قراءات نقدية

اوروك بين أنامل شاعر

أوروك أو الوركاء باللغة الأم (السومرية)، وباليونانية أواوريتش، مدينة سومرية بابلية، عدت احدى أهم المراكز الحضارية ، ومنها سجل الحرف الكتابي منبعه، مهد الكتابة المسمارية، و محفل الألواح الطينية، والحضن الأمن لـ (الآلهة عشتار آلهة الحب والحرب)، هذا مايفسر قدسيتها.

من هذه الثقافة استمد الشاعر العراقي المغترب عدنان الصائغ عنونة ديوانه ("نشيد أوروك"،هذيانات داخل جمجمة زرقاء لاعلاقة لعدنان الصائغ بها) (549) صفحة، لتنقل هذه العنونة حضارة وادي الرافدين الرافضة لجُل الممارسات الموظفة بازاء ارضها وثقافتها .

فجاء الديوان صرخة احتجاج ضد التاريخ المزيف، والسياسة الضاغطة، والسياسة الدينية المقنعة برداء الدين،والجنس الممنوع، وسلطة القبيلة، ليكون هذا النشيد الجامع المانع؛ لأنه أنطلق من عنونة حضارته السومرية وملحمة كلكامش العظيمة، وليحصد جائزة أطول قصيدة في الشعر العربي.

نظم هذا النشيد ليحتضن الأرث الثقافي المتكامل، ينُم عن ادراك ووعي ثقافي حقيقي لمؤلفه، إذ لم يوظف الأشعار بطريقة ارتجالية اعتباطية، انما عن طريق قراءات عدّة لكتب التاريخ والفلسفة والحضارة، لتأتي صياغة شعرية متقنة، ابتعدت عن التكلف المزيف، وأقتربت من منهل فكري بلغة شعرية ناقلة لثقافة عميقة رافضة للضغوط الممارسة ضد ابناء حضارة (بابل، واشور،ونمرود، وإيسن)، بفلسفة أجتماعية شعرية ؛لأنها خرجت عن الممنوع، لتتجاوز الخط الأحمر(التابو).

وأمتازت اشعاره بلغة الحياة اليومية، يفهما القاصي والداني، وهي أقرب الى السهل الممتنع، وبالمقابل تحتاج إلى وعي وفهم حقيقي وقارىء ذكي لفك الشفرات والدلالات المتوارية داخل اشعاره؛ لأنها وأن كتبت بهذه اللغة إلا أنها تحمل تكنيك شعري عالي، رافض لكل القيود.

هذه الحاضنة الشعرية الثقافية هي المعلل الأساس في الأجابة عن استغراق المدة التي نالتها كتابة هذا الديوان، والذي تطلب استنزاف دقيق ومراجعات متكررة، قامت بها زوجة الشاعر (الست ماجدة).

فمن نقده المباشر للتاريخ، قوله:

إلى كذب التأريخ،

أجرجرهُ من لحييته للحانِ،

وأسألهُ، بعدَ الكأس الأول :

مَنْ ساوى رأس الحجاجِ

برأس الحلاج

على طبقٍ

ثم أقولُ له ثملاٍ، بعد الكأس الثاني :

- أمجادكَ محض ضراطٍ تأريخيَّ

في أست العالمِ

لكني بعد الكأسِ العاشر، أطفو منكسر العينين

على رغوةِ خيبات التأريخ

بكأسي

ولا يكتفي بهذا التمرد على التأريخ، بل نجده يذهب ليوظف عبارة جديدة تمثل لحظة للسخرية و الازدراء، يقول :

بالَ الزمانُ على فمنا خطأً حامزاً سيجفّفهُ الطبريُّ على

حبلِ تأريخهِ أثقلتهُ المباولُ تقفزُ من جيب سترتهِ الطالباتُ الخجولاتُ

يضحكن من شبقِ الكهلِ يلعقُ بالنظراتِ المريبةِ أفخاذهنَّ الحسيرةَ

من فرجهِ الرحلاتِ

إذاً استطاع الشاعر عن طريق الربط بين التاريخ والسياسة، إنَّ يقدم لنا رفضه العلني والمباشر للتاريخ وأفعاله المشينة، إذ يبدو للقارئ للوهلة الأولى أنَّ الشاعر لا يطمح إلى هذا الكم الهائل مَنْ السخط على التاريخ، لكن عند التمعن في النص نجد هناك سخطاً كبيراً

صرختُ: بلادي

فقصَّ الرقيبُ الحروفَ الأخيرةَ،

معتذراً بالدخان الذي

يحجبُ الأفق، واللافتاتِ

صرختُ:

ففزّ نعاسُ الأميرة من هدبها

برماً،

وتثائب سربُ الحمام

على الشرفة الملكية

فاستفز الجندُ أقواس آذانهم

خلف ذئب الصدى

من قال : إنَّ القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاول

في مقص الرقيب [ سينسى عويناته القزحية

.. فوق سرير البغي]

فيشْطبُ – في الصبح - نصف القصيدة

كي تستقيم

مع الميلان الأخير

لوزن الوظيفة

أستطاع الصائغ في هذا النص عن طريق الربط بين المرأة والسياسة، إنَّ يتملص من الرقيب عن طريق المواربة السياسية .

