قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (مصابيح أورشليم) لعلي بدر.. زوال أسئلة الهوية في دهاليز المنفى الانتقائي

 haidar abdullradaتشخص آليات وفكرة رواية (مصابيح أورشليم) للروائي علي بدر عنفها الاستعاري على مستوى فاعلية تمظهرات وحضورية السرد الصوري / الوثائقي / الفوتوغرافي / المرجعي وصولا الى جملة أشكال تتحدد تسمياتها في ضوء قصدية وصعودية المتن البؤروي نحو شبكة مجليات توزيعية خاصة بالحدث والاستهلال لتوطين فاعلية المبنى الاشتغالي في فضاءات وعلامات الدلالة التماثلية والقرينية في خطية حركة الملائمة الصنيعية في الرواية . في مسار رواية (مصابيح أورشليم) نعاين وجود ثمة احاطات كبيرة وواسعة وثرية في مجالات متاريس تخوم التواريخ الاستعمارية والفتوحات العالمية الايجابية والسلبية والتي راحت تشكل لذاتها محورا متمركزا في وجه مجليات ظروف سياقية دولة فلسطين المحتلة . ولهذه الإحالات التواريخية الواقعية منها والخيالية منها بطريقة المحورية السردية المشكلة لمرويات أحداث (مصابيح أورشليم) ولهذه الرواية أيضا ثمة وظيفية خاصة تسندها بالأساس جملة من المسندات الوثائقية التي تختص بدورها في حدود صياغة واقعة مشخصات الأرض المحتلة في حدوثاتها الشفوية والتحريرية والفنتازية والحلمية والتصويرية لأثر تلك الوقائع التي تتمركز في حدود فسحة ثنائية (الفرق / الجمع) وقد وفر نظام الفرق هذا زوايا أمنة لظهورات الواقعة المرادة (أدوارد سعيد في القدس) في حين كان حضور نظام الجمع يتآتى بحكم كون الكتابة الروائية كان مبعثها الأصل هو صنيع أدوات إجرائية البحث والتحقيق والأستلهام والتخمين والخيال حول مديات وثوقية الوقائع المثبتة للقارىء بالصور والملفات والتقارير والرسائل حول حالات الجمع المطلوب في أيقونة الوثيقة المرجعية أو المخيالية التي كانت واثبة بين يدي الروائي والسارد نفسه في الرواية .

 

