قراءات نقدية

الحساسية الإنكليزية في روايات القرن الواحد والعشرين

صالح الرزوقبقلم: باتريك باريندير*

ترجمة: صالح الرزوق

في عام 2001 وصلت رواية (الكفارة) لماك إيوان إلى قائمة البوكر القصيرة. وقد بدأت بفقرة لجين أوستين، ورد فيها: (تذكر أننا إنكليز...)، وبمدخل مطول يصف حفلة في بيت ريفي يعود طرازه لفترة الثلاثينات. هكذا بدأت قصة طفولة وشباب روائية إنكليزية- روائية من جيل سابق على ماك إيوان. وتتابع رواية (الكفارة) أحداثها حتى لحظة الانسحاب من دانكيرك عام 1940 ووصول المصابين إلى مستشفى القديس توماس في لندن. وبغض النظر عن خاتمة مختصرة مؤرخة في لندن / 1999 كل الأحداث جرت قبيل ولادة ماك إيوان عام 1948.

لم يجد النقاد شيئا غير معتاد في هذه الرؤية للخلف. لقد أصبح البناء التاريخي صفة منتظمة من صفات السرد الإنكليزي في أواخر القرن العشرين، حتى أن (الكفارة) لم تصنف بشكل عام في صنف الروايات التاريخية. وباستثناء القليل من الأغراب الذين قابلهم الجنود البريطانيون قرب دانكرك وتفهموهم، كل شخصيات ماك إيوان من الإنكليز. نشرت (الكفارة) في وقت كانت فيه المركزية الإنكليزية المكتفية بوعيها الذاتي في السرد (ضمنا عدد من الروايات تحمل في عنوانها كلمة "إنكليزي" أو "إنكلترا") قد عادت للظهور. وكان ماك إيوان مهتما بالمشكلة الطبقية التي أثرت بالمجتمع الإنكليزي، وبالمقارنة بين العالم الخاص لسلوك الطبقة العليا، والجماهير الغفيرة المتجمعة في مؤسساتها مثل الجيش والمستشفى. وقد صور دانكيرك وما جرى بعدها على أنها مرحلة تأزم وطني أحاط بمعظم الشخصيات. وواحدة من أكثر الاعترافات مباشرة في (الكفارة) كانت عن التبدل الملحوظ الذي لحق، على التوالي، بالمجتمع، ومن ذلك معلومة تجريدية عن عام 1999 أشارت لتحويل المساحات المفتوحة من البيت الريفي إلى فندق. ومن المفترض أن يختار عمال الفندق من بين فئة المهاجرين إلى بريطانيا، ولكن لم يكن ذلك ضمن اهتمام الروائي.

لكن في مرثية لموت الروائي الأمريكي سول بيلو الذي توفي عام 2005 كتب ماك إيوان يقول: "في بريطانيا لا يبدو أننا نكتب عن تشوهات وجمود الطبقات - أو، أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بشفافية كافية، دون أن نقوض المعنى المرجوة أو نقلل منه".

وأيضا إنه في نصف القرن السابق على نشر (الكفارة) أصبح معظم السرد الإنكليزي المعروف ينظر إلى الداخل. وانصب اهتمامه على استعادة تقاليد الرواية القديمة، وكذلك على الماضي الوطني. وما أصبح معروفا باسم "ما بعد السرد التاريخي" قدم للرومانس التاريخي ما يشبه تعليقات انعكاسية تتناول طبيعة السرد والتاريخ، وبالعادة بروح تميل للهزء. فالجو التاريخي الموجود في (مكان بين الفصول) لفرجينيا وولف كان سباقا ومبكرا بهذا المعنى، وأصبح علامة من علامات السرد المفضل عند القراء، وعلى سبيل المثال أذكر (امرأة الضابط الفرنسي -  1969) لجون فاولز والساغا العائلية (أرض المياه – 1983) لغراهام سويفت.

