قراءات نقدية

صالح الرزوق: السياق الفني لقصة عائلة

saleh alrazukمن الأصوات الهامة التي رفدت المكتبة العربية بأعمال متميزة في الرواية أذكر اسم كاتب هذا العمل الرقيق والمؤثر الدكتور قصي الشيخ عسكر.

في حياة الدكتور قصي مجموعة من التجارب المؤسية، ومع أنه كان بعيدا عن السلطات والعمل السياسي، لكنه مر بتجارب تشبه تفاصيل هذه الرواية (قصة عائلة).

وهي حكاية تجريم ضابط بقتل زميله مع أنه لم يكن هناك ساعة ارتكاب الفعل الشنيع.

 اشترك الدكتور قصي في الحرب الأهلية في لبنان ليدافع عن الأبرياء الفلسطينيين وضحايا حربين دمويتين هما النكسة والنكبة.

و وربما كانت أشباح الماضي وراء صور معاناة أسرة الضابط المتهم التي تضطر للملمة جراحها واللجوء لمدينة بغداد. كإشارة عن أول  نزوح في الداخل بسبب التمييز الإيديولوجي ، وهناك  تتطور الدراما، لتعيد تركيب مرحلة مضطربة من التاريخ السياسي الحديث للعراق.

و هو تاريخ البلاد بعد الاستقلال والصراع على السلطة بين العسكر، القوميين والشيوعيين.

و في خاتمة المطاف البعث الذي ترك بصمة مرعبة على المشهد السياسي  وحوله من مسرح ثقافة وتاريخ عريق إلى سلسلة انقلابات وإعدامات ومطاردة.

لو وضعت هذا العمل في سياقه ستجد أنه الأقرب للواقع.

فكل الأعمال التي ظهرت عن فترة الخمسينات والستينات غلبت عليها المرحلية، فكليزار أنور كتبت (عجلة النار) عن حرب الخليج الأولى، وعلي بدر كتب (ملوك الرمال) عن حرب الخليج الثانية، في حين تخصص فاضل العزاوي في (القلعة الخامسة) بتجربة السجون والمعتقلات.

ميزة (قصة عائلة) أنها تتكلم عن تاريخ عدة مراحل وبالتوازي معها، وتوظف، غير الوصف المباشر والاستبطان ومتابعة شعور الأفراد وبنيتهم النفسية، تقنية الأصوات.

فهي لا تتبنى وجهات نظر الراوي ولكن تغطي الأحداث من عدة زوايا.

أضف لذلك نضوج الوعي والإدراك عند هذه الشخصيات،

فالراوي الأساسي وبطل الرواية كلها ينتقل مع الأحداث من ولد بعمر سنوات، إلى شاب مسلح بالمعرفة والتجربة العملية، وخلال هذه الفترة يختزن هو نفسه أصوات عمره العقلي.

بتعبير آخر ما يراه بعيون ولد صغير ليس مثل ما يدركه وهو على مقاعد الدراسة في الجامعة، فقد كان يختلس الفرص السانحة ليغيب عن الواقع المؤلم بين صفحات الكتاب.

لدى الدكتور قصي إحساس خاص بالشخصية الروائية فهو يتقمص عالم تلك الشخصيات ويعيد إنتاجه دون التضحية باستقلاليتها.

و لذلك إن معظم كتاباته قصيرة وذات شريط لغوي مضغوط.

و المتابع لكتاباته لا يعرف أين يضعها بالضبط في عالم الرواية أم القصة الطويلة.

و هذه المعضلة الفنية لا تجدها إلا عند الكاتب السوري عبد السلام العجيلي.

مع أنه أساسا متفرغ وينذر نفسه لكتابة القصة لكن قصصه طويلة.

تذكرنا بفجر هذا الفن في مرحلته الطبيعية حينما كان نجومه هم فلوبير وبلزاك،

لا يوجد إحساس موباساني بالفكاهة الواقعية لا عند العجيلي ولا الشيخ عسكر.