استراتيجية واقعي / فوتوغرافي

 القارىء لرواية علي بدر موضوع بحثنا في دراسة هذا المقال لربما يقع في أعلى مجالات الضفيرة القرائية خاصة وأن مجال كتابة هذا النص يتطلب من الفحص والدقة وسعة البال ما يفوق الوصف الطبيعي لقارىء الرواية العادية . فهي تارة تبدو وكأنها نصية متحركة في أفئدة وثيقة رسمية ومجموعة صور بالأبيض والأسود تتحدث حول أورشليم أو القدس وتارة أخرى تحليلا نفسانيا دقيقا يتوقف عند أدق التفاصيل في طرس حكاية مخيلة استدعائية الوظائفية والتخطيط والترتيب والتسلسل السردي . في حين نجدها في مكان ما من المتن وكأنها قصة تأريخية متجاوبة مع مسلمات شاملة وخاصة في نظرية الزمن والحروب وأنشودة الأديان المتنازعة . إذ أن علي بدر لربما يرى في جملة كل هذه التصورات الشكلية العينية الخارجية والداخلية ما يدعم مضمونه التصوري وبطرائق وبأشكال قد نجدها أحيانا نحن كقراء في فصول وفقرات بعض من مواطن الرواية وكأنها فجوات وغيابات وبياضات وإطالات وزوائد لا طائل للرواية من وراءها . وبهذا الشكل الذي يبدو لنا وكأنه انطباع يسيل من داخل بواطن الوثائق المتحفية والصور القديمة والأقتباسات والإحالات المطعمة بالمعالجة الخيالية والحقيقية . من هنا ترتفع درجة الأشكالوية أعلى في مجال مفارقة حكاية العتبة النصية التي من شأنها التعريف بكيفية وصول علاقة الوثائق والتقارير والصور الى ذهن السارد الشخصية في مستهل حكاية الرواية: (كان صديقي أيمن مقدسي ــ الفلسطيني الأصل ــ والمولود في بغداد في العام 1964هو الذي بدأ بفكرة هذه الرواية عن أدوارد سعيد وهو الذي أخترع شخصياتها وأحداثها ومعجمها ومنذ البداية .. في الواقع لم أكن معنيا أول الأمر بما كان يكتب أو بما كان يقول أبدا .. ولكني وعند استغراقه في البحث وسؤاله لي كل مرة عن مصدر أو كتاب أو عند مناقشة لي ولعلاء خليل صديقنا الآخر والذي يقع على الطرف النقيض تماما من أيمن مقدسي ــ لكل فكرة تقريبا وشيئا فشيئا ومرة بعد مرة وجدت نفسي مشتركا معه في كل ما كان يكتب ومتوغلا معه في كل ما كان يبحث وملتزما أخيرا وحدي بكل ما ورد في هذا الكتاب كلمة كلمة وحرفا حرفا .. لقد وجدت نفسي أنا الكاتب الوحيد لهذا الكتاب لاسيما بعد الدراما المأساوية لأختفاءه) أن علي بدر يحاول من خلال عرضه لهذه الحبكة المتلونة بحسية التوليد والتوليف في كتابة عوالم هذه الرواية . حيث أننا بدورنا نجد في مستهل موضوعة روايته والتي لا نجد فيها بادىء ذي بدء أية بارقة تقانية سوى لعبة تبني مشروعية الكتابة من صديقه أيمن المقدسي الى حيازته ككاتب بشكل أو بآخر للروائية ذاتها . ولكن من الواضح أن لهذه التنكرية في الكتابة ثمة وصايا خاصة قد حلت بميولات الروائي نفسه التي تمليها طبيعة التقانات الكتابية في الرواية الأوربية حصرا على ما أظن.  على أية حال أهتم السارد الشخصية بمشروع صديقه المقدسي الى درجة خرافية في الأخلاص والتبني ما جعله يسرف أحيانا في سرد حكاية لقائه به ومسببات تعرفه به: (كان آخر لقاء لي معه في بغداد قبل ثلاثة أعوام وقد رأيته في مقهى الجماهير القريب من باب المعظم وهو مقهى متواضع يتكون من بهو عريض وواجهة زجاجية وتخوت خشبية يقع في زقاق صغير بالقرب من صحيفة الجمهورية / وكان يجلس فيها قبل الأحتلال الجيل الأخير من الكتاب والفنانين والرسامين والمسرحيين والسينمائيين / كان أيمن يرتدي ذلك اليوم جاكتة مخطط وبنطلونا من الجنز عتيقا جدا .. وقد بدأ عليه التعب والأرهاق بصورة واضحة .. فذقنه لم يحلق من مدة طويلة .. وشعره الطويل غير ممشط وقميصه مفتوح .. وحين جلس الى جانبي لم يكن مرتاحا في جلسته أبدا وكان استكان الشاي يرتجف في يده ولم يتكلم كثيرا معي كعادته أو يناقش نقاشاته المتحمسة كما تعودته بل كان صامتا شارد الذهن على الدوام غير مكترث لأي شيء) . هكذا وجدنا خاصية ودلالة لقاء السارد المؤلف الضمني مع صديقه المقدسي عبارة عن شرطية تواصلية تتيح لذاتها أمكانات المحكي واسبابه وفق انفعالات متواترة تمهيدية ومتشابكة في النفس وفي الحوار