قراءات نقدية

رجولة الحضارة الجريحة في: تيممي برمادي ليحيى السماوي

صالح الرزوقلم يترك الدكتور حسين سرمك حسن شيئا لم يتكلم عنه حول الظاهرة الغزلية في عشقيات يحيى السماوي، وكان من أهم إنجازاته توضيح العلاقة بين الهيام الجنسي ومعنى المحنة الوطنية. لكن برأيي لم يتكلم عن الخط العريض الذي يفصل بين مستويين من هذا العشق المتوله بالنساء السومريات.

الأول يفيد وعي المأساة. فقد كان السماوي مسلوب الإرادة أمام نسائه، لا يمتلك نفسه ولا حريته. يقول بهذا المعنى:

وأتعبني السؤال الصعب

كيف غدوت في ذل على كبر؟. ص 57.*

ومثل هذا الإحساس بالعجز لا يجرح الرجل فقط ولكن يضعه أمام صورة مكسورة. وكتعويض عن هذه الإهانة تعامل مع المرأة كأنها دمية مهشمة، وأسرف في تقطيع أوصالها، فوصف النهد الحريري، والساعد البض، والحلمة الزهرية، كجزئيات مستقلة وليس كجزء من كل، وكأنه ينوب عن الأب بقتل الأم والانفراد بالسيادة. وبرأيي هذا السلوك هو جزء من رواسب الكراهية التي يكنها الرجل للعصر الأمومي وتعدد الأزواج. ويمكن قراءة ذلك بسهولة في تكرار مفردات وصيغ نداء معينة تعبر عن قلق العاشق وخوفه من ذلك الماضي.

وبودي أن أذكّر هنا بحالة مي زيادة. فهي، من منطق سيرة ذاتية، تشبه تآمر الأزواج على الزوجة التي تستعبدهم بجمالها وإغراءاتها، وإيداعها في مصحة الأمراض العقلية. ويقابلها في العصر البطريركي تآمرالأبناء على الأب للإستحواذ على الأم. والمثال على ذلك رواية الكونت دي مونت كريستو لإسكندر دوما الأب. في كل هذه الحالات يتكرر النمط وهو التضحية بجدار قانون الواجب والأخلاق في سبيل الحق الشخصي بالمتعة والسعادة والثروة. وكذلك هو الحال في غزليات السماوي.. إنها غرام وانتقام، يبدأ بالطلب والنداء، وينتهي بالقضم والالتهام. لذلك يغلب اللون الأحمر على صفات النساء في كافة قصائد المجموعة (كالجمر والجلنار والزبرجد والنبيذ والياقوت). وينظر الشاعر للمرأة على أنها شيء يؤكل ويمكن هضمه: فهي تفاحة وسفرجل ولوز وهلم جرا...

70 yahiaasamaw1550

المستوى الثاني ويفيد معنى الوعي بالذات. فإدراك أبطال القصائد لمعنى الرجولة يقود لتطويره من ميتافيزيقا عاطفية إلى مبدأ نيتشوي عن القوة والتسلط. وغالبا ما يترافق ذلك مع شحنة ليبيدو عالية. ويكون الرجل في هذه الحالة بوعي تدميري وجاهزا للانبهار بإدراك ذاته. ولذلك تنتقل صفات المعشوقة أو الحبيبة من إدراك البصر إلى إدراك التخيل. وبلغة مباشرة، تتحول المحاكاة أو ذاكرة القياس وإنتاج التكرار إلى تجريد ترميزي يكون فيه لمنابع الرغبة تصورات ذاتية. ويعبر السماوي عن ذلك بسلسة من الاستعارات كقوله عن الفرج إنه المنحدر أو تقاطع السفوح أو الأخدود. ويدعم تصوراته بمجموعة من الصور الأسطورية كالبراق والغمر والطوفان وسفينة نوح وكلها تراكيب تدل على شيء واحد.. وهو الجانب السحري والإعجازي لمعركة الإنسان من أجل البقاء. وكلما وصلت إلى هذه التعابير عند السماوي أتذكر بكل جلاء (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح. فالعاشق كان مسلحا بقوته البدنية وبخنجره. وكلاهما يدل بقوة على الإيلاج وإنهاء عصر البكارة. وهذه هي النهاية المفيدة في غزليات السماوي. فإذا كان مطفى سعيد بطل الطيب يقتل حبيبته خلال ممارسة الغرام بالخنجر، فإن بطلة قصائد السماوي تتمنى هذه النهاية الدامية. وتهيب بالشاعر أن يسرع بذلك. وتقول له:

فاغرس الخنجر أنى شئت

في ظهري أو صدري

سيان

أيخشى وجع الطعنة

مقتول ذبيح؟..ص 77.