وهذا ما أكدته النتاجات الادبية الحديثة، التي سعت إلى كسر الرتابة الكتابية، وخرق كل الممنوعات، لتسجل المباشرة المعلنة في كتابتها، والتي افتقدتها لسنوات عدّة.

و(نشيد أوروك) يمثل الخرق الواضح لحدود التابو، وقد جاءت مقاطعه (قصائده) مباشرة ذات فكر أيديولوجي نابع من قناعة حقيقية بعيدة كل البعد عن القيود والممنوعات.

ونجد زاوية المناجاة والاستغاثة من سيد الشهداء الأمام الحُسين (عليه السلام)، بالقول:

أحمل ُ رأسي

على طبقٍ

وأطوفُ ........

بعصر المماليكِ

أغسلُ بالدمعِ شباكَ رأس الحُسين - بمصر - فيلتفُّ حولي البهاليلُ والمقعدون .

الصبياتُ يحملن أطباق آسٍ

يطفن أمام الضريحِ

يدقُ الدراويشُ فوق الصنوجَ :

تلاقفها آل مروان :

أصرخ ُ :

ياأيها الواقفون

- على الحد -

في حرب صفين ...

هذي الخواتمُ مغشوشةٌ

والحكومات مغشوشةٌ ..

فانزلوا عن مطايا العنادِ

وسيروا حفاةً بهذي الوهادِ

لصوت الجهاد

فقد نهبتنا خيول ُ الغزاةِ

وأنتم تُفلّون هذي المصاحف

عن آيةٍ لعليٍّ،

وأخرى لعثمان ........

ويقولـــون :

.. .. .. شو

ر

ى

يذهب النص ليوظف الشكوى حيث يشكو الصائغ لشخصية (الأمام الحسين) حال الشعوب العربية بأنَّها ذليلة، تحت سلطات القمع والضغط والاستبداد السياسي، وبأنَّها ما زالت تقتتل مَنْ اجل ماضيها وتأريخها المعاش بماضيه ويتجدد بحاضره ومستقبله .

والنص يكشف لنا إيمان الصائغ بالعقائد الحسينية وخاصة النزعة الاستشهادية في عدم الاستسلام للظلم .

ويقول ايضاً:

في جسدي طعناتُ القبائل تمضي إِلى الغزوِ والتكنولوجيا

أَفرُّ مَنْ اسمي وأَختارُ نزلاً بضاحية لاتساؤم أزهارها رئتي،

لا غرابٌ يقلد زقزقتي . أمهرُ الكائناتِ بوسمي لينكرني فرسي فوق جلد ِ العبارة، رمحي سيأكلُهُ العثُ . أسقطُ . سهواً تجئ الحضارات،

سهواً تجئ الملوكُ

وسهواً نجيُء

فَمنْ قسّمَ الأرضَ ما بيننا :

العقائد الحسينية لشخصية الأمام الحسين فلهم قمحها

ولنا قحطنا

ولهم نفطها

ولنا لغطنـا

ويأتي النشيد ليتناص تناصاً مباشراً مع (عشبة كلكامش)، القول:

أسودٌ

مَنْ زفرات المعامل

ينسلُ طابوقةً إثرَ طابوقة

في المتاحف

ينهبهُ البدو تحتَ عباءاتهم

والحكوماتِ لمْ تنتبه

لمورو جلاَلته

وهو يسأله عن عشب كلكامش ...

- سيدي، أكلتهُ الخرافُ، أَما كان أَنفُكَ - عفوكَ -

ينشقُ خلفَ القطيعِ براز الـ... ...

... ... ...

لكنّهُ قبلَ أنْ يستبينَ الحقيقة

غطّوهُ حتى مشارف عينيهِ في جومةٍ للبرازْ

فرأى كل شيء . ...

.....

أما في نقده لسلطة الجنس فقد جاء بطرق مختلفة، بعضها ممزوجة بالسياسة، والآخرى النقد المباشر بإزاء سلطة الجنس، مثال الجنس الموظف لنقد السياسة، قوله:

كاشيرة الحزب،

كانت تعدّ ضلوعي

لتنقص من جسدي

شجراً مورقا

ثم تخطئُ في العدَّ

أترك سخريتي مُرّةً و أذوّبُ في قهوتي ضحكَ

الفتيات على سائق الباصِ

وهو يمشطُ أجسادهَنَّ بنظراتهِ

تحت شمسِ السلامِ الرخيَصّة

أرنو لعابرةٍ

تركت - في فضاء البنفسج - نظراتها

لتسلّمَ روحي مفاتيحها للغروبِ

كلامي يضنيك

وفي المباشرة، يقول :

فقامتْ لهاتفها تتغنجُ

عاريةَ الظهرِ،

زوّلتِ الرقمَ وانتظرتْ

قلتُ : يا بنتُ لا تتركي البابَ مفتوحةً للرياحِ

فعمّا قليلٍ

ستخرجُ شَهْواتنا

للشوارعِ

ترقصُ عريَ البناتِ .. ]رأيتُ لعينيكِ

تلتمعان..

أضيف، أن قراءة نتاجات الشاعر عدنان الصائغ تنقل القارىء الى أفق التوسع ورسم الأمل، ذاك عن طريق تمجيده لتراث العراق الذي يدفع بالإنسان العراقي الى الفخر ؛لأنه ابن هذه الحضارة العريقة.

 

بقلم : وسن مرشد

 

 

في المثقف اليوم