والروح في الزمان والمكان، لتنداح كحافزية بؤروية تنشطر عن الصورة المنظورية على هيئة محكيات وصفية ووضعية صغرى من شأنها استدعاء تعددية خاصة في وجه غربة التشاكلية والتقابلية الشخصانية كمسندات ومحمولات من شأنها وضع لعبة الإضاءة والتعتيم قدما في مساحة المعنى والبياض والامتداد التحفيزي للمحكي ذاته ولذاته . وتبعا لهذا نشاهد بأن موقف السارد بجانب صديقه المقدسي أضحى لنا كضرورة ما لأجراء سببية مقصدية لأجل ديمومة الوصول الى محطة المفتاح الروائي الذي يتوقف عليه جل مهام خيوط الوصل والفصل في التمفصل السردي في الرواية . وفي سياق العلامي راح يسأل السارد صديقه حول مشروع كتابه الذي كان مشغولا في انجازه أو ما يسميه روايته عن أدوارد سعيد : (أخرج من حقيبته أوراقا عديدة قديمة وحديثة مكتوبة بقلم الحبر أو مطبوعة على آلة كاتبة .. بعضها مكرر ومعاد والآخر حديث كما أخرج أيضا أوراقا ووثائق نادرة وصورا فوتوغرافية ومخطوطات موضوعة في كيس أسمر كبير وطلب مني أن اطلع عليها ولما بدأت بتقليبها أقترح علي أن أأخذها معي الى المنزل لقراءتها كاملة وكتابة ملاحظات له عنها) وبهذا المضي راح يمنح الشخصية أيمن مقدسي مسودة روايته الأفتراضية الى صديقه الذي راح هو الآخر يواجه ثمة ظروف غير ملائمة في المنزل ليلا مما جعله لم يوفق في الأطلاع على تلك المخطوطة على حد قوله في حدود هذه الفقرة : (عند عودتي الى المنزل وبسبب انقطاع الكهرباء لم استطع قراءة المخطوطة كما أني لم أكن في ذلك الوقت متحمسا جدا للقراءة فكانت زيارتي لبغداد سريعة بل خاطفة واردت فيها الأطمئنان على عائلتي ورؤية أصدقائي والأطمئنان عليهم ولاسيما في ذلك الوقت العصيب من الحرب .. أو هكذا كنت أقول للآخرين حينما كانوا يسألونني عن سبب مجيئي الى بغداد خافيا مهمة أخرى كنت جئت من أجلها وهي أني كنت مبعوثا من قبل صحيفة فرنسية لكتابة تقرير عن الأوضاع السياسية في العراق بعد زوال النظام السابق وحياة الناس تحت ظروف الأحتلال واحتمالات الحرب الأهلية) . لذا نعاين بأن السارد راحت تخضع ظروفه لمحفزات سببية حيث راحت تنهض على أثرها حكاية مجيئه الى بغداد ومنها دخول ذاته في اتصال مع مشروع رواية أدوارد سعيد . ألا أن الأمر لا يتم في اليوم الآخر على ما كان مرسوما له من قبل السارد أي في عملية تسليم المخطوطة الى صديقه المقدسي وودون أن يطلع عليها أصلا وذلك لانشغاله عنها كما أسلفنا سابقا بكتابة تقريره المكلف به من قبل تلك الصحيفة الفرنسية : (غير أن الكتابة أخذتني حتى الصباح وعند الفجر نمت وحين أستيقظت كان الضحى قد انقضى فحملت الكيس الذي يحمل المخطوطة والأوراق والصور والوثائق كاملا دون أن أفتحه وذهبت به الى المقهى وبدلا من الملاحظات التي وعدته بكتابتها له أعددت له اعتذارا مقنعا أو هكذا كنت أعتقد) . بعد ذلك يواصل السارد وصف أجواء قدومه الى ذلك المقهى بوضع توصيفي قاهر لصديقه الذي لم يأت لأستلام كيس أوراق مخطوطته . على حين غرى كان وقت السارد يضيق به ذرعا لاقتراب موعد رحيله : (كان الوقت يمر ووقت رحيلي يقترب وكنت ازداد توترا وقلقا قد أكد لي وشدد بأن لا أترك المخطوطة والأوراق والصور الفوتوغرافية النادرة مع أحد حتى لو لم يأت .. وهكذا وجدت نفسي في المحطة واقفا أمام الباص الذي يتهيأ للأنطلاق) . وهكذا وجد سارد علي بدر نفسه يتصفح في منظومة احتمالاته السوداوية حول أن يكون صديقه المقدسي قد قتل أو اغتيل وهكذا باتت تساوره دوائر تساؤلاته : (أن يكون انتحر .. ربما .. ولكن أين جثته ؟) لعل من أكثر السمات الجمالية في روايات علي بدر هو قدرتها على تكثيف اللحظات الشعورية النفسانية ودوافعها المحمومة وتمييزها قدما بهالة صورية شاعرية تتعالى عن التفاعل الوقائعي الخبري العابر . وعلى هذا صرنا نعاين ملاحظات السارد حول وجود ابطال روايات اسرائيلية في مخطوطة رواية المقدسي وهكذا صرنا نشاهد مشروعية بناء الوظائف والملامح والصفات في رواية أدوارد سعيد حيث ترافقه شخصيات روائية قد تم توليفها من حواضن روايات لكتاب من اسرائيل .

