قراءات نقدية

ألقي إليك بحجر لقصي الشيخ عسكر (رواية قيد الإنجاز)

صالح الرزوقيعود قصي الشيخ عسكر في روايته الجديدة (ألقي إليك بحجر) لمشكلة الأفراد مع النظام. وحكاية الرواية هي عن مساح أرض (جيولوجي) يهديه رجل أعمى حجرا أخضر مزرقا، ثم يموت. ومن خلال العودة بالذاكرة للخلف، لأيام ما قبل الغزو، وبالتحديد حرب الكويت وإيران، يكشف عن رزايا الحرب والفساد وعن انعكاس الخلاف بين المذاهب على بنية وتركيب الأسرة الواحدة.

ويبدو منذ البداية أن الرواية تضع الفرد بمواجهة عالم متكامل من القوانين والأعراف. ولكنها لا تسمح لهذا الفرد بالاختيار بين الاتجاهات الموجودة أمامه. وتفرض عليه التعريف بنفسه. بمعنى أن مشاكل النظام، وانعكاسات السياسة الدولية على سوق السياسة في الداخل، كانت تعمل على تعريفنا ببطل الرواية، والذي أرى أنه مندوب عن الروائي نفسه.

وأكاد أقول الرواية عند الشيخ عسكر هي بطلها فقط. وإذا تقاسم أفراد الأسرة البطولة في (قصة عائلة)، فقد حمل هذا العبء في (نهر جاسم) مسقط رأسه. ولكنه فيما تبقى من أعمال قصيرة ومتوسطة الطول تكفلت الشخصية المركزية بهذا الدور. وحاولت بناء عالم من العلاقات التي توفر المضمون والشكل للعمل كله.

وفي (ألقي إليك بحجر) يعتمد الشيخ عسكر على ثلاثة أنواع من التناقضات التي تطور الأحداث، وتنقلها من مستوى الوصف والمشاهدة لمستوى الصراع.

الأول هو الاختلاف والتناحر بين أفراد الأسرة. والعائلة في مفهوم هذه الرواية يختلف تماما عن مفهومه في أعماله السابقة مثل (قصة عائلة) أو (رسالة). ويعود ذلك لمجموعة من الأسباب النوعية.

فـ (قصة عائلة) هي نافذة على عالم الانقلابات العسكرية ابتداء من إسقاط النظام الملكي وحتى وصول القوميين العرب للحكم. وهذا يعني أن العائلة هي بطل ومسرح أحداث أيضا. وكل ما كان يجري في الشارع له انعكاس أو موجة مرتدة على أحد أفرادها. وهكذا تلعب العائلة لعبة الثقب الذي استغله هنري باربوس في روايته (الجحيم) من أجل تثبيت المكان وتوسيع رقعة الأحداث والتطورات.

أما في (رسالة) فالعائلة لا تدل على معنى الأسرة. وإنما على شبكة العلاقات ذاتها، كل تأثير وتأثر يشكل نواة لعائلة افتراضية، وهذا مفهوم بضوء شريط الأحداث. فالبطل كان منفصلا عن أسرته، ويعيش في حالة تشرد واغتراب. وهو ضيف أو أنه وافد على عالم بديل.

لكن في (ألقي إليك بحجر) نحن أمام المفهوم الكلاسيكي للعائلة. حتى أن بطل الرواية يعزو للعشيرة دورا أساسيا في تحديد مصير أفرادها.

يقول بهذا المعنى: العشيرة وقرابة الدم حبل النجاة. (فصل 4- المحترم).

ثم يضيف لاحقا: من لا عشيرة له تأكله الوحوش (مصدر سابق).

ثم يختم هذا المونولوج بقوله: الأهل والأقارب سلاح يحمينا (مصدر سابق).

ومن الواضح أنه يقصد رابطة الدم، أو مفهوم العصبية الخلدونية.

وأعتقد أن (ألقي إليك بحجر) هي نموذج مثالي وتطبيقي لمفهوم فرويد عن الرواية العائلية. فالصراع ينجم من الخلاف على أحضان الأم. والأحداث تتطور ابتداء من تكوين عقدة التلصص لدى الابن الأول. والاستبداد ينشأ انطلاقا من مشكلة الأب الأوديبي ودوره في تشكيل اللغة ثم تحديد معنى "آخر غيري" أو القانون، أو المجاز المنفصل عن تخيلات ورغبات الذات.