ولكن الرواية ليست بحاجة للعودة إلى الماضي لتتأمله بأعصاب باردة. إن عددا من سرديات الحياة المعاصرة تعيد انتاج الأجواء المألوفة لـ "رواية الأرض الإنكليزية" مثل البيت الريفي، أو لتكرر بنية حبكة الروايات الإنكليزية الكلاسيكية، أو تتوهم علنا التقاليد السابقة.

إن روائيين مثل فاولز وماك إيوان وسويفت قد أنتجوا ما بدأ يعرف باسم "السرد الأدبي" وهو معاكس للروايات ذات البنية الشعبية ورواية المغامرات (الرومانس). وإن الكتب زهيدة الثمن والأفلام والتلفزيون والمسرحيات الإذاعية وحقوق التأليف المبسطة هي التي سهلت نجاح السرد الأدبي على مستوى عالمي، وجعلته اليوم مربحا كما كان في السابق. وكتاب الرواية الأدبية المحدثون يحملون غالبا ثقافة أدبية، وعدد كبير منهم بدأ حياته، أو أصبح لاحقا، مدرسا للأدب أو الكتابة الإبداعية. وترافق ذلك مع توسيع نسبة القراء الذين يدرسون الأدب أو العلوم الإنسانية. وليس من المستغرب، أنه هناك مزاعم تفيد أن مناخ " التعلم" و"دروس الماضي" هي التي تمهد الطريق لمزيد من انتاج الروايات. الروائية أ. س. بايات، وهي متكلمة ذكية عن المشهد المعاصر، ناقشت العلاقة الشائكة بين الروائيين الإنكليز المحدثين وبين التقاليد وذلك في مقالتها "الصحافيونPeople in Paper Houses "- 1997. ووصلت للنتيجة التالية: "لتكون كاتبا جيدا، مهما كانت أدواتك، أنت بحاجة لموهبة الفضول والنهم فيما يتعلق بأمور من خارج الأدب". ولكن ليس من السهل تجنب العوامل الأدبية، ولدينا هنا كمثال كنغسلي إيميس، والذي ذاع صيته مع نجاح روايته (جيم المحظوظ – 1954)، وهي كوميديا عن المدينة الجامعية وكان البطل فيها محاضرا متمردا يعمل في مجال التاريخ القروسطي.

إن شهرة إيميس كانت معاكسة للحياة الأكاديمية ومعادية لما يسميه وعي الذات بالأدب. فهو من أشهر أدباء الخيال العلمي والأشكال الشعبية الأخرى، وقد كتب يقول في مقدمة كتاب (العصر الذهبي للخيال العلمي – 1981): "إن وعي الذات الأدبية يعني أن هدفك، لنقل، ليس في الإخبار عن الحكاية بقدر الإمكان، ولكنه في تضمين إضافات تفرضها رغبات وتوقعات الآخرين. والعلاقة القوية والحساسة بين الروائيين والأكاديميين تعني أن الروائيين يكتبون من أجل الأكاديميين، ولكن ليس من أجل العموم... وهذا يضعف الارتباط مع جماهير القراء".

عمل إيميس بالتدريس قبل أن يكون روائيا مشهورا لعدة سنوات في كلية جامعية في سوانزي، ثم في كامبريدج. أما فيليب لاركين، الشاعر والروائي سابقا فقد كان يعمل في مكتبة جامعة هال، وكلاهما ربطتهما صداقة قوية. لكن ابتعد إيميس عن عقد صداقات قريبة وحميمة مع الأكاديميين، فقد اعتبرهم، تقريبا، طفيليات تنمو على حساب الفنان المبدع؛ غير أن رواياته عميقة الصلة بالأدب الأصيل وشخصياته أحيانا من بين القراء الجادين. وروايته (خذ فتاة مثلك، 1960)، وهي من أكثر أعماله المبكرة طموحا، عبارة عن إعادة كتابة واعية لرواية "الغواية" التي وضعها ريشاردسون.

