قراءات نقدية

التحول عن الشعر ماذا يعني ...؟

adnan albaldawiتميز الشعر الأصيل بومضات خاصة، وهذا ما أدركه الشعراء الموهوبون قبل غيرهم عندما وجدوا أنفسهم متميزين قلبا وقالبا، وأدركه النقاد منذ انغماسهم الجاد في المقارنات والمقابلات، وفي الغور في اعماق الشاعرية الحقة، بغض النظر عن مراحل التطور التي تنتهي عادة عند دور الإرتقاء، وذلك بفضل مستلزمات إنبثاق وإيقاظ الموهبة وما يتبعها من وسائل ديمومة العطاء الذي لايجد الموهوب معاناة في تقديمه تحت مختلف الظروف والأحوال، وهذا أمر طبيعي لايتعارض مع المتطلبات الإجتماعية المختلفة .

أما إذا حصل تحول مفاجئ فيه شيئ من الهجران، فذلك مدعاة لكثير من التساؤلات، إذ غالبا ما يعطينا هذا التحول مفاهيم واحتمالات متباينة عن نفسية الشاعر وشخصيته، وعن مدى ما يمتلكه من قدرة على الإستمرار في العطاء،مع الأخذ بنظر الإعتبارأن الشاعر الموهوب حتى ولو انقطع عن النظم لأسباب طارئة خارجة عن إرادته، فلابد ان يعود، بحكم الإحتباس الإنفعالي الذي لايلبث طويلا حتى ينطلق ليؤدي دوره المطلوب تجاه الموهبة، ولعل أقرب تعليل للتحول هو الإفتقار الجذري الى الإمداد الشاعري الطبيعي، لأن الإنفعال المصطنع لايخلق صورة شعرية تنبض بالحياة، ولأن التمويل الثقافي لاينفع الناظم (غير الموهوب) منفعة انتاجية، وهذه إحدى دوافع التحول عن الشعر، وقد يدرك الناظم هذه الحقيقة من خلال قصائده الأولى، ولكنه قلما يصادق على إدراكه هذا لاسيما وهو في مرحلة نشوء لاتخلو من زهو وغرور  رغم علمه بأن عملية رصف التفعيلات وتهيئة القوافي لاتكفي لصنع شاعر، وهذا أمر معروف لايحتاج الى وقفة وطول تأمل، وكل ما تنتظره الحقيقة هو أن غير الموهوب شعريا إذا أراد خدمة أدب أمته خدمة تاريخية أن يبحث عن فن آخر يبدع فيه، لكي لايبقى لقب (شاعر) مبتذلا يحمله من يشاء، ولكي لايُهدر كثير من الوقت والورق لإخراج وإصدار ما لايستحق أن يسمى شعرا بمعناه ومبناه . أما الذين يمتلكون اكثر من موهبة او قدرة،فإن فكرة التحول لاتجد مجالا للتفعيل في مسيرة عطائهم المثمر، فقد مارس النقد مثلا  كثير من الشعراء قديما وحديثا، وكانت ممارستهم طبيعية  متزامنة مع نتاجهم الشعري، حتى اننا نحس بحيوية نقدهم وكأننا نقرا إحدى قصائدهم المفعمة بالحركة والحيوية وصدق التجربة، وهؤلاء لاتسمح لهم ملكاتهم التحول عن الشعر الى النقد طالما يجيدون في المجالين، ولايشمل ذلك الشعراء الذين يدفعهم التحدي الى كتابة مقالات نقدية طارئة تقف من ورائها دوافع استفزاز أو اهداف شخصية، فتأتي كثيرة الإنفعال شديدة التكلف، ثم سرعان ما يعودون الى أجوائهم الطبيعية التي لاعلاقة لها بالنقد .

إن القارئ الجيد يتعامل مع أحكام الشاعر الناقد غير تعامله مع أحكام الناقد غير الشاعر لما يتعلق ذلك بدرجة التفاعل مع النص، ومدى بث النفس الشعري في المضمون الشعري، وتميزه عن بث النفس الثقافي في المضمون نفسه، وحتى لو حاول الناقد غير الشاعر أن يرتفع بإسلوب مضامين نقده الى مستوى صياغة النص الشعري المنقود، من حيث انتقاء واختيار المفردات والتراكيب، فذلك أمر يدخل ضمن ارتقاء هذا الناقد الى درجات نقدية متميزة وليس الى درجات شعرية،لأن التحسس الفطري لمواطن الجودة والرداءة مع القدرة الطبيعية على توظيف الكلمات النقدية المناسبة للتعبير عن ذلك التحسس، هو من المواهب التي لاتقل شأنا عن مواهب الخلق والإبداع لدى الشاعر أو القاص، وفي ضوء ذلك تبقى الموهبة الشعرية حركة ذات ديمومة خاصة  لايخضع رفضها أو قبولها الى مزاج شخصي  أو نفعي يقرر التحول عنها أو ايقافها، وإن الحقيقة تقول: مهما طال عمر التصنع او التكلف في سلوك ما، فإنه لابد يوما ان يقع في دائرة تسليط الأضواء، لتعلن عن جملة من اخطائه وتسرعاته، لذا فمن واجب حملة الأقلام الذين ينشدون خدمة المسيرة الثقافية الهادفة، اختبار قدراتهم اختبارا مبكرا، لكي يقفوا عند ينبوع أصيل يمدهم باقتدار،لاعند محطات متذبذبة يضطرون أخيرا الى التحول عن أحدها الى الأخرى هروبا من عدم المواصلة في اجواء الأولى تاركين بذلك في مذكراتهم بصمة التقصير في تقدير المصير.

 

عدنان عبد النبي البلداوي

 

في المثقف اليوم