وإذا كانت علبة المعاني عند السماوي تحتمل أكثر من تفسير، فهي تعادل وتساوي بين المرحلة الأوديبية والمرحلة الشرجية، لكن لا يستطيع أحد أن ينكر أنها جاءت بمعنى الحرمان والتجويع وفي إطار غزل استعلائي. حتى أن السماوي في معظم الحالات يسترحم ويستعطف محبوباته، ويبدو لي مثل نسخة من دون كيشوت، وهو يهرول خلف حبيبته الوهمية ويستجديها ولو قبلة.

يقول في قصيدة (استجداء):

ظامئا جئتك

أستجدي زهور اللوز في واديك

شما

وندى ينبض ثغري

المستجير. ص 65.

ثم يضيف:

فاسقني منك

ولو

كأس زفير. ص 65.

ويتابع قائلا:

فأطعميني صحن لثم

إنني بت قنوعا

جشعي لا يتعدى شفتي. ص 123.

وهو، مثل أي فارس حالم، يعاني من انفصال الأنا و تغربها. وكان، بلغة هابرماز، ميدانا لصراع الحق (الذات) والأخلاق (المجتمع). ولكن هذه اللغة التي تدل على التحرش سرعان ما تخمد. ويجب أن نقرأ الخمود على ضوء تبدل اتجاه اللغة والمعرفة والفعل. وبكلمات هابرماز أيضا: بضوء الانتقال من لغة عملية ذاتية إلى طور سلوك كهولة. فالفعل (الأداة الثالثة في تجسيد هوية الأنا) يدخل في مرحلة تعطيل وجمود، ويحل محل الواقع نشاط يشغله التمني والتخيل. وكما ورد في العنوان: إن النار الملتهبة تتحول إلى رماد بسبب العمر وخيبات الأمل وما يتبعها من إحساس باللاجدوى والعبث. وربما هذه هي النهاية المنطقية لرجل كان مخمورا برجولته وشبابه. إنه يستيقظ من وهم القوة وينتبه لضعفه وللفجوة التي تستشري فيه.

إن لشعرية السماوي خطا لا تحيد عنه. وهي على شاكلة عمود الشعر العربي تتكون من أطوار ومراحل. ويمكننا أن نحصي منها ثلاث حلقات متكاملة:

الأول مديح الذات واستعراضه لعضلاته ومزاياه أمام المحبوبة.

الثاني التلصص على غواية المؤنث وينابيع اللذة.

الثالث والأخير الإحساس بالندم والترنم بنغمة يشوبها طلب المغفرة والتعافي من الذنوب. وهذه النقطة كما أرى نقطة توازن، أو بلغة هنري ميلر إنها شك بمخيلة يمكن أن نتصالح عليها. وعدا عن أنها ذاكرة فهي كذلك صراع ضد الأغلال البشرية وخطة لمشروع من أجل الانعتاق للتحرر من صخرة الخطيئة وذيولها ص 16. وقد اتخذ أحيانا إجراءات احترازية تفيد معنى التبرئة من الخطيئة، فخص معشوقة واحدة بنزواته كما في قوله:

إني عبدتك لكن دون معصية. ص 19.

وقوله:

معصومة الماء إلا من نزقي. ص 23.