فالبطلة، وهي جيني بون، معلمة مدرسة. أما الخليع باتريك ستانديش فهو محاضر في الجامعة. وتجنب جيني نفسها مخاطر أول محاولة إغواء قام بها باتريك. حتى أنها تقول له علنا:"لقد قرأت أخبارك في الكتب". والإغواء هنا يضعها في شريحة مختلفة عن البطلة الفكتورية غير المتعلمة التي تشابه هيتي سوريل في عمل إليوت. ولكنها في النهاية تفقد عذريتها. إن النهاية المرحة للرواية تصور الإثنين قبل الزواج وهما بغاية السعادة، ومتفقان أن "تلك الأفكار الإنجيلية القديمة تترنح الآن".

ويتورط باتريك وجيني في سلسلة من التضادات البيوريتانية - الارتباط بزوج واحد مقابل الحيوية الجنسية، الريف الشمالي مقابل المدينة الجنوبية، الأخلاق الحميدة مقابل التهتك، إلخ- وهكذا من الطبيعي أن لا يقاوم أحدهما غواية الآخر. ولذلك إن المشكلة العاطفية والرومنسية التي تميز بواكير الرواية الإنكليزية قد مهدت الطريق لمحاكاة أدبية مسلية وغنية. لكن لم تكن كتابات الروائيين الإنكليز فقط عن شخصيات إنكليزية هي التي شعرت بالضرورة الماسة لإعادة كتابة التقاليد الإنكليزية. فرواية فدائيون (1975) لـ ف. س. نيبول، على سبيل المثال، تصور شخصية هيثكليف جديد - باعتبار أنه خضع لدورة في الكتابة الإبداعية ودرس مرتفعات وذرينغ- وهذه الشخصية تعمل على تشكيل جماعة زراعية كاريبية سيسميها الكاتب لاحقا بيوتات ثراش كروس .

وآسيا، بطلة رواية (في عين الشمس -1992) للروائية المولودة في مصر أهداف سويف، هي ابنة امرأة إنكليزية تعمل برتبة أستاذ في القاهرة. وعندما تأتي إلى إنكلترا لتكتب أطروحة الدكتوراة في جامعة ريفية في الشمال، ترى نفسها كوريثة لشخصيات جورج إليوت وشارلوت برونتي. لقد أقامت علاقة مع إنكليزي شرير، هو جيرالد ستون، والذي يدل اسمه على برود عاطفته كما هو متوقع في أي ميلودراما فكتورية. أما آسيا، المتزوجة، فتدرك أنها ابتعدت عن التقاليد الإنكليزية لتنضم إلى عالم شخصيات تولستوي وفلوبير ولا سيما حينما بدأت علاقتها الغرامية مع جيرالد- ولكن لم تتمكن من تطهير نفسها تماما من إرث ماغي توليفر ودوروثا بروك. ولأنها زانية، تقول لنفسها: "أنت الآن في صف آنا وإيما وانفصلت للأبد عن دورثيا وماغي- ولكن يمكن لدورثيا أن تستوعب ما يجري - أليس كذلك؟".

(في عين الشمس) ليست رواية عن الهجرة، لأن آسيا تعود بعد الدكتوراة إلى مصر لتدريس الأدب للجيل الجديد من الطلبة، وبينهم الأصوليون الإسلاميون الذين أعلنوا أن هدفهم هو تعلم "لغة العدو". تتابع سويف بسردها فترة تفكيك الاستعمار في الشرق الأوسط، ومنها فترة نظام ناصر، وغزو القناة، ومعجزة النفط، وحروب العرب مع إسرائيل. وكان المحرض لأم آسيا كي تدرس الأدب الإنكليزي هو مشهد النساء البريطانيات المتطوعات لقيادة شاحنات لصالح الجيش البريطاني في القاهرة أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت تلك مرحلة تاريخية عابرة، ويمكننا أن نقول إن عوالم "ما بعد الاستعمار / فترة الاستقلال" هي التي طورت حب وتعلق الابنة بالرواية الإنكليزية، ثم اكتشاف ذاتها وتطابقها مع شخصياتها. إن أدبية الرواية الإنكليزية الحالية يمكن أن تكون أيضا ظاهرة موقتة بشكل حصري. فهي بالنسبة للعديد من الكتاب والنقاد قد ارتبطت مع ما بعد الحداثة، وهو أسلوب عابر للحدود أثر بكل أنواع الفنون وسيطر على النظريات الثقافية واتجاهات النقد منذ 1970 وما بعد.

