قراءات نقدية

بكر السباتين: تحرير المدى في قصيدة شجرة الكون للشاعر جميل أبو صبيح

bakir sabatinالسماء الرحبة تمتد بشجرة الكون عبر المدى، تستنطق روح الشاعر وتزرع في قلبه الدهشة كي تتبرعم في بهيم الخوف من المجهول طفولته وقد تحررت من قماطها؛ لتتجول في رحابة المعنى دون قيود، كأنه موسم القطاف الذي يرافقه هديل الروح وموسيقى الخيال المجنح وهي تقتفي أثر السؤال الفطري في مجاهيل هذه الشجرة المباركة حتى يتعبه الترحال عبر الكون الذي تظلل شجرته الكثة قلوب الشعراء ومرابع صباهم، وبراعم روح لا تشيخ في نبض القصيد، هذا هو ابن الأرض الذي يختلي بروحه في سماء مغسولة بأحلامه الفطرية.

إنه تحليق منفتح على المدى لطفولة الشاعر المأخوذة بدهشة اللقاء مع شجرة ميلاد الكون البراقة في سماء تكتحل بظلها الأنهار ومرايا البحيرات المتوارية خلف الأكمات في بهيم الليل الساكن فلا يتخلله إلا الدعاء.

هذا ما يداهم مشاعر القارئ المتأمل كلما توغل أكثر في أعماق قصدية "شجرة الكون" للشاعر جميل أبو صبيح والتي تندرج في إطار قصيدة النثر، حيث اجتهد أبو صبيح على تطويرها من خلال سردياته التي اشتهر بها، وقد تجاوز في سياق ذلك مرحلة التجريب إلى الثبات على محددات في الجوهر والشكل، تجمع ما بين شروط قصيدة النثر وملامح القصة الوجدانية القصيرة القريبة من تيار الشعور، كأنه طواف بالمتلقي في ملامح الأمكنة والأزمنة، فتستلب الشخوص إلى غيبوبة الحكاية إذ تسوقهم الأحداث إلى نهاية مفتوحة على كل الأسئلة، وهو ذاته ما سوف يلمسه القارئ الحصيف في قصيدة" شجرة الكون" الزاخرة بالصور الشعرية، المفخخة بالأسئلة الوجودية، حيث يعربد الخيال فيها كأنه سحبٌ تحاورها الريح الكونية في سماء تتغير فيها الصور دون بداية أو نهاية.. لتحمل القصيدةُ للمتأمل، نكهة روحية تشيع الأمان في أعماقه، كأن الأم ترعى هذه الشجرة بالدعاء، ليغمرهديلها المتسلل بين أجرام السماء أحلامه التي ترفرف بأمان، وثمار شجرة الكون البراقة تغوي المارين بالخيال، والتي لا تشيخ فتجتمع فيها كل الفصول، كأنها نهر خالد من المجرات يشق السماء، والسدم أسئلة منفتحة على المدى المتحرر من الخوف.. وهذا ما ينسجم مع قول أبو صبيح في هذا القصيدة:

"أوراق الشجرة كثيفة

لم يكن الفصل خريفيا لتتساقط

ولم يكن ربيعيا لتخضر

كان الوقت كله فصلا كاملا

وكانت انهار الفصول مجتمعة

نهرا واحدا

نهرا كبيرا من المجرات

هل تنام المجرات!؟"

وهنا تتبدى ملامح البصمة التي زين بها أبو صبيح سردياته، وهذه دعوة للإبحار في عالم هذا الشاعر الممتلك لأدواته من خلال رائعته"شجرة الكون" والتي يستهلها قائلاً:

"الشمس قنديلي

والسماء بيتي

وأنا افترش الرمل بين قبرين

أتكئ على حجر

أراقب شجرة الكون.."