وكأنه يريد أن يمهد لمعنى الخطيئة الشريفة. ويمكن قراءة ذلك على وزن اللص الشريف أو قاطع الطريق الأخلاقي. ولكنه يختلف عنه بنقطة جوهرية.. أنه يخدم ذاته بينما اللصوص الشرفاء يخدمون طبقتهم. ولذلك إن تمرده على الأعراف مجرد عبث ونزوة بينما تمردهم تلبية لمشاعرهم بالظلم والحرمان، وتلويح الطبقة الضعيفة بالانتقام من الطبقة الأعلى (إذا شئنا استعمال مفردات وعناوين جلال فاروق الشريف مؤلف: الشعر العربي الحديث، الأصول الطبقية والتاريخية).

تبقى نقطة هامة جدا عن اللغة والتراكيب.

إن الإشارات المتكررة للحضارة السومرية ثم لبلاد ما بين النهرين لم تصمد أمام مقارنة إيقاع القصائد مع شعرية وبناء أناشيد الآلهة والكهان. فنشيد هبوط إنانا إلى العالم السفلي يختلف في بنيانه عن كل قصائد المجموعة. وبكل سهولة تعلم أن يحيى السماوي لا يدين للحضارات الميتة بشيء. ولكنه يبني مشروعه بوحي من الظواهر الصوتية لعرب قريش، ثم ما تمخضت عنه في لغة القرآن من مجاز وبلاغة تضع أدوات التحذير والتنبيه في مكانة أعلى من أدوات التخويف والترهيب.

ويمكن أن نستنتج من هذه الحقيقة الملاحظات التالية:

1- الضغط على الجانب الأسطوري لشخصية وردت مرارا وتكرارا في القصائد وهي إنانا، وإضفاء صفات لاهوتية عليها لتبدو وكأنها من حوريات الجنة. وفي موضع آخر وضع الشاعر إنانا بمكانة شهرزاد، وساوى بينها وبين النساء الخائفات من سيف الجلاد ومن سلطة الدكتاتور ونزواته. وإن تدجين إنانا حرم القصائد من العاطفة الحضارية ووضعها في عداد ثقافات الشعوب الجريحة. ولنضع خطا تحت هذه العبارة. فهي تدل على وعي ذاتي بالهوية ولكن ليس على إدراك معرفي بالانتماء ومقوماته.

2- ومثل هذه الظواهر تساعد على شحن الإنسان بعواطف مصدرها اللاشعور، أو الانتباه للنقص في الغايات. ولا أقول العصاب الجماعي، فقد ألغته جمعية أطباء علم النفس الأمريكيين من لائحة الأمراض السريرية. وينجم عن ذلك إشكالات فردية لا يستوعبها المجتمع: مثل الزهو والماشيزمو والنرجسية والاستغراق بالذات ككل الأطفال في بواكير أيامهم. وهذه واحدة من الصور النموذجية للعاشق المتيم.

3- أخيرا هيمنة الفكر الواحدي بالبنية والتراكيب أو فرض واحدية الذات الشعرية على تعددية الرموز. وكمثال على ذلك شخصية إنانا أيضا. لقد فقدت خواصها الأسطورية كإلهة متعددة القدرات وأصبحت مثالا لليبيدو أو واهبة للمتعة البدنية.

وعلى ما يبدو لي إن المشروع الشعري ليحيى السماوي يفترض أو يتعمد هذه الإجراءات الفنية. فهي تساعده على التعبير عن أزمته مع الحرية وعن أزمات بلده مع الوجود. فالمعاناة عند عاشق محروم وممنوع لا تختلف عن معاناة بلد يسقط على سلم الحضارة. وهو موضوعه الأساسي. وهذه الفحولة المبالغ بها تتماهى مع رجولة الدكتور العجيلي في كل أقاصيصه القومية. إنه ينتقم لذاته الجريحة في مخادع النساء ولكنه دائما مستعد للبكاء في ساحات وميادين المعارك. ويختصر هذه الفكرة في واحدة من أجمل وأعذب قصائد المجموعة وهي (من أقصى المقلتين حتى أقصى القلب) فيقول:

لا عيب في البستان

لكن

حارس البستان عاق. ص 107.

 

د. صالح الرزوق

......................

*الإشارات والشواهد الشعرية كلها من مجموعة (تيممي برمادي) الصادرة عن مؤسسة المثقف في سيدني، استراليا - دار تموز بدمشق في عام 2018.

 

في المثقف اليوم