ولكن مع أن ما بعد الحداثة تقوم على الإحالة للذات وهو جانب دائم من جوانب الأشكال الفنية، فقد تأثرت الرواية الإنكليزية بالظروف المحلية الخاصة وبالأخص كلما تعرضت السياسة الوطنية والاقتصاد الوطني باستمرار للتبدل العميق. فالزراعة والصناعة ينحدران، وتزداد أهمية التراث وصناعة السياحة، وغالبا يبدو أن الرواية تفرض جوهريا صورة وطنية تنظر للماضي (أو للخلف). إن رواية، مثل (الكفارة) تقاوم البيت الإنكليزي الريفي وأحداث أيار 1949، هي لدرجة معينة، مجرد تواطؤ، بلغة باتريك وايت في حديثه عن 'التراث الوطني' الذي رأى أنه "استخراج للتاريخ - أو معناه وإمكانياته - من إنكار الحياة اليومية وإعادة تركيبها وعرضها بمواضع وحوادث وصور ومفهومات محددة معزولة". عموما، إن الروائيين قادرون بالتساوي على التهكم من صناعة التراث، كما فعل جوليان بارنز في (إنكلترا، إنكلترا – 1998) حيث أن المستثمر يشتري آيل أوف وايت ويحولها إلى "إنكلترا خاصة"، أو لحديقة سياحية ناجحة نجاحا مدويا، بينما بقية البلاد، واسمها الآن "ألبيون"، متروكة لخطر التحلل والتعفن. غير أن حكاية بارنز الساخرة لم تقدم معنى اقتصاديا، على سبيل المثال، من خلال الكارثة الاقتصادية التي تسببت بها "قبة ازدهار ألفية لندن" عام 2000، ولكنها عوضا عن ذلك دعتنا لإنكار ما يحصل واعتباره فانتازيا تجريدية. لقد تراكمت المخاطر أمام الرواية الإنكليزية - كما انتبه بارنز بشكل واضح- والخطر كان في متابعة الوعي الذاتي بالروح الإنكليزية التي تقود إلى تفريغ روحي لكل ما هو عادي في حياة إنكلترا اليومية.

في مقالة حديثة لـ أ. س. بايات تجد تحديدا لاتجاه آخر أساسي في الرواية الإنكليزية، اتجاه ميتافيزيقي بطموحاته ويغطي كل تاريخ وجغرافيا البشرية بالحكايات والتي تكون عادة بشكل "وعي باطن وأحلام وأوهام خادعة". فالكتاب هم "مخترعو خرافات" وأعمالهم، لا تفكر بنظام الطبقات الإنكليزي أو سقوط الإمبراطورية البريطانية، وإنما "تصنع حكايات خرافية أوروبية".

والروايات التي استشهدت بها بايات هي غالبا تاريخية، وضمن حبكة تتضمن إيطاليا في القرون الوسطى، والقاهرة في القرن الخامس عشر، وألمانيا القرن الثامن عشر، وأماكن أخرى. وهي أعمال "أوروبية" لأنها متأثرة بكتاب من أوروبا مثل إيتالو كالفينو وألبير كامو وإيزاك داينسين وغونتر غراس وميلان كونديرا وغيرهم. ولكن ربما كانت بايات قد ذكرت بنفس العناية تأثر بريطانيا بالواقعية السحرية التي ظهرت في أمريكا اللاتينية وبروايات ما بعد الحداثة التي ظهرت في الولايات المتحدة.