 

تعليق القراءة

في الحقيقة عندما نفكر بذكر كل ما تحمله هذه الرواية من تفاصيل ومشاهد لها من التشعب والعرض والطول ما يجعلنا نطيل في التحديق في أحوال الأشياء الصغير والتي لا تلفت الانتباه في مطاوي صور ومشاهد الرواية المركزية الدالة . إلا أننا سوف نقتصد في مباحثنا عن الرواية وبالقول المقتضب والمختزل في الوقت نفسه، وهو أن هذه الرواية قد اختطت لذاتها مسارا استثنائيا حيث تتصادى من خلالها الصور السردية التي تشعلها في المخيلة مع مساحات الرؤى المقترنة بالزمن والفضاء والذاكرة والتفصيل الأرجاعي . وتبعا لهذا الأمر تظل صراعات أسئلة الهوية الفلسطينية زاحفة شيئا فشيئا نحو مصابيح ظلمات دهاليز المنفى الأبدي في اسرائيل . أن ثنائية فكرة علاقة الضد في دوال (أورشليم / القدس) تشكل في ذاتها واحدة من الثنائيات الضدية المتعددة والمتعارضة في محاور وانساق رواية بدر . كما وتتعدد شواهد الثنائيات في مواقف وحالات الرواية كمحور ثنائية ضدية الماضي والحاضر والروح والجسد والواقعية والرومانسية والمواطن الأصلي والمواطن المستوطن والأرض الوطنية والأرض المغصوبة وتتجسد هذه الثنائيات الموضوعاتية التي يحفل بها المتن الروائي عبر ثنائية (الحكائي / الروائي) والتي نعاين منها ثنائية السرد والعرض والاستباق والاسترجاع والزمان والمكان والراوي المهيمن والراوي المشارك والمؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني واليوميات والرسائل . واذا كانت الرواية في جانبها الأهم تقوم على تعدد الأصوات والخطابات والنبرات واللهجات الأجتماعية والجمالية والفنية . في الحقيقة ان المتمعن في رواية (مصابيح أورشليم) لربما سوف يلاحظ مدى استلابية شخوص الرواية من جهة حقيقة وحافزية حدوثاتهم السياقية والنفسانية والتكوينية . فعلي بدر قد استبد بأصوات شخصياته، حيث نجدهم كدمية القش في بعض الأحيان حيث راح المؤلف ينطقهم بلسانه لا بلسانهم وبرغبته ونشوته لا برغباتهم ولا نشواتهم فكان الأمر بالنتيجة هو أختفاء التمايزات الفعلية لهوية الشخصية الروائية . وبعد وقفة (تعليق القراءة) نعود لنقول : هل تستمد رواية مصابيح أورشليم قيمتها وجماليتها الاعتبارية من أثر الأفكار المرجعية في القضية الفلسطينية والمواطن الفلسطيني أم من جماليات خطابها السردي أم من خلال فورات فقرات مداعبات وهمزات الخمر وممارسة الجنس التي قد جاءت في هذه الرواية تحديدا خطفا سريعا وهذا الأمر ليس بمعتاد عليه في أجواء روايات علي بدر المتخمة بصيحات الأنتعاشات الجنسية الطويلة والمسكرة وبشكل لا يمكن ستره بأدنى حجاب ما ؟ أقول وبلا كلل أن قيمة رواية مصابيح أورشليم تكمن في أنها لم تمتثل للأساليب السائدة الباردة في أدب الأرض المحتلة . بل أنها لم تبالغ بطريقة أو بأخرى في أستخدام عناصر التشويق المجاني والفراغ السردي . فليس هناك سوى لغة الكاتب الشعرية التي تحتفل بالمجاز والانزياحات الصورية الساحرة في وصفها وموصوفها كحال احتفالها بالذات الشبقة في لحظة عريها وتصادمها وتناغمها مع عوالم العاهرات فوق أفرشة الأسرة المنفلتة في صريرها في السر والعلن .

 

في المثقف اليوم