بالعكس هما مع عنفية العالم النفسي للشخصيات مثل فلوبير في قصته الخالدة (قلب بسيط).

فكل حدث أو تطور يضعنا بمواجهة مرحلة من مراحل الوعي والإدراك.

و هكذا كان العجيلي يختزل دراما شخصياته، فالحوار لديه ليس هو الكلام المسموع إن شئت الحقيقة ولكن هو التقابل الذي يفرض نفسه بين وعي الإنسان واستقلالية الطبيعة عنه،

و هكذا تستطيع أن تدخل إلى عالم الدكتور قصي.

إنه يتابع ما يجب أن ننفصل عنه عقليا.

و منذ رواياته في الخيال العلمي وحتى أعماله الواقعية تجد شخصيات تنظر لما حولها بشيء من الاستنكار وعدم التهيؤ للقبول.

فإنسانية الإنسان لا يمكن أن تهضمها وحشية وبذاءة ظروف حياته.

و دائما تسحرني شخصية البطل في روايته (المقصف الملكي) وهو ضائع بين عدة اختيارات، إحداها يرمز للغريزة والثاني يرمز للواجب وإدراك المعرفة.

و هو ما يتكرر في (قصة عائل)ة، فكل شخصية تتخذ اختياراتها حسب الموقع الذي وقفت فيه.

أضف لذلك حسب مرحلة العمر التي تنظر الشخصيات من خلالها لدراما السياسة.

ماذا نقول عن (قصة عائلة).

هل هي عمل تاريخي يرصد عدة حلقات من الصراع على السلطة، أم أنه عمل اجتماعي يتابع تطور مدينتي بغداد والبصرة.

بمنظور التصنيفات المهنية إنها تحمل كل هذه الصفات، معا وفي وقت واحد.

فالروايات التاريخية في أدبنا الحديث ليست بريئة من التحليل الاجتماعي، وربما كانت الغاية منها الاختباء وراء شخصيات من الماضي لتوجيه نقد لاذع للحاضر دون خوف أو خشية من الرقابة.

و هذا هو ديدن سالم بن حميش في عمله الهام (مجنون الحكم) والذي يتطرق لكل أوبئة السلطة من قمع وتعذيب ولعب على الوتر الطائفي.

و إذا حذفت البند الأخير يمكنك أن تقول نفس الكلام عن (الزيني بركات) لجمال الغيطاني.

إنها مرثية لمصر التي خسرت الحرب عام ١٩٦٧. وبفرض أزياء تاريخية على زعيم البصاصين (المخابرات) والمحتسب (وزير المالية) والوالي (رئيس الدولة) تمكن من أن يمرر مقولات ما كان يجرؤ على مقاربتها.لا يمكن أن تعزل الجانب الاجتماعي عن الصيغ التاريخية للعمل الفني. وهذا تستطيع أن تلمسه لمس اليد في أعمال من الدرجة الثانية أو أقل في عالم الرواية السورية، وأود أن أذكر (تياترو) لفواز حداد، و(حسن جبل ) لفارس زرزور، إنها روايات تتابع المراحل عن مقربة وتضع انعكاسات تطور المرحلة السياسية على وعينا التاريخي والمعرفي بها.

و هي تغطي عدة مراحل بينها خطوط عزل وتحول من الانتداب إلى معارك التحرير وانتهاء بالاستقلال والصراع على الحكومة، أو شكل التعبير عن الإدراك المعرفي للحساسية الوطنية.مشكلة فواز حداد وزرزور أن الشخصيات لم تتبدل بتبدل المرحلة، فهي تتمسك بنفس الصوت واللهجة وتتخذ نفس الإجراءات من الواقع الاغترابي.

لكن في (قصة عائلة) ينتقل الدكتور قصي من رؤية إلى غيرها. ويغطي جزءا أوسع من مشكلتنا السياسية مع المجتمع.

كيف نضبطه ونديره وفوق ذلك كيف نعقله.

و أعتقد أن هذه هي أهم نقطة في الرواية.

 

صالح الرزوق ٢٠١٦

 

في المثقف اليوم