والسياق البريطاني، ما تسميه بايات وغيرها حكاية شعبية أو "خرافة"، يمكن أن تعتبره أيضا حركة إحياء للرومانس. فتقاليد الرومانس فضلت العجائبي على العادي وهذا واضح عند روائيين بريطانيين من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مثل وليام غولدنغ، وآيريس ماردوخ، وموريل سبارك، والكتابات المتأخرة لدوريس ليسينغ. لقد نجحت هذه الرومنسيات الحديثة واعتبرت خرافات عن الهوية، وبعضها عالج قضايا الشخصية الوطنية. وتتضمن روايات وليام غولدنغ المبكرة، على سبيل المثال، أعمالا هامة عن الجنوح والعزلة في: سيد الذباب (1954)) وبينشر مارتن (1958)، أضف لذلك روايته (الوارثون – 1955) وهي  عن مغامرات ما قبل التاريخ.  لقد حازت هذه الثلاثية على اهتمام واسع وضعها في عداد الحكايات الأخلاقية المتعلقة بالطبيعة الكونية للإنسان، وكانت إنكليزية (بنشر مارتن) والصبيان في (سيد الذباب) من ضمن العوامل الأساسية المشاركة. و"النزوع الإنكليزي" هنا، والذي غاب عن معظم أعمال غولدنغ التالية، دليل على ظاهرة نهاية الإمبراطورية، وفي طياتها خبرات الكاتب نفسه من عمله في البحرية الملكية. وعليه هي في حالة تقابل مع ما تسميه بايات "كتاب الخرافة الأوروبية". ومن هؤلاء أنجيلا كارتر، وبينيلوبي فيتزجرالد، وجينيت ونترسون، وكذلك ماردوخ وسبارك. فقد نظرت لهذه الاسماء وكأنها انعكاس لحساسية جديدة عن الشخصية الوطنية في فترة ما بعد الانهيار (تفكك الامبراطورية).

أما الروائيون المعاصرون، والأقرب لفترتنا هذه، فهم يكتبون لسياق عضوية بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وهو سياق، إن لم يكن يعني محي الهوية الوطنية، فهو بالتأكيد يتضمن اختزالها الممكن إلى شيء من قبيل الهوية المناطقية.

وإحياء الرومانس (رواية المغامرات)، ولا سيما ازدياد شعبية المغامرات التاريخية في الوقت الحالي، لا يمكن التفكير به ببساطة على أنه هروب. كتب الناقد جايسون كاولي في مراجعة لمقالات بايات يقول: "إن الانسحاب إلى التاريخ هو دليل على خسارة ملحوظة لثقتنا بإمكانيات السرد الروائي في إنكلترا، وبالأخص بعد مرحلة الميتروبوليس (المدينة الكبيرة). ويمكن للإنسان أن يجهد نفسه للتفكير بحفنة روائيين أضافوا لمعلوماتنا الأخبار العاجلة عن ظرفنا المعاصر، بالطريقة التي نجدها عند ديكنز". (لكن - بالنسبة لخبراته الصحفية الغنية- كان ديكنز في عصره يعتبر مخترع حكايات وليس محققا تسجيليا يتابع شؤون زمانه). ويقر كاولي أن إحدى الوسائل المتبعة للكتابة عن العالم الحديث هي في أن "تكتب عن الحاضر من خلال ظواهر من الماضي، ولذلك أصبحت الرواية نوعا من الكتابة فوق كتابة سابقة". ومن بين الروائيين المحدثين، اهتمت أنجيلا كارتر لفترة طويلة بإعادة كتابة متن الحكايات الشعبية التقليدية والخرافات، وهو ما تجده يأنقى صوره في الغرفة الدامية (1997). وكانت باستمرار في رواياتها تعود إلى القضايا المعاصرة، مع أن عودتها كانت بطريقة مختلفة تماما عن عالم التحقيقات الصحافية. و حيثما ذكر كاولي الحقيقة المؤكدة كان يلح على أنه ليس على الروائيين التغاضي عن "إمكانيات إنكلترا في الرواية" والطبيعة المتبدلة للهوية الإنكليزية.

وأعمال عدد من الروائيين، وكذلك النقاد والمؤرخين، الأحياء، تشير إلى تعريف أكثر انفتاحا وتقبلا لمفهوم الهوية الوطنية، بالمقارنة مع ما رأيناه، على سبيل المثال، قبل جيلين أو ثلاثة في كتابات جورج أورويل وج. ب. بريستلي. فالناقد والروائي بيتر أكرويد- وينظر له غالبا كشخصية محافظة- أقر أن فورد مادوكس فورد هو في كتابه (فصول من ألبيون: أصول الخيال الإنكليزي – 2002) مجرد رائد أو مبشر. ويعرّف أكرويد الروح الإنكليزية بأنها "مبدأ التعايش. وتعتمد على هجرة دائمة، للناس أو الأفكار أو الأساليب، حفاظا على البقاء". ويمكن تمثيل أسلوب جديد من تدوين التاريخ بحالة نورمان دايفز في - الجزر: تاريخ – 1999)، وهو عمل يتجاوز بعنوانه الماضي التاريخي لـ "إنكلترا" و"بريطانيا" ليصل إلى الواقع الحالي المتبلور. وبتلخيص سريع، إن موضوع دافيز مفاده أن تركيب المملكة المتحدة يتكون من الأجزاء الأساسية لما يسمى أحيانا "هذه الجزر". والخسارة (و، بحدود أضيق، الربح) إنما هو من نتاج بتر المملكة عن أوروبا. بالنسبة لدافيز، بتر بريطانيا من أوروبا لم يكن نتيجة قسرية للجغرافيا أو للمزاج الوطني، لكن - تقريبا- حظ نجم عن حروب المائة العام والإصلاحات. وتبني هنري الثامن للبروتستانتية وفرضها على دين الدولة، بكلمات دافيز، " قطع إنكلترا من المجتمع الثقافي والنخبوي لما كانت تنتمي له لما يقارب الألف عام، وقد فرض ذلك على الجزيرة أن تتطور على طول خطوط عزلة غريبة. ولم يتبق لدى الإنكليزي أية فرصة سوى الاعتزاز بعزلته وغرابته". ويبدو أن دافيز قد اقتنع أن هذا الانشطار (القطيعة) عن أوروبا انتهى تقريبا، لكن العداء الشعبي للاتحاد مع أوروبا وضع حارسا آخر على الباب الخلفي ليلعب نفس الدور الذي لعبه الاعتزاز الوطني الذي انتهت صلاحياته.

كان لدافيز رد فعل واضح ضد زهو الإمبريالية البريطانية القديمة، لكن في بعض الحالات كان كتاب (الجزر) دون مستوى تحليله الزين والرؤيوي . فإنكلترا لا تزال ،كما ورد في المثال السابق، مؤنثة، ولكن تطور الروح الوطنية كان يصور على أنه نوع من أنواع التطور الفردي العلني الذي يقود إلى ظهور شخصية وطنية ذات حيثيات: عازلة وغريبة ومعتزة بنفسها. وعلينا أن نتذكر أن دافيز اقترح أن هذا حدث بالصدفة- موضوع له علاقة ببنية "الشخصية" وليس نشوء، وفي النهاية، بالتبني الواعي لهوية خاصة. فالجزر، بعكس معظم التاريخ الوطني السابق، هي في قاع حكاية الهويات المتبدلة وليس في تماسك وتكوين الشخصية الإنكليزية، وضمنا عمل الروائيين المعروفين بالتزامهم بأفكار الشخصية الروائية ومواصفاتها. وهنا أؤكد أن الانتقال من "شخصية" إلى "هوية" لتكون إطارا للتحليل تعكس ميولا محددا و هي دائما حاضرة في تقاليد الرواية الإنكليزية. خذ فرجينيا وولف على سبيل المثال، إنها تقول في مقالتها "السيد بينيت والسيدة براون"(1924):" لا تهمل السيدة براون أبدا، أبدا" فقد تخيلتها بشكل سيدة مسنة عادية على كرسي متحرك، وعليه، هي "الروح التي نعيش بها، بل هي الحياة نفسها".

من الواضح أن الكاتبة بالوقوف مع السيدة براون يمكنها تجاوز التراتب والعزل الاجتماعي والذي رأت وولف في مقالة تالية هي " ابنة أخت شريف المقاطعة"(1932) أنها من خصائص المجتمع الإنكليزي. بالنسبة لوولف، إن الفكرة التي مفادها "نحن محاصرون ومعزولون، ومقطوعون" حقيقة بنيوية واجتماعية، وهذا تسبب بالواقع الاجتماعي المتعدد البنيات والذي يسر الروائيين..

نحن محاصرون ومعزولون. ومقطوعون. ومباشرة رأينا أنفسنا بالزجاج العاكس للرواية وكنا نعلم أن هذه هي الحقيقة. فالروائي، والروائي الإنكليزي على وجه الخصوص، يعلم ويشعر بالسعادة، على ما يبدو، حين يعلم أن المجتمع هو شبكة من العلب الزجاجية ويمكنك أن تفصل الواحدة عن الأخرى، وكل منها يؤوي مجموعة لها عادات وميزات خاصة بها. ومثال وولف عن هذه الجماعة أو الجماعات الصغيرة، موجود في عبارتها الفكاهية التالية:"بنات أخت شريف المقاطعة وأبناء أخ الجنرالات". وهذا يعني أن نظرتها إلى "المجتمع" على أنه "شبكة من العلب الزجاجية" شيء له حدان، فمن ناحية يلغي أي فرض على الروائيين للكتابة من فوق الحدود المقيتة للطبقات ومواضع الشخصيات للبحث عن "رؤية تعددية" مثل تلك التي يعزوها إيان ماك إيوان للرواية الأمريكية المعاصرة. ويبدو أن وولف كانت مترددة بين الأمل والخشية من أثر الديمقراطية فهي لم تتأكد أنها ستهدم كل الفوارق الاجتماعية الصغيرة، وأنها ستعلن إفلاس "الروائي الإنكليزي"، وها هي تقول: "يمكن أن يكتب الجيل التالي روايات قليلة وغير ضرورية كما كتبنا الدراما الشعرية نحن أنفسنا".

و كان الإعلان عن شكوك وولف حول المستقبل القريب للرواية الإنكليزية في غير موضعه. ففي نفس الوقت، إن إشارتها إلى "روايات الزجاج العاكس" هو تذكير بأن ما نتعرف عليه حينما ننظر في مرآة هو هوية وليس شخصية. والهويات التي اختارت التعريف بها في مقالة عام 1932 كانت قد اختفت، ومع ذلك يمكن القول إن حديها عن المجتمع الإنكليزي كما تقدمه الرواية لا يزال صحيحا لحد بعيد. وإن محتويات "العلب الزجاجية" قد تبدلت، ولذلك عوضا الانقسام الحاد بين الطبقات في عالم وولف أصبح لدينا "علب هوية". فهي تؤوي هويات ثقافية وعرقية ومناطقية وجنوسية تعبر عن المجتمع الإنكليزي المتبدل والمختلط، والذي ترسمه، لحد ملحوظ، روايات المهاجرين. إن إنكلترا في معظم الروايات المعاصرة أدنى من أن تكون شبكة من شخصيات متنوعة ومختلفة (على الرغم من الأهمية المستمرة للشخصنة في الرواية)، ولكنها من نتيجة الهويات التي تعي ذاتها على نحو متزايد ومتعمد. ومع أن عددا من الروايات التي ناقشناها كانت أساسا تقارير واقعية تأتي بأخبار التجارب المعاصرة، فإن اتجاه الرومانس والحكاية / الخرافة قادرة بنفس المقدار على تمثيل إنكلترا حيث معضلة الهوية والمشاكل العويصة الخاصة بالتعرف على الذات أصبحت جزءا من النسيج الاجتماعي والثقافي.

وروايات مارينا فيرنير الحديثة (البنفسجي، أو مصورات المياه (1992) وحزمة ليتو (2001) تقدم نسخة خيالية مستعادة وغريبة قليلا عن المجتمع الإنكليزي وكأنه يكرر خرافة هويته الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. وهذا واضح في حالة (البنفسجي). لكنه في (حزمة ليتو) يكرر تجربته العالمية وتجربة البلا دولة ( المقصود أن اللاجئين والباحثين عن لجوء هم بلا دولة). في الرواية الأولى، إن لعبة الصيف في الإمبراطورية ليست الكريكيت، ولكن رمي العصا، بينما في الثانية أصبحت، مجددا (ألبيون)، وأحد الأبطال يشارك في هيئة حكومية في مجلس الهويات الثقافية المتشكل حديثا. تقول كيم ماكوي لزميلها عضو المجلس:" بعضنا كلب مونغريل، نعم. وبعضنا ليس كذلك. بعض أولئك لا يرغبون بالتحول إلى أمة كلاب مونغريل".

كيم هي "ابنة ليتو"، ابنة بالتبني من عالم مزقته الحروب، وهي أيضا ابنة الإلهة المسنة للمهاجرين وعضوة من بقايا البانثيون الأسطوري الكلاسيكي. ووصولها إلى شاطئ ألبيون يربط التاريخ الكوني بالتاريخ المعاصر.

كان فارنير يدرس الأساطير ومتكلما مثقفا واستعماله لمصطلح مونغريل يحيلنا عيانا جهارا لمشكلة ما بعد الاستعمار، والتي تتضح بالتعددية الثقافية والهويات الهجينة. وكانت روايتها ذات حد سياسي وتعترض على بروباغاندا الجناح اليميني والعداء الشعبي للمهاجرين والباحثين عن ملجأ. وخلال تطور الرواية الإنكليزية، كان مفهوم الشخصية الوطنية قد فتح الطريق للهوية الوطنية، وأصبح التفكير بالهوية أوضح. فالهوية الوطنية (على الأقل) تنطوي على إشكالية.. جزئيا بسبب أعباء عدد من روايات القرن التاسع عشر الذي ترك طابعا عظيما خيم على إنكلترا، وهذا ملحوظ منذ (كاتدرائية نورثانغير) و(جين آير) وحتى (كيم). والمصطلح نفسه، لم يصبح منتشرا حتى أيامنا هذه، ومن المحتمل أن أول ظهور له كان في روايات المهاجرين. وفي (هروب أندرو سالكلي إلى رصيف الخريف -1960) استفسر الراوي الجامايكي من صديقته الإنكليزية باستغراب: "ألا تلاحظين أنني لا أنتمي لمكان؟.. أين يمكن أن يرى الإنسان وجها لوجه هويته الوطنية؟". وفكرته مفادها أن الهوية الوطنية إشكالية، وهذا إحساس منتشر كالشرارة في الهشيم، إن لم يكن إحساسا كونيا. ويمكننا أن نثق أن روائيي القرن الواحد والعشرين سيتابعون المشاركة في صناعة وإعادة تركيب الهوية الإنكليزية.

 

..................

* أستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة ردينغ / بريطانيا.

 

 

في المثقف اليوم