كأن السماء ملتقى الطفل القابع في أعملق الشاعر مع حريته الهائمة بين قطوف المجرات المغسولة بالضوء، فهو لا يرى من حوله إلا فناء الروح التي تراود الحياة فيها كل المحبطات، ثم يجد هذا الطفل على الأفق غيوم من اللؤلؤ الوردي، كأنه وجد من خلال تأملاته، ذاته التائهة بين قبرين تعربد فيهما الحيرة وسطوة الخوف "بين حجارة حبيبين"، حتى تستيقظ الروح المتمردة معلنة عن "أنا" الشاعر التي تنتمي إلى أرض يسعى لانتزاعها من أشداق الخوف وسماء أعلا منفتحة على المدى، وهنا يعبر الشاعر عن هذا الموقف بأبهى الصور حين يقول:

"والسماء ..

حديقتي

زرقة رمادية في مواكب موسيقى"

لكن القلق يداهمه من جديد، فيصور كيف تداهم المواكب الموحشة سياج حديقته التي تمثل الأم بالنسبة للطفل المتمرد في قلب الشاعر، والوطن المنتهك بالنسبة للشاعر الذي يتعبه الوعي، فيلوذ إلى أحلامه التي ترصع السماء كأنها ثمار مغسولة بأحلامه لشجرة الكون، فماذا يقول الشاعر:

"مواكب موحشة

وعلى سياج حديقتي

قمر برتقالي هزيل

يستحم بالموسيقى"

إلى أن تدوي صرخة الشاعر فتهتز شرجة الكون كأنه موعد القطاف قد حان:

"يا لها من موسيقى ..

موحشة ..

لا صبرا ولا شاتيلا

لا الدوايمة ولا دير ياسين"

إنه احتلال مرابع طفولته على الأرض، وملاذه الأبدي في السماء، لا بل هو القمع ذاته لحرية التحليق في سماء يمتلكها الإنسان في كل زمان ومكان، هذا البوح كأنه صادر من نفس معذبة، وهواجس تلتهم رأسه المركون على حجر تيبست فيه الأحلام ونما القلق. فيصف الشاعر هذا المشهد حيث ألسنة النار تطوق روحه المكبلة بالقيود في مرايا عاكسة لعذاباته، ولأحلامه في السماء، كأنه مقبور في أرض ينتمي إليها وسماء يسودها البهيم فيبحث من خلالهما عن شجرة الكون المحاطة بأنهار السدم والمجرات، شجرة الأمل والحياة، كأنها استعادة لأحلام الشاعر، فلنستمع إلى نبضه إذْ يقول:

"ألسنة نارية في شبابيك المرايا

والمرايا سماء

والمساء

يغفو على سرير من الموسيقى

موحش

وأنا بين قبرين

رأسي على حجر

مخيلتي غابات وفضاءات بحار

والقمر الذابل

بأضوائه المريضة

ينعس"

لكن الشاعر يحتفظ بقناديل الأمل لتنير الدروب، لا بل ويتنبأ بثورة ستوقظ الروح من السبات، وترفع السلالم إلى العلا، ثم تدني من قطوف التغيير المتمثلة بشجرة الكون التي تحفها أنهار السدم والمجرات، فتلمع الثمار في قلب الكون بأحلام الطفولة وهديل الأمهات، وحماسة الشعراء، وهكذا يتحرر المعنى من القماط ليَشِبَّ على الحرية بعد أن تنتهي فترة الفطام..

فماذا بعد هذا السيل الجارف من الأسئلة سوى الشلال الذي سوف يرفد البحر بأسرار الحرية التي تعكسها شجرة الكون على مرايا الطبيعة والإنسان، أسئلة فتية لا تلهث فتطرق الأسماع بالموسيقى والغناء:

"فهل تنام المجرات

وتنهض من نومها صباحا

أسال حين تطلع الشمس

هل تطلع شمس أخرى !

فإذن لماذا يمزق هذا الشيخ ثيابه

بيوت مهدمة حوله وأكوام صفيح

وامرأة ممددة على الأكوام

إذن لماذا يمزق هذا الشيخ ثيابه

امرأته رقصت على كفه .. وغنت

ولدت له شهيدا طازجا

ووردة زهرية بأوراق مضيئة

فكيف له

أن يتمدد بين قبرين

أو مدينتين محروقتين!؟".

