولا موضوعة الشعر وإنما ذات الحالة.

إن من أهم علامات التحديث عند السياب الطلاق مع البلاغة القديمة، ففي الفراغات داخل بنية التراكيب وظف المجاز بأغرب الطرق. ولضرب مثال على ذلك يمكن العودة لـ (شناشيل ابنة الجلبي) وما كتبه عن وفيقة.

ماذا يعني تشبيه العيون بغابات نخيل في ساعات اليقظة قبل الانتباه؟..

أو بشرفات لا ترى منهما القمر إلا بصعوبة؟.

ناهيك عن المجاز الغريب  في (من رؤيا فوكاي)  الذي يساوي بين العين و تجارة اللؤلؤ.

إن المساحة بين المشبه والمشبه به وحذف حرف التشبيه لا يدل إلا على مخالفة لأبسط قواعد المنطق التقليدي.

ولذلك ثورة السياب ليس في عمود الشعر ولكن في وحدات السرد الجزئية أو ما يسميه العرب بيت الشعر.

وهذا إن ذكرنا بشيء يذكرنا بانقلاب إليوت على المعنى وليس بانقلاب ويتمان على البنية.

وبالمقارنة كان البياتي يميل لتراكيب معروفة لانتاج المعنى المختلف، وهو شرط وجود. في حين وظف السياب تراكيب تسير بعكس الاتجاه لإنتاج نفس المعاني، والتي تجد مثلها كثيرا عند الشخصيات الإلحادية والعدمية أمثال طرفة وعنترة العبسي والصعاليك أيضا.

فالمازوشية التي توقع كل أنواع العذاب بالنفس هي الصفة المشتركة بين أفراد هذا الرعيل.

هل نقول إن حداثة السياب انتقائية وتحتفظ بجزء من ذاكرة العرب؟.

هذا صحيح مع قليل من التعميم، إذا استبدلنا ذاكرة العرب بذاكرة الأفراد ولا سيما من يحمل عاطفة خاصة للجحيم. ولا داعي لذكر الأمثلة فهي معروفة، وفي مقدمتها لوتريامون وبطله مالدورور، توأم الشخصيات الإبليسية عبر التاريخ.

وقد أسبغ ذلك على السياب بنية عضوية متماسكة ستكون أول دليل عملي لما نتعارف على تسميته بقصيدة النثر، والتي أرى أنها المنعطف الأول للحداثة الحقيقية.

 

*أنشودة المطر، اللوعة إلى آخرها للدكتور عبدالحليم المدني.

 

تموز 2016

 

في المثقف اليوم