التناقض الثاني هو تحول نظام المعرفة. ويوجد في الرواية عدد من الشروخ أو التصدعات، ومنها انقلاب صدام حسين على أحمد حسن البكر، والانتقال بمفهوم السلطة من الحزب القائد للشخص القائد. ثم غزو أمريكا لبغداد، وانتقام الاسلاميين من بقايا النظام.

لكن العنف لم يكن يتحرك شاقوليا فقط، بل عموديا أيضا. الضحية كان يحل محل الجلاد وبالعكس. و بلغة الرواية: طالبو الثأر من المتضررين كانوا أيضا لقمة سائغة لبقايا النظام السابق وحلفائهم السلفيين. (فصل 6- القفص).

وتكشف هنا اللغة عن نفسها، ويغيب التعبير المجازي، وتحل محله لغة مباشرة تعبر عن روح الانتقام، والأهم من ذلك عن مشكلة البلاد مع التخلف، وسيطرة إنسان من بعد واحد على مقاليد الأمور. و بتعبير آخر لا يوجد في هذا المستوى خطاب ولا نظام تفكير، ولكن ردود أفعال عنفية. ويمكن القول إن كل شيء يبدو راديكاليا، ويؤمن بمبدأ واحد وهو التصفية والنفي أو الإلغاء.

أما التناقض الثالث والأخير فقد كان بين عناصر الطبيعة..

الحجر ضد الماء، ومخلوقات البحار ضد اليابسة، ثم الأرض مقابل الهواء. و أعتقد أن هذا المحور هو الأوفر حظا في النجاح الفني. فقد تمكن الشيخ عسكر هنا من بناء منظومة مشاعر وأفكار حولت أحداث الرواية من جانبها المباشر (وصف وحوار) لجانبها التأويلي والمجازي، ولا سيما حينما كانت تفسر الواقع بالخرافة، كألوان الأحجار المائية الملونة. وأشكال الصخور في منطقة الهور. وانتحار الطيور التي تسقط في الفخ.

حتى أنه يلخص هذا المحور بقوله على لسان بطل الرواية: إنني أجد الخرافة تتمثل بشكل واقع أمامي (مصدر سابق).

ثم يضيف من باب التأكيد: إني حين أنفي الخرافة أوغل فيها (فصل 9- عواء).

لقد تألق الشيخ عسكر في هذا المضمار، وترك لنا جيوبا شفافة تصور مجتمع جنوب بلاده، وبالأخص الكتلة البشرية البسيطة والمحرومة من المزايا والتي تعتاش على ضفاف مياه الخليج، فالثروة الوحيدة هنا هي الطبيعة والإنسان الأعزل.

كما أنه استطاع أن يصور لنا الطرفين بصورة حامل ومحمول لأسطورة عن المقاومة ضد التخلف والعبودية.

و لتقريب الصورة للأذهان كانت صورة الخليج ثم الأهوار والحياة المائية وصراع الصيادين مع الطبيعة وكائناتها إعادة تركيب (مع تحديثات) لأسطورة عبد الرحمن منيف في روايته المحزنة والمتألقة (حين تركنا الجسر).

ولكن منيف كان يبني على أصداء الهزيمة العسكرية على أرض فلسطين ثم سقوط عواصم المواجهة الأساسية. بينما يأخذنا الشيخ عسكر لما وراء هذه العقدة، التي أرى أنها رهاب خصاء حضاري، ويطورها لعقدة اغتصاب الأب الفرويدي البديل للأم غير الفرويدية.

وأعتقد أن صورة الحجرة الملونة، وما تتضمنه من أساطير وافتراضات، كانت هي الفخ الذي ورط بديل الأب ببقايا الأم. لقد كان الغزو بمثابة نيكروفيليا (كائنات حية وغازية تقتات على بقايا حضارة ميتة). وقد لعب الشيخ عسكر بهذه الرموز وأعاد بناء وإحياء الماضي من خلال هدم الحاضر المزيف.

هل كان سلفيا في طرحه لهذه الأفكار؟.

لا أعتقد ذلك.

فمنظومة المقاومة والإلغاء كانت أصيلة، وهي تشمل الفكر الاستعماري بشكليه الأساسين: الغزو والاحتلال، والاستبداد الذي يستعمر الإرادة الحرة ويفرض عليها عقلا جاهزا ومسبق الصنع. ومهما حاولت تبريره تجد أنه عقل غير تجريبي ويحاكي نفسه، ومكتوب عليه الفشل أو الجمود.

 

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم