قراءات نقدية

تجليات النسر في قصيدة: علو شاهق للشاعرة السورية وداد مظلوم

رحيم الغرباويلا شكَّ أنَّ الشعر يتمرأى في صور ذهنية يستجيب لها المتلقي؛ وهو يعبر عن خلجات صاحبه، ولعل قدرات الشاعر الفنية تمنح تلك الصور تلاوين من المعاني بغية تكثيف النص الأدبي الذي يمثل جزءً من بلاغته، إذ أنَّ كثيراً من معانيه تتأتى بألفاظ بل وربما لفظ واحد يحمل دلالات متعددة يغدق بها النص .

ولما كان الشاعر هو ذلك النبض الذي يخفق في عوالم غير عالمنا إذا ما ضاقت به السبل لاسيما النفسية منها نتيجة ضغوط الحياة، فنراه يتوسل الهروب منها أو يقوم بمجابهتها على قدر تحمله .

والشاعر عموماً هو المتسلح بالخيال لمواجهة الواقع وهو من يُفعِّل العاطفة أضعافاً حينما ينتاب عاطفته وازعُ الضغط أو الضيق؛ لتتفوَّز كِبراً وعلوَّا، وهي تردُ إيجاباً أو سلباً حسب وقع الأثر الذي يدهمه، فتكون أما بالشجب أو الترقيق للموقف، إذ " نلاحظ لكل موقف سلوكاً معيَّناً وحالات انفعالية معينة " (1) والشعر كما نعلم يمثل صوت الروح وهي تتنفس الواقع، كي تصدر بما يعتملها من بوح تجاه اختناقاتها، كما أنَّها تطمح دائماً إلى عالم متسامٍ و مكتمل، ولعل الروح " تمثل الشخصية النموذجية، إنها النضج والاكتمال الذي نسعى نحوه طيلة الحياة وكلما كان سعينا متواصِلاً، وكلما كان النهج الذي نسير عليه صحيحاً وواضحاً كانت أرواحنا صحيحة وسليمة وواضحة ومستقرَّة " (2) .

وشاعرتنا السورية وداد مظلوم كغيرها من الشاعرات، قد مثلت لنا توق روحها وهي تسعى إلى الكمال بعيداً عن منغصات الواقع الذي أحاقت بها نواجذه، فهي تحاول التحليق لعالمٍ أسمى وأشفّ، فنراها تقول في قصيدتها (علو شاهق):

أود التحليق

فوق السحاب

عبر الأثير ..

على أجنحة

نسر جارح .

الأرض ضاقت بي

وأوكسجينها لي

لم يعد صالحاً .

لتعبر عن توقها إلى ذلك العلو الذي يعصمها من الواقع الأرضي؛ لأنَّ أوكسجينها لايعد صالحاً لها؛ كناية عن تلوث أفكار المجتمع، ولربما تغيرنمط العيش بسبب الخراب الذي فدح ببلدها؛ مما أثَّر سلباً على المجتمع السوري الذي كان يرفل بالأمن والأمان، إذ لايمكن للمرء أنْ يتمم ما يمكن إتمامه، فقد وجدناها لاتحبذ النزوح إلى أيةِ ديارٍ في الأرض؛ كونها تبحث عن كل ما هو سماوي وروحي، وليس كما فعله أبناء شعبها حينما ركبوا البحر للالتجاء إلى بلدانٍ أخرى طلباً للأمان والرزق، نتيجة الحرب المحمومة التي عمَّت البلاد، وبوصفها الشاعرة التي يمكنها التحليق عبر مراسي الكلمة في فضاءات الخيال، فهي ترى أنَّ هناك في الفضاء يكمن كلُّ نبض مقدس فيه، كما أنَّها استوحت النسر الجارح؛ لتتطوف به فوق السحاب، ولعل النسر قد حمَّلته معنى الألفه وارتضته أنْ يكون رفيقاً لها، يدل على أن النسر الذي بدا حميماً اتخذته لها مركبة تتطوف به، وقد حوَّلتْ دلالته من جارح في اعتقاد البشر إلى طائر وديع تتنقل به في عالمها السماوي الأثير، بيد أنَّه يقتحم كلَّ من يقف معترضاً طريقها .

ثم تصف عالمها الأثير بقولها:

هناك على علو شاهق

أولد من جديد

وأقتل الروتين

مَللِي المقيت

ووقتي الضائع

أسرق حلمي

المستحيل

من جيب الواقع

أخبئه في قلب

الغيوم .

وهنا نراها تمنح نسرها دلالة أخرى مستقاة من أسطورة الفينيق الذي تناوله الشعراء التموزيون كرمز للانبعاث في أشعارهم، يدل ذلك من قولها (أُولَد من جديد)، وكأنها بعد مغادرتها عالمها الأرضي وعيشها فيه بروتينيته المملة، يبدو أنَّها تحاول أن تسرق حلمها الذي تتمناه أن يتحقق بالواقع، فتخبئه في رحلتها الكونية في قلب الغيوم، فهي تستعمل استعاراتها، لتبلغ بها معانيها الدقيقة فـ (أسرق حلمي المستحيل) تدل على الأمل المفقود، و(جيب الواقع) وكأن الواقع يدَّخر الأماني لمريديها، لكنه لايمنحها لهم، و(قلب الغيوم)، فالغيوم كما نعلم تمكث في العالم السماوي المعطاء؛ مما يجعلها تمنح للحياة ديمومتها، والأرض خصبها؛ لذلك جعلت أمانيها في قلب الغيوم، فضلا عن النسر الذي يمثل الانبعاث من جديد وهو من فصيلة الفينيق في الأساطير الرومانية .

ثم تقول :

نِسري المغامر

هنا ليس لنا

من منازع

نعيش لحظات

الجنون ..

نكسر القيود

تتحرر الذات

ونتوه في عالم

المجهول ..

لانأبه لعقول البشر

نموت أو نحيا

والموت واحد .

بينما نراها هنا تصور لنا النسر الذي جعلته في مقطع النص الأخير رفيقها الأثير، فهو يمنحها السرور والراحة والأمان، جاعلةً منه الحبيب؛ لتعيش معه الانعتاق في فضاءات الأمل، مشيرة إلى لحظات الجنون، كناية عن عالم الحرية بكل أبعادها، فحين تتكسر القيود، وتتحرر الذات، يتيه الحبيبان في عالم المجهول، ولعله لدى الشاعرة أكثر غنىً؛ لأن الحدود فيه تكاد تكون لاغية، إذ ليس هناك من موانع أو عيون تترقب حركات وسكنات الآخرين، لذا حينما يعيشان الحياة أو يلاقيهما الموت فهو واحد عندها، إشارة إلى عدم الاهتمام بما يؤمن به البشر بوصف الموت لديهم غولاً يُخشى منه، لذا فهي لاتستشعره كما يستشعره الآخرون، كونها تعيش مع الحبيب في عالم الروح الخالد.

 

د. رحيم الغرباوي

.....................

(1) الإنسان وتطور الدراسات الإنسانية، د. محسن علي الدلفي : 48.

(2) المصدر نفسه : 82

 

في المثقف اليوم