ثم تأتي الوعود بالريح الكونية، تستدرجها بالدعاء، فماذا بعد!

"ريح كونية تشعل الغابات والموج

وتداعب أغصان الشجرة"

إلى أن ينتبه الشاعر إلى واقعه على الأرض، فيهبط بأحلامه عليها، كأنه يبحث عن إرادة التغيير بين الناس كنبيّ، إذ يمد سلم السماء كي يقطفَ ثمارَ الحريةِ كلُُّ معذب تطوق أحلامَه القيودُ، فتستيقظ في كتاب حياة الشاعر الفصولُ ليصيرَ لحياته معنى، فماذا يقول:

"المجرات مضاءة بالبياض

نساء كثيرات بأجنحة شفافة

وألوان زاهية

على جانبي الطريق

وسلم السماء يمتد

بيتي من بعيد كأنه نجمة

ومعراجي عال

يسبقني فيه كتابي

وكتابي حياة

تستيقظ فيه الفصول

ينهض الخريف مبكرا

يوقظ أمطاره"

إذن هذه وعود لأحلام تطرق الأبواب، شجرة الكون أصبحت دانية القطوف، وسيول المجرات أوشكت أن تشق لها طريقاً على أرض الواقع، ويهلل الشاعر لذلك قائلاً:

"ويرسل السيول

يرسلها بين قبرين

لا القاهرة ولا عمان

لا الرياض ولا الرباط

سيول دافقة

دافقة"

ولكن كيف للحرية أن تتحقق في بهيم هذه الحياة التي تشبه القبر، دون إرادة تنعش الأمل في أعماق المظلومين على هذه الأرض، وهم يفترشون اليباب تحت سماء منتهكة، وتحتلها العقبان! فمن يوقظ هؤلاء من بين القبرين (سماء مصادرة وأرض محتلة)!

فيصرخ أبو صبيح في وجه الصمت المطبق على القلوب والعقول والأحلام تحت شجرة الكون بعد أن دنت قطوفها!! ليجيب بعاصفة من الأسئلة المبهمة، كأنه يذكرنا بأن الإسراف في الأحلام كعدمها.. نعم سيصعد الشاعر إذن حاملاً قنديله وهموم الأرض إلى شجرة الكون.. حيث يعربد الخيال وهو يراقص أحلام الناس في أوهام يتمادى في تحرير حدودها الخيال، ليعلق قناديل الحقيقة والواقع على أغصانها، وهي دعوة صريحة للتغيير على قاعدة الأفعال دون إسراف في الأحلام التائهة في مجاهيل السماء وغياهبها، لينهي الشاعر قصيدته قائلاً في نبرة تتراوح بين الولادة والأفول، معبراً في ذلك عن صراع أبدي يدور بين الظلم والعدالة، لكن الخاتمة ستشهد القارئ على ولادة الفجر الذي يعقب المخاض الطويل:

"شجرة الكون تغني

وسلم وردي إلى السماء

يعزف موسيقى كونية

نساء وأطفال كثيرون

يمتطون ثيرانا مجنحة

يمرحون على الغيم

ويتفيأون بظلال شجرة الكون

وأنا أتسلق السلم الوردي

على كتفي جبال البرانس

وعلى صدري القدس

والسماء بيتي

وقنديلي الشمس

فمن يوقظ زوجتي من سباتها !

من يوقظ ابني!"

مختتماً قصيدته بوعود الشمس التي يألف نورها الربيع، ويستيقظ على واقعها النهار.. وهذا قمة الأمل وجوهر هذه القصيدة التي تمثل ثورة على التخاذل والظلم، وهي دعوة صريحة للتغيير في عالم الرياء المحبط المستشري دون رادع لتحقيق عدالة السماء بفعل إرادة تستمد طاقتها الإيجابية من سمو شجرة الكون والحياة، فيقول الشاعر بعد أن يتنفس الصعداء :

"التلال ترتفع

تفرد أجنحتها للسيول

والسيول دافقة ..

دافقة ..

وأنا بين قبرين

أصعد

أصعد

لأعلق الشمس

على شجرة الكون"

 

في